ﰡ
قوله تعالى: ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ... (١)﴾
الآية دالة على حرمة الاجتهاد بحضرته عليه السلام؛ لأن معنى التقدم في غيبة [... ].
قوله تعالى: ﴿فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ... (٢)﴾
قال: وكذا مثله في القدْر أو دونه.
قوله تعالى: ﴿مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ... (٤)﴾
حال من المنادي.
قوله تعالى: (أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ).
قال ابن عرفة: يعود على ضمير (الَّذِينَ) فتبين أن المراد بالذين مدلوله الضمير فلا يكون مدلوله الأول داخلا في النداء.
قوله تعالى: ﴿أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ... (٥)﴾
عداه بحتى دون إلى؛ لأن معنى حتى المراد به حقيقته وظهوره، وفي إلى الانتهاء إليه فقط.
قوله تعالى: ﴿فَاسِقٌ بِنَبَإٍ... (٦)﴾
قال ابن عرفة: النبأ أخص من الخبر، فإذا رتب التبين على الأخص المخبر به فأحرى الأعم الذي لَا يتحفظ في نقله.
قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ... (٧)﴾
عبر هنا بالرسول وفيما قبل هذا بالنبي؛ لأن المراد هنا شرف الرسالة، وشرف النبي تبعا لها وبقاء التعظيم في ذاته، ولما كانت المحبة قد تزول ولا تدوم أخبر تعالى بأنه مزين راسخ لَا يزول، فهو تأسيس، ولهذا عبر مع التزيين بـ[(في) *]، ومع حبب بـ (إلى) إشعارا بهذا.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا... (٩)﴾
قال ابن عرفة: في الآية استشهاد واستشكال، أما الاستشهاد فيدل على أن الفسق لا يسلب صدق الإيمان على صاحبه، كقوله تعالى: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى) مع إطلاق الإيمان عليها، وأما الاستشكال فهو في الجمع بينهما وبين قوله
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ... (١٠)﴾
قال ابن عرفة: الأخوة إما باعتبار الحكم فظاهر، وإن كانت باعتبار [وجوده*] الخارجي فكان بعضهم يقدره بأنه تمثيل لأن الأجنبي يكون بالاشتراك في الإيمان أو في أحدهما، وهو هنا بالاشتراك في كلمة الشهادتين فهي تمثيل، كقوله: زيد أسد، والأول كقوله: زيد قائم.
قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
ولم يقل: لعلكم تفلحون إشارة إلى قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن"، فالأمر بالصلح [إنما*] بالتراحم بينهم والشفقة والحنان ليكون ذلك سببا في رحمة الله لهم.
قال ابن عطية: [يَسْخَرْ معناه: يستهزئ*]، والاستهزاء أخف من السخرية، فالاستهزاء عدم المبالاة به مع استحضاره، قال تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
قال: ورأيت نحوه للسهيلي في الروض الأنف، قلت: قال الزمخشري: في قوله تعالى: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) هو بالضم والكسر مصدر كالسخر إلا في باب النسب بزيادة قوة في الفعل كما فعل بالخصوصية والخصوص.
عن الكسائي والفراء: أن الكسر من الهمزة والمضموم من السخرية والعبودية والأول مذهب الخليل وسيبويه.
قوله تعالى: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ).
ابن عرفة: هذا إما تعليل للنهي أو نفي للفعل المعلل، فهو إما راجع للإسخار، أي لَا تسخروا بقوم لتكونوا خير منهم ولا تسخروا بقوم، وعلى الثاني حمله الزمخشري وغيره، والقوم الرجال.
قيل لابن عرفة: يخرج منه سخرة الرجال بالنساء والنساء بالرجال، فالصواب جعل القوم صادق على الرجال والنساء.
وقال ابن عرفة مرة أخرى: للقائل أن يقول لَا يصح فغير القوم على الذكور لدلالة قوله تعالى: (وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) لئلا يلزم عليه عدم استيفاء الآية للأقسام الممكنة فيها، وهي أربعة: رجال من رجال، ونساء من نساء، ورجال من نساء، ونساء من رجال، فإن خصصنا القوم بالذكور خرج الأخيران، فإِن جعلناه شاملا لهم وللإناث شمل الجميع ويكون قوله تعالى: (وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) تأكيدا وهو أولى من كونه تأسيسا المستلزم لعدم كمال الفائدة.
قوله تعالى: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ).
نقل الزمخشري: هنا عن الحسن أنه قال في الحجاج أتانا أخيفش أعيمش إلى آخره.
قال ابن عرفة: هذا لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "لَا غيبة في فاسق".
قيل لابن عرفة: هذا لَا يصح لأن القاضي عياض حمل الحديث على غيبة الفاسق فيما كان به فاسقا، يقال: ظلم في كذا بأفعاله الكسبية؛ لَا بصفاته الخلقية التي لم يكن
ابن عطية: لأنه يطعن بعضكم على بعض بذكر النقائص وقد تكون اللمز بالقول وبالإشارة، والهمز لَا يكون إلا باللسان وهو مشبه بالهمز [بالعود*].
قيل لأعرابي: أتهمز الفأرة، فقال: الهر همزها. انتهى. ذكر هذا ليستدل به على أن الهمز يكون بالفعل، ومعنى قوله أتهمز الفأرة، أي تقول: بالهمز، فأجابه الأعرابي مستخفا به؛ لأن الهر يهمزها، وهمز الهر لها بالفعل.
وما ذكر ابن عطية:
من أن سبب نزول الآية [ | ] بما يكره ضعيف؛ لأنه مسرع فيبعد أن يترك ردا عليه. |
الزمخشري: وعن الحسن رضي الله عنه في ذكر الحجاج: [أخرج إلى بنانا قصيرة قلما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول: يا أبا سعيد يا أبا سعيد، وقال لما مات: اللهم أنت أمته فاقطع سنته، فإنه أتانا أخيفش أعيمش يخطر في مشيته ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة، لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي*]. انتهى.
ابن عرفة: وهذه غيبة لكن في فاسق وقد ورد "لَا غيبة في فاسق" إذا تظاهر بالمعاصي فلا تحرم غيبته، ولقد سئل بعضهم عمن حلف بالطلاق أن الحجاج من أهل النار، فقال: قل له يبقى مع زوجته فلان غفر الله للحجاج، فهو راحم به إذا بقي مع زوجته في الحرام وهي سيئة من سيئات عبد الملك بن مروان.
قوله تعالى: (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ).
فسره الزمخشري بثلاثة أوجه:
أحدها: استقباح ما بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويمنعه، وهذا توقيف على مذهبه في أن الفاسق كافر وليس بمؤمن، ولو صدر هذا الكلام من سني
قال: الوجه الثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن، كما تقول [للمتحول*] عن التجارة إلى الفلاحة بئس الحرفة الفلاحة بعد التجارة، انتهى. أراد بئس الانتقال من الإيمان إلى الفسوق، وهذا على مذهبه أيضا؛ لأن الفاسق عنده كافر، ولذلك [... ]. بالانتقال من التجارة إلى الفلاحة؛ لأنه سلب عنه اسم التجارة ووصفه بالفلاحة، ونحن نقول: المراد بئس الانتقال من الإيمان الخالص الكامل إلى الإيمان المخالط.
وظاهر كلام الزمخشري أن التاجر أحسن من الفلاح، وقال غيره: الفلاح أحسن لما يحصل من الأخروي فيما يصنع ويؤكل، والتاجر لَا يخلوا من تطفيف في الوزن أو حيف أو زيادة في الثمن بخلاف الفلاح، وكان أكثر أهل المدينة فلاحين، وأكثر أهل مكة تجارا، وظاهر الآية أن التحدث في النَّاس بالمعايب، وذكر ما لهم حرجه تسقط شهادة المتكلم بذلك لأن الآية دلت على أنه من الكبائر لأن الكبائر ما توعد على [فعلها*].
قوله تعالى: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ... (١٢)﴾
إن قلت: لم قيل: (اجْتَنِبُوا) بلفظ الأمر، ولم يقل: لَا تظنوا بلفظ النهي، لأن اجتناب [المنهي*] أشد من فعل المأمور، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " [إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ*]، ولأن النهي عند الأكثرين للتحريم بخلاف الأمر فإن فيه خلافا، فالجواب: أنه لو قيل: لَا تظنوا كان النهي عاما في جميع الظن، والمراد إنما هو [بعض*] الظنون، فأتى فيه بلفظ الأمر وفي ضمنه النهي، لأن مادة الاجتناب تدل عليه، وعلق النهي بأكثر الظن لَا بجميعه، ولأن
ابن عطية: قال سلمان الفارسي: إني لأعد [عُراق*] قدري مخافة الظن، انتهى، أراد أنه يختم على [**البومة مخافة أن يظن بمن تكلف بها ظن السوء وهو أولى من عدة اللحم]، فإنه قد يظن أنه قطع له من كل لحمة طرفا.
قال: وقال ابن مسعود: الأمانة خير من الخاتم، والخاتم خير من سوء الظن، انتهى، أراد أن وضع الشيء عند الأمين غير مطبوع عليه أطيب لنفسه ما لو ختم عليه، ووصفه عنده أمانة.
الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين كثير حين جاء نكرة وبينه لو جاء معرفة؟ قلت: مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية وإن في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تعيين لئلا [يجترئ*] أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل، وتمييز بين حقه وباطله بإمارة بينه مع استشعار [للتقوى*]، ولو عرف لكان الأمر باجتناب الظن [منوطا*] بما يكثر منه دون ما يقل، ووجب أن يكون كل ظن متصف بالكثرة مجتنبا، [وما اتصف منه بالقلة*] مرخصا فيه، انتهى. تقديره أن الكثير المعرف بالألف واللام كل يقتضي اجتناب كثير الجمع بغير الجمعية، وقوله: كثير الظن يفيد تعلق الكلية بالكثير، فيقتضي اجتناب الكثير مع تتبع الأفراد، كما تقول لرجل: أكرم الكثير من الضيوف، فلا يلزمه إلا إكرام الجماعة الكثيرين المجتمعين لأن الألف واللام [لتكثير الجنس*]، ولو قلت له: أكرم كثيرا من الضيف فأتاه ضيف واحد أو ضيفان [لزمه*] إكرامهما، ثم كذلك لَا يزال مطلوبا بإكرام ما زاد عليهما إلى أن يبلغ حد الكثرة، بخلاف الأول فإنه لَا يلزمه إكرام الضيف الواحد ولا الاثنين، قيل: يؤخذ من الآية أنه إذا اختلط شاة محرمة بشاة محللة أنه يحرم الجميع، ووجه الاستدلال أنه حرم الكثير [لأجل*] تحريم القليل، فالاجتناب معلل، بقوله تعالى: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)، أجيب: بأن الآية لم تتضمن اجتناب على الظن لكون بعضه إثما، وإنما تتضمت اجتناب بعضه، وتعلق النهي بالبعض المجتنب لكونه إثما، فالمراد بقوله تعالى: (بَعْضَ الظَّنِ) ذلك البعض المجتنب، فالمعنى إن كثيرا من الظن إثم فهو تعليل للكثير المجتنب لَا للظنون التي بعضها مجتنب وبعضها غير مجتنب، والظن الذي في مصلحة واجبة أو مندوبة غير مراد في الآية وإنما تناولت الآية ظنونا متماثلة في عدم المصلحة الأخروية، وزاد أحدهما بكونه إثما، فالكثير بعض ذلك ظن الذنب لَا مصلحة فيه وهو المعلل بكونه إثما وهو المأمور باجتنابه وما عداه جائز لَا إثم فيه، وفي آخر جامع التنبيه حدثني أشهب، عن نافع بن عمر
قوله تعالى: (وَلَا تَجَسَّسُوا).
ابن عطية: لَا تجسسوا: أي: [لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس واجتزوا بالظواهر الحسنة*]، انتهى.
قال شيخنا: ووقع النظر بين فقهاء الزمان في بعض قضاة المغرب كان يرد الديار على النَّاس يتجسس عليهم فمن رأى عنده أمارة المعصية من شرب الخمر ونحوه عاقبه، فاختلف في ذلك الفقهاء فمنهم من خطأه وجعله من التجسس المنهي عنه، ومنهم من صوب فعله [لغلبة*] الفساد على النَّاس، والصواب فيه أن من اشتهر بذلك فالتجسس عليه مطلوب وواجب، ومن هو مستور الحال فلا يحل التجسس عليه، وهؤلاء الذين يغتابون النَّاس في حقائق الفقهاء لم أرهم كذلك قديما وحديثا، والصواب فيه أنه إن [اغتاب*] من هو في نسبة الشهادة أو القضاء أو الإمامة أو خطة من الخطط الشرعية فلا بأس للفقيه أن يسمع ذلك ويصغي إليه، وحيث تتقرر عنده عدالة ذلك الشخص المقول فيه ذلك أو [جرحه*] فيقدمه في تلك الخطة أو يؤخره عنها سواء كان ذلك الفقيه السامع للغيبة قاضيا أو غيره؛ لأنه قد يستشار معه، ويقلد في الأمور ولا يحل سماع ذلك إلا لمن هو بتلك المنزلة، ومن ليس كذلك إذا سمع ذلك فليخرج ويتركه، وأما غيبة من ليس فيه قابلية الخطة فلا يحل سماعها لأحد بوجه.
ابن عطية: وحكى الزهراوي، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه قال: "الغيبة أشد من الزنا لأن الزاني يتوب الله عليه والذي يغتاب فلا يتاب عليه حتى يستحل"، انتهى.
قال شيخنا: هذا الحديث لم يصح، وقيل: الزنا أشد من الغيبة بثلاثة أوجه:
الأول: إمكان التحلل في الغيبة بخلاف الزنا فإِنه إذا ولدت منه فنسب ذلك الولد ثابت لَا يرتفع.
الثاني: أن الغيبة حق لآدمي والزنا حق لله وحق الله [آكد*].
الثالث: أن الغيبة استثنى منها بعض العلماء بعض الصور فأجازوها بخلاف الزنا فإنه يحرم مطلقا.
قال أبو الحسن: ولم أكن أعرف أنهما نصرانيين قبل ذلك، ثم قال لي: أرأيت هذا الصبي لو سمعك لكان توجهه نفسه، وإنما كان أحب إليك [تجده*] في صحيفتك أولا، فقلت: له صدقت، انتهى.
قال شيخنا ابن عرفة: يحتمل أن يكون معنى الحديث في الطبيبين أنهما استويا في القدر المجزئ منهما المحتمل [للفرض*]، وزاد أحدهما بأمور تكميلية لَا يضر تركها ولا ينقص من معرفة العلاج والمعاناة، فزاد بعلم الطبيعيات، فحينئذ يكون تفضيل أحدهما على الآخر غيبة، وأما حيث يكون المرجوح منهما لَا يحصل المقصود منه في التطبيب، فالظاهر أن التعريف بذلك ليس بغيبة.
قوله تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا).
الهمزة للإنكار على غير المخاطبين؛ لأن المخاطبين لم يفعلوا ذلك، وهذا من [**الخطاب الشعري]. الفخر، وفيه معنى آخر وهو أن [الِاغْتِيَابَ كَأَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ مَيْتًا، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالْمُضْطَرُّ إِذَا وَجَدَ لَحْمَ الشَّاةِ الْمَيِّتَةِ وَلَحَمَ الْآدَمِيِّ الْمَيِّتِ فَلَا يَأْكُلُ لَحْمَ الْآدَمِيِّ، فَكَذَلِكَ الْمُغْتَابُ إِنْ وَجَدَ لِحَاجَتِهِ مَدْفَعًا غَيْرَ الْغِيبَةِ فَلَا يُبَاحُ لَهُ الِاغْتِيَابُ*]، انتهى. لو أريد هذا المعنى لقيل: أيأكل أحدكم، والذي في الآية إنما هو: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ) والمضطر يأكل الميتة وهو كاره لها غير محب لها، فصدق نفي المحبة مطلقا مع الاختيار والاضطرار. الفخر، (مَيْتًا) حَالٌ [عَنِ اللَّحْمِ أَوْ عَنِ*] الْأَخِ.
قلت: وبدليل اختلاف الفقهاء في العظام هل يحلها الحياة أم لَا؟ واختار المازني في الجوزق أنها يحلها الحياة بدليل وجود الإحساس والتالي بها والطب يقتضي ذلك [فحلول الحياة فيها*]؛ دليل على اتصافها بالموت.
ابن عطية: وقال الرماني كراهية هذا اللحم يدعو إليها الطبع، وكراهية الغيبة يدعوا إليها [العقل*] وهو أحق أن يجاب لأنه [بصير عالم*]، والطبع أعمى جاهل، انتهى.
قلت: هذا اعتزال عقل عنه، ابن عطية: لأنه [بناه*] على قاعدة التحسين والتقبيح حكَّم العقل وجعله [يحسن ويقبح*]، ومذهبنا بطلا ذلك.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ).
يحتمل أن يكون ردعا عن الغيبة، كأنه قيل: إن الوصف الذي وقعت به الغيبة في الشخص المخبر عنه معروض للزوال بالتوبة فتنقلب الغيبة مباهتة، ولهذا [صدَّره*] بقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ).
قوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى... (١٣)﴾
ابن عطية: يحتمل أن يريد بالذكر والأنثى آدم وحواء فيكونا شخصين، ويحتمل أن يكونا كليين واقعين على ما [تناسل*] منه كل واحد منا؛ لأن كل إنسان له أب وأم، انتهى.
قيل: يترجح الثاني لأنه حقيقة والأول مجاز، قيل: بل الأول أولى بوجهين:
أحدهما: أنه مفيد إذ [إنه*] إخبار بمغيب بخلاف الثاني.
الوجه الثاني: أن الآية رد على من يريد [التنقص*] بأخيه تقرير كونهما متساويبن في الأبوين، وعلى الثاني قد [... ] أحدهما [... ] أشرف، و (من) للتبعيض كما هي في حديث و"لست من دد ولا دد مني" ومعناه ليست من الغناء واللهو ولا هو مني إبعاد [لنفسه*] عن اللعب والغناء.
قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ).
الزمخشري: والشعب [الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب، وهي: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة، فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع، العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل: خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصى بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة.*]، انتهى.
قلت: أعلاها خزيمة، وأخصها العباس، والقبيلة متقدمة على الشعب في الوجود، والشعب متقدم عليها في التسمية، وبيان ذلك أن أباك وأمك متقدمان عليك في الوجود، ولكن اسم الأبوة والأمومة ما صدق عليهما إلا بعد ما تزايد لها الولد فكانا موجودين دون وصف الأبوة [والأمومة*]، وكذلك القبيلة أول وجود خزيمة لم تكن يقال لها قبيلة ثم لما تزايد لها الأولاد والأحفاد صارت قبيلة، ثم لما كثروا وانتشروا صارت شعبا، ثم لما امتدت فروعهم واشتهروا صارت عمارة، ثم تزايدوا في الكثرة فصارت فصيلة، وإذا كانت القبيلة متقدمة في الوجود، فكان الأصل أن يقدم في الذكر لكن الشعب أهم من القبيلة والقبيلة أخص منه؛ لأن مسمى الشعب وأفراده، وأجاب لكثر من مسمى القبيلة، وتقرر أن المعرفات يبدؤوا فيها بالأعم ثم الأخص.
وقال: (وَجَعَلْنَاكُم) ولم يقل: وخلقناكم؛ لأن الشعب والقبيلة لم يكونا في أصل الخلقة؛ بل هما صفتان عارضتان، فناسب لفظ جعل بمعنى صير.
قوله تعالى: (لِتَعَارَفُوا).
إشارة إلى أن الاختلاف بينهم إنما ليعرف هو بعضهم بعضا لَا لكون بعضهم أشرف وأحسن من بعض.
قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُم عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم).
في المدونة في كتاب النكاح الأول، قيل: [أَرَأَيْتَ إنْ رَضِيَتْ بِعَبْدٍ*] قال: قد قال [مالك*] " [أَهْلُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ*] "، [وقيل*]: إن بعض هؤلاء فَرَّقُوا بَيْنَ عَرَبِيَّةٍ وَمَوْلًى فاستعظم ذلك، وقال: (إِنَّ أَكرَمَكُم عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: والحديث الصحيح الذي فيه، قال: " [فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِي» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَخِيَارُكُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا*"] اعتبر فيه
وقال عياض في التنبيهات: جواب ابن القاسم في المسألة يحتمل، وظاهره الجواز، وكذا أطلق أبو محمد، عن ابن القاسم إجازة ذلك، وذهب بعضهم إلى أن ابن القاسم لَا يخالف غيره في عدم الإجازة، واستدل بمسألة ما إذا رضي الولي بزوج ثم طلقها ثم أرادت مراجعته أنه ليس له منعها إلا أن يحدث فيه فسق ظاهر أو [... ] أو يظهر أنه عبد ولم أسمع العبد [من مالك*].
قلت: لأنه [لم يرضَ*] به أولا إلا ظنا منه أنه حر، وقد منع المراجعة واعتبر رضى الولي.
وقال آخرون: إن رضيَ به أولا فلا كلام له، قال: واستدل أيضا بمسألة تزويج العبد ابنة سيده برضاه ورضاها، واشتراطه الرضى فيها يدل على أن لكل واحد منهما [... ]، ووقع في كلام الفخر هنا: أن سام ابن نوح أبو الأعاجم.
وقال الزمخشري في سورة الصافات: سام أبو العرب وفارس والروم، وحام [أبو السودان*] ويافث أبو الترك، ويأجوج ومأجوج.
قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا... (١٤)﴾
ابن عطية: قال أبو حاتم، عن ابن [عباس*]، سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجلا يقرأ: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ) بغير همزة، فرد عليه بهمز وقطع. انتهى، صوابه أنه قرأها: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ) (١) على صورة ألف الوصل فهي قراءة ورش بنقل الحركة، وقد سئل مالك رحمه الله في التنبيه في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم في كتاب الصلاة عن [النَّبْرِ*] في القرآن في الصلاة، فقال: إني لأكرهه وما يُعجبني [ذلك*]. ابن رشد يريد بالنبر إظهار الهمز، وروي أنه أتى [بأسير*] يُرْعَدُ فقال: ["أدْفُوهُ"*] يريد ["أدفئوه"*] من [الدفء*]، فذهبوا به فقتلوه فَوَدَاهُ من عنده، ولو أراد قتلَه لقال: دافوه أو دافوا عليه، ولهذا المعنى كان جاريا بقرطبة قديما لَا يقرأ الإمام في الصلاة إلا برواية ورش.
قال: ويحتمل أن يريد بالنبر [الترجيع*] الذي يحدث في الصوت معه نبرا، [والتحقيق*] الكثير في [الهمزات*].
قوله تعالى: (آمَنَّا).
"صوابه: يقرأ "قالتَ العُرْبُ"؛ وما نَقَلَهُ فهى قراءةُ ورش بنقل الحركة. اهـ (نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد. ٣/ ٥٥٥).
الزمخشري: الإيمان هو التصديق مع الثقة، وطمأنينة النفس، انتهى، هذه غفلة عن مذهبه؛ لأن مذهب المعتزلة أنه مشروط بالأعمال الصالحة، وأراد بالطمأنينة، كمال التصديق القلبي مع السلامة من [إباية*] النطق بالشهادتين عند التمكن من ذلك.
قال شيخنا ابن عرفة: هو كاف ولا أعلم فيه [خلافا*]، فإِن من آمن وأمكنه النطق فلم ينطق ولم يدعه أحد إلى النطق حتى مات، فهو مؤمن وإن دُعي إلى النطق فامتنع، فهذا هو الكافر العنادي.
وقد قال في العتبية في كتاب الطهارة في سماع موسى، من ابن القاسم في النصراني: يغتسل ويصب السنة في الغسل ثم يُسلم بعد ذلك، أنه لَا يجزئه الغسل، فإِن اغتسل وقد أجمع على الإسلام بقلبه، ثم أسلم بعد ذلك أجزأه. ابن رشد: لأنه إذا اعتقد الإسلام بقلبه فهو مسلم عند الله حقيقة؛ إلا أننا لَا نحكم له بحكم الإسلام حتى يظهره لنا بلسانه لنجري عليه في الدنيا [أحكامه*]، ولو اخترمته المنية قبل أن يتلفظ بكلمة التوحيد بعد أن اعتقدها لكان عند الله مؤمنا، إلا أن الذي لَا يتكلم يصح إيمانه لأنه من أقفال القلوب.
ابن العربي في تأليفه في أصول الدين المسمى بالمتوسط، وفي سراج المريدين، وفي العارضة أجمعوا أنه لَا بد من النطق بالشهادتين بين، وأن الاعتقاد القلبي غير كافٍ من القادر على النطق.
قال شيخنا: ولا أعلم أحدا [حكى*] ذلك غيره، قد قال ابن زيد في الرسالة: وإن الإيمان قول باللسان، وإخلاص بالقلب، وعمل بالجوارح، فقال: يريد الإيمان الكامل والذي عليه السنة أنه يكفى في حصول الإيمان مجرد التصديق بالشهادتين والمعاد بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الجملة وشرط الأكثرون استحضار المعاد مع الشهادتين وما عداه يكفي فيه التصديق الجملي، وأما النطق بالشهادتين هو عمل من الأعمال، ولم يشترط العمل مع الإيمان إلا المعتزلة.
وحكى ابن العربي فيمن آمن وعصى: بترك الفروع قولين لأهل السنة فأكفرهم لا يسميه كافرا، وبعضهم سماه كافرا؛ لكن غير مخلد في النار، وهو عند المعتزلة مخلد فيها، وهذا خلاف لفظي راجع إلى مجرد التسمية، وهذا هو قول [عجيب*] في التكفير
وحكي عن الحكم بن عتيبة: أنه أضاف إليها الزكاة وخطؤه في ذلك، وعلى قول الأكثرين بالفرق بين الإسلام والإيمان لَا إشكال في الآية، وعلى قول الأقلين؛ لأن الإيمان الشرعي مشروط بفعل الطاعات يرجعان إلى شيء واحد، فكيف رد عليهم بأن قيل لهم: قولوا أسلمنا لكن القول مرغوب عنه، والحديث الصحيح في مسلم يرد عليه.
حكى القاضي عياض في المدارك، عن أبي محمد عبد الله بن إسحاق المعروف بابن [التبَّان*]: أنه أخرج رأسه من الطاق ليلة عاشوراء فرأى خلقا كثيرا مجتمعين للتبرك فبكى، فسئل عن موجب بكائه، فقال: والله ما أخشى عليهم من الذنوب لأن مولاهم كريم، وإنما أخشى أن يشكوا في كفر بني عبيد فيدخلوا النار لأن الشك في الكفر كفر، انتهى.
قال شيخنا: وهذا كما قال: ولقد كنت جالسا عند الشيخ الفقيه أبي عبد الله محمد ابن سلامة فوقع جزء رسم له المهلة فجاءه رسول صاحب الجزء بدينار ناقص فرده عليه، وقال: ما هذا التشكك، فقال الرسول: يا سيدي، هذا حق واجب، فأنكر عليه غاية الإنكار وألزمه الكفر باعتقاد وجوب الحرام، أو شكه فيه واستحلاله له، وما زال يؤنبه ويكرر حتى تاب من ذلك الاعتقاد ورجع إلى الحق، انتهى. ونص كلام ابن العربي في المتوسط: ولما كان الإيمان أمرا باطنا لَا يعلمه إلا الباطن جعل الشارع عليه علامات، وقضى الرب سبحانه وتعالى بأن لَا يكون مؤمنا إلا باستخدام اللسان كاستخدام القلب، فمن العلامة الإقرار بالشهادتين، فمن اعتبرها بقلبه وعبر عنها بلسانه فهو مؤمن عند الله وعندنا، ومن أقر بها بلسانه دون قلبه فهو المنافق.
وذهب الكرامية إلى أنه مؤمن حقا، وهو أفسد من أن يتكلم عليه، ومن اعتقد ذلك بقلبه ولم يصدق به لسانه [فمؤمن عندنا*] إذ [حال*] بينه وبين النطق [جهل*] أو عذر وهي مسألة اجتهادية هذا أظهر الأقوال فيها، لأن الأمة أجمعت على أن ذا العذر الذي لا يستطيع النطق مؤمن باعتقاده التسليم، فلو اعتقد الحق وعاند بالامتناع من النطق هو كافر؛ إذ الإجماع منعقد على اشتراط النطق بالشهادتين في العصمة الدنيوية والأخروية جميعا، ومن الطاعات تجرد الاعتقاد عن سجود الصنم أو نحوه]، أو [الاستخفاف*] بحق الرسول أو بشيء من الشريعة.
وقال الشيخ أبو الحسن [عليٌّ*] المتيطي في أواخر تأليفه إذا شهد الشهادتين وقف على شرائع الإسلام وحدوده، فإن أجاب: تم إسلامه، وإن أبى لم يقبل إسلامه وترك على دينه، ولا يعد مرتدا، [**أو أن يوقف على شرائعه حين أسلم، ولا] [... ] ولا صلى حتى رجع عن الإسلام، فالمشهور أن يشدد عليه ويؤدب، فإن تمادى مرتدا ترك ولا يقتل؛ لأن الإسلام قول وعمل، وقاله مالك وابن القاضي وغيرهما، وبه أخذ ابن عبد الحكم وعليه العمل والقضاء.
وقال أصبغ في كتاب ابن حبيب يقتل [... ] بتأكد سواء رجع عن قرب أو بعد، قال: وإن اغتسل بإسلامه ولم يصل إلا أنه حسن إسلامه، ثم رجع فإنه يؤمر بالصلاة فإن صلى وإلا قتل.
وقال ابن القاسم: لَا يقتل حتى يصلي ولو ركعة، فإذا صلى ثم تركها أدب، فإن لم يصل قتل، وإن ثبت أن إسلامه كان عن إكراه أو خوف، فله الرجوع إلا أن يثبت بقاؤه مسلما بعد زوال الخوف والإكراه، فصلى صلاة فما فوقها، وإن أسلم صغيرا ثم رجع قبل البلوغ وعنده توعد وأدب ولا يبلغ به القتل، انتهى.
ابن القطان أجمعوا على أنه إذا نطق بالشهادتين، قال: [أبرأ من*] كل دين خالف هذا الدين أنه يكون مسلما، وإذ ارتد عن ذلك [**متصل] بعد أن يدعى إلى الإيمان، انتهى. وهذا خلاف ما قال المتيطي، وفي التهذيب في كتاب النكاح الثالث ما نصه قال ربيعة في الكافر: ينكح مسلمة ويزعم مسلم فلما خشي الظهور عليه أسلم وقد بنى بها فلها الصداق ويفرق بينهما، وإن رضي أهل المرأة، إن رجع إلى الكفر قتل؛ لأنه بتزوجه يعد ملتزما لشرائع الإسلام، فإن قلت: يلزم على هذا إذا نطق بالشهادتين وصلى ثم ارتد، قلت: التزويج فيه حق للغير، فقد التزم شرائع الإسلام لذلك الغير بخلاف الصلاة.
قوله تعالى: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ).
وقال الفخر: الأول نفي للإيمان الكسبي، والثاني نفي للإيمان الإلهامي الذي يقع بقلب المؤمن من قبل أن يكفر، أي [كيف تقولون*] آمنا وما آمنتم إيمانا كسبيا، ولا يدخل الإيمان في قلوبكم إلهاما من غير فعلكم فلا إيمان لكم.
الزمخشري: ما في (لَمَّا) من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
فأبطله أبو حيان بأن (لَمَّا) لنفي قد فعل فهي تنفي التوقع، ويجاب: بأنها لنفي الفعل الذي كان متوقعا وقوعه لَا لنفي التوقع فلم يزل التوقع ثابتا متعلقا بالمستقبل.
قوله تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ).
قيل: لم أتى بـ (إن) دون [إذا*] مع أن القاعدة أن الفعل إذا كان [محققا*] وقوعه فالمناسب له (إذا)، وإن كان [محققا*] عدمه أتى بـ إن؟ أجيب بوجهين:
الأول: أنه أشار إلى كمال استغناء الله تعالى عنهم.
الثاني: أنه يستحيل عليهم [جعل*] طاعتهم في حيز المحال، وإخراجها عن حيز الإمكان، فضلا عن أن تكون محققة الوقوع، ورد هذا بأن الزمخشري ذكر فيما تقدم أنهم آمنوا بعد ذلك.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا... (١٥)﴾
[ارتاب مطاوع رابه*] فارتاب فهو مرتاب عليه، فالارتياب أخص لأنه لَا يكون إلا مطاوعا، والريبة تكون ابتداء وتكون بعد تقدم سببها، فيرد السؤال وهو أن نفي الريبة أبلغ، ومثله وقع بين الشيخ ابن عبد السلام وابن الحباب، في قول ابن الحاجب ينقسم.
فقال ابن الحباب: انقسم المطاوع لَا يكون إلا فيما يقبل القسمة وما لَا فلا، والجواب: أنه قصد الرفق بالمؤمنين لأن كل واحد منهم لَا يخلوا من خطور ريبة بقلبه، فمنهم من يسأل حتى يهتدي إلى الصواب، ومنهم من يدوم على ذلك حتى توجب تلك الريبة عنده ارتيابا في الإيمان فيكفر، فنفى هذا الثاني دون الأول؛ لأن الأول حصلت عنده الريبة ثم زالت، ولم توجب عنده ارتيابا في الإيمان.
البر ونصفه في البحر، وقال: لئن قدر الله تعالى عليَّ ليعذبني عذابا شديدا، في تكفير
من شك في الصفات قولين، وكذلك حكى الأصوليون في تكفير من جحد الصفات
أصلا قولين متفقين على مسألة اختلف فيها القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين
وهي هل الإيمان بالله مشروعا مشروطا بالايمان بصفاته أم لَا؟ وقدم الأمر إلا على
الأنفس لأنه كذلك في الوجود الخارجي، ولأن الجهاد بالأموال هو الأعم الأغلب لأن
كثير يبدل ماله دون نفسه.
قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).
نظير قوله تعالى في الأعراب: (قُل لَمْ تُؤمِنُوا) أي قل لهم: (أُولَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ) وأنتم الكافرون.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ... (١٦)﴾
لما تضمن الكلام السابق تكذيبهم في قولهم: (آمَنَّا) [تبعه*] ببيان أنهم على
تقدير صدقهم في ذلك فإِخبارهم به لمن هو عالم بضمائر هم تحصيل الحاصل، وهل
هذا يشكل قول الإمام مالك رحمه الله في كتاب الأيمان والنذور من المدونة من حلف
لرجل [إنْ عَلِمَ أَمْرَ كَذَا وَكَذَا لَيُخْبِرَنَّهُ أَوْ لَيُعْلِمَنَّهُ ذَلِكَ فَعَلِمَاهُ جَمِيعًا*] لم يبر حتى يعلمه أو يخبره، مع
أنه تحصيل الحاصل.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ).
تأسيس لتناوله الظرف والمظروف وشموله الموجود والمعدوم شيء.
قوله تعالى: ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ... (١٧)﴾
إن كان [للإضراب*] عن قولهم فهو إبطال، وإن كان حق مقول [للنبي صلى الله عليه
وسلم وعلى آله وسلم*] فهو انتقال.
فإِن قلت: هلا قيل: بل أنت تمن عليهم؛ لأن مقاولتهم مع النبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم؟ قلت: في إسناد المن إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
إيحاش. لأنه مستقبح بخلاف إسناده إلى الله تعالى لأنه خالق الأشياء وفاعلها حقيقة
فلا يصح [نسبة*] الشيء إليه.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨)﴾
* * *