ﰡ
وقوله تعالى :﴿ يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ ﴾ هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم، كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، ولهذا قال تعالى :﴿ أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ ﴾ أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلاّ إيمانكم بالله رب العالمين، كقوله تعالى :﴿ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد ﴾ [ البروج : ٨ ]، وكقوله تعالى :﴿ الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله ﴾ [ الحج : ٤٠ ]، وقوله تعالى :﴿ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي ﴾ أي إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء، إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي فلا توالوا أعدائي، وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم، حنقاً عليكم وسخطاً لدينكم، وقوله تعالى :﴿ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ ﴾ أي تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر، ﴿ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء ﴾ أي لو قدروا عليكم لما اتقوا فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعال، ﴿ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾ أي ويحرصون على أن لا تنالوا خيراً، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة فكيف توالون مثل هؤلاء؟ وهذا تهييج على عداوتهم أيضاً، وقوله تعالى :﴿ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ أي قراباتكم لا تنفعكم عند الله، إذ أراد الله بكم سوءاً ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط الله، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم، فقد خاب وخسر وضل عمله، ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد.
وقوله تعالى :﴿ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي يغفر للكافرين كفرهم، إذال تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له، وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان، وعن ابن شهاب « أن رسول الله ﷺ استعمل أبا سفيان صخر بن حرب على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله ﷺ أقبل، فلقي ذا الخمار مترداً، فقاتله فكان أو من قاتل في الردة وجاهد عن الدين »، قال ابن شهاب : وهو ممن أنزل الله فيه :﴿ عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ ﴾، أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة، الذي لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم ﴿ أَن تَبَرُّوهُمْ ﴾ أي تحسنوا إليهم، ﴿ وتقسطوا إِلَيْهِمْ ﴾ أي تعدلوا، ﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾. عن أسماء بن أبي بكر رضي الله عنهما قالت :« قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي ﷺ فقلت : يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال :» نعم صلي أُمك « » وقال الإمام أحمد حدثنا عارم، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت، حدثنا عن عبد الله بن الزبير قال :« قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب وقرظ وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي ﷺ، فأنزل الله تعال :﴿ لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين ﴾ إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها »، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾ في الحديث الصحيح :« المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش الذي يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا » وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ﴾ أي إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم بالعداوة، فقاتلوكم وأخرجوكم وعاونوا على إخراجكم، ينهاكم الله عزَّ وجلَّ عن موالاتهم ويأمركم بمعاداتهم، ثم أكد الوعدي على موالاتهم، فقال :﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾، كقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾ [ المائدة : ٥١ ].
وقوله تعالى :﴿ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار ﴾ فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقيناً، وقوله تعالى :﴿ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أمر ( أبي العاص بن الربيع ) زوج ابنة النبي ﷺ زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله ﷺ رقّ لها رقة شديدة وقال للمسلمين :« إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا »
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر ﴾ تحرم من الله عزَّ وجلَّ على عباده المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن، وفي الصحيح « أن رسول الله ﷺ لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء من المؤمنات فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ ﴾ إلى قوله ﴿ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر ﴾ فطلق عمر بن الخطاب يومئذٍ امرأتين تزوج أحداهما ( معاوية بن أبي سفيان ) والأُخْرَى ( صفوان بن أُمية ) »، وقال الزهري : أنزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ وهو بأسفل الحديبية. حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاء النساء نزلت هذه الآية، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين، أن يردوا الصداق إلى أزواجهن وقال :﴿ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر ﴾ وإنما حكم الله بينهم بذلك لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد، وقوله تعالى :﴿ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ﴾ أي وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم، اللاتي يذهبن إلى الكفار إن ذهبن، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ﴾ أي في الصلح واستثناء النساء منه، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه، ﴿ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك، ثم قال تعالى :﴿ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ ﴾ قال مجاهد وقتادة : هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد، إذا فرت إليهم امرأة، ولم يدفعوا إلى زوجها شيئاً، فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شيء، حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل نفقته عليها، وقال ابن عباس في هذه الآية : يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار، أمر له رسول الله ﷺ أنه يعطي مثل ما أنفق من الغنيمة، وهكذا قال مجاهد ﴿ فَعَاقَبْتُمْ ﴾ أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم ﴿ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ ﴾ يعني مهر مثلها، وهذا لا ينافي الأول، لأنه إن أمكن الأول فهو الأولى، وإلاّ فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار، وهذا أوسع، وهو اختيار ابن جرير.
وروى الإمام أحمد، عن أُميمة بنت رقيقة قالت :« أتيت رسول الله ﷺ في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن ﴿ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً ﴾ الآية، وقال :» فما استطعتن وأطقتن «، قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا : يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال :» إني لا أصافح النساء إنما قولي لا مرأة واحدة قولي لمائة امرأة « » وعن ( سلمى بنت قيس ) وكانت إحدى خالات رسول الله ﷺ وقد صلت معه القبلتين، قالت :« جئت رسول الله ﷺ. نبايعه في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه، في معروف، قال :» ولا تغششن أزواجكن « قالت : فبايعناه، ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن : ارجعي فسلي رسول الله ﷺ : ما غش أزواجنا؟ قال، فسألته فقال :» تأخذ ماله فتاحبي به غيره « وقال الإمام أحمد، عن عائشة بنت قدامة يعني ابن مظعون قالت :» أنا مع أمي رائطة ابنة سفيان الخزاعية والنبي ﷺ يبايع النسوة ويقول :« أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً، ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصينيي في معروف قلن نعم فيما استطعتن » فكن يقلن وأقول معهن وأمي تقول لي : أي بنية نعم، فكنت أقول كما يقلن « وقال البخاري، عن أُم عطية قالت :» بايعنا رسول الله ﷺ فقرأ علينا ﴿ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً ﴾، ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها، قالت : أسعدتني فلانة، فأريد أن أجزيها، فما قال لها رسول الله ﷺ شيئاً، فانطلقت ورجعت فبايعها «، وفي رواية :» فما وفى منهم امرأة غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان «.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾ يعني فيما أمرتهن بهمن معروف، ونهيتهن عنه من منكر، عن ابن عباس قال : إنما هو شرط شرطه الله للنساء، وقال ابن زيد : أمر الله بطاعة رسوله وهو خيرة الله من خلقه في المعروف، وقد قال غير واحد : نهاهن يومئذٍ عن النوح، وعن الحسن قال كان فيما أخذ النبي ﷺ، ألا تحدثن الرجال إلاّ أن تكون ذات محرم، فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يمذي بين فخذيه، وقال ابن جرير، عن أم عطية الأنصارية قالت :« كان فيما اشترط علينا رسول الله ﷺ من المعروف حين بايعناه أن لا ننوح، فقالت امرأة من بني فلان : إن بني فلان أسعدوني، فلا حتى أجزيهم، فانطلقت فأسعدتهم، ثم جاءت فبايعت، قالت : فما وفى منهن غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان أم أنَس بن مالك » وعن امرأة من المبايعات قالت :