تفسير سورة الحجرات

اللباب
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مدنية وهي ثماني عشرة آية، وثلثمائة وثلاث وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا٣.

مدنية وهي ثماني عشرة آية، وثلثمائة وثلاث وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ﴾ قرأ العامة بضم التاء وفتح القاف وتشديد الدال مكسورة. وفيها وجهان:
أحدهما: أنه معتمدٍّ، وحذف مفعوله إما اقتصاراً كقوله: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ وكقولهم: «هُوَ يُعْطِي وَمْنَعُ»، وكُلُوا واشْرَبُوا «وإما اختصاراً للدلالة عليه أي لا تقدموا مالا يصلح.
والثاني: أنه لازم نحو: وَجه وتَوَجَّه. ويعضده قراءة ابن عباس والضحاك: لاَ تَقَدَّمُوا بالفتح في الثَّلاَثَةِ. والأصل لا تتقدموا فحذف إحدى التاءين. وبعض المكيين لا تقدموا كذلك إلا أنه بتشديد التاء كتاءات البَزّي والمتوصل إليه بحرف الجر في هاتين القراءتين أيضاً محذوف أَيْ لا تَتَقَدَّموا إلىأمر من الأمور.
520
وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفُسكم تقدماً عند النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقال: لفلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمْرُهُ، وعَلاَ شَأْنُهُ.
وقرىء: لا تُقْدموا بضم التاء وكسر الدال من أقدم أي لا تُقْدِمُوا على شيءٍ.

فصل


فصل في بيان حسن الترتيب وجوه:


أحدهما: أنهم في السورة المتقدمة لما جرى منهم ميلٌ إلى الامتناع مما أجاز النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الصلح، وألزمهم الله كلمة التقوى قال لهم على سبيل العموم: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله أي لا تتجاوزوا ما أتى من الله تعالى ورسوله.
الثاني: أنه تعالى لما بين علو درجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكونه رسوله الذي يظهر دينه وأنه بالمؤمنين رحيمٌ قال: لا تتركوا من احترامه شيئاً لا بالفعل ولا بالقول وانظروا إلى رفعة درجته.
الثالث: أنه تعالى وصف المؤمنين بأنهم أشداء ورحماء فيما بينهم وبكونهم راكعين ساجدين وذكر أن لهم من الحرمة عند الله ماأورثهم حسن الثناء في الكتب المتقدمة قوله: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل﴾ [الفتح: ٢٩]، فإن المَلكَ العظيم لا يذكر أحداً في غيبته إلا إذا كان عنده محترماً ووعدهم بالأجر العظيم فقال في يهذه السورة لا تفعلوا ما يوجب انْحِطَاط درجاتكم وإحباطَ حَسَنَاتِكم (ولا تقدموا).

فصل في سبب النزول


روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة وهو قال الحسن أي لا يذبحوا قيل أن يذبح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك أن ناساً ذبحوا قبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمرهم أن يُعِيدُوا الذَّبْحَ، وقال:» من ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُك فِي شَيْءٍ «وروي عن مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم الشك أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم.
وروى ابن الزبير أنه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال أبو بكر: أمر القعْقَاع بن معبد بن زرارة. وقال عمر: بل أمر الأقرعَ بن حابس. قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، قال عمر: ماأردت خلافَك فَتَمَارَيَا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله﴾ ؛ قال (ابن) الزبير: فكان
521
عمر لا يسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (بعد هذه الآية) حتى يستفهمه. وقيل: نزلت في جماعة أكثروا من السؤال. وقال مجاهد: لا تَفْتَاتُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشيء حتى يَقْضِيَهُ الله على لسانه. وقال الضحاك: يعني في القتال وشرائع الدين، أي لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله. قال ابن الخطيب: والأصحّ أنه إرشاد عام يشتمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل افتِيَاتٍ وتقدُّم واستبدادٍ بالأمر وإقدامٍ على فعلٍ غيرِ ضروري من غير مُشَاوَرةٍ.

فصل


ومعنى بين يدي الله ورسوله أي بحضرتهما؛ لأن ما يحضره الإنسان فيهو بين يديه ناظر إليه. وفي قوله: ﴿بين يدي الله ورسوله﴾ فوائد:
إِحْدَاهَا: أن قول الإنسان فلان بين يدي فلان إشارة إلى أن كل واحد منهما حاضر عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغِلْمَان؛ لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تَقْليب الحَدَقَة إليه وتحريك الرأس غليه عند الكلام ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك ولأن اليدين تنبىء عن القدرة لأن قول الإنسان: فلانٌ بين يدي فلان أي يُقَلِّبِه كيف يشاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعاً بين يديه وذلك يفيد وجوب الاجْتِنَاب من التَّقَدُّم.
وثانيها: ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول والانقياد لأوامره، لأن احترام الرسول احترام للمرسل، لكن احترام الرسول قد يترك لأجل بُعد المرسل وعدم اطّلاعه على ما يفعل برسوله فقوله: «بين يدي الله» أي أنتم بحضرة من الله وهو ناظر إليكم. وفي مثل هذه الحال يجب احترام رسوله.
وثالثها: أن العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر الأمر المتأخِّر، وهو قوله: «واتّقوا الله» لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يقلبه كيف يشاء يكون جديراً بأن يتقيه، وقوله: وَاتَّقُوا الله «أي في تضييع حقه، ومخالفة أمره ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لأقوالكم،» عَلِيمٌ «بأفعالكم.
522
قوله (تعالى) :﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي﴾ في إعادة النداء فوائد منها أن في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد، كقول لقمان لابنه: ﴿يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله﴾ [لقمان: ١٣] ﴿يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ﴾ [لقمان: ١٦] ﴿يابني أَقِمِ الصلاة﴾ [لقمان: ١٧]، لأن النداء تنبيه للمنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل بالَه منه، فإعادته تفيد تجدد ذلك.
ومنها: أن لا يتوهم متوهم أن المخاطبَ ثانياً غير المخاطب الأول، فإن من الجائز أن يقول القائل: يا زيدُ افعلْ كذا وكذا يا عمرو، فإذا أعادة مرة أخرى وقال: يا زيد قل كذا (يا زيد قل كذا (وقل كذا)) يعلم أن المخاطب أولاً هو المخاطب ثانياً. ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود، وليس الثاني تأكيداً للأول كقولك: يَا زَيْدُ لا تَنْطٌ ولا تَتَكَلَّم إلا الحق فإنه لا يحسن أن تقول: يا زيدُ لا تَنْطقْ يا زيدُ لا تَتَكَلَّمْ كما يحسن عند اختلاف المطلوبين.

فصل


قوله: ﴿لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي﴾ يحتمل أن يكون المراد حقيقة رفع الصوت، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام، وهو أن رفع الصوت يدل على عدم الخَشْيَة؛ لأن من خَشِيَ قلبُه ارْتَجَفَ وَضَعُفَتْ حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة، ومن لم يخف ثبت قلبه وقويت حركته الدافعةُ، وذلك دليلٌ على عدم الخشية. ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام، لأن من كَثُر كلامه يكون متكلماً عند سكوت الغير فيبقى لصوته ارتفاعٌ وإن كان خائفاً فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلامٌ كثير بالنسبة إلى كلام النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُبَلِّغ فالمتكلمُ عنده إن أراد الإخبار لا يجوزُ له، وإن سأل فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لَمَّا وجب عليه البيان فهو لا يسكت عما سُئل، وإن لم يُسْأَل فربما يكون في الجواب تكليف لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورْطَة العِقَاب كما قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: ١٠١].
ويحتمل أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم، أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعاً على كلام النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الخطاب. والأول أوضح والكل يدخل في المراد. قال المفسرون: معناه بَجِّلُوه وفَخّموهُ ولا ترفعوا أصواتكم عنده ولا تنادوه كما ينداي بعضكم بعضاً. روى أنس بن مالك (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: «لما نزل قوله
523
تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي﴾ جلس ثابتُ بنُ قيسٍ في بيته، وقال: أنا من أهل النار واحتَبَسَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سعدَ بْنَ معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأنُ ثابت اشتكى؟ فقال سعدٌ: إنه لَجَارِي وما علمت له شكوى قال: فأتاه سعدٌ فَذَكَر له قوله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال ثابتٌ: أُنْزِلَتْ هذه الآية ولقد عَلِمْتُمْ أنِّي من أَرْفَعِكُمْ صوتاً عَلَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنا من أهل النار فذكر ذلك سعدٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بل هو من أهل الجنة».
«وروى لمانزلت هذه الآية قَعَدَ ثابتٌ في الطريق يبكي فمر به عاصمُ بْنُ عَدِيٌ فقال: ما يُبكِيكَ يا ثابتُ؟. قال: هذه الآية أتخوف أن تكمونَ نزلت وأنا رفيعُ الصوت أخاف أن يُحْبَط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وغلب ثابتاً البكاءُ فِأتى امرأته جميلَة بنتَ عبدِ الله بن أبيِّ ابنِ سلول فقال لها: إذا دخلت فَرَسي فشُدّي على الضَّبَّة بمِسمارٍ، فضربت عليه بِمسْمَارٍ وقال: لا أخْرُجُ حتى يَتَوفَّانِي الله أو يَرْضَى عنِّي رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأتى عاصمٌ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فقال: اذهبْ فادْعُهُ لي فجاء عاصم إلى المكان الي رآه فيه فلم يجدْه، فجاء إلى أهلِهِ فوجَدَهُ بي بيت الفرس فقال له إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعوك فقال له: اكْسِر الضَّبة فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يُبْكِيكَ يا ثابت؟ فقال: أنا صيت وأخاف أن تكمون هذه الآية نزلت فيّ، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أما تَرْضَى أن تعيشَ حميداً وتُقْتضلَ شهيداً وتَدْخُلَ الجنة؟ فقال: رضيتُ ببُشْرَى الله ورسوله، لا أرفعْ صَوْتي أبداً على صوت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فأنزل الله ﴿الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله﴾ الآية. قال أنس: فكُنَّا ننظر إلى رجلٍ من أهل الجنة يمشي بيننا فلما كان يومُ اليَمَامَة في حرب مُسَيْلِمَةَ رأى ثابتٌ من المسلمين بعض الانكسار فانهزت طائفةٌ منهم فقال: أُفٍّ لهؤلاء ثم قال ثابتٌ لسالمِ مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثل هذا ثُمّ ثَبَتَا وقاتلا حتى قُتِلاَ واستشهد ثابتٌ وعليه دِرْعٌ فرآه رجلٌ من الصحابة بعد موته في المنام قال له: اعلم أن فلاناً رجلٌ من المسلمين نَزَ درعي فذهب بهاوهي في ناحية من المعسكر عند فرس يستن (به) في طِوَله، وقد وضع على درعي بُرْمَةً؛ فأتِ خالدَ بْن الوليد وأخْبِرْه حتى يسترد درعي، وأت أبا بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقُلْ له: إن عليّ دَيْناً حتى يَقْضِيَهُ (عنِّي)، وفلان (وفلان) من رقيقي عتيق.
فأخبر الرجلُ خالداً فوجد دِرْعه والفرسَ على ما وصفهُ فاسْتَرَدَّ الدرع وأخبر خالدٌ أبا بكر بتلك الرؤيا، وأجاز أبو بكر وصيَّتَهُ.
قال مالك بنأنس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) : لا أعلم وصيةً أُجيزَتْ بعد موت صاحبها إلا هذه.
524
قوله: ﴿وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ قال ابن الخطيب: إن قلنا: (إن) المراد من قوله: ﴿لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ﴾ أي لا تُكْثِرُوا الكلام فقوله: «ولاَ تَجْهَرُوا» يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقدر ما يؤتى به عند غيره أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل، وإن قلنا: المراد بالرفع الخطاب فقوله: «لاَ تَجْهَرُوا» أي لا تخاطبوه كما تُخَاطِبُو (نَ) غيره.
واعلم أن قوله تعالى: ﴿لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ﴾ لما كان من جنس لا تجهروا لم يستأنف النداء، ولما كان مخالفاً للتقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كقول لقمان لابنه: ﴿يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله﴾ [لقمان: ١٣]، وقوله: ﴿يابني أَقِمِ الصلاة﴾ [لقمان: ١٧] لكن الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح، فقوله: ﴿يابني أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر﴾ [لقمان: ١٧] من غير استئناف النداء لكون الكل من عمل الجوارح.
فإن قيل: ما الفائدة من قوله: ﴿وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول﴾ مع أن الجهر مستافد من قوله: ﴿لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ﴾ ؟.
فالجواب: أن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو صوته، والنهي عن الجهر منع من المساواة، أي لا تجهروا له بالقول كما تَجْهَرُو (نَ) لنظرائكم بل اجعلوةا كلمته عُلْيَا.
قوله: «أنْ تَحْبَطَ» مفعول من أجله. والمسألة من التنازع لأن كلاًّ من قوله: «لاَ تَرْفَعُوا» و «لاَ تَجْهَرُوا لَهُ» يطلبه من حيث المعنى فيكون معمولاً للثاني عند البصريين في اختيارهم، وللأول عند الكوفيين. والأول أصح للحذف من الأول أي لأن تَحْبَطَ.
وقال أبو البقاء: إنها لام الصّيرورةِ و ﴿وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ حال.

فصل


معنى الكلام إنكم إن رفعتم أصواتكم وتقدمتم فذلك يؤدي إلى الاستحقار وهو يفضي إلى الارتداد والارتداد محبطٌ. وقوله: ﴿وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ إشارة إلى أن الردّة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نداماً غاية الندامة خائفاً غايةَ الخَوف، فإذا ارتكبه مراراً قلّ خوفه ونَدَامَتُه ويصير عادة
525
من حيث لا يعلم متى تمكن هذا كان في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها، وهذا كما إذا بلغه خبر فإنه لا يقطع بالمخبر، فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ إلى حد التواتر حصل له اليقينُ وتمكن الاعتقاد، ولا يدري متى كان ذلك وفي أي لَمْحَةٍ حَصَلَ هذا اليقين.
فقوله: ﴿وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تغفر ولا توجب رِدّة؛ لأن الامر غير معلوم بل احْسُموا الباب.
قوله: ﴿إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله﴾ أي إجلالاً له ﴿أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى﴾ اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فتخرج خالصة.
قوله: ﴿أولئك الذين﴾ يجوز أن يكون «أولئك» مبتدأ «والذين» خبره والجملة خبر «إِنَّ» ويكون «لهم مَغْفِرَةٌ» جملة أخرى إما مستأنفة وهو الظاهر وإما حالية. ويجوز أن يكون «الَّذِينَ امْتَحَنَ (الله قُلُوبَهُمْ) » صفة «لأولئك» أوة بدلاً منه أو بياناً و «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» جملة خبرية.
ويجوز أن يكون «لهم» هو الخبر وحده و «مَغْفِرَةٌ» فاعل به واللام في قوله: «لِلْتَّقْوَى» يحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة أي كائنة للتقوى كقولك: أنْتَ لِكذَا أي صَالِحٌ أي كائنٌ ويحتمل أن يكون للتعليل. وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون تعليلاً يجري مَجْرَى بيان السبب المقتدمخ، كقولك: جِئْتُكَ لإِكْرَامِكَ ابني أمسِ أي صار ذلك السبب السابق سبب المجيء.
والثاني: أن يكون تعليلاً يجرى مجرى بيانه علّيّة المقصود المتوقع الذي يكون لاحقاً لا سابقاً، كقولك: جِئْتُكَ لأَدَاء الوَاجِبِ، أي ليصير مجيئي سبباً لأداء الواجب.
فعلى الأول فمعناه أن الله علم في قلوبهم تقواه فامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها، ولولا أن قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه علىأنفسهم. على الثاني فمعناه أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته معرفة رسوله
526
بالتقوى أي ليرزقهم الله التقوى، ثم قال: ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وقد تقدم الكلام عن ذلك.
527
قوله ( تعالى١ ) :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ﴾ في إعادة النداء فوائد منها أن في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد، كقول لقمان لابنه :﴿ يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله ﴾ [ لقمان : ١٣ ] ﴿ يا بني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ ﴾ [ لقمان : ١٦ ] ﴿ يا بني أَقِمِ الصلاة ﴾ [ لقمان : ١٧ ]، لأن النداء تنبيه للمنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل بالَه منه، فإعادته تفيد تجدد ذلك. ومنها : أن لا يتوهم متوهم أن المخاطبَ ثانياً غير المخاطب الأول، فإن من الجائز أن يقول القائل : يا زيدُ افعلْ كذا وكذا يا عمرو، فإذا أعادة مرة أخرى وقال : يا زيد قل كذا ( يا زيد٢ قل كذا ( وقل كذا ) ) يعلم أن المخاطب أولاً هو المخاطب ثانياً. ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود، وليس الثاني تأكيداً للأول كقولك : يَا زَيْدُ لا تَنْطٌق ولا تَتَكَلَّم إلا الحق فإنه لا يحسن أن تقول : يا زيدُ لا تَنْطقْ يا زيدُ لا تَتَكَلَّمْ كما يحسن عند اختلاف المطلوبين.

فصل


قوله :﴿ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ﴾ يحتمل أن يكون المراد حقيقة رفع الصوت، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام، وهو أن رفع الصوت يدل على عدم الخَشْيَة ؛ لأن من خَشِيَ قلبُه ارْتَجَفَ وَضَعُفَتْ حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة، ومن لم يخف ثبت قلبه وقويت حركته الدافعةُ، وذلك دليلٌ على عدم الخشية. ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام، لأن من كَثُر كلامه يكون متكلماً عند سكوت الغير فيبقى لصوته ارتفاعٌ وإن كان خائفاً فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي صلى الله عليه وسلم كلامٌ كثير بالنسبة إلى كلام النبي عليه الصلاة والسلام لأن النبي صلى الله عليه وسلم٣ مُبَلِّغ فالمتكلمُ عنده إن أراد الإخبار لا يجوزُ له، وإن سأل فإن النبي صلى الله عليه وسلم٤ لَمَّا وجب عليه البيان فهو لا يسكت عما سُئل، وإن لم يُسْأَل فربما يكون في الجواب تكليف لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورْطَة العِقَاب كما قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠١ ].
ويحتمل أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم، أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعاً على كلام النبي عليه الصلاة والسلام في الخطاب. والأول أوضح والكل يدخل في المراد٥. قال المفسرون : معناه بَجِّلُوه وفَخّموهُ ولا ترفعوا أصواتكم عنده ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً٦. روى أنس بن مالك ( رضي الله عنه٧ ) قال :«لما نزل قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ﴾ جلس ثابتُ بنُ قيسٍ في بيته، وقال : أنا من أهل النار واحتَبَسَ عن النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعدَ بْنَ معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأنُ ثابت اشتكى ؟ فقال سعدٌ : إنه لَجَارِي وما علمت له شكوى قال : فأتاه سعدٌ فَذَكَر له قوله النبي صلى الله عليه وسلم فقال ثابتٌ : أُنْزِلَتْ هذه الآية ولقد عَلِمْتُمْ أنِّي من أَرْفَعِكُمْ صوتاً عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا من أهل النار فذكر ذلك سعدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من أهل الجنة ».
وروى لما نزلت هذه الآية قَعَدَ ثابتٌ في الطريق يبكي فمر به عاصمُ بْنُ عَدِيٌ فقال :«ما يُبكِيكَ يا ثابتُ ؟. قال : هذه الآية أتخوف أن تكونَ نزلت وأنا رفيعُ الصوت أخاف أن يُحْبَط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتاً البكاءُ فِأتى امرأته جميلَة بنتَ عبدِ الله بن أبيِّ ابنِ سلول فقال لها : إذا دخلت فَرَسي فشُدّي على الضَّبَّة بمِسمارٍ، فضربت عليه بِمسْمَارٍ وقال : لا أخْرُجُ حتى يَتَوفَّانِي الله أو يَرْضَى عنِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأتى عاصمٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فقال : اذهبْ فادْعُهُ لي فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجدْه، فجاء إلى أهلِهِ فوجَدَهُ في بيت الفرس فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقال له : اكْسِر الضَّبة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُبْكِيكَ يا ثابت ؟ فقال : أنا صيت وأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تَرْضَى أن تعيشَ حميداً وتُقْتلَ شهيداً وتَدْخُلَ الجنة ؟ فقال : رضيتُ ببُشْرَى الله ورسوله، لا أرفعْ صَوْتي أبداً على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم » فأنزل الله ﴿ إن الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله ﴾ الآية. قال أنس : فكُنَّا ننظر إلى رجلٍ من أهل الجنة يمشي بيننا فلما كان يومُ اليَمَامَة في حرب مُسَيْلِمَةَ رأى ثابتٌ من المسلمين بعض الانكسار فانهزمت طائفةٌ منهم فقال : أُفٍّ لهؤلاء ثم قال ثابتٌ لسالمِ مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا ثُمّ ثَبَتَا وقاتلا حتى قُتِلاَ واستشهد ثابتٌ وعليه دِرْعٌ فرآه رجلٌ من الصحابة بعد موته في المنام قال له : اعلم أن فلاناً رجلٌ من المسلمين نَزعَ درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يستن ( به٨ ) في طِوَله، وقد وضع على درعي بُرْمَةً ؛ فأتِ خالدَ بْن الوليد وأخْبِرْه حتى يسترد درعي، وأت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقُلْ له : إن عليّ دَيْناً حتى يَقْضِيَهُ ( عنِّي٩ )، وفلان ( وفلان١٠ ) من رقيقي عتيق. فأخبر الرجلُ خالداً فوجد دِرْعه والفرسَ على ما وصفهُ فاسْتَرَدَّ الدرع وأخبر خالدٌ أبا بكر بتلك الرؤيا، وأجاز أبو بكر وصيَّتَهُ.
قال مالك بن أنس ( رضي الله عنه١١ ) : لا أعلم وصيةً أُجيزَتْ بعد موت صاحبها إلا هذه١٢.
قوله :﴿ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ﴾ قال ابن الخطيب : إن قلنا :( إن١٣ ) المراد من قوله :﴿ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ ﴾ أي لا تُكْثِرُوا الكلام فقوله :«ولاَ تَجْهَرُوا » يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عند النبي صلى الله عليه وسلم١٤ بقدر ما يؤتى به عند غيره أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل، وإن قلنا : المراد بالرفع الخطاب فقوله :«لاَ تَجْهَرُوا » أي لا تخاطبوه كما تُخَاطِبُو ( نَ١٥ ) غيره.
واعلم أن قوله تعالى :﴿ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ ﴾ لما كان من جنس لا تجهروا لم يستأنف النداء، ولما كان مخالفاً للتقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كقول لقمان لابنه :﴿ يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله ﴾ [ لقمان : ١٣ ]، وقوله :﴿ يا بني أَقِمِ الصلاة ﴾ [ لقمان : ١٧ ] لكن الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح، فقوله :﴿ يا بني أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر ﴾ [ لقمان : ١٧ ] من غير استئناف النداء لكون الكل من عمل الجوارح.
فإن قيل : ما الفائدة من قوله :﴿ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول ﴾ مع أن الجهر مستفاد من قوله :﴿ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ ﴾ ؟.
فالجواب : أن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم١٦ أو صوته، والنهي عن الجهر منع من المساواة، أي لا تجهروا له بالقول كما تَجْهَرُو( نَ١٧ ) لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عُلْيَا١٨.
قوله :«أنْ تَحْبَطَ » مفعول من أجله. والمسألة من التنازع لأن كلاًّ من قوله :«لاَ تَرْفَعُوا » و«لاَ تَجْهَرُوا لَهُ » يطلبه من حيث المعنى فيكون معمولاً للثاني عند البصريين في اختيارهم، وللأول عند الكوفيين. والأول أصح للحذف من الأول أي لأن تَحْبَطَ١٩.
وقال أبو البقاء : إنها لام الصّيرورةِ٢٠ و﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ حال.

فصل


معنى الكلام إنكم إن رفعتم أصواتكم وتقدمتم فذلك يؤدي إلى الاستحقار وهو يفضي إلى الارتداد والارتداد محبطٌ. وقوله :﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ إشارة إلى أن الردّة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نادماً غاية الندامة خائفاً غايةَ٢١ الخَوف، فإذا ارتكبه مراراً قلّ خوفه ونَدَامَتُه ويصير عادة من حيث لا يعلم متى تمكن هذا كان في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها، وهذا كما إذا بلغه خبر فإنه لا يقطع بالمخبر، فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ إلى حد التواتر حصل له اليقينُ وتمكن الاعتقاد، ولا يدري متى كان ذلك وفي أي لَمْحَةٍ حَصَلَ هذا اليقين.
فقوله :﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تغفر ولا توجب رِدّة ؛ لأن الأمر غير معلوم بل احْسُموا الباب٢٢.
١ زيادة من أ..
٢ ما بين القوسين الكبيرين زيادة على الرازي وما بين القوسين الصغيرين هما اللذان في ب..
٣ في ب عليه الصلاة والسلام..
٤ في ب عليه الصلاة والسلام كذلك..
٥ وانظر تفسير الإمام ٢٨/١١٢ و١١٣..
٦ قاله البغوي في تفسيره ٦/٢١٩..
٧ زيادة من أ..
٨ ما بين الأقواس زيادة من رواية البغوي والخازن. انظر معالم التنزيل ولباب التأويل لهما ٦/٢١٩..
٩ ما بين الأقواس زيادة من رواية البغوي والخازن. انظر معالم التنزيل ولباب التأويل لهما ٦/٢١٩..
١٠ ما بين الأقواس زيادة من رواية البغوي والخازن. انظر معالم التنزيل ولباب التأويل لهما ٦/٢١٩..
١١ زيادة من أ..
١٢ المرجعين السابقين..
١٣ زيادة من أ كالرازي تماما..
١٤ في ب عليه الصلاة والسلام..
١٥ النون ساقطة من النسختين ولا بد منها..
١٦ في ب عليه الصلاة والسلام..
١٧ في ب تجهروا..
١٨ قال بهذا الإمام في تفسير الكبير ٢٨/١١٣..
١٩ قاله أبو حيان في البحر ٨/١٠٦..
٢٠ وهي لام العاقبة قال: أو لا تخبط على أن تكون اللام لا العاقبة. انظر التبيان ١١٧٠..
٢١ الرازي المرجع السابق. وفيه هكذا وفي ب عليه..
٢٢ الرازي السابق..
قوله :﴿ إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله ﴾ أي إجلالاً له ﴿ أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى ﴾ اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فتخرج خالصة.
قوله :﴿ أولئك الذين ﴾ يجوز أن يكون «أولئك » مبتدأ «والذين » خبره والجملة خبر «إِنَّ » ويكون «لهم مَغْفِرَةٌ » جملة أخرى إما مستأنفة وهو الظاهر وإما حالية. ويجوز أن يكون «الَّذِينَ امْتَحَنَ ( الله قُلُوبَهُمْ ) » صفة «لأولئك » أو بدلاً منه أو بياناً و«لَهُمْ مَغْفِرَةٌ » جملة خبرية١.
ويجوز أن يكون «لهم » هو الخبر وحده و«مَغْفِرَةٌ » فاعل به واللام في قوله :«لِلْتَّقْوَى » يحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة أي كائنة للتقوى كقولك : أنْتَ لِكذَا أي صَالِحٌ أي كائنٌ٢ ويحتمل أن يكون للتعليل٣. وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون تعليلاً يجري مَجْرَى بيان السبب المتقدم، كقولك : جِئْتُكَ لإِكْرَامِكَ ابني٤ أمسِ أي صار ذلك السبب السابق سبب المجيء.
والثاني : أن يكون تعليلاً يجرى مجرى بيانه علّيّة٥ المقصود المتوقع الذي يكون لاحقاً لا سابقاً، كقولك : جِئْتُكَ لأَدَاء الوَاجِبِ، أي ليصير مجيئي سبباً لأداء الواجب.
فعلى الأول فمعناه أن الله علم في قلوبهم تقواه٦ فامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها، ولولا أن قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه على أنفسهم. وعلى الثاني فمعناه أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته معرفة رسوله بالتقوى٧ أي ليرزقهم الله التقوى، ثم قال :﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ وقد تقدم الكلام عن ذلك.
١ أخذ المؤلف ـ رحمه الله ـ كل هذه الأوجه من كتاب التبيان لأبي البقاء العكبري ١١٧٠..
٢ قاله جار الله الزمخشري في كشافه ٣/٥٥٧..
٣ أحد قولي الزمخشري أيضا وعنه أخذ الإمام الرازي في تفسيره هذين الوجهين وفصل التفصيل المرئي أعلى كما نلمح..
٤ في ب لي بدل من ابني..
٥ في تفسير الرازي: غاية..
٦ في ب: بقوله تحريف..
٧ بالمعنى من الرازي ٢٨/١١٥. فالمغفرة إزالة السيئات التي هي في الدنيا لازمة للنفس، والأجر العظيم إشارة إلى الحياة التي هي بعد مفارقة الدنيا عن النفس فيزيل الله عنه القبائح البهيمية ويلبسه المحاسن الملكية. انظر الرازي المرجع السابق..
قوله (تعالى) :﴿إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات﴾ هذا بيان لحال من كان في (مقابلة من تقدم، فإن الأول غَضَّ صوته، والآخر رفعه، وفيه إشارة إلى ترك الأدب من وجوه:)
أحدهما: النداء، فإن نداء الرجل الكبير قبيح بل الأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة إليهِ.
الثاني: النداء من وراء الحجرات، فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المَشْيَ والمجيئَ بل يجيئه من مكانه وكلمه ومن ينادي غيره مع الحائل يريد منه حضوره.
الثالث: قوله «الحجرات» يدل على كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في خَلْوَتِهِ التي لا يمكن إتيان المحتاج إليه في حاجته (في) ذلك الوقت بل الأحسن التأخير وإن كان في وَرْطَةِ الحاجة.
قوله: «مِنْ وَرَاء» «مِنْ» لابتداء الغاية. وفي كلام الزمخشري ما يمنع أن «مِنْ» يكون لابتداء الغاية وانتهائها قال: لأ، الشيء الواحد لا يكون مبدأ للفعل ومنتهًى له.
وهذا الذي أثبته بعض الناس وزعم أنها تدل على ابتداء الفعل وانتهائه في جهة واحدة نحو: أَخْذْتُ الدِّرْهَمَ مِنَ الكِيسِ.
والعامة على الحُجُرَات بضمتين وأبو جعفر وشَيْبَةُ بفَتْحها. وابن أبي عبلَة
527
بإسكانها. وهي ثلاث لغات وتقدم تحقيقها في البقرة في قوله: «في ظُلُمَاتٍ».
الحُجْرَةُ فُعْلَةٌ بمعنى مفعولة كغُرْفَة بمعنى مَغْروفَة. قال البغوي: الحُجُرَاتُ جمع الحُجْرَةِ فهي جَمْعُ الجَمْعِ.

فصل


ذكروا في سبب النزول وجوهاً:
الأول: قال ابن عباس: بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سريّةً إلى بني العَنْبر، وأمر عمليهم عُيَيْنَة بن حِصْنٍ الفَزَاريّ، فلما علما هربوا وتركوما عيالهم، فَسَبَاهُمْ عيينة، وقدم (بهم) على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجاء بعد ذلك رجالهم يفدونَ الذَّرَارِي فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائلاً في أهله فلما رأتهم الذَّرَارِي أجْهَشُوا إلى آبائهم يبكون وكانت لكل امرأة من نساء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حُجْرةٌ فجعلوا أن يخرج إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجعلوا ينادون: يا محمد اخْرُجُ إلينا حتى أيقظُوه من نومه فخرج إليهم، فقالوا يا محمد: فادنا عيالنا، فنزل جبريل (عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ) فقال: إن الله يأمرك أن تجعل بين وبنيهم رجلاً فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتَرْضُون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم؟ فقالوا: نعم؛ قال سبرة: أنا لا أحكم وعمي شاهد وهو الأعور بن بشامة؛ فرضوا به فقال الأعور: أرى (أن) تفادي نصفهم وأعتق نصفهم. فأنزل الله: ﴿إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ وصفهم بالجهل وقلة العقل.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ﴾ لأنك كنت تعتقهم جميعاً وتطلقهم بلا فداء ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. وقال قتادة: نزلت في ناسٍ من أعراب بني تميم جاءوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد فإنن مَدْحَنا زَيْنٌ وذمّنا شينٌ فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يقول إنما ذلك اللهُ الذي مَدْحُهَ زَيْنٌ وذَمُّهُ شَيْنٌ، فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرُك ونفاخرك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما بالشعر بُعِثْتُ، ولا بالفخر أُمِرْتُ، ولكن هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضلَه وفضل
528
قومه فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لثابت بن قيس بن شِمَاس، وكان خطيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قُمْ فَأَجِبْهُ فأجَابَهُ. وقام شاعرهم فذكر أبياتاً فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لحسَّان بن ثاتب: أجبهُ فأجابهُ، فقام الأقرع بن حابس فقا: إن محمداً المؤتَى له، تكلم خطيبنا، فكان خطبيهم أحسنَ قولاً، وتكلم شاعرُنا فكان شاعرُهم أشعرَ وأحسنَ قولاً، ثم مدنا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أشه أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما يضرك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللّغَلظُ عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزل فيهم: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي... ﴾ [الحجرات: ٢] الآيات الأربع إلى قوله: ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. وقال زيد بن أرقم: جاء ناس من العرب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يكُنْ ملكاً نعيش في جَنَاحِهِ فجاءوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات: يا محمدُ يا محمد، فأنزل الله: ﴿إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ... ﴾ الآية.

فصل


في قوله: «أكثرهم» وجوه:
أحدها: أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل، احترازاً عن الكذب واحتيادطاً في الكلام، لأن الكل مما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل، ثم إن الله تعالى مَعَ إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم، وفيه إشارة لطِيفةٍ وهي أن الله تعالى يقول: أنَا مع إحاحة علمي بكل شيء جربت على عادتكم استحساناً لتلك العادة، وهي الاحتراز عن الكذب، فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلا ً قاطعاً على رضائي بذلك منكم.
الثاني: أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون، وذلك أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني، مثاله: إذا كان الإنسان جاهلاً أو فقيراً فيصير عالماً أو غنياً فيقال في العُرْف: زَيْدٌ لَيْسَ هُوَ الذي رَأَيْتُ مِنْ قَبْلُ بل الآن على أحسن حال فيجعله كأنه ليس ذلك إشارة إلى ذكرنا. إذا علم هذا فهم بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة مغايرون لأنفسهم
529
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ لأنك كنت تعتقهم جميعاً وتطلقهم بلا فداء ﴿ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. وقال قتادة : نزلت في ناسٍ من أعراب بني تميم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب : اخرج إلينا يا محمد فإن مَدْحَنا زَيْنٌ وذمّنا شينٌ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول «إنما ذلكم اللهُ الذي مَدْحُهَ زَيْنٌ وذَمُّهُ شَيْنٌ »، فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرُك ونفاخرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالشعر بُعِثْتُ، ولا بالفخر١ أُمِرْتُ، ولكن هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضلَه وفضل قومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شِمَاس، وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم :«قُمْ فَأَجِبْهُ » فأجَابَهُ. وقام شاعرهم فذكر أبياتاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسَّان بن ثاتب : أجبهُ فأجابهُ، فقام الأقرع بن حابس فقال : إن محمداً المؤتَى له، تكلم خطيبنا، فكان خطبيهم أحسنَ قولاً، وتكلم شاعرُنا فكان شاعرُهم أشعرَ وأحسنَ قولاً، ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما يضرك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم وكان قد تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللّغَظُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل فيهم :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي. . . ﴾ [ الحجرات : ٢ ] الآيات الأربع إلى قوله :﴿ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. وقال زيد بن أرقم : جاء ناس من العرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يكُنْ ملكاً نعيش في جَنَاحِهِ فجاءوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات : يا محمدُ يا محمد، فأنزل الله :﴿ إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ. . . ﴾ الآية٢.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
في قوله :«أكثرهم» وجوه :
أحدها : أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل، احترازاً عن الكذب واحتياطاً في الكلام، لأن الكل مما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل، ثم إن الله تعالى مَعَ إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم، وفيه إشارة لطِيفةٍ وهي أن الله تعالى يقول : أنَا مع إحاطة علمي بكل شيء جربت على عادتكم استحساناً لتلك العادة، وهي الاحتراز عن الكذب، فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلا ً قاطعاً على رضائي بذلك منكم.
الثاني : أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون، وذلك أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني، مثاله : إذا كان الإنسان جاهلاً أو فقيراً فيصير عالماً أو غنياً فيقال في العُرْف : زَيْدٌ لَيْسَ هُوَ الذي رَأَيْتُ مِنْ قَبْلُ بل الآن على أحسن حال فيجعله٣ كأنه ليس ذلك إشارة إلى ذكرنا. إذا علم هذا فهم بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة مغايرون لأنفسهم إذا اعتبرتهم مع غيرها. فقوله تعالى :﴿ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ إشارة إلى ما ذكرنا.
الثالث : لعل فيهم من رجع عن ذلك الأمر، ومنهم من استمر على تلك العادة الرّديئة فقال : أكثرهم إخراجاً لمن ندم٤ منهم عنهم.


قوله :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ ﴾ تقدم مثله. وجعله الزمخشري فاعلاً بفعل مقدر أي ولو ثبت صَبْرُهُم. وجعل اسم أن٥ ضميراً عائداً على هذا الفاعل٦. وقد تقدم أن مذهب سِيبَويْهِ أنها في محل رفع بالابتداء وحينئذ يكون اسم «أَنَّ » ضميراً عائداً على صَبْرهم المفهوم من الفعل.
قوله :﴿ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ يحتمل أمرين :
أحدهما : غفور لسوء صنعهم في التعجيل.
وثانيهما : لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير يغفر الله لهم سيئاتهم.
ويحتمل أن يكون ذلك حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصلح. وقوله :﴿ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ كالصبر لهم٧.
١ في ب بالفخار..
٢ انظر هذه الأسباب في النزول تفسيري الخازن والبغوي لباب التأويل ومعالم التنزيل ٦/ من ٢٢٠ إلى ٢٢٢، وانظر أيضا القرطبي ١٦/٣٠٩ و٣١٠ وقد ذكر الإمام أبو حيان والقرطبي في تفسيريهما أبياتا شعرية من تلك المناظرة انظر البحر ٨/١٠٧ والقرطبي ١٦/٣٠٥..
٥ في النسختين "كان" والأصح ما أثبت أعلى فهو من قوله "ولو أنهم"..
٦ قال: في موضع الرفع على الفاعلية لأن المعنى ولو ثبت صبرهم..
٧ الرازي ٢٨/١١٨..
إذا اعتبرتهم مع غيرها. فقوله تعالى: ﴿أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ إشارة إلى ما ذكرنا.
الثالث: لعل فيهم من رجع عن ذلك الأمر، ومنهم من استمر على تلك العادة الرّديئة فقال: أكثرهم إخراجاً لمن ندم منهم عنهم.
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ﴾ تقدم مثله. وجعله الزمخشري فاعلاً بفعل مقدر أي ولو ثبت صَبْرُهُم. وجعل اسم أن ضميراً عائداً على هذا الفاعل. وقد تقدم أن مذهب سِيبَويْهِ أنها في محل رفع بالابتداء وحنيئذ يكمون اسم «أَنَّ» ضميراً عائداً على صَبْرهم المفهوم من الفعل.
قوله: ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ يحتمل أمرين:
أحدهما: غفور لسوء صنعهم في التعجيل.
وثانيهما: لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير يغفر الله لهم سيئاتهم.
ويحتمل أن يكون ذلك حثّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الصلح. وقوله: ﴿أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ كالصبر لهم.
قوله
تعالى
: ﴿يا
أيها
الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا﴾
قال المفسرون: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان لأمه بعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى بني المصطلق بعد الموقعة والياً ومصدقاً، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع به القوم تَلقَّوْه تعظيماً لأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: إنهم منعوا صدقاتهم وأراد قتلي، فغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهمَّ أن يَغْزُوَهُمْ فبلغ القومَ رجوعُه فأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا رسول الله: سَمِعْنَا برسُولك فخرجنا نلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى فأبطأ في الرجوع فخشينا أنه إنما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. فاتَّهمُهمْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبعث خالدَ بنَ الوليد
530
خفْيةً في عسكره وقال: انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تَرَ ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار، ففعل ذلك خال ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم يَرَ منه إلا الطاعة والخَيْرَ وانصرف إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأخبره فنزل ﴿يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ يعني الوليد بن عقبة «بِنَبأ» بخبر، ﴿فتبينوا أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ﴾ كيلا تصيبوا بالقتل والقتال قوماً بجالهة ﴿فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ﴾ من إصابتكم بالخَطَأ، «نَادِمينَ».
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف، لأن الله تعالى لم يقل: إني أنزلتها لكذا والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم ينقل عنه أنه قال: وردت الآية لبيان ذلك حسب، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل تاريخ نزول الآية، ومما يصدِّق ذلك ويؤكده أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد، بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطىء لا يسمَّى فاسقاً، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن رتبة الإيمان، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ [المنافقون: ٦] وقوله تعالى: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ٥٠] وقوله: ﴿وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا﴾ [السجدة: ٢٠] إلى غير ذلك؟!.

فصل


دلت الآية على أن خبر الواحد حجة وشهادة الفاسق لا تقبل أما في المسألة الأولى فلأنه علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقاً ولو كان خبر الواحد العدل لا يقبل لما كان للترتيب على النسق فائدة وأما في المسألة الثانية فلوجهين:
أحدهما: أنه أمر بالتبين وقيل قوله كان الحاكم مأموراً بالتبين، فلم يفد قوله الفاسق شيئاً، ثم إنَّ الله تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ وباب الشهادة أضيق من باب الخبر.
الثاني: أنه تعالى قال: ﴿أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ﴾، والجهل فو الخطأ؛ لأن المجتهد إذا أخطأ لا يسمى جاهلاً فالذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصف جاهلاً فلا يجوز البناءُ على قَوْلِهِ.
قوله: «أَنْ تُصِيبُوا» مفعول له كقوله: أَنْ تَحْبَطَ «. قال ابن الخطيب: معناه على
531
مذهب الكوفيين لئَلاّ تُصِيبُوا، وعلى مذهب البصريين كَرَاهَةَ أَنْ تُصِبُوا.
قال: ويحتمل أن يكون المراد فتبينوا واتقوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، فقوله:» بِجَهَالةٍ «في تقدير حال أي تُصيبوهُمْ جَهلينَ، ثم حقق ذلك بقوله: ﴿فتبحوا على ما فعلتم نادمين﴾. وهذا بيان، لأن الجاهل لا بد وأن ينقدم على فِعْلِهِ. وقوله:» تصبحوا «معناه تصيبوا. قال النحاة: أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه:
أحدها: بمعنى دخول الإنسان في الصباح.
والثاني: بمعنى كان الأمر وقت الصباح كما يقال: أصبحَ المريضُ اليومَ خَيْراً مما كان يريد كونه في وقت الصبح على حالةِ خير.
الثالث: بمعنى صار كقوله:»
أصْبحَ زَيدٌ غَنَياً «أي صار من غير إرادة وقتٍ دونَ وقتٍ.
وهذا هو المراد من الآية. وكذلك»
أمسى وأَضْحَى «. قال ابن الخطيب: والصيرورة قد تكون من ابتداء أمرٍ وَتدُومُ وقد تكون في آخر الأمر بمعنى آل الأمر إليه، وقد تكون متسوطة؛ فمثال الأول قوللك: صَارَ الطِّفْل فاهِماً حَدُّهُ. ومثال الثالث قولك: صَار زيدٌ عالماً إذا لم ترد أخذه فيهِ ولا بلوغه ونهايته بل كونه ملتبساً به. وإذا علم هذا فنقول: أصلُ استعمال أصبح فيما يصير الشيء بالغاً في الوصف نهايته وأصل أضحى التوسط، لا يقال: أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحداً، لأنَّا نقول: إذا تقارَبتِ المعاني جاز الاستعمال، وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل، وكثير من الألفاظ أصله معنى واستعمل استعمالاً شائعاً فيما يشاركه. وإذا علم هذا فقوله تعالى» فَتُصْبِحُوا «أي فتَصِيروا آخذين في الندم ثم تِسْتَدِيمُونَهُ، وكذلك في قوله: ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً﴾ [آل عمران: ١٠٣] أي أخذتم في الأخوَّة وأنتم فهيا زائدونَ مستمرُّون.
قوله:»
نَادِمينَ «الندم هَمٌّ دائم، والنون والدال والميم في تقلبها لا تَنْفَكُّ عن معنى الدوام كقول القائل: أدْمَنَ في الشُّرْب ومُدْمِنٌ أي أقام ومنه: المَدِينَةُ.
532
قوله: ﴿واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله﴾ فاتقوا الله أن تقولوا باطلاً أو تكذِّبوه فإن الله يخبرُه ويعرفُه أحوالكم فتفْتَضِحُوا.
قوله: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر﴾ يجوز أن يكون حالاً إما من الضمير المجرور في قوله:» فِيكُمْ «وإمَّا من المرفوع المستتر في» فِيكُمْ «لوقوعه خبراً.
ويجوز أن يكون مستأنفاً، إلا أنّ الزمخشري منع هذا، لأدائه إلى تنافر النظم. ولا يظهر ما قاله بل الاستئناف واضحٌ أيضاً. وأتى بالمضارع بعد «لو»
دلالة على أنه كان في إرادتهم استمرارُ عمله على ما يَسْتَصوبُونَ.

فصل


نقل ابن الخطيب أن الزمخشريَّ قال: وجه التعليق هو أن قوله: «لو يطيعكم» في تقدير حال الضمير المرفوعه في قوله: فيكم، والتقدير: كائن فيكم أو موجود فيكم على حالٍ تريدون أن يُطِيعَكُمْ أو يفعل باستصوابكم فلا ينبغي أن يكون على تلك الحال لو فعل ذلك لَعِنتُّمْ أي وقعتم في شدة أو أَثِمْتُمْ وهَلَكْتُمْ والعَنَتُ الإثْمُ والهَلاَكُ.
ثم قال: ﴿ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان﴾. وهذا خطاب مع بعض المؤمنين غير المخاطبين بقوله: «لَوْ يُطِيعُكُمْ». قال الزمخشري: اكتفى بالتغير في الصفة واختصر، ولم يقل: حبَّب إلى بعضكم الإيمان وقال أيضاً بأن قوله تعالى: «لَوْ يطيعكم» بدل «أطاعكم» إشارة إلى أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة ودوام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على العمل باستصوابهم لكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها. وههنا كذلك غن لم يحصل الخالفة بصريح اللفظ؛ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك، لأن المخاطبين أولاً بقوله: «لَوْ يُطِيعُكُمْ» هم الذين أرادوا أن يكون عملهم لمراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا ما قاله الزمخشري، واختاره وهو حسن قال: والذي يَجُوز أنْ يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى قال: ﴿إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا﴾ واكشفوا. (ثم) قال بعده:
533
﴿واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله﴾ أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنه فيكم مبيِّن مُرْشد، وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ الشيخ في مسألة: هذا الشَّيْخُ قاَعئدُ، لا يريد به بيان قعوده وإنما يريد أمرهم بمراجعته؛ لأن المراد لا يطيعكم في كثير من الأمر، وذلك لأن الشيخ إذا كان يعتد على قول التلاميذ لا يطمئن قلوبهم بالرجوع إليه وإن كان لا يذكر إلا النقل الصحيح وتقريره بالدليل القوى يراجعه كل ألأحد فكذلك ههنا فاسترشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحداً فلا يوجد كفيه حيف ولا يروج عليه زيف. والذي يدل عليه أن المراد من قوله: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ﴾ لبيان امتناع الشرط لامتناع الجزاء، كما في قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢] وقوله: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾ [النساء: ٨٢] وذلك يدل على أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله.
قوله: ﴿ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان﴾ ها استدراك من حيث المعنى لا من حيث اللفظ لأن من حبب إليه الإيمان غايرت صفتُهُ صفة من تقدَّم ذِكْرُهُ.

فصل


﴿حبب إليكم الإيمان﴾ فجعله أحبّ الأديان إليكم «وزَّيَّنَهُ» حسنه «فِي قُلُوبِكُمْ» حتى اخترتموه ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق﴾ قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) يريد الكذب «والعِصْيَانَ» جميع مَعَاصِي الله. ثم عاد من الخطاب إلى الخبر فقال: ﴿أولئك هُمُ الراشدون﴾.

فصل


قال ابن الخطيب: بعد ذكره الكلام المتقدم: وهذا معنى الآية جملةً فلنذكْره تفصيلاً في مسائل:
المسألة الأولى: لو قال قائل: إذا كان المراد بقوله: ﴿واعلموا أن فيكم رسول الله﴾ الرجوع إليه فلم يصرح بقوله: «فَتَبَيَّنُوا» وراجعوا النبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؟ وما الفائِدة في العدول إلى هذا المجاز؟ نقول: فائدته زيادته التأكيد لأنَّ قول القائل في المثال المقتدم: هذا الشيخ قائد آكد في وجوب المراجعهة من قوله: رَاجعُوا شَيْخَكُم؛ لأن القائل يجعل وجوب مراجعته متفقاً عليه ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم
534
بقعوده فكأنه يقول: إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ وأن الواجب مراجعته، لكنكم لا تعلمون قعوده، فهو قاعد فيجعل المراجعة أظهر من القعود، لأنه يقول خفي عنكم قعوده فتركتم مراجته ولا يخفى عليكم حسنُ مراجعته فيجعل حسن المراجعة أظهر من الأمر الخفي بخلاف ما لو قال: راجعوه، لأنه حينئذ يكون قائلاً بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق. وبين الكلامين يَوْنٌ بعنيد فكذلك قوله تعالى: ﴿واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله﴾ فجعل حُسْنَ مراجعته أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم. وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصَّرَائِحِ.
فإن قيل: إذا كان المراد من قوله: «لَوْ يُطِعُكُمْ» بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو ممتنع للوحي فلِمَ لَمْ يصرِّحْ به؟.
نقول: بيان نفي الشيء مع بيان ذلك النفي أتمُّ من بيانه من غير دلِيل، والجملة الشرطية بيان للنفي مع بيان دليله وأن قوله: «ليس فيهما آلهة» لو قال قائل: لم قلت إنه ليس فيهما آلهة بحيث أن يذكر الدليل فيقال: لو كان فيهما آلهة إلا الله لَفَسَدَتَا فكذلك ههنا لو قال: لا يطيعكم لقائل قائل: لِمَا لاَ يُطِيعُ؟ فوجب أن يقال: لو أطاعكم لأطاعكم لأجل قلتكم ومصلحة أبصاركم لكن لا مصلحة لكم في لأنكم تَعْنَتُون وتَأْثَمُونَ وهو يشقُّ عليه عَنَتُكم كما قال: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] فإذا أطاعكم لا يفيده شيئاً فلا يطيعكم فهذا نفي الطاعة بالدليل. وبين نفي الشيء بدليل ونفيه من غير دليل فَرقٌ عظيم.
واعلم أن في قوله: ﴿فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر﴾ ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقاً لقوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر﴾ [آل عمران: ١٥٩].
فإن قيل: إذا كان المراد بقوله تعالى: ﴿ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان﴾ فلا تتوقفوا فلمَ لم يصرح به؟.
قلنا: لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه، إذا ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ الأَمْر إلى تلك المرتبة، بخلاف الشك، فإنه يتوقف إلى بلوغ الأمر إلى درجة الظنّ، ثم الظن يتوقف إلى اليقين فلما كان عدم التوقف في النفس معلوماً متفقاً علهي لم يقل: فلا تتوقفوا بل قال: حَبَّب إليكم الإيمان أَي بَيَّنَهُ وزَيَّنهُ بالبُرْهَانِ النَّقيّ.

فصل


قال ابن الخطيب: معنى حبب إليكم أن قرَّبَهُ إليكم وأدخله في قلوبكم، ثم زينه
535
فِيهَا بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم وذلك لأن يُحِبّ شيئاً فقد يسأم منه لطول ملازمته والإيمان كل يوم يزداد حُسْناً لكل من كانت عبادته أكثر وتحمّله مشاق التكليف أتم تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ولهذا قال أولاً: حبب إليكم الإيمان، وقال ثانياً: وزينه في قلوبكم كأنه قرب إليهم ثم أقامه في قلوبهم.
قوله: ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان﴾ قال ابن الخطيب: هذه الأمُور الثلاث في مقابلة الإيمان الكامل؛ لأن الإيمان المزين هو التصديق بالجِنَان. وأما الفسوق فيل: هو الكذب كما تقدم عن ابن عباس وقال تعالى: ﴿إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ فسمى الكاذب فاسقاً وقال تعالى: ﴿بِئْسَ الاسم الفسوق﴾ [الحجرات: ١١] وقيل الفسوق الخروج عن الطاعهة لقولهم: فسقت الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ. وأم العصيان فهو ترك المأمور به. وقال بعضهم: الكفر ظاهر، والفسوق هو الكبيرة والعِصْيَانُ هو الصغيرة.
قوله: «فَضْلاً» يجوز أن ينتصب على المفعول من أجله. وفيما ينصبه وجهان:
أحدهما: قوله: ﴿ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ﴾ وعلى هذا فما بينهما اعتراض من قوله: ﴿أولئك هُمُ الراشدون﴾.
والثاني: أنه الفعل الذي فوي قوله «الرّاشدون». وعلى هذا يقال: فكيف حاز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولاً له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد فاختلف الفاعل، لأن فاعَل الرُّشْدِ غير فاعل الفَضْل؟. وأجاب الزمخشري: بأن الرشد لما كان توفيقاً من الله تعالى كان فعل الله وكأنه تعالى أرشدهم فضلاً أي كون متفضِّلاً عليه، منعماً في حقهم، لأن الرشد عبارة عن التحبب والتَّزْيين والتكريه. وجوز أيضاً أن ينتصب بفعل مقدر، أي جرى ذلك وكان ذلك فضلاً من الله. قال أبو حيان: وليس من مواضع إضمار كان، وجعل كلامه الأول اعتزالاً. وليس كذلك لأنه أراد الفعل المسند إلى فاعله لفظاً وإلا فالتحقيق أن الأفعالَ كلها مخلوقة لله تعالى وإنْ كان الزمخشري غَيْرَ موافقٍ عَلَيْه.
536
ويجوز أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة، لأنها فضل إيضاً، إلا أنَّ ابن عطية جعله من المصدر المؤكد لنفسه.
وجوز الحَوْفِيُّ أن ينتصب على الحال وليس بظاهر ويكون التقدير متفضلاً منعماً أو ذا فضل ونعمة قال ابن الخطيب: ويجوز أن يكون فضلاً مفعولاً به والفعل مضمراً دل عليه قوله تعالى: ﴿أولئك هُمُ الراشدون﴾ وهم يبتغون فضلاً من الله ونعمة، قال: لأن قوله: فضلاً من الله إشارة إلى ما هو من جانب الله المغني. والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة. وهذا يؤكد قولنا: أن ينتصب «فضلاً» بفعل مضمر وهو الابتغاء والطَّلَبُ.
ثم قال: ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ وفيه مناسبات:
منها: أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق قال: فلا يعتمد على تَرْوِيجِهِ عليكم الزُّورَ فإن الله عليم، ولا يقل كقوله المنافق: «لَوْلاَ يَعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ» فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وَفْق حكمته.
وثانيها: لما قال تعالى: ﴿واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ بمعنى لا يطيعكم بل يتبع الوحي «فإن الله عليم» يعلم من يكذبه «حكيمٌ» بأمره بما تقتضيه الحكمة.
537
قوله :﴿ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله ﴾ فاتقوا الله أن تقولوا باطلاً أو تكذِّبوه فإن الله يخبرُه ويعرفُه أحوالكم فتفْتَضِحُوا.
قوله :﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر ﴾ يجوز أن يكون حالاً إما من الضمير المجرور في قوله :«فِيكُمْ » وإمَّا من المرفوع المستتر في «فِيكُمْ » لوقوعه خبراً.
ويجوز أن يكون مستأنفاً١، إلا أنّ الزمخشري منع هذا، لأدائه إلى تنافر النظم٢. ولا يظهر ما قاله بل الاستئناف واضحٌ أيضاً٣. وأتى بالمضارع بعد «لو » دلالة على أنه كان في إرادتهم استمرارُ عمله على ما يَسْتَصوبُونَ.

فصل


نقل ابن الخطيب أن الزمخشريَّ قال : وجه التعليق هو أن قوله :«لو يطيعكم » في تقدير حال الضمير المرفوعه في قوله : فيكم، والتقدير : كائن فيكم أو موجود فيكم على حالٍ تريدون أن يُطِيعَكُمْ أو يفعل باستصوابكم فلا ينبغي أن يكون على تلك الحال لو فعل ذلك لَعِنتُّمْ أي٤ وقعتم في شدة أو أَثِمْتُمْ وهَلَكْتُمْ والعَنَتُ الإثْمُ والهَلاَكُ.
ثم قال :﴿ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان ﴾. وهذا خطاب مع بعض المؤمنين غير المخاطبين بقوله :«لَوْ يُطِيعُكُمْ ». قال الزمخشري : اكتفى بالتغاير في الصفة واختصر، ولم يقل : حبَّب إلى بعضكم الإيمان وقال أيضاً بأن قوله تعالى :«لَوْ يطيعكم » بدل «أطاعكم » إشارة إلى أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة ودوام النبي صلى الله عليه وسلم على العمل باستصوابهم لكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها. وههنا كذلك وإن لم يحصل المخالفة بصريح اللفظ ؛ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك، لأن المخاطبين أولاً بقوله :«لَوْ يُطِيعُكُمْ » هم الذين أرادوا أن يكون عملهم لمراد النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما قاله الزمخشري٥، واختاره وهو حسن قال : والذي يَجُوز أنْ يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى قال :﴿ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا ﴾ واكشفوا. ( ثم٦ ) قال بعده :﴿ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله ﴾ أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه فيكم مبيِّن مُرْشد، وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ الشيخ في مسألة : هذا الشَّيْخُ قاَعدُ، لا يريد به بيان قعوده وإنما يريد أمرهم بمراجعته ؛ لأن المراد لا يطيعكم في كثير من الأمر، وذلك لأن الشيخ إذا كان يعتمد على قول التلاميذ لا يطمئن قلوبهم بالرجوع إليه وإن٧ كان لا يذكر إلا النقل الصحيح وتقريره بالدليل القوى يراجعه كل أحد فكذلك ههنا فاسترشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحداً فلا يوجد فيه حيف ولا يروج عليه زيف. والذي يدل عليه أن المراد من قوله :﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ ﴾ لبيان امتناع الشرط لامتناع الجزاء، كما في قوله تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] وقوله :﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً ﴾ [ النساء : ٨٢ ] وذلك يدل على أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله٨.
قوله :﴿ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان ﴾ ها استدراك من حيث المعنى لا من حيث اللفظ لأن من حبب إليه الإيمان غايرت صفتُهُ صفة من تقدَّم ذِكْرُهُ.

فصل


﴿ حبب إليكم الإيمان ﴾ فجعله أحبّ الأديان إليكم «وزَّيَّنَهُ » حسنه «فِي قُلُوبِكُمْ » حتى اخترتموه ﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق ﴾ قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) يريد الكذب «والعِصْيَانَ » جميع مَعَاصِي الله. ثم عاد من الخطاب إلى الخبر فقال :﴿ أولئك هُمُ الراشدون ﴾٩.

فصل


قال ابن الخطيب : بعد ذكره الكلام المتقدم : وهذا معنى الآية جملةً فلنذكْره تفصيلاً في مسائل :
المسألة الأولى : لو قال قائل : إذا كان المراد بقوله :﴿ واعلموا أن فيكم رسول الله ﴾ الرجوع إليه فلم يصرح بقوله :«فَتَبَيَّنُوا » وراجعوا النبِيَّ عليه الصلاة والسلام ؟ وما الفائِدة في العدول إلى هذا المجاز ؟ نقول : فائدته زيادته التأكيد لأنَّ قول القائل في المثال المقتدم : هذا الشيخ قائد آكد في وجوب المراجعة من قوله : رَاجعُوا شَيْخَكُم ؛ لأن القائل يجعل١٠ وجوب مراجعته متفقاً عليه ويجعل١١ سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده فكأنه يقول : إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ وأن الواجب مراجعته، لكنكم لا تعلمون قعوده، فهو قاعد فيجعل١٢ المراجعة أظهر من القعود، لأنه يقول خفي عنكم قعوده فتركتم مراجعته ولا يخفى عليكم حسنُ مراجعته فيجعل حسن المراجعة أظهر من الأمر الخفي بخلاف ما لو قال : راجعوه، لأنه حينئذ يكون قائلاً بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق. وبين الكلامين يَوْنٌ بعنيد فكذلك قوله تعالى :﴿ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله ﴾ فجعل حُسْنَ مراجعته أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم. وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصَّرَائِحِ.
فإن قيل : إذا كان المراد من قوله :«لَوْ يُطِيعُكُمْ » بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو ممتنع١٣ للوحي فلِمَ لَمْ يصرِّحْ به ؟.
نقول : بيان نفي الشيء مع بيان ذلك النفي أتمُّ من بيانه من غير دلِيل، والجملة الشرطية بيان للنفي مع بيان دليله وأن قوله :«ليس فيهما آلهة » لو قال قائل : لم قلت إنه ليس فيهما آلهة بحيث أن يذكر الدليل فيقال : لو كان فيهما آلهة إلا الله لَفَسَدَتَا فكذلك ههنا لو قال : لا يطيعكم لقائل قائل : لِمَا لاَ يُطِيعُ ؟ فوجب أن يقال : لو أطاعكم لأطاعكم لأجل قلتكم ومصلحة أبصاركم لكن لا مصلحة لكم فيه لأنكم تَعْنَتُون وتَأْثَمُونَ وهو يشقُّ عليه عَنَتُكم كما قال :﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] فإذا أطاعكم لا يفيده١٤ شيئاً فلا يطيعكم فهذا نفي الطاعة بالدليل. وبين نفي الشيء بدليل ونفيه من غير دليل فَرقٌ عظيم.
واعلم أن في قوله :﴿ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر ﴾ ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقاً لقوله :﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ].
فإن قيل : إذا كان المراد بقوله تعالى :﴿ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان ﴾ فلا تتوقفوا فلمَ لم يصرح به ؟.
قلنا : لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه، إذ ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ الأَمْر إلى تلك المرتبة، بخلاف الشك، فإنه يتوقف إلى بلوغ الأمر إلى درجة الظنّ، ثم الظن يتوقف إلى اليقين فلما كان عدم التوقف في النفس معلوماً متفقاً عليه لم يقل : فلا تتوقفوا بل قال : حَبَّب إليكم الإيمان أَي بَيَّنَهُ وزَيَّنهُ بالبُرْهَانِ النَّقيّ١٥.

فصل


قال ابن الخطيب : معنى حبب إليكم أن قرَّبَهُ إليكم وأدخله في قلوبكم، ثم زينه فِيهَا بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم وذلك لأن من يُحِبّ شيئاً فقد يسأم منه لطول ملازمته والإيمان كل يوم يزداد حُسْناً لكل من كانت عبادته أكثر وتحمّله مشاق التكليف أتم تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ولهذا قال أولاً : حبب إليكم الإيمان، وقال ثانياً : وزينه في قلوبكم كأنه قرب إليهم ثم أقامه في قلوبهم.
قوله١٦ :﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان ﴾ قال ابن الخطيب : هذه الأمُور الثلاث في مقابلة الإيمان الكامل ؛ لأن الإيمان المزين هو التصديق بالجِنَان. وأما الفسوق فيل : هو الكذب كما تقدم عن ابن عباس وقال تعالى :﴿ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ﴾ فسمى الكاذب فاسقاً وقال تعالى :﴿ بِئْسَ الاسم الفسوق ﴾ [ الحجرات : ١١ ] وقيل الفسوق الخروج عن الطاعة لقولهم : فسقت الرُّطَبَةُ١٧ إِذَا خَرَجَتْ. وأما العصيان فهو ترك المأمور به. وقال بعضهم١٨ : الكفر ظاهر، والفسوق هو الكبيرة والعِصْيَانُ هو الصغيرة١٩.
١ قال بهذه الإعرابات العكبري في التبيان ١١٧١ والزمخشري في الكشاف ٣/٥٦٠..
٢ قال: الجملة المصدرة بلو لا تكون كلاما مستأنفا لأدائه إلى تنافر النظم ولكن متصلا بما قبله حالا من أحد الضميرين في "فيكم" المستتر، المرفوع أو البارز المجرور وكلاهما مذهب سديد.
والمعنى: أن فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم تغييرها أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها. انظر الكشاف ٣/٥٦٠..

٣ فقد قال أبو حيان ٨/١١٠: والظاهر أن قوله: "واعلموا أن فيكم رسول الله" كلام تام أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا تخبروه بما لا يصح فإنه رسول الله يطلعه على ذلك ثم أخبر أن رسوله لو أطاعكم في كثير لعنتم..
٤ الرازي ٢٨/١٢٢..
٥ بالمعنى من الكشاف ٣/٥٦٠ و٥٦١ وباللفظ من الرازي السابق..
٦ زيادة من ب..
٧ في ب: وإذا..
٨ قاله الحبر الفهامة الإمام الفخر في تفسيره الكبير ٢٨/١٢٢..
٩ القرطبي ١٦/٣١٤ والبغوي والخازن ٦/٢٢٣..
١٠ كذا في أ والرازي وفي ب فعل..
١١ اتفاق من ب وأ وكلاهما اتفاق للرازي..
١٢ كذا في أ والرازي وفي ب فجعل ماضيا..
١٣ كذا في النسختين وفي الرازي: متبع..
١٤ في النسختين: يفده..
١٥ وانظر في هذا تفسير الإمام الفخر ٢٨/١٢٤، ١٢٤..
١٦ في ب "فصل" بدل "قوله"..
١٧ خرجت من قشرها والفأرة من جحرها. وانظر تفسير العلامة القرطبي الجامع الكبير ١٦/٣١٤..
١٨ عبر عنهم الإمام الرازي بقوله: وقال بعض الناس..
١٩ المرجع السابق للرازي ٢٨/١٢٥..
قوله :﴿ فَضْلاً ﴾ يجوز أن ينتصب على المفعول من أجله١. وفيما ينصبه وجهان :
أحدهما : قوله :﴿ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ﴾ وعلى هذا فما بينهما اعتراض من قوله :﴿ أولئك هُمُ الراشدون ﴾.
والثاني : أنه الفعل الذي في قوله «الرّاشدون ». وعلى هذا يقال : فكيف جاز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولاً له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد فاختلف الفاعل، لأن فاعَل الرُّشْدِ غير فاعل الفَضْل ؟. وأجاب الزمخشري : بأن الرشد لما كان توفيقاً من الله تعالى كان فعل الله وكأنه تعالى أرشدهم فضلاً أي يكون متفضِّلاً عليهم، منعماً في حقهم، لأن الرشد عبارة عن التحبب والتَّزْيين والتكريه. وجوز أيضاً أن ينتصب بفعل مقدر، أي جرى ذلك وكان ذلك فضلاً من الله٢. قال أبو حيان : وليس من مواضع إضمار كان، وجعل كلامه الأول اعتزالاً٣. وليس كذلك لأنه أراد الفعل المسند إلى فاعله لفظاً وإلا فالتحقيق أن الأفعالَ كلها مخلوقة لله تعالى وإنْ كان الزمخشري غَيْرَ موافقٍ عَلَيْه.
ويجوز أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة، لأنها فضل أيضاً، إلا أنَّ ابن عطية جعله من المصدر المؤكد لنفسه.
وجوز الحَوْفِيُّ أن ينتصب على الحال وليس بظاهر ويكون التقدير متفضلاً منعماً أو ذا فضل ونعمة٤ قال ابن الخطيب : ويجوز أن يكون فضلاً مفعولاً به والفعل مضمراً دل عليه قوله تعالى :﴿ أولئك هُمُ الراشدون ﴾ وهم يبتغون فضلاً من الله ونعمة٥، قال : لأن قوله : فضلاً من الله إشارة إلى ما هو من جانب الله المغني. والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة. وهذا يؤكد قولنا : أن ينتصب «فضلاً » بفعل مضمر وهو الابتغاء والطَّلَبُ٦.
ثم قال :﴿ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ وفيه مناسبات :
منها : أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق قال : فلا يعتمد على تَرْوِيجِهِ عليكم الزُّورَ فإن الله عليم، ولا يقل كقوله المنافق :«لَوْلاَ يَعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ » فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وَفْق حكمته.
وثانيها : لما قال تعالى :﴿ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ ﴾ بمعنى لا يطيعكم بل يتبع الوحي «فإن الله عليم » يعلم من يكذبه «حكيمٌ » بأمره بما تقتضيه الحكمة٧.
١ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٥٦٢ وأبو البقاء في التبيان ١١٧١ وأبو حيان نقلا عن الكشاف في البحر ٨/١١٠..
٢ بالمعنى من الكشاف المرجع السابق وباللفظ من تفسير الإمام الفخر ٢٨/١٢٥..
٣ البحر ٨/١١١..
٤ المرجع السابق..
٥ الرازي ٢٨/١٢٥..
٦ نفسه ٢٨/١٢٦..
٧ السابق..
قوله تعالى: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا... ﴾ الآية. لما حذر المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق أشار إلى ما يلزم استدراكاً لما يفوت فقال: فإن اتفق أنكم تبنون على قوله من يوقع بينكم من الأمر المُفْضِي إلى اقتتال طائتفين من المؤمنين ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي﴾ أي الظالم يجب عليكم دفعه ثم إن الظالم إن كانو عو الرعية فالواجب على الأمير دفعهم وإن كان هو الأمير فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها وشرطه أن لا يُثيرَ فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما.

فصل


الضمير في قوله: «اقْتَتَلُوا» عائد أفراد الطائفتين كقوله (تعالى) :{هذان
537
خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: ١٩] والضمير في قوله: «بينهما» عائد على اللفظ.
وقرأ ابن أبي عبلة: اقْتَتَلَتَا مراعياً للَّفْظِ. وزيد بن علي وعُبَيْدُ بْنُ عَمْرو اقتَتَلا أيضاً إلا أنه ذكر الفعل باعتبار الفريقين، أو لأنه تأنيث مجازي.

فصل


روى أنس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لَوْ أتَيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أبيّ (ابْنِ سَلُول) فانطلق إليه رسول الله صلى الله عليه سولم وركب حماراً (وانطلق المسلمون يمشون معه) وهو بأرض سَبِخَةٍ، فلما أتاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إِلَيْكَ عَنِّي وَالله لَقَدْ نَتَنُ حِمَارِكَ فقال رجل من الأنصار منهم: واللهِ لَحِمَارُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فَتَشَاتَمَا فعضب لكل واحد منهم أصحابهُ، فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنِّعال فنزلت: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ فقرأها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض. وقال قتادة: نزل في رجلين من الأنصار كان بينهما مداراة في حق بينهما فقال أحدهما للآخر: لآخُذَنَّ حقِّي منك عَنْوةً لكثرة عشيرته وإن الآخر دعاء ليُحَاكِمَهُ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضم بعضاً بالأيدي والنعال و (وإننْ) لم يكن قتال بالسيوف. وقال سفيان عن السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فرقي بها إلى عُلِّيّة وحبسها فبلغ ذلك قومها فجاءوا وجاء قومه فاقْتَتَلُوا بالأيْدي والنِّعال فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرِّضا بما فيه لهُمَا وَعَليهِمَا.

فصل


قوله: «وَإنْ طَائِفَتَانِ (من المؤمنين) ِإشارة إلى نُدْرَةُ وقُوع الاقتتال بين طوئف المسلمين.
فإن قيل: نحن نرى أكثر الاقتتال في طوائفهم؟
فالجواب: أن قوله تعالى: ﴿إنْ﴾ إشارة إلى أنه لا ينبغي أن لا يقع إلا نادراً،
538
غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي كذلك: «إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنَبأٍ» إشارة إلى أنَّ مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن لا يقع إلا قليلاً مع أن مجيء الفاسق كثيرٌ، وذلك لأن قول الفاسق صار عند أول الأمر أشدَّ قبولاً من قول الصادق الصالح، وقال: «وَإنْ طَائِفَتَانِ» ولم يقل: «فِرْقَتَان» تحقيقاً للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل، لأن الطائفة دون الفرقة، قال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ [التوبة: ١٢٢].

فصل


قال: من المؤمنين ولم يقل: منكم مع أن الخطاب مع المؤمنين سبق في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ [الحجرات: ٦] تنبيهاً على قبح ذلك وتبعيداً لهم عنه، كقول السيد لعبده: إنْ رأيتَ أحداً مِنْ غِلمَاني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعاً للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن كأنه يقول: أنت حاشاك أنْ تفعل ذلك وإن فعل غعيرك فامْنَعْهُ، كذلك ههنا.

فصل


قال: وإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ولم يقل: فإن اقْتَتَلَ طائفتان من المؤمنين مع أن كلمة «إن» اتصالها بالفعل أولى، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال فيتأكد معنى النكرة، والمدلول عليها بكلمة إنْ، وذلك لأن كونهما طائتفين (مؤمنتين) يقتضي أن لا يقع القتال بينهما.
فإن قيل: فِلَم لَمْ يقل: يا أيها الذين آمنوا إن فاسقٌ «جَاءَكُمْ» أو إن أحدٌ من الفسّاق جاءكم ليكون الابتداء بما يمنعهم من الإصغاء إلى كلامه وهو كونه فاسقاً؟ أو يزداد بسببه فسقه بالمجيء به بسبب الفسق؟
فالجواب: أن الاقتتال لا يقع سبباً للإيمان ولا للزيادة فقال: إنْ جَاءَكُمْ فاسقٌ أي سواء كان فاسقاً أولاً أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقاً به. ولو قال: إنْ أَحَدٌ من الفُسَّاقِ جاءكم لا يتناول إلا مشهور الفِسْقِ قب المجيء إذا جاءهم بالنَّبَأِ.

فصل


قوله تعالى: ﴿أقْتَتَلُوا﴾ ولم يقل يَقْتَتِلُوا (بصيغة الاستقبال} ؛ لأن صيغة الاستقبال
539
تنبىء عن الدوام والاستمرار عن الدوام والاستمرار فيفهم من أن طائفتين من المؤمنين إنْ تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبىء عن ذلك، يقال: فُلاَنٌ يَتَهَدَّدُ وَيَصُومُ.

فصل


قال: «اقْتَتَلُوا» ولم يقل: اقْتَتَلاَ وقال: «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا» ولم يقل: بَيْنَهُمْ لأن الفتنة قائمة عند الاقتتال، وكل أحد برأسِهِ يكون فاعلا فعللاً فقال: اقْتَتَلُوا وعند الصلح تتفق كلمةُ كُلِّ طائفة وإلا لم يتحقق (الصلح) فقال: «بَيْنَهُمَا» لكون الطائفتين حينئذ كَنَفْسَيْنِ.
قوله: ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى﴾ وأَنبت الإجابة إلى حكم كتاب الله. وقيل: إلى طاعة الرسول وأولي الأمر. وقيل: إلى الصُّلْحِ.
كقوله تعالى: ﴿وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ [الأنفال: ١] وقيل: إلى التقوى، لأن من خاف الله لا يبقى له عدو إلا الشيطان، لقوله: ﴿إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً﴾ [فاطر: ٦].
فإن قيل: كيف يصح في هذا الموضع كلمة «إنْ» من أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه وبغي أحدهما عند الاقتتال متحقق الوقوع فيكون مثل قوله القائد: إنْ طَلَعْتْ الشَّمْسُ؟
فالجواب: أن فيه معنى لطيفاً وهو أن الله تعالى يقول: الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع لأن كل طائفة تظن أن الأخرى فئة الكفر والفساد كما يتحقق في الليالي المظلمة، أو يقع لكل طائفة أن القتال جائز باجتهاد
خطأ، فقال تعالى: الاقتتال لا يقع إلى كذا فإن بَانَ لَهُمَا أو لأحدهما الخطأ واستمرّ عليه فهو نادر وعند ذلك يكون قد بغى فقال: «فَإنْ بَغَتْ» يعني بعد انكشاف الأمْر، وهذا يفيد النُّدْرة وقِلَّةَ الوقوع.
فإنْ قيل: لم قال: فإنْ بَغَتْ ولم يقل: فَإن تَبْغِ؟
فالجواب: ما تقدم في قَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتَتَلُوا «ولم يقل: يَقْتَتلُوا.
قوله:»
حَتَّى تَفِيء «العَامة على همزة من فَاء يَفِيءُ أي رَجَعَ كجَاء يَجِيءُ.
والزهري: بياء مفتوحة كمضارع وَفَا وهذا على لغة من يقصر فيقال:»
جاَ، يَجِي «
540
دون همز؛ وحينئذ فتح الياء لأنها صارت حرف الإعراب.

فصل


المعنى حتى تفيء إلى أمر الله في كتابه وهذا إشارة إلى أن القتال جزاء الباغي كحدِّ الشرب الذي يُقَامُ وإن ترك الشرب بل القتال إلى حدّ الفيئة، فإن فاءت الفئةُ الباغيةُ حَرُم قتالهُم. وهذا يدل على جواز قتال الصَّائِل، لأن القتال لما كان للفيئة فإذا حصلت لم يوجد المعنى الذي لأجله القتال. وفيه دليل أيضاً على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بفعل الكبيرة؛ لأن الباغي من أحدى الطَّائِفَتَيْنِ وسماهما مؤمنين.
قوله:» فَإِنْ فَاءَاتْ «أي رَجَعَتْ إلى الحَقِّ.
فإن قيل: قد تقدم أن»
إنْ «تدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن البغي من المؤمن نادرٌ فإذن تكون الفئةُ متوقعةً فيكف قال:» فَإنْ فَاءَتْ «؟
فالجواب: هذا كقول القائل لعبده: ن مُتّ فَأَنْتَ حُرٌّ، مع أن الموت لا بدّ من وقوعه لكن لما كان وقوعه بحيث لا يكون العبد مَحَلاًّ للعِتْق بأن يكون باقياً في ملكه حياً يعيش بعد وفاته غير معلوم. فكذلك ههنا لما كان المتوقَّع فيئتهم من تلقاء أنفسهم لما لم يقع دل على تأكيد الأمْر بينهم فقال تعالى: ﴿فَإنْ فَاءتْ﴾ أي بعد اشتداد الأمر والتحام القتال فَأَصْلِحُوا، وفيه إشارة إلى أنَّ من لم يَخفِ الله وبغى يكون رجوعه بعيداً.
قوله: ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل﴾ بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله»
وَأَقْسِطُوا «اعِدْلُوا ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾.
فإن قيل: لم قال ههنا: ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل﴾ ولم يذكر العدل في قوله: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ ؟
فالجواب: أن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه وذلك يكون بالنصيحة وبالتهديد والزجر والتعذيب والإصلاح ههنا بإزالة آثار الاقتتال بعد ارتفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال: «بالْعَدْلِ»
فكأنه قال: فاحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأَصْلِحُوا بالْعَدْلش فيما يكون بينهما لئلا يؤدي إلى ثَوَرَان الفتنة بينهما مرة أخرى.
فإن قيل: لما قال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بالعدل فأيةُ فائدة في قوله: وَأَقْسِطُوا؟
فالجواب: أنّ قوله: «فَأَصْلحُوا بَيْنَهُمَا» كأن فيه تخصيصاً بحال الاقتتال فعمَّ
541
الأمر بالعدل وقال: وأقصدوا أي في (كل) أمر فإنه مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله والإقساط أزالة وهو الجَوْر والقَاسِطِّ هو الجَائِرُ.
قوله: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ أي في الدين، والولاية. وقال بعض أهل اللغة: الإخوة جمع الأَخ، من النَّسب والإخْوَانُ جمع الأخ من الصَّداقة، والله تعالى قال: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ تأكيداً للأمْر وإشارة إلى أن مابين الإخووة من الإسلام والنسب لهم كالأب. قال قائلهم (رحمةُ الله عليه) :
٤٥٠٢ - أَبي الإسْلاَمُ لاَ أَبَ لِي سِوَاهُ إذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَو تَمِيمِ
قوله: «بَيْنَ أَخَويكُمْ» العامة على التثنية. وزيد بن ثابت وعبدُ الله وحمَّادُ بنُ سلمة وابنُ سيرين: إخْوَانِكُمْ جمعاً على فِعْلاَن. وقد تقدم أن الإخْوان تغلب في الصداقة والإخوة في النسب، وقد تعكس كهذه الآية. وروي عن أبي عمرو وجماعة: إخْوَتِكُمْ بالتاء من فَوْقِ. وقد رُوِيَ عن ابن عمرو أيضاً القراءات الثَلاَثُ.

فصل


المعنى: فاتقوا الله ولا تَعْصُوا ولا تُخَالفوا أمره «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «المُسْلِمُ أَخُوا الْمُسْلِم لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَشْتُمُه مَنْ كَانَ فِي حَاجَة أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بَها كُرْبَةً مِنْ كُرَب يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».
فإن قيل: عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل: اتَّقُوا وقال هَهُننَا اتَّقوا مع أنَّ ذلك أهم؟
فالجواب: أنّ الاقتتال بين طائفتين يُفضي إلى أنْ تَعُمَّ المفسدة ويلحق كل من مؤمن منها
542
شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى وأما عند تخاصم رَجُلَيْن لا يخاف الناس ذلك وربما يريد بعضهم تأكيد الخِصَام بين الخصوم ولغرض فاسد، فقال: ﴿فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله﴾ أو يقال: قوله: وأصْلِحُوا إشارة الإصلاح، وقوله: «وَاتَّقُوا اللهَ» إشارة ما يصيبهم عن المُشَاجَرَة، وإيذاء قلب الأخ؛ لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهٍ»
فالمسلم يكون مقبلاً على عبادة الله مشتغلاً بعَيْبِه عن عيوب الناس.

فصل


في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوةً مؤمنين مع كونه باغين، ويدل عليه ما روى الحارُ الأعور أن عليَّ بْنَ أبي طالب سُئِلَ وهو القدوةُ ف يقتال أهل البغي عن أهل الجمل وصِفِّين أمشركون هُمْ؟ فقال: لا؛ من الشرك فروا فقيل: أمُنَافِقُونَ؟ فقال: (لا) إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً.
قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بَغَوْا علينا والباغِي في الشرع هو الخارج على إمام العدل، فإذا اجتمعت طائفةٌ لهم قوة وَمَنَعَةٌ فامتنعوا عن طاعة إمام العدل بتأويل محتمل ونصِّبُوا إماماً بالحكم فيهم أن يبعث الإمام إليهم ويدعوهم إلى طاعته فإن أظهروا مظلمةً أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمةً وأصروا على بغيهم قاتلهم الإمام حتى يَفِيئُوا إلى طاعته. وحكم قتالهم مذكور في كتب الفقه.

فصل


«إنَّمَا» للحصر أي الأخوة الآتين من المؤمنين. فلا أُخُوَّةَ بين المؤمن والكافر ولهذا إذَا مات المسلم وله أخر كافر يكون مالُه للمسلمين، ولا يكون لأخ الكافر، وكذلك الكافر، لأن في النسب المعتبر الأب الشرعي حتى إنَّ وَلَدَي الزّنا من ولدِ رجلٍ واحد لا يتوارثان، فكذلك الكفر لأن الجَامع الفاسد لا يفيد الأخُوّة ولهذا من مات من الكفار وله أخٌ مسلم ولا واثَ له من النسب لا يجعل ماله للكفار، ولو كان الدّين يجمعهم يرثه الكفار وما المسلم للمسلمين عند عدم الوارث.
فإن قيل: إذا ثبت أن أُخوَة الإسْلاَم أقوى منْ أُخُوّة النسب بدليل أنَّ المسلم يَرِثُه المسلمون إذا لم يكن له أخوة نسبيّة ولا يرث الأَخُ الكافر من النسب فِلمَ لا يقدمون
543
الأخوة الإسلامية على الأخوة النَّسَبِيَّة مطلقاً حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوة النسب؟
فالجواب: أن الأخ المسلم إذا كان أخاً من النسب فقد اجتمع فيه أُخُوَّتان فصار أَقْوَى.

فصل


قال النحاة ههنا: إنَّ «مَا» كافَّة تكف إنَّ عن العمل، ولولا ذلك لقيل: إنَّمَا الْمُؤْمِنِينَ إخوَةٌ وفي قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩] وقوله: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ [المؤمنين: ٤٠] ليست كافة. قال ابن الخطيب والسؤال الأقوى: هو أن رُبَّ من حرفو الجر و «الباء» و «عن» كذلك. و «ما» في «رُبَّ» كافّة، في «عما» و «بما» ليست كافة. والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد «رُبَّمَا» و «إِنَّما» يكون تاماً ويمكن جعله مستقلاً، ولو حذفت «ربّما وإنَّما» لم يضرَّ تقول: ربَّمَا قَامَ الأَمِيرُ، ورُبَّمَا زَيْدٌ في الدَّارِ. ولو حذف «رُبَّمَا» وقلت: زَيْدٌ فِي الدَّار وقام الأمير لصحَّ، وكذلك في «إنَّما» و «لَكِنَّما» وأما «عَمَّا» و «بما» فليس كذلك، لأن قوله تعالى:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩] لو حذفت «بما» وقلت: رَحْمةٌ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ، لما كان كلاماً، فالباء تُعَدّ متعلقة بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقه وكذلك «عَمَّا»، وأما «رٌبَّمَا» لما استغنى عنها، فكأنها لم تبق حكماً، ولا عَمَلَ للمعدوم.
فإن قيل: إنَّ «إذَا» لم تُكَفَّ بِمَا فما بعده كلام تام فوجب أن لا يكون له عمل. تقول: إنَّ زَيْداً قَائِمٌ ولو قلت: زيدٌ قائمٌ لَكَفَى وَتمَّ!
نقول: ليس كذلك لأن ما بعد إنَّ يجوز أَنْ يكون نكرة تقول: إنَّ رَجُلاً جَاءَنِي وأَخْبَرَنِي بكذا. وتقول جَاءَنِي رَجٌلٌ وأَخْبَرَنِي. ولا يحسن: إنَّما رَجٌلٌ جَاءني كما لو لم يكن هناك إنما. وكذلك القول في لَيْتَمَا لو حذفتهما واقتصرْت على ما بعدهما لا يكون تاماً فلم يكف. وتقدم الكلام في «لعلّ» مِرَاراً.
544
قوله :﴿ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ ﴾ أي في الدين، والولاية. وقال بعض أهل اللغة : الإخوة جمع الأَخ، من النَّسب والإخْوَانُ جمع الأخ من الصَّداقة، والله تعالى قال :﴿ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ ﴾ تأكيداً للأمْر وإشارة إلى أن ما بين الإخوة من الإسلام والنسب لهم كالأب. قال قائلهم ( رحمةُ الله عليه )١ :
٤٥٠٢ أَبي الإسْلاَمُ لاَ أَبَ لِي سِوَاهُ إذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَو تَمِيمِ٢
قوله :«بَيْنَ أَخَويكُمْ » العامة على التثنية. وزيد بن ثابت وعبدُ الله وحمَّادُ بنُ سلمة وابنُ سيرين : إخْوَانِكُمْ جمعاً على فِعْلاَن٣. وقد تقدم أن الإخْوان تغلب في الصداقة والإخوة في النسب، وقد تعكس كهذه الآية. وروي عن أبي عمرو وجماعة : إخْوَتِكُمْ بالتاء من فَوْقِ٤. وقد رُوِيَ عن ابن عمرو أيضاً القراءات الثَلاَثُ٥.

فصل


المعنى : فاتقوا الله ولا تَعْصُوا ولا تُخَالفوا أمره «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ » قال عليه الصلاة والسلام «المُسْلِمُ أَخُوا الْمُسْلِم لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَشْتُمُه مَنْ كَانَ فِي حَاجَة أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بَها كُرْبَةً مِنْ كُرَب يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ »٦.
فإن قيل : عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل : اتَّقُوا وقال هَهُنَا اتَّقوا مع أنَّ ذلك أهم ؟
فالجواب : أنّ الاقتتال بين طائفتين يُفضي إلى أنْ تَعُمَّ المفسدة ويلحق كل من مؤمن منها شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى وأما عند تخاصم رَجُلَيْن لا يخاف الناس ذلك وربما يريد بعضهم تأكيد الخِصَام بين الخصوم لغرض فاسد، فقال :﴿ فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله ﴾ أو يقال : قوله : وأصْلِحُوا إشارة الإصلاح، وقوله :«وَاتَّقُوا اللهَ » إشارة ما يصيبهم عن المُشَاجَرَة، وإيذاء قلب الأخ ؛ لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره، قال عليه الصلاة والسلام :«الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهٍ » فالمسلم يكون مقبلاً على عبادة الله مشتغلاً بعَيْبِه عن عيوب الناس٧.

فصل


في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوةً مؤمنين مع كونهم باغين، ويدل عليه ما روى الحارثُ الأعور أن عليَّ بْنَ أبي طالب سُئِلَ وهو القدوةُ في قتال أهل البغي عن أهل الجمل وصِفِّين أمشركون هُمْ ؟ فقال : لا ؛ من الشرك فروا فقيل : أمُنَافِقُونَ ؟ فقال :( لا )٨ إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً.
قيل : فما حالهم ؟ قال : إخواننا بَغَوْا علينا والباغِي في الشرع هو الخارج على إمام العدل، فإذا اجتمعت طائفةٌ لهم قوة وَمَنَعَةٌ فامتنعوا عن طاعة إمام العدل بتأويل محتمل ونصِّبُوا إماماً بالحكم فيهم أن يبعث الإمام إليهم ويدعوهم إلى طاعته فإن أظهروا مظلمةً أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمةً وأصروا على بغيهم قاتلهم الإمام حتى يَفِيئُوا إلى طاعته٩. وحكم قتالهم مذكور في كتب الفقه١٠.

فصل


«إنَّمَا » للحصر أي الأخوة الآتين من المؤمنين١١. فلا أُخُوَّةَ بين المؤمن والكافر ولهذا إذَا مات المسلم وله أخ كافر يكون مالُه للمسلمين، ولا يكون لأخيه الكافر، وكذلك الكافر، لأن في النسب المعتبر الأب الشرعي حتى إنَّ وَلَدَي الزّنا من ولدِ رجلٍ واحد لا يتوارثان، فكذلك الكفر لأن الجَامع الفاسد لا يفيد الأخُوّة ولهذا من مات من الكفار وله أخٌ مسلم ولا وارثَ له من النسب لا يجعل ماله للكفار، ولو كان الدّين يجمعهم يرثه الكفار وما المسلم للمسلمين عند عدم الوارث.
فإن قيل : إذا ثبت أن أُخوَة الإسْلاَم أقوى منْ أُخُوّة النسب بدليل أنَّ المسلم يَرِثُه المسلمون إذا لم يكن له أخوة نسبيّة ولا يرث الأَخُ الكافر من النسب فِلمَ لا يقدمون الأخوة الإسلامية على الأخوة النَّسَبِيَّة مطلقاً حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوة النسب ؟
فالجواب : أن الأخ المسلم إذا كان أخاً من النسب فقد اجتمع فيه أُخُوَّتان فصار أَقْوَى١٢.

فصل


قال النحاة ههنا : إنَّ «مَا » كافَّة تكف إنَّ عن العمل، ولولا ذلك لقيل : إنَّمَا الْمُؤْمِنِينَ إخوَةٌ وفي قوله تعالى :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] وقوله :﴿ عَمَّا قَلِيلٍ ﴾ [ المؤمنين : ٤٠ ] ليست كافة. قال ابن الخطيب والسؤال الأقوى : هو أن رُبَّ من حروف الجر و«الباء » و«عن » كذلك. و«ما » في «رُبَّ » كافّة، في «عما » و«بما » ليست كافة. والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد «رُبَّمَا » و «إِنَّما » يكون تاماً ويمكن جعله مستقلاً، ولو حذفت «ربّما وإنَّما » لم يضرَّ تقول : ربَّمَا قَامَ الأَمِيرُ، ورُبَّمَا زَيْدٌ في الدَّارِ. ولو حذفت «رُبَّمَا » وقلت : زَيْدٌ فِي الدَّار وقام الأمير لصحَّ، وكذلك في «إنَّما » و«لَكِنَّما » وأما «عَمَّا » و«بما » فليس كذلك، لأن قوله تعالى :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] لو حذفت «بما » وقلت : رَحْمةٌ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ، لما كان كلاماً، فالباء تُعَدّ متعلقة١٣ بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقه وكذلك «عَمَّا »، وأما «رٌبَّمَا » لما استغنى عنها، فكأنها لم تبق حكماً، ولا عَمَلَ للمعدوم.
فإن قيل : إنَّ «إذَا » لم تُكَفَّ بِمَا فما بعده كلام تام فوجب أن لا يكون له عمل. تقول : إنَّ زَيْداً قَائِمٌ ولو قلت : زيدٌ قائمٌ لَكَفَى وَتمَّ !
نقول : ليس كذلك لأن ما بعد إنَّ يجوز أَنْ يكون نكرة تقول : إنَّ رَجُلاً جَاءَنِي وأَخْبَرَنِي بكذا. وتقول جَاءَنِي رَجٌلٌ وأَخْبَرَنِي. ولا يحسن : إنَّما رَجٌلٌ جَاءني كما لو لم يكن هناك إنما. وكذلك القول في لَيْتَمَا لو حذفتهما واقتصرْت على ما بعدهما لا يكون تاماً فلم يكف. وتقدم الكلام في «لعلّ » مِرَاراً١٤.
١ زيادة من أ..
٢ من بحر الطويل وهو لنهار بن توسعة. وأنشده المؤلف حملا على ما أنشده الرازي من أن الإسلام هو السيد، وهو كل شيء. وانظر البيت في الكتاب ٢/٢٨٢ والهمع ١/١٤٥ وشرح مفصل الزمخشري لابن يعيش ٢/١٠٤ والرازي ٢٨/١٢٩ وفيه الشاهد النحوي المشهور في لا النافية للجنس وهو ما نحن لسنا بصدده..
٣ ذكر هذه القراءة صاحب الإتحاف ٣٩٧ وما ذكره المؤلف أعلى موافق لما في البحر ٨/١١٢. وهي شاذة. وقد ذكر القرطبي في الجامع ١٦/٣٢٣ أن ابن سيرين قرأ: إخوتكم القراءة الآتية..
٤ أورد أبو حيان في البحر وابن مجاهد في السبعة ٦٠٦ أنها لابن عامر وحده بينما قال أبو حيان: والحسن أيضا وابن عامر في رواية وزيد بن علي ويعقوب..
٥ البحر المحيط ٨/١١٢..
٦ أخرجه البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٢٥، عن سالم عن أبيه..
٧ الرازي ٢٨/١٢٩، ١٣٠..
٨ سقط من ب حرف "لا"..
٩ انظر البغوي ٦/٢٢٥..
١٠ فهو لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ولا يذفف على جريحهم. وانظر المرجع السابق. وفيه كلام آخر..
١١ أي لا أخوة إلا بين المؤمنين هكذا ذكر الرازي..
١٢ المرجع السابق..
١٣ في تفسير الرازي: يعد متعلقها انظر الرازي ٢٨/١٣٠. وانظر المغني ١٣٧..
١٤ تتصل بلعل "ما" الحرفية فتكفها عن العمل لزوال اختصاصها حينئذ بدليل قوله:
................... لعلما أضاءت لك النار الحمار المقيدا
وجوز قوم إعمالها حينئذ حملا على "ليت" لاشتراكهما في أنهما يغيران معنى الابتداء. انظر المغني ٢٨٦..

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ... ﴾ الآية تقدم الخلاف في «قَوْم» وجعله الزمخشري ههنا جمعاً لقائمة قال: كصَوْم وزَور جمع صاَئِمٍ وزائرٍ. (و) فَعْل ليس من أبنية التكسير إلا عند الأخفش نحو: رَكْب، وصَحْب. والسخرية هو أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال، ولا يلتفت إليه ويُسْقطه عن درجته، وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب. ومعنى الآية لا تحقروا إخواتكم ولا تَسْتَصْغِرُوهُمْ.

فصل


قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) نزلت في ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شِماس كان في أُذُنهِ وَقْرٌ، فكان إذا أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جَنْبه فَيستَمِعُ ما يقول، فأقبل ذاتَ يوم وقد فاتَتْه رَكْعَةٌ من صَلاة الفَجْرِ، فلما انصرف النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الصلاة أخذ أصحابهُ مجالسَهم فَظنَّ كل رجل بمجلسه، فلا يكان يوسعِ أحدٌ لأحدٍ وكان الرجل إذا جاء ولم يجدْ مجلساً قَام قائماً فلما فرغ ثابتٌ من الصلاة أقبلَ نحوَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتخطى رقابَ الناس (ويقول) : تفسَّحُوا فقال له الرجل: قد أصبتَ مجلساً فاجْلس فجلس ثابتٌ خَلْفَهُ مُغْضَباً فلما إجلتِ الظّلمة غَمَزَّ ثابتٌ الرجلَ فقال: من هذا فقال: أنا فلانٌ فقال له ثابت: ابن فلانة؟ ذكر أمُاً له كان يعيَّر بها في الجاهلية، فنكس الرجل رأسه، فاستحيا. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الضَّحَّاكُ: نزلت فِي وَفْدِ تميم كانوا يستهزِئون بفُقَرَاء أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثل عمَّار، وخَبَّاب وبلالٍ، وصُهَيْبٍ، وسَلَّمَانَ، وسالمٍ مولى حذيفة، لما رأو من رَثَاضة حَالِهِم.
قوله: ﴿عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ﴾ قرأ أُبَي وعبدُ الله بنُ مسعود عَسَوْا وعَسَيْنَ (
545
جَعَلاَها نَاقصةً). وهي لغة تميم وقِرَاءَةُ العامة لغة الحجاز.
قوله: ﴿وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ﴾ روي أنها نزلتْ في نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عيرت أم سلمة بالقِصَر، وروى عكرمة عن ابن عباس أيضاً: نزلت في صَفيَّة بنتِ حُيَيّ بنِ أخْطَبَ قَالَ لهالنساء: يهودية بنتُ يَهُودِيَّيْنِ.
قوله: ﴿وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ﴾ أي لا يعبُ بعضكُم على بعض. قرأ الحَسَنُ والأَعْرجُ: لا تَلْمُزُوا بالضّمِّ واللَّمْز بالقول وغيره والغَمْزُ باللسان فقط.
قوله: ﴿وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب﴾ التنابز تفاعل من النَّبْز وهو التداعِي بالنَّبْز والنَّزَبِ، وهو مقلوب منه لقلة هذا، وكثرةِ ذلك. ويقال؟ : تَنَابَزُوا وتَنَابزوا إذا دعا بعضُهم بعضاً بلقبِ سوءٍ. وأصله من الرفْع كأَنَّ النَّبزَ يَرْفَع صاحبه فيُشَاهَدُ. واللَّقَب: ما أشعر بضَعَةِ المُسَمَّى كقُفَّة وبَطَّة أو رِفْعَتِهِ كالصِّدِّيق وعتيقٍ والفَاروق، وأَسَد الله، وأَسَدِ رَسُولِهِ وله مع الكمنية والاسم إذا اجتمعن أحكام كثيرة مذكورة ف يكتب النحو.
وأصل: تَنَابَزُوا تَتَنَابَزُوا أسقِطَتْ إحدى التاءين كما أسقط من الاستفهام إحدى الهَمزَتَيْنِ فقال: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٨] والحذفُ هَهُنَا أولى؛ لأن تاء الخطاب وتاء التفاعل حرفانِ من جنْسٍ واحدٍ في كلمة وهمزة الاستفهام كلمة برأسها و «أنذرتهم» أُخْرَى، واحتمال حَرْشفَيْن في كلمتين أسهل من احتماله في كلمة واحدة.

فصل


ذلك في الآية أموراً ثلاثةً مرتبة بعضها دون بعض، وهي السُّخْريَةُ واللَّمْزُ والنَّبْزُ. والسُّخْرية الاحتقار والاستصغار، واللمز ذكر في غيبته بعيب. وهذا دون الأول، لأنه لم يلتفت إليه وإنما جعله مثل المَسْخَرة الذي لا يغضب له ولا عَلَيْه، وهذا جعل فيه شيئاً ما فعابه به. والنَّبْزُ دون الثاني لأن يَصِفهُ بوصفٍ ثابت فيه نقصه به، ويحط منزلته والنّبْزُ مجرد التسيمة وإن لم يكن فيه لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن
546
إذا وضع لواحدٍ وعَلاَ عليه لا يكون معناه موجوداً فإن من سمي سَعْداً وسَعِداً قد لا يكون كذلك وكذلك من لُقّب إمام الدين أو حُسَام الدّين لا يفهم منه أنه كذلك وإنما هو علامة، وكذلك النَّبز، فإن من سمي مروان الحمار لم يكن كذلك فكأنه تعالى قالك لا تَتَكَبَّرُوا فَتَسْتَحْقِروا إخوانكم بحيث لا تلتفوا إليهم إصلاً، وإذا نزلتم عن هذا فلا تَعيبُوهم طالبين حَطَّ درجتهم وإذا تَعِيبُوهم ولم تصفوهم بما يسوؤم فلا تُسَمُّوهم بما يكرهُونه.

فصل


قال ابن الخطيب: القَوْمُ اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم والقائم بالأمور هو الرجال وعلى هذا ففي إفراد الرجال والنساء فائدة وهي أن عدم الالتفات والاستحقار إنما يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسبة إلى الرجال؛ لأن المرأة في نفسها ضعيفة؛ قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «النِّسَاءُ لَحْمٌ على وَضَم» فالمرأة لا يوجد منها استحقار الرجل لأنَّها مضطرة إليه في رفعش حوائِجِها وأما الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فإنه يوجد فيهم ذلك.

فصل


في قوله: ﴿عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ﴾ حكمة وهي أنهم أذا وجد منهم التَّكَبُّر المُفْض] إلى إحباط الأعمال وجعل نفسه خيراً منهم، كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم وقال: «أَنَا خَيْرٌ منه» فصار هو خيارً منه، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «يكونوا» أي يصيروا، فإن من استحقر إنساناً لفقره أو ضَعْفِهِ لا يأم أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويضعف هو ويَقْوَى الضعيفُ.

فصل


في قوله: ﴿وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ﴾ وجهان:
أحدهما: أن عيب الأخ عائد إلى الأخ فإذا أعابه فكأنه أعاب نَفْسَه.
والثاني: أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب فيعيبه به المعاب فيكون هو بمعيبه حاملاً للغير على عيبه فكأنه هو العائب نفسه ونظيره قوله تعالى:
﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩].
ويحتمل أن يقال: لا تعيبوا أنفسكم أي كل واحد منكم مُعَيَّب فإنكم إن فعلتم فقد
547
عبتم أنفسكم أي كل واحد عاب واحد فصِرْتُمْ عائِبِينَ من وجه مُعيََّبين من وجه. وهذا ههنا ظاهر ولا كذلك في قوله: «وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ».

فصل


قال: «وَلاَ تَنَابَزُوا» وَلَمْ يقُل: ولا تَنْبزُوا لأن الامِزَ إذا لَمَزَ فالمَلْمُوز قد لا يجد فيه في الحال عيباً يَلْمِزُهُ به وإنما يبحث ويتتبّع ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز في جانب.
وأما النَّبْزُ فلا يعجز كل أحد عن الإتيَانِ بِنَبْزٍ، فالظاهر أن النَّبْزَ يُفْظِي في الحال إلى التَّنَابز، ولا كذلك اللمزُ.

فصل


قال المفسرون: اللقب هو أن يدعي الإنسان بغير ما يُسَمَّى به، وقال عكرمة: هو قول الرجل للرجل يا فاسقُ، يا منافقُ، يا كَافرُ. وقال الحسن: كان اليهودي والنصرانيّ يسلم، فيقال له بعد إسلامه، يا يهوديّ يا نصرانيّ فنهوا عن ذلك، وقال عطاء: هو أن يقول الرجل لأخيه: يا حمارُ يا خنزيرُ. وعن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : التنابز بالألقاب أن يكون الرجلُ عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعيَّر بما سلف من عمل.
قوله: ﴿بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان﴾ أي بئسَ الاسمُ أن يقول له: يا يَهُودِيُّ يا فاسِقُ بعدما آمَن. وقيل: معناه من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق وبئس الاسم الفسصوق بعد الإيمان فلا تفعلوا ذلك فستحقوا اسم الفسوق. ثم قال: ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ﴾ أي من ذلك ﴿فأولئك هُمُ الظالمون﴾.
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن... ﴾ الآية. قيل: نَزَلَتْ في رَجُلَيْن اعتابا رفيقهما، «وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كسان غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رَجُلَيْن مُوسِرَيْن يخدمهما ويقتدم لهما إلى المنزل فيهيّيء لهما طعامَهُمَا وشرابهما فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدم سلمانُ الفارسي إلى المنزل فغلبته عيناه فَلَمْ يُهيّىءْ لهما فلما قدما قالا له ما صَنَعْتَ شيئاً؟ قال: لا غلبتني عَيْنَاي، قالا له: انطلق إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واطلب لنا منه طعاماً، فجاء سلمان إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسأله طعاماً، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له: إن كان عند فضلٌ من طعام فَلْيُعْطِكَ؛ وكان أسامة خازن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى رَحْلِه فأتاه فقال ما عندي شيء فرجع سَلْمَانُ إليهما فأخبرهما فقالا: كمان عند أسامةم ولكن بَخِلَ
548
فبعثَا سَلْمَانَ إلى طائفةٍ مِنَ الصَّحَابة فلم يجد عندهم شيئاً فلما رَجَعَ قالوا: بعثناه إلى بئر سُمَيْحَة فغار ماؤهم ثم انطلقا يتجسّسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما جاءا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهما: مَا لِي أَرَى حَضْرَة اللَّحم فِي أَفْواهِكُمَا؟ قالا: والله يا رسول الله ما تَنَاوَلْنَا يَوْمنَا هذا لحماً قال: (بل) ظَلَلْتُمْ تأكلونَ لَحم أسامَة وسلمان»
فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن﴾.

فصل


قال سفيان الثوري: الظّنُّ ظنان:
أحدهما: إثم وهو أن يُظَنَّ ويتكلم به.
والأخر: ليس بإثم وهو أن يظن، ولا يتكلم به، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الْحَدِيثِ».
قوله:: «إثْمٌ» جعل الزمخشري همزهُ بدلاً من واو قال: لأنه يَثِمُ الأَعْمَال أي يكسرها وهذا غير مُسَلَّمٍ بلْ تلك مادةٌ أخرى.
قوله: «وَلاَ تَجَسَّسُوا» التجسس التَّتبعُ، ومنه الجَاسُوسُ، والجَسَّاسَةُ، وجواسّ الإنسان وحَوَاسُّهُ ومشاعره، وقد قرأ هنا بالحاء الحَسَنُ وأبو رجاء وابنُ سِيرِينَ.

فصل


التجسس هو البحث عن عيوب الناس فنهى الله تعالى عن البحث عن المستورين من الناس وتتبع عوراتهم قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا تَجَسَّسُوا وَلاَ تَبَاغََضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يا مَعْشَرَ مَنْ آمنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَفِضِ الإيمَانُ إلى قَلْبِهِ لاَ تَغْتَابُوا المُسْلِمِينَ وَلا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهم فإنه من تتبَّع عوراتِ المسلمين تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحُهُ وَلَو فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» ونظر عمر يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظَمِكَ وأعْظَمَ حُرْمَتِكَ والمُؤْمنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْكِ عِنْدَ
549
الله. وقيل لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً؟ فقال: إنَّا قَدْ نُهينا عَنِ التَّجَسُّسِ فإن يظهر لنا شيئاً نأخذه به.

فصل


واعلم أن الظن تُبْنَى عليه القبائح فالعاقل إذا وَقَفَ أموره على اليقين قلَّ ما يتقّن في أحد عيباً يلمزه به لأن الوعظ في الصورة قد يكون قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك؛ لأن الفعل قد يكون فاعله ساهياً أو يكون الرأي مخطئاً، وقوله تعالى: ﴿كَثِيراً مِّنَ الظن﴾ إخراج للظنون التي تبنى عليها الخيرات.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «ظُنّوا بالْمُؤْمِن خَيْراً» وقوله: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ﴾ إشارة إلى الأخذ بالأحوط. وقوله: «وَلاَ تَجَسَّسُوا» إتمامٌ لذلك لأنه تعالى لما قال: ﴿اجتنبوا كثيراً من الظن﴾ فهم منه أن المعتبر اليقين. وقوله: ﴿وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً﴾ أي لا يتناول بعضكُم بَعْضاً في غَيْبَتِهِ بما يَسوؤه مما هو فيه.
«قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» أَتَدْرُونَ مَا الْغَيبةُ؟ «قالوا: الله ورسوله أَعلَم قال: ذكرُك أَخَاكَ بما يَكْرَهُ. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد أغْتَبْتَهُ وإن لم يكن فيه ما تَقُولُ فقد بَهَتَّهُ»
وفي هذا إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن.
قوله: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً﴾ نصب «ميتاً» على الحال من «لَحْم» أو «أَخِيهِ»، وتقدم الخلاف في مَيْتاً.
فإن قيل: اللحم ألا يكون ميتاً؟
فالجواب: بلى. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ» فسمى القطعة ميتاً.
فإن قيل: مإذا جعلناه حالاً من الأخ لا يكون هيئة الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله
550
حالاً فهو كقول القائل: مَرَرْتُ بِأَخِي زَيْدٍ (قَائِماً) ويريد كون زيدٍ قائما. وذلك لا يجوز.
قلنا: من أكل لحمه فقط أكل فصار الأخ مأكولاً مفعولاً بخلاف المرور بأخِي زيدٍ.

فصل


في هذا التشبيه إشارة إلى أن عِرْضَ الإنسان كَدمِهِ ولَحْمِهِ لأنَّ الإنسان يتألمُ قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم. وهذا من باب القياس الظاهر؟ لأن عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه فلما لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى، لأن ذلك آلمُ.
وقوله: «لَحْمَ أَخِيهِ» آكد في المنع؛ لأن العدو يحمله الغَضَبُ على مَضْغ لحم العدوِّ، وفي قوله: «مَيْتاً» إشارةٌ إلى دفع وَهَمٍ وهو أن يقال: الشَّتم في الوجه يؤلم فيحرم وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم فقال: آكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً يؤلمه ومع هذا فهو في غاية القبح لِمَا أنَّه لو اطلع عليه لتألم فإن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه، وفيه معنى لطيفٌ وهو أن الاغتياب بأكل لحم الآدمِيِّ ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضظر بقدر الحاجة، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدميّ فكذلك المغتاب إن وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب.
قوله: «فَكَرِهْتُمُوهُ» قال الفراء: تقديره: فقَدْ كَرِهْتُمُوهُ فلا تفعلوه. وقال ابن الخطيب: الفاء في تقدير جواب كلام كأنه تعالى لما قال: أَيُحِبُّ للإنكار فكأنه قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذَنْ. وقال أبو البقاء: المعطوف عليه محذوف تقديره عُرِضَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَكَرهتُمُوهُ. والمعنى يعرض عليكم فَتكرهُونَهُ.
وقيل: إن صح ذلك عندكم فأنتم (أي) تكرهونه قال ابن الخطيب: هو كمتعلق المسبّب بالسبب وتَرَقُّبِهِ عَلَيْه كقولك: جَاءَ فُلاَنٌ ماشياً فتَعِبَ، فقيل: هو خبر يمعنى الأمر كقولهم: «اتَّقَى اللهَ امْرُؤٌ فَعَلَ خَيْراً يُثَبْ عَلَيْهِ».
وقرأ أبو حيوة والجَحْدرِيّ: فكُرِّهْتُمُوهُ
551
بضم الكاف وتشديد الراء عدي بالتضعيف إلى ثانٍ بخلاف قوله أولاً: «كَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ» فإنه وإن كان مضعّفاً لم يتعدّ لواحد لتضمنه معنى بَغَّضَ.

فصل


قال ابن الخطيب: الضمير في قوله: فَكَرِهْتُمُوهُ «فيه وجوه:
أظهرها: أن يعود إلى الآكل لأن قوله تعالى: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ﴾ معناه أيحب أحدمكم الأكل لأن»
أَنْ «مع الفعل للمصدر أي فَكِرهْتُمُ الأَكْلَ.
وثانيها: أن يعود إلى اللحم أي فَكرِهْتُمُ اللَّحْمَ.
وثالثها: أن يعود إلى الميّت في قوله:»
ميتاً «تقديره: أيُحِبُّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله:» ميتاً «ويكون فيه زيادَةُ مبالغة في التحذير يعني الميتة أن أكلت في النُّدرة لسبب كان نادراً ولكن إذا أَنْتَنَ وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً فكذلك ينبغي أنْ يكون الغيبة، وذلك يحقّق الكارهة ويوجب النُّفْرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربقه بحيث يأكله ففيه إذَنْ كراهة شديدة فكذلك حال الغيبة.

فصل


قال مجاهد: لما قيل لهم: أَيُحِبُّ أحَدُكُمْ أَنْ يَأكُلَ لَحْم أَخِيهِ مَيْتاً؟ قالوا: لا، قيل:»
فكرهْتُمُوهُ «أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره باللسوء غائباً. قال الزجاج: تأويله إن ذِكْرضكَ مَنْ لم يَحْضُرك بسُوءٍ بمنزلةِ أكلِ لحمه وهو ميت لا يحسُّ بذلك.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ»
لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقوم لَهُمْ أَظَْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَلُحُومَهُمْ فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءَ يا جِبْرِيلُ. قال: هَؤُلاء الذين يأكلون لحُوم النَّاسِ ويَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ «.
552
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن. . . ﴾ الآية. قيل : نَزَلَتْ في رَجُلَيْن اعتابا رفيقهما، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رَجُلَيْن مُوسِرَيْن يخدمهما ويتقدم لهما إلى المنزل فيهيّئ لهما طعامَهُمَا وشرابهما فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدم سلمانُ الفارسي إلى المنزل فغلبته عيناه فَلَمْ يُهيّئ لهما فلما قدما قالا له ما صَنَعْتَ شيئاً ؟ قال : لا غلبتني عَيْنَاي، قالا له : انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واطلب لنا منه طعاماً، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له : إن كان عند فضلٌ من طعام فَلْيُعْطِكَ ؛ وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رَحْلِه فأتاه فقال ما عندي شيء فرجع سَلْمَانُ إليهما فأخبرهما فقالا : كمان عند أسامة ولكن بَخِلَ فبعثَا سَلْمَانَ إلى طائفةٍ مِنَ الصَّحَابة فلم يجد عندهم شيئاً فلما رَجَعَ قالوا : بعثناه إلى بئر١ سُمَيْحَة فغار ماؤهم ثم انطلقا يتجسّسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : مَا لِي أَرَى حَضْرَة اللَّحم فِي أَفْواهِكُمَا ؟ قالا : والله يا رسول الله ما تَنَاوَلْنَا يَوْمنَا هذا لحماً قال :( بل )٢ ظَلَلْتُمْ تأكلونَ لَحم أسامَة وسلمان » فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن ﴾٣.

فصل


قال سفيان الثوري : الظّنُّ ظنان :
أحدهما : إثم وهو أن يُظَنَّ ويتكلم به.
والأخر : ليس بإثم وهو أن يظن، ولا يتكلم به، قال عليه الصلاة والسلام :«إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الْحَدِيثِ ».
قوله :: «إثْمٌ » جعل الزمخشري همزهُ بدلاً من واو قال : لأنه يَثِمُ الأَعْمَال أي يكسرها٤ وهذا غير مُسَلَّمٍ بلْ تلك مادةٌ أخرى٥.
قوله :«وَلاَ تَجَسَّسُوا » التجسس التَّتبعُ، ومنه الجَاسُوسُ، والجَسَّاسَةُ، وجواسّ الإنسان وحَوَاسُّهُ ومشاعره٦، وقد قرأ هنا بالحاء الحَسَنُ وأبو رجاء وابنُ سِيرِينَ٧.

فصل


التجسس هو البحث عن عيوب الناس فنهى الله تعالى عن البحث عن المستورين من الناس وتتبع عوراتهم قال عليه الصلاة والسلام :«لا تَجَسَّسُوا وَلاَ تَبَاغََضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً »٨ وقال عليه الصلاة والسلام :«يا مَعْشَرَ مَنْ آمنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَفِضِ الإيمَانُ إلى قَلْبِهِ لاَ تَغْتَابُوا المُسْلِمِينَ وَلا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهم فإنه من تتبَّع عوراتِ المسلمين تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحُهُ وَلَو فِي جَوْفِ رَحْلِهِ »٩ ونظر عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظَمِكَ وأعْظَمَ حُرْمَتِكَ والمُؤْمنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْكِ عِنْدَ الله. وقيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً ؟ فقال : إنَّا قَدْ نُهينا عَنِ التَّجَسُّسِ فإن يظهر لنا شيئاً نأخذه به١٠.

فصل


واعلم أن الظن تُبْنَى عليه القبائح فالعاقل إذا وَقَفَ أموره على اليقين قلَّ ما يتيقّن في أحد عيباً يلمزه به لأن الوعظ في الصورة قد يكون قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك ؛ لأن الفعل قد يكون فاعله ساهياً أو يكون الرأي مخطئاً، وقوله تعالى :﴿ كَثِيراً مِّنَ الظن ﴾ إخراج للظنون التي تبنى عليها الخيرات.
قال عليه الصلاة والسلام «ظُنّوا بالْمُؤْمِن خَيْراً » وقوله :﴿ إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ ﴾ إشارة إلى الأخذ بالأحوط. وقوله :«وَلاَ تَجَسَّسُوا » إتمامٌ لذلك لأنه تعالى لما قال :﴿ اجتنبوا كثيراً من الظن ﴾ فهم منه أن المعتبر اليقين. وقوله :﴿ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ﴾ أي لا يتناول بعضكُم بَعْضاً في غَيْبَتِهِ بما يَسوؤه مما هو فيه١١.
«قال عليه الصلاة والسلام :«أَتَدْرُونَ مَا الْغَيبةُ ؟ » قالوا : الله ورسوله أَعلَم قال : ذكرُك أَخَاكَ بما يَكْرَهُ. قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغْتَبْتَهُ وإن لم يكن فيه ما تَقُولُ فقد بَهَتَّهُ »١٢
وفي هذا إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن١٣.
قوله :﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ﴾ نصب «ميتاً » على الحال من «لَحْم » أو «أَخِيهِ »١٤، وتقدم الخلاف في مَيْتاً.
فإن قيل : اللحم ألا يكون ميتاً ؟
فالجواب : بلى١٥. قال عليه الصلاة والسلام :«مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ » فسمى القطعة١٦ ميتاً.
فإن قيل : إذا جعلناه حالاً من الأخ لا يكون هيئة١٧ الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله حالاً فهو كقول القائل : مَرَرْتُ بِأَخِي زَيْدٍ ( قَائِماً ) ويريد كون زيدٍ قائما. وذلك لا يجوز.
قلنا : من أكل لحمه فقط أكل فصار الأخ مأكولاً مفعولاً بخلاف المرور بأخِي زيدٍ١٨.

فصل


في هذا التشبيه إشارة إلى أن عِرْضَ الإنسان كَدمِهِ ولَحْمِهِ لأنَّ الإنسان يتألمُ قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم. وهذا من باب القياس الظاهر ؛ لأن عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه فلما لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى، لأن ذلك آلمُ.
وقوله :«لَحْمَ أَخِيهِ » آكد في المنع ؛ لأن العدو يحمله الغَضَبُ على مَضْغ لحم العدوِّ، وفي قوله :«مَيْتاً » إشارةٌ إلى دفع وَهَمٍ وهو أن يقال : الشَّتم في الوجه يؤلم فيحرم وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم فقال : آكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً يؤلمه ومع هذا فهو في غاية القبح لِمَا أنَّه لو اطلع عليه لتألم فإن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه، وفيه معنى لطيفٌ وهو أن الاغتياب بأكل لحم الآدمِيِّ ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضطر بقدر الحاجة، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدميّ فكذلك المغتاب إن وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب١٩.
قوله :«فَكَرِهْتُمُوهُ » قال الفراء : تقديره : فقَدْ كَرِهْتُمُوهُ فلا تفعلوه٢٠. وقال ابن الخطيب : الفاء في تقدير جواب كلام كأنه تعالى لما قال : أَيُحِبُّ للإنكار فكأنه قال : لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذَنْ٢١. وقال أبو البقاء : المعطوف عليه محذوف تقديره عُرِضَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَكَرهتُمُوهُ. والمعنى يعرض عليكم فَتكرهُونَهُ٢٢.
وقيل : إن صح ذلك عندكم فأنتم ( أي ) تكرهونه٢٣ قال ابن الخطيب : هو كمتعلق المسبّب بالسبب وتَرَقُّبِهِ عَلَيْه كقولك : جَاءَ فُلاَنٌ ماشياً فتَعِبَ، فقيل : هو خبر بمعنى الأمر كقولهم :«اتَّقَى اللهَ امْرُؤٌ فَعَلَ خَيْراً يُثَبْ عَلَيْهِ »٢٤.
وقرأ أبو حيوة والجَحْدرِيّ : فكُرِّهْتُمُوهُ بضم الكاف وتشديد الراء٢٥ عدي بالتضعيف إلى ثانٍ٢٦ بخلاف قوله أولاً :«كَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ » فإنه وإن كان مضعّفاً لم يتعدّ لواحد لتضمنه معنى بَغَّضَ٢٧.

فصل


قال ابن الخطيب : الضمير في قوله :«فَكَرِهْتُمُوهُ » فيه وجوه :
أظهرها : أن يعود إلى الآكل لأن قوله تعالى :﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ﴾ معناه أيحب أحدكم الأكل لأن «أَنْ » مع الفعل للمصدر أي فَكِرهْتُمُ الأَكْلَ٢٨.
وثانيها : أن يعود إلى اللحم أي فَكرِهْتُمُ اللَّحْمَ.
وثالثها : أن يعود إلى الميّت في قوله :«ميتا » تقديره : أيُحِبُّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله :«ميتاً » ويكون فيه زيادَةُ مبالغة في التحذير يعني الميتة أن أكلت في النُّدرة لسبب٢٩ كان نادراً ولكن إذا أَنْتَنَ وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً فكذلك ينبغي أنْ يكون الغيبة، وذلك يحقّق الكارهة ويوجب النُّفْرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربه بحيث يأكله ففيه إذَنْ كراهة شديدة فكذلك حال الغيبة٣٠.

فصل


قال مجاهد : لما قيل لهم : أَيُحِبُّ أحَدُكُمْ أَنْ يَأكُلَ لَحْم أَخِيهِ مَيْتاً ؟ قالوا : لا، قيل :«فكرهْتُمُوهُ » أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً٣١. قال الزجاج : تأويله إن ذِكْركَ مَنْ لم يَحْضُرك بسُوءٍ بمنزلةِ أكلِ لحمه وهو ميت لا يحسُّ بذلك٣٢.
قال عليه الصلاة والسلام : لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقوم لَهُمْ أَظَْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَلُحُومَهُمْ فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلاَءَ يا جِبْرِيلُ. قال : هَؤُلاء الذين يأكلون لحُوم النَّاسِ ويَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ٣٣.
قوله :﴿ واتَّقُوا اللهَ ﴾ عطف على ما تقدم من الأوَامِر و النواهي أي اجتنبوا واتقوا الله ﴿ إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴾ واعلم أنه تعالى ختم الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولَى :﴿ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾ وقال ههنا :﴿ إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴾ لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله :﴿ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ ﴾ ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء في قوله :«اجْتَنِبُوا كَثِيراً » فذكر الإثبات الذي هو قريبٌ من الأمْر.
١ بئر قديمة بالمدينة غزيرة الماء..
٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٣ وانظر البغوي والخازن المرجعين السابقين والقرطبي ١٦/٣٣١..
٤ بإحباطه. وانظر الكشاف ٣/٥٦٨..
٥ قال صاحب اللسان: ووثم يثم أي عدا. ونقل الجوهري أن الوثم هو الضرب والكسر. انظر اللسان والصحاح "وثم"..
٦ فهناك تقارب. وانظر الكشاف ٣/٥٦٩..
٧ ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٤٣. وانظر الكشاف السابق..
٨ أخرجه البغوي عن أبي الزناد عن الأعرج..
٩ أخرج عن ابن عمر، وانظر البغوي المرجع السابق ٦/٢٢٨..
١٠ وانظر البغوي ٦/٢٢٨..
١١ الرازي ٢٨/١٣٣ و١٣٤..
١٢ أخرجه البغوي في معالم التنزيل عن أبي هريرة ٦/٢٢٩..
١٣ ذكره العكبري في التبيان ١١٧٢..
١٤ فقد قرأ نافع وحده ميتا بالتشديد والباقون ميتا. وانظر السبعة ٦٠٦ والكشف ٢/٢٨٤ وهي سبعية متواترة. وقد ذكرها صاحب الإتحاف ٣٩٨..
١٥ كذا تكون الصحة فالإجابة ببلى إلا إذا كان التقدير عل الاستفهام فإنه تكون النسختان صحيحتين..
١٦ في الرازي الغلفة، وهو الأصح يقال: قلب أغلف بين الغلفة كأنه غشي بغلاف فهو لا يعي شيئا. وانظر اللسان "غلف" وكذا يكون المقصود من الكلام. وانظر الرازي ٢٨/١٣٥..
١٧ في الرازي: هو الفاعل..
١٨ فيجوز أن تقول: ضربت وجهه آثما؛ أي وهو آثم أي صاحب الوجه كما أنك إذا ضربت وجهه فقد ضربته. الرازي المرجع السابق..
١٩ وانظر تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨/١٣٤ و١٣٥..
٢٠ قاله في معاني القرآن له ٣/٧٣..
٢١ المرجع قبل السابق..
٢٢ التبيان في إعراب القرآن ١١٧١..
٢٣ نقله في المرجع السابق دون عزو لأحد. هذا وما بين القوسين زيادة على كتاب التبيان وعلى ذلك فقوله: "فكرهتموه" جملة واقعة جواب شرط لشرط مع فعله محذوف..
٢٤ البحر المحيط ٨/١١٥ وقد ذكر الوجه السابق أيضا صاحب الكشاف في كشافه ٣/٥٦٨. وانظر الرازي ٢٨/١٣٥..
٢٥ قال في البحر: ورواها الخدري عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي قراءة الخدري أيضا وانظر مختصر ابن خالويه ١٤٣، ١٤٤..
٢٦ وهو الهاء..
٢٧ بالمعنى من كتاب البحر لأبي حيان ٨/١١٥..
٢٨ رسمت في النسختين: كرهتموا أكل. وانظر الرازي ٢٨/١٣٥ كما كتبت أعلى..
٢٩ في النسختين: وتستطاب..
٣٠ الرازي في تفسيره الكبير المرجع السابق..
٣١ نقله العلامة البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٢٩ وكذلك الخازن في لباب التأويل نفس الجزء والصفحة..
٣٢ قال: فتأويله كما تكرهون أكل لحمه ميتا كذلك تجنبوا ذكره بالسوء غائبا..
٣٣ رواه أنس بن مالك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ انظر البغوي والخازن السابقين..
قوله:» وأتَّقُوا اللهَ «عطف على ما تقدم من الأوَامِر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا الله ﴿إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ واعلم أنه تعالى ختم الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولَى: ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون﴾ وقال ههنا: ﴿إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله: ﴿لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ﴾ ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء في قوله:» اجْتَنِبُوا كَثِيراً «فذكر الإثبات الذي هو قريبٌ من الأمْر.
قوله
(تعالى
) :﴿يا
أيها
الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى﴾
الآية هذه الآية مبينة ومقررة لما تقدم لأن السخرية من الغير والعيب إن كان بسبب التفاوت في الدين والإيمان فهو جائز، وكذلك لَمْزُهُ وغَيْبَتُهُ وإن لم يكن بسبب الدين والإيمان فلا يجوز، لأنَّ الناسَ بعُمُومِهِمْ كافِرِهم ومؤمِنِهمْ يشتركون فيما يفتخر به المفتخِر، لأن التكبر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنياً المؤمن فقيراً وبالعكس، وإنْ كان بسبب النَّسب فالكافشر قد يكون نسيباً والمؤمن مولى لِعَبْدٍ أسْود وبالعكس فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون أو متقاربون ولا يؤثر شيء من ذلك مع عدم التقوى كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ﴾ فقوله تعالى: ﴿يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى﴾ يعنى كآدمَ أي أنكم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بضع لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدةٍ.

فصل


قال ابن عباس (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) نزلت في ثابتِ بن قيس وقوله للرجل الذي لم يتفسح له: ابنَ فلانة فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الذكر فلانة؟ قال ثابت: أنا يا رسول الله فقال: انْظُر في وجوه القوم فَنَظَر، فقال: ما رأيت ثابتُ؟ قال: رأيت أبيضَ وأحْمَرَ وأسود، قال: فإنك لا تَفْضُلُهُم إلا في الدِّين والتقوى، فنزلت هذه الآية ونزل في الذي لم يَتَفَسَّح: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا﴾ [المجادلة: ١١].
وقال مقاتل: لما كان فتح مكة أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلالاً حتى علا ظَهْرَ الكَعْبَةِ
553
فأذَّن فقال عَتَّاب بن أُسَيد بن أبي العيِص: الحمُ لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: أما وَجَدَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ هذا الغراب الأسود مؤذناً؟ وقال سُهَيْل بن عَمْرو: إن يرد اللهُ شيئاً يُغَيِّرْهُ. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به ربُّ السموات فأتى جبريل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبره بما قالوا: فدعاهم عما قالوا فأقروا فأنز لالله عزَّ وجلَّ هذه الآية وزَجَرَهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال، والإزْرَاءِ بالفقراء.
فإن قيل: هذه الآية تدل على عدم اعتبار النسب وليس كذلك فإن للنسبِ اعتبارً عُرْفاً وشرعاً حتى لا يجوز تزويج الشريفة بالنَّبَطِيّ!.
فالجواب: إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبراً، وذلك في الجنس والشرع والعرف أما الجنس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس، ولحناح الذباب دَويّ ولا يسمع عندما يكون رَعدٌ قويّ. وأما العرف فلأن من جاءه غلام ملك أقبل عليه وأكرمه فإذا جاءه مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا يلتفت إليه.
وإذا علم هذه ففي الشرع كذلك إذا جاء الشرف الديني الإلهيّ لا يبقى هناك اعتبار لا لنسب ولا لسبب، ألا ترى أن الكافر وإنْ كان من أعلى الناس نسباً، والمؤمن وإنْ كان من أدْوَنِهِمْ نسباً لا يقاس أحدهما بالآخر وكذلك ما هو من الدين مع غيره، ولهذا تصلح المناصبُ الدينية كالقضاءِ والشهادة لكل شريف ووضيعٍ إذا كان ديناً عالماً، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإ، كان قُرَشِيَّ النَّسَبِ وقَارُونِيَّ النَّشَبِ ولكن إذا اجتمع في اثنين الدينُ المتينُ وأحدهما نسيب يرجح بالنسب عند الناس لا عند الله، لقوله تعالى ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ [النجم: ٣٩] وشرف النسب ليس مكتسباً ولايحصل بعسيٍ.

فصل


الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر، ولم يذكر المال، لأن الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة، لكن النسب أعلاها، لأن المال قد يحصل للفقير فيبطلُ افتخار المفتخر به عليه والسنّ والحسن وغير ذلك لا يدوم، والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بطريق الأولى.
فإن قيل: إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم﴾ ؟
فالجواب: بأن كل شيء يترجح علىغيره، فإما أن يرجح بأمر فيه يلحقه ويرتب
554
عليه بعد وجوده وإما أن يرجح عليه بأمر قبله، فالذي بعده كالحُسْنِ والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء وأما الذي قبله فإنما راجع إلى أصله الذي وجد منه أو إلى الفاعل الذي أوجده فالأول كقولك: هَذَا مِنَ النُّحَاس، وهَذَا مِنْ فضَّةِ والثاني: كقولك: هَذَا عَمَلُ فُلاَنٍ، وهذا عمل فُلاَن، فقال تعالى: لا ترجيح بما خلقتم منه، لأنكم كلكم من ذكر وأنثى، ولا ترجيح بالنسبة إلى فاعلكم لأنكم كلكم خلق الله، فإن كان عندكم تفاوت فهو بأمور تحصل لكم بعد وجودكم وأشرفها التقوى.
قوله: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ﴾ الشعوب جمع شَعْبٍ فتح الشين، وهو أعلى طبقات الأنْساب مثل رَبِيعة، ومُضَر، والأوْس، والخَزْرَج، وذلك أن طبقات النسب التي عليها العرب ستّ: الشَّعب، والقَبِيلة، والعِمَارة، والبَطْن، والفَخِذ، والفصيلة، وكل واحد يدخلُ فيما قبله فالفصيلة تدخل في الفخذ والفخذ في البطن وزاد بعض الناس بعد الفخذ العشيرة فجعلها داخلة فيها، فتكون الفصائل داخلة في العَشِيرة وتدخل العشيرة في الأفخاذ وتدخل الأفخاذ في البُطُون والبطون في العَمَائر والعمائر في القبيلة والقبيلة في الشعب، وذكر الأعم لأنه أذْهضبُ بالأفْتِخَارِ وسُمّي الشعب شعباً لتشَعب القبائل منه، واجتمامعهم فيه كشُعَب أغصان الشجرة. والشَّعْبُ من الأضداد، يقال: شَعْبٌ أي جمع، ومنه تشعيب القَدَح وشَعَّب أي شفرق، والقبائل هي دون الشعوب واحدتها قَبيلَةٌ وهي كَبكْر مِن ربيعة، وتَميم من مُضَرَ سميت بذلك لتقابلها، شبهت بقبائل الرأس، وهي وقيل: الشعوب في العجم، والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل. وقيل: الشعب النسب الأبعد والقبيلة الأقرب وأنشد:
٤٥٠٣ - قَبَائِلُ مِنْ شُعُب لَيْس فِيهم كَريمٌ قَدْ يُعَدُّ ولاَ نَجِيبُ
والنسبة إلى الشّعب شَعُوبِيَّة بفتح الشين وهم جيل يبغضون العرب ودون القبائل العمائر واحدتها عَمَارة فتح العين وهم كشَيْبَان مِنْ بكر ودَرِم من تميم، وَدُونَ العَمَائر البُطُون واحدتها بَطْن وهم كبَنِي هاشم وأمية من بني لُؤَيّ. ثم الفصائل والعشائر واحتها فَصِيلة وعَشيرة.
وقال أبو رَوْق: الشعوب الذين لا يعتزون إلى أحد بل يَنْتَسبون إلى المَدَائن والقُرَى والقَبَائل العرب الذي ينتسبون إلى آبائهم.
555
قوله: «لِتَعَارفُوا» العامة على تخفيف التاء، والأصل: لتتعارفُوا فحذف إحدى التاءين. والبَزِّي بتشديدها وقد تقدم ذلك في البَقَرة، واللام مُتَلِّقة «بجَعَلْنَاكُم».
وقرأ الأعْمِ بتاءين وهو الأصل الذي أدغمه البزّي، وحذفه الجمهور، وابن عباس لتَعْرِفُوا مضارع عَرَفَ.

فصل


المعنى ليعرفَ بعضُكم بعضاً في قُرْب النسب وبعده لا لِتَفَاخَرُوا. وقال في أول الآية: خَلَقْنَاكُم وقال ههنا: وجَعَلْنَاكم شُعُوبا، لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل والإيجاد لأجل العبادة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، والجَعْلَ شعوباً للتعارف، والأصل متقدم على الفرع فتعتبر العبادة قبل اعتبار النسب، لأن اعتبار الجعل شعوباً إنما يتحقق بعد تَحَقُّقِ الخلق، وفي هذا إشارة إِلى أَنَّه إن كان فيكم عبادة فتُعْتَبَرُ، وإلا فلا اعتبار لأنْسَابِكُمْ.
فإن قيل: الهداية والضلال كذلك كقوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل﴾ [الإنسان: ٣] ﴿يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ [النحل: ٩٣].
فالجواب: أن الله تعالى أثبت لنا فيه كسباً مَبْنيًّا على فعل لقوله تعالى: ﴿فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ [الإنسان: ٢٩] ثم قال: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الإنسان: ٣٠] وأما في النسب فلا.
قوله: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ﴾ أخبر تعالى أن أرفعهم منزلةً عند الله أتقاهم. وقال قتادة في هذه الآية: أكْرَمُ الكَرَمِ التقوى وألأَمُ اللُّؤم الفجور. وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الحَسَبُ المَالُ والكَرَمُ التَّقْوَى» وقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : كرم الدنيا الغِنَى وكرم الآخرة التقوى. وعن أبي هريرة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: «سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أيُّ الناس أكرمُ؟ قال: أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللهِ أَتقَاهُمْ، قالوا: عن هذا نسألك قال: فأكرمُ الناسِ
556
يُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ الله ابْنِ خَلِيلِ الله قالوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قال: فَعَنْ مَعَادِن العَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ قالوا: نَعَم قال: خِيارُكُم في الجَاهِليَة خيارُكُم في الإسْلاَم إذا فَقِهُوا. وقال: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: إنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إلَى صُورَكُمْ وَلكِنْ يَنْظُرُ إِلى قُلُوبِكُمْ».

فصل


قرأ العامة: إنَّ أَكْرَمَكُمْ بكسر «إنّ» وابن عباس بفتحها، فإن جعلت اللام لام الأمر وفيه بُعْدٌ صَحَّ أن يكون قوله: «أنَّ أَكْرَمَكُمْ» بالفتح مفعول العِرْفَان فإن أمرهم أن يعرفوا وإن جعلتها للعلّة لم يظهر أن يكون مفعولاً، لأنه لم يجعلهم شعوباً وقبائل ليعفروا ذلك، فينبغي أن يكون المفعول محذوفاً واللام للعلة أي لِتَعْرِفُوا الحقَّ لأنَّ أَكْرَمَكُمْ.

فصل


قال ابن الخطيب: في المراد بالآية وجهان:
الأول: أن التقوى تفيد الإكرام.
والثاني: أن الإكرام يورث التقوى، كما يقال: المخلصون على خَطَر. والأول أشهر، والثاني أظهر.
فإن قيل: التقوى من الأعمال والعلم أشرف لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَفَقِيهُ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابدٍ».
فالجواب: أن التقوى ثمرة العلم لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾ [فاطر: ٢٨] فلا تقوى إلا العالم فالملتقي العالم أتم علمه والعالم الذي لا يتقي كشجرةٍ لا ثَمَر لها لكن الشجرة المثمرة أشرفُ من الشَّجَرةِ التي لا تُثْمر بل هي حطب وكذلك العالم الذي لا يتّقي حَصَبُ جهنم، وأما العابد الذي يفضل عليه الفيه فهو الذي لا علم له وحينئذ لا يكون عنده من خشية الله نِصَابٌ كامل، ولعلمه يعبده مخالفة الإلقاء في النار فهو كالمكره، أو لدخول الجنة، فهو يعمل كالفاعل له أجره ويرجع إلى نيته، والمتقي هو العالم بالله المواظب لِبَابِهِ.
فإن قيل: خطاب الناس بقوله: «اَكْرَمَكُمْ» يقتضي اشتراك الكال في الإكرام ولا كرامة للكافر فإنه أضل من الأنعام.
557
فالجواب: ذلك غير لازم أنه بدليل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: ٧٠] لأن كل من خلق فقد اعترف بربه، ثم من استمر عليه وزَاد زِيدَ في كرامته، ومن رجع عنه أُزِيلَ عن الكرامة.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ أي عليم بظواهركم يعلم أنسابكم خبير ببواطنكم لا يخفى عليه أسراركم فاجعلوا التقوى زادكم.
558
قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا﴾ الآية. لما قالت تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣] والاتّقاء لا يكون إلا بعد حصُول التقوى وأصله الإيمان والاتِّقاء من الشِّرك قالت الأعراب يكون لنا النسب الشريف يكون لنا الشرف قال الله تعالى: ليس الإميان بالقول إنما بالقلب، فما آمنتم فإن الله خبير بعلم ما في «الصدور» ولكن قولوا أسلمنا أي أنْقَدْنَا وأَسْلَمْنَا. قيل: نزلت في نَفَرٍ من بني أسد بن خزيمة، قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سَنةٍ مُجَدِبَةٍ، فأظهروا الإِسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر طالبين الصدقة فأفسدوا طرق المدينة بالقاذورات وكانوا يغتدون وَيُرحُون إلى رسو لالله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقولون: أَتَتْكَ العرب بأنفسها على ظهور رَوَاحِلهَا، وجئناك بالأثقال والعِيَال والذَّرارِي ولم نُقاتِلكَ كما قاتَلَكَ بنُو فلان يَمُنُّون على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويريدون الصدقة، ويقولون أَعْطِنَا، فانزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقال السدي: نزلت في الأعراب الذين الله تعالى في سورة الفتح وهم جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ وأَسْلَمُ، وأشْجَعُ وغِفَار وكانوا يقولون: آمنًّا ليأمَنُوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فأنزل الله تعالى: ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا﴾ صدقنا ﴿قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا﴾ أنقَذْنا واسْتَسْلَمْنَا مخالفَة القتل والسَّبْي.
قال ابن الخطيب: وقد بينا أن ذلك كالتاريخ للنزول لا للاختصاص بهم، فكل من
558
أظهر فعل التقوى أراد أن يصير له ما للمتقي من الإكرام ولا يحصل له ذلك لأن التقوى من عمل القلب.
قوله: «وَلَمَّا يَدْخُلْ» هذه الجملة مستأنفة، أخبر تعالى بذلك. وجعلها الزمخشري حالاً مستقرّة في: «قَولُوا» وقد تقدم الكلام في «لما» وما تدل عليه، والفرق بينها وبين «لم» في البقرة عند قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُم﴾ [البقرة: ٢١٤].
وقال الزمخشري: فإن قلت: هو بعد قوله: «لَمْ تُؤمِنُوا: يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجدِّدة ﴿.
قلت: ليس كذلك، فإن فائدة قوله: لم تُؤْمِنُوا هو تكذيب دعواهم. وقوله:»
وَلَمَّا يَدْخُل «توقيت لِمَا أمروا به أن يقولوه. ثم قال:» ولما في «لمّا» من معنى التوقيع د
لي لعى أن هؤلاء قد آمنوا فيم بعده «، قال أبو حيان: فلا أدري من أي وجه يكون النفي بِلَمَّا يقع بعد؟﴾. قال شهاب الدين: لأنَّها لنفي قَدْ فَعل، وقَدْ للتَّوَقع.

فصل


قال ابن الخطيب: لَمْ ولَمَّا حَرْفَا نفي، ومَا، وإنْ ولاَ كذلك من حرفو النفي ولَمْ ولَمَّا يجزمان وغيرهما من حروف النفي لا يجزم فما الفرق بينهما؟.
فالجواب: أن لم ولما يفعلان بالفعل ما لا يفعل به غيرهما، فإنهما يَصْرِفَان معناه من الاستقبال إِلى النفي تقول: لَمْ يُؤْمِنْ أَمْسِ، وآمَنَ اليَوْمَ، ولا تقول: لاَ يُؤْمِنُ أَمْسِ، فلما فعلا بالفعل ما لم يفعل به غيرهما جزم بهما.
فإن قيل: مع هذا: لم جزم بهما؟ غاية ما في الباب أن الفرق حصل ولكن ما الدليل على وجوب الجزم بهما؟ نقول: لأن الجزمَ والقَطْع يَحْصل في الأفعال الماضية؛ لأنَّ من قال فقد حصل القطع بقيامه ولا يجوز أن يكون ما قام، والأفعال المستقبلة إما متوقعة الحصول وإما ممكنة من غير تَوَقُّع، فلا يمكن الجزم والقطع فيه، فإذا كان «لَمَّا ولَمْ»
يَقْلِبَان اللَّفظَ من الاستقبالِ إلى المُضِيِّ أفاد الجزم والقطع في المعنى فجعل له مناسباً والقطع في المعنى فجعل له مناسباً لمعناه وهو الجزم لفظاً، وعلى هذا نقول: إذا كان السببُ في الجزم ما ذكرنا فلهذا
559
قيل: الأمر يجزم، لأن الآمرّ كأنه جزم على المأمور أن يفعله ولا يتركه، فأتى بلفظ مجزوم تنبيهاً على أنّ الفعل لا بد من إيقاعه و «إنْ» في الشرط ك «لَمْ» لأن «إنْ» تغير معنى الفعل من المُضِيِّ إلى الاستقبال كما أن «لَمْ» تغيِّره من الاستقبال إلى المُضِي تقول: إِنْ أكْرَمْتَنِي أُكْرِمْكَ، فلما كان «إنْ» مثلُ «لَمْ» في كونه حرفاً، وفي لزوم الدخول على الأفعال وتغييرها صار جازماً للشبه اللَّفْظيِّ وأما الجزاء فجزم لِمَا ذَكَرْنا مِن المعنى، فإن الجزاء يجزم لوقوعه عند وجود الشرط فجَزْمُهُ إِذَنْ إمَّا للْمعْنَى، أو للشبه اللفظي.

فصل


أخبر الله تعالى أنَّ حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب، وأن الإقرار باللِّسان وإظهار شرائعه بالإيمان لا يكون إيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص والإسلامُ هو الدخول في السِّلم، وهو الانقياد والطاعة يقال: أسْلَمَ الرَّجُلُ إذا دخل في الإسلام والسِّلْم، كما يقال أَشْتَى إذَا دَخَلَ في الشِّتَاء، وأَصَافَ إذَا دخَلَ في الصَّيْفِ، وأرْبَعَ إذا دخل في الرَّبِيع، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان كقوله عَزَّ وَجَلَّ ّ لإبراهيم: ﴿أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ [البقرة: ١٣١] ومنها: ما هو انقياد باللِّسان دون القلب وذلك قوله: ﴿ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ﴾.
قال ابن الخطيب: المؤمن والمسلم واحد عن أهل السنة فيكون الفرق بين العام والخاص أن الإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متَّحد مع الخاص ولا يكون أمراً آخر غيره.
مثلاه: الحَيَوَان أَعَمُّ من الإنسان، لكن الحيوان في صورة الإنسان (ليس) أمراً ينفكُّ عن الإنسان ويجوز أن يكون ذلك الحيوانُ حيواناً ولا يكون إنساناً، فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود وكذلك المؤمن والمسلم.
وسيأتي بقية الكلام عن ذلك في الذَّاريات عند قوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين﴾ [الذاريات: ٣٥ و٣٦] إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب: وفي الآية إشارة إلى بيان حال المؤلَّفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم ((بعد) ضعيفاً) قال لهم: لَمْ تؤمنوا لأن الإيمان أيقانٌ وذلك بعد لم يدخل في قلوبكم وسيدخل باطّلاعكم على محاسن الإسلام.
560
قوله: ﴿وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي ظاهراً وباطناً سراً وعلانية. قال ابن عباس: تُخْلِصُوا الإيمان.
قوله: «لاَ يَلتكُمْ» قرأ أبو عمرو: «لا يألتكم» بالهمز من أَلَتَهُ يَأْلِتُهُ بالفتح في الماض والكسر والضم في المضارع لقوله: ﴿وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ [الطور: ٢١] والسُّوسِيّ يبدل الهمزة ألفاً على أصله.
والباقون:: يُلِتْكُمْ «من لاَتَهُ يليتُه كَباعَهُ يَبِيعُهُ. وهما لغتان معناهما لا يَنْقُصُكُمْ، فالأولى لغة غَطَفَان وأسدٍ والثانية لغة الحِجَاز، يقال: أَلتَ يأْلُتُ أَلْتاً، ولاَتَ يِليتُ لَيْتاً، وقيل: هي من وَلَتَهُ يَلِتُهُ كوَعَدَهُ يَعِدُهُ، فالمحذوف على القول الأولى عينٌ الكلمة ووزنها: يَفِلْكُمْ وعلى الثاني فاؤها، ووزنها يَعِلْكُمْ ويقال أيضاً ألاَتَهُ ليتُه كأَبَاعَهُ يُبِيعُهُ وآلَتَهُ يُؤْلِتُهُ كآمن يُؤْمِنُ. وكلّها لغات في معنى نَقَصَهُ حَقَّهُ، قال الحطيئة:
٤٥٠٤ - أَبْلِغْ سَرَاة بَنِي سَعْدٍ مُغَلْغَلَةً جَهْدَ الرِّسَالَةِ لاَ أَلْتاً ولاَ كَذِبَا
وقال رؤبة:
561
أي لم يمنعني ويَحْبِسْنِي.

فصل


قال ابن الخطيب: معنى قوله: (» لاَ يَلِتْكُمْ «) لا يَنْقُصُكُم، المراد منه أنكم إذا أتيتم بما يليق بضعِّفكُم من الحسنة فهو يؤتيتكم به من الجزاء؛ لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبةً يكون ثمنها في السوق درهماً فأعطاه الملك درهماً انتسب الملك إلى البخل، وإما معناه ألاّ يُعْطِي مثل ذلك من غير نقص أي يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي يغفر لكم ما قدم سلق ويرحمكم بما أتيتم به.
562
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ هذاإرشاد للذين قالوا آمنّا؛ بين لهم حقيقة الإيمان فقال: إنْ كُنتمْ تريدون الإيمان فالمؤمن من آمن بالله ورسوله ﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ﴾ أي لم يشكوا في دينهم وأيقنوا بأن الإيمان إيقانٌ. و «ثُمَّ» للتراخي في الحكاية كأنه يقول: آمنوا ثم أقول شيئاً آخر لم يرتابوا.
ويحتمل أن تكون للتراخي في الفعل، أي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الحشر والنَّشْر ﴿وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي ايقنوا أن بعده هذه الدار دارٌ أخرى فجاهدوا طالبين العُقْبَى ﴿أولئك هُمُ الصادقون﴾ في إيمانهم.
فإن قيلأ: كيف يجوز أن يكذبوا في الإسلام، والإسلام هو الانقياد وقد وجد منهم قولاً وفعلاً، وإن لم يوجد اعتقاداً أو علماً، وذلك القدر كاف في صدقهم في قولهم: إِنَّا أَسْلَمْنَا؟!.
فالجواب: إن التكذيبَ يقع الى وجهين:
أحدهما: إن لا يوجد نفس المخبر عنه.
والثاني: إن لا يوجد كما أخبر في نفسك، فقد يقول له: ما جئتنا بلْ جئتَ
562
للحاجة، فالله تعالى كذبهم في قولهخم: آمنّا على الوجه الأوَّل أي ما آمنتم أصلاً، ولم يصدقهم في الإسلام على الوجه الثاني فإنهنم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة.

فصل


لما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَحْلِفُون بالله أنهم مؤمنون صادقون وعرف الله غير ذلك منهم فنزل الله: ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ﴾، والتعليم ههنا بمعنى الإعْلام فلذلك قال: بِدِينكم، أدخل الباء فيه؛ لأنه منقول بالتضعيف من علمت به بمعنى شعرت به فلذلك تعدت لواحد بنفسها، ولآخر بالباء.
والمعنى لا تعرفوا الله بدينكم فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء، لأنه يعلم ما في السموات وما في الأرض، ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا يحتاج إلى إخباركم.
قوله (تعالى) :﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ﴾ يجوزم في قوله: أَنْ أَسْلَمُوا وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به لأنّه ضمن يمنون معنى يُعِيدُونَ كأنه قيل: يعيدون عليك إسلامهم مانِّين به عليك ولهذا صرح بالمفعول به في قوله: ﴿قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ﴾ أي لا تُعيدوا عليَّ إسلامكم. كذا استدل أبو حَيَّان.
وفيه نظر، إذ لقائل أن يقول: لا نسلم انتصاب «إِسْلاَمَكُمْ» على المفعول به، بل يجوز فيه المفعول من أجله كما يجوز في محل «أَنْ أَسْلَمُوا» وهو الوجه الثاني فيه أي يمنون عليك لأجل أن أَسْلَمُوا فكذلك في قوله: ﴿لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ﴾، وشروط النصب موجودة والمفعول له متى كان مضافاً اسْتَوَى جرّه بالحرف ونصبه.
قوله: ﴿بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ﴾ يعني لا مِنَّةَ لَكُمْ عَلَيْنَا أَصْلاً، بل المنة عليكم حيث بينْتُ لكم الطرق المستقيم.
قوله: ﴿أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ﴾ أعرابه كقوله: «أن أَسْلَمُوا». وقرأ زيد بن علي: إِذْ هَدَاكُمْ بِإِذْ مَكَانَ «أنْ» وهي في مصحف عبد الله كذلك. وهي تفيد التعليل، وجواب
563
الشرط مقدر أي فَهُوَ المَانُّ عليكم لا أَنتم عَلَيْه وعَلَيَّ.
فإن قيل: كيف مَنَّ عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه تبين أنهم لم يؤمنوا؟.
فالجواب من ثلاث أوجه:
أحدها: أنه تعالى لم يقل: بل الله يمن عليكم أن رزقكم الإيمانَ بلْ قال: أنْ هَدَاكُمْ للإِيمان.
وثانيها: أنَّ إرسال الرسول بالآيات البينات هدايةٌ.
ثالثها: أنه تعالى يمنُّ عليهم بما زعموا فكأنه قال: أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار فقال: هداكم في زعمكم، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ... ﴾ الآية؛ وهذا تقرير لأول السورة حيث قال: «إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ»، فأخبر ههنا عن علمه وبصره.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ قرأ ابن كثير بالغيبة، نظراً لوقله: يَمُنُّونَ وما بعده، والباقون بالخطاب، نظراً إلى قوله: لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلاَمَكُمْ إلى آخره، وفي هذه الآية إشارة أنه يُبْصرُ أعمال جوارحكم الظاهرة والباطنة، لا يخفى عليه شيءٌ.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ قَرَأَ سُورَة الحُجُرَاتِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْر عَشْرَ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ أَطَاعَ اللهَ وَعَصَاهُ» (انتهى).
564
سورة ق
3
لما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُون بالله أنهم مؤمنون صادقون وعرف الله غير ذلك منهم فنزل الله :﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ ﴾، والتعليم ههنا بمعنى الإعْلام فلذلك قال : بِدِينكم١، أدخل الباء فيه ؛ لأنه منقول بالتضعيف من علمت به بمعنى شعرت به فلذلك تعدت لواحد بنفسها، ولآخر بالباء٢.
والمعنى لا تعرفوا الله بدينكم فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء، لأنه يعلم ما في السموات وما في الأرض، ﴿ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ لا يحتاج إلى إخباركم.
١ نقله البغوي والخازن في تفسيريهما ٦/٢٣٢ و٢٣٣..
٢ قاله صاحب البحر المحيط ٨/١١٧..
قوله ( تعالى١ ) :﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ ﴾ يجوز في قوله : أَنْ أَسْلَمُوا وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به لأنّه ضمن يمنون معنى يُعِيدُونَ كأنه قيل : يعيدون عليك إسلامهم مانِّين به عليك ولهذا صرح بالمفعول به في قوله :﴿ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ ﴾ أي لا تُعيدوا عليَّ إسلامكم. كذا استدل أبو حَيَّان٢.
وفيه نظر، إذ لقائل أن يقول : لا نسلم انتصاب «إِسْلاَمَكُمْ » على المفعول به، بل يجوز فيه المفعول من أجله كما يجوز في محل «أَنْ أَسْلَمُوا » وهو الوجه الثاني٣ فيه أي يمنون عليك لأجل أن أَسْلَمُوا فكذلك في قوله :﴿ لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ ﴾، وشروط النصب موجودة والمفعول له متى كان مضافاً اسْتَوَى جرّه بالحرف ونصبه.
قوله :﴿ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ ﴾ يعني لا مِنَّةَ لَكُمْ عَلَيْنَا أَصْلاً، بل المنة عليكم حيث بينْتُ لكم الطرق المستقيم.
قوله :﴿ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ ﴾ أعرابه كقوله :«أن أَسْلَمُوا »٤. وقرأ زيد بن علي : إِذْ هَدَاكُمْ٥ بِإِذْ مَكَانَ «أنْ » وهي في مصحف عبد الله كذلك. وهي تفيد التعليل، وجواب الشرط مقدر أي فَهُوَ المَانُّ عليكم لا أَنتم٦ عَلَيْه وعَلَيَّ.
فإن قيل : كيف مَنَّ عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه تبين أنهم لم يؤمنوا ؟.
فالجواب من ثلاث أوجه :
أحدها : أنه تعالى لم يقل : بل الله يمن عليكم أن رزقكم الإيمانَ بلْ قال : أنْ هَدَاكُمْ للإِيمان.
وثانيها : أنَّ إرسال الرسول بالآيات البينات هدايةٌ.
ثالثها : أنه تعالى يمنُّ عليهم بما زعموا فكأنه قال : أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار فقال : هداكم في زعمكم، و لهذا قال تعالى :﴿ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ. . . ﴾ الآية ؛ وهذا تقرير لأول السورة حيث قال :«إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ »، فأخبر ههنا عن علمه وبصره٧.
١ زيادة من أ الأصل..
٢ قال: "فأن أسلموا في موضع المفعول ولذلك تعدى إليه في قوله: قل لا تمنوا علي إسلامكم"..
٣ وقد ذكره أيضا أبو حيان قال: "ويجوز أن يكون": "أن أسلموا" مفعولا من أجله أي يتفضلون عليكم بإسلامهم أن هواكم"..
٤ من المفعول به والمفعول لأجله..
٥ وهي شاذة وانظر البحر المحيط ٨/١١٨ والكشاف ٣/٥٧٢. ومختصر ابن خالويه ١٤٤..
٦ كذا قدر أبو حيان في بحره المحيط السابق. وقدر الزمخشري: "إن كنتم صادقين في ادعائكم بالإيمان فلله المنة عليكم". وانظر الكشاف ٣/٥٧٢..
٧ بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨/١٤٤..
قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ قرأ ابن كثير بالغيبة١، نظراً لقوله : يَمُنُّونَ وما بعده، والباقون بالخطاب، نظراً إلى قوله : لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلاَمَكُمْ إلى آخره، وفي هذه الآية إشارة أنه يُبْصرُ أعمال جوارحكم الظاهرة والباطنة، لا يخفى عليه شيءٌ.
١ وهي سبعية متواترة انظر السبعة ٦٠٦ والإتحاف ٣٩٨ وهي نفس قراءة عاصم عن أبان كما قال بذلك ابن مجاهد في السبعة وانظر الكشف ٢/٢٨٤..
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
٤٥٠٥ - ولَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُ وَلَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاهَا لَيْتُ