تفسير سورة الحجرات

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مدنية وهي : ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الجبار المتكبر الذي أعز رسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ الرحمن ﴾ الذي من عموم رحمته الآداب للتوصل إلى حسن المآب ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أولي الألباب بالإقبال على ما يوجب لهم دار الثواب.

ولما نوّه سبحانه في القتال بذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم وصرّح في ابتدائها باسمه الشريف وسمى السورة به وملأ سورة الفتح بتعظيمه وختمها باسمه ومدح أتباعه لأجله افتتح هذه السورة باشتراط الأدب معه في القول والفعل فقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : أقرّوا بالإيمان ﴿ لا تقدّموا ﴾ من قدم بمعنى تقدّم أي لا تتقدّموا وحذف المفعول ليعم كل ما يصح تقديمه، فيذهب الوهم كل مذهب ويجوز أن يكون حذفه من غير قصد إليه أصلاً بل يكون النهي موجهاً إلى نفس التقدمة أي لا تتلبسوا بهذا الفعل ﴿ بين يدي الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا يطاق انتقامه ﴿ ورسوله ﴾ أي : الذي عظمته ظاهرة جدّاً لا نهاية له، لأنّ عظمته من عظمته، ولذلك قرن اسمه باسمه واختلف في سبب نزول ذلك. فقال الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة. أي لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك «أن أناساً ذبحوا قبله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح » وقال :«من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء ».
وعن مسروق عن عائشة رضي الله عنها : أنه في النهي عن صوم يوم الشك. أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وعن ابن الزبير :«أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : أمّر القعقاع بن معبد بن زرارة وقال عمر بل أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي. فقال عمر : ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت هذه الآية ». قال ابن الزبير : فكان عمر لا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. وعن ابن أبي مليكة : نزل ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم ﴾ وهذا أنسب. وقال الضحاك : يعني في القتال وشرائع الدين أي لا تقطعوا أمراً دون الله ورسوله. قال الرازي : والأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل افتيات وتقدّم واستبداد بالأمر وإقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورة.
تنبيه : معنى بين يدي الله ورسوله أي : بحضرتهما لأنّ ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه ناظر إليه. وحقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً. كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع، وقد جرت هذه العبارة هنا على ضرب من المجاز، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلاً.
وقيل : المراد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الله تعالى تعظيم له وإشعار بأنه من الله تعالى بمكان يوجب إجلاله ﴿ واتقوا الله ﴾ اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية، فإنّ التقوى مانعة من أن تضيعوا حقه وتخالفوا أمره أو تقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه ﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال ﴿ سميع ﴾ لأقوالكم ﴿ عليم ﴾ بأعمالكم.
ونزل فيمن رفع صوته عند النبيّ عليه الصلاة والسلام :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم ﴾ أي : في شيء من الأشياء عند النطق إذا نطقتم ﴿ فوق صوت النبيّ ﴾ إذا نطق.
تنبيه : في إعادة النداء فوائد : منها أنّ في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كقول لقمان لابنه :﴿ يا بنيّ لا تشرك بالله ﴾ [ لقمان : ١٣ ]، ﴿ يا بنيّ إنها إن تك ﴾ [ لقمان : ١٦ ]، ﴿ يا بنيّ أقم الصلاة ﴾ [ لقمان : ١٧ ]، لأنّ النداء تنبيه للمنادي ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه، فإعادته تفيد تجدد ذلك ومنها أن لا يتوهم أن المخاطب ثانياً غير المخاطب أولاً فإن من الجائز أن يقول القائل : يا زيد افعل كذا وكذا يا عمرو. فإذا أعاد مرة أخرى وقال : يا زيد قل يا زيد قل كذا وقل كذا يعلم أن المخاطب أولاً هو المخاطب ثانياً. ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ليس الثاني تأكيداً للأوّل كقولك : يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق وأنه لا يحسن أن يقول يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم، كما يحسن عند اختلاف المطلوبين ﴿ ولا تجهروا له بالقول ﴾ أي : إذا كلمتموه سواء كان ذلك مثل صوته أو أخفض من صوته، فإنّ ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء ﴿ كجهر بعضكم لبعض ﴾ أي : ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من ذلك فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين غيره.
فإن قيل : ما الفائدة في ولا تجهروا بعد لا ترفعوا ؟.
أجيب : بأن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وصوته والنهي عن الجهر منع من المساواة. أي لا تجهروا له بالقول كما تجهرون لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا ثم حذرهم بقوله تعالى :﴿ أن ﴾ أي : كراهة أن ﴿ تحبط ﴾ أي : تفسد فتسقط ﴿ أعمالكم ﴾ التي هي الأعمال بالحقيقة، وهي الحسنات كلها ﴿ وأنتم لا تشعرون ﴾ أي : بأنها حبطت فإنّ ذلك إذا اجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف واظب عليه، وإذا واظب عليه أو شك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر، روى أنس بن مالك قال :«لما نزل قوله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم ﴾ الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت : نزلت هذه الآية وقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد لنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال بل هو من أهل الجنة ».
وروي لما نزلت هذه الآية «قعد ثابت في الطريق يبكي فمّر به عاصم بن عدي فقال : وما يبكيك يا ثابت. قال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتاً البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقال لها : إذا دخلت بيت فرشي فسدّي عليّ الضبة بمسمار فضربت عليه بمسمار وقال لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال : اذهب فادعه لي فجاءه عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش.
فقال له : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. فقال : اكسر الضبة فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا ثابت فقال : أنا ميت فأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضي أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة. فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله لا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل.
﴿ إنّ الذين يغضون ﴾ أي : يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته قال الطبريّ وأصل الغض الكف في لين ﴿ أصواتهم ﴾ تخشعاً وتخضعاً ورعايةً للأدب وتوقيراً ﴿ عند رسول الله ﴾ أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام، لأنه مبلغ عن الملك الأعظم وعبر بعند الذي للظاهر إشارة إلى أنّ أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب ﴿ أولئك ﴾ أي عالو الرتبة ﴿ الذين امتحن الله ﴾ أي : فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر ﴿ قلوبهم للتقوى ﴾ أي : اختبرها وأخلصها لتظهر منهم من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه. فإنّ الامتحان اختبار بليغ يؤدّي إلى خبر فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب والفضة بالإذابة والتنقية والتخليص من كل غش لأجل إظهار ما بطن فيها من التقوى ليصير معلوماً للخلق في عالم الشهادة، كما كان له سبحانه في عالم الغيب. ﴿ لهم مغفرة ﴾ أي : لهفواتهم وزلاتهم ﴿ وأجر عظيم ﴾ لغضهم وسائر طاعاتهم. والتنكير للتعظيم.
قال أنس : فكنا أي بعد نزول هذه الآية في حق ثابت ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا فلما كان في يوم حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار فانهزمت طائفة منهم فقال : أفّ لهؤلاء، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام فقال له : اعلم أن فلاناً رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عند فرس يستنّ في طوله، وقد وضع على درعي ثوبه فائت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له : إن عليّ ديناً حتى يقضيه عني وفلان من رقيقي عتيق، فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤية فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس : لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه.
واختلف في سبب نزول قوله عز وجل :﴿ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ﴾ فقال ابن عباس رضي الله عنهما :«بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني النضير وأمر عليهم عتبة بن حصن الفزاوي فلما علموا هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عتبة وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً في أهله، فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم. فقالوا : يا محمد فادنا عيالنا. فنزل جبريل عليه السلام فقال إنّ الله تبارك وتعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلاً. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو وهو على دينكم فقالوا : نعم. فقال شبرمة : أنا لا أحكم بينهم وعمي شاهد وهو الأعور بن بسامة فرضوا به فقال الأعور : أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضيت ففادى نصفهم وأعتق نصفهم » فأنزل الله تعالى ﴿ إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات ﴾ جمع حجرة وهي ما تحجره من الأرض بحائط ونحوه. كان كل واحد منهم نادى خلف حجرة لأنهم لم يعلموه في أيها مناداة الأعراب بغلظة وجفاء ﴿ أكثرهم ﴾ أي : المنادي والراضي دون الساكت لعذر ﴿ لا يعقلون ﴾ أي : محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم، فلم يصبروا بل فعلوا معه صلى الله عليه وسلم كما يفعل بعضهم ببعض.
﴿ ولو أنهم ﴾ أي : المنادي والراضي ﴿ صبروا ﴾ أي : حبسوا أنفسهم ومنعوها من مناداتهم والصبر : حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها، وهو حبس فيه شدّة وصبر. ﴿ حتى تخرج إليهم ﴾ من تلقاء نفسك عند فراغ ما أنت فيه مما يهمك من واردات الحق ومصالح الخلق ﴿ لكان ﴾ أي : الصبر ﴿ خيراً لهم ﴾ أي : من استعجالهم إيقاظك في الهاجرة.
ومما لو قرعوا الباب بالأظافر كما كان يفعل غيرهم من الصحابة. قال أبو عثمان : الأدب عند الأكابر يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير في الأولى والعقبى ا. ه فإنهم لو تأدّبوا لربهم لزادهم صلى الله عليه وسلم في الفضل فأعتق جميع سبيهم وأطلقهم بلا فداء. ﴿ والله ﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ غفور ﴾ أي : ستور ذنب من تاب من جهله ﴿ رحيم ﴾ أي : يعاملهم معاملة الراحم، فيسبغ عليهم نعمه. وقال قتادة :«نزلت في ناس من أعراب تميم جاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمّنا شين فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين.
فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا. فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس وكان خطيب النبيّ صلى الله عليه وسلم قم فأجبه فأجابه. وقام شاعر فذكر أبياتاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : أجبه فأجابه. فقام الأقرع بن حابس فقال : إنّ محمداً المولى تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولاً وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يضرّك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم، وكان قد تخلف في ركابهم عمرو بن الأهيم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل فيهم ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ﴾ الآيات الأربع إلى قوله تعالى :﴿ غفور رحيم ﴾ وقال زيد بن أرقم جاء ناس من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكاً نعش في جناحه. فجاؤوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات يا محمد. فأنزل الله تعالى ﴿ إنّ الذين ينادونك ﴾ الآية وقيل : المراد بأكثرهم كلهم. لأنّ العرب تذكر الأكثر وتريد الكل احتراز عن الكذب واحتياطاً في الكلام. لأنّ الكل ما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل.
ثم إنّ الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم وفيه إشارة إلى لطيفة، وهي أنّ الله تعالى يقول مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحساناً لتلك العادة، وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلاً قاطعاً على رضاي بذلك منكم.
تنبيه : جعل الزمخشري أنهم من ولو أنهم فاعلاً بفعل مقدر أي ولو ثبت صبرهم وجعل اسم كان ضميراً عائداً على هذا الفاعل. ولكن مذهب سيبويه أنها في محل رفع بالابتداء وحينئذ يكون اسم كان ضميراً عائداً على صبرهم المفهوم وجرى على الأوّل البيضاوي، وعلى الثاني الجلال المحلى.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم ﴾ أي : في وقت من الأوقات ﴿ فاسق ﴾ أي : خارج من ربقة الديانة ﴿ بنبأ ﴾ أي : خبر يعظم خطبه فيثير شرّاً ﴿ فتبينوا ﴾ صدقه من كذبه. فقال أكثر المفسرين : نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أخو عثمان لأمه. «وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد الوقعة والياً ومصدقاً أي يأخذ منهم الصدقة وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إنهم منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلى. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله فبدا له في الرجوع، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث خالد ابن الوليد خفية في عسكره وأمره أن يخفي عليهم قدومه وقال : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار. ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم آذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر » فنزل قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ﴾ ﴿ أن تصيبوا ﴾ أي : بأذى ﴿ قوماً ﴾ أي : هم مع قوّتهم النافعة لأهل الإسلام برآء مما نسب إليهم ﴿ بجهالة ﴾ أي : مع الجهل بحال استحقاقهم لذلك ﴿ فتصبحوا ﴾ أي : فتصيروا ولكنه عبر بذلك لأن أشنع الندم ما استقبل الإنسان صباحاً وقت انتباهه وفراغه وإقباله على لذاته ﴿ على ما فعلتم ﴾ أي : من إصابتهم ﴿ نادمين ﴾ أي : غريقين في الأسف على ما فات مما يوقع الله تعالى في نفوسكم من أمور ترجف القلوب. وقال الرازي : هذا ضعيف لأنّ الله تعالى لم يقل إني أنزلتها لكذا والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه قال وردت الآية لبيان ذلك حسب غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل تاريخ نزول الآية مما يصدق ذلك ويؤيده أنّ إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ والمخطئ لا يسمى فاسقاً فكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن رتبة الإيمان كقوله تعالى :﴿ إنّ الله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ [ المنافقون : ٦ ] وقوله تعالى :﴿ ففسق عن أمر ربه ﴾ [ الكهف : ٥٠ ] وقوله تعالى :﴿ وأما الذين فسقوا فمأواهم النار ﴾ [ السجدة، ٢٠ ] الآية إلى غير ذلك ا. ه وقال ابن الخازن في تفسيره : وقيل هو عام نزلت لبيان التثبيت وترك الاعتماد على قول الفاسق وهذا أولى من حكم الآية على رجل بعينه.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ أن تصيبوا ﴾ مفعول له كقوله تعالى :﴿ أن تحبط ﴾ [ الحجرات : ٢ ] قال الرازي : معناه على مذهب الكوفيين لئلا تصيبوا وعلى مذهب البصريين كراهة أن تصيبوا وقرأ حمزة والكسائي : بعد التاء المثناة بثاء مثلثة وبعد الباء الموحدة بتاء مثناة فوق من التثبت أي : فتوقفوا إلى أن يتبين لكم الحال. والباقون بعد التاء المثناة بباء موحدة وبعدها ياء تحتية وبعدها نون من البيان.
﴿ واعلموا ﴾ أي : أيتها الأمة ﴿ أن فيكم ﴾ أي : على وجه الاختصاص بكم ويا له من شرف ﴿ رسول الله ﴾ أي : الملك الأعظم المتصف بالجلال والإكرام فلا تقولوا الباطل فإنّ الله يخبره بالحال ﴿ لو يطيعكم ﴾ وهو لا يحب عنتكم ولا شيئاً يشق عليكم ﴿ في كثير من الأمر ﴾ أي : الذي تريدونه على فعله من أنه يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم، وتستصوبونه ليكون فعله معكم فعل المطواع لغيره التابع له فينقلب حينئذ الحال ويصير المتبوع تابعاً، والمطاع طائعاً، ﴿ لعنتم ﴾ أي : لأثمتم دونه وهلكتم. لأنّ من أراد أن يكون أمر الرسول صلى الله عليه وسلم تابعاً لأمره فقد زين له الشيطان الكفران وقوله تعالى :﴿ ولكن الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي يفعل ما يريد ﴿ حبب إليكم الإيمان وزينه ﴾ أي : حسنه ﴿ في قلوبكم ﴾ فلزمتم طاعته وعشقتم متابعته استدراك من جهة المعنى لا من جهة اللفظ لبيان عذرهم، وهو أنه من فرط حبهم للإيمان وكرهتهم للكفر كما قال تعالى :﴿ وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ﴾ حملهم على ذلك ما سمعوا قول الوليد أو بصفة من لم يفعل ذلك منهم إخماداً لفعلهم وتعريضاً بذم من فعل. قال الرازي : هذه الأمور الثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل المزين وهو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان فقوله تعالى ﴿ كرّه إليكم الكفر ﴾ وهو التكذيب وهو في مقابلة التصديق بالجنان وأمّا الفسوق فقيل هو الكذب كما قاله ابن عباس قال تعالى ﴿ إن جاءكم فاسق بنبأ ﴾ فسمى الكاذب فاسقاً وقال البيضاوي : الكفر تغطية نعم الله بالجحود والفسوق الخروج عن القصد والعصيان الامتناع عن الانقياد. وقال بعضهم : الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة والعصيان هو الصغيرة ﴿ أولئك ﴾ أي : الذين أعلى الله تعالى مقاديرهم ﴿ هم الراشدون ﴾ أي : الكاملون في الرشد الثابتون الاستقامة وعلى دينهم وفي تفسير الأصفهاني الرشد هو الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه.
وقوله تعالى :﴿ فضلاً ﴾ مصدر منصوب بفعله المقدّر أي فضل وقيل : تعليل لكرّه أو حبب، وما بينهما اعتراض فهو امتنان عظيم ودرجة عالية ﴿ من الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي بيده كل شيء ﴿ ونعمة ﴾ أي : وعيشاً حسناً ناعماً وكرامة ﴿ والله ﴾ أي : المحيط بصفات الكمال ﴿ عليم ﴾ أي : محيط العلم يعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل. ﴿ حكيم ﴾ أي : بالغ الحكمة، فهو يضع الأشياء في أوفق محالها وأتقنها فكذلك وضع نعمته من الرسالة والإيمان على حسب علمه وحكمته ونزل في قضية.
﴿ وإن طائفتان من المؤمنين ﴾ الآية وهي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ركب حماراً ومرّ علي ابن أبيّ فبال الحمار فسدّ ابن أبيّ أنفه فقال ابن رواحة لبول حماره : أطيب ريحاً من مسكك فكان بين قومهما ضرب بالأيدي والنعال والسعف. وعن أنس قال :«قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبيّ فانطلق إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون معه وهو بأرض سبخة فلما أتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إليك عني فوالله لقد أذاني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار منهم : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها نزلت فيهم ».
ويروى أنهما لما نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض. وعن قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة في حق فقال أحدهما للآخر : لآخذنّ حقي منك عنوة لكثرة عشيرته، وإنّ الآخر دعاه ليحاكمه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال ولم يكن قتال بالسيوف.
وعن سفيان عن السدي قال : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أمّ زيد تحت رجل وكان بينهما وبين زوجها شيء فرقى بها إلى علية وحبسها فبلغ ذلك قومها فجاؤوا وجاء قومه واقتتلوا بالأيدي والنعال فنزلت.
وجمع تعالى قوله سبحانه :﴿ اقتتلوا ﴾ نظراً للمعنى لأنّ كل طائفة جماعة وثنى الضمير في قوله تعالى :﴿ فأصلحوا ﴾ أي : أوقعوا الإصلاح ليحصل الصلح ﴿ بينهما ﴾ نظراً للفظ أي : أصلحوا بينهما بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى ﴿ فإن بغت ﴾ أي : أوقعت الإرادات السيئة الكائنة من النفوس التي لا تأمر بخير ﴿ إحداهما ﴾ أي : الطائفتين ﴿ على الأخرى ﴾ فلم ترجع إلى حكم الله الذي خرجت عنه ولم تقبل الحق ﴿ فقاتلوا ﴾ أي : اطلبوا وأوجدوا مقاتلة ﴿ التي تبغي ﴾ أي توقع الإرادة السيئة وتصرّ عليها وأديموا القتال لها ﴿ حتى تفيء ﴾ أي : ترجع عما صارت إليه من حرّ القطيعة الذي كأنه حرّ الشمس حتى نسخه الظل إلى ما كانت فيه من البرد والخير الذي هو كالظل الذي نسخته الشمس.
وهو معنى قوله تعالى :﴿ إلى أمر الله ﴾ أي : التزام ما أمر به الملك الذي لا يهمل الظالم بل لا بدّ من أن يقاصصه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية كالياء والباقون بتحقيقهما ﴿ فإن فاءت ﴾ أي : رجعت إلى ما كانت عليه من التمسك بأمر الله الذي هو العدل ﴿ فأصلحوا ﴾ أي : أوقعوا الإصلاح ﴿ بينهما بالعدل ﴾ أي : بالإنصاف ولا يحملنكم القتال على الحقد على المقاتلين فتحيفوا ﴿ وأقسطوا ﴾ أي : وأزيلوا القسط بالفتح وهو الجور، بأن تفعلوا القسط بالكسر وهو العدل الذي لا جور فيه في ذلك، وفي جميع أموركم ثم علله ترغيباً فيه بقوله تعالى مؤكداً تنبيهاً على أنه من أعظم ما يتمادح به ورداً على من لعله يقول أنه لا يلزم نفسه الوقوف عنده الأضعف ﴿ إن الله ﴾ أي : الذي بيده النصر والخذلان ﴿ يحب المقسطين ﴾ أي : يفعل مع أهل العدل من الإكرام فعل المحب.
﴿ إنما المؤمنون ﴾ أي : كلهم وإن تباعدت أنسابهم وبلادهم ﴿ إخوة ﴾ أي : في الدين لانتسابهم إلى أصل واحد هو الإيمان ولما كانت الأخوة داعية ولا بدّ إلى الإصلاح تسبب عنها قوله تعالى :﴿ فأصلحوا بين أخويكم ﴾ كما تصلحون بين أخويكم من النسب ووضع الظاهر موضع الضمير مضافاً إلى المأمور مبالغة في التقرير والتحضيض وخص الاثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهما الشقاق. وعن أبي عثمان الحيري : أنّ أخوة الدين أثبت من أخوة النسب فإنّ أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب ﴿ واتقوا الله ﴾ أي : الملك الأعظم في مخالفة حكمه والإهمال فيه ﴿ لعلكم ترحمون ﴾ أي : لتكونوا إذا فعلتم ذلك على رجاء عند أنفسكم أن يكرمكم الذي لا قادر على الإكرام في الحقيقة غيره بأنواع الكرامات كما رحمتم إخوانكم بإكرامكم عن إفساد ذات البين.
وعن الزهري عن سالم عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ».
تنبيه : في هاتين الآيتين دليل على أنّ البغي لا يزيل اسم الإيمان لأنّ الله تعالى سماهم أخوة مؤمنين مع كونهم باغين يدل عليه ما روى عن عليّ بن أبي طالب سئل وهو القدوة في قتال أهل البغي عن أهل الجمل وصفين أمشركون. فقال : لا من الشرك فرّوا فقيل : أمنافقون هم فقال : لا إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل : فما حالهم قال : إخواننا بغوا علينا.
والباغي في الشرع هو الخارج عن الإمام العدل بتأويل محتمل وشوكة لهم ومطاع تحصل به قوّة الشوكة، وإن لم يكن لهم إمام والحكم فيهم أن يبعث إليهم الإمام أميناً فطناً ناصحاً ينصحهم ما ينقمون فإن ذكروا مظلمة أو شبهة أزالها وإن أصروا نصحهم ثم أعلمهم بالقتال، فإن استمهلوا اجتهد وفعل ما رآه صواباً.
والحكم في قتالهم أن لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ويرد سلاحهم وخيلهم إليهم إذا انقضت الحرب وأمنت عائلتهم ولا يستعمل في قتال إلا لضرورة ولا يقاتلون بعظيم كنار ومنجنيق إلا لضرورة، ولو أقاموا حدّ أو أخذوا زكاة وجزية وخراجاً وفرّقوا أسهم المرتزقة على جندهم صح ما فعلوه، وما أتلفه باغ على عادل وعكسه إن كان بسبب قتال فلا ضمان على واحد منهما، وإلا فعلى المتلف الضمان. قال ابن سهل : كانت في تلك الفتنة دماء يغرق في بعضها القاتل والمقتول وأتلف فيها أموال ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم وجرى الحكم عليهم فما رأيته اقتص من أحد ولا أغرم مالاً أتلفه ولو أظهر قوم رأي الخوارج كترك الجماعات وتكفير ذي كبيرة ولم يقاتلوا فلا نتعرّض لهم.
روي أنّ علياً سمع رجلاً يقول في ناحية المسجد. لا حكم إلا لله تعالى. فقال عليّ رضي الله عنه : كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاثة لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم الفيء ما دام أيديكم مع أيدينا ولا نبدأكم بقتال فإن قاتلوا فحكمهم حكم قطاع الطريق، وتفريعات أحكام البغاة مذكورة في الفقه. وفي هذا القدر كفاية.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : أوقعوا الإقرار بالتصديق ﴿ لا يسخر ﴾ أي : لا يهزأ والسخرية : هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته ﴿ قوم ﴾ أي : ناس فيهم قوة المحاولة وهم الرجال وفي التعبير بذلك تنبيه على قيام الإنسان على نفسه وكفها عما تريده من النقائص منكراً لما أعطاه الله تعالى من القوّة ﴿ من قوم ﴾ أي : من رجال، فإنّ ذلك يوجب الشرّ لأنّ أضعف الناس إذا استهزئ به قوي لما يثور عنده من حظ النفس.
فقال ابن عباس :«نزلت في ثابت بن قيس كان في أذنه وقر أي ثقل فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر فلما انصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم فضنّ أي بخل كل رجل منهم بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلساً قام قائماً فلما فرغ ثابت من صلاته أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخطى رقاب الناس ويقول تفسحوا تفسحوا فجعلوا يتفسحون حتى انتهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال له : تفسح فقال الرجل : قد أصبت مجلساً فاجلس. فجلس ثابت خلفه مغضباً فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل فقال : من هذا. فقال له : أنا فلان فقال له ثابت : ابن فلانة ذكر أمّاً له كان يعير بها في الجاهلية فنكس الرجل رأسه فاستحيا فأنزل الله تعالى هذه الآية ».
وقال الضحاك نزلت في وفد تميم كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل عمار وخبيب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوا من رثاثة حالهم. ومعنى الآية : لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم ثم علل النهي بقوله تعالى :﴿ عسى ﴾ أي : لأنه جدير وخليق لهم ﴿ أن يكونوا ﴾ أي : المستهزأ بهم ﴿ خيراً منهم ﴾ فينقلب الأمر عليهم وتكون لهم سوء العاقبة. قال ابن مسعود : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب خشيت أن أحوّل كلباً وقال القشيري : ما استصغر أحد أحداً إلا سلط عليه ولا ينبغي أن يغتر بظاهر أحوال الناس، فإنّ في الزوايا خبايا. والحق سبحانه يستر أولياءه في حجاب الظنة وكذا في الخبر " كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ".
﴿ ولا ﴾ يسخر ﴿ نساء من نساء ﴾ ثم علل النهي بقوله تعالى :﴿ عسى ﴾ أي : ينبغي أن يخفن من ﴿ أن يكن ﴾ أي : المسخور بهنّ ﴿ خيراً منهنّ ﴾ أي الساخرات. روي أنها نزلت في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم عيرن أمّ سلمة بالقصر. وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب قال لها النساء يهودية بنت يهوديين.
تنبيهان : أحدهما : قال الرازي : القوم اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم. والقائم بالأمور هم الرجال وعلى هذا ففي أفراد الرجال والنساء. فائدة : وهي أنّ عدم الالتفات والاستحقار أن يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسبة إلى الرجال لأنّ المرأة في نفسها ضعيفة، قال صلى الله عليه وسلم «النساء لحم على وضم » فالمرأة لا يوجد منها استحقار لرجل لأنها مضطرّة إليه في رفع حوائجها، وأمّا الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فإنه يوجد فيهنّ ذلك.
الثاني : في حكمه قوله تعالى :﴿ عسى أن يكونوا خيراً منهم ﴾ هي أنهم إذا وجدوا منهم التكبر المقتضى إلى إحباط العمل جعل نفسه خيراً منهم كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم، وقال : أنا خير منه فصار هو خيراً منه. ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى ﴿ يكونوا ﴾ أي يصيروا فإنّ من استحقر إنساناً لفقره أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويقوى الضعيف ﴿ ولا تلمزوا ﴾ أي تعيبوا على وجه الظهور الخفية ﴿ أنفسكم ﴾ بأن يعيب بعضكم بعضاً بإشارة أو نحوها فكيف إذا كان على وجه فإنّكم في التواصل والتراحم كنفس واحدة أو يعمل الإنسان ما يعاب به فيكون الإنسان قد لمز نفسه أو يلمز غيره فيكون لمزه له سبباً لأن يبحث عن عيوبه فيلمزه فيكون هو الذي لمز نفسه ﴿ ولا تنابزوا بالألقاب ﴾ أي : ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء فإنّ النبز يختص بلقب السوء. واختلف في هذا اللقب فقال عكرمة هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق يا كافر. وقال الحسن : كان اليهوديّ والنصرانيّ يسلم فيقال له بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك. وقال عطاء : هو أن يقول الرجل لأخيه يا حمار يا خنزير
وعن ابن عباس : التنابز بالألقاب : هو أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله والحاصل أنه يحرم تلقيب الشخص بما يكره وإن كان فيه كالأعور والأعمش ويجوز ذكره بنية التعريف لمن لا يعرفه إلا به وأمّا ألقاب المدح فنعما هي فقد لقب الصديق بعتيق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بن الوليد بسيف الله، ومازالت الألقاب الحسنة في الجاهلية والإسلام.
قال الزمخشري : إلا ما أحدثه الناس في زماننا من التوسع حتى لقبوا السفلة بالألقاب العلية وهب أنّ العذر مبسوط فما أقول لمن ليس من الدين في قبيل ولا دبير بفلان الدين لعمري والله إنها الغصة التي لا تساغ. ومعنى اللقب : اسم زائد على الاسم يشعر بضعة المسمى أو رفعته والمقصود به الشهرة فما كان مكروهاً نهى عنه، ويسنّ أن يكنى أهل الفضل الرجال والنساء وإن لم يكن لهم ولد وأمّا التكني بأبي القاسم فهو حرام.
وقيل : إنما يحرم في زمانه صلى الله عليه وسلم فقط وقيل : إنما يحرم على من اسمه محمد ولا يكنى كافر ولا فاسق ولا مبتدع لأنّ الكنية للتكرمة وليسوا من أهلها بل أمرنا بالإغلاظ عليهم إلا لخوف فتنة من ذكره باسمه أو تعريفه كما قيل به في قوله تعالى :﴿ تبت يد أبي لهب ﴾ [ المسد : ١ ] واسمه عبد العزى ولا بأس بكنية الصغير. ويسنّ أن يكنى من له أولاد بأكبر أولاده ويسنّ لولد الشخص وتلميذه وغلامه أن لا يسميه باسمه والأدب أن لا يكني الشخص نفسه في كتاب أو غيره إلا إن كان لا يعرف بغيرها أو كانت أشهر من الاسم.
تنبيه : ذكر في الآية ثلاثة أمور مرتبة بعضها دون بعض كما علم من تقريرها ﴿ بئس الاسم ﴾ أي المذكور من السخرية واللمز والتنابز. وقوله تعالى :﴿ الفسوق ﴾ أي : الخروج من ربقة الدين ﴿ بعد الإيمان ﴾ بدل من الاسم لإفادة أنه فسق لتكرّره عادة. وروي أنّ الآية " نزلت في صفية بنت حيي أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال : هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم " ﴿ ومن لم يتب ﴾ أي : يرجع عما نهى الله عنه فخفف على نفسه ما كان شدّد عليها ﴿ فأولئك ﴾ أي : البعداء من الله تعالى ﴿ هم الظالمون ﴾ أي الغريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها. وأدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء. واختلف عن خلاد والباقون بالإظهار.
﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : اعترفوا بالإيمان وإن كانوا في أوّل مراتبه ﴿ اجتنبوا ﴾ أي : كلفوا أنفسكم أن تتركوا وتبعدوا وتجعلوا في جانب بعيد عنكم ﴿ كثيراً من الظنّ ﴾ أي : في الناس وغيرهم واحتاطوا في كل ظنّ ولا تتمادوا معه حتى تجزموا بسببه.
تنبيه : أفهم ذلك أنّ من الظنّ ما لا يجتنب كما في الاجتهاد حيث لا قاطع وكما في ظنّ الخير في الله تعالى : ففي الحديث «أنا عند ظنّ عبدي بي فلا يظنّ بي إلا خيراً » بل قد يجب كما في قوله تعالى :﴿ لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ﴾ [ النور : ١٢ ] وقيل : نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما. «وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدّم لهما إلى المنزل فيهيئ لهما طعامهما وشرابهما فضمّ سلمان الفارسيّ إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدّم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فلم يهيئ لهما فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئاً، قال : لا غلبتني عينايّ، قالا له : انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاماً فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له : إن كان عندك فضل من طعام فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رحله فأتاه فقال : ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا : كان عند أسامة ولكن بخل فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئاً فلما رجع قالا له : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما قالا والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحماً. قال ظلتم تأكلون لحم أسامة وسلمان فأنزل الله عز وجلّ ﴿ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ﴾.
وقوله تعالى :﴿ إن بعض الظنّ إثم ﴾ تعليل مستأنف للأمر قال صلى الله عليه وسلم «إياكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث » والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه وجعل الزمخشري همزه بدلاً من واو قال : لأنه يتم الأعمال أي يكسرها قال ابن عادل : وهذا غيره مسلم بل تلك مادّة أخرى.
قال سفيان الثوري : الظنّ ظنان : أحدهما : إثم وهو أن يظنّ ويتكلم به والآخر ليس بإثم وهو أن يظنّ ولا يتكلم به. وقوله تعالى ﴿ ولا تجسسوا ﴾ حذف منه إحدى التاءين أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعائبهم بالبحث عنها قال صلى الله عليه وسلم «لا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا و لا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً » وقال عليه الصلاة والسلام :«يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله » ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك. وقيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً فقال : إنا نهينا عن التجسس وإن يظهر لنا شيئاً نأخذه به.
تنبيه : قرأ ولا تنابزوا ولا تجسسوا ولتعارفوا البزي في الوصل بتشديد التاء والباقون بغير تشديد.
ولما كانت الغيبة أعمّ من التجسس قال :﴿ ولا يغتب ﴾ أي : ولا يتعمد أن يذكر ﴿ بعضكم بعضاً ﴾ أي : في غيبته بما يكره. قال القشيري : وليس تحصل الغيبة للخلق إلا من الغيبة عن الحق وقال أبو حيان : قال ابن عباس : الغيبة إدام كلاب الناس.
وعن أبي هريرة «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقوله قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته » وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا لا نأكل حتى يطعم ولا نرحل حتى يرحل فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «اغتبتموه فقالوا : إنما حدّثنا بما فيه قال : حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه » وفي هذا إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن فإنّ تمزيق عرض الإنسان كتمزيق أديمه ولحمه كما قال تعالى :﴿ أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ﴾ وقرأ ﴿ ميتاً ﴾ نافع بتشديد الياء والباقون بالسكون.
ولما كان الجواب قطعاً لا يحب أحد ذلك أشار إليه بما سببه من قوله تعالى :﴿ فكرهتموه ﴾ أي : بسبب ما ذكر طبعاً فأولى أن تكرهوا الغيبة المحرّمة عقلاً لأنّ داعي العقل بصير عالم وداعي الطبع أعمى جاهل.
تنبيه : في هذا التشبيه إشارة إلى أنّ عرض الإنسان كدمه ولحمه لأنّ الإنسان يتألم قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم وهذا من باب القياس الظاهر لأنّ عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى، لأنّ ذلك أشدّ ألماً وقوله تعالى لحم أخيه آكد في المنع لأنّ العدوّ يحمله الغضب على مضغ لحم العدوّ وفي قوله تعالى :﴿ ميتاً ﴾ إشارة إلى دفع وهم وهو أن يقال : إنّ الشتم في الوجه يؤلم فيحرم وأمّا الاغتياب فلا اطلاع عليه فلا يؤلم، فيقال لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلم ومع هذا هو في غاية القبح كما أنه لو اطلع عليه لتألم فإنّ الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه وفيه معنى لطيف وهو أنّ الاغتياب أكل لحم الآدمي ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضطرّ بقدر الحاجة والمضطرّ إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدمي فكذلك المغتاب إذا وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب. قال مجاهد : لما قيل لهم أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً قالوا : لا قيل فكرهتموه أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً. قال الزجاج : تأويله أنّ ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحس بذلك.
قال الرازي : وفي ضمير فكرهتموه وجوه : أظهرها : أن يعود إلى الأكل. وثانيها : أن يعود إلى اللحم أي : فكرهتم اللحم. وثالثها : أن يعود إلى الميت في قوله تعالى ميتاً تقديره أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله ميتاً ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير يعني الميتة إن أكلت في الندرة تستطاب نادراً ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً. فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة وذلك يحقق الكراهة ويوجب النفرة إلى حدّ لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربه بحيث يأكله ففيه إذاً كراهية شديدة. وكذلك حال الغيبة.
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :«لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافير من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم » وقال ميمون بن سنان : بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول لي كل هذا قلت يا عبد الله ولم آكل هذا قال إنك اغتبت عبد فلان قلت والله ما ذكرت فيه خيراً ولا شرّاً قال ولكن سمعت ورضيت فكان ميمون لا يغتاب أحد ولا يدع أحداً يغتاب عنده.
وقوله تعالى :﴿ واتقوا الله ﴾ أي : اجعلوا بينكم وبين الملك الأعظم وقاية بطاعته معطوف على ما تقدّم من الأوامر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا الله ﴿ إن الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ توّاب ﴾ أي : مكرّر للتوبة وهي الرجوع عن المعصية إلى ما كان قبلها من معاملة التائب وإن كرّر الذنب فلا ييأس أحد وإن كثرت ذنوبه وعظمت ﴿ رحيم ﴾ يزيده على ذلك بأن يكرمه غاية الإكرام.
تنبيه : ختم سبحانه وتعالى الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولى :﴿ ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ﴾ وقال هاهنا ﴿ إنّ الله تواب رحيم ﴾ لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله تعالى :﴿ لا يسخر قوم من قوم ﴾ ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء بالأمر في قوله تعالى :﴿ اجتنبوا كثيراً ﴾ فذكر الإثبات الذي هو قريب من الأمر.
وقوله تعالى :﴿ يا أيها الناس ﴾ أي : كافة المؤمن وغيره ﴿ إنا ﴾ أي : على مالنا من العظمة ﴿ خلقناكم ﴾ أي : أوجدناكم من العدم على ما أنتم عليه من المقادير﴿ من ذكر وأنثى ﴾ الآية مبين ومقرّر لما تقدّم، لأنّ السخرية من الغير وغيبته إن كان ذلك بسبب غير الدين والإيمان فلا يجوز لأنّ الناس بعمومهم كافرهم ومؤمنهم يشتركون فيما يفتخر به المفتخر، لأنّ التكبر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنياً والمؤمن فقيراً وبالعكس.
وإن كان بسبب النسب فالكافر قد يكون نسيباً والمؤمن مولى وعبداً أسود وبالعكس، فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون ومتقاربون ولا يؤثر شيء من ذلك مع عدم التقوى. كما قال تعالى :﴿ إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ فقوله تعالى :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾ أي آدم وحوّاء فأنتم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة.
قال ابن عباس :«نزلت في ثابت بن قيس. وقوله للرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم من الذاكر فلانة. قال ثابت : أنا يا رسول الله فقال : انظر في وجوه القوم فنظر فقال : ما رأيت يا ثابت قال : رأيت أبيض وأحمر وأسود. قال : فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى » فنزلت هذه الآية ونزل في الذي لم يفسح له ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس ﴾ [ المجادلة : ١١ ] الآية وقال قتادة :«لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد أغبر من هذا الغراب الأسود مؤذناً. وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئاً يغيره وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبره به رب العالمين رب السماوات فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قالوه فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى في هذه الآية » وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء.
تنبيه : الحكمة في اختيار النسب مع أنّ غيره من جملة أسباب التفاخر ولم يذكر الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لأنّ النسب أعلاها لأنّ المال قد يحصل للفقير فيبطل افتخار الغني المفتخر به عليه والسمن والحسن وغير ذلك لا يدوم. والنسب ثابت مستمر غير مقدوراً التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله تعالى للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بطريق الأولى فإن قيل : إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى :﴿ إنا خلقناكم ﴾ أجيب : بأنّ فائدته أنّ كل شيء يترجح على غيره فأمّا أن يترجح بأمر فيه يلحقه ويرتب عليه بعد وجوده. وأمّا أن يترجح عليه بأمر قبله فالذي بعده كالحسن والقوّة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء.
وأمّا الذي قبله فأما راجع إلى أصله الذي وجد فيه أو إلى الفاعل الذي أوجده فالأول كقولك هذا من نحاس وهذا من فضة، والثاني كقولك هذا عمل فلان وهذا عمل فلان. فقال تعالى : لا ترجيح بالنسبة إلى فاعلكم لأنكم كلكم خلق الله تعالى فإن كان عناكم تفاوت فهو بأمور تحصل لكم بعد وجودكم وأشرفها التقوى. ولما كان تفصيلهم إلى فرق كل منها يعرف به أمراً باهراً عبر فيه بنون العظمة فقال تعالى :﴿ وجعلناكم ﴾ أي بعظمتنا ﴿ شعوباً ﴾ جمع شعب بفتح الشين وهو أعلى طبقات الإنسان مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج ﴿ وقبائل ﴾ أي : تحت الشعوب وذلك أنّ طبقات النسل التي عليها العرب سبعة الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة والعشيرة وكل واحد يدخل فيما قبله فالقبائل تحت الشعوب والعمائر تحت القبائل والبطون تحت العمائر، والأفخاذ تحت البطون، والفصائل تحت الأفخاذ، والعشائر تحت الفصائل خزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصيّ بطن وعبد مناف فخذ وهاشم فصيلة والعباس عشيرة. قال البغوي : وليس بعد العشيرة حي يوصف ا. ه. وسمى الشعب شعباً لتشعب القبائل منه واجتماعهم به كتشعب أغصان الشجرة والشعب من الأضداد يقال شعب أي : جمع ومنه شعب القدح وشعب أي : فرّق والقبائل واحدها قبيلة سميت بذلك لتقابلها شبهت بقبائل الرأس وهي قطع متقابلة. وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل وقيل : الشعب النسب الأبعد والقبيلة الأقرب والنسبة إلى الشعب شعوبية بفتح الشين وهم جيل يبغضون العرب والعمائر واحدتها : عمارة بفتح العين والبطون واحدتها : بطن. والفصائل : واحدتها فصيلة. والعشائر : واحدتها : عشيرة. وقال أبو روق الشعوب الذين لا يعتزون إلى أحد بل ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم.
ثم ذكر تعالى علة الشعب بقوله تعالى :﴿ لتعارفوا ﴾ أي : ليعرف الإنسان من يقاربه في النسب ليصل من رحمه ما يحق له لا لتفاخروا ﴿ إن أكرمكم ﴾ أي المتفاخرون ﴿ عند الله ﴾ أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه ولا كريم إلا من أخبركم بكرمه ولا كمال لأحد سواه ﴿ أتقاكم ﴾ أي : أرفعكم منزلة عند الله أتقاكم. قال قتادة : في هذه الآية أكرم الكرم التقوى وألأم اللؤم الفجور وقال عليه الصلاة والسلام «الحسب المال والكرم التقوى » وقال ابن عباس «كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى » وعن ابن عمر «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه وهو عصا محنية الرأس فلما خرج لم يجد مناخاً فنزل على أيدي الرجال ثم قام فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه فقال :" الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية يعني كبرها وفخرها الناس رجل تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم تلا ﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾ ثم قال أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم " وعن أبي هريرة قال «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ الناس أكرم. قال : أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال : فأكرم الناس يوسف نبيّ الله بن نبيّ الله بن نبيّ الله بن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني قالوا : نعم. قال : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا » بضم القاف على المشهور وحكى كسره ومعناه إذا تعلموا أحكام الشرع.
وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم » قال الرازي في المراد بالآية : وجهان : الأول أنّ التقوى تفيد الإكرام. الثاني : أنّ الإكرام يورث التقوى كما يقال المخلصون على خطر والأول أشهر، والثاني أظهر فإن قيل : التقوى من الأعمال والعلم أشرف لقوله صلى الله عليه وسلم «لفقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد » أجيب : بأنّ التقوى ثمرة العلم لقوله تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ [ فاطر : ٢٨ ] فلا تقوى إلا للعالم فالتقي العالم أثمر علمه، والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمر لها، لكن الشجرة المثمرة أشرف من التي لا تثمر، بل هي حطب. قال الحسن البصري : إنما الفقيه العامل بعلمه أي وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين » ومن قوله عز من قائل ﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ﴾ [ الزمر : ٩ ] فإن قيل : خطاب الناس بقوله تعالى ﴿ أكرمكم ﴾ يقتضي اشتراك الكل في الإكرام ولا كرامة لكافر فإنه أضلّ من الأنعام أجيب بأنّ ذلك غير لازم مع أنه حاصل لدليل قوله تعالى :﴿ ولقد كرمنا بني آدم ﴾ [ الإسراء : ٧٠ ] لأنّ كل من خلق فقد اعترف بربه ثم من استمرّ عليه وزاد زيد في كرامته ومن رجع عنه أزيل عنه أكثر الكرامة ﴿ إن الله ﴾ أي : المحيط بكل شيء علماً وقدرة ﴿ عليم ﴾ أي : بالغ العلم بظواهركم يعلم أنسابكم ﴿ خبير ﴾ أي : محيط العلم ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم فجعلوا التقوى رداءكم.
ولما قال تعالى :﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ والأتقى لا يكون إلا بعد حصول التقوى وأصله الإيمان والاتقاء من الشرك ﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم ﴾.
﴿ قالت الأعراب ﴾ أي : أهل البادية من بني أسد وغيرهم الذين هم معدن الغلظة والجفاء ﴿ آمنا ﴾ أي : بجميع ما جئت به فامتثلنا ما أمرنا به في هذه السورة ولنا النسب الخالص فنحن أشرف من غيرنا من أهل المدر ﴿ قل ﴾ يا أشرف الخلق تكذيباً لهم مع مراعاة الأدب في عدم التصريح بالتكذيب ﴿ لم تؤمنوا ﴾ أي : لم تصدّق قلوبكم لأنكم لو آمنتم لم تمنوا لأنّ الإيمان التصديق بجميع ما لله من الكمال الذي منه أنه لولا منه بالهداية لم يحصل الإيمان فله ولرسوله الذي كان ذلك على يديه المنّ والفضل ﴿ ولكن قولوا أسلمنا ﴾ أي : أظهرنا الانقياد في الظاهر للأحكام الظاهرة وأمنا من أن نكون حرباً للمؤمنين وعوناً للمشركين، فأخبر الله تعالى أنّ حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب وإن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص فالإسلام هو الدخول في السلم كما يقال أشتى إذا دخل في الشتاء وأصاف إذا دخل في الصيف وأربع إذا دخل في الربيع فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان كقوله عز وجل لإبراهيم ﴿ أسلم قال أسلمت لرب العالمين ﴾ [ البقرة : ١٣١ ] ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب وذلك قوله تعالى :﴿ ولكن قولوا أسلمنا ﴾ ﴿ ولما يدخل الإيمان ﴾ أي : المعرفة التامّة لم تدخل إلى هذا الوقت ﴿ في قلوبكم ﴾ فلا يعدّ إقرار اللسان إيماناً إلا بمواطأة القلب قال ابن برجان : فعموم الناس وأكثر أهل الغفلة مسلمون غير مؤمنين.
وعن سعد بن أبي وقاص «قال أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس فيهم فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً منهم لم يعطه وهو أعجبهم إليّ فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته. فقلت : مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمناً. فقال صلى الله عليه وسلم أو مسلماً ذكر ذلك سعد ثلاثاً وأجابه بمثل ذلك ثم قال : إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه خشية أن يكب في النار على وجهه ».
وقال الرازي : المسلم والمؤمن واحد عند أهل السنة. فنقول الفرق بين العام والخاص : أنّ الإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان فالإسلام أعمّ لكن العامّ في صورة الخاص متحد مع الخاص، ولا يكون أمراً آخر غيره. مثاله الحيوان في صورة الإنسان أمر لا ينفك عن الإنسان فلا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيواناً ولا يكون إنساناً فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود، وكذلك المؤمن والمسلم، وسيأتي زيادة على ذلك في الذاريات إن شاء الله تعالى.
وقال الرازي : في الآية إشارة إلى بيان حال المؤلفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم ضعيفاً فيقال لهم : لم تؤمنوا لأنّ الإيمان إيقان وذلك بعد لم يدخل في قلوبهم وسيدخل بإطلاعهم على محاسن الإسلام انتهى. بل الإيمان دخل في قلوبهم ولكن لم يتألفوا بأهل الإسلام ؟.
تنبيه : التعبير بلما يفهم أنهم آمنوا بعد ذلك ويجوز أن يكون المراد بهذا النفي نفي التمكن في القلب لا نفي مطلق الدخول بدليل إنما المؤمنون دون إنما الذين آمنوا ﴿ وإن تطيعوا الله ﴾ أي : الملك الذي من خالفه لم يأمن عقوبته ﴿ ورسوله ﴾ أي : الذي طاعته من طاعته على ما أنتم عليه من الأمر الظاهر فتؤمن قلوبكم ﴿ لا يلتكم ﴾ أي : لا ينقصكم ﴿ من أعمالكم شيئاً ﴾ بل يعطيكم ما يليق به من الجزاء لأنّ من حمل إلى ملك فاكهة طيبة قدر ثمنها في السوق ردهم فأعطاه الملك درهماً انتسب الملك إلى البخل فهو يعطي ما تتوقعون بأعمالكم وزيادة من غير نقص فلا حاجة إلى إخباركم عن إيمانكم بغير ما يدلّ عليه من الأقوال والأفعال.
وقرأ الدوري : عن أبي عمرو بعد الياء التحتية بهمزة ساكنة وأبدلها السوسي ألفاً والباقون بغير همز ولا ألف. ولما كان الإنسان مبنياً على النقص وإن اجتهد غاية اجتهاده قال الله تعالى :﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ غفور ﴾ أي : ستور للهفوات والزلات لمن تاب وصحت نيته ولغيره إن شاء فلا عتاب ولا عقاب ﴿ رحيم ﴾ أي : يزيد على الستر عظيم الإكرام.
ثم بين تعالى لهم حقيقة الإيمان بقوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون ﴾ أي العريقون في الإيمان الذي هو حياة القلوب. قال القشيري : والقلوب لا تحيا إلا بعد ذبح النفوس والنفوس لا تموت ولكنها تعيش ﴿ الذين آمنوا ﴾ أي : صدّقوا معترفين ﴿ بالله ﴾ معتقدين بجميع ماله من صفات الكمال ﴿ ورسوله ﴾ شاهدين برسالته وهذا الإثبات هنا يدل على أن المنفي فيما قبل الكمال المطلق وإلا لقال تعالى إنما الذين آمنوا ﴿ ثم لم يرتابوا ﴾ أي : لم يشكوا في دينهم وأيقنوا بأنّ الإيمان إيقان.
تنبيه : ثم للتراخي في الحكاية كأنه يقول آمنوا ثم أقول شيئاً آخر لم يرتابوا ويحتمل أن تكون للتراخي في الفعل أي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما نقل النبيّ صلى الله عليه وسلم من الحشر والنشر ﴿ وجاهدوا ﴾ أي : أوقعوا الجهاد بكل ما ينبغي أن تجهد النفوس فيه تصديقاً لما ادعوه بألسنتهم من الإيمان ﴿ بأموالهم ﴾ وذلك هو النية وقوله تعالى :﴿ وأنفسهم ﴾ أعمّ من النية وغيرها وذلك هو الشجاعة قدم الأموال لقلتها عند العرب ﴿ في سبيل الله ﴾ أي : طريق الملك الأعظم بقتال الكفار وغيره من سائر العبادات المحتاجة إلى المال والنفس لا الذين يتخلفون ويقولون شغلتنا أموالنا وأهلونا. قال القشيري : جعل الله تعالى الإيمان مشروطاً بخصال ذكرها وذكر بلفظ إنما وهي للتحقيق يقتضي الطرد والعكس فمن أفرد الإيمان عن شرائطه التي جعلها له فمردود عليه قوله :﴿ أولئك ﴾ أي : العالو الرتبة ﴿ هم الصادقون ﴾ أي : في قولهم وفعلهم أنهم مؤمنون.
ولما نزل هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون بالله أنهم مؤمنون صادقون وعلم الله منهم غير ذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء الأعراب مجهلاً لهم ومبكتاً ﴿ أتعلمون الله ﴾ أي : أتخبرون أخباراً عظيماً الملك الأعظم المحيط قدرة وعلماً ﴿ بدينكم ﴾ أي بقولكم آمنا ﴿ والله ﴾ أي : والحال أن الملك المحيط بكل شيء ﴿ يعلم ما في السماوات ﴾ كلها على عظمتها وكثرة ما فيها ﴿ وما في الأرض ﴾ كذلك ﴿ والله ﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة ﴿ بكل شيء ﴾ أي مما ذكر ومما لم يذكر ﴿ عليم ﴾ أي : لا تخفي عليه خافية وهو تجهيل لهم وتوبيخ.
﴿ يمنون عليك ﴾ أي : يذكرون ذكر من اصطنع صنيعة وأسدى إليك نعمة ﴿ أن أسلموا ﴾ أي : من غير قتال بخلاف غيرهم ممن أسلم بعد قتال منهم ولما كان المنّ هو القطع من العطاء الذي لا يراد عليه جزاء قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ قل ﴾ أي : في جواب قولهم هذا ﴿ لا تمنوا عليّ إسلامكم ﴾ لو فرض أنكم كنتم متدينين بدين الإسلام الذي هو انقياد الظاهر مع إذعان الباطن أي لا تذكروا الامتنان أصلاً لأنّ الإسلام لا يطلب جزاؤه إلا من الله تعالى فلا ينبغي عدّه صنيعة على أحد فإنّ ذلك يفسده ﴿ بل الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي له المنة على كل موجود ولا منة عليه بوجه ﴿ يمن عليكم ﴾ أي : بذكر أنه أسدى إليكم نعمة ﴿ أن ﴾ أي : بأن ﴿ هداكم للإيمان ﴾ أي : فهو المانّ عليكم لا أنتم عليه وعلي.
فإن قيل : كيف منّ عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه تبين أنهم لم يؤمنوا. أجيب بأوجه : أحدها : أنه تعالى لم يقل بل الله يمنّ عليكم أن رزقكم الإيمان بل قال أن هداكم للإيمان ثانيها : أنه تعالى منّ عليهم بما زعموا فكأنه تعالى قال أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار. فقال تعالى ﴿ هداكم ﴾ في زعمكم.
ولهذا قال تعالى :﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي : في قولكم آمنا فإنه على تقدير الصدق إنما هو بتوفيق الله تعالى وهو الذي خلق لكم قدرة الطاعة فهو الفاعل في الحقيقة فله المنة عليكم. قال القشيري : من لاحظ شيئاً من أحواله فإن رآها من نفسه كان مشركاً وإن رآها لنفسه كان مكراً فكيف يمنّ العبد بما هو شرك أو مكر والذي يجب عليه قبول المنة كيف يرى لنفسه على غيره منة هذا لعمري فضيحة والمنة تكدّر الصنيعة إذا كانت من المخلوقين وبالمنة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله تعالى.
﴿ إن الله ﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿ يعلم غيب السماوات ﴾ أي : ما غاب فيها كلها ﴿ والأرض ﴾ كذلك ولما أريد التعميم من غير تقييد بالخافقين أظهر ولم يضمر قوله تعالى :﴿ والله ﴾ أي الذي له الإحاطة بذلك وبغيره مما لا تعلمون ﴿ بصير ﴾ أي : عالم أتم العلم ﴿ بما تعملون ﴾ أي : من ظاهر إسلامكم في الماضي والحاضر والآتي سواء أكان ظاهراً أم باطناً سواء أكان قد حدث فصار بحيث تعلمونه أنتم أو كان مفروزاً في جبلاتكم وهو خفيّ عنكم. وقرأ ابن كثير : بالياء التحتية على الغيبة نظراً لقوله تعالى :﴿ يمنون ﴾ وما بعده والباقون بالفوقية على الخطاب نظراً إلى قوله تعالى :﴿ لا تمنوا عليّ إسلامكم ﴾ إلى آخره وفي هذه الآية إشارة إلى أنه يبصر أعمال جوارحكم الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه شيء.
Icon