ﰡ
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الحجراتقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، الآية/ ١:
قيل: إنها نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي، فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
وعموم الآية النهي عن التعجيل في الأمر والنهي دونه «١».
ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل ورد وصدر.
وربما احتج به نفاة القياس، وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقدم بين يديه.. وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس إذا تقدم بين يديه.
قوله تعالى: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ)، الآية/ ٦:
فيه دليل على أن خبر الفاسق لا يعمل به.
قيل: وقد استثنى الإجماع من جملة ذلك ما لا يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير، مثل قوله: هذا عبدي، فإنه
قوله تعالى: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ)، الآية/ ٩.
فيه دلالة على جواز قتال البغاة، وأن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه أخذ علي رضي الله عنه قتال الفئة الباغية بالسيف، وكان معه كبار الصحابة:
وقال صلّى الله عليه وسلّم لعمار: «ستقتلك الفئة الباغية» «١».
والذي ورد في الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«ستكون فتنة القائم فيها خير من الماشي والقاعد خير من القائم».
وإنما أراد به الفئة التي يقتل الناس فيها من جهة الدنيا والعصبية والحمية، من غير إمام تجب طاعته.
قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، الآية/ ١٠.
يعني أنهم إخوة في الدين.
وقوله: (فَأَصْلِحُوا) : يدل على وجوب الإصلاح عند التنازع بين المسلمين.
قوله تعالى: (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ)، الآية/ ١١.
نهى الله تعالى بهذه الآية عن عيب من لا يستحق أن يعاب تحقيرا له، لأن ذلك هو معنى السخرية به، فأخبر أنه وإن كان أرفع حالا منه في الدنيا، فعسى أن يكون المسخور منه خيرا في الآخرة، وخيرا عند الله تعالى.
قال أبو بكر رحمه الله: هو كقوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) «١» أي لا يقتل بعضكم بعضا ولا يلمز بعضكم بعضا لأن المؤمنين كنفس واحدة فكأنه بقتله أخيه قاتل نفسه، وكقوله: (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) «٢» أي يسلم بعضكم على بعض.
واللمز: العيب، يقال لمزه إذا عابه، ومنه قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) «٣».
فأما من كان معنيا بالفجور فتعينه بما فيه جائز، قال الحسن في الحجاج: اللهم إنك أنت أمته فاقطع عنا سنته، وفي رواية شينه، فإنه أتانا أخفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان، والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله تعالى، برجل جمثه، ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوت الصلاة، لا من الله يتقى، ولا من الناس يستحي، فرقه الله تعالى وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل.. ثم قال الحسن: هيهات والله، حال دون ذلك السوط والسيف.
قوله تعالى: (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ)، الآية/ ١١.
ذكر عن الحسن أنه كان أبو ذر عند النبي عليه الصلاة والسلام، وكان بينه وبين رجل منازعة، فقال له أبو ذر: «يا ابن اليهودية، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أما ترى هاهنا بين أحمر وأسود ما أنت
(٢) سورة النور آية ٦١.
(٣) سورة التوبة آية ٥٨.
قال قتادة: ذلك لأن لا تقول لأخيك المسلم يا فاسق يا منافق.
والنهي يختص بما يكرهه الإنسان، فأما الأوصاف الجارية غير هذا المجرى فغير مكروهة، وقد سمى النبي عليه الصلاة والسلام عليا أبا تراب «٣» وقال لأنس: يا أبا الأذنين، وغير النبي عليه الصلاة والسلام أسماء قوم فسمى العاص عبد الله، وسمى شهابا هشاما، وسمى حزنا سهلا.
قوله تعالى: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)، الآية/ ١٢.
يدل على أنه لم ينه عن جميعه.
ففي الظنون ما هو محظور، مثل سوء الظن بالله تعالى، وسوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة.
وكل ظن استند العلم به إلى دليل يقيني، فالعمل به واجب، كالشهادات وقبولها وقيم المتلفات والأقيسة.
وقد يكون الظن مباحا، كقول أبي بكر لعائشة رضي الله عنها: ألقى في روعي أن ذا بطن خارجة جارية، فاستجاز هذا الظن لما وقع في قلبه.
وأما الظن المندوب إليه، فهو حسن الظن بالأخ المسلم.
ويجوز أن لا يظن الخير ولا الشر.
(٢) أنظر أسباب النزول للواحدي، وتفسير ابن كثير سورة الحجرات ج ٤.
(٣) كما جاء في الحديث الذي أخرجه الامام أحمد في مسنده، وابن عساكر في تاريخه والطبراني في معجمه الكبير
روى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الغيبة فقال: هي ذكرك أخاك بما يكره. قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته «١».
وروى أبو هريرة أن الأسلمي جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشهد على نفسه بالزنا، فرجمه رسول الله، فسمع صلّى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر: أنظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلاب، فسكت عنهما ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شار «٢» شائل برجله فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا:
نحن ذا يا رسول الله، فقال: انزلا وكلا من جيفة هذا الحمار. فقالا:
يا رسول الله، من يأكل من هذا؟ فقال: ما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها «٣».
(٢) مستخرج من مكانه وهذه اللفظة غير موجودة في كثير من الكتب التي نقلت هذا الحديث، والحديث أخرجه عبد الرزاق والبخاري في الأدب وأبو يعلى وابن المنذر والبيهقي في شعب الايمان بسند صحيح.
(٣) أنظر تفسير القرطبي، وأسباب النزول للواحدي، وتفسير ابن كثير ج ٤.