ﰡ
مدنية، وآياتها ١٨ [نزلت بعد المجادلة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)قدّمه وأقدمه: منقولان بتثقيل الحشو والهمزة، من قدمه إذا تقدّمه «١» في قوله تعالى يَقْدُمُ قَوْمَهُ ونظيرهما معنى ونقلا: سلفه وأسلفه. وفي قوله تعالى لا تُقَدِّمُوا من غير ذكر مفعول: وجهان، أحدهما: أن يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدّم. والثاني:
أن لا يقصد قصد «٢» مفعول ولا حذفه، ويتوجه بالنهى إلى نفس التقدمة، كأنه قيل: لا تقدموا على التلبس بهذا الفعل، ولا تجعلوه منكم بسبيل «٣»، كقوله تعالى هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ويجوز أن يكون من قدّم بمعنى تقدّم، كوجه وبين. ومنه مقدّمة الجيش خلاف ساقته، وهي الجماعة المتقدّمة منه. وتعضده قراءة من قرأ: لا تقدموا، بحذف إحدى تاءى تتقدموا، إلا أن الأوّل أملأ بالحسن وأوجه، وأشدّ ملاءمة لبلاغة القرآن، والعلماء له أقبل. وقرئ: لا تقدموا من القدوم، أى لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها، ولا تعجلوا عليهما. وحقيقة قولهم: جلست بين يدي فلان، أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه،
(٢). قوله «أن لا يقصد قصد... الخ» عبارة النسفي: أن لا يقصد مفعول. والتهجي متوجه إلى نفس التقدمة. (ع)
(٣). ذكر الزمخشري من النكت: «أنه تعالى ابتدأ السورة بإيجاب أن يكون الأمر الذي ينتهى إلى الله ورسوله متقدما على الأمور كلها من غير تقييد ولا تخصيص» قال أحمد: يريد أنه لم يذكر المفعول الذي يتقاضاه تقدموا، باطراح ذلك المفعول كقوله يُحْيِي وَيُمِيتُ وحلى الكلام بمجاز التمثيل في قوله بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بفائدة ليست في الكلام العريان، وهو تصور الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الاقدام على أمر دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة، وجعل صورة ذلك المنهي عنه مثل أن يجلس العبد في الجهتين المسامتتين ليمين سيده ويساره ويوليه دبره، ومعناه: أن لا تقدموا على أمر حتى يأذن الله ورسوله فيه فتكونوا مقتدين فيما تأتون وتذرون بكتاب الله وسنة نبيه.
(٢). أخرجه البيهقي في الشعب في الخامس عشر من طريق مقاتل بن حيان قال «بلغنا أن رسول الله ﷺ بعث سرية واستعمل عليهم المنذر بن عمرو- فذكر قصة بئر معونة مطولا. وفيه هذا اللفظ. ورو:
الدلائل من طريق ابن إسحاق، ومن طريق موسى بن عقبة: هذه القصة على غير هذا السياق وأن المقتولين بنى كلاب، وأن الثلاثة قتل منهم واحد. وهو المحفوظ والمشهور في المغازي
(٣). هكذا ذكره الثعلبي بغير سند. وذكره الدارقطني من رواية مالك بن حمزة بضم المهملة والراء. عن مسروق قال «دخلت على عائشة رضى الله عنها في اليوم الذي يشك فيه أنه يوم عرفة»... الحديث
(٤). أخرجه عبد الرزاق. حدثنا معمر عن الحسن في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قال: هم قوم ذبحوا قبل أن يصلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأمرهم أن يعيدوا الذبح» وأخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة. قال «ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل كذا، لو صنع كذا، لو قبل كذا» قال: وقال الحسن هم أناس، فذكره.
وعن الحسن أيضا: لما استقرّ رسول الله ﷺ بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل، فنهوا أن يبتدؤه بالمسئلة حتى يكون هو المبتدئ «١». وعن قتادة:
ذكر لنا أنّ ناسا كانوا يقولون: لو أنزل فيه كذا لكان كذا، فكره الله ذلك منهم وأنزلها.
وقيل: هي عامة في كل قول وفعل: ويدخل فيه أنه إذا جرت مسألة في مجلس رسول الله ﷺ لم يسبقوه بالجواب، وأن لا يمشى بين يديه إلا لحاجة، وأن يستأنى «٢» في الافتتاح بالطعام وَاتَّقُوا اللَّهَ فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها وعن جميع ما تقتضي مراقبة الله تجنبه، فإن التقىّ حذر لا يشافه أمرا «٣» إلا عن ارتفاع الريب وانجلاء الشك في أن لا تبعة عليه فيه، وهذا كما تقول لمن يقارف بعض الرذائل: لا تفعل هذا وتحفظ مما يلصق بك العار، فتنهاه أوّلا عن عين ما قارفه، ثم تعم وتشيع وتأمره بما لو امتثل فيه أمرك لم يرتكب تلك الفعلة وكل ما يضرب في طريقها ويتعلق بسببها إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما تقولون عَلِيمٌ بما تعملون، وحق مثله أن يتقى ويراقب.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢)
إعادة النداء عليهم: استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وتطرية الإنصات لكل حكم نازل، وتحريك منهم لئلا يفتروا ويغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به عند حضور مجلس رسول الله ﷺ من الأدب الذي المحافظة عليه تعود عليهم بعظيم الجدوى في دينهم، وذلك لأنّ في إعظام صاحب الشرع إعظام ما ورد به، ومستعظم الحق لا يدعه استعظامه أن يألو عملا بما يحدوه «٤» عليه، وارتداعا عما يصده عنه، وانتهاء إلى كل خير، والمراد بقوله لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن
(٢). قوله «وأن يستأنى في الافتتاح» أى: ينتظر. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «لا يشافه أمرا» أى: لا يتشاغل بأمر، وفي الصحاح: «الشفه» : الشغل، يقال: شفهنى عن كذا، أى: شغلني. (ع)
(٤). قوله «بما يحدوه عليه» أى: يحضه. (ع) [.....]
وبقوله: ولا تجهروا له بالقول: إنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرّب من الهمس الذي يضادّ الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم، عاملين بقوله عز اسمه وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وقيل معنى وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ لا تقولوا له: يا محمد، يا أحمد، وخاطبوه بالنبوّة. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر رضى الله عنه: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله، «٢» وعن عمر رضى الله عنه: انه كان يكلم النبي ﷺ كأخى السرار لا يسمعه حتى يستفهمه «٣»، وكان أبو بكر إذا قدم على رسول الله ﷺ وفد: أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، «٤» وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر: ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأنّ ذلك كفر، والمخاطبون مؤمنون، وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه، وردّه إلى حدّ يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير، ولم يتناول النهى أيضا رفع الصوت الذي لا يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدوّ أو ما أشبه ذلك، ففي الحديث: أنه قال عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين:
(٢). ذكره الواحدي عن عطاء عن ابن عباس. ولم يسق سنده إليه. وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق طارق بن شهاب عن أبى بكر. قال لما نزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قلت:
يا رسول الله آليت ألا أكلمك إلا كأخى السرار حتى ألقى الله» وأخرجه الحاكم والبيهقي في المدخل من حديث أبى هريرة. قال «لما نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ- الآية قال أبو بكر. والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخى السرار حتى ألقى الله عز وجل «وقال صحيح على شرط مسلم
(٣). أخرجه البخاري من حديث أبى الزبير. قال «لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ- الآية كان عمر بعد ذلك إذا حدث النبي ﷺ حدثه كأخى السرار. لم يسمعه حتى يستفهمه.
(٤). لم أجده
زجر أبى عروة السّباع إذا... أشفق أن يختلطن بالغنم «٤»
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه «٥». وفي قراءة ابن مسعود: لا ترفعوا بأصواتكم والباء مزيدة محذوّ بها حذو التشديد في قول الأعلم الهذلي:
رفعت عينى بالحجا... ز إلى أناس بالمناقب «٦»
وليس المعنى في هذه القراءة أنهم نهوا عن الرفع الشديد، تخيلا أن يكون ما دون الشديد مسوغا لهم، ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة، واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون. وعن ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وكان في أذنه وقر، وكان جهوري الصوت، فكان إذا تكلم رفع صوته، وربما كان يكلم رسول الله ﷺ فيتأذى بصوته «٧». وعن أنس أن هذه الآية لما نزلت: فقد ثابت، فتفقده رسول الله ﷺ فأخبر بشأنه، فدعاه، فسأله فقال: يا رسول الله، لقد أنزلت إليك هذه الآية، وإنى رجل جهير الصوت. فأخاف أن يكون عملى قد حبط، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لست هناك، إنك تعيش بخير وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة «٨».. وأمّا ما يروى عن الحسن: أنها نزلت فيمن كان يرفع صوته من المنافقين فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمحمله والخطاب للمؤمنين: على أن ينهى المؤمنون ليندرج المنافقون تحت النهى، ليكون الأمر أغلظ عليهم وأشق. وقيل: كان المنافقون يرفعون أصواتهم ليظهروا قلة مبالاتهم، فيقتدى بهم ضعفة المسلمين. وكاف التشبيه في محل النصب،
(٢). لم أجده
(٣). لم أجده
(٤). تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ٣٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٥). لم أجده
(٦). للأعلم الهذلي، يقول: نظرت وأنا في الحجاز إلى من في المناقب. وهذان الموضعان بينهما مسافة بعيدة، وهذا من شدة الشوق إلى من في المناقب.
(٧). لم أجده
(٨). متفق عليه من حديث أنس دون قوله «لست هناك، وزاد أحمد والطبراني فيه: فقال أنس: فكنا نراه يمشى بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة».
فإن قلت: لخص الفرق بين الوجهين. قلت: تلخيصه أن يقدر الفعل في الثاني مضموما إليه المفعول له، كأنهما شيء واحد «١»، ثم يصب النهى عليهما جميعا صبا. وفي الأوّل يقدر النهى
قلت: بالثاني عند البصريين، مقدرا إضماره عند الأوّل، كقوله تعالى آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً وبالعكس عند الكوفيين، وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أنّ الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل: وقراءة ابن مسعود: فتحبط أعمالكم، أظهر نصا بذلك، لأنّ ما بعد الفاء لا يكون إلا مسببا عما قبله، فيتنزل الحبوط من الجهر منزلة الحلول من الطغيان في قوله تعالى فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي والحبوط من حبطت الإبل: إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها، وربما هلكت. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا أو يلم» «١» ومن أخواته: حبجت الإبل، إذا أكلت العرفج «٢» فأصابها ذلك. وأحبض عمله: مثل أحبطه. وحبط الجرح وحبر: إذا غفر، وهو نكسه وتراميه إلى الفساد: جعل العمل السيئ في إضراره بالعمل الصالح كالداء والحرض «٣» لمن يصاب به، أعاذنا الله من حبط الأعمال وخيبة الآمال. وقد دلت الآية على أمرين هائلين، أحدهما: أن فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما يحبط عمله.
والثاني: أن في آثامه ما لا يدرى أنه محبط، ولعله عند الله كذلك، فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشى في طريق شائك لا يزال يحترز ويتوقى ويتحفظ.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٣]
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)
امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى من قولك: امتحن فلان لأمر كذا وجرب له، ودرب للنهوض به. فهو مضطلع به غير وان عنه. والمعنى أنهم صبر على التقوى، أقوياء على احتمال مشاقها.
أو وضع الامتحان موضع المعرفة، لأنّ تحقق الشيء باختباره، كما يوضع الخبر موضعها، فكأنه قيل: عرف الله قلوبهم للتقوى، وتكون اللام متعلقة بمحذوف، واللام هي التي في قولك: أنت لهذا الأمر، أى كائن له ومختص به قال:
أنت لها أحمد من بين البشر «٤»
(٢). قوله «إذا أكلت العرفج» في الصحاح: شجر ينبت في السهل، الواحدة: عرفجة. (ع)
(٣). قوله «كالداء والحرض» أى الفساد. أفاده الصحاح.
(٤). رائعة: خالية من الحشو والتعقيد، وصوغتها- بالتشديد-: للمبالغة، وأنت لها: أى أهل لها وكفؤ، وأحمد:
منادى، ومن بين البشر: متعلق بمحذوف حال، أى: منتخبا من بينهم. ويجوز أن «أحمد» أفعل تفضيل، كذا قيل.
وهي مع معمولها منصوبة على الحال. أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى، أى لتثبت وتظهر تقواها، ويعلم أنهم متقون، لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها. وقيل أخلصها للتقوى. من قولهم: امتحن الذهب وفتنه، إذا أذا به فخلص إبريزه من خبشه ونقاه. وعن عمر رضى الله عنه: أذهب الشهوات عنها.
والامتحان: افتعال، من محنه، وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد. قال أبو عمرو: كل شيء جهدته فقد محنته. وأنشد:
أتت رذايا باديا كلالها | قد محنت واضطربت آطالها «٢» |
وتصيير خبرها جملة من مبتدإ وخبر معرفتين معا. والمبتدأ: اسم الإشارة، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة: مبهما أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول الله ﷺ من خفض أصواتهم، وفي الإعلام بمبلغ عزة رسول الله ﷺ وقدر شرف منزلته، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم واستيجابهم ضد ما استوجب هؤلاء.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٤ الى ٥]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
أعداء من لليعملات على الوجا | وأضياف بيت بيتوا لنزول |
أعداء ما للعيش بعدك لذة | ولا لخليل بهجة بخليل |
أعداء ما وجدي عليك بهين | ولا الصبر إن أعطيته بجميل |
جمع يعملة، والبعير يعمل، ومن كان معدا لأضياف بيته الذين يبيتون للنزول والاستراحة عنده. والعيش: الحياة، أو ما يعاش به. والبهجة: السرور. والوجد: الحزن. وإن أعطيته: اعتراض، دل على أنه لم يصبر. ونفى جمال الصبر مبالغة في عظم عداء عنده وحبه إياه، وكرر النداء لإظهار التفجع.
(٢). الرذايا جمع رذية وهي الناقة المهزولة الضعيفة. ومحنته: بلوته. ويقال: محنت ناقتي أجهدتها في السير.
ومحنت الجلد: مددته ووسعته. والآطال: جمع أطل وهو الخاصرة، كأسباب وسبب. يقول: أتت المطايا مهازيل ظاهرا ملالها وتعبها من السير، قد أجهدت تلك النوق بالسير. أو قد تدلت واضطربت خواصرها من شدة الجوع ويروى: أوصالها، أى: أعضاؤها.
ولقد اغتر بعضهم في تبكيت بنى تميم بما لا تساعده عليه الآية، فإنها نزلت في المتولين لمناداة النبي عليه الصلاة والسلام، أو في الحاضرين حينئذ الراضين بفعل المنادين له، وقد سئل عليه الصلاة والسلام عنهم فقال: هم جفاة بنى تميم، وعلى الجملة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فكيف يسوغ إطلاق اللسان بالسوء في حق أمة عظيمة لأن واحدا منهم أو اثنين ارتكب جهالة وجفاء، فقد ورد أن المنادى له عليه السلام: هو الأقرع، هذا مع توارد الأحاديث في فضائل تميم وتخليدها وجوه الكتب الصحاح.
(٢). قوله «أنهم نادوه من البر والخارج» الظاهر أن تفسيره ما بعده. وفي الصحاح «في مادة برر» أن البرية هي الصحراء. وفي مادة ضمن: في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام في بعض كتبه: «إن لنا الضاحية من البعل ولكم الضامنة من النخل» ما نصه: فالضاحية: هي الظاهرة التي في البر من النخل، والضامنة: ما تضمنها أمصارهم وقراهم. (ع)
ومنها: المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم. ومنها: التعريف باللام دون الإضافة. ومنها: أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهوينا للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم وسوء أدبهم، وهلم جرا: من أوّل السورة إلى آخر هذه الآية، فتأمّل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمى إلى الله ورسوله متقدّمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد، ثم أردف ذلك النهى عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر. كأن الأوّل بساط للثاني ووطاء لذكره ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك فغضوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند الله، ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم وهجنته أتم: من الصياح برسول الله ﷺ في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبه على فظاعة من أجروا إليه وجسروا عليه، لأنّ من رفع الله قدره على أن يجهر له بالقول حتى خاطبه جلة المهاجرين «٣» والأنصار بأخى السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغا، ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب
(٢). أخرجه الثعلبي من رواية هاشم بن القاسم الحراني عن يعلى بن الأشدق حدثنا سعد بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم- فذكره: ولمسلم من حديث أبى هريرة «لا أزال أحب بنى تميم لثلاث- فذكر فيه «وهم أشد أمتى على الدجال».
(٣). قوله «حتى خاطبه جلة المهاجرين» معظم المهاجرين. (ع)
هل من فرق بين حَتَّى تَخْرُجَ وإلى أن تخرج؟ قلت: إنّ «حتى» مختصة بالغاية المضروبة.
تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، ولو قلت: حتى نصفها، أو صدرها: لم يجز، و «إلى» عامّة في كل غاية، فقد أفادت «حتى» بوضعها: أنّ خروج رسول الله ﷺ إليهم غاية قد ضربت لصبرهم، فما كان لهم أن يقطعوا أمرا دون الانتهاء إليه. فإن قلت: فأى فائدة في قوله إِلَيْهِمْ؟ قلت: فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أنّ خروجه إليهم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ في «كان» إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو، وإما ضمير مصدر صَبَرُوا، كقولهم: من كذب كان شرا له وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بليغ الغفران والرحمة واسعهما، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٦ الى ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
بعث رسول الله ﷺ الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمّه- وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبى وقاص، فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعا، ثم قال: هل أزيدكم، فعزله عثمان «١» عنهم- مصدّقا إلى بنى المصطلق، وكانت بينه وبينهم إحقة، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له، فحسبهم مقاتليه، فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
والفسوق: الخروج من الشيء والانسلاخ منه. يقال: فسقت الرطبة عن قشرها. ومن مقلوبه:
قفست البيضة، إذا كسرتها وأخرجت ما فيها. ومن مقلوبه أيضا: قفست الشيء إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصبا له عليه، ثم استعمل في الخروج عن القصد والانسلاخ من الحق.
قال رؤبة:
فواسقا عن قصدها جوائرا «٤»
وقرأ ابن مسعود: فتثبتوا. والتثبت والتبين: متقاربان، وهما طلب الثبات والبيان والتعرّف، ولما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والذين معه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب، وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة. قيل: إن جاءكم بحرف الشك وفيه أنّ على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة، لئلا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور أَنْ تُصِيبُوا مفعول له، أى: كراهة إصابتكم قَوْماً بِجَهالَةٍ حال، كقوله تعالى وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ يعنى جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة. والإصباح: بمعنى الصيرورة.
والندم: ضرب من الغم، وهو: أن تغتمّ على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع، وهو غم يصحب
بعث رسول الله ﷺ الوليد بن عقبة- فذكر الحديث بنحوه وزاد فقال عليه الصلاة والسلام: لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا- فذكره.
(٢). لم أره.
(٣). قال محمود: «نكر فاسقا ونبأ لقصد الشياع، فكأنه قيل أىّ فاسق جاء بأى نبأ» قال أحمد: تسامح بلفظ الشياع والمراد الشمول، لأن النكرة إذا وقعت في سياق الشرط تعم، كما إذا وقعت في سياق النفي، والله أعلم. [.....]
(٤). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١١٩ فراجعه إن شئت اه مصححه.
المدينة وقد تراهم يجعلون الهم صاحبا ونجيا وسميرا وضجيعا، وموصوفا بأنه لا يفارق صاحبه. الجملة المصدّرة بلو لا تكون كلاما مستأنفا، لأدائه إلى تنافر النظم «١»
، ولكن متصلا بما قبله حالا من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع، أو البارز المجرور. وكلاهما مذهب سديد. والمعنى:
أن فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم تغييرها. أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها: وهي أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأى، واستصواب فعل المطواع لغيره التابع له فيما يرتئيه، المحتذى على أمثلته، ولو فعل ذلك لَعَنِتُّمْ أى لوقعتم في العنت والهلاك. يقال: فلان يتعنت فلانا، أى: يطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك. وقد أعنت العظم:
إذا هيض «٢» بعد الجبر. وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله ﷺ الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد. وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك، وهم الذين استثناهم بقوله تعالى وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أى إلى بعضكم، ولكنه أغنت عن ذكر البعض:
صفتهم المفارقة لصفة غيرهم، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة، التي لا يفطن لها إلا الخواص. وعن بعض المفسرين: هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. وقوله أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أى: أولئك المستثنون هم الراشدون يصدق ما قلته. فإن قلت: ما فائدة تقديم خبر إن على اسمها؟ قلت: القصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن الله منهم من استتباع رأى رسول الله ﷺ لآرائهم، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه. فإن قلت: فلم قيل يُطِيعُكُمْ دون: أطاعكم؟ قلت:
للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه. وأنه كلما عنّ لهم رأى في أمر كان
(٢). قوله «إذا هيض بعد الجبر» في الصحاح: هاض العظم يهيضه هيضا: كسره بعد الجبر. وفيه أيضا:
جبرت العظم جبرا، وجبر العظم بنفسه جبورا، أى: انجبر. (ع)
من مخالفة ما بعدها لما قبلها نفيا وإثباتا؟ قلت: هي مفقودة من حيث اللفظ، حاصلة من حيث المعنى لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدّم ذكرهم، فوقعت، لكنّ في حاق موقعها من الاستدراك. ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفاق «١»، وسبيله الكناية كما سبق، وكل ذى لب وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبى عليه أن الرجل لا يمدح بغير فعله، وحمل الآية على ظاهرها يؤدّى إلى أن يثنى عليهم بفعل الله، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فإن قلت: فإنّ العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه، وذلك فعل الله، وهو مدح مقبول عند الناس غير مردود. قلت: الذي سوّغ ذلك لهم أنهم رأوا حسن الرواء «٢» وو سامة المنظر في الغالب، يسفر عن مخبر مرضى وأخلاق محمودة ومن ثم قالوا: أحسن ما في الدميم وجهه «٣»، فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته، ولكن لدلالته على غيره. على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به، وقصر المدح على النعت بأمّهات الخير: وهي الفصاحة والشجاعة والعدل والعفة، وما يتشعب منها ويرجع إليها، وجعل الوصف بالجمال والثروة وكثرة الحفدة والأعضاد وغير ذلك مما ليس
أخبرنى عن ثناء الله على أنبيائه ورسله بما حاصله اصطفاؤه لهم لاختياره إياهم: هل بمكتسب أم بغير مكتسب، فلا يسعه أن يقول إلا أنه أثنى عليهم بما لم يكتسبوه، بل بما وهبه إياهم فاتهبوه. وإن عرج على القسم الآخر وهو دعوى أنهم أثنى عليهم بمكتسب لهم من رسالة أو نبوة، فقد خرج عن أهل الملة، وانحرف عن أهل القبلة، وهذه البذة كفاية إن شاء الله تعالى.
(٢). قوله «حسن الرواء» في الصحاح: الرواء- بالضم-: المنظر. (ع)
(٣). قوله «ما في الدميم وجهه» في الصحاح «الدميم» : القبيح. (ع)
والْفُسُوقَ الخروج عن قصد الإيمان ومحجته بركوب الكبائر وَالْعِصْيانَ ترك الانقياد والمضي لما أمر به الشارع. والعرق العاصي: العانذ «١». واعتصت النواة: اشتدّت. والرشد:
الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة: قال أبو الوازع: كل صخرة رشادة. وأنشد:
وغير مقلّد وموشّمات | صلين الضّوء من صمّ الرّشاد «٢» |
(٢). الظاهر أن الشاعر يصف الديار بأنها لم يبق فيها غير وتد الخباء المقلد بالحبل، وغير الأثافى المغير لونها بالنار. والوشم والتوشيم: تغيير اللون، أى: التي احترقت بضوءها أى حرها. ومن صم الرشاد: بيان لها.
والصم: جمع صماء، أى: صلبة. والرشاد الصخر. واحدة رشادة. وقيل: يصف مطايا بأنها مطبوعة على العمل غير محتاجة الزمام، وأنها غيرها أثر السير قوية، بحيث يظهر الشرر من شدة وقع خفافها على الصخر الصلب.
(٣). أعرب الزمخشري فضلا في الآية مفعولا لأجله، منصبا عن قوله: الراشدون... الخ. قال أحمد: أورد الاشكال بعد تقرير أن الرشد ليس من فعل الله تعالى، وإنما هو فعلهم حقيقة على ما هو معتقده، ونحن بنينا على ما بينا: أن الرشد من أفعال الله ومخلوقاته، فقد وجد شرط انتصاب المفعول له، وهو اتحاد فاعل الفعلين، على أن الاشكال وارد نصا على تقريرنا على غير الحد الذي أورده عليه الزمخشري، بل من جهة أن الله تعالى خاطب خلقه بلغتهم المعهودة عندهم. ومما يعهدونه أن الفاعل من نسب إليه الفعل، وسواء كان ذلك حقيقة أو مجازا حتى يكون زبد فاعلا وانقض الحائط وأشباهه كذلك. وقد نسب الرشد إليهم على طريقة أنهم الفاعلون وإن كانت النسبة مجازية باعتبار المعتقد، وإذا تقرر وروده على هذا الوجه فلك في الجواب عنه طريقان: إما جواب الزمخشري، وإما أمكن منه وأبين: وهو أن الرشد هنا يستلزم كونه راشدا، إذ هو مطاوعه، لأن الله تعالى أرشدهم فرشدوا.
وحينئذ يتحد الفاعل على طريقة الصناعة المطابقة للحقيقة وهو عكس قوله يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً فان الاشكال بعينه وارد فيها، إذ الخوف والطمع فعلهم، أى: منسوب إليهم على طريقة أنهم الخانفون الطامعون، والفعل الأول لله تعالى، لأنه مريهم ذلك، والجواب عنه: أنهم مفعولون في معنى الفاعلين، بواسطة استلزام المطاوعة، لأنه إذا أراهم فقد رأوا. وقد سلف هذا الجواب مكانه، فصححت الكلام هاهنا بتقدير المفعول فاعلا وعكسه آية الحجرات، إذ تصحيح الكلام فيها بتقدير الفاعل مفعولا، وهذا من دقائق العربية فتأمله، والله الموفق.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٩]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: وقف رسول الله ﷺ على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار، فأمسك عبد الله ابن أبىّ بأنفه وقال: خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه. فقال عبد الله بن رواحة: والله إنّ بول حماره لأطيب من مسكك «١» وروى: حماره أفضل منك، وبول حماره أطيب من مسكك «٢»، ومضى رسول الله ﷺ وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا، وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج، فتجالدوا بالعصى، وقيل بالأيدى والنعال والسعف، فرجع إليهم رسول الله ﷺ وأصلح بينهم، ونزلت.
وعن مقاتل: قرأها عليهم فاصطلحوا. والبغي: الاستطالة والظلم وإباء الصلح. والفيء: الرجوع، وقد سمى به الظل والغنيمة، لأنّ الظل يرجع بعد نسخ الشمس، والغنيمة: ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين، وعن أبى عمرو: حتى تفي، بغير همز، ووجهه أنّ أبا عمرو خفف الأولى من الهمزتين الملتقيتين فلطفت على الراوي تلك الخلسة «٣»، فظنه قد طرحها. فإن قلت: ما وجه قوله اقْتَتَلُوا والقياس اقتتلتا «٤»، كما قرأ ابن أبى عبلة. أو اقتتلا، كما قرأ عبيد بن عمير على تأويل الرهطين أو النفرين؟ قلت: هو مما حمل على المعنى دون اللفظ، لأنّ الطائفتين في معنى القوم والناس. وفي قراءة عبد الله: حتى يفيئوا إلى أمر الله، فإن فاءوا فخذوا بينهم بالقسط. وحكم الفئة الباغية: وجوب قتالها ما قاتلت. وعن ابن عمر: ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدته
(١). لم أره عن ابن عباس. وهو في الصحيحين من حديث أنس. وفيه «فبلغنا أنها أنزلت وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ | الآية. دون بول الحمار. وقوله «والله إن بول حماره لأطيب من مسك» وليس فيه أيضا «وإنه ﷺ مضى. ثم نزلت الآية. |
(٣). قوله «تلك الخلسة» في الصحاح: خلست الشيء واختلسته، إذا استلبته «والاسم الخلسة- بالضم. (ع)
(٤). قال محمود: «لم قال اقتتلوا عدولا... الخ» قال أحمد: قد تقدم في مواضع إنكار النحاة الحمل على لفظ «من»، بعد الحمل على معناها، وفي هذه الآية حمل على المعنى بقوله اقْتَتَلُوا ثم على اللفظ بقوله بَيْنَهُما فلا يعتقد أن المقول في «مق» مطرد في هذا، لأن المانع لزوم الإجمال والإبهام بعد التفسير، وهاهنا لا يلزم ذلك، إذ لا إبهام في الطائفة، بل لفظها مفرد أبدا، ومعناها جمع أبدا، وكانت كذلك لاختلاف أحوالها من حيث المعنى مرة جمعا ومرة مقردا، فتأمله، والله الموفق.
الله ورسوله أعلم قال: لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها» «١» ولا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما: إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا، فالواجب في ذلك أن يمشى بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة، فإن لم تتحاجزا ولم تصطلحا وأقامتا على البغي: صير إلى مقاتلتهما، وإما أن يلتحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة، واطلاعهما على مراشد الحق. فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا من اتباع الحق بعد وضوحه لهما، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين. وإما أن تكون إحداهما الباغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينهما وبين المبغى عليها بالقسط والعدل، وفي ذلك تفاصيل: إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها: ضمنت بعد الفيئة ما جنت، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة، لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله، فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت. وأمّا قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها، فما جنته ضمنته عند الجميع، فمحمل الإصلاح بالعدل في قوله تعالى فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل، وعلى قول غيره: وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد، والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات: ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. فإن قلت: فلم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأوّل؟ قلت: لأنّ المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين معا أو راكبتى شبهة، وأيتهما كانت، فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما: إصلاح ذات البين، وتسكين الدهماء «٢» بإراءة الحق والمواعظ الشافية، ونفى الشبهة، إلا إذا أصرتا، فحينئذ تجب المقاتلة. وأما الضمان فلا يتجه، وليس كذلك إذا بغت إحداهما، فإنّ الضمان متجه على الوجهين المذكورين وَأَقْسِطُوا أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين، والقول فيه مثله في
(٢). قوله «الدهماء» اى الجماعة. (ع)
وهو اعوجاج في الرجلين «١». وعود قاسط: يابس. وأقسطته الرياح. وأمّا القسط بمعنى العدل، فالفعل منه: أقسط، وهمزته للسلب، أى: أزال القسط وهو الجور.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٠]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
هذا تقرير لما ألزمه من تولى الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق: ما إن لم يفضل الأخوّة ولم يبرز عليها لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غايتها، ثم قد جرت عادة الناس على أنه إذا نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد، لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته، ويركبوا الصعب والذلول مشيا بالصلح وبثا للسفراء «٢» بينهما، إلى أن يصادف ما وهي من الوفاق من يرقعه، وما استشن «٣» من الوصال من يبله، فالأخوة في الدين أحق بذلك وبأشدّ منه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يعيبه، ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره» «٤» ثم قال «احفظوا، ولا يحفظ منكم إلا قليل» «٥». فإن قلت: فلم خص الاثنان بالذكر دون الجمع؟ قلت: لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان، فإذا لزمت المصالحة بين الأقل كانت بين الأكثر ألزم، لأنّ الفساد في شقاق الجمع أكثر منه في شقاق الاثنين، وقيل: المراد بالأخوين الأوس والخزرج، وقرئ: بين إخوتكم وإخوانكم. والمعنى: ليس المؤمنون إلا إخوة، وأنهم خلص لذلك متمحضون، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبية، وأبى لطف حالهم في التمازج والاتحاد أن يقدموا على ما يتولد منه التقاطع، فبادروا قطع ما يقع من ذلك إن وقع واحسموه وَاتَّقُوا اللَّهَ فإنكم إن فعلتم لم تحملكم التقوى إلا على التواصل والائتلاف، والمسارعة إلى إماطة ما يفرط منه، وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم، واشتمال رأفته عليكم حقيقا بأن تعقدوا به رجاءكم.
(٢). قوله «وبنا السفراء بينهما... الخ» جمع سفير: وهو الرسول والمصلح بين القوم. (ع)
(٣). قوله «استشن» في الصحاح: تشنن الجلد يبس، واستشن الرجل: هزل. (ع)
(٤). قوله «بقتار قدره» في الصحاح: «القتار» : ريح الشواء. (ع)
(٥). أخرجه الثعلبي من رواية إسماعيل بن رافع عن سعيد عن أبى هريرة به سواء وزاد فيه «ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له منها. ولا يشترى لبنيه الفاكهة، فيخرجون بها إلى صبيان جاره ثم لا يطعمونهم منها» قلت:
وإسناده ضعيف وأول الحديث في الصحيحين» من وجه آخر عن أبى هريرة: وسيأتى في آخر تفسير سورة الواقعة.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)القوم: الرجال خاصة، لأنهم القوّام بأمور النساء. قال الله تعالى الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ وقال عليه الصلاة والسلام: «النساء لحم على وضم «١» إلا ما ذب»
عنه» والذابون هم الرجال، وهو في الأصل جمع قائم، كصوّم وزوّر: في جمع صائم وزائر. أو تسمية بالمصدر. عن بعض العرب: إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما. أى قياما، واختصاص القوم بالرجال:
صريح في الآية وفي قول زهير:
أقوم آل حصن أم نساء «٣»
وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد: هم الذكور والإناث، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن، وتنكير القوم والنساء
(٢). لم أره عن على، وأخرجه ابن المبارك في البر والصلة من قول عمر بن الخطاب، وكذلك رواه أبو عبيد وابراهيم الحربي في الغريب.
(٣).
وما أدرى وسوف إخال أدرى | أقوم آل حصن أم نساء |
فان تكن النساء مخبآت | فحق لكل محصنة اهتداء |
(٢). عاد كلامه. قال: «وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة للاشعار... الخ» قال أحمد:
وهو في غاية الحسن لا مزيد عليه.
(٣). قوله «ولا يأتى ما عليه من النهى» أى يتلهى ولا يفعل ما عليه من نهى الساخر والإنكار عليه. (ع)
(٤). قال محمود: «وقوله عسى أن يكونوا خيرا منهم جواب للمستخبر عن علة النهى... الخ» قال أحمد: وهو من الطراز الأول.
(٥). قوله «لما جاء النهى عنه» لعل ما مصدرية، ولفظ عنه مزيد من ناسخ الأصل، أى: لمجيء النهى، وإلا: أى وإلا يكن مستأنفا. (ع) [.....]
(٦). قوله «وإنما الذي يزن عند الله» لعله يزين. (ع)
(٧). لم أره عنه، وفي ابن أبى شيبة عن أبى موسى من قوله نحوه.
(٨). أخرجه ابن أبى شيبة في الأدب المفرد من رواية إبراهيم عن ابن مسعود بهذا.
وقرئ: ولا تلمزوا- بالضم. والمعنى: وخصوا أيها المؤمنون أنفسكم بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها، ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الفاجر بما فيه كى يحذره الناس» «١» وعن الحسن رضى الله عنه في ذكر الحجاج: أخرج إلى بنانا قصيرة قلما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول: يا أبا سعيد يا أبا سعيد، وقال لما مات: اللهم أنت أمته فاقطع سنته، فإنه أتانا أخيفش أعيمش «٢» يخطر في مشيته ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة، لا من الله يتقى ولا من الناس يستحى: فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل:
الصلاة أيها الرجل الصلاة أيها الرجل، هيهات دون ذلك السيف والسوط. وقيل: معناه لا يعب بعضكم بعضا، لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه. وقيل: معناه لا تفعلوا ما تلمزون به، لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة. والتنابز بالألقاب:
التداعي بها: تفاعل من نبزه، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون ويقال: النبز «٣» والنزب: لقب السوء والتلقيب المنهي عنه، وهو ما يتداخل المدعوّ به كراهة لكونه تقصيرا به وذمّا له وشينا، فأما ما يحبه مما يزينه وينوّه به فلا بأس به. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه» «٤» ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن.
(٢). قوله «فانه أتانا أخيفش أعيمش» في الصحاح «الخفش» : صغر في العين، وضعف في البصر خلقة والرجل أخفش. وفيه: العمش في العين: ضعف الرؤية مع سيلان الدمع. والرجل أعمش اه. وأخيفش وأعيمش تصغير: أخفش وأعمش. (ع)
(٣). قوله «ويقال النبز» في الصحاح «النبز» بالتحريك: اللقب، وبالتسكين: المصدر. (ع)
(٤). لم أجده هكذا، وروى البيهقي في الشعب في الحادي والستين عن عثمان بن طلحة الحجى رفعه قال «ثلاث مصفين لك ود أخيك: تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه» وفيه موسى بن عبد الملك بن عمير وهو ضعيف. وروى أبو يعلى والطبراني من حديث ذيال بن عبيد بن حنظلة حدثني جدي حنظلة بن جذيم قال: «كان رسول الله ﷺ يعجبه أن يدعى الرجل بأحب الأسماء إليه».
وعن عكرمة عن ابن عباس أن صفية بنت حيّى أتت رسول الله ﷺ فقالت:
إن النساء يعيرننى ويقلن يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلا قلت إن أبى هرون وإن عمى موسى وإن زوجي محمد» «٢» وروى أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر، وكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله ﷺ ليسمع، فأتى يوما وهو يقول: تفسحوا لي، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، فقال لرجل: تنح، فلم يفعل، فقال: من هذا؟ فقال الرجل. أنا فلان، فقال: بل أنت ابن فلانة، يريد: أمّا كان يعير بها في الجاهلية، فخجل الرجل فنزلت، فقال ثابت: لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدا «٣» الِاسْمُ هاهنا بمعنى الذكر، من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته. وحقيقته: ما سما من ذكره وارتفع بين الناس.
ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره، كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين «٤» بسبب ارتكاب
(٢). ذكره الثعلبي عن عكرمة، عن ابن عباس بغير إسناد وفي الترمذي من رواية هاشم بن سعيد الكوفي: حدثنا كنانة حدثتنا صفية بنت حيي قالت «دخلت على النبي ﷺ وقد بلغني عن عائشة وحفصة كلام. فذكرت ذلك له فقال: ألا قلت: وكيف تكونا خيرا منى وزوجي محمد ﷺ وأبى هارون وعمى موسى عليهما الصلاة والسلام. وكان الذي بلغها أنهن قلن نحن أكرم على رسول الله ﷺ منها وخير منها نحن أزواجه وبنات عمه» وقال: غريب. وليس إسناده بذاك. وروى الترمذي وابن حبان وأحمد والطبراني من رواية معمر عن ثابت عن أنس قال. «بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودى فبكت... فذكر معناه.
(٣). ذكره الثعلبي، ومن تبعه عن ابن عباس بغير سند.
(٤). قال محمود: «الاسم هاهنا الذكر، من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم. كأنه قال: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين... الخ» قال أحمد: أقرب الوجوه الثلاثة ملائمة لقاعدة أهل السنة وأولاها: هو أولها، ولكن بعد صرف الذم إلى نفس الفسق، وهو مستقيم لأن الاسم هو المسمى. ولكن الزمخشري لم يستطع ذلك: انحرافا إلى قاعدة: يصرف الذم إلى ارتفاع ذكر الفسق من المؤمن، تحوما على أن الاسم التسمية، ولا شك أن صرف الذم إلى نفس الفسق أولى. وأما الوجه الثاني، فأدخله ليتم له حمل الاسم على التسمية صريحا. وأما الثالث فليتم له أن الفاسق غير مؤمن، وكلا القاعدتين مخالف للسنة فاحذرهما، وبالله التوفيق. ولقد كشف الله لي عن مقاصده، حتى ما تنقلب له كلمة متحيزة إلى فئة البدعة إلا إذا أدركها الحق فكلمها، ولله الحمد.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)
يقال: جنبه الشر إذا أبعده عنه، وحقيقته: جعله منه في جانب، فيعدى إلى مفعولين.
قال الله عز وجل وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ثم يقال في مطاوعه: اجتنب الشر فتقص المطاوعة مفعولا، والمأمور باجتنابه هو بعض الظن، وذلك البعض موصوف بالكثرة: ألا ترى إلى قوله إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ؟ فإن قلت: بين الفصل بين كَثِيراً، حيث جاء نكرة وبينه لو جاء معرفة. قلت: مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية، وإنّ في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين، لئلا يجترئ أحد على ظنّ إلا بعد نظر وتأمّل، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة، مع استشعار للتقوى والحذر، ولو عرف لكان الأمر باجتناب الظنّ منوطا بما يكثر منه دون ما يقل، ووجب أن يكون كل ظنّ متصف بالكثرة مجتنبا، وما اتصف منه بالقلة مرخصا في تظننه. والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها: أنّ كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر: كان حراما واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون
(٢). قوله «بعد الكبرة الصبوة» الكبرة- بالفتح-: اسم للكبر في السن. والصبوة: الميل إلى الجهل والفتوة. أفاده الصحاح. (ع)
«إن الله تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء» «١» وعن الحسن: كنا في زمان الظن بالناس حرام، وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت، وظنّ بالناس ما شئت.
وعنه: لا حرمة لفاجر. وعنه: إن الفاسق إذا أظهر فسقه وهتك ستره هتكه الله، وإذا استتر لم يظهر الله عليه لعله أن يتوب. وقد روى: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له «٢».
والإثم: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب. ومنه قيل لعقوبته: الأثام، فعال منه: كالنكال والعذاب والوبال. قال:
لقد فعلت هذى النّوى بى فعلة | أصاب النّوى قبل الممات أثامها «٣» |
(٢). أخرجه البيهقي في الشعب في التاسع والستين والقضاعي في مسند الشهاب من طريق رواه بن الجراح عن أبى سعد الساعدي عن أنس وإسناده ضعيف. وأخرجه ابن عدى من رواية الربيع بن بدر عن أبان عن أنس وإسناده أضعف من الأول.
(٣). النوى: نية المسافر من قرب أو بعد، فهي مؤنثة، وتستعمل اسم جمع نية، فيذكر: أى لقد فعلت في هذه النية فعلة مسيئة، فهي بمعنى في، ثم دعا عليها بقوله: أصاب النوى التي أذتنى أثامها، أى: جزاء تلك الفعلة.
أو جزاء النوى التي تستحقه. وقد يسمى الذنب إثما وأثاما، من إطلاق المسبب على السبب، وقال قبل الممات، أى: قبل موته ليتشفى فيها، فكأنه شبهها بعدو، ثم دعا عليها.
وهي ذكر السوء في الغيبة. سئل رسول الله ﷺ عن الغيبة فقال: «أن تذكر أخاك بما يكره، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» «٤» وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الغيبة إدام كلاب الناس أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه. وفيه مبالغات شتى: منها الاستفهام الذي معناه التقرير.
ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة. ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك. ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخا. ومنها أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتا. وعن قتادة:
كما تكره إن وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حى. وانتصب مَيْتاً على الحال من اللحم. ويجوز أن ينتصب عن الأخ. وقرئ: ميتا. ولما قرّرهم عز وجل بأنّ أحدا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه، عقب ذلك بقوله تعالى فَكَرِهْتُمُوهُ معناه: فقد كرهتموه واستقرّ ذلك. وفيه معنى الشرط، أى: إن صحّ هذا فكرهتموه، وهي الفاء الفصيحة،
(٢). أخرجه أبو داود وابن أبى شيبة وعبد الرزاق والطبراني والبيهقي في الشعب في الثاني والخمسين من طرق عن الأعمش عن زيد بن وهب قال «أتى ابن مسعود قيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا» لفظ أبى داود والباقين نحوه. ورواه الحاكم والبزار من رواية أسباط عن الأعمش فقال فيه «إن رسول الله ﷺ نهانا عن التجسس» قال البزار تفرد به أسباط وقال ابن أبى حاتم عن أبى زرعة والترمذي عن البخاري: أخطأ فيه أسباط.
والصحيح من رواية أبى معاوية وغيره عن الأعمش «إن الله نهانا»
(٣). قوله «كالغيلة من الاغتيال» كذا في الصحاح. وفيه يقال: قتله غيلة، وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فيقتله فيه. (ع)
(٤). متفق عليه من حديث أبى هريرة.
والمعنى: واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه، فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين. وعن ابن عباس: أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّى لهما طعامهما، فنام عن شأنه يوما، فبعثاه إلى رسول الله ﷺ يبغى لهما إداما، وكان أسامة على طعام رسول الله ﷺ فقال: ما عندي شيء، فأخبرهما سلمان بذلك، فعند ذلك قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول الله ﷺ قال لهما: مالى أرى خضرة اللحم في أفواهكما، فقالا: ما تناولنا لحما فقال: إنكما قد اغتبتما «١» فنزلت.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى من آدم وحوّاء. وقيل: خلقنا كل واحد منكم من أب وأمّ، فما منكم أحد إلا وهو يدلى بمثل ما يدلى به الآخر سواء بسواء، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب. والشعب: الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب، وهي: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة، فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع، العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل: خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصى بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة. وسميت الشعوب،
وعن يزيد بن شجرة: مرّ رسول الله ﷺ في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول:
من اشترانى فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فاشتراه رجل فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يراه عند كل صلاة، ففقده يوما فسأل عنه صاحبه، فقال: محموم، فعاده ثم سأل عنه بعد ثلاثة أيام فقال: هو لما به، فجاءه وهو في ذمائه»
، فتولى غسله ودفنه، فدخل على المهاجرين والأنصار أمر «٥» عظيم، فنزلت.
(٢). أخرجه الترمذي وابن حبان وأبو يعلى وابن أبى حاتم من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر. وفي الباب عن أبى هريرة أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والبزار وابن المبارك في البر والصلة من رواية سعيد بن أبى سعيد عن أبيه عنه نحوه. ومنهم من قال عن سعيد عن أبى هريرة: وعن عبد الملك بن قدامة الحاطبى. حدثني أبى أن النبي ﷺ عام فتح مكة. صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا أيها الناس» فذكر نحوه وأخرجه.
(٣). أخرجه الحاكم والبيهقي وأبو يعلى وإسحاق وعبد والطبراني وأبو نعيم في الحلية كلهم من طريق هشام ابن زياد أبى المقدام عن محمد بن كعب عن ابن عباس وأتم منه، قال البيهقي في الزهد: تكلموا في هشام بسبب هذا الحديث، وأنه كان يقول: حدثني عن محمد بن كعب ثم ادعى أنه سمعه من محمد، ثم أخرجه البيهقي من طريق عبد الجبار بن محمد العطاردي والد أحمد عن عبد الرحمن الطيبي بن القاسم بن عروة عن محمد بن كعب عن ابن عباس يرفع الحديث نحوه.
(٤). قوله «وهو في ذمائه» في الصحاح «الدماء» : ممدود بقية الروح في المذبوح. (ع)
(٥). هكذا ذكره الثعلبي والواحدي بغير سند.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٤]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)الإيمان: هو التصديق مع الثقة وطمأنينة النفس. والإسلام: الدخول في السلم. والخروج من أن يكون حربا للمؤمنين بإظهار الشهادتين. ألا ترى إلى قوله تعالى وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ فاعلم أنّ ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان. فإن قلت: ما وجه قوله تعالى قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا والذي يقتضيه نظم الكلام أن يقال: قل لا تقولوا آمنا، ولكن قولوا أسلمنا. أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم؟ قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلا، ودفع ما انتحلوه «١»، فقيل: قل لم تؤمنوا. وروعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرّح بلفظه، فلم يقل:
كذبتم، ووضع لَمْ تُؤْمِنُوا الذي هو نفى ما ادعوا إثباته موضعه، ثم نبه على ما فعل من وضعه موضع كذبتم في قوله في صفة المخلصين أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ تعريضا بأن هؤلاء هم الكاذبون، ورب تعريض لا يقاومه التصريح، واستغنى بالجملة التي هي لَمْ تُؤْمِنُوا عن أن يقال: لا تقولوا آمنا، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤدّاه النهى عن القول بالإيمان، ثم وصلت بها الجملة المصدّرة بكلمة الاستدراك محمولة على المعنى، ولم يقل: ولكن أسلمتم، ليكون خارجا مخرج الزعم والدعوى، كما كان قولهم آمَنَّا كذلك، ولو قيل: ولكن أسلمتم، لكان خروجه في معرض التسليم لهم والاعتداد بقولهم وهو غير معتدّ به. فإن قلت: قوله وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ بعد قوله تعالى قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة.
قلت: ليس كذلك، فإن فائدة قوله لَمْ تُؤْمِنُوا هو تكذيب دعواهم، وقوله وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ توقيت لما أمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا حين
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ فتلخص من ذلك أنهم كذبوا فيما ادعوه من شهادة قلوبهم الحق، لأن ذلك حقيقة الشهادة، لا أنهم كذبوا في أن رسول الله ﷺ رسول من الله وكان المخلص من ذلك قوله جل وعلا وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ.
يقال: ألته السلطان حقه أشدّ الألت، وهي لغة غطفان. ولغة أسد وأهل الحجاز: لاته ليتا.
وحكى الأصمعى عن أمّ هشام السلولية أنها قالت: الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات، ولا تصمه الأصوات «١». وقرئ باللغتين: لا يلتكم، ولا يألتكم. ونحوه في المعنى فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً.
ومعنى طاعة الله ورسوله: أن يتوبوا عما كانوا عليه من النفاق ويعقدوا قلوبهم على الإيمان ويعملوا بمقتضياته، فان فعلوا ذلك تقبل الله توبتهم، ووهب لهم مغفرته، وأنعم عليهم بجزيل ثوابه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنّ نفرا من بنى أسد قدموا المدينة في سنة جدبة، فأظهروا الشهادة، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارها، وهم يغدون ويروحون على رسول الله ﷺ ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والذراري، يريدون الصدقة ويمنون عليه، فنزلت.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٥]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)
ارتاب: مطاوع را به إذا أوقعه في الشك مع التهمة. والمعنى: أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به، ولا اتهام لمن صدّقوه واعترفوا بأنّ الحق منه. فإن قلت: ما معنى ثم هاهنا وهي التراخي وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارنا للإيمان لأنه وصف فيه، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتفاء الريب؟ قلت: الجواب على طريقين، أحدهما أنّ من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان أو بعض المضلين بعد ثلج الصدر فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه، أو نظر هو نظرا غير سديد يسقط به على الشك ثم يستمرّ على ذلك راكبا رأسه لا يطلب له مخرجا، فوصف المؤمنون حقا بالبعد عن هذه الموبقات.
ونظيره قوله ثُمَّ اسْتَقامُوا والثاني: أنّ الإيقان وزوال الريب لما كان ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدّم الايمان، تنبيها على مكانه، وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعارا باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضا جديدا وَجاهَدُوا يجوز أن يكون المجاهد منويا وهو العدوّ المحارب أو الشيطان أو الهوى، وأن يكون جاهد مبالغة في جهد. ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس: الغزو، وأن يتناول العبادات بأجمعها، وبالمجاهدة بالمال: نحو
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٦]
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦)
يقال: ما علمت بقدومك، أى: ما شعرت به ولا أحطت به. ومنه قوله تعالى أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وفيه تجهيل لهم.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٧ الى ١٨]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
يقال: منّ عليه بيد أسداها إليه، كقولك: أنعم عليه وأفضل عليه. والمنة: النعمة التي لا يستثيب مسديها من يزلها إليه «١»، واشتقاقها من المنّ الذي هو القطع، لأنه إنما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير، من غير أن يعمد لطلب مثوبة. ثم يقال: منّ عليه صنعه، إذا اعتده عليه منة وإنعاما. وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة، وذلك أنّ الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلاما، ونفى أن يكون كما زعموا إيمانا، فلما منوا على رسول الله ﷺ ما كان منهم قال الله سبحانه وتعالى لرسوله عليه السلام: إنّ هؤلاء يعتدّون عليك بما ليس جديرا بالاعتداد به من حدثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام، فقل لهم: لا تعتدوّا علىّ إسلامكم، أى حدثكم المسمى إسلاما عندي لا إيمانا. ثم قال: بل الله يعتدّ عليكم أن أمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم أنكم أرشدتم إليه ووفقتم له إن صحّ زعمكم وصدقت دعواكم، إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه. وفي إضافة الإسلام إليهم وإيراد الايمان غير مضاف: ما لا يخفى على المتأمل، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، تقديره: إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان، فلله المنة عليكم. وقرئ: إن هداكم، بكسر الهمزة.