ﰡ
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
١ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ قال جماعة أهل التفسير: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى مشركي قريش يخبرهم بمسير النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم لما قصد فتح مكة، فأنزل الله ينهاه عن موالاة الكفار (٢).
قوله تعالى: ﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ قال صاحب النظم: هو وصف للنكرة التي هي أولياء (٣) -وهو قول الفراء. قال: وهو كقولك: لا تتخذنه رجلاً تلقي إليه كل ما عندك- (٤) قال: ويجوز أن تجعله ابتدأ كلام فلا يكون صلة لأولياء (٥).
(٢) أخرجه عامة المفسرين وأصحاب كتب السنة. انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٠ ب، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٦، و"جامع البيان" ٢٨/ ٣٨، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٤٨٥، و"فتح الباري" ٨/ ٦٣٣ - ٦٣٤، "صحيح مسلم"، فضائل الصحابة، "سنن الترمذي"، كتاب التفسير، و"الدر" ٦/ ٣٠٢
(٣) انظر: "مشكل إعراب القرآن" ٢/ ٧٢٨، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٧.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤٩.
(٥) انظر: "الكشاف" ٤/ ٨٦، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٧.
هُنَّ الحرائرُ لا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ | سُودُ المحاجِر لا يقرَأْنَ بالسَّوَرِ (٢) |
وقال الكسائي: يقال: رميت إليه بما في قلبي، وما في نفسي وألقيت إليك ما في نفسي وبما في نفسي كلام عربي (٣).
وقال أبو إسحاق: المعنى يلقون إليهم أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- وسره بالمودة التي بينكم وبينهم، ودليل هذا القول قوله: ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ (٤).
قوله تعالى: ﴿وَقَدْ كَفَرُوا﴾ الواو (٥) للحال، لأن المعنى: وحالهم أنهم كفروا (٦).
﴿بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ﴾ قال مقاتل: يعني القرآن (٧).
(٢) والحرائر: جمع حرة، والربات: رَبّة بمعنى الصاحبة. والأحمرة: جمع حمار، وروى: أخمرة. وسود المحاجر: الإماء السود، والمحاجر: جمع محجر وهو من الوجه حيث يقع عليه النقاب. ولم أجد البيت عند أبي عبيدة. وفي اللسان (لحد) نسبه لحميد الأرقط. وهو في "ديوان الراعي" ص ١١٠ وانظر: "مجالس ثعلب" ص ٣٦٥، و"جمهرة اللغة" ٣/ ٤١٤، ونسبه للقتال الكلابي، وهو في "ديوانه" ص ٥٣، وفي "معجم البلدان" ٤/ ٢٣٧، ونسبه للقتال.
(٣) انظر: "إيضاح الشعر" للفارسي ص ٤٨١، و"اللسان" ٣/ ٤٢ (قرأ).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٥٥.
(٥) في (ك): (والواو).
(٦) انظر: "الكشاف" ٤/ ٨٦.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥١ أ.
قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ﴾ قال الزجاج: هو شرط جوابه متقدم، وهو قوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾. (٢)
قوله: ﴿جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي﴾ منصوبان لأنهما مفعولان لهما (٣).
وقوله: ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ قال مقاتل: بالنصيحة (٤). والكلام في الباء هاهنا كما ذكرنا (٥).
ثم ذكر أنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء، فقال: ﴿وَأَنَا أَعْلَمُ﴾ أي: من كل أحد ﴿بِمَا أَخْفَيْتُمْ﴾ من المودة للكفار ﴿وَمَا أَعْلَنْتُمْ﴾ أي أظهرتم بألسنتكم منها، ويجوز أن يكون عاماً في كل ما يخفى ويعلن.
﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ﴾ يجوز رجوع الكناية إلى الإسرار وإلى الإلقاء، وإلى اتخاذ الكفار أولياء، لأن هذه الأفعال قد ذكرت وهي تدل على المصادر (٦).
وقوله تعالى: ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ قال ابن عباس: قصد
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٥٦.
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤١٢، و"مشكل إعراب القرآن" ٢/ ٧٢٨.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥١ أ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٨.
(٥) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٦١.
(٦) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤١٢، و"الكشاف" ٤/ ٨٦، و"زاد المسير" ٨/ ٢٣٣، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٨.
٢ - ثم أخبر المؤمنين بعداوة كفار مكة إياهم فقال: ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ﴾ قال ابن عباس: إن يظفروا بكم (٣).
وقال مقاتل: إن يظهروا عليكم (٤)، والمعنى إن يصادفوكم ويلقوكم ﴿يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ بالضرب (٥) ﴿وَأَلْسِنَتَهُمْ﴾ بالشتم ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ كما كفروا وأن (٦) ترجعوا إلى دينهم. والمعنى: أن أعداء الله لا يخلصون المودة لأولياء الله لما بينهم من الخلاف الذي يوجب المباينة (٧) فلا ينفعكم التقرب إليهم بنقل أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم-.
٣ - قوله: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ﴾ لما عوتب حاطب على ما فعل اعتقد بأن له أرحاماً وأولاداً فيما بينهم وليس له (٨) هناك من يمنع عشيرته، فأراد أن يتخذ عندهم يداً ليحسنوا إلى من خلفهم بمكة من عشيرته، فقال الله تعالى: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم﴾ (٩) التي بمكة، أعلم الله أن أهلهم
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥١ أ.
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٩، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٣٠، ولم ينسبه لقائل.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥١ أ، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٦ ب، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٩.
(٥) وقال غيره بالقتل والضرب. ولعله الأقرب إلى معني الآية. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٤٠، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٦ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٣٠.
(٦) في (ك): (واس).
(٧) في (ك): (السلفة).
(٨) في (ك): (وأن له).
(٩) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٩.
قال المفسرون: يقول لا يدعونكم قراباتكم وأولادكم التي بمكة إلى خيانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين فلن ينفعكم أولئك الذين عصيتم الله لأجلهم ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ﴾ الله ﴿بَيْنَكُمْ﴾ فيدخل أهل طاعته والإيمان به الجنة، وأهل معصيته والكفر به النار.
وقوله: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يجوز أن يكون ظرفاً لقوله: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ﴾ ويجوز أن يكون ظرفاً ليفصل في قوله: ﴿يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾ (١) أي الله تعالى. ودل على اسم الله قوله: ﴿وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ﴾، وهذه قراءة عاصم. وقرأ ابن كثير (يُفصَل) بضم الياء وفتح الصاد مخففة، والمعنى راجع إلى الله تعالى، لأنه وإن لم يسم فاعله معروف أنه يفصل، وهو خير الفاصلين، كما أن قوله: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء: ٣٧] معناه: خلق الله الإنسان وقرئ (٢) من التفصيل بالوجهين اللذين ذكرناهما في الفصل وهو يقتضي تكثير هذا الفعل (٣).
قوله: ﴿بَيْنَكُمْ﴾ ظرف على معنى الذي بينكم كقوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ
(٢) في (ك): (وقرئ من) والصواب: وقرئ (يُفَصّل).
(٣) قرأ عاصم، ويعقوب (يَفْصِلُ) بفتح الياء وكسر الصاد مخففة مع إسكان الفاء. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر (يُفْصَلُ) بضم الياء وفتح الصاد مع إسكان الفاء وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف (يُفَصَّلُ) بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد وتشديدها. وقرأ ابن عامر (يُفَصَّلُ) بضم الياء وفتح الصاد مع التشديد. انظر: "حجة القراءات" ص ٧٠٦، و"الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٨٥ - ٢٨٦، "النشر" ٢/ ٣٨٧، "الإتحاف" ص ٤١٤.
قال أبو علي: وكان أبو الحسن يذهب في هذا النحو إلى أن الظرف أقيم مقام الفاعل، وترك على الفتح الذي كان يجري عليه في الكلام يجريه في أكثر الكلام منصوباً، فاللفظ على هذا القول مفتوح، والموضع رفع كما كان اللفظ في قوله: ﴿كَفَى بِاللَّهِ﴾ [العنكبوت: ٥٢] وما جائني من رجل، مجرورًا، والموضع موضع رفع (١).
قال ابن عباس في هذه الآية: لا يجمع بين كافر ومؤمن (٢).
﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ يعني بما عمل حاطب من مكاتبة أهل مكة، (بصير) حين أخبر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بذلك (٣).
٤ - ثم ضرب لهم إبراهيم -صلى الله عليه- مثلاً حين تبرأ من قومه ونابذهم وباغضهم وهو قوله: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ والأسوة: ما يؤتسى (٤) به مثل القدوة، والقدوة لما يقتدى به. ويقال: ائتسِ به، أي: اقتد به، وكن مثله. ويقال هو أسوتك، أي: أنت مثله وهو مثلك، وتجمع الأسوة والإسوة أسي. فالأسوة اسم لكل ما يقتدى به. ومن يقتدى به أسوة أيضًا. يقال: فلان أسوة في هذا الأمر. وقدوة: أي يؤتسى (٥) ويقتدى به
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ٥١، ولفظه (يفرق بينكم وبين المؤمنين يوم القيامة).
(٣) رواه عبد بن حميد، عن مجاهد. "الدر" ٦/ ٢٠٥.
(٤) في (ك): (يأتس).
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ١٣/ ١٣٩ (أسى)، و"اللسان" ١/ ٦٣ (أسا)، و"المفردات" ص ١٨ (أسا).
قال المفسرون: أعلم الله عز وجل أن إبراهيم وأصحابه تبرأوا من قومهم وعادوهم وقالوا لهم ﴿إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ﴾ وأمر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتأسوا بهم وبقولهم. قال الفراء: يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم فتتبرأ من أهلك كما برئ إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- (٢).
قوله تعالى: ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ قال ابن عباس: كان لهم أسوة حسنة في صنع إبراهيم كله إلا في استغفاره لأبيه وهو مشرك (٣).
وقال مجاهد: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه فيستغفروا للمشركين. وقال قتادة: يقول ائتسوا بأمره (٤) كله إلا في استغفاره لأبيه فلا تأتسوا به في ذلك، لأنه كان عن موعدة منه، فلما تبين له إقامته على الكفر تبرأ منه (٥).
وقال مقاتل: يقول الله: تبرأوا من كفار قومكم، فإن لكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه من المؤمنين في البراءة من قومهم المشركين، وليس
(٢) أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه من طريق سعيد بن جبير. "الدر" ٦/ ٢٠٥.
(٣) أخرجه ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم، وصححه عن ابن عباس. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٤١، و"الدر" ٦/ ٢٠٥، و"تفسير مجاهد" ٢/ ٦٦٧.
(٤) في (ك): (يإبراهيم).
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٧، و"جامع البيان" ٢٨/ ٤١، و"تفسير غريب القرآن" ص ٤٦١، و"البحر المحيط" ١/ ٢٥٤، ونسبه لقتادة، ومجاهد، وعطاء الخراساني.
وقال ابن قتيبة: يريد أن إبراهيم عاداهم وهجرهم في كل شيء إلا في قوله لأبيه لأستغفرن له (٣)، قال ابن الأنباري: ليس الأمر على ما ذكره، بل المعنى: قد كان لكم أسوة حسنة في كل شيء فعله إبراهيم إلا في قوله لأبيه ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ فإن هذا مما لا يجب أن تتأسوا به فيه (٤).
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ هذا من قول إبراهيم لأبيه، يقول: ما أغني عنك شيئًا وما أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به وعصيته، فوعده (٥) الاستغفار رجاء إسلامه، وأن ينقله الله بالاستغفار من الكفر إلى الإيمان، وذكر أنه لا يغني عنه شيئًا سوى أن يستغفر له على رجاء أن يسلم. وهذه القصة مشروحة في آخر سورة براءة (٦).
٥ - قال ابن عباس: وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (٧) قال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك فيقولوا (٨): لو كان
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٧ ب.
(٣) انظر: "تأويل المشكل" ص ٢٧٧.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٠.
(٥) في (ك): (بوعده).
(٦) عند تفسيره الآية (١١٤) من سورة براءة.
(٧) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠١.
(٨) (ك): (فيقولون).
قال أبو إسحاق: معناه لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك (٢).
وقال الفراء: يقول لا تظهر علينا الكفار فيروا أنهم على حق وإنا على باطل (٣).
وقال مقاتل: لا تقتر علينا الرزق وتبسط لهم فيكون ذلك فتنة لهم (٤). ونحو هذا قال الكلبي في أحد قوليه، وقال الذي القول الثاني: الذين كفروا أهل مكة أي لا تذللنا لمشركين ولا تسلطهم علينا يفتنوننا عن ديننا ويعذبوننا. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (٥)، وعلى هذا ليست الآية من قول إبراهيم وأصحابه، وكأنه قيل لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فأضمر القول.
٦ - ثم أعاد ذكر الأسوة تأكيدًا للكلام فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ﴾ أي في إبراهيم والذين معه من المؤمنين ﴿أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ قال ابن عباس: كانوا يبغضون من خالف الله ويبغضون أعمالهم ويحبون من أحب الله (٦).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٥٧، وهو قول قتادة كما ذكره الطبري في جامعه ٢٨/ ٤٢.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٥٠.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥١ ب، ولفظه: (لا تقتر علينا بالرزق وتبسط لهم في الرزق فيحتاج إليهم فيكون ذلك فتنة لنا).
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ٥٢، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٢، وصدر هذه الأقوال بقيل دون نسبة لقائل.
(٦) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٢.
٧ - قال مقاتل: فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار والبراءة منهم، عادوا أقرباءهم وأرحامهم، وأظهروا لهم العداوة، وعلم الله شدة وجد المؤمنين في ذلك فأنزل قوله: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً﴾ أي من كفار مكة مودة، وفعل ذلك بأن أسلم كثير منهم وخالطوا المسلمين وناكحوهم وتزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم حبيبة بنت أبي سفيان فلان لهم أبو سفيان (٣).
وقال ابن عباس في قوله: ﴿وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً﴾ يريد نفرًا من قريش آمنوا بعد فتح مكة منهم أبو سفيان بن حرب، وأبو سفيان بن الحارث (٤)،
(٢) قوله (الذي) قلادة يقتضيها السياق.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥١ ب، "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٧ ب، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٢.
(٤) أبو سفيان بن الحارث، كان أخا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة، وكان يحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، ثم انقلبت محبته إلى عداوة، وكان شاعراً يهجو الرسول وأصحابه أسلم عام الفتح وأبلى في حنين -رضي الله عنه- مات سنة (٢٠ هـ) وقيل: بعد استخلاف عمر بسنة وسبعة أشهر. انظر: "صفة الصفوة" ١/ ٥١٩: و"سير أعلام النبلاء" ١/ ٢٠٢.
﴿وَاللَّهُ قَدِيرٌ﴾ على جعل المودة ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ بهم إذا تأبوا وأسلموا ورجعوا.
٨ - قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ اختلفوا في المراد بقوله: ﴿الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ فالأكثرون على أنهم أهل العهد الذين عاهدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ترك القتال والمظاهرة في العداوة وهم خزاعة. وكانوا عاقدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يقاتلوه ولا يخرجوه، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبر والوفاء لهم إلى مدة أجلهم. وهذا قول المقاتلين (٣).
وروى مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير (٤) عن أبيه أنه قال:
(٢) سهيل بن عمرو، أسلم بالجعرانة، بعد غزوة حنين، وخرج إلى الشام في خلافة عمر فمات بها في طاعون عمواس، وهو نائب قريش في صلح الحديبية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انظر: "المعارف" ص ٢٨٤، و"سير أعلام النبلاء" ١/ ١٩٢، و"أسد الغابة" ٢/ ٣٧١، و"الإصابة" ٢/ ٩٣، و"الأعلام" ٣/ ١٤٤.
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٣، ولم ينسبه لقائل، وانظر: "تفسير مقاتل" ١٥٢ أ، الإيضاح لناسخ القرآن لمكي: ٤٣٢، ونسبه للحسن، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٨ أ، ونسبه لابن عباس، وكذا البغوي في تفسيره ٤/ ٣٣١، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٤، ونسبه لابن عباس، والمقاتلين، والكلبي.
(٤) هو مصعب بن ثابت عبد الله بن الزبير. روى عن أبيه، وعطاء، وطائفة، ضعفه ابن معين. وقال ابن حجر: كان لين الحديث عابدًا، توفي سنة (١٥٧ هـ). انظر: =
وقال ابن عباس: يريد قومًا من بني هاشم منهم العباس أخرجوا يوم بدر كرهًا، وهذا قول مرة، وعطية (٤).
قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوهُمْ﴾ قال أبو إسحاق: أن في موضع خفض بدل من الذين، المعنى لا ينهاكم الله عن أن تبروا الذين لم يقاتلوكم في الدين. وهذا يدل على أن المراد لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم (٥).
(١) هي قتيلة بنت عبد العزى، كانت امرأة لأبي بكر -رضي الله عنه- فطلقها في الجاهلية. انظر: "البحر المحيط" ٨/ ٢٥٥.
(٢) في (ك): (قدمت قتيلة بنت أسماء).
(٣) أخرجه الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٤٨٥، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وفي "مجمع الزوائد" ٧/ ١٢٣، من رواية أحمد، والطبراني، والبزار. وقال: وفيه مصعب بن ثابت، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح. وفي "تخريجات الكشاف" ص ١٦٨، قال ابن حجر: (وحديث أسماء في الصحيحين عن عروة بغير هذا السياق). وانظر: "أسباب النزول" للواحدي ص ٤٨٨، و"الدر" ٦/ ٢٠٥.
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٨ أ، و"زاد المسير" ٨/ ٢٣٧، و"روح المعاني" ٢٨/ ٧٥.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٥٧
قوله تعالى: ﴿وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ قال ابن عباس: يريد بالصلة وغير ذلك (٣) ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ يريد أهل البر والتواصل.
وقال المقاتلان: أن توفوا لهم بعهدهم وتعدلوا (٤).
قال أبو إسحاق: أي وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد (٥).
وقال المبرد: يقال: أقسطت إلى الرجل إذا عاملته بالعدل.
وقال مجاهد: هذه الآية نزلت في الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا (٦) وهذا قول الربيع في الآية.
٩ - ثم ذكر من الذين ينهاهم عن صلتهم فقال قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ إلا قوله: ﴿أَنْ تَوَلَّوْهُمْ﴾ أن في موضع
(٢) والآية محكمة في قول مجاهد، والحسن، وهو المعتمد عند ابن جرير، وغيره. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٤٣، "الإيضاح لناسخ القرآن لمكي" ص ٤٣١، نواسخ القرآن لابن الجوزي: ٢٣٩، وقال النحاس: (وليس لقول من قال إنها منسوخة معنى، لأن البر في اللغة إنما هو لين الكلام والمواساة وليس هذا محظورًا أن ينقله أحد بكافر...). "إعراب القرآن" ٣/ ٤١٦.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ٥٤، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٤.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٢ أ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٠٤.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٥٨.
(٦) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٦٨، و"جامع البيان" ٢٨/ ٤٣، و"الدر" ٦/ ٣٠٥.
١٠ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ﴾ الآية. وقال جماعة المفسرين لما قاضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية المشركين على أن يرد إليهم من جاء من المسلمين منهم ولا يردون من جاءهم من المسلمين وكتبوا بذلك العهد جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية (٣) مؤمنة إلى المسلمين وزوجها مسافر المخزومي -وقال المقاتلان- زوجها صيفى بن الراهب (٤).
وقال الزهري: جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي عاتق (٥) فجاء أهلها يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يرجعها إليهم. وهذا قول ابن عباس. إلا أنه قال: هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٥٨.
(٣) سبيعة بنت الحارث الأسلمية، أسلمت بعد صلح الحديبية، ويؤيد هذا أن هبة الله في "الناسخ والمنسوخ" ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الحديبية لحقت به سبيعة بنت الحارث، امرأة من قريش فبان أنها غير الأسلمية التي تروي عدة المرأة التي مات عنها زوجها، وهذا قول العقيلي، ومنهم من قال بأنها هي، والله أعلم. "الإصابة" ٤/ ٣٢٤ - ٣٢٥. انظر: "تهذيب التهذيب" ١٢/ ٤٢٤، و"الكاشف" ٣/ ٤٧٢.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٢ أ، و"الكشف" ١٣/ ١٠٨ ب، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٤٨٩، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٣٢.
(٥) العاتق: الشابة أول ما تُدرك، وقيل: هي التي لم تبن من والديها ولم تتزوج، وقد أدركت وشبت. اللسان ٢/ ٦٧٨ (عتق).
قوله: ﴿فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ قال المفسرون: ذلك أن يستخلف المهاجرة ما هاجرت لبغض زوجها ولا لحدث أحدثته ولا خرجت عشقاً لرجل من المسلمين، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام (٣)، فهذا هو معنى الامتحان المأمور به.
(٢) انظر: "صحيح البخاري"، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية (٣١) ٥/ ١٦٢، وفيه (فجاء أهلها) وفي حديث عبد الله بن أبي أحمد بن جحش ".. فخرج أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة بن أبي معيط حتى قدما المدينة فكلما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يردها إليهم... " الحديث. انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٨ ب، "فتح الباري" ٧/ ٤٥٤، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٥٠، "مجمع الزوائد" ٧/ ١٢٣، و"زاد المسير" ٨/ ٢٣٨، قلت: وهم المؤلف -رحمه الله- في قوله (ومعها أخواها عمارة والوليد) لأن الوليد -رضي الله عنه- لم يسلم إلا عام الفتح، ولما ثبت في الصحيح من أنهما جاءا لطلبها، والله أعلم.
(٣) ذكر المفسرون نحو هذا عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وعكرمة، وغيرهم. انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٢ أ، و"تفسير مجاهد" ٢/ ٦٦٨، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٨، و"جامع البيان" ٢٨/ ٤٤، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٥٠.
وقال مقاتل: فإن علمتموهن مؤمنات قبل المحنة (١)، وجملة الكلام في هذا أن المرأة إذا هاجرت الكفار إلى المسلمين وأظهرت الإيمان لم يجز ردها إلى الكفار، وإن كان بيننا وبينهم عهد بأن نرد إليهم من جاءنا من عندهم مسلمًا، والأمر بالامتحان أمر استحباب وهو غير واجب (٢)، فإذا عرفناها مؤمنة لم يجز ردها إليهم بحال، وإنما يعرف ذلك بإقرارها وذلك قوله تعالى: ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ واختلفوا في أن ذلك العهد الذي جرى بينهم بالحديبية هل يتناول النساء أم لا؟
قال عروة بن الزبير: إن الله نقض العهد في النساء ومنعهن أن يردون وحكم فيهن بالذي حكم، وهذا يدل على أن العهد كان عاماً في الرجال والنساء. ثم أمضى الله ذلك في الرجال ومنع في النساء (٣).
وقال المقاتلان: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عالماً بأن الشرط ممنوع في النساء ولكن أوهم المشركين بإطلاق العهد أنهن مردودات.
القول الثاني: أنه لم يعلم أن الشرط في النساء باطل، حتى أعلمه الله
(٢) أخرجه ابن إسحاق، وابن سعد، وابن المنذر، وابن جير، وغيرهم انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٤٥، "السنن الكبرى" للبيهقي ٧/ ١٧٠، و"الدر" ٦/ ٢٠٦.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان، وهو قول مقاتل بن سليمان أيضًا. انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٢ أ، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٥٠.
قوله تعالى: ﴿لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ قال ابن عباس: لم يحل الله مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن لمشركة (١).
وقوله: ﴿وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا﴾ يعني أزواجهن الكفار ما أنفقوا عليهن من المهر. قال أصحابنا: إنما أمرنا أن نغرم مهرهن؛ لأنهن كن داخلات في الشرط الذي شرط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برد من جاءه منهن على أحد القولين، فلزم العزم لأنهن دخلن في العقد ثم منعناهن، وإذا قلنا لم يدخلن في العقد فالعزم إنما كان لإيهام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياهم أنهن داخلات في الشرط ثم لم يلزم غرم المهر إلا إذا طالب الزوج الكافر بذلك وحضر لطلبه، فإذا حضر وهي باقية عندنا منعناها وغرمنا له صداقها، وإن كانت ماتت قبل حضور الزوج ما (٢) نغرم المهر؛ لأن المنع لم يتحقق، وإنما نغرم الصداق المسمى في أصل العقد لا مهر المثل؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا﴾ وهذا يتناول المسمى في العقد، فإن كان المسمى خمرًا أو خنزيرًا لم نغرم شيئًا، لأن ذلك ليس بمال، وان كان المسمى مالاً ولكنه لم يسلمه إليها لم نغرم له شيئاً؛ لأنه ما أنفق شيئًا. وكذلك لو كانت أبرأته.
وقال مقاتل: يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين، فإن لم يتزوجها من المسلمين أحد فليس لزوجها الكافر شيء (٣).
قوله: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ أباح الله نكاحهن بشرط المهر؛ لأن الإسلام فرق بينها وبين زوجها الكافر. وهذا
(٢) كذا في (ك)، ولعل صوابها: (لم).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٢ أ.
قوله: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ قراءة أبي عمرو من التمسيك يقال: مسك يمسك، مثل أمسك يمسك، وحجته قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ﴾ [الأعراف: ١٧٠] وقراءة الباقين بالتخفيف من الإمساك (٢). والعصم جمع العصمة وهي كل ما عصمك واعتصمت به. قال أبو عبيدة: أصل العصمة: الحمل والسبب (٣).
قال ابن عباس: العصمة النكاح فيما بيننا (٤).
قال مقاتل: يعني بعقد الكوافر، يقول: لا تعقد بامرأتك الكافرة فإنها ليست لك بامرأة (٥)، وقال المفسرون: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها فقد انقطعت عصمته منها ولا عصمة بين المشركة والمؤمن فإذا أسلم الزوج وامرأته الوثنية بقيت على الكفر حتى انقطعت عدتها فقد
(٢) قرأ أبو عمرو ويعقوب: (ولا تُمسَّكُوا) بالتشديد. وقرأ الباقون: (ولا تُمْسِكوا) بالتخفيف. انظر: "حجة القراءات" ص ٧٠٧، و"الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٨٦، "النشر" ٢/ ٣٨٧.
(٣) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٧، و"تهذيب اللغة" ٢/ ٥٣ (عصم).
(٤) كذا في (ك)، ولم أجده.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٢ أ.
قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ﴾ أي إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة فاسئلوهم ما أنفقتم من المهر، هذا إذا منعوها ولم يدفعوها إلينا فعليهم أن يغرموا لنا صداقها كما يغرم لهم (٢) وهو قوله تعالى: ﴿وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ يعني ما ذكر في هذه الآية من الحكم، فإن رضوا بهذا الحكم وردوا المهر على المسلم أخذه وإن لم يردوا طائعين أو كانوا أهل حرب ولم يكونوا أهل عهد، فالحكم ما ذكره في قوله: ﴿وَإِنْ فَاتَكُمْ﴾ الآية.
قال الزهري: لما نزل قوله: ﴿إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ﴾ الآية. أقر المؤمنون بحكم الله وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمر من أداء نفقات المسلمين، فأنزل الله ﴿وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ (٣)
١١ - قال الفراء: وفي قراءة عبد الله ﴿وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ وأحد يصلح في موضع شيء وشيء في موضع أحد في الناس. يقول إن أعجزتك امرأة ذهبت مريدة فلحقت بأهل مكة كافرة (٤). قال الحسن
(٢) انظر: "زاد المسير" ٨/ ٢٤٢، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٦.
(٣) أخرجه ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وعبد الرزاق. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٨، و"جامع البيان" ٢٨/ ٤٨، و"الدر" ٦/ ٢٠٨
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٥١، وفيه: (بأهل مكة كافرة، وليس بينكم وبينهم عهد فعاقبتم، يقول: فغنمتم، فأعطوا زوجها مهرها من الغنيمة قبل الخمس) وعليه فالعبارة قد سقطت عند المؤلف رحمه الله.
قوله: ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾ أي فغتمتم (٣). قاله ابن عباس، ومسروق، وإبراهيم.
قال أبو عبيدة: ﴿عَاقَبْتُمْ﴾ أصبتم منهن عقبة (٤).
وقال المبرد: ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾ فعلتم ما فعل بكم -أي ظفرتم وهو من قولك: العقبى لفلان، أي: العاقبة بعد الأولى، وتأويل العاقبة الكرة الآخرة (٥).
وقال ابن قتيبة: ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾ أي: أصبتم عقبى، أي: غنيمة من غزوٍ، ومعنى ﴿عَاقَبْتُمْ﴾ غزوتم معاقبين غزوًا بعد غزو (٦).
وقال أبو إسحاق: تأويله في اللغة: فكانت العقبى لكم، أي: كانت الغلبة لكم حتى غنمتم. قال: ومعنى ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾ أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم (٧)، ومعنى الآية: فغنمتم من العدو شيئًا فإن صارت العاقبة في
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٢ ب، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٧، و"الدر" ٦/ ٢٠٨. عن الحسن، وفي "تنوير المقباس" ٦/ ٥٧، وعند الثعلبي في تفسيره ١٣/ ١١٠ ب، ست نسوة رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٥٠، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٥٧، و"الدر" ٦/ ٢٠٧. عن ابن عباس والنخعي.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٧.
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٧.
(٦) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٦٢.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٦٠.
١٢ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ﴾ قال الكلبي: لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة غرم من الغنيمة للذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار مهور نسائهم، جاءته نساء أهل مكة يبايعنه فأنزل الله هذه الآية (١). وشرط في مبايعة النساء أن يأخذ عليهن هذا الشرط الذي (٢) ذكره في هذه الآية وهو قوله: ﴿عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ وقال المفسرون: يعني بالأولاد الذي كان يفعله الجاهلية، ثم هو عام في كل نوع من قتل الولد (٣).
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ﴾ قال ابن عباس: يريد لا تلحق بزوجها ولدًا ليس منه (٤)، وقال الكلبي: هو أن تجيء بالصبي من غير زوجها فتقول لزوجها: هو منك وأنا ولدته، وهذا
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ﴾ قال الكلبي: لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة جاءته نساء)، وانظر: "زاد المسير" ٨/ ٢٤٤، ونسبه للمفسرين.
(٢) في (ك): (التي).
(٣) انظر: "زاد المسير" ٨/ ٢٤٦، و"روح المعاني" ٢٨/ ٨٠.
(٤) أخرج ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي هاشم، وابن مردويه. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٥١، و"الدر" ٦/ ٢١٠، و"تنوير المقباس" ٦/ ٥٨، و"تفسير مقاتل" ١٥٣ أ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٨، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٥٤.
قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدى منك. فذلك البهتان المفترى (٢).
وقال أبو إسحاق: أي لا يأتين بولد ينسبنه إلى الزوج، فإن ذلك بهتان وفرية (٣).
ومعنى ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ﴾ أي مفترينه. أي أنفسهن بأن يقلن: نحن ولدنا، وإنما قيل ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ﴾ لأن الولد إذا وضعته الأم سَقَطَ بين يديها ورِجليها، وليس المعنى على هذا (٤) نهيهن من أن يأتين بولد من الزنا فينسبنه إلى الأزواج؛ لأن النهي عن الزنا (٥) قد تقدم، ولأنها إذا كانت ذات زوج وزنت كان الولد لاحقًا بالزوج بحق الفراش.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾ قال الكلبي: في معروف مما تأمرهن به وتنهاهن عنه كالنوح، وتمزيق الثياب، وجز الشعر، وشق الجيب، وأن تخلو بغير ذي محرم، وأن تسافر سفرًا مع (٦) غير ذي محرم. ونحو هذا قال المقاتلان (٧).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٥٢.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٦٠.
(٤) (هذا) ساقطة من (ك).
(٥) (ك): (لأن الشرط بنهي الزنا).
(٦) (مع) ساقطة من (ك).
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٣ أ، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١١١ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٣٥، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٨.
وكثير من المفسرين خصوا هذا المعروف بالنهي عن النوح. وهو قول سالم بن أبي الجعد (١)، وعكرمة، وجماعة. قالوا: لا تنحن نوح الجاهلية (٢).
قالت أم عطية: كان فيما اشترط علينا في البيعة أن لا ننوح (٣).
وقالت أم سلمة (٤): قالت امرأة: يا رسول الله: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال: لا تنحن (٥).
(١) (أبي) ساقطة من (ك).
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٥١، و"الدر" ٦/ ٢١٠.
(٣) وهو حديث صحيح، أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك ٦/ ١٨٧، ولفظه: قالت: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ: (أن لا يشركن بالله شيئًا) ونهانا عن النياحة.
(٤) أم سلمة هي هند بنت أمية بن المغيرة المخزومية، آخر أمهات المؤمنين وفاة، توفيت سنة إحدى وستين، وقيل تسع وخمسين، وقبرت بالبقيع، وهي ابنة أربع وثمانين سنة -رضي الله عنها- انظر: "الإصابة" ١٣/ ١٦١، "صفة الصفوة" ٢/ ٤٠، "العبر" ١/ ٤٨، و"البداية والنهاية" ٨/ ٢١٤.
(٥) أخرجه أحمد في "المسند"، وابن ماجه في سننه، والترمذي في سننه.
قوله تعالى: ﴿فَبَايِعْهُنَّ﴾ جواب لـ ﴿إِذَا﴾ في أول الآية. أي إذا بايعنك على هذا الشرط فبايعهن. واختلفوا في كيفية بيعة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع النساء. فروى سالم بن أبي الجعد، عن أبي فليح قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبايع النساء على الصفا، وجلس معه عمر فجعل يشترط على النساء للبيعة، وعمر يصافحهن.
وروى الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبايع النساء بالكلام بهذه الآية وما مست (٥) يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النساء للبيعة. فقلت: ألا تحسر لنا عن يديك؟ قال: إني لست أصافح النساء ولكن أخذ عليهم (٦).
(٢) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٣٥، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٨، ذكرا نحوه دون نسبة لقائل.
(٣) في (ك): (تأمر).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٦٠، وأخرجه الثعلبي عن الكلبي من غير سند. "الكشف والبيان" ١١١ ب.
(٥) في (ك): (مس).
(٦) مما يظهر من سياق المؤلف رحمه الله خلطه بين حديثين أحدهما حديث عائشة =
١٣ - قوله تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ قال ابن عباس: يريد حاطب بن أبي بلتعة يقول: لا تتولوا اليهود والمشركين (٢).
وقال المقاتلان: يقول للمؤمنين: لا تتولوا اليهود، وذلك أن ناسًا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين يتواصلون إليهم بذلك فيصيبون من ثمارهم، فنهى الله عن ذلك (٣).
(١) قال ابن حجر: (أخرجه ابن سعد عن الواقدي، عن أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، نحوه. وله شاهد في الطبراني، عن عروة بن مسعود، وآخر في تاريخ أصبهان لأبي نعيم في حرف الحاء من حديث أسماء بنت يريد) "تخريجات الكشاف" ص ١٦٩.
(٢) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٩.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٣ أ، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١١٢ ب، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٤٩٠، وفي "الدر" ٦/ ٢١١ قال: أخرج أبو إسحاق وأبي المنذر، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان عبد الله بن عمر، وزيد بن الحارث يوادون رجالاً من يهود، فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾.
قوله تعالى: ﴿كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾ أي: كما يئس الكفار الذين ماتوا وصاروا في القبور وتبينوا أن لا حظ لهم في الآخرة.
وهذا قول الكلبي، والمقاتلان، وعكرمة، وعطاء، عن ابن عباس. قالوا: يعني الكفار الذين ماتوا فيئسوا من الجنة، ومن أن يكون لهم في الآخرة خير (٢).
وقال الحسن: يعني الكفار الأحياء يئسوا من الأموات (٣).
قال أبو إسحاق: يقول يئس اليهود الذين عاندوا النبي -صلى الله عليه وسلم- من أن يكون لهم في الآخرة حظ، كما يئس الكفار الذين لا يوقنون بالغيب من موتاهم أن يبعثوا (٤).
(٢) أخرجه ابن جرير، عن مجاهد، والكلبي، وابن زيد، وعكرمة، ومنصور، وأخرجه ابن المنذر عن سعيد بن جبير، وأخرجه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة. انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة، عن مجاهد، وعكرمة، وأخرجه عبد الرزاق عن الكلبي. وهو قول مقاتل. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٩، و"تفسير مقاتل" ١٥٣ أ، و"جامع البيان" ٢٨/ ٥٤، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١١٣ أ.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٣٦، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٣٠٩.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٦١.