ﰡ
أحدها : أن ناساً كانوا يقولون : لو أنزل فيَّ كذا، لو أنزل فيَّ كذا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
الثاني : أنهم نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه، قاله ابن عباس.
الثالث : معناه ألا يقتاتوا على الله ورسوله، حتى يقضي الله على لسان رسوله، قاله مجاهد.
الرابع : أنها نزلت في قوم ضحوا قبل أن يصلوا مع رسول الله ﷺ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح، قاله الحسن.
الخامس : لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر به الله تعالى ورسوله، قال الزجاج.
وسبب نزولها ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أن النبي ﷺ أنفذ أربعة وعشرين رجلاً من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفئوا إلى المدينة فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا : من بني عامر فقتلوهما، فجاء بنو سليم إلى رسول الله ﷺ وقالوا : إن بيننا وبينك عهداً وقد قتل منا رجلان فوداهما رسول الله ﷺ بمائة بعير ونزلت عليه هذه الآية في قتلة الرجلين.
﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ ﴾ يعني في التقدم المنهي عنه.
﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ﴾ لقولكم ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بفعلكم.
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوتِ النَّبِّيِ ﴾ قيل إن رجلين من الصحابة تماريا عنده فارتفعت أصوتهما، فنزلت هذه الآية، فقال أبو بكر رضي الله عنه عند ذلك : والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار.
﴿ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه الجهر بالصوت. روي أن ثابت بن قيس بن شماس قال : يا نبي الله والله لقد خشيت أن أكون قد هلكت، نهانا الله عن الجهر بالقول وأنا امرؤ جهير الصوت، فقال النبي ﷺ :« يَا ثَابِتَ أَمَأ تَرْضَى أَن تَعِيشَ حَمِيداً وتُقْتَلَ شَهِيداً وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ » ؟ فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة.
الثاني : أن النهي عن هذا الجهر هو المنع من دعائه باسمه أو كنيته كما يدعو بعضهم بعضاً بالاسم والكنية، وهو معنى قوله ﴿ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ﴾، ولكنْ دعاؤه بالنبوة والرسالة كما قال تعالى ﴿ لاَ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً ﴾ [ النور : ٦٣ ].
﴿ أن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن معناه فتحبط أعمالكم.
الثاني : لئلا تحبط أعمالكم.
﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ بحبط أعمالكم.
قوله تعالى :﴿... أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه أخلصها للتقوى، قاله الفراء.
الثاني : معناه اختصها للتقوى، قاله الأخفش.
وفي قوله :﴿ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ وجهان :
أحدهما : لا يعلمون، فعبر عن العلم بالعقل لأنه من نتائجه، قاله ابن بحر.
الثاني : لا يعقلون أفعال العقلاء لتهورهم وقلة أناتهم، وهو محتمل.
والحجرات جمع حجر؛ والحجر جمع حجرة.
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لكان أحسن لأدبهم في طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ.
الثاني : لأطلقت أسراهم بغير فداء، لأن رسول الله ﷺ كان سبى قوماً من بني العنبر، فجاءوا في فداء سبيهم وأسراهم.
قوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتَّمُ ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : لأثمتم، قاله مقاتل.
الثاني : لاتهمتم، قاله الكلبي.
الثالث : لغويتم.
الرابع : لهلكتم.
الخامس : لنالتكم شدة ومشقة.
قال قتادة : هؤلاء أصحاب النبي ﷺ لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا، فأنتم والله أسخف رأياً وأطيش عقولا.
﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : حسنه عندكم، قاله ابن زيد.
الثاني : قاله الحسن. بما وصف من الثواب عليه.
﴿ وَزَيَّنَةُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بما وعد عليه في الدنيا من النصر وفي الآخرة من الثواب، قاله ابن بحر.
الثاني : بالدلالات على صحته.
﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه الكذب خاصة، قاله ابن زيد.
الثاني : كل ما خرج عن الطاعة.
أحدها : ما رواه عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله ﷺ قتال بالسعف والنعال ونحوه فنزلت هذه الآية فيهم. الثاني : ما رواه سعيد عن قتادة أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حق بينهما، فقال أحدهما للآخر : لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته، وأن الآخر دعاه ليحاكمه إلى رسول الله ﷺ فأبى أن يتبعه، فلم يزل بهما الأمر حتى تواقعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال، فنزلت فيهم.
الثالث : ما رواه أسباط عن السدي أن رجلاً من الأنصار كانت له امرأة تدعى أم زيد وأن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها، وأن المرأة بعثت إلى أهلها، فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها، فخرج الرجل فاستعان أهله، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال، فنزلت هذه الآية فيهم.
الرابع : ما حكاه الكلبي ومقاتل والفراء أنها نزلت في رهط عبد الله بن أبي بن سلول من الخزرج ورهط عبد الله بن رواحة من الأوس، وسببه أن النبي ﷺ وقف على حمار له على عبد الله بن أبي، وهو في مجلس قومه، فراث حمار النبي ﷺ، فأمسك عبد الله أنفه وقال : إليك حمارك، فغضب عبد الله بن رواحة، وقال : أتقول هذا لحمار رسول الله ﷺ، فوالله هو أطيب ريحاً منك ومن أبيك، فغضب قومه، وأعان ابن رواحة قومه حتى اقتتلوا بالأيدي والنعال فنزلت هذه الآية فيهم، فأصلح رسول الله ﷺ بينهم.
﴿ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى ﴾ البغي التعدي بالقوة إلى طلب ما ليس بمستحق.
﴿ فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تبغي في التعدي في القتال.
الثاني : في العدول عن الصلح، قاله الفراء.
﴿ حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ترجع إلى الصلح الذي أمر الله به، قاله سعيد بن جبير.
الثاني : ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله فيما لهم وعليهم، قاله قتادة.
﴿ فَإِن فَآءَتْ ﴾ أي رجعت.
﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني بالحق.
الثاني : بكتاب الله، قاله سعيد بن جبير.
﴿ وَأَقْسِطُواْ ﴾ معناه واعدلوا.
ويحتمل وجهين :
أحدهما : اعدلوا في ترك الهوى والممايلة.
الثاني : في ترك العقوبة والمؤاخذة.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ أي العادلين قال أبو مالك : في القول والفعل.
وما أدري وسوف إخال أدري | أقوم آل حصن أم نساء |
أحدهما : أنه استهزاء الغني بالفقير إذا سأله، قاله مجاهد.
الثاني : أنه استهزاء المسلم بمن أعلن فسقه، قاله ابن زيد.
ويحتمل ثالثاً : أنه استهزاء الدهاة بأهل السلامة.
﴿ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ ﴾ عند الله تعالى. ويحتمل : خيراً منهم معتقداً وأسلم باطناً. ﴿ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرُا مِّنْهُنَّ ﴾.
﴿ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ولا تلمزوا أهل دينكم.
الثاني : لا تلمزوا بعضكم بعضاً : واللمز : العيب.
وفي المراد به هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يطعن بعضكم على بعض، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد ابن جبير.
الثاني : لا تختالوا فيخون بعضكم بعضاً، قاله الحسن.
الثالث : لا يلعن بعضكم بعضاً، قاله الضحاك.
﴿ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ﴾ في النبز وجهان :
أحدهما : أنه اللقب الثابت، قاله المبرد.
الثاني : أن النبز القول القبيح، وفيه هنا أربعة أوجه :
أحدها : أنه وضع اللقب المكروه على الرجل ودعاؤه به. قال الشعبي : روي أن وفد بني سليم قدموا على النبي ﷺ وللرجل منهم اسمان وثلاثة فكان يدعوا الرجل بالاسم فيقال إنه يكره هذا، فنزلت هذه الآية.
الثاني : أنه تسمية الرجل بالأعمال السيئة بعد الإسلام... يا فاسق... يا سارق، يا زاني، قاله ابن زيد.
الثالث : أنه يعيره بعد الإسلام بما سلف من شركه، قاله عكرمة.
الرابع : أن يسميه بعد الإسلام باسم دينه قبل الإسلام، لمن أسلم من اليهود... يا يهودي، ومن النصارى... يا نصراني، قاله ابن عباس، والحسن. فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره، وقد وصف النبي ﷺ عدداً من أصحابه بأوصاف فصارت لهم من أجمل الألقاب.
واختلف في من نزلت فيه هذه الآية على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمسان وكان في أذنه ثقل فكان يدنو من رسول الله ﷺ حتى يسمع حديثه، فجاء ذات يوم وقد أخذ الناس مجالسهم فقال :« تَفَسَّحُواْ » ففعلوا إلا رجلاً كان بين يدي النبي ﷺ فإنه لم يفسح وقال :« قَدْ أَصَبْتَ مَوْضِعاً » فنبذه ثابت، بلقب كان لأمه مكروهاً، فنزلت، قاله الكلبي والفراء.
الثاني : أنا نزلت في كعب بن مالك الأنصاري، وكان على المغنم فقال لعبد الله بن أبي حدرد : يا أعرابي، فقال له عبد الله : يا يهودي، فتشاكيا ذلك إلى رسول الله ﷺ، فنزلت فيهما، حكاه مقاتل.
الثالث : أنها نزلت في الذين نادوا رسول الله ﷺ من وراء الحجرات عند استهزائهم بمن مع رسول الله من الفقراء والموالي فنزل ذلك فيهم.
الرابع : أنا نزلت في عائشة وقد عابت أم سلمة.
واختلفوا في الذي عابتها به فقال مقاتل : عابتها بالقصر، وقال غيره : عابتها بلباس تشهرت به.
﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني ظن السوء.
الثاني : أن يتكلم بما ظنه فيكون إثماً، فإن لم يتكلم به لم يكن إثماً، قاله مقاتل بن حيان.
﴿ وَلاَ تَجَسَّسُوا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : هو أن يتبع عثرات المؤمن، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة.
الثاني : هو البحث عم خفي حتى يظهر، قاله الأوزاعي.
وفي التجسس والتحسس وجهان :
أحدهما : أن معناهما واحد، قاله ابن عباس وقرأ الحسن بالحاء. وقال الشاعر :
تجنبت سعدى أن تشيد بذكرها | إذا زرت سعدى الكاشح المتحسس |
والوجه الثاني : أنهما مختلفان. وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أن التجسس بالجيم هو البحث، ومنه قيل رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور وبالحاء هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه.
الثاني : أنه بالحاء أن يطلبه لنفسه وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره. والتجسس أن يجس الأخبار لنفسه ولغيره.
﴿ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ﴾ والغيبة : ذكر العيب بظهر الغيب، قال الحسن : الغيبة ثلاثة كلها في كتاب الله : الغيبة والإفك والبهتان، فأما الغيبة، فأن تقول في أخيك ما هو فيه. وإما الإفك، فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه.
وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله ﷺ عن الغيبة قال :« هُوَ أَن تَقُولَ لأَخِيكَ مَا فِيهِ فَإِن كُنتَ صَادِقَاً فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِن كُنتَ كَاذِباً فَقَدْ بَهَّتَّهُ ».
﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أي كما يحرم أكل لحمه ميتاً يحرم غيبته حياً.
الثاني : كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً كذلك يجب أن يمتنع عن غيبته حياً، قاله قتادة. واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية قال الشاعر :
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم | وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا |
أحدهما : فكرهتم أكل الميتة، كذلك فاكرهوا الغيبة.
الثاني : فكرهتم أن يعلم بكم الناس فاكرهوا غيبة الناس.
ثم قال :﴿ وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَرَفُواْ ﴾ فبين أن الشعوب والقبائل للتعارف لا للافتخار، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الشعوب النسب الأبعد والقبائل النسب الأقرب، قاله مجاهد، وقتادة. وقال الشاعر :
قبائل من شعوب ليس فيهم | كريم قد يعد ولا نجيب |
الثاني : أن الشعوب عرب اليمن من قحطان، والقبيلة ربيعة ومضر وسائر عدنان.
الثالث : أن الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب.
ويحتمل رابعاً : أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب، والقبائل هم المشتركون في الأنساب، قال الشاعر :
وتفرقوا شعباً فكل جزيرة | فيها أمير المؤمنين ومنبر |
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم ﴾ إن أفضلكم، والكرم بالعمل والتقوى لا بالنسب.
أحدها : أنهم أقروا ولم يعملوا، فالإسلام قول والإيمان عمل، قاله الزهري.
الثاني : أنهم أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلمهم أن اسمهم أعراب، قاله ابن عباس.
الثالث : أنهم مَنُّوا على رسول الله صلى الله بإسلامهم فقالوا أسلمنا، لم نقاتلك، فقال الله تعالى لنبيه : قل لهم : لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا خوف السيف، قاله قتادة. لأناهم آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم، فلم يكونوا مؤمنين، وتركوا القتال فصاروا مستسلمين لا مسلمين، فيكون مأخوذاً من الاستسلام لا من الإسلام كما قال الشاعر :
طال النهار على من لا لقاح له... إلا الهدية أو ترك بإسلام
ويكون الإسلام والإيمان في حكم الدين على هذا التأويل واحداً وهو مذهب الفقهاء، لأن كل واحد منهما تصديق وعمل.
وإنما يختلفان من وجهين :
أحدهما : من أصل الاسمين لأن الإيمان مشتق من الأمن، والإسلام مشتق من السلم.
الثاني : أن الإسلام علم لدين محمد ﷺ والإيمان لجميع الأديان، ولذلك امتنع اليهود والنصارى أن يتسموا بالمسلمين، ولم يمتنعوا أن يتسموا بالمؤمنين. قال الفراء : ونزلت هذه الآية في أعراب بني أسد.
قوله تعالى :﴿... لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيئاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لا يمنعكم من ثواب عملكم شيئاً، قال رؤبة :
وليلة ذات سرى سريت... ولم يلتني عن سراها ليت
أي لم يمنعني عن سراها.
الثاني : ولا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً، قال الحطيئة :
أبلغ سراة بني سعد مغلغلة... جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذباً
أي لا نقصاً ولا كذباً.
وفيه قراءتان :﴿ يَلِتْكم ﴾ و ﴿ يألتكم ﴾ وفيها وجهان :
أحدها :[ أنهما ] لغتان معناهما واحد.
الثاني : يألتكم أكثر وأبلغ من يلتكم.
قوله تعالى :﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُم ﴾ الآية. هؤلاء أعراب حول المدينة أظهروا الإسلام خوفاً، وأبطنوا الشرك اعتقاداً فأظهر الله ما أبطنوه وكشف ما كتموه، ودلهم بعلمه بما في السموات والأرض علم علمه بما اعتقدوه، وكانوا قد منوا بإسلامهم على رسول الله ﷺ، وقالوا فضلنا على غيرنا بإسلامنا طوعاً.
فقال تعالى :﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُونُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ ﴾ وهذا صحيح لأنه إن كان إسلامهم حقاً فهو لخلاص أنفسهم فلا مِنَّةَ فيه لهم، وإن كان نفاقاً فهو للدفع عنهم، فالمنة فيه عليهم.
ثم قال :﴿ بِلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أن هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الله أحق أن يمن عليكم أن هداكم للإيمان حتى آمنتم. وتكون المنة هي التحمد بالنعمة.
الثاني : أن الله تعالى ينعم عليكم بهدايته لكم، وتكون المنة هي النعمة. وقد يعبر بالمنة عن النعمة تارة وعن التحمد بها أخرى.
﴿ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ يعني فيما قلتم من الإيمان.