تفسير سورة الممتحنة

تفسير آيات الأحكام
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب روائع البيان في تفسير آيات الأحكام المعروف بـتفسير آيات الأحكام .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

سورة الممتحنة
[ ١ ] التزاوج بين المسلمين والمشركين
﴿ مهاجرات ﴾ : أي من دار الكفر، والهجرةُ في اللغة : الخروج من أرضٍ إلى أرض، وفي الشرع : الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان، وفي الحديث :« لا هجرةَ بعد الفتحِ ولكنْ جهادٌ ونيةٌ » المراد بعد فتح مكة، حيث أصبحت دار إسلام كالمدينة وانقطعت الهجرة.
قال الأزهري : وأصل الهجرة عند العرب خروج البدويّ من باديته إلى المدن، وسُمّي المهاجرون ومهاجرين لأنهم تركوا ديارهم ومساكنهم ابتغاء مرضاة الله، ولحقوا بدارٍ ليس لهم بها أهل ولا مال.
﴿ فامتحنوهن ﴾ : الامتحان في اللغة الاختبار، والمراد اختبارهنّ على الإيمان، بما يغلب على الظنّ، أما حقيقة الإيمان فلا يمكن أن تعلم، لأنه لا يطّلع على القلوب إلاّ علاّم الغيوب، فلنا الظاهر والله سبحانه يتولى السرائر، ويدل عليه قوله :﴿ الله أَعْلَمُ بإيمانهن ﴾.
﴿ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ ﴾ : يعني أعطوا أزواجهنَّ الكفار مثل ما دفعوا إليهنّ من المهور.
قال مقاتل : هذا إذا تزوجها مسلم، فإن لم يتزوجها أحد، فليس لزوجها الكافر شيء.
وقال قتادة : الحكم في ردّ الصداق إنما هو في نساء أهل العهد، فأمّا من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يردّ إليه الصداق، قال القرطبي : والأمر كما قاله.
﴿ أُجُورَهُنَّ ﴾ : يعني مهورهن، وسمي المهر أجراً لأنه في الظاهر أجر البضع، وأمّا في الحقيقة فهو بذل وعطيّة لإظهار خطر المحل وشرفه، كما تقدّم.
﴿ بِعِصَمِ الكوافر ﴾ : جمع عِصْمة، وهي ما يعتصم به من عهد وسبب، وأصل العصمة : الحبل، وكلّ ما أمسك شيئاً فقد عصمه، والمراد بالعِصْمة هنا النكاح، والكوافر : جمع كافرة.
والمعنى : لا تعتدّوا بنكاح زوجاتكم الكافرات فقد انقطعت العلاقة بينكم وبينهنّ.
قال ابن عباس :« من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّن بها، فليست له امرأة، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين.
قال الزجاج : إنها إذا كفرت فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن أي قد انبتَّ عقد النكاح.
﴿ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ ﴾ : أي إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدّة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر على نسائكم اللاحقات بهم.
﴿ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ﴾ : يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم، فليسأل أزواجهن المهر.
والمعنى : عليكم أن تغرموا لهم الصّداق كما يغرمون لكم.
﴿ فَاتَكُمْ ﴾ : سبقكم وانفلت من أيديكم.
﴿ فَعَاقَبْتُمْ ﴾ : قال الزجاج : أي أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم منهم.
﴿ ببهتان ﴾ : البهتانُ : الكذب والباطل، والافتراء الذي يُتحيّر من بطلانه، ومنه حديث ( فقد بهتّه ) أي افتريت عليه ما لم يقله.
والمراد به في الآية : اللقيط.
قال ابن عباس : لا يُلحِقْن بأزواجهنّ غيرَ أولادهم.
وقال الفراء : كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول : هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن.
572
وهو قول الجمهور.
﴿ مَعْرُوفٍ ﴾ : المعروف : ما يستحسنه الشرع، وترتضيه العقول السليمة وهو ضد المنكر.
﴿ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً ﴾ : أي لا تتخذوهم أصدقاء، وأولياء، تودّوهم من دون المؤمنين، والمراد بالقوم اليهود، أو جميع الكفرة.
﴿ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة ﴾ : أي يئسوا من ثواب الآخرة، واليأس : انقطاع الأمل من الشيء، وهو ضد الرجاء.
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى ما معناه : يا أيها المؤمنون إذا جاءكم المؤمنات المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإيمان، فراراً بدينهنّ، وحباً في الله ورسوله، فاختبروهنّ على هذا الإيمان، لتعلموا هل هنّ راغبات في الإسلام حقاً؟ أم أنهنّ هاربات من أزواجهن طمعاً في دنيا، أو حباً لرجل، فإذا علمتم - أيها المؤمنون - بالدلائل والأمارات أنهنّ مؤمنات، فلا يحل لكم ردّهن إلى الكفار، لأن الله تعالى لا يبيح مؤمنة لمشرك، وعليكم أن تدفعوا لأزواجهنّ الكفرة ما أنفقوا عليهن من مهر، ولا حرج عليكم أن تتزوجوا بهنّ بصداقٍ جديد، بعد أن تؤدوا لهنّ حقوقهنّ كاملة.
من كانت له امرأة كافرة لم تهاجر مع زوجها، فلا يعتدّ بهذه الزوجة، فقد زالت عصمة النكاح بينهما بسبب الكفر، وانبتّ عقد النكاح، لأن الإسلام لا يبيح الزواج بالمشركة، ومن ارتدت بعد إسلامها ولحقت بدار الكفر، فعاملوها معاملة المشركة، فقد زال النكاح وانفصمت الروابط الزوجية بالردّة، وأصبحت غير صالحة لأن تبقى في عصمة المؤمن، ولكم أن تطالبوهم بما دفعتم من مهور نساءكم اللاحقات بالكفار، كما يطالبونكم بمهور أزواجهم المهاجرات إليكم.
ذلكم هو حكم الله الذي شرعه لكم، فلا تحيدوا عنه ولا تعتدّوا بغيره، لأن الله عليم حكيم، لا يشرع إلاّ ما تقتضيه الحكمة البالغة.
وإن انفلت منكم - أيها المؤمنون - بعض النساء، ولم يدفع لكم المشركون ما تستحقونه من مهورهن، وأصبتموهم في القتال، وغنمتم منهم، فأعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا منالمهر قصاصاً، واتقوا الله الذي صدّقتم به، وآمنتم بتشريعه الحكيم العادل.
وأمّا أنت - يا محمد - فإذا جاءك المؤمنات للبَيْعة، فبايعهنّ على السمع والطاعة، واشرط عليهن ألاّ يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يئدن أولادهم، كما كان يفعل أهل الجاهلية ولا يلحقن بأزواجهنّ لقيطاً من غير أولادهم، ولا يعصينك في طاعة أو معروف، فإذا وافقن على هذه الشروط فبايعهن على ذلك، وعلى سائر أحكام الإسلام، واطلب لهن من الله الرحمة والمغفرة، إذا وفين بالبيعة، فإن الله غفور رحيم، مبالغ في المغفرة والرحمة لمن استقام وتاب وأناب.
سبب النزول
أولاً : روي عن ابن عباس أنه قال : إنّ مشركي مكة صالحوا رسول الله ﷺ عام الحديبية، على أنّ من أتاه من أهل مكة ردّه إليهم، ومن أتى أهل مكة من أصحابه فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب وختموه، فجاءت ( سُبَيْعة بنت الحارث الأسلميّة ) بعد الفراغ من الكتاب، والنبي ﷺ بالحديبية، فأقبل زوجها - وكان كافراً - فقال يا محمد : أردُدْ عليّ امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا، وهذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد، فنزلت هذه الآية الكريمة.
573
أقول : ذكر في هذه الرواية أنها ( سبيعة ) والمشهور عند المفسّرين أنها ( أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ) كما نبّه عليه القرطبي وابن الجوزي وغيرهما.
ثانياً : وروي أنّ ناساً من فقراء المسلمين، كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين، ويواصلونهم فيصيبون بذلك من ثمارهم وطعامهم فنزلت الآية ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ... ﴾ الآية.
وجوه القراءات
أولاً : قوله تعالى :﴿ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مهاجرات ﴾ قرأ الجمهور ﴿ مهاجرات ﴾ بالنصب على الحال، وقرئ ﴿ مهاجراتٌ ﴾ بالرفع على البدل من المؤمنات، فكأنه قيل : إذا جاءكم مهاجراتٌ.
ثانياً : قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر ﴾ قرأ الجمهور ﴿ تُمْسكُوا ﴾ بضم التاء والتخفيف من الإمساك، وقرأ أبو عمرو ويعقوب ﴿ تُمَسّكوا ﴾ بضم التاء والتشديد من التمسيك، وقرأ عكرمة والحسن ﴿ تَمَسّكوا ﴾ بفتح التاء والميم والسين المشدّدة.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ ﴾ قرأ الجمهور ﴿ فعاقبتم ﴾ وقرأ ابن مسعود والنخعي ﴿ فعقبتم ﴾ بغير ألف وبالتخفيف وقرأ ابن عباس والأعمش ﴿ فعقّبتُم ﴾ بتشديد القاف.
قال الزجّاج : والمعنى في التشديد والتخفيف واحد، أي كانت العقبى لكم بأن غلبتم، وقرأ مجاهد ﴿ فأعقبتم ﴾.
وجوه الإعراب
١- قوله تعالى :﴿ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مهاجرات ﴾. مهاجراتٍ : حال منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم.
٢- قوله تعالى :﴿ الله أَعْلَمُ بإيمانهن ﴾ لفظ الجلالة مبتدأ، وأفعل التفضيل ( أعلم ) خبره، والجملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب.
٣- قوله تعالى :﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾ أنْ : في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر أي منصوب بنزع الخافض، والتقدير : ولا جناح عليكم في أن تنكحوهنّ.
٤- قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان ﴾ : يفترينه؛ جملة فعلية وفي موضعها وجهان من الإعراب : النصب على الحال من المضمر في ( يأتين ) والجر على الوصف ل ( بهتان ).
٥- قوله تعالى :﴿ كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور ﴾ من أصحاب القبور في موضع نصب لأنه يتعلق ب ( يئس ) وتقديره : يئسوا من بعث أصحاب القبور، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ما الفائدة في امتحان المهاجرات مع أنهن مؤمنات؟
الجواب : أن الامتحان إنما هو لمعرفة سبب الهجرة، هل كان حبّاً في الله ورسوله، أم كان من أجل الدنيا؟
قال ابن زيد : وإنما أمرنا بامتحانهن، لأنّ المرأة إذا غضبت على زوجها بمكة قالت : لألحقنّ بمحمد.
وقد روي عن ابن عباس أن النبي ﷺ كان يستحلف المرأة فيقول :« بالله الذي لا إله إلا هو، ما خرجتِ من بغض زوج! باللَّهِ ما خرجتِ رغبةً عن أرضٍ إلى أرض! بالله ما خرجت التماس دنيا! بالله ما خرجت إلاّ حباً لله ورسوله! فإذا حلفت على ذلك أعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يرُدّها ».
574
اللطيفة الثانية : السرّ في ذكر هذه الجملة الاعتراضية ( الله أعلم بإيمانهن ) هو بيان أنه يكفي لنا العلم الظاهر، أمّا العلم الحقيقي الذي تطمئن به النفس وهو الإحاطة بجليّة الأمر، ومعرفة حقيقة الإيمان فإنّ ذلك مما استأثر به علاّم الغيوب، فنحن لنا الظاهر، والله يتولّى السرائر فسبحانه من إله عليم، يعلم السرّ وأخفى!!
اللطيفة الثالثة : الحكمة في عدم ردّ المهاجرات هي أن النساء أرقّ قلوباً، وأسرع تقلباً، وأشدّ فتنةً من الرجال، لأنه لا صبر لهنّ على تحمّل البلاء والأذى في سبيل الله، فرحم الله ضعفهنَّ، ومنع من ردّهن إلى الكفرة المشركين.
اللطيفة الرابعة : أمر الله تعالى بردّ المهر على الزوج الكافر إذا أسلمت زوجته، وذلك من الوفاء بالعهد الذي رعاه الإسلام.
قال القرطبي : وذلك لئلا يقع على الزوج خسران من الوجهين :( الزوجة، والمال )، لأنه لمّا مُنع من أهله بحرمة الإسلام، أمر بردّ المال إليه وذلك من الوفاء بالعهد.
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ فيه إشارة إلى أنه لا صلة بين الإيمان والكفر، فإذا أسلمت الزوجة وزوجها كافر حرمت عليه لعدم التجانس بينهما، فهي مؤمنة وهو كافر، وقد قطعت العلاقة بينهما، وهذا يدل على أن رابطة ( العقيدة ) أقوى من رابطة ( النسب ) فتدبره.
اللطيفة السادسة : روي أن النبي ﷺ لمّا أخذ البيعة على النساء كانت ( هند بنت عتبة ) في النساء المبايعات وهي زوجة ( أبي سفيان ) وكانت مُنْتقبة خوفاً من أن يعرفها النبي ﷺ لما صنعته بحمزة يوم أُحد... فلما قرأ قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَسْرِقْنَ ﴾ قالت هند : إنّ أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصيب من ماله قوتنا، فقال أبو سفيان : هو لك حلال، فضحك النبي ﷺ وعرفها، وقال أنتِ هند؟ فقالت : عفا الله عمَّا سلف، أعف يا نبي الله عفا الله عنك!!
فلما قرأ :﴿ وَلاَ يَزْنِينَ ﴾ قالت هند : أوَتزني الحُرّة؟
فلما قرأ :﴿ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن ﴾ قالت هند : ربّيناهم صغاراً، وقتلتموهم كباراً، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى... وكان حنظلة ولدها قُتل يوم بدر.
فلما قرأ :﴿ وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ قالت : والله إنّ البهتان لأمر قبيح، ولا تأمرنا إلاّ بالرَّشَدِ ومكارم الأخلاق.
فلما قرأ :﴿ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾ قالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء؟!
اللطيفة السابعة : قال الفراء : كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول لزوجها : هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهنّ.
575
وقال الزمخشري :« كَنَى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها، عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً، لأنّ ( بطنها ) الذي تحمله فيه بين اليدين، و ( فرجها ) الذي تلده به بين الرِّجْلينِ، وقيل : كَنَى بذلك عن الولد الدعيّ ( غير الشرعي ) فَنُهينَ عن ذلك لأنه من شعار الجاهلية، المنافي لشعار المسلمات ».
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل كان عقد الصلح يشمل الرجال والنساء؟
كان صلح الحديبية الذي تمّ بين الرسول ﷺ وبين مشركي قريش، قد نصّ على أنّ من أتى محمداً من قريش ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً من عند محمد لم يردّوه عليه، وقد جاءت ( أم كلثوم بنت عقبة ) بعد أن كُتب عقد الصلح مهاجرةً إلى رسول الله ﷺ وجاء أهلها يطلبونها فقالت يا رسول الله : أنا امرأة، وحالُ النساء إلى الضعف ما قد علمت، فتردّني إلى الكفّار يفتنوني عن ديني، ولا صبر لي؟! فقال ﷺ لأهلها : كان الشرط في الرجال لا في النساء، فأنزل الله هذه الآية فامتحنها ﷺ ولم يردّها إليهم.
قال القرطبي : وقد اختلف العلماء هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظاً، أو عموماً؟
فقالت طائفة : قد كان شرط ردّهن في عقد المهادنة لفظاً صريحاً، فنسخ الله ردّهن من العقد، ومنع منه، وبقّاه في الرجال على ما كان.
وقالت طائفة : لم يشترط ردّهن في العقد لفظاً، وإنما أُطلق العقد في ردّ من أسلم، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن من الرجال، فبيّن الله تعالى خروجهن عن عمومه، وفرّق بينهنّ وبين الرجال لأمرين :
أحدهما : أنهن ذوات فروج يُحَرّمن عليهم.
الثاني : أنهنّ أرقّ قلوباً، وأسرع تقلباً منهم، فأما المقيمة على شركها فمردوده عليهم.
ثم قال : وأكثر العلماء على أنْ هذا ناسخ لما كان ﷺ عاهد عليه قريشاً، من أنه يردُ إليهم من جاء منهم مسلماً، فنسخ من ذلك النساء، وهذا مذهب من يرى نسخ السنّة بالقرآن.
أقول : ذكر الإمام الفخر نقلاً عن ( الضحّاك ) أن العهد كان على غير الصيغة المتقدمة، وأنه كان يشتمل على نص خاص بالنساء صورته كالتالي :
( لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلاّ رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج رددتَ على زوجها ما أنفق عليها، وللنبي ﷺ من الشرط مثل ذلك ).
وعلى هذا الرأي تكون الآية موافقة للعهد، مقرّرة له، وهذا الذي تطمئن إليه النفس وترتاح، وما عداه من الأقوال فيحتاج إلى تمحيض وتدقيق، لأنها تنافي روح التشريع الإسلامي، من جهة أن الوفاء بالعهد واجب على المسلمين، ولا ينبغي لأحد الطرفين أن يستبدّ بتخصيص نصوصه إو إلغائها دون موافقة الطرف الثاني، فما ذهب إليه الضحّاك هو الأولى.
576
يقول سيد قطب رحمه الله :« ويظهر أن النص لم يكن قاطعاً في موضوع النساء، فنزلت هاتان الآيتان تمنعان ردّ المهاجرات المؤمنات إلى الكفار، خشية أن يُفتنّ في دينهن وهنّ ضعاف، ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها، تنظّم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته، دون تأثر بسلوك الفريق الآخر، وما فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته، دون تأثر بسلوك الفريق الآخر، وما فيها من شطط وجور، على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية ».
الحكم الثاني : ما هو حكم المشركة إذا خرجت إلينا مسلمة؟
دلّ قوله تعالى :﴿ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ على أن المرأة إذا أسلمت وقعت الفرقة بينها وبين زوجها، فلا تحلّ له، ولا يحلّ لها.
وقد اختلف الفقهاء هل تحصل الفرقة بالإسلام، أم باختلاف الدارين؟ على مذهبين :
أ- مذهب أبي حنيفة : أن الفرقة تقع باختلاف الدارين.
ب- مذهب الجمهور ( الشافعية والمالكية والحنابلة ) : أنّ الفرقة تقع بالإسلام وذلك عند انتهاء عدتها، فإن أسلم الزوج قبل انتهاء عدتها فهي امرأته.
دليل الحنفية :
أ- قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار ﴾ فلو كانت الزوجية باقية لكان الزوج أولى بها بأن تكون معه حيث أراد.
ب- قوله تعالى :﴿ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ ﴾ قالوا : ولو كانت الزوجية باقية لما استحقَّ الزوج ردّ المهر، لأنه لا يجوز أن يستحق البُضع وبدله.
ج - قوله تعالى :﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾ ولو كان النكاح الأول باقياً لما جاز لأحدٍ أن يتزوج بها.
د- قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر ﴾ لأن معناه عندهم : لا تتمسكوا بعصمة الكافرة، ولا تعتدوا بها، ولا تمنعكم من التزوج بها.
ه - وقالوا أيضاً : لقد اتفق الفقهاء على جواز وطء ( المسبيّة ) بعد الاستبراء، وإن كان لها زوج في دار الحرب، ولا سبب يبيح هذا إلاّ اختلافُ الدار، وقد قال ﷺ في السبايا :« لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تُستبرأ بحيضه ».
أدلة الجمهور :
أ- قالوا : إنّ سبب الفرقة هو الإسلام، لأنها لم تعد صالحة لأن تكون فراشاً لكافر، ولو كان اختلاف الدار هو سبب الفرقة، لوجب أن تحصل الفرقة بمجيء المشركة إلينا ودخولها بعهد أمان ولو لم تسلم، ولم يقل به أحد.
ب- ما روي عن مجاهد أنه قال :« إذا أسلم الكافر وهي في العدّة فهي امرأته، وإن لم يسلم فُرّق بينهما ».
ج - ما روي عن ابن عباس أنه قال :( ردّ النبي ﷺ ابنته زينب على ( أبي العاص بن الربيع ) بالنكاح الأول، وقد كانت زينب هاجرت إلى المدينة وبقي زوجها بمكة مشركاً، ثمّ ردّها عليه بعد إسلامه ).
577
قال القرطبي :« قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ أي لم يُحلّ الله مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن لمشركة.
وهذا أدلّ دليل على أنّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامُها لا هجرُتها، فبيّن أن العلة عدم الحلّ بالإسلام، وليس باختلاف الدار »
.
والخلاصة : فإن الحنفيَّة يقولون : إن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً وبقي الآخر حربياً فقد وقعت الفرقة بينهما، ولا يرون العدّة على المهاجرة، ويبيحون نكاحها من غير عدّة إلاّ أن تكون حاملاً، عملاً بالآية الكريمة ﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾ حيث لم تلزمها العدة، وقد بانت من زوجها بمجرد الهجرة.
والجمهور يقولون : لا تقع الفرقة إلاّ بإسلامها، وأمّا بمجرد الخروج فلا، فإن أسلمت قبل أن يدخل بها زوجها تنجّزت الفرقة وبانت منه لأنه لا عدة عليها، وإن أسلمت بعد الدخول بها توقفت إلى انقضاء العدّة، فإن أسلم قبل انقضاء العدة فهي زوجته، وإلاّ بانت منه.
وحجتهم في ذلك : الأدلة التي سبقت وما روي أنّ ( أبا سفيان ) أسلم قبل زوجته ( هند بنت عتبة ) ثمّ أسلمت بعده بأيام فاستقرّا على نكاحهما لأن عدَّتها لم تكن قد انقضت.
وقد بسطنا لك أدلة القريقين بإيجاز، وتتمة البحث بالتفصيل يُرجع إليها في كتب الفقه والله الموفق والهادي.
الحكم الثالث : هل يجوز الزواج بالمشركة الوثنيَّة؟
دلّ قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر ﴾ على حرمة النكاح بالكافرة المشركة، لأن معنى الآية : ولا تمسكوا بعصم نسائكم المشركات أي لا تعتدوا بنكاحهنّ فإنه باطل.
كما دلّ قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ] على حرمة نكاح المشركة، وقد اتفق العلماء على أن هذه الآيات خاصة بالمشركات من غير أهل الكتاب، لأن الكتابيات يجوز الزواج بهن لقوله تعالى :﴿ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ... ﴾ [ المائدة : ٥ ] الآية.
قال ابن المنذر : ولا يصح عن أحدٍ من الأوائل أنه حرم نكاح الكتابيات.
أقول : أجمع الفقهاء على حرمة الزواج بالمشركة - وهي التي لا تدين بدينٍ سماوي - وعلى جواز النكاح بالنصرانية أو اليهودية من أهل الكتاب للنصّ السابق، اللهم إلاّ ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا سئل عن زواج الرجل بالنصرانية أو اليهودية قال :
« حرّم الله المشركات على المؤمنين، وأعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة : ربّها عيسى، أو عبدٌ من عباد الله ».
وهذا القول : من عبد الله بن عمر محمول على ( الكراهة ) لا على ( التحريم )، لأن النصّ صريح بالحلّ، ولعلَّه خشي الفتنة على الرجل في دينه، أو خشي على الأولاد من التنصُّر فكرهه لذلك والله أعلم.
الحكم الرابع : كيف كانت بيعة النبي ﷺ للنساء؟
بايع النبي ﷺ النّساء بعد أن فتح مكة، وكانت بيعته لهن بالشرائط المذكورة في هذه الآية :{ ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً.
578
.. }.
وقد صحّ في الحديث أن النبي ﷺ لم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهنّ بالكلام، ودلّ ذلك على حرمة مصافحة النساء.
وقد كانت بيعة الرجال أن يضع الرجل يده في يد الرسول ﷺ ويبايعه على الإسلام والجهاد، والسمع والطاعة، وأما النساء فلم يثبت عنه ﷺ أنه صافح امرأة، ولا وضع يده في يدها، إنما كانت البيعة بالكلام فقط، ويدل عليه ما يلي :
النصوص الشرعية الدَّالة على حرمة المصافحة
أولاً : روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :« كان ﷺ يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية، بقول الله تعالى ﴿ ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات... ﴾ إلى قوله :﴿ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ قالت عائشة : فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله ﷺ : قد بايعتُكِ كلاماً، والله ما مَسّت يده يد امرأة قطّ في المبايعة، ما يبايعهنّ إلا بقوله :» قد بايعتك على ذلك «.
ثانياً : روي الإمام أحمد عن ( أميمة بنت رقيقة ) قالت :»
أتيتُ رسول الله ﷺ في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن : أن لا نشرك بالله شيئاً... الآية وقال :« فيما استطعتُنّ وأطقتُن » قلنا : اللَّهُ ورسولُه أرحم بنا من أنفسنا.
قلنا يا رسول الله : ألا تصافحنا؟ قال :« إني لا أصافح النساء، إنما قول لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة ».
ثالثاً : وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها بعد أن ذكرت البيعة قالت :« وكان رسول الله ﷺ إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهنّ :» انطلقن فقد بايعتُكنّ « ولا والله ما مَسّت يدُ رسول الله ﷺ يد امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن :» قد بايعتكُنّ كلاماً «.
قال الحافظ ابن حجر : قوله :»
قد بايعتكِ كلاماً « أي يقول ذلك كلاماً فقط، لا مصافحة باليد، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة.
أقول : الروايات كلها تشير إلى أن البيعة كانت بالكلام، ولم يثبت عنه ﷺ أنه صافح النساء في بيعة أو غيرها، ورسول الله ﷺ عندما يمتنع عن مصافحة النساء مع أنَّه المعصوم فإنما هو تعليم للأمة وإرشاد لها لسلوك طريق الاستقامة، وإذا كان رسول الله ﷺ وهو الطاهر، الفاضل، الشريف، الذي لا يشك إنسان في نزاهته وطهارته، وسلامة قلبه، لا يصافح النساء، ويكتفي بالكلام في مبايعتهنّ، مع أن أمر البَيْعة أمر عظيم الشأن، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء، مع أن الشهوة فيهم غالبة؟ والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري فيهم مجرى الدم؟!
وكيف يزعم بعض النَّاس أن مصافحة النساء غير محرَّمة في الشريعة الإسلامية؟!
579
﴿ سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [ النور : ١٦ ] !
الحكم الخامس : ما المراد من قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾ ؟
اختلف العلماء في المراد من الآية الكريمة على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المراد به النوح على الميّت، قاله ابن عباس، وروي عن النبي ﷺ مرفوعاً.
والثاني : أن المراد : أن لا يدعون ويلاً، ولا يخدشن وجهاً، ولا يقطعن شعراً، ولا يشققن ثوباً، قاله زيد بن أسلم.
والثالث : جميع ما يأمرهن به رسول الله ﷺ من شرائع الإسلام وآدابه وهذا هو الأرجح.
قال العلامة القرطبي :« والصحيح أنه عام في جميع ما يأمر به النبي ﷺ، وينهى عنه، فيدخل فيه النّوح، وتخريق الثياب، وجزّ الشعر، والخلوة بغير محرم، إلى غير ذلك، وهذه كلها كبائر، ومن أفعال الجاهلية، وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال :» أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية... وذكر منها النياحة «.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : امتحان المهاجرات المؤمنات للتعرف على سبب الهجرة.
ثانياً : نحن نحكم بالظاهر، والله جلّ وعلا يتولى السرائر.
ثالثاً : حرمة نكاح المشركات اللواتي لا يؤمنّ بالله تعالى.
رابعاً : إسلام المرأة يقطع الصلة بينها وبين زوجها المشرك وتحرم عليه.
خامساً : البيعة للنساء تكون بالشرائط التي ذكرها القرآن الكريم.
سادساً : الطاعة لأولي الأمر تكون في حدود ما شرع الله تبارك وتعالى.
سابعاً : جواز نكاح الكتابيات اللاتي يؤمنّ بكتاب منزل من عند الله.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
حرّمت الشريعة الإسلامية الغراء نكاح المشركات، وحظرت على المسلم أن يُبقي في عصمته امرأة لا تؤمن بالله، ولا تعتقد بكتاب أو رسول، وتنكر البعث والنشور، وذلك لما يترتب على هذا الزواج من مخاطر دينية، واجتماعية، وأضرار عظيمة، تلحق بالزوج والأولاد، وبالتالي تهدّد حياة الأسرة التي هي النواة لبناء المجتمع الأكبر.
وقد قضت السنة الإلهية أن تمتزج الأرواح بالأرواح، وتتلاءم الأنفس مع الأنفس عند الزواج، لينعم الزوجان في حياة آمنةٍ سعيدة، يرفرف عليها الحب، وتظلِّلها السعادة، ويخيِّم عليها التعاون والتفاهم والوئام.
ولمّا كان هذا الانسجام والتفاهم، لا يكاد يوجد بين قلبين متنافرين ونفسين مختلفين، نفسٍ مؤمنةٍ خيّرة، ونفسٍ مشركةٍ فاجرة، وكان هذا يؤدي بدوره إلى التنافر، والخصام، والنزاع، لذلك حرّم الإسلام الزواج بالوثنية المشركة، وعدّه زواجاً باطلاً لا يستقيم مع شريعة الله.
فالمشركة التي ليس لها دين يزجرها عن الشرّ، ويأمرها بالخير، ويحرّم عليها الخيانة، ويوجب عليها الأمانة، هذه الزوجة لا يمكن أن يسعد المرء في حياته معها، ولا تصلح أن تكون ( رفيقة الحياة ) لرجلٍ يؤمن بالله واليوم الآخر مع الفارق الكبير بين نفسيهما.
580
والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار، ولا يمكن أن تقوم الحياة بدون هذا الامتزاج، والإيمان هو قوام الحياة السعيدة الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه، ولا أن يأنس به، ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره، وصدق رسول الله ﷺ حين قال :« الأرواح جنود مجنّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ».
581
Icon