ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
١ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ الآية، قَدَّم هاهنا: بمعنى: تقدم وهو لازم لا يقتضي مفعولاً، يدل عليه قراءة الضحاك ويعقوب: (لا تَقَدَّموا) بفتح التاء والدال من المتقدم ومعناهما واحد (١).قال الفراء: يقال قَدَمت في أمر كذا، وكذا وتقدَّمت (٢).
وقال الأزهري: يقال قَدَّم يُقدِّم، وتَقدّم يَتقدّم، وأقدم يُقْدِمُ، واستَقدم يستقدم بمعنى واحد (٣).
وقال أبو [عبيد] (٤): تقول العرب: لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب، أي: لا تعجل بالأمر دونه والنهي (٥)، يجيء فعل بمعنى يفعل، يقال: حول بمعنى تحول، ومنه قول ذي الرمة: قوله:
إذا حَوّل الظِّل العَشِي رأيتَه | حَنِيفاً وفي قَرْنِ الضُّحَى يَتَنصَّرُ (٦) |
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٩.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" (قدم) ٩/ ٤٩.
(٤) كذا في الأصل والصواب (عبيدة).
(٥) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢١٩
(٦) انظر: "ديوان ذي الرمة" ص ٢٢٩، وانظر: "تهذيب اللغة" (ولى) ١٥/ ٤٥٢، قال الأزهري: أراد تحول الظل بالعشي.
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، قال الكلبي والسدي والمقاتلان وعطاء الخراساني: نزلت [..] (١) قصة بئر معونة (٢) وقيل: للثلاثة الذين قتلوا الرجلين المسلمين اللذين اعتزيا إلى بني عامر، وكان بنو عامر قتلوا أصحاب بئر معونة، فلما اعتزى الرجلان إليهم قتلوهما وأخذوا ما كان معهما، فلامهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "بئسما صنعتما هما رجلان من بني سليم (٣) من أهل ميثاقي" ونزلت هذه الآية (٤) يقول: لا تقطعوا أمراً دون الله
(٢) بئر معونة: قال ابن إسحاق: (بئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، وقال: كلا البلدين منها قريب إلا أنها إلى حرة بني سليم أقرب، وقيل: بثر معونة بين جبال يقال لها: أبْلَى في طريق المصعد من المدينة إلى مكة وهي لبني سليم)، وقال الواقدي: (بئر معونة في اْرض بني سليم وأرض بني كلاب، وعندها كانت قصة الرجيع) والله أعلم، انظر: "معجم البلدان" ١/ ٣٠٢.
(٣) بنو سليم: بضم السين- قبيلة عظيمة من قيس عيلان والنسبة إليهم سلمى، وهم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس، قال الحمداني: وهم أكثر قبائل قيس، وكان لسليم من الولد بهتة ومنه جميع أولاده، قال في العبر: وكانت منازلهم في عالية نجد بالقرب من خيبر، قال: وليس لهم الآن عدد ولا بقية في بلادهم. انظر: "نهاية الأرب" ص ٢٧١.
(٤) أورد ذلك الثعلبي في "تفسيره" ١٠/ ١٥٧ أونسبه للسدي وعطاء الخراساني، وانظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٨٧، "تفسير الماوردي" ٥/ ٣٢٦ ونسبه للضحاك عن ابن عباس، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٣٠١، "تفسير الألوسي" ٢٦/ ١٣٣.
وقال ابن الزبير: قدم المدينة ركب من بني تميم (٢) على النبي -صلى الله عليه وسلم-[..]، (٣)، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. وتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فأنزل الله هذه الآية (٤) وهذه رواية عطاء عن ابن عباس (٥).
وقال جابر بن عبد الله: نزلت في النهي عن الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة، وذلك أن ناساً من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمرهم أن ييدوا الذبح. وهو قول الحسن (٦)، واختيار الزجاج، قال: أعلم الله أن ذلك غير جائز، قال: وفي هذا دليل أنه لا يجوز أن يؤدِّى فرضٌ قبل وقته، ولا تطوع قبل وقته مما جاءت به السنة (٧).
(٢) بنو تميم: بطن من طابخة وطابخة من العدنانية وهم بنو تميم بن مر بن أد بن طابخة، والتميم في اللغة الشديد، وكان لتميم من الولد زيد مناة وعمرو بن الحارث، قال في العبر: وكانت منازلهم بأرض نجد من هنالك على البصرة واليمامة وامتدت إلى الغري من أرض الكوفة. انظر: "نهاية الأرب" ص ١٧٧.
(٣) سقط من الأصل قوله: (فقال: أبو بكر أمر القعقاع بن معبد وقال عمر أمر الأقرع ابن حابس).
(٤) أخرجه عن عبد الله بن الزبير البخاري في التفسير، باب إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ٦/ ٤٧، والطبري ١٣/ ١١٩، وأخرجه الثعلبي ١٠/ ١٥٧ أ، والمؤلف في "أسباب النزول" ص ٤٠٦، والبغوي ٧/ ٣٣٤.
(٥) وهي التي سبقت الإشارة إليها في قصة بئر معونة وقتل الرجلين.
(٦) أخرج ذلك الثعلبي ١٠/ ١٥٦ ب عن جابر بن عبد الله، وأشار أيضًا أنه اختيار الحسن البصري، ونسبه في "الوسيط" ٤/ ١٥٠ لجابر، ونسبه الطبري ١٣/ ١١٧، والماوردي ٥/ ٣٢٥، وابن الجوزي ٧/ ٤٥٤، والقرطبي ١٦/ ٣٠١ للحسن.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٣١.
وأما التفسير: فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة (٢)، وقال العوفي عنه: لا تتكلموا بين يدي كلامه (٣).
وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتى يقضيه الله على لسانه (٤)، وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله (٥).
وقال الكلبي: لا تسبقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول ولا فعل حتى يكون هو الذي يأمركم (٦).
وهذه عبارات المفسرين ومعناها واحد.
٢ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ قال ابن عباس: في رواية عطاء والكلبي والمقاتلان: نزلت في ثابت بن
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١٦ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ونسبه الثعلبي في "تفسيره" ١٠/ ١٥٦ ب لابن عباس عن علي بن أبي طلحة.
(٣) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١٦ عن ابن عباس، ونسبه الماوردي ٥/ ٣٥٢ لابن عباس، ونسبه ابن الجوزي ٧/ ٤٥٥ للعوفي، وذكره السيوطي في "الدر" ٧/ ٥٤٦. ونسبه للطبري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.
(٤) انظر: "تفسير مجاهد" ص ٦١٠، وأخرجه الطبري ١٣/ ١١٦، ونسبه الثعلبي ١٠/ ١٥٧ أ، ونسبه البغوي ٧/ ٣٣٤، والقرطبي ١٦/ ٣٠١ لمجاهد.
(٥) نسب هذا القول للضحاك، الثعلبي ١٠/ ١٥٧/ أ، والبغوي ٧/ ٣٣٤.
(٦) نسب الثعلبي ١٠/ ١٥٧ أهذا القول للكلبي، "تنوير المقباس" ص ٥١٥.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ قال مقاتل: يقول: لا تدعوه باسمه يا محمد بن عبد الله، كما يدعو الرجل منكم غيره باسمه: يا فلان ويا فلان، ولكن عظّموه وقولوا: يا رسول الله، يؤدبهم (٢).
وقال مجاهد: لا تنادوه ولا تقولوا: يا محمد، ولكن قولوا: قولاً ليناً: يا رسول الله (٣).
وقال أبو إسحاق: أمرهم الله عز وجل بتبجيل نبيه وأن يغضوا أصواتهم ويخاطبوه بالسكينة والوقار، وأن يفضلوه في المخاطبة قال: ومعنى (كجهر بعضكم لبعض) أي: لا تنزلوه بمنزلة بعضكم من بعض فتقولوا: يا محمد، خاطبوه بالنبوة والسكينة والإعظام (٤).
قوله تعالى: ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ﴾ قال ابن قتيبة: لئلا تحبط (٥)، وهذا
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٠.
(٣) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١٨ عن مجاهد، وذكر الماوردي هذا المعنى ولم ينسبه، انظر: "تفسيره" ٥/ ٣٢٦ - ٣٢٧، وانظر: "تفسير مجاهد" ص ٦١٠.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٣٢.
(٥) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٤١٥.
قال مقاتل: يعني أن تبطل حسناتكم وأنتم لا تشعرون (٢).
قال أبو إسحاق: هذا إعلام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يجب أن يجل ويعظم غاية الإجلال والإعظام، وأنه قد يفعل الشيء مما لا يشعر به في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيكون ذلك مهلكاً لفاعله أو قائله، ولذلك قال بعض الفقهاء: من قال: إن زِرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسخ، يريد به النقص وجب قتله، هذا مذهب مالك وأصحابه، انتهى كلامه (٣).
قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية انطلق ثابت مهموماً حزيناً فمكث في بيته أياماً مخافة أن يكون قد حبط عمله، وكان سعد بن عبادة جاره فانطلق سعد حتى أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بقول ثابت أنه قد حبط عمله وأنه في النار فقال: "اذهبْ فأخبره أنه ليس مِنْ أهل النار وأنه من أهلِ الجنة" (٤) ففرح ثابت وخرج إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان بعد ذلك إذا كان عند النبي
-صلى الله عليه وسلم- خفض صوته فلا يسمع من يليه فنزلت فيه.
٣ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ وقال عطاء
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٠.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٣٢.
(٤) أخرج ذلك البخاري عن أنس بن مالك. انظر: "صحح البخاري" -كتاب التفسير- سورة الحجرات ٦/ ٤٦. وأخرجه الطبري ١٣/ ١١٩ عن عكرمة، وأورده الثعلي في "تفسيره" ١٠/ ١٥٨ أ - ب، وذكره القرطبي في "الجامع" ١٦/ ٣٠٥.
وقال ابن الزبير: ما حدث عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد قوله: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ﴾ فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- كلامه حتى يستفهمه بما يخفض صوته فأنزل الله فيه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ﴾ (٣).
والغض: النقص من كل شيء، ومنه غض البصر وغض الصوت (٤). قال الله تعالى: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ [لقمان: ١٩]، قال مقاتل: يخفضون كلامهم عند رسول الله (٥)، قال ابن عباس: يريد أبا بكر (٦).
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ قال مقاتل
(٢) أخرج ذلك الثعلبي ١٠/ ١٥٩ أعن أبي هريرة وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. انظر: "المستدرك" -كتاب التفسير- سورة الحجرات ٢/ ٤٦٢، وذكره البغوي في "تفسيره" ٧/ ٣٣٦.
(٣) أخرج ذلك البخاري في "تفسيره". انظر: "صحيح البخاري" كتاب: التفسير ٦/ ٤٦، وذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" عن ابن الزبير ١٠/ ١٥٩ أ، البغوي في "تفسيره" ٧/ ٣٣٧، وذكره القرطبي في "الجامع" ١٦/ ٣٠٨، ولا مانع من نزول الآية في جميع من ذكر لما اتحد فعلهم.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (غض) ١٦/ ٣٦، "اللسان" (غضض) ٧/ ١٩٧.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٠.
(٦) انظر: "تفسير الوسيط" ٤/ ١٥١.
قال عطاء عن ابن عباس: يريد طهَّر قلوبهم من كل قبيح، وجعل التقوى في قلوبهم والخوف من الله (٣)، قال الفراء: أخلص قلوبهم للتقوى كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج جيده من رديئه ويسقط خبثه (٤)، وقال أبو عبيدة: امتحنه: اصطفاه (٥)، وهذا كقول المفسرين.
وقال أبو سعيد الضرير: محنت الأديم محنًا إذا مددته حتى توسعه، قال: ومعنى قوله: ﴿امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ شرح الله قلوبهم، كان معناه وسَّع الله قلوبهم للتقوى (٦)، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى تقدير محذوف، وقال المقاتلان: قال ثابت لما نزلت هذه الآية: ما يسرني أني لم أجهر بصوتي عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ امتحن الله قلبي للتقوى، وجعل لي مغفرة وأجراً عظيمًا (٧).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (محن) ٥/ ١٢١، "اللسان" (عن) ١٣/ ٤٠١.
(٣) انظر: ذلك القرطبي في "الجامع" ١٦/ ٣٠٨ عن ابن عباس.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٧٠.
(٥) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢١٩.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (عن) ٥/ ١٢١ - ١٢٢، "اللسان" (عن) ١٣/ ٤٠١.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٠ - ٩١.
وروي لنا مرفوعاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ﴾ الآية قال: "هم الجفاة من بني تميم" (٦)، والحجرات جمع حجرة، وفُعْلة تجمع فعلات، نحو: عرفات وظلمات، ومنهم من يستثقل الضمتين فيفتح الجيم.
وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: ١٦٨].
قال الفراء: وأصل الحجر المنع، وكل ما منعت من أن توصل إليه فقد حجرت عليه، وكذلك الحجرة التي ينزلها الناس هو ما حوطوا عليه (٧)، وأنشد أبو عبيدة قول الفرزدق:
(٢) أورد ذلك البغوي ٧/ ٣٣٧ ونسبه لابن عباس، وكذلك ابن حجر في "الكاف الشاف" ص ١٥٦، وابن الجوزي ٧/ ٤٥٩.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩١.
(٤) "تفسير مجاهد" ص ٦١٠، وأخرجه الطبري ١٣/ ١٢٢، وذكره القرطبي ١٦/ ٣٠٩.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ص ٥١٥.
(٦) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٢٢ عن مجاهد ونسه القرطبي ١٦/ ٣٠٩ لمجاهد.
(٧) هذا النص لم أقف عليه في "معاني القرآن" للفراء وهو في "تهذيب اللغة" منسوبًا =
أَما كان عبادة (١) كفياً لِدارِم | بلى ولأبياتٍ بها الحجراتُ |
٥ - ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاداهم نصف ذراريهم، وأعتق نصفهم، يقول الله: ولو صبروا كنت تعتق كلهم.
قال مقاتل: يعني بالخير أنهم لو صبروا لخلى سبيلهم بغير فداء (٢)، هذا قول المفسرين (٣).
قوله: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قال ابن عباس: يريد لمن تاب منهم (٤).
٦ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ قال ابن عباس وقتادة ومجاهد (٥) والمقاتلان (٦): نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه
(١) كذا في الأصل، وعند أبي عبيدة (عبَّا كفيا لدارهم). انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢١٩، وعند الطبري ١٣/ ١٢١ (عباد كفيئا لدارم). وكذا أيضًا عند المبرد في "الكامل" ١/ ٦٤ ولم أقف عليه عند الفرزدق.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٢.
(٣) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٦٢ أ، وذكره السمرقندي ٣/ ٢٦٢، الماوردي ٥/ ٣٢٨، والقرطبي ١٦/ ٣١١.
(٤) ذكر هذا المعنى في "الوسيط" ٤/ ١٥٢ ولم ينسبه.
(٥) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٢٤ عن ابن عباس وقتادة ومجاهد. وأخرجه الإمام أحمد عن الحرث بن ضرار الخزاعي. انظر: "مسند أحمد" ٤/ ٢٧٩، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" وعزاه للإمام أحمد. وقال: رجال أحمد ثقات ٧/ ١٠٩، وأخرجه عبد الرزاق عن قتادة. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٣١، وقال الحافظ ابن حجر في "الكاف الشاف" ص ١٥٦: رواه ابن إسحاق والطبراني من حديث أم سلمة وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٢.
وذكرنا القراءة في قوله: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ في سورة النساء (٢).
قوله: ﴿أَنْ تُصِيبُوا﴾ يعني: لئلا تصيبوا، وكراهة أن تصيبوا (٣) على ما ذكرنا في مواضع.
وقوله: ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ أي: بجهالة بحالهم، وما هم عليه من الإسلام والطاعة.
﴿فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ قال مقاتل: يعني الذين انتدبوا لقتال بني المصطلق (٤).
٧ - ثم وعظهم فقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ ومعناه: اتقوا أن تكذبوه أو تقولوا باطلاً، فإن الله يخبره فتفتضحوا، يعني: أنهم إذا لم
(٢) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ بالنون، وكذلك في الحجرات: ٦، وقرأ حمزة والكسائي: (فتثبتوا) بالتاء وكذلك في الحجرات، انظر: "الحجة" لأبي علي ٣/ ١٧٣، "تفسير الطبري" ١٣/ ١٢٣.
(٣) انظر: "البحر المحيط" ٨/ ١٠٩.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٣.
ثم قال: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ أي: رسول الله ﴿فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ﴾ أي: مما تخبرونه فيه بالباطل (لعنتم) لوقعتم في عنت، وهو الإثم والهلاك.
قال مقاتل: لأنهم (١) في دينكم، ثم خاطب المؤمنين المخلصين الذين لا يكذبون النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يخبرونه بالباطل فقال: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ جعله أحبَّ الأديان إليكم حتى أحببتموه ﴿وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ حتى اخترتموه ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ﴾ جعل الكفر تكرهونه وتجتنبونه (والفسوق) قال ابن عباس: يريد الكذب (٢) (والعصيان) جميع معاصي الله.
ثم عاد إلى الخبر فقال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يعني المهتدين في محاسن أمورهم (٣)، ومثل هذا في النظم قوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ﴾ الآية [الروم: ٣٩].
ثم بين أن جميع ذلك بفضل من الله فقال: ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ﴾ قال أبو إسحاق: (فضلاً) منصوب مفعول له، المعنى: فعل الله بكم ذلك فضلاً أي
(٢) ذكر ذلك البغوي ٧/ ٣٣٩ ونسبه لابن عباس ٧/ ٣٣٩، ونسبه الماوردي ٥/ ٣٢٩ لابن زيد ٥/ ٣٢٩، ونسبه القرطبي ١٦/ ٣١٤ لابن عباس وابن زيد، ونسبه في "الوسيط" ٤/ ١٥٣ لابن عباس.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٣، وذكر هذا المعنى في "الوسيط" ٤/ ١٥٣ ولم
قال ابن عباس: يريد تفضلاً مني عليهم، ورحمة مني لهم (٢) ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ بما في قلوبهم (حكيم) فيهم بعلمه.
وقال مقاتل: عليم بخلقه حكيم في أمره (٣).
٩ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ قال المفسرون: نزلت في حَيَّيْن من الأنصار كان بينهما قتال بالنعال والأيدي.
قال أبو مالك: اقتتل رجلان فاقتتل حياهما، فاقتتلوا بالنعال والعصي، فأنزل الله ما قد سمعتم (٤)، ونحو هذا قال الحسن (٥) وقتادة (٦) والسدي (٧).
﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ أي: بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضاء بما فيه لهما وعليهما.
وقوله: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى﴾ أي: طلبت ما ليس لها، ولم ترجع إلى الصلح والرضا بحكم الله الذي حكم في كتابه.
قال أبو إسحاق: والباغية: التي تعدل عن الحق وما عليه أئمة
(٢) ذكر ذلك في "الوسيط" منسوبًا لابن عباس، انظر ٤/ ١٥٣.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٣.
(٤) أخرجه الطبري ١٣/ ١٢٨ عن أبي مالك، وعزاه السيوطي في "الدر" ٧/ ٥٦٠ لسعيد ابن منصور وابن جرير وابن المنذر عن أبي مالك.
(٥) أخرجه الطبري عن الحسن، انظر: "تفسير الحسن" ٢/ ٢٩٦.
(٦) أخرجه الطبري ١٣/ ١٢٩ عن قتادة، ونسبه الماوردي ٥/ ٣٣٠، والبغوي ٧/ ٣٤٠، وابن الجوزي ٧/ ٤٦٣ لقتادة.
(٧) أخرجه الطبري ١٣/ ١٢٨ عن السدي، ونسبه الثعلبى ١٠/ ١٦٤ أ، والماوردي ٥/ ٣٣٠، والبغوي ٧/ ٣٤٠ للسدي.
قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: ترجع إلى طاعة الله (٢).
وقال مقاتل: ترجع إلى الصلح الذي أمر الله به (٣).
قال أصحابنا: ودلت عليه هذه الآية، على أنه يجحب أن يقاتل المارق الباغي المشاقّ لما عليه الأمة (٤)؛ لأن ظاهر الأمر الوجوب، والبغاة الذين يجب قتالهم هم الذين يجتمع لهم أوصاف ثلاثة: الغلبة بالشوكة والقوة، والتأويل المحتمل (٥)، والإمام الذين يجتمعون عليه، فهؤلاء يدعون أولاً إلى طاعة الله بالإنذار، والعود إلى طاعة الإمام العادل، فإن أبوا قوتلوا من غير أن يبدأ بالقتال، ولكن إن قصدوا أهل العدل قاتلوهم للدفع، ثم لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جرحتهم، ونحو ما ذكرنا سار أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- في أهل البغي (٦)، وما أتلف أهل البغي من مال أهل العدل وما
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٤.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ١٢٨، "تفسير البغوي" ٧/ ٣٤٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٣١٧.
(٥) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٣٤٢.
(٦) أخرجه الحاكم عن أبي أمامة وقال: هذا صحيح الإسناد في هذا الباب، ووافقه الذهبي، انظر: "المستدرك" كتاب: قتال أهل البغي ٢/ ١٥٥، وأخرجه البيهقي موقوفًا على علي، انظر: "سنن البيهقي" كتاب: قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاءوا لم يتبع مدبرهم ولم يقتل أسيرهم ولم يجهز على جريحهم ولم يستمتع بشيء من أموالهم ٨/ ١٨١. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر ٤/ ٤٣.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ فَاءَتْ﴾ أي: رجعت الباغية إلى طاعة الله ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ﴾ قال ابن عباس: بالديات التي فرضها الله، يعني: أنهم يدون الجرحى والقتلى، وذلك هو الإصلاح بين الفريقين، يؤخذ للعادل من الباغي دية الجراحة والقتل وغرم ما أتلف من المال (٢)، ﴿وَأَقْسِطُوا﴾ واعدلوا في الإصلاح بينهما وفي كل حكم ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ وذكرنا معنى الإقساط في أول سورة النساء [آية: ٥].
ونزل في هذا أيضًا قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ قال أبو إسحاق: أعلم الله -عز وجل- أن الدين يجمعهم وأنهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم، فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أجل النسب لأنهم لآدم وحواء، فإن اختلفت أديانهم افترقوا في النسب وإن كانوا لأب ولأم، ألا ترى أنه لا يرث الولد المؤمن الأب الكافر، ولا الحميم المؤمن نسيبه الكافر (٣).
وقوله: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ يعني: بين كل مسلمين تخاصما وتقاتلا.
(٢) انظر: "أحكام القرآن" للشافعي ١/ ٢٩٣، وكتاب: الأم، حكم أهل البغي في الأموال وغيرها ٤/ ٢٢٠.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٣٦.
وقال أبو علي الفارسي: اقتتلا بسبب عبد الله بن أبي، وعبد الله بن رواحة (٣) (٤)، وعلى هذا قال مقاتل: بين أخويكم: يعني: الأوس والخزرج (٥).
وقال أبو علي الفارسي: يراد بالأخرين الطائفتان ونحوهما مما يكون كثرة، وإن كان اللفظ لفظ التثنية يرد والمراد به الكثرة والعموم (٦)، وذكرنا شواهد ذلك في قوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤].
(٢) الأوس: بطن من مزيقيا من القحطانية وهم بنو الأوس بن حارثة بن تغلب بن مزيقيا وهم أحد قبيلتي الأنصار، وكان لهم ملك يثرب نزلوها عند خروجهم من اليمن وجاء الإسلام وهم بها، فكانوا أنصارًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي ص ٦٥. الخزرج: بطن من مزيقيا من الأزد غلب عليهم اسم أبيهم فقيل لهم الخزرج، وهم المراد عند الإطلاق لهذا الاسم وهم إحدى قبيلتي الأنصار أخوة الأوس ويقال لكليهما بنو قيلة. انظر: "نهاية الأرب" ص ٦٠، "جمهرة أنساب العرب" ص ٣٦٢، "معجم قبائل العرب" ١/ ٣٤٢.
(٣) هو: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري من الخزرج أبو محمد يعد من الأمراء والشعراء الراجزين، شهد العقبة مع السبعين من الأنصار، وكان أحد النقباء الاثني عر واستخلفه النبي -صلى الله عليه وسلم- في إحدى غزواته على المدينة، وكان أحد الأمراء في وقعة مؤتة فاستشهد فيها. انظر: "حلية الأولياء" ١/ ١١٨، "الاستيعاب" ٢/ ٢٩٣، "الإصابة" ٢/ ٣٠٦.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٤.
(٦) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٩.
وفي قوله: ﴿بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ دليل على أن صفة البغي لا تزيل اسم الإيمان؛ لأن الله تعالى أثبت الأخوة بين المؤمنين بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ ثم سَمَّى الباغي والعادل أخوين فقال: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ وجعلهما أخوين للمؤمنين، فالباغي أخو المؤمنين كما أن العادل أخوهم، ونحو هذا قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فيهم لما سأله الحارث (٢) الأعور عن أهل الجمل وصفين (٣) فقال: أمشركون هم؟ قال: لا، من الشرك فروا (٤). فقال: أهم منافقون؟. قال: لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قال: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا (٥).
(٢) هو: الحارث بن عبد الله الأعور الهَمْداني الخارِفِي أبو زهير الكوفي، ويقال: الحارث بن عبيد، ويقال: الحوتي، وحوت بطن من همدان، روى عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وروى عنه الشعبي وأبو إسحاق السبيعي وأبو البختري الطائي وغيرهم، وهو ضعيف في الحديث، توفي عام ٦٥ هـ انظر: "ميزان الاعتدال" ١/ ٤٣٥، "تهذيب التهذيب" ٢/ ١٤٥.
(٣) صفين: بكسرتين وتشديد الفاء: هو موضع بقرب الرقة على شاطىء الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس وكانت وقعة صفين بين علي -رضي الله عنه- ومعاوية -رضي الله عنه- في سنة ٣٧ هـ، في غرة صفر. انظر: "معجم البلدان" ٣/ ٤١٤.
(٤) قال الفراء: فَرّ فلان يَفِر فِرارًا إذا هَرَب، انظر "تهذيب اللغة" (فر) ١٥/ ١٧٢، وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- قال لِعديّ بن حاتم: "ما يُفِرُّك إلا أن يقال لا إله إلا الله" أفْرَرْتُه أفِرَّه: فَعَلْتُ به ما يَفِر منه ويَهْرُب: أي: ما يحملك على الفرار إلا التوحيد. انظر: "النهاية في غريب الحديث" ٣/ ٤٢٧.
(٥) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" عن الحارث عن علي، انظر ١٠/ ١٦٤ أ، ب. وأيضًا ذكره البغوي في "تفسيره" ٧/ ٣٤١، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ٣٢٣.
وما أَدْرِي وسَوْفَ إِخالُ أدْرِي | أقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ (٥) |
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ يعني اللمز في اللغة: العيب (٦)، ذكرنا ذلك عند قوله: ﴿يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ [التوبة: ٥٨]، قال ابن عباس والمفسرون كلهم: لا يطعن بعضكم على بعض (٧) والمعنى: لا تلمزوا إخوانكم الذين هم كأنفسكم كما قال: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤]، ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]، وقد مر.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ التنابز: تفاعل من النبز، وهو
(٢) أخرجه الطبري ١٣/ ١٣١ عن مجاهد، وانظر: "تفسير مجاهد" ص ٦١١.
(٣) انظر كتاب: العين (قوم) ٥/ ٢٣١، "تهذيب اللغة" (قوم) ٩/ ٣٥٦.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (قوم) ٩/ ٣٥٦، "اللسان" (قوم) ١٢/ ٥٠٥.
(٥) انظر: "ديوان زهير" ص ٧٣، و"العين" (قوم) ٥/ ٢٣١، "تهذيب اللغة" (قام) ٩/ ٣٥٦، "اللسان" (قوم) ١٢/ ٥٠٥.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (لمز) ١٣/ ٢٢٠.
(٧) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٣٢ عن ابن عباس، ونسبه الماوردي ٥/ ٣٣٢ لابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير، وأيضًا نسبه إلى هؤلاء القرطبي ١٦/ ٣٢٧.
قال عكرمة والحسن ومجاهد وقتادة: وهو أن يقول المسلم لأخيه المسلم يا فاسق يا منافق (٣).
وقال المقاتلان: لا تدعوا مسلماً بغير اسم أهل دينه، وهو أن تقول: يا يهودي يا نصراني، تدعوه بالدين الذي كان عليه في الشرك، نهاهم الله أن يتنابزوا بذلك (٤).
وروي عن طلحة بن عمرو أنه قال: قلت لعطاء: يا أبا محمد ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ ما هذا الذي نهى عنه؟ قال: كل شيء أخرجت به أخاك من الإسلام، يا كلب يا حمار يا خنزير ونحو هذا (٥)، فهذا الذي نهي عنه. وقال إبراهيم: كانوا يقولون: إذا قال الرجل للرجل: يا حمار يا كلب يا خنزير، قال الله له يوم القيامة: أتراني خلقته كلباً أو حماراً أو خنزيراً (٦).
(٢) انظر: كتاب "العين" (لقلب) ٥/ ١٧٢، "تهذيب اللغة" (لقلب) ٩/ ١٧٧.
(٣) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٣١ - ١٣٢ عن عكرمة ومجاهد وقتادة، ونسبه الثعلبي لقتادة وعكرمة ١٠/ ١٦٦ أ، ونسبه القرطبي ١٦/ ٣٢٨ لقتادة ومجاهد والحسن.
(٤) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٣٢ عن الحسن، وانظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٥، ونسب القرطبي ١٦/ ٣٢٨ هذا القول للحسن ومجاهد.
(٥) ذكر ذلك البغوي ٧/ ٣٤٤ ونسبه لعطاء، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" ٧/ ٥٦٤ لعبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء، ونسبه في "الوسيط" ٤/ ١٥٥ لعطاء.
(٦) لم أقف عليه.
وقال غيره: معنى هذا: أن من دعا أخاه بلقب يكرهه لزمه اسم الفسق لمخالفة النهي، والله تعالى يقول ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ من فعل
(٢) نص العبارة في تفسير الثعلبي: (وما منا رجل إلا له اسمان...) وهو الأصوب. انظر: ١٠/ ١٦٦ أ.
(٣) أخرجه الترمذي عن أبي جبيرة، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، انظر: "سنن الترمذي" كتاب: تفسير القرآن باب (٥٠) ومن سورة الحجرات ٥/ ٣٨٨، وأخرجه أبو يعلى في مسنده ١٢/ ٢٥٣، وقال حسين سليم أسد محقق "المسند": إسناده صحيح.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٣٦.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٣٦.
١٢ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ وهو أن يظن بأخيه المسلم سوءاً [كأنه] (٣) سمع منه كلاماً لا يريد به سوءاً، أو رآه يدخل مدخلاً لا يقصد به سوءًا، فظن به سوءاً، فذلك الظن هو المأمور باجتنابه، ولا بأس به ما لم يتكلم به، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه [ثم] وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ يعني: ما أعلن وأبدى مما ظن بأخيه، هذا قول المقاتلين (٤).
وقال أبو إسحاق: أمر الله باجتناب كثير من الظن وهو أن يظن بأهل الخير سوءاً، فأما أهل السوء والفسق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم (٥).
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ قال الليث: الجَسُّ: جَسُّ الخَبَر، والجَاسُوسُ: العينُ يَتَجَسَّسُ الأخبار، والتجسس: البحث (٦).
(٢) انظر: "زاد المسير" ٧/ ٤٦٩ عن ابن عباس: بلفظ: (الضارون لأنفسهم بمعصيتهم).
(٣) كذا في الأصل، ولعلها: (لأنه).
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٦، "تفسير الماوردي" ٥/ ٣٣٤، وقد نسبه لمقاتل بن حيان، ونسبه في "الوسيط" للمقاتلين، انظر ٤/ ١٥٥.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٣٦ - ٣٧.
(٦) انظر كتاب: العين (جسس) ٦/ ٥، "تهذيت اللغة" (جسس) ١٠/ ٤٤٨.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ يقال: اغتاب فلان فلاناً اغتياباً وغيبة يغتابه، قال الأزهري: وروي عن بعضهم أنه سمع: غابه يغيبه، إذا عابه وذكر منه ما يسوؤه مما هو فيه (٥)، وإذا تناوله بما ليس فيه فهو بهت وبهتان، وهذا قول جميع المفسرين (٦).
وروي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"من ذكر رجلاً بما فيه فقد اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته" (٧).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٦، وذكر هذا المعنى في "الوسيط" ٤/ ١٥٦ ولم ينسبه.
(٣) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٣٥ عن ابن عباس.
(٤) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" (غيب) ٨/ ٢١٥.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ١٣٥، "الثعلبي" ١٠/ ١٦٨ أ، "الماوردي" ٥/ ٣٣٤، "زاد المسير" ٧/ ٤٧١، "القرطبى" ١٦/ ٣٣٤، "تفسير الوسيط" ٤/ ١٥٦.
(٧) أخرج ذلك مسلم عن أبي هريرة بلفظ: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره"، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته". انظر: صحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب (٢٠) تحريم الغيبة ٣/ ٢٠٠١، وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة، انظر: "سنن الترمذي" كتاب: البر والصلة باب (٢٣) ما =
وقال أبو إسحاق: تأويله: إن ذِكْرَكَ بسوء من لم يحضرك بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحيى بذلك، ويقال للمغتاب: فلان يأكل لحوم الناس (٢).
وهذا استفهام معناه: التقرير، كأنه قيل لهم: لم تحبون أكل لحم أخيكم ميتاً؟ وعطف قوله (فكرهتموه) على معنى لفظ الاستفهام (٣)، كما قال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: ١، ٢] فقوله: ﴿وَوَضَعْنَا﴾: عطف على معنى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ لا على لفظه، ألا ترى أنه لا يقال: ألم وضعنا، ولكن معنى (ألم نشرح) لا على لفظه ولكن معنى (ألم نشرح) قد شرحنا، فعطف على معناه، كذلك هذه الآية، قاله المبرد (٤) وقال الفراء: قوله: فكرهتموه أي: فقد كرهتموه فلا تفعلوه (٥).
قال صاحب "النظم": التأويل: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٦.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٣٧.
(٣) انظر: "روح المعاني" للألوسي ٢٦/ ١٥٨.
(٤) لم أقف عليه، وقد ذكر قريبًا من هذا النحاس في "إعراب القرآن" ٤/ ٢١٥.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٧٣.
وقال مجاهد: لما قيل لهم (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً؟)، قالوا: لا، فقيل: فكرهتموه أي: فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً (٢)، وشرح أبو علي الفارسي هذا الوجه فقال: الفاء في قول: ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ عطف على المعنى، كأنه لما قيل لهم: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً، قالوا: لا، فقيل لهم لما قالوا لا: فكرهتموه، أي: كرهتم أكل لحمه ميتاً، فكذلك فاكرهوا غيبته (٣).
قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ معطوف على هذا الفعل المقدر، ولا يكون قوله (فكرهتموه) بمعنى فاكرهوه واتقوا الله؛ لأن لفظ الخبر لا يوضع للأمر في كل موضع، ولأن قوله فكرهتموه محمول على المعنى الذي ذكرنا، فمعنى الخبر فيه صحيح (٤).
قال مقاتل: واتقوا الله في الغيبة ﴿إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ﴾ علي من تاب ﴿رَحِيمٌ﴾ به (٥).
١٣ - قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ نزلت هذه الآية في الزجر عن التفاخر بالإنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء، وسبب
(٢) أخرج نحوه الطبري ١٣/ ٣٧٣ عن مجاهد، وانظر: "تفسير مجاهد" ص ٦١٢، وأورده البغوي ٧/ ٣٤٦ بهذا النص.
(٣) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢١٢.
(٤) المصدر السابق.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٦.
وقال مقاتل: نزلت في بلال المؤذن وفي أربعة نفر من قريش عابوه بسواده يوم فتح مكة، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يؤذن على ظهر الكعبة ليذل المشركين بذلك، فلما أذن قالوا: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً (٢)، فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ يعني: آدم وحواء، والمعنى: أنكم متساوون في النسب، ليس يفضل أحد غيره بنسبه؛ لأن كلكم مخلوق من آدم وحواء، ترجعون بالنسب إليهما،
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٦، "الدر المنثور" ٧/ ٥٦٣ وزاد نسبتة لابن أبي حاتم، وذكره البغوي ٧/ ٣٤٣، والقرطبي ١٦/ ٣٤١.
ثم ذكر الله تعالى أنه إنما فرق أنساب الناس ليتعارفوا لا ليتفاخروا فقال: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا﴾ وهي: جمع الشعب وهو الحي العظيم، والقبائل دون ذلك، وهذا قول أبي عبيدة (٢) والفراء (٣) وجميع أهل اللغة (٤) قالوا: الشعب أعظم من القبيلة، وهي مثل مضر (٥) وربيعة (٦)، والقبائل: واحدتها قبيلة وهم كـ (بكر) (٧) من ربيعة وتميم من مضر، وأصل الشعب مأخوذ من:
(٢) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢٢٠.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٧٢.
(٤) انظر (شعب) في: "تهذيب اللغة" ١/ ٤٤٢، و"الصحاح" ١/ ١٥٥، "اللسان" ١/ ٤٩٧.
(٥) مضر: قبيلة من العدنانية، وهم بنو مضر بن معد بن عدنان، قال في "العبر": وكانت مضر أهل الكثرة والغلب بالحجاز من سائر بني عدنان، وكانت لهم الرياسة بمكة والحرم، انظر: "نهاية الأرب" ص ٣٧٧.
(٦) ربيعة: حي من مضر من العدنانية، وهم بنو ربيعة بن نزار بن مضر، وتعرف بربيعة الحمرا، قال في العبر: وديارهم ما بين اليمامة والبحرين والعراق، انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص ٢٩٢، "نهاية الأرب" ص ٢٤٢.
(٧) بنو بكر: بطن من ربيعة من العدنانية، وهم بنو بكر القحطاية، وهم بنو بكر بن عامر ابن عوف بن عذرة بن زيد اللات. انظر: "نهاية الأرب" ص ١٧٠.
ونحو هذا ذكر أبو الهيثم فقال: الشعب شعب الرأس، يعني: شأنه الذي يضم قبائله، وفي الرأس أربع قبائل (٣)، والشعب أبو القبائل الذي ينتسبون إليه ويجمعهم ويضمهم، ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الشعوب والقبائل.
قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: الشعوب الجمهور مثل: ربيعة ومضر والقبائل والأفخاذ (٤)، ونحو هذا روى الكلبي (٥) عنه.
وقال مقاتل: الشعوب رؤوس القبائل مضر وربيعة والأزد، وقبائل يعني: الأفخاذ سعد وبنو عامر (٦).
قال الزبير بن بكار (٧): العرب على ست طبقات وهي: شعب،
(٢) انظر (شعب) في: "العين" ١/ ٢٦٢، "تهذيب اللغة" ١/ ٤٤٢، "اللسان" ١/ ٥٠٠.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" (شعب) ١/ ٤٤٢، "اللسان" (شعب) ١٦/ ٣٤٤.
(٤) أخرجه الطبري ١٣/ ١٣٩ عن سعيد بن جبير، ونسبه القرطبي ١٦/ ٣٤٤ لابن عباس.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ص ٥١٧.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٧.
(٧) هو: الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام ابن خولجد أبو عبد الله الأسدي المديني العلامة، عالم بالأنساب وأخبار العرب، ولد بالمدينة، وولي قضاء مكة، فتوفي فيها، له تصانيف منها "أخبار العرب وأيامها"، و"نسب قريش وأخبارها"، و"الأوس والخزرج"، وغيرها، مات سنة =
وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد بالشعوب: الموالي، وبالقبائل: العرب (٤)، وإلي هذا ذهب قوم فقالوا: الشعوب من العجم وهم من لا يعرف لهم أصل نسب كالهند والجيل والترك (٥)، والقبائل من العرب.
قوله تعالى: (لتعارفوا) أي: ليعرف بعضكم بعضاً في قرب النسب وبعده، ثم أعلمهم أن أرفعهم عنده منزلة أتقاهم فقال: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، وقال مقاتل: يعني: بلالاً (٦) أخبر أن أتقاهم بلال، وروى أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عز وجل- يقول يوم القيامة إني جعلت نسباً فجعلت أكرمكم أتقاكم، وأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان، وأنا اليوم أرفع
(١) انظر: "اللسان" (شعب) نسب ذلك للزبير بن بكار ١/ ٥٠٠.
(٢) انظر: "اللسان" (شعب) ١/ ٥٠٠ - ٥٠١.
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٧٠، ١٧١، "تفسير البغوي" ٧/ ٣٤٨، "البحر المحيط" ٨/ ١٠٤.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٧١ أ، ولم ينسبه، والبغوي ٧/ ٣٤٨ من غير نسبة، ونسبه ابن الجوزي ٧/ ٤٧٤ لعطاء عن ابن عباس، وذكره القرطبي ١٦/ ٣٤٤ من غير نسبة، ونسبه في "الوسيط" ٤/ ١٥٨ لعطاء عن ابن عباس.
(٥) ذكر ذلك القرطبي ١٦/ ٣٤٤ ونسبه للقشيري، وذكره المؤلف في "الوسيط" ٤/ ١٥٨ ولم ينسبه.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٧.
وقال أهل العلم: هذا في الزجر عن الازدراء بالناس والتحقير لهم لأجل النسب والاستطالة على من يكون حاصل (٢) النسب والتفاخر بالآباء والأجداد، فأما اعتبار النسب في الكفاءة فإن ذلك متفق عليه، والأصل فيه شيئان: نسب يتصل برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو سبب ثان وهو العلم الموروث عنه -صلى الله عليه وسلم-، وقد نبه على هذا بقوله: "كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي" (٣)، فأما نسب الأمراء والوزراء والرؤساء والظلمة، فذلك مما لا يشترط في الكفاءة، والتقوى تشترط كما يشترط أصل الدين.
١٤ - قوله: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ نزلت في بني أسد بن خزيمة (٤)، أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنة جدبة وأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر، إنما أتوا يطلبون الصدقة، هذا قول ابن عباس
(٢) كذا رسمها في الأصل.
(٣) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" ٤/ ٣٢٣ من حديث المسور بن مخرمة.
(٤) هم: بنو أسد حي من بني خزيمة من العدنانية وهم بنو أسد بن خزيمة بن مدركة وكان لأسد هذا من الولد: دودان، وكاهل، وعمرو، وصعب، وحلمة، قال في العبر: وهم بطن كبير متسع وذو بطون قال وبلادهم مما يلي الكرخ من أرض نجد في مجاورة طي، قال: ويقال: إن بلاد طي كانت لبني أسد فلما خرج بنو طي من اليمن غلبوا على سلمى وأجا، وقد تفرقوا بعد ذلك في الأقطار ولم يبق لهم حي. انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي ص ٤٧.
وقال السدي ومقاتل: يعني: الأعراب الذين تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية (٢)، وقد ذكرناهم في سورة الفتح، وهؤلاء كانوا قد أظهروا كلمة الإسلام ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم من سرايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي كانت تمر بهم، والمعنى: أنهم يقولون: قد صدقنا بما جئت به، ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ لم تصدقوا ﴿وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾، قال ابن عباس: أقررنا بالإيمان (٣).
وقال مقاتل ومجاهد وقتادة: انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي (٤)، ثم بين أن الإيمان محله القلب لا اللسان بقوله: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾.
قال أبو إسحاق: والإسلام: إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان، وصاحبه المؤمن المسلم حقاً، وأما من أظهر قبول الشريعة
(٢) ذكره الثعلبي ١٠/ ١٧٢ أ، والبغوي ٧/ ٣٥٠، وابن الجوزي ٧/ ٤٧٦، والقرطبي ١٦/ ٣٤٨ ونسبوه للسدي، وانظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٧.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٨، وأخرجه الطبري ١٣/ ١٤٢ عن مجاهد وسعيد بن جبير.
ومعنى الإيمان والإِسلام وحقيقتهما في اللغة قد سبق ذكره في سورة البقرة.
قوله: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ قال ابن عباس: تخلصوا الإيمان (٢)، ﴿لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾ وقرأ أبو عمرو: (لا يألتكم) من ألت، وهما لغتان (٣)، قال أبو زيد: قالوا: الله السلطان حَقّه يألته ألتًا، مثل: ضربه يضربه ضرباً إذا نقصه، قال: وقوم يقولون: لات يلت، وحكى التوزي (٤):
في ألت آلت يولت إيلاتاً (٥).
(٢) ذكر ذلك البغوي ٧/ ٣٥٥ عن ابن عباس، وابن الجوزي ٧/ ٤٧٧ عن ابن عباس، والقرطبي ١٦/ ٣٤٨ من غير نسبة.
(٣) قراءة أبي عمرو: من ألتَ يألِتُ ألتا، مثل: ضرب يضرب ضربًا، وقرأ الباقون: يَلِتكم، من لات يَلِيتُ، إذا نقص، انظر: "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي ٢/ ٢٨٤، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٦٧٦.
(٤) هو: عبد الله بن محمد بن هارون التوزي أبو محمد مولى قريش من أكابر أئمة اللغة، قال السيرافي: قرأ على الجرمي "كتاب" سيبويه، وكان أعلم من الرياشي والمازني وأكثرهم رواية، عن أبي عبيدة، وقد قرأ أيضًا على الأصمعي وغيره، صنف كتاب: الخيل والأمثال والأضداد، مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. انظر: "بغية الوعاة" للسيوطي ٢/ ٦١، "أخبار النحويين والبصريين" ص ٨٥.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" (لات وولت) ١٤/ ٣٢١، "المحتسب" لابن جني ٢/ ٢٩٠، "البحر المحيط" ٨/ ١٠٤ - ١٤٩، "زاد المسير" ٧/ ٤٧٧.
قال ابن عباس ومقاتل: لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً (٢)، ثم نعت المؤمنين الصادقين في إيمانهم فقال:
١٥ - ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ قال مقاتل: لم يشكوا في دينهم بعد الإيمان (٣)، أي: لم يشكوا في وحدانية الله ونبوة محمد -عليه السلام-.
﴿وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (٤) قال أبو إسحاق: هو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه (٥)، والجهاد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- كان فرضاً في ذلك الوقت (٦).
﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ في إيمانهم، قال المفسرون: فلما نزلت الآيتان أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحلفون أنهم مؤمنون صادقون، وعرف الله غير ذلك منهم (٧).
(٢) ذكر هذا الثعلبي ١٠/ ١٧٣ أ، والبغوي ٧/ ٣٥٠، والقرطبي ١٦/ ٣٤٨ ولم ينسبوه، وانظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٨، ونسبه في "الوسيط" ٤/ ١٦٠ لابن عباس ومقاتل.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٩٩.
(٤) كذا في الأصل وقد سقط (بأموالهم وأنفسهم).
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٣٨.
(٦) انظر: "زاد المسير" ٧/ ٤٧٧.
(٧) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" ١٠/ ١٧٣ ب، البغوي في "تفسيره" ٧/ ٣٥١، السمرقندي في "تفسيره" ٣/ ٢٦٧.
قال المفسرون: وكان هؤلاء النفر يقولون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- جئناك بالعإل والأثقال والذراري، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، يمنون عليك بذلك، فأنزل الله:
١٧ - ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا﴾ (٢) الآية، والمن الذي معناه: اعتداد الصنيعة يُعدَّى بالجار يقال: مَنَّ عليه بكذا، وحذف الجار في هذه الآية من المواضع الثلاثة.
قال الفراء في قوله: ﴿أَنْ أَسْلَمُوا﴾ و ﴿أَنْ هَدَاكُمْ﴾: موضعها نصب لا بوقوع الفعل، ولكن بسقوط الصفة (٣).
(٢) أخرج ذلك الطبري عن سعيد بن جبير وقتادة، انظر: "تفسيره" ١٣/ ١٤٥، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١١٢: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه الحجاج ابن أرطأة، وهو ثقة ولكنه مدلس وبقية رجاله رجال الصحيح، وأورده السيوطي في "أساب النزول" وعزاه للطبراني والبزار، انظر: "أسباب النزول" ص ١٩٩.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٧٤.
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من أول سورة ق إلى آخر سورة الطور
تحقيق
د. فاضل بن صالح بن عبد الله الشهري