تفسير سورة الحجرات

تفسير النسفي
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب مدارك التنزيل وحقائق التأويل المعروف بـتفسير النسفي .
لمؤلفه أبو البركات النسفي . المتوفي سنة 710 هـ
سورة الحجرات مدنية وهى ثمان عشر آية

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)
﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تُقَدِّمُواْ﴾ قدّمه وأقدمه منقولان بتثقيل الحشو والهمزة من قدمه إذا تقدمه في قوله تعالى يقدم قومه وحذف المفعول ليتناول كل ما وقع في النفس مما يقدم من القول أو الفعل وجاز أن لا يقصد مفعول والنهي متوجه إلى نفس التقدمة كقوله هُوَ الذى يُحْيىِ ويميت أو هو من قدّم بمعنى تقدم كوجه بمعنى توجه ومنه مقدمة الجيش وهي الجماعة المتقدمة منه ويؤيده قراءة
﴿بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم﴾
يعقوب لاَ تُقَدّمُواْ بحذف إحدى تاءي تتقدموا ﴿بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ﴾ حقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن تجلس بين الجهتين المسامنتين ليمينه وشماله قريباً منه فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره في هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يسمى تمثيلاً وفيه فائدة جليلة وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة ويجوز أن
346
يجري مجرى قولك سرني زيد وحسن حاله أي سرني حسن حال زيد فكذلك هنا المعنى بين يدي رسول الله ﷺ وفائدة هذا الأسلوب الدلالة على قوة الاختصاص ولما كان رسول الله ﷺ من الله بالمكان الذي لا يخفى سلك به هذا المسلك وفي هذا تمهيد لما نقم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته عليه السلام لأن من فضله الله بهذه الأثرة واختصه هذا الاختصاص كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت وعن الحسن أن إناساً ذبحوا يم الأضحى قبل الصلاة فنزلت وأمرهم رسول الله ﷺ ان يعيدوا ذبحا اخر وعن عائشة رضى عنها أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك ﴿واتقوا الله﴾ فانكم ان اتقيتموه عافتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ﴾ لما تقولون ﴿عَلِيمٌ﴾ بما تعملون وحق مثله ان يتقى
347
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢)
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ إعادة النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد وتحريك منهم لئلا يغفلوا عن تأملهم ﴿لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى﴾ أي إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم وجهره باهراً لجهركم حتى تكون مزيته عليكم لائحة وسابقته لديكم واضحة ﴿وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ أي إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرب من الهمس الذى يضاد الجهر اولا تقولوا له يا محمد يا أحمد وخاطبوه بالنبوة والسكينة والتعظيم ولما نزلت هذه الآية ما كلم النبى ﷺ أبو بكر وعمر إلا كأخي السرار وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنها نزلت في ثابت بن قيس بن
347
شماس وكان في اذنه وقر وكان جهوري الصوت وكان إذا كلم رفع صوته وربما كان يكلم النبى ﷺ فيتأذى بصوته وكاف التشبيه في محل النصب أي لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض وفي هذا أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقاً حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه بالمخافتة وإنما نهوا عن جهر مخصوص أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها ﴿أَن تَحْبَطَ أعمالكم﴾ منصوب الموضع على أنه المفعول له متعلق بمعنى النهي والمعنى انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم أى لخشية حبوطها
﴿وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ ﴿إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عند رسول الله﴾
على تقدير حذف المضاف ﴿وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾
348
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)
﴿إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله﴾ ثم اسم إن عند قوله رَسُولِ الله والمعنى يخفضون أصواتهم في مجلسه تعظيماً له ﴿أولئك﴾ مبتدأ خبره ﴿الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى﴾ وتم صلة الذين عند قوله للتقوى وأولئك مع خبره خبران والمعنى أخلصها للتقوى من قولهم امتحن الذهب وفتنة إذا أذابه فخلص ابريزه من خبثه ونقاه وحقيقته عاملها معاملة المختبر فوجدها مخلصة وعن عمر رضى الله عنه أذهب الشهوات عنها والامتحان افتعال من محنه وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ جملة أخرى قيل نزلت في الشيخين رضى الله عنهما لما كان منهما من غض الصوت وهذه الآية بنظمها الذى وتبت عليه من إيقاع الغاضين اصواتهم اسما لان المؤكدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معا والمبتدا امس الإشارة واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم وإيراد الجزاء نكرة مبهماً أمره دالة على غاية الاعتداد والارتضاء بفعل الخافضين أصواتهم وفيها تعريض لعظيم ما ارتكب الرافعون اصواتهم
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤)
﴿إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات﴾ نزلت في وفد بني تميم أتوا رسول الله ﷺ وقت الظهيرة وهو راقد وفيهم الافرع بن حابس وعيينة بن حصن ونادوا النبي ﷺ من وراء حجراته وقالوا اخرج إلينا يا محمد فان مدحنازين وذمنا شين فاستيقظ وخرج والوراء الجهة التي بوار بها عنك لشخص بظلمه من خلف او قدام ومن لابتداء الغاية وأن المناداة نشأت من ذلك المكان والحجرة الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها وهى فعلة بمنى مفعولة كالفيضة وجمعها الحجرات بضمتين والحجرات بفتح الجيم وهي قراءة يزيدوالمراد حجرات نساء رسول الله ﷺ كانت لكل منهن حجرة ومناداتهم من ورائها لعلهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له أو نادوه من وراء الحجرة التي كان عليه السلام فيها ولكنها اجمعت اجلالا لرسول الله ﷺ والفعل وان كان مسند الى جميعهم فانه يجو ان يتولاه بعضهم وكا الباقون راضين فكأنهم تولوه جميعاً ﴿أَكْثَرُهُمْ لاَ يعقلون﴾ يحتمل ان يكون فهم من قصد استثناؤه ويحتمل أن يكون المراد النفى العام اذ القلة تقع موقع النفي وورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى من اجلال محل رسول الله ﷺ منها لتسجيل على الصائحين به بالسفه والجهل ومنها إيقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه ومنها التعريف باللام دون الإضافة ولو تأمل متأمل من أول السورة إلى آخر هذه الآية لوجدها كذلك فتأمل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير تقيد ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر كأن الأول بساط للثاني ثم أثنى على الغاضين اصواتهم ليدل على عظيم موفعه عند الله ثم عقبه بما هو أطم وهجنته أتم من الصباح برسول الله ﷺ في حال خلوته من وراء الجدر كما
349
﴿ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم﴾
بصاح بأهون الناس قدر الينبه على فظاعة ما جسروا عليه لأن من رفع الله قدره على أن يجهر له بالقول كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ في التفاحش مبلغاً
350
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ﴾ أي ولو ثبت صبرهم ومحل أَنَّهُمْ صَبَرُواْ الرفع على الفاعلية والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها قال الله تعالى واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يدعون ربهم وقولهم صبر عن كذا محذوف منه المفعول وهو النفس وقيل الصبر من لا يتجرعه الاخر وقوله ﴿حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾ يفيد أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم ﴿لَكَانَ﴾ الصبر ﴿خَيْراً لَّهُمْ﴾ في دينهم ﴿والله غفور رحيم﴾ بلغ الغفران والرحمة واسعهما فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء ان تابوا وانابوا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦)
﴿يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ﴾ أجمعوا أنها نزلت في الوليد بن عقبة وقد بعثه رسول الله ﷺ مصدقا إلى نبى المصطق وكانت بينه وبينهم إحنة في الجاهلية فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين إليه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله ﷺ قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فبعث خالد بن الوليد فوجدهم يصلون فسلموا إليه الصدقات فرجع وفي تنكير الفاسق والنبأ شياع في الفساق والأنباء كأنه قال أي فاسق جاءكم بأي نبأ ﴿فَتَبَيَّنُوآ﴾ فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا بقول الفاسق لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه وفي الآية دلالة قبول خبر الواحد العدل لأنا لو توقفنا في خبره لسوينا بينه وبين الفاسق ولخلا الخصيص به عن الفائدة والفسوق الخروج من الشيء ويقال فسقت الرطبة عن قشرها ومن مقلوبه فقست البيضة اذا كسرتها
350
واخرجت مافيها ومن مقلوبه أيضاً قفست الشيء إذا أخرجته من يد مالكه مغتصباً له عليه ثم استعمل في الخروج عن القصد بركوب الكبائر حمزة وعلى فتثبتوا والتثبت والنبين متقاربان وهما طلب الثبات والبيان والتعرف ﴿أَن تصيبوا قَوْماً﴾ لئلا تصيبوا ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ حال يعني جاهلين بحقيقة الامر وكنه القصه ﴿فتصبحوا﴾ فتصبروا ﴿على مَا فَعَلْتُمْ نادمين﴾ الندم ضرب من الغم وهو ان تغنم على ما وقع منك نتمنى أنه لم يقع وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام
351
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧)
﴿واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله﴾ فلا تكذبوا فإن الله يخبره فينهتك ستر الكاذب أو فارجعوا اليه اطلبوا رأيه ثم قال مستأنفاً ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ﴾ لوقعتم في الجهد والهلاك وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله ﷺ الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك وهم الذين استثناهم بقوله ﴿ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان﴾ وقيل هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ولما كانت صفة الذين حبب الله إليهم الإيمان غايرت صفة المتقدم ذكرهم وقت لكن في
﴿وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق﴾
حال موقعها من الاستدراك وهو مخالفة ما بعدها لما قبله نفياً وإثباتاً ﴿وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر﴾ وهو تغطية نعم الله وغمطها بالجحود - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ﴿والفسوق﴾ وهو الخروج عن محجة الإيمان بركوب الكبائر ﴿والعصيان﴾ وهو ترك الانقياد لما أمر به الشارع ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الراشدون﴾ أي أولئك المستثنون هم الراشدون يعني أصابوا طريق الحق ولم يميلو اعن الاستقامة والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
﴿فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً﴾ الفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام
351
والانتصاب على المفعول له أي حبب وكره للفضل والنعمة ﴿والله عَلِيمٌ﴾ بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل ﴿حَكِيمٌ﴾ حين يفضل وينعم بالتوفيق على الأفاضل
352
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)
﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ وقف رسول الله ﷺ على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار فأمسك ابن أبي بأنفه وقال خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه فقال عبد الله بن رواحة والله إن بول حماره لأطيب من مسكك ومضى رسول الله ﷺ وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج فتجالدوا بالعصي وقيل بالايدى والنعال والسعف فرجع اليهم رسول له ﷺ فأصلح بينهم ونزلت وجمع اقتتلوا حملاً على المعنى لأن الطائفتين في معنى القوم والناس وثنى في فاصلحوا بينهما نظر إلى اللفظ ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى﴾ البغي الاستطالة والظلم وإباء الصلح ﴿فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِىءَ﴾ أي ترجع والفيء الرجوع وقد سمى به الظل والغنيمة لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس والغنيمة ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين وحكم الفئة الباغية وجوب قتالها ما قاتلت فإذا كفت وقبضت عن الحرب أيديها تركت ﴿إلى أَمْرِ الله﴾ المذكور في كتابه من الصلح وزوال الشحناء ﴿فَإِن فَآءَتْ﴾ عن البغي إلى أمر الله ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل﴾ بالإنصاف ﴿وَأَقْسِطُواْ﴾ واعدلوا وهو امر استعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ العادلين والقسط الجور والقسط العدل والفعل منه أقسط وهمزته للسلب أي زال القسط وهو الجوار
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ هذا تقرير لما ألزمه من تولي
352
الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما إن لم يفضل الإخوة لم ينقص عنها ثم قد جرت العادة على أنه إذا نشب مثل ذلك بين الاخوين ولا الزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته بالصلح بينهما فالاخوة في الدين احق
﴿واتقوا الله لعلكم ترحمون﴾
بذلك أخوتكم يعقوب ﴿واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي واتقوا الله فالتقوى تحملكم على التواصل والائتلاف وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم مرجواً والآية تدل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان لأنه سماهم مؤمنين مع وجود البغى
353
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)
﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنّ خَيْراً مِّنْهُنَّ﴾ القوم الرجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء قال الله تعالى الرجال قوامون على النساء وهو في الاصل جمع فائم كصوم وزورق في جمع صائم وزائر واختصاص القوم بالرجال صريح الآية إذ لو كانت النساء داخلة في قوم لم يقل ولا نساء وحقق ذلك زهير في قوله... وما أدري ولست إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء...
وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد هم الذكور والإناث فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأتهن توابع لرجالهن وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين أن يراد لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض وأن يقصد إفادة الشياع وأن يصير كل جماعة منهم منهية من السخرية وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة على التوحيد إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه وقوله عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً منهم كلام مستأنف ورد مورد جوبا المستخير عن علة النهي وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء والمعنى وجوب أن يعتقد كل واحد أن
353
المسخور منه ربما كان عند الله خيراً من الساخر إذ لا اطلاع للناس إلا على الظواهر ولا علم لهم بالسرائر والذي يزن عند الله خلوص الضمائر فينبغي أن لا يجتريء احد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه اذ رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته فلعله أخلص ضميراً وأتقى قلباً ممن هو على ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى وعن ابن مسعود رضى الله عنه البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلت لخشيت أن أحول كلباً ﴿وَلاَ تَلْمِزُوآ أَنفُسَكُمْ﴾ ولا تطعنوا أهل دينكم واللمز الطعن والضرب باللسان وَلاَ تَلْمُزُواْ يعقوب وسهل والمؤمنون كنفس واحدة فإذا عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه وقيل معناه لا تفعلوا ما تلمزون به لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة ﴿وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب﴾ التنابز بالألقاب التداعي بها والنبز لقب السوء والتقليب المنهي عنه هو ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيراً به وذماً له فأما ما يحبه فلا بأس به ورُوي أن قوماً من بني تميم استهزءوا ببلال وخباب وعمار وصهيب فنزلت وعن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة وكانت قصيرة وعن انس رضى الله عنه عيرت نساء النبى ﷺ ام سلمة
﴿بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون﴾
بالقصر ورُوي أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله ﷺ ليسمع فأتى يوماً وهو يقول تفسحوا حتى انتهى الى رسول الله ﷺ فقال لرجل تنح فلم يفعل فقال من هذا فقال الرجل أنا فلان فقال بل أنت ابن فلانة يريد أماً كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبداً ﴿بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان﴾ الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم طار اسمه في الناس بالكرام أو باللؤم وحقيقته ما سما من ذكره
354
وارتفع بين الناس كأنه قيل بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق وقوله بَعْدَ الإيمان استقباح للجمع بين الايمان وبين الفسق الذى يخطره الإيمان كما تقول بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة وقيل كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود يا يهودى يا فاسق فنهو عنه وقيل لهم بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ﴾ عما نهي عنه ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون﴾ وحد وجمع للفظ من ومعناه
355
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)
﴿يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن﴾ يقال جنبه الشر إذا أبعده عنه وحقيقته جعله في جانب فيعدى إلى مفعولين قال الله تعالى واجنبنى وبنى ان نعبد الاصنام ومطاوعه اجتنب الشر فنقص مفعولاً والمأمور باجتنابه بعض الظن وذلك البعض موصوف بالكثرة ألا ترى إلى قوله ﴿إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ﴾ قال الزجاج هو ظنك باهل الخير سوء فاما اهل الفسق فلما أن نظن فيهم مثل الذي ظهر منهم أو معناه اجتناباً كثيراً أو احترزوا من الكثير ليقع التحرز عن البعض والإثم الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ومنه قيل لعقوبته الآثام فعال منه كالنكال والعذاب ﴿وَلاَ تَجَسَّسُواْ﴾ أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم يقال تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه تفعل من الجس وعن مجاهد خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله وقال سهل لا تبحثوا عن طلب معايب ما ستره الله على عباده ﴿وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً﴾ الغيبة الذكر بالعيب في ظهر الغيب وهي من الاغتياب كالغيلة من الاغتيال وفي الحديث هو أن تذكر أخاك بما يكره فإن كان فيه فهو غيبة وإلا فهو بهتان وعن ابن عباس الغيبة إدام كلاب الناس ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً﴾ مَيِّتًا مدني وهذا
355
تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على افحش وجه وفيه مبالغات منها الاستفهام الذي معناه التقرير ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة وصولا بالمحبة ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً ومنها ان لم يقتصر عل لحم الأخ حتى جعل ميتاً وعن قتادة كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي وانتصب مَيْتًا على الحال من اللحم
﴿فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم﴾
أو من أخيه ولما قررهم بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ أي فتحققت كراهتكم له باستقامة العقل فليتحقق أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة باستقامة الذين ﴿واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ التواب البليغ في قبول التوبة والمعنى واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين ورُوي أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوما فبعثاه الى رسول الله ﷺ يبغي لهما إداماً وكان أسامة على طعام رسول الله ﷺ فقال ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها فلما جاء الى رسول الله ﷺ فقال لهما مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما فقالا ما تناولنا لحماً قال إنكما قد اغتبتما ومن اغتاب مسلماً فقد أكل لحمه ثم قرأ الآية وقيل غيبة الخلق إنما تكون من الغيبة عن الحق
356
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
﴿يا أيها الناس إِنَّا خلقناكم مِّن ذَكَرٍ وأنثى﴾ من آدم وحواء أو كل واحد منكم من أب وأم فما منكم من أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواء بسواء فلا معنى للتفاخر والتفاضل في النسب ﴿وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ﴾ الشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي الشعب
356
والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة فالشعب يجمع القبائل والقبيلة تجمع العمائر والعمارة تجمع البطون والبطن تجمع الأفخاذ والفخذ تجمع الفصائل خزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصي بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة وسمت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها ﴿لتعارفوا﴾ أي إنما رتبكم على شعوب وقبائل ليعرف بعضكم نسب بعض فلا يعترى إلى غير آبائه لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد وتدعوا التفاضل في الأنساب ثم بين الخصلة التي يفضل بها الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله فقال ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم﴾ في الحديث من سره ان يكون اكرم الناس فليتق الله عن ابن عباس رضى الله عنهما كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى ورُوي انه ﷺ طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال الحمد لله الذي أذهب عنكم غيبة الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله وفاجر شقى هين على الله ثم قرأ الآية وعن يزيد ابن شجرة مر رسول الله ﷺ في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله ﷺ فاشتراه بعضهم فمرض فعاده رسول الله ﷺ ثم توفي فحضر دفنه فقالوا في ذلك شيئاً فنزلت ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ﴾ كرم القلوب وتقواها ﴿خبير﴾ بهمهم النفوس في هواها
357
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)
﴿قَالَتِ الأعراب﴾ أي بعض الأعراب لأن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر وهم أعراب بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة فأظهروا
﴿آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا﴾
الشهادة يريدون الصدقة ويمنون عليه ﴿آمنا﴾ اى ظاهر وباطناً ﴿قُلْ﴾ لهم
357
يا محمد ﴿لَّمْ تُؤْمِنُواْ﴾ لم تصدقوا بقلوبكم ﴿ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا﴾ فالإيمان هو التصديق والإسلام الدخول في السلم والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين ألا ترى إلى قوله ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ﴾ فاعلم أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان وهذا من حيث اللغة وأما في الشرع فالإيمان والإسلام واحد لما عرف وفي لَّمّاً معنى التوقع وهو دال على أن بعض هؤلاء قد آمنوا فيما بعد والآية تنقض على الكرامية مذهبهم أن الإيمان لا يكون بالقلب ولكنَّ باللسان فإن قلت مقتضى نظم الكلام ان قال قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم قلت أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً فقيل قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ مع أدب حسن فلم يقل كذبتم تصريحاً ووضع لَّمْ تُؤْمِنُواْ الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه واستغنى بقوله لَّمْ تُؤْمِنُواْ عن أن يقال لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان ولم يقل ولكن أسلمتم ليكون خارجاً مخرج الزعم والدعوى كما كان قولهم آمنا كذلك ولو قيل ولكن أسلمتم لكان كالتسليم والاعتداد بقولهم وهو غير معتد به وليس قوله وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان في قلوبكم تكرير المعنى قول لَّمْ تُؤْمِنُواْ فإن فائدة قوله لَّمْ تُؤْمِنُواْ تكذيب لدعواهم وقوله وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قلوبكم توقيت لما امروا به ان يقولوه كانه قيل لهم ولكن قولوا أسلمنا حين لم نثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قُولُواْ ﴿وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ في السر بترك النفاق ﴿لاَ يَلِتْكُمْ﴾ لا يألتكم بصري ﴿مِّنْ أعمالكم شَيْئاً﴾ اى لا ينقصكم من ثواب حسناتم شيئاً ألت يألت وألات يليت ولات يليت بمعنى وهو النقص ﴿إن الله غفور﴾ يستر الذنوب ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهدايتهم للتوبة عن العيوب
358
ثم وصف المؤمنين المخلصين فقال
359
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)
﴿إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ﴾ ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة والمعنى أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لمن صدقوه ولما كان الإيقان وزوال الريب ملاك الايمان أفرااد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مكانه وعطف على الايمان بكلمة التراخى اشعار باستقراره في الازمنة المتراخية المتطاولة غضا جديد ﴿وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله﴾ يجوز أن يكون المجاهد منوياً وهو العدو المحارب أو الشيطان أو الهوى وأن يكون جاهد مبالغة في جهد ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس الغزو وان بناول العبادات بأجمعها وبالمجاهدة بالمال نحو صنيع عثمان في جيش العسرة وان يتناول
الله الرحمن الرحيم
﴿ق والقرآن المجيد﴾ ﴿وعجبوا أن جاءهم منذر منهم﴾
الزكاة وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر وخبرالمبتدا الذي هو المؤمنون ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون﴾ أي الذين صدقوا في قولهم آمنا ولم يكذبوا كما كذب اعراب بنى اسد وهم الذين إيمانهم إيمان صدق وحق وقوله الذين آمَنُواْ صفة لهم ولما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا أنهم مخلصون فنزل
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦)
﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ﴾ أي أتخبرونه بتصديق قلوبكم ﴿والله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الأرض والله بكل شيء﴾ من النفاق والإخلاص وغير ذلك
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٧)
﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ﴾ أي بأن ﴿أَسْلَمُواْ﴾ يعني بإسلامهم والمن ذكر الأيادي تعريضاً للشكر ﴿قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ﴾ أي المنة لله عليكم ﴿أَنْ هَداكُمْ﴾ بأن هداكم أو لأن ﴿للإيمان إِنُ كُنتُمْ صادقين﴾ إن صح زعمكم وصدقت دعواكم إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره إن
359
كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان بالله فلله المنة عليكم وقرىء إِنْ هَداكُمْ
360
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨)
﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ وبالياء مكي وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم يعني أنه تعالى يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم لا يخفي عليه منه شيء فكيف يخفي عليه ما في ضمائركم وهو علام الغيوب
360
سورة ق مكية وهى خمس وأربعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

361
Icon