ﰡ
[ ١ ] التثبت من الأخبار
التحليل اللفظي
﴿ فَاسِقٌ ﴾ : الفاسق : الخارج من حدود الشرع، والفسقُ في أصل الاشتقاق موضوع لما يدل على معنى ( الخروج ) مأخوذ من قولهم : فسقت الرُطبةُ إذا خرجت من قشرها، وسمّي الفاسق فاسقاً لانسلاخه عن الخير.
وفي اللسان : الفسق : العصيان والترك لأمر الله تعالى، والخروج عن طريق الحق، ومنه قوله تعالى :﴿ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [ الكهف : ٥٠ ] أي خرج من طاعة ربه، والفواسق من النساء : الفواجر قال الشاعر :
فواسقاً من أمره جوائراً... قال الراغب : والفسق أعم من الكفر، لأنه يقع بالقليل والكثير من الذنوب، ولكن تعورف فيما كان بالكثير، وأكثر ما يقال لمن كان مؤمناً ثم أخلّ بجميع الأحكام أو ببعضها.
﴿ بِنَبَإٍ ﴾ : النبأ في اللغة : الخبر، والجمع أنباء كذا في « القاموس » و « اللسان »، ويرى بعض اللغويين أنه لا يقال للخبر : نبأ حتى يكون هامّاً، ذا فائدة عظيمة، فكل خبر هام يسمّى ( نبأ ) قال تعالى :﴿ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ [ النمل : ٢٢ ] وقال تعالىّ ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴾ [ ص : ٦٧ - ٦٨ ] وأمّا إذا لم يكن هاماً فلا يقال له نبأ.
قال الراغب : لا يقال للخبر في الأصل ( نبأ ) حتى يكون ذا فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن.
﴿ فتبينوا ﴾ : التبيّن : طلب البيان والتعرّف، وقريب من التثبت، والمراد به هنا التحقق والتثبت من الخبر حتى يكون الإنسان على بصيرة من أمره.
ومعنى الآية الكريمة : إن جاءكم فاسق بنبأ عظيم له نتائج خطيرة، فلا تقبلوا قوله حتى تتثبّتوا وتتحققوا من صدقه، لتأمنوا العاقبة.
﴿ بجهالة ﴾ : أي جاهلين حالهم، أو تصيبوهم بسبب جهالتكم أمرهم.
﴿ نادمين ﴾ : الندم : الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه، يقال : ندم على الشيء، وندم على ما فعل ندماً وندامة، وتندّم أسِف، كذا في « اللسان ».
والمراد بالندم : الهمّ الدائم، والنون والدال والميم في تقاليبها لا تنفك عن معنى الدوام كما في قولهم : أدمن في الشرب، ومَدَنَ أي أقام ومنه المدينة.
﴿ لَعَنِتُّمْ ﴾ : أي لوقعتم في العَنَت، قال ابن الأثير : العنت : المشقة، والفساد، والهلاك. وقال في « اللسان » : العنت : الهلاك، وأعنَتَه : أوقعه في الهلكة، وقوله تعالى :﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ ﴾ أي لوقعتم في الفساد والهلاك.
يقال : فلان يتعنّت فلاناً أي يطلب ما يؤديه إلى الهلاك، ويقال أعنَتَ العظمُ إذا كسر بعد الجبر.
﴿ الراشدون ﴾ : جمع راشد، وهو المهتدي إلى محاسن الأمور ومنه سمي الخلفاء الراشدون، والرَشَد الاستقامة على طريق الحق مع تصلّب فيه، من الرشّاد وهو الصخر.
﴿ بَغَتْ ﴾ : البغي : التطاول والفساد قال تعالى :﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ ﴾
قال في اللسان : وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حدّ الشيء بغيٌ، وفي التنزيل :﴿ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ ﴾ [ ص : ٢٢ ].
﴿ تفياء ﴾ : أي ترجع إلى الطاعة، وفاء إلى الشيء : رجع إليه ومنه قوله تعالى :﴿ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ البقرة : ٢٢٦ ] أي رجعوا. والفيء : ما رجع إلى المسلمين من الكفار بدون حرب.
﴿ المقسطين ﴾ : العادلين المحقين، من الرباعي ( أقسط ) بمعنى عدل، وأمّا ( قَسَطَ ) فمعناه ظلم وقد تقدّم.
المعنى الإجمالي
يقول الله تبارك وتعالى ما معناه : يا أيها المؤمنون، يا من أتصفتم بالإيمان، وصدّقتم بكتاب الله، وآمنتم برسوله، وعلمتم علم اليقين أنّ ما جاءكم به الرسول حق لأنه من عند الله، لا تسمعوا لكل خبر، ولا تصدّقوا كل إنسان، بل تحقّقوا وتثبتوا من الأمر، قبل أن تصيبوا إخوة لكم مؤمنين، بسبب خبر لم تتحققوا من صحته، وكلام لم تتأكدوا من صدقه، فتندموا على ما فرط منكم، ولكن لا ينفعكم حينئذٍ الندم.
واعلموا - أيها المؤمنون - أن فيكم السيّد المبجّل، والنبيّ المعظّم ( رسول الله ﷺ ) المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، الذي يطلعه الله على الخفايا، فلا تحاولوا أن تستميلوه لرأيكم، ولو أنه استجاب لكم، وأطاعكم في غالب ما تشيرون به عليه، لوقعتم في الجهد والهلاك، ولكنّ الله - بمنّة وفضله - حفظه وحفظكم، ونوّر بصائر أتباعه المؤمنين، وحبّب إليهم الإيمان، وبغّض إليهم الكفّر والفسوق والعصيان، وأرشدهم إلى سبيل الخير والسعادة.
ثمّ عقّب تعالى بما يترتب على سماع مثل هذه ( الأنباء المكذوبة ) من تخاصم، وتباغض، وتقاتل، فقال : إذا رأيتم أيها المؤمنون طائفتين من إخوانكم جنحتا إلى القتال والعدوان، فابذلوا جهدكم للتوفيق بينهما، وادعوهما إلى النزول على حكم الله، فإن اعتدت إحدى الطائفتين على الأخرى وتجاوزت حدّها بالظلم والطغيان، وأرادت أن تبغي في الأرض، فقاتلوا تلك الطائفة الباغية، حتى تثوب إلى رشدها، وترضى بحكم الله تعالىّ، وتقلع عن البغي والعدوان، فإذا كفّت عن العدوان فأصلحوا بينهما بالعدل، لأنهم إخوتكم في الدين، ومن واجب المسلمين أن يَصْلحوا بين الإخوان، لا أن يتركوا البغضاء تدبّ، والفرقة تعمل عملها، لأنّ المؤمنين جميعاً إخوة، جمعتهم ( رابطة الإيمان ) وليس ثمة طريق إلى إعادة الصفاء إلاّ بالإصلاح بين المتخاصمين، فهو سبيل الفلاح وطريق الفوز والنجاح، واتقوا الله لتنالكم رحمته، وتسعدوا بمرضاته ولقائه.
سبب النزول
أولاً : روى الإمام أحمد عن الحارث بن ضرار الخزاعي أنه قال :
« قدمتُ على رسول الله ﷺ فدعاني إلى الإسلام، فدخلتُ فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت : يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إليّ يا رسول الله رسولاً لإبّان كذا، وكذا، ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
وبعث رسول الله ( الوليد بن عقبة ) إلى الحارث ليقبض ما كان عنده ممّا جُمع من الزكاة، فلمّا سار حتى بلغ بعض الطريق، فَرِق فرجع، فأتى رسول الله ﷺ فقال : إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله ﷺ البَعْث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه حتى استقبله البعث وقد فصل عن المدينة، قالوا : هذا الحارث. فلما غشيهم قال إلى أين؟ قالوا : إليك، قال : ولم، قالوا : إن النبي ﷺ قال : منعتَ الزكاة وأردتَ قتل رسولي؟ قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلتُ إلاّ حين احتبس عليّ رسولُ رسولِ الله ﷺ، خشية من أن تكون سخطة من الله ورسوله عليّ، فنزلت الآية :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا ﴾.
قال الإمام الفخر : ما ذكره المفسّرون من أنها نزلت بسبب ( الوليد بن عقبة ) حين بعثه الرسول ﷺ إلى بني المصطلق ليقبض صدقاتهم... الخ إن كان مرادهم أن الآية نزلت عامة لبيان وجوب التثبت في خبر الفاسق، وأنها نزلت في ذلك الحين الذي وقعت فيه حادثة الوليد فهذا جيد، وإن كان غرضهم أنها نزلت لهذه الحادثة بالذات فهذا ضعيف، لأن الوليد لم يتقصّد الإساءة إليهم، ورواية الإمام أحمد تدل على أنّ الوليد خاف وفَرق حين رأى جماعة الحارث - وقد خرجت في انتظاره - فظنّها خرجت لحربة فرجع وأخبر الرسول ﷺ بما أخبره ظناً منه أنهم خرجوا لقتاله.
يقول الإمام الفخر :« ويدل على ضعف قول من يقول إنها نزلت لكذا أن الله تعالى لم يقل : إني أنزلتها لكذا والنبي عليه السلام لم ينقل عنه أنه بيّن أن الآية وردت لبيان ذلك فحسب، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل التاريخ لنزول الآية، ويتأكد ما ذكرنا أن اطلاق لفظ ( الفاسق ) على الوليد شيء بعيد، لأنه توهّم وظنّ فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقاً، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المرادُ به من خرج من ربقة الإيمان لقوله تعالى :
ب- وأمَّا قوله تعالى :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا ﴾ فقد ذُكِر في سبب نزولها ما يأتي :
أولاً : أخرج البخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن أنس رضي الله عنه أنه قال :« قيل للنبي ﷺ لو أتيتَ ( عبد الله بن أُبَي ) فانطلَقَ إليه وركب حماراً، وانطلق معه المسلمون يمشون، فلما أتاه النبي ﷺ قال : إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار : واللَّهِ لحمارُ رسول الله أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب للأنصاري آخرون من قومه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنّعال، فأنزل الله فيهم :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا ﴾.
ثانياً : وروى الشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ خرج يعود ( سعد بن عُبادة ) فمرّ بمجلس فيهم عبد الله بن أُبَيّ، وعبد الله بن رواحة، فخمّر ابن أُبيّ وجهه برادائه، وقال : لا تغبّروا علينا، فقال عبد الله بن رواحة : لحمار رسول الله ﷺ أطيب ريحاً منك، فتعصّب لكل أصحابه فتقاتلوا حتى كان بينم ضرب بالنعال والأيدي والسّعف فنزلت الآية.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : سورة الحجرات تسمّى سورة ( الأخلاق والآداب ) فقد أرشدت إلى مكارم الأخلاق، وجاء فيها النداء بوصف الإيمان بقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمنوا ﴾ خمس مرات، وفي كل مرة إرشاد إلى مكرمة من المكارم، وفضيلة من الفضائل، وهذه الآداب الرفيعة نستعرضها في فقرات وهي :
١- وجوب الطاعة والانقياد لأوامر الرسول ﷺ وعدم التقدم عليه برأي أو قول :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ... ﴾ [ الحجرات : ١ ] أي لا تَعْجَلوا بقولٍ أو فعل قبل أن يقول فيه رسول الله أو يفعل.
٢- احترام الرسول وتعظيم شأنه وعدم رفع الصوت في حضرته ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي... ﴾ [ الحجرات : ٢ ] الآية.
٣- وجوب التثبت من صحة الأخبار، وعدم الاعتماد على أقوال الفسقة المفسدين ﴿ ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا... ﴾ الآية.
٤- النهي عن السخرية بالناس وعن التنابز بالألقاب ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ... ﴾ [ الحجرات : ١١ ] الآية.
٥- النهي عن التجسّس، والغيبة، وسوء الظن، وعن سائر الأخلاق الذميمة ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً... ﴾ [ الحجرات : ١٢ ] الآية.
فهذه السورة الكريمة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية، قد جمعت الفضائل والآداب الإنسانية، فلا عجب أن تسمى ( سورة الآداب ) أو ( سورة الأخلاق ) فهي تتناول الأدب مع الله، والأدب مع الرسول، والأدب مع النفس، والأدب مع المؤمنين، والأدب مع الناس عامة، وكلها بهذا الشكل الرتيب.
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى ﴿ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ﴾ في هذا التعبير إشارة لطيفة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون حذراً يقظاً، لا يقبل كلّ كلام يلقى على عواهنه، دون أن يعرف المصدر، وتنكير ( فاسق ) للتعميم، لأنه نكرة في سياق الشرط، وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما قرّره علماء الأصول، والمعنى إن جاءكم أيّ فاسق فتثبتوا من خبره، وجاء بحرف التشكيك ( إن ) ولم يقل ( إذا ) التي تفيد التحقيق، ليشير إلى أنّ وقوع مثل هذا إنما هو على سبيل ( النّدرة ) إذْ الأصل في المؤمن أن يكون صادقاً ولمَّا كان رسول الله ﷺ وأصحابه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب، وما كان يقع مثل ما فرط من ( الوليد بن عقبة ) إلاّ في النّدرة قيل :﴿ إِن جَآءَكُمْ ﴾ بحرف الشك. فتدبر أسرار الكتاب العزيز.
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله ﴾ تقديم خبر أنّ على اسمها ليفيد معنى الحصر، المستتبع لزيادة التوبيخ لهم على ما فرط منهم في حقّ الرسول ﷺ، وفي الكلام إشعار بأنّهم زيّنوا بين يدي الرسول ﷺ الايقاع بالحارث وقومه، وقد أريد أن ينعى عليهم ذلك بتنزيلهم منزلة من لا يعلم أنه عليه السلام بين أظهرهم.
قال الإمام الفخر رحمه الله :« والذي اختاره وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى لما قال :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا ﴾ أي فتثبّتوا واكشفوا قال بعده :﴿ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله ﴾.
أي الكشفُ سهل عليكم بالرجوع إلى النبي ﷺ، فإنه فيكم مبيّن مرشد، وهذا كما قال القائل عند اختلاف تلاميذ شيخٍ في مسألة، هذا الشيخ قاعد.. لا يريد به بيان قعوده، وإنما يريد أمرهم بالرجوع إليه. فكأن الله تعالى يقول : استرشدوا بالرسول ﷺ فإن يعلم ولا يطيع أحداً، فلا يوجد فيه حيف، ولا يروج عليه زيف، لأنه لا يعتمد على كثير من آرائكم التي تبدونها، وإنما يعتمد على الوحي الذي يأتيه من عند الله.
اللطيفة الخامسة : صيغة المضارع تفيد ( الاستمرار والتجدّد ) بخلاف الماضي، فالعدول عن الماضي إلى المضارع في قوله تعالى :﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ ﴾ ليفيد هذا المعنى على أنهم كانوا يريدون إطاعة الرسول لهم إطاعة مستمرة بدليل قوله تعالى :﴿ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر ﴾ وذلك أن صيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار، تقول : فلانَ يقري الضيف، ويحمي الحريم، تريد أن ذلك شأنه وأنه مستمر على ذلك.
أحدها : إيثار ( لو ) ليدلّ على الفرض والتقدير.
والثاني : ما في العدول إلى المضارع من إرادة استمرار ما حقه أن يفرض للتهجين والتوبيخ.
والثالث : ما في لفظ ( العنت ) من الدلالة على أشدّ المحذورة، فإنه الكسر بعد الجبر.
والرابع : ما في الخطاب، والجدير به غير ( الكُمّل ) ليكون أردع لمرتكبه وأزجر.
وكأنّ الله تعالى يقول : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا ولا تكونوا أمثال هؤلاء الذين استفزهم النبأ قبل التعرف على صدقه، ثم لم يكتفوا حتى أرادوا أن يحملوا الرسول على رأيهم، ليوقعوا أنفسهم ويوقعوا غيرهم في العنت والإرهاق، واعلموا جلالة قدر الرسول ﷺ وتفادّوْا عن أمثال هذه الأخطاء.
اللطيفة السادسة : قوله تعالى :﴿ أولئك هُمُ الراشدون ﴾ التفات من الخطاب إلى الغيبة كقوله تعالى :﴿ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون ﴾ [ الروم : ٣٩ ] وهذا الالتفات من المحسّنات البديعية كما قرّره علماء البلاغة، كما قرّره علماء البلاغة، ويقصد به التعظيم أي هؤلاء الذين حبّب الله إليهم الإيمان، وزيّنه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق العصيان، هم الذين بلغوا أرفع الدرجات وأعلى المناصب، ونالوا هذه الرتبة العظيمة ( رتبة الرشاد ) فضلاً من الله وكرماً.
اللطيفة السابعة : قوله تعالى ﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا ﴾ الطائفة في اللفظ مفرد، وفي المعنى جمع، لأنها تدل على عدد كبير من الناس، ولهذا جاء التعبير بقوله ( اقتتلوا ) رعايةً للمعنى فإن كلّ طائفةٍ من الطائفتين جماعة، ثم قال تعالى :﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ﴾ ولم يقل بينهم رعايةَ للفظ، والنكتة في هذا هو ما قيل : إنهم عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة وهم مختلطون فلذا جمع الضمير، وفي حال الصلح تتفّق كلمة كل طائفة حتى يكونوا كنفسين فلذا ثُنّي الضمير.
اللطيفة الثامنة : قال الإمام الفخر رحمه الله : قال تعالى :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين ﴾ ولم يقل ( منكم ) مع أنّ الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله :﴿ ياأيها الذين آمنوا ﴾ تنبيهاً على قبح ذلك، وتبعيداً لهم عنهم. كما يقول السيد لعبده : إن رأيت أحداً من غلماني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعاً للمخاطَب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن، كأنه يقول : أنت حاشاك أن تفعل ذلك، فإن فعل غيرك فامنعه، كذلك هاهنا قال :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين ﴾ ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد.
اللطيفة التاسعة : قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ ﴾ فيه تشبيه لطيف يسمى ( التشبيه البليغ ) وأصل الكلام : المؤمنون كالإخوة في وجوب التراحم والتناصر فحذف وجه الشبه وأداة الشبة فأصبح بليغاً، قال بعض أهل اللغة : الإخوة جمع الأخ من النسب، والإخوان جمع الأخ من الصداقة، فالله تعالى قال :﴿ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ ﴾ تأكيداً للأمر وإشارة إلى أنّ ما بينهم كما بين الإخوة من النسب، والإسلام لهم كالأب فأخوّة ( العقيدة ) فوق أخوة ( الجسد ) ورابطة الإيمان أقوى من رابطة النسب، وقد قال الشاعر العربي :
أبي الإسلام لا أب ليسواه | إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم |
وقال المحاسبي : فنحن نقول كما قال الحسن، ولا نبتدع رأياً منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا وجه الله تعالىّ.
وجوه القراءات
١- قوله تعالى :﴿ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا ﴾ قرأ الجمهور ﴿ فتبيّنوا ﴾ من التبيّن، وقرأ خمزة والكسائي ﴿ فتثبتوا ﴾ من التثبت، والمعنى واحد لأن التبيّن معناه في اللغة التثبت والتحقق.
٢- قوله تعالى :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا ﴾ قرأ الجمهور ﴿ اقتتلوا ﴾ بصيغة الجمع، وقرأ أُبي بن كعب، وابن مسعود ﴿ اقتتلا ﴾ بالتثنية على فعل اثنين مذكّرين، وقرأ أبو المتوكل، وابن أبي عبلة ﴿ اقتتلتا ﴾ بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنتين مؤنثتين.
٣- قوله تعالى :﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ قرأ الأكثرون ﴿ بين أخويكم ﴾ بياء التثنية، وقرأ أبي بن كعب، وابن جُبير ﴿ بين إخوتكم ﴾ بالتاء على الجمع، وقرأ الحسن وابن سيرين ﴿ بين إخوانكم ﴾ بالنون وألف قبلها ويكون المراد بين الأوس والخزرج.
وجوه الإعراب
١- قوله تعالى :﴿ فتبينوا أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بجهالة ﴾ في تقديره وجهان : أحدهما : أن يكون التقدير لئلا تصيبوا وهو مذهب الكوفيّين.
والثاني : أن يكون التقدير كراهية أن تصيبوا أو خشيَة أن تصيبوا وهو مذهب البصريين.
٢- قوله تعالى :﴿ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله ﴾ عطف على ما قبله و ( أنّ ) وما بعدها في تأويل مصدر سدّت مسدّ مفعولي ( اعلموا ).
٣- قوله تعالى :﴿ فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً ﴾ في إعرابه وجهان :
أحدهما : أن يكون منصوباً على المفعول له.
والثاني : أن يكون مصدراً مؤكداً لما قبله أي تفضلاً من الله.
٤- قوله تعالى :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا ﴾
( إنْ ) شرطية جازمة، و ( طائفتان ) فاعل لفعل محذوف يفسّره المذكور تقديره : إن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، وإنما قدّرنا ذلك لأنّ الشرط في ( إنْ ) أن يليها الفعل، فإن وليها اسم قدّروا لها فعلاً يفسّره ما بعده.
قال ابن الأنباري : ولا يجوز أن يحذف الفعل مع شيء من كلمات الشرط العاملة إلاّ مع ( إنْ ) لأنها الأصل في كلمات الشرط، ويثبت للأصل ما لا يثبتُ للفرع.
الحكم الأول : هل يُقبل خبر الواحد إذا كان عدلاً؟
استدل العلماء بهذه الآية الكريمة ﴿ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ﴾ على قبول خبر الواحد إذا كان عدلاً ووجه الاستدلال من جهتين :
الأولى : أن الله تعالى أمر بالتثبت في خبر الفاسق، ولو كان خبر الواحد العدل لا يقبل لم كان ثمة فائدة من ذكر التثبّت، لأن خبر كلٍ من العدل والفاسق مردود، فلما دلّ الأمر بالتثبت في خبر الفاسق، وجب قبول خبر العدل، وهذا الاستدلال كما يقول علماء الأصول من باب ( مفهوم المخالفة ).
الثانية : أن العلة في ردّ الخبر هي ( الفسق ) لأن الخبر أمانة، والفسقُ يبطلها، فإذا انتفت العلة النتفى الرد، وثبت أن خبر الواحد ليس مردوداً، وإذا ثبت ذلك وجب حينئذٍ قبوله والعمل به.
وأمّا المجهول : الذي لا تُعلم عدالته ولا فسقه فقد استدل فقهاء الحنفية على قبول خبره، وحجتهم في ذلك أن الآية دلت علىأنّ الفسق شرط وجوب التثبت، فإذا انتفى الفسق فقد انتفى وجوبه، ويبقى ما وراءه على الأصل وهو قبول خبره، لأن الأصل في المؤمن العدالة.
وأنت ترى أنّ هذا الاستدلال مبيٌ على أنّ الأصل العدالة، ولكنّ بعض الفقهاء يعارض في هذا ويقول : الأصل الفسق لأنه أكثر، والعدالة طارئة فلا يقبل قوله حتى يثبت من عدالته.
الترجيح : والظاهر أن مسألة قبول خبر المجهول مبنيّة على هذا، فإن صحّ أن الأصل العدالة فهو باق على عدالته حتى يتبيّن خلافها، وإن كان الأصل عدمها فهو داخل في حكم الفسق حتى تتبيّن عدالته، والمسألة تطلب بالتفصيل من كتب الأصول.
الحكم الثاني : هل يجب البحث عن عدالة الصحابة في الشهادة والرواية؟
استدل بعض العلماء بالآية الكريمة على أنّ من الصحابة من ليس بعدل، لأنّ الله تعالى أطلق لقب الفاسق على ( الوليد بن عقبة ) فإنها نزلت فيه، وسببُ النزول لا يمكن إخراجه من اللفظ العام، وهو صحابي بالاتفاق، وقد أمر الله بالتثبت من خبره، فلا بدّ من البحث عن عدالة الصحابة في الشهادة والرواية.
والمسألة خلافية وفيها أقوال كثيرة نذكرها بإيجاز :
الأول : أن الصحابة كلّهم عدول، ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة، وهذا رأي جمهور العلماء سلفاً وخلفاً.
الثاني : أن الصحابة كغيرهم يُبحث عن العدالة فيهم في الرواية والشهادة إلا من يكون ظاهر العدالة أو مقطوعها كالشيخين ( أبي بكر ) و ( عمر ) رضي الله عنهما.
الثالث : أنهم عدول إلى زمن عثمان رضي الله عنه، ويبحث عن عدالتهم من مقتله، وهذا رأي طائفة من العلماء.
الرابع : أنهم عدول إلاّ من قاتل علياً كرّم الله وجهه لفسقه بالخروج على الإمام الحق وهذا مذهب المعتزلة.
وكذلك ما ثبت في السنة المطهرة من مدحهم، والثناء عليهم، وبيان أنهم أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ على الإطلاق، ونحن نذكر بعض هذه الأحاديث الشريفة التي تشير إلى فضيلتهم باختصار.
أ- قال ﷺ :« خير الناس قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم » الحديث.
ب- وقال ﷺ :« لا تسبُّوا أصحابي فالوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه ».
ج - وقال ﷺ :« اللَّهَ اللَّهَ في أصحابي، لا تتّخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبّهم فبحبي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه ».
فهذه الأخبار التي وردت في الكتاب والسنة كلها متضافرة على عدالة الصحابة وأفضليتهم على سائر الناس، وما وقع من بعضهم من مخالفات فليس يسوغ لنا أن نحكم عليهم بالفسق، لأنهم لا يصرّون على الذنب، وإذا تاب الإنسان رجعت إليه عدالته ولا يحكم بفسقه على التأبيد، فهذا ( ماعز الأسلمي ) الذي ارتكب الفاحشة يقول عنه النبي ﷺ بعد أن أمر برجمه « لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم ».
والقولُ : بأنَّ بعض الصحابة قد وقع في الذنب والمخالفة - بناء على الاعتقاد بعدم عصمتهم - لا يعني أنهم غير عدول، لن الفاسق الذي ترد شهادته وروايته هو الذي يصرّ على الذنب والمعصية، وليس في الصحابة من يصر على ذلك.
وقد عرفتَ ما ذكره الإمام الفخر أنها لم تنزل خاصة بسبب ( الوليد بن عقبة ) وإنما نزلت عامة في بيان حكم كل فاسق، وأنها نزلت في ذلك الوقت الذي حدثت فيه تلك القصة، فهي مِثْل التاريخ لنزول الآية، وكلامُ الإمام الفخر نفيس فارجع إليه.
الحكم الثالث : هل تقبل شهادة الفاسق أو المبتدع؟
أتفق العلماء على أن شهادة الفاسق لا تقبل عملاً بالآية الكريمة ﴿ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا ﴾، وكذلك لا تقبل روايته، لأن الرواية عن رسول الله ﷺ أمانة ودين، والفسقُ يبطلها لاحتمال كذبه على رسول الله ﷺ.
وقال الجصّاص :« وقوله تعالى :﴿ فتبينوا ﴾ اقتضى ذلك النهي عن قبول شهادة الفاسق مطلقاً، إذ كان كل شهادة خبراً، وكذلك سائر أخباره، فلذلك قلنا : شهادة الفاسق غير مقبولة في شيء من الحقوق، وكذلك أخباره في الرواية عن النبي ﷺ وكلّ ما كان من أمر الدين، يتعلّق به إثبات شرع، أو حكم، إو إثبات حق على إنسان ».
وقد استثنى العلماء من قبول خبر الفاسق أموراً تتعلّق بالمعاملات وليس فيها شهادة على الغير منها :
أ- قبول قوله في الإقرار على نفسه مثل : لفلان عندي مائة درهم فيقبل قوله كما يقبل في ذلك قول الكافر، لأنه إقرار لغيره بحق على نفسه فلا تشترط فيه العدالة.
ب- قبول قوله في الهدية والوكالة مثل إذا قال : إنّ فلاناً أهدى إليك هذا، يجوز له قبوله وقبضه، ونحوه قوله : وكّلني فلان ببيع عبده هذا فيجوز شراؤه منه.
ج - وكذلك في الإذن بالدخول ونحوه كما إذا استأذن إنسان فقال له : ادخلْ لا تشترط فيه العدالة. ومثل هذا جميع أخبار المعاملات إذا لم يكن فيها شهادة على الغير.
واختلف العلماء في أمر الولاية بالنكاح، « فذهب الشافعي » وغيره إلى أن الفاسق لا يكون وليّاً في النكاح، لأنه يسيء التصرف، وقد يضرّ بمن يلي أمر نكاحها بسبب فسوقه.
وقال أبو حنيفة ومالك : تصح ولايته، لأنه يلي مالها فيلي بُضْعها كالعدل، وهو - وإن كان فاسقاً - إلاّ أنّ غيرته موفّرة، وبها يحمي الحريم، وقد يبذل المال ويصون الحُرمة، وإذا ولي المال فالنكاح أولى.
أما المبتدع : وهو الفاسق الذي يكون فسقه بسبب الاعتقاد، وهو متأول للنصوص كالجبرية والقدرية ويقال له : المبتدع بدعة واضحة، فمن الأصوليّين من ردّ شهادته وروايته كالإمام الشافعي رحمه الله ومنهم من قبلهما، وفرّق الحنفيّة فقالوا : تقبل منه الشهادة، ولا تقبل منه الرواية، لأنّ من ابتدع بدعة بسبب الدين فلا يبعد أن ينتصر لهواه ويدعو الناس إلى ذلك فنردّ روايته دون شهادته، لأنّ الدعوة إلى مذهبه داعية إلى النقل فلا يؤتمن على الرواية. وهذا مذهب جمهور أئمة الفقه والحديث.
الحكم الرابع : هل تصحّ ولاية الفاسق؟
قال ابن العربي رحمه الله :« ومن العجب أن يجوّز الشافعيّ ونظراؤه إمامة الفاسق، ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دَيْن؟! وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلّون بالناس، لمّا فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم، ولا استطيعت إزالتهم صُلّي معهم ووراءهم، كما قال عثمان : الصلاة أحسن ما يفعل الناس، فإذا أحسنوا فأحسنْ، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.
وأمّا أحكامه إن كان والياً فينفذ منها ما وافق الحقّ، ويردّ ما خالفه، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تُؤْثر، أو قول يُحْكى، فإنّ الكلام كثير، والحقّ ظاهر «.
الحكم الخامس : هل يجب قتال أهل البغي؟
ذهب جمهور العلماء إلى وجوب قتال أهل البغي، الخارجين على الإمام أو أحد المسلمين، ولكنْ بعد دعوتهم إلى الوفاق والصلح، والسير بينهم بما يصلح ذات البين، فإن أقاموا على البغي وجب قتالهم عملاً بقوله تعالى :﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فقاتلوا التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله ﴾.
وذهب جماعة منَّن يدَّعي العلم إلى عدم جواز قتال البغاة من المؤمنين، واحتجوا بقوله عليه السلام :» سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر «.
وهذا الحديث لا ينهض حجة لهم، لأنّ من بغى من المؤمنين فقد أمر القرآن بقتاله، فكيف يحتج بمثل هذا الحديث لإبطال حكم الله تعالىّ؟
قال القرطبي : وهذه الآية دليل على فساد قول من منع من قتال المؤمنين، ولو كان قتال المؤمن الباغي كفراً لكان الله تعالى قد أمر بالكفر، تعالى الله عن ذلك!! وقد قاتل الصدّيق رضي الله عنه من تمسّك بالإسلام وامتنع من الزكاة، وأمر ألاّ يُتبع مولٍّ، ولا يُجهز على جريح، ولا تَحِلّ أموالهم بخلاف الكفار.
وقال الطبري :» لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهربَ منه ولزوم المنازل، لما أُقيم حد، ولا أُبطل باطلٌ، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين، وسبي نسائهم، وسفك دمائهم، بأن يتحزّبوا عليهم، ويكفّ المسلمون أيديهم عنهم، وذلك مخالف لقوله عليه السلام :« خذوا على أيدي سفهائكم ».
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على وجوب قتال البغاة بعدة أدلة نوجزها فيما يلي :
أ- قوله تعالى :﴿ فقاتلوا التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله ﴾ الآية.
ب- حديث :« سيخرج قوم في آخر الزمان، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير البرية، يقرؤون القرآن، لا يجاوز إيمانُهُم حناجِرَهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة ».
ج - حديث :« سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قومٌ يحسنون القول ويسيئون العمل، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، لا يرجعون حتى يرتدّ على فوقه، هم شرّ الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، قالوا يا رسول الله : ما سيماهم؟ قال : التحليق »
فهذه الأحاديث صريحة في وجوب قتال أهل البغي ومن شايعهم على باطلهم من أهل الفجور والضلال.
قال الجصّاص :« ولم يختلف أصحاب رسول الله في وجوب قتال ( الفئة الباغية ) بالسيف إذا لم يردعها غيره، ألا ترى أنهم كلهم رأوا قتال الخوارج ولو لم يروا قتال الخوارج وقعدوا عنهم لتقلوهم وسبوا ذراريهم ونساءهم. فإن قيل قد جلس عن علي جماعة من أصحاب النبي ﷺ منهم :( سعد، وأسامة بن زيد، وابن عمر ) !! قيل له : لم يقعدوا عنه لأنهم لم يروا قتال الفئة الباغية، وجائزٌ أن يكون قعودهم عنه لأنهم رأوا الإمام مكتفياً بمن معه، مستغنياً عنهم بأصحابه فاستجازوا القعود عنه لذلك، ألا ترى أنهم قعدوا عن قتال الخوارج، لا على أنهم لم يروا قتالهم واجباً، لكنهم لما وجدوا من كفاهم قتل الخوارج استغنوا عن مباشرة قتالهم ».
الحكم السادس : هل تكون أموال البغاة غنيمة للمسلمين؟
اختلف العلماء في حكم أموال البغاة هل تكون غنيمة للمسلمين؟ أم تردّ إليهم بعد الصلح وانتهاء الحرب؟
أ- فقال محمد بن الحسن الشيباني : إنّ أموالهم لا تكون غنيمة، وإنما يستعان على حربهم بسلاحهم وخيلهم عند الاستيلاء عليه، فإذا وضعت الحرب أوزارها رُدّ عليهم السلاح والمال.
ب- وقال أبو يوسف : إنّ ما وجد في أيدي أهل البغي من سلاح وعتاد فهو ( غنيمة ) يقسم ويخمّس.
ج - وقال مالك : لا تسبى ذراريهم ولا أموالهم، وهو مذهب الشافعي.
حجة أبي يوسف : أنهم باغون معتدون فيقسم مالهم غنيمة بين المسلمين.
حجة الجمهور : أنّ بغيهم يُحلّ قتالهم ولا يُحلّ أموالهم وذراريهم لأنهم ليسوا كفاراً، وإنما هم مؤمنون باغون، أو فاسقون خارجون عن الطاعة، والأمر بقتالهم من أجل ردّهم إلى صف المؤمنين.
واستدلوا بحديث ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال :« يا عبد الله أتدري كيف حُكْم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال : الله ورسوله أعلم، فقال : لا يُجهز على جريحها، ولا يُقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يُقسم فيئها ».
قال القرطبي :« والمعوّل في ذلك عندنا أن الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبراً، ولا ذفَّفوا على جريح، ولا قتلوا أسيراً، ولا ضمّنوا نفساً ولا مالاً، وهم القدوة ».
الترجيح : والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لأنهم ليسوا كفاراً، ولأننا لو أخذنا أموالهم وسبينا ذراريهم بألبوا علينا ولم يمكن ردّهم إلى صف المسلمين والله أعلم.
فائدة هامة : حول ما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
هذا مع قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي ﷺ أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً، لأن الشهادة لا تكون إلا بالقتل في الطاعة.
وممّا يدل على ذلك ما قد صحّ بأن قاتل الزبير في النار، وقوله عليه السلام :« بشّر قاتل ابن صفية بالنار »، وإذا كان كذلك فقد ثبت أن ( طلحة ) و ( الزبير ) غير عاصيين، ولا آثمين بالقتال، وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال :﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٣٤ ].
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : وجوب التثبت من الأخبار وعدم الوثوق بخبر الفاسق الخارج عن طاعة الله.
ثانياً : ضرورة التريث قبل الحكم على الأشخاص لمجرد سماع الأنباء خشية الظلم والعدوان عليهم.
ثالثاً : الرسول ﷺ هو المرجع للمؤمنين، فلا يجوز لأحدٍ من أهل الإيمان أن يقطع بأمرٍ دونه.
رابعاً : وجوب الإصلاح بين طوائف المؤمنين عند حصول النزاع خشية تصدُّعِ الصف، وتفرُّقِ الكلمة.
خامساً : إذا بغت إحدى الطائفتين على الأخرى ولم يمكن الاصلاح وجبَ قبر الفتنة بحدّ السيف.
سادساً : المؤمنون إخوة جمعتهم رابطة ( العقيدة والإيمان ) وهذه الرابطة أقوى من رابطة النسب والدم.
سابعاً : يجب على المؤمنين مقاومة أهل البغي إبقاءً لوحدة الأمة الإسلامية ودفعاً للظلم عن المستضعفين.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
يدعو الإسلام إلى التثبت في الخبر، وأخذ الحيطة والحذر، في كل أمرٍ من أمور المؤمنين، ليجتنبوا المزالق التي يدبّرها لهم أعداؤهم، ويكونوا على بيّنةٍ من أمرهم، فكم من فتنة حصلت بسبب خبر كاذب، نقله فاسق فاجر؟ وكم من دماء أريقت بسبب فتنةٍ هوجاء، أشعلَ نارَها أناسٌ ماكرون؟ لا يريدون للأمة الخير، ولا يضمرون للمسلمين إلاّ كل شرّ، وبلاءٍ، وفتنة، ليفسدوا عليهم وحدتهم، ويكدّروا عليهم صفاءهم وسرورهم.
لذلك أمر الإسلام بمبدأ كريم فاضل ( مبدأ التمحيص ) والتثبت من كل خبر، وخاصة خبر الفاسق، الذي لا يقيم حرمةً للدين، ولا يبالي بما يحدث من جراء كذبه وبهتانه، من أضرار فادحة، ونتائج وخيمة، تشلّ حركة المجتمع، وقد تفضي إلى فجيعة عظيمة تودي بحَياة أناسٍ بريئين، كما كان سيحدث في قصة ( الوليد بن عقبة ) لولا أنّ الله تعالى أطلع رسوله على جليّة الأمر، بواسطة الوحي المنزل، فكان في ذلك صيانة الدماء البريئة، وحفظ وحدة المسلمين. كما أمر الإسلام بمقاومة الظلم والطغيان، أيّاً كان مصدره، فدعا إلى الإصلاح بين الطوائف المتنازعة، والفئات المتخاصمة، فإن لم ينفع الصلح، ولم تثمر دعوته، كان السيف هو الحكم الفاصل تقاتل به الفئة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله، وتفيء إلى رشدها.
وهذه الخطة الحكيمة التي انتهجها الإسلام قاعدة تشريعية وقائية، لصيانة المجتمع المسلم من الخصام، والتفكك، والاندفاع وراء الأهواء الطائشة، التي لا تجني منها الأمة إلاّ كل شر، وبلاء.