ﰡ
١ - ﴿الم﴾ ذكرنا تفسيره في سورة العنكبوت.
٢، ٣ - قوله تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ قال المفسرون: إن أهل فارس غلبوا أهل الروم ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ ففرح بذلك كفار مكة، وقالوا: إن فارس ليست لهم كتب ونحن مثلهم، وقد غلبوا أهلَ الروم وهم أهل كتاب مثلكم، فنحن أيضًا نغلبكم كما غلبت فارس الروم (٢).
وقال السدي: اقتتلت فارس والروم فغلبتهم فارس، ففخر أبو سفيان ابن حرب على المسلمين، وقال: الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم الكتاب. فذلك قوله: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ (٣) وهم جيل من ولد الروم بن عيص بن إسحاق (٤)، غلب اسم أبيهم عليهم، فصار كالاسم للقبيلة. وإن شئت قلت:
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ١٠١، عن مجاهد، وقتادة، والشعبي. وأخرجه ابن جرير ٢١/ ١٧، عن ابن عباس، وعكرمة، وعطاء، والشعبي. وأخرجه مقاتل عن عكرمة، "تفسير مقاتل" ٧٥ ب. وذكره الثعلبي ٨/ ١٦٤ أ، وصدره بقوله: قال المفسرون. ولم يسمهم.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢١/ ١٦، عن ابن عباس، من طرق، وعن عكرمة، وقتادة. ولم أجد فيه رواية السدي. ولم أجده في تفسير السدي، جمع محمد عطا يوسف.
(٤) قال ابن دريد: الروم: جيل معروف. "جمهرة اللغة" ٢/ ٨٠٣. وفي "اللسان" ١٢/ ٢٥٨ (روم): جيل معروف، واحدهم: رُومي، ينتمون إلى: عِيصو بن إسحاق النبي -عليه السلام-.
قال صاحب النظم: لا يحتمل قوله: ﴿الم﴾ هاهنا إلا أن يكون في معنى القسم، ويكون خبره في قوله: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ على معنى: لقد غلبت، فلما أضمرت: قد، أضمرت معها: اللام، وقد مما يضمر، كقوله: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ [النساء: ٩٠] وقول النابغة:
أَضْحَتْ خَلاءً وأضحى أهلُها احتمَلُوا (١)
يعني: قد احتملوا.
ولما أضمر: قد، في الآية وهو موضع اللام أيضًا كقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] فيقال لهم: ﴿أَكَفَرْتُمْ﴾ أضمر الفاء معه؛ لأنه موضعه، وذلك أن جواب (أما) لا يكون إلا بالفاء، كما قال -عز وجل-: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ﴾ [آل عمران: ١٠٧].
وقوله: ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس: يريد الجزيرة (٢).
قال ابن أبي نجيح: هي الجزيرة، وهي أقرب أرض الروم إلى
أخنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ
وفي الحاشية: أخنى عليها: غيرها وأفسدها، لبد: زعموا أنه نسر كان للقمان بن عاد عمر طويلًا.
قال البغدادي: هذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني مدح بها النعمان بن المنذر، واعتذر إليه مما بلغه عنه. "خزانة الأدب" ٤/ ٥.
(٢) لعل المراد بها: جزيرة أَقُور فإنها تسمى: الجزيرة؛ لأنها بين دجلة والفرات، مجاورة الشام. وقد أطال الحديث عنها ياقوت في "معجمه" ٢/ ١٥٦. شمال غرب العراق، في المنطقة الفاصلة بين العراق وسوريا.
وقال مقاتل: هي الأردن وفلسطين. وعكرمة: أذرعات وكَسْكَر (٣).
وقوله: ﴿وَهُمْ﴾ يعني: الروم ﴿مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ قال الفراء: كلام العرب: غَلَبتُه غَلَبَةً، فإذا أضافوا أسقطوا الهاء، كما أسقطوها من قوله: ﴿وَإِقَامَ الصَّلَاةِ﴾ [الأنبياء: ٧٣] والكلام: إقامة الصلاة (٤). وأنكر الزجاج ذلك؛ وقال: هذا خطأ، والغَلَب والغَلَبة مصدر: غَلَبْتُ، مثل: الجَلَبُ والجَلَبَة (٥).
وقال المبرد: أضاف الغلبة إلى الروم وهم مفعولون؛ لأن الفعل يضاف إلى مفعوله كما يضاف إلى فاعله؛ لأنه صاحبه، تقول: أعجبني
(٢) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢١، عن ابن عباس، وأخرج نحوه ٢١/ ١٦، عن ابن عمر. وذكره عن ابن عمر الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٣١٩. قال الزجاج ٤/ ١٧٥: وتأويله: أدنى الأرض من أرض العرب.
(٣) في "تفسير مقاتل" ٧٥ ب: أذرعات، عن عكرمة. وفي: ٧٧ أ: الأردن وفلسطين. وليس فيه ذكر: كسكر. لكن ذكره عن عكرمة الثعلبي ٨/ ١٦٥ أ. وأخرج ابن جرير ٢١/ ١٨، عن عطاء وعكرمة، أنها: أذرعات. وأَذْرعات: بلد في أطراف الشام، يجاور أرض البلقاء وعَمَّان. "معجم البلدان" ١/ ١٥٨. و: كَسْكَر: تعريف ياقوت لها يدل على أنها مدينة بين: البصرة والكوفة. "معجم البلدان" ٤/ ٥٢٣، وهي جنوب شرق بغداد على نهر دجلة بالقرب من الحدود الإيرانية وفي "تهذيب اللغة" ٢/ ٣١٥: أذرعات: بلد تنسب إليها الخمر. وفي "اللسان" ٨/ ٩٧: موضع بالشام تنسب إليه الخمر. (ذرع). وهي تبعد إلى الشرق من مدينة عكا بحوالي ١٢٠ كم.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٣١٩.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٧ الجَلَب: ما جلب القوم من غنم أو سبي، والجلب الجلبة في جماعة الناس، والفعل: أجلبوا وجَلَّبوا من الصياح. "تهذيب اللغة" ١١/ ٩٠ (جلب).
٣، ٤ - قوله تعالى: ﴿سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ ذكرنا تفسير البضع عند قوله: ﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ [يوسف: ٤٢] (٢). أخبر الله تعالى: أن الروم بعد ما غُلبوا سيغلبون، ويصيرون غالبين لفارس؛ روى عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما نزلت: ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ ناحب أبو بكر قريشًا ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: إني ناحبتهم، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فهلا احتطت فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع" (٣).
ولست مُسلِمًا ما دمت حيًا | على زيد بتسليم الأمير |
(٢) ذكر الواحدي في تفسير هذه الآية الخلاف في البضع، والأقوال التي ذكرها:
١ - البضع ما لم يبلغ العقد ولا نصفه؛ أي: من واحد إلى أربعة. قاله أبو عبيدة.
٢ - قال الأصمعي: ما بين الثلاث إلى التسع، وصححه الزجاج.
٣ - البضع ما بين العقدين، وهو قول الأخفش. ثم قال الواحدي: وعامة المفسرين على أن المراد بالبضع هاهنا: سبع.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢١/ ١٧، من طريق ابن شهاب الزهري عن عبيد الله، عن عبد الله بن عباس. ومن الطريق نفسه أخرجه الترمذي ٥/ ٣٢٠، كتاب التفسير، =
وقال في رواية عطاء: لما نزلت هذه الآية جرى بين أبي بكر رضي الله عنه وبين أمية بن خلف في ذلك كلام حين وقع بينهما رهان على ثلاث قلائص (٢) إلى أجل ثلاث سنين، فأتى أبو بكر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ارجع فاستزده في القلائص، وفي السنين"؛ فصيروا الرهبان سبع قلائص إلى سبع سنين (٣).
وقال الشعبي: بلغنا أن المسلمين والمشركين تخاطروا (٤) بينهم لما نزلت هذه، وذلك قبل تحريم القمار، وضربوا بينهم أجلاً، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو ضربتم أجلاً آخر فإن البضع يكون ما بين الثلاث إلى تسع" فزايده إلى
وقد ورد في النسختين هكذا: عبد الله بن عبد الله، والصواب: عبيد الله بن عبد الله، كما هي رواية الترمذي، وابن جرير.
(١) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٤ ب والنَّحب، تطلق على معانٍ، منها: النذر، والقمار، وغيره. "تهذيب اللغة" ٥/ ١١٧ (نحب).
(٢) القَلُوص: الفتية من النوق، بمنزلة الفتاة من النساء. وتطلق أيضًا على: كل أنثى من الإبل من حين تركب، وإن كانت بنت لبون أو حِقة. "تهذيب اللغة" ٨/ ٣٦٨ (قلص).
(٣) أخرج نحوه ابن جرير ٢١/ ١٦، عن ابن عباس، من طريق سعيد بن جبير. وأخرجه أيضًا عن عكرمة، وقتادة، مع اختلاف في عدد السنين، وعدد القلائص، وكذا في "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٤ ب، ولم ينسبه.
(٤) الخَطَر، والسَّبَق، والنَّدَب، واحد، وهو كله: الذي يوضع في النَّضال، والبرهان، فمن سبق أخذه. "تهذيب اللغة" ٧/ ٢٢٤ (خطر).
وقال: سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما غلبت فارس الروم وفرح المشركون بذلك، ذكروا ذلك لأبي بكر؟ فذكره أبو بكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنهم سيغلبون فارس" فذكر أبو بكر لهم: إن الروم سيغلبون ثم عقدوا عقد الرهان على ما ذكرنا (٢).
قال أبو إسحاق: وهذه من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله -عز وجل-؛ لأنه أنبأ بما سيكون وهذا لا يعلمه إلا الله (٣).
وقال جماعة من المفسرين: صاحب القمار من جهة المشركين كان أبيِّ بن خلف، وكان الخَطَر بينهم: مائة من الإبل (٤).
وقوله: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ أجمع المفسرون: أن الروم غلبت فارس بعد ما أخبر الله بهذه الآية أنهم سيغلبون في السنة السابعة (٥).
(٢) أخرجه ابن جرير ٢١/ ١٦، من طريق سعيد بن جبير. وأخرجه الحاكم ٢/ ٤٤٥، كتاب التفسير، رقم (٣٥٤٠)، من طريق سعيد أيضًا، وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه من طريق سعيد أيضًا الترمذي ٥/ ٣٢٠، كتاب: التفسير، رقم (٣١٩٣)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. وهو في "صحيح سنن الترمذي" ٣/ ٨٧، رقم (٢٥٥١).
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٥.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢١/ ١٩، عن عكرمة، وقتادة "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٤ ب، ولم ينسبه.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ. وليس فيه ذكر السنة، بل ذكر فيه أن ذلك وقع في سنة الحديبية، وقد وقع صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة. "السيرة النبوية" لابن هشام ٣/ ٣٢١، والفصول في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ١٨٤. وذكر سبع =
وذكرنا الكلام في وجه ارتفاع ﴿قَبْلُ﴾ و ﴿بَعْدُ﴾ في أوائل سورة البقرة (٢). وذكر الفراء والزجاج هاهنا كلامًا طويلاً -صلى الله عليه وسلم- في إعراب ﴿قَبْلُ﴾
(١) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢١، بنحوه عن ابن جريج. و"تفسير مقاتل" ٧٧ أ. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٦.
(٢) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] ﴿قَبْلُ﴾ يبنى على الضم في هذا الموضع؛ لأنها تضمنت معنيين؛ أحدهما معناها في ذاتها وهو السبق، والآخر معنى ما بعدها؛ لأن التأويل: هذا الذي رزقنا من قبله، فهو وإن لم يضف ففيه معنى الإضافة، فلما أدت عن معنيين قويت فحملت أثقل الحركات وكذلك قوله: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ تأويله من قبل كل شيء وبعده، وهذا مذهب الفراء والمبرد، واختيار ابن الأنباري.
وقد ذكر إعرابهما سيبويه، "الكتاب" ٣/ ٢٨٦، والمبرد، "المقتضب" ٣/ ١٧٤، ١٧٥، والأخفش، "معاني القرآن" ٢/ ٦٥٨.
٤، ٥ - قوله: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: يريد: حينئذ؛ حين تغلب الروم فارس ﴿يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾: أبو بكر وأصحابه ﴿بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ الروم على فارس (٢). وقال مقاتل: لما كان يوم بدر غلب المسلمون كفار مكة، وأتى الخبرُ المسلمين أن الروم قد غلبوا أهل فارس ففرح المؤمنون بذلك.
قوله: ﴿وَيَوْمَئِذٍ﴾ يعني: يوم بدر (٣) ﴿يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ ونحو هذا قال السدي: فرح النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم: بدر، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك. قال أبو سعيد الخدري: ظهر الروم على فارس يوم أحد (٤).
وقال آخرون: ظهر الروم على فارس يوم الحديبية؛ وهو قول عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود (٥).
(٢) أخرجه ابن جرير ٢١/ ١٧.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ. ولا يفهم من نقل الواحدي عن مقاتل أن غلبة الروم على فارس كانت مقاربة لغزوة بدر، كلا، بل قال مقاتل: وأتى المسلمين الخبرُ بعد ذلك، والنبي -صلى الله عليه وسلم-، والمؤمنون بالحديبية أن الروم قد غلبوا أهل فارس.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢١، وفيه يوم بدر؛ وهكذا ذكره السيوطي، "الدر المنثور" ٦/ ٤٨١، وعزاه لابن أبي حاتم، وأخرجه كذلك الترمذي ٥/ ٣٢٠، كتاب تفسير القرآن، رقم (٣١٩٢). فكتابة: أحد؛ بدل: بدر، في "البسيط" تحريف. والله أعلم.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢١/ ١٩، عن عطاء، وقتادة قال ابن كثير ٦/ ٣٠٣: وقد كانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قول طائفة كبيرة من العلماء؛ كابن عباس، والثوري، والسدي، وغيرهم.. وقال آخرون: بل كان نصرة الروم على فارس عام الحديبية؛ قاله عكرمة، والزهري، وقتادة وغيرهم.. ووجه بعضهم هذا =
قوله: ﴿يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي: كما نصر الرومَ على فارس.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾: المنيع في ملكه ﴿الرَّحِيمُ﴾ بالمؤمنين خاصة (٢).
﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
٦ - قوله: ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾ قال أبو إسحاق: مصدر مؤكد؛ لأن قوله: ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ هو وعد من الله للمؤمنين، فقوله: ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾ بمنزلة: وعد الله وعدًا (٣).
قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ قال مقاتل: يعني كفار مكة (٤) ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ أن الله لا يخلف وعده في إظهار الروم على فارس. ثم قال لكفار مكة:
٧ - ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قال عكرمة وإبراهيم: معايشهم وما يصلحهم (٥).
(١) أخرجه ابن جرير ٢١/ ١٧، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٧. وذكره سيبويه، "الكتاب" ١/ ٣٨١. وذكره أيضًا المبرد؛ فقال: ومثل ذلك: ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾ لأنه لما قال: ﴿يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ عُلم أن ذلك وعد منه، فصار بمنزلة: وعدهم وعدًا، ثم أضافه. "المقتضب" ٣/ ٢٣٢. ونحوه في "المسائل الحلبيات" ٣٠٣.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ.
(٥) أخرجه عنهما ابن جرير ٢١/ ٢٣.
وقال قتادة: يعلمون تجارتها وحرفتها وبيعها (٣).
قال ابن عباس: يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال (٤).
وقال الضحاك: يعلمون بنيان قصورها، وتشقيق أنهارها، وغرس أشجارها (٥).
وقال مقاتل: يعني حرفتهم، ومتى يُدرك زرعهم، وما يصلحهم في معايشهم (٦).
وقال أبو إسحاق: المعنى: يعلمون من معايش الحياة؛ لأنهم كانوا يعالجون التجارات (٧)، فأعلم الله -عز وجل- مقدار ما يعلمون، وقوله (٨): {وَهُمْ
(٢) "الدر المنثور" ٦/ ٤٨٤، ونسبه لابن المنذر وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٨٨. ولفظه في الدر: يقلب الدرهم على ظفره. وذكره ابن الجوزي، "زاد المسير" ٦/ ٢٨٩، ولفظه: ينقر الدرهم بظفره. وفي النسختين: ينقر الدرهم بيده. ولعل الصواب -والله أعلم-: يقلب الدرهم بيده؛ لأن تقليب الدرهم باليد يستفيد منه الحاذق معرفة الوزن دون النقرة الذي يمكن أن يستفاد منه معرفة النوع الرديء من الجيد.
(٣) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ١٠٢، وابن جرير ٢١/ ٢٣، عن قتادة.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٣٢، من طريق علي بن أبي طلحة.
(٥) "الدر المنثور" ٦/ ٤٨٥، ونسبه لابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٨٨.
(٦) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ.
(٧) ذكر نحوه الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٣٢٢.
(٨) هكذا: وقوله، في النسختين. ولعل الصواب: بقوله، كما يدل عليه السياق، والله أعلم. وأما عند الزجاج فقد جاءت بزيادة أوضحت المعنى؛ قال... فأعلم الله -عز وجل- =
٨ - ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ (٢) أي: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ المكذبون بالبعث والقيامة في خلقي إياهم فيعلموا ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ﴾ الآية (٣). قال أبو إسحاق: وحذف فيعلموا؛ لأن في الكلام دليلًا عليه (٤).
وقوله: ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ قال الفراء: ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ يعني: للثواب والعقاب (٥).
وقال الزجاج: إلا للحق أي: لإقامة الحق (٦). وهو معنى قول مقاتل: لم يخلقهما عبثًا لغير شيء؛ خلقهما لأمر هو كائن (٧).
قوله تعالى: ﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ قال: للسموات والأرض أجل ينتهيان إليه؛ وهو يوم القيامة (٨). قال الزجاج: وهو الوقت الذي توفَّى فيه كل نفس ما كسبت (٩). والمعنى: أولم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئًا فيعلموا أنَّ خلق السموات لأمرٍ، وأن لهما أجلاً، وهو: القيامة.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٨.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ.
(٣) تفسير ابن جرير ٢١/ ٢٤، باختصار.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٨.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٢.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٨.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ.
(٨) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ، بنصه.
(٩) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٨، وفيه. توفي فيه. وسقطت كلمة: فيه، من النسختين.
قال أبو إسحاق: معناه: لكافرون بلقاء ربهم، تقدمت الباء؛ لأنها متصلة بكافرون، وما اتصل بخبر إنَّ جاز أن يُقدم قَبل اللام، ولا يجوز أن تدخل اللام بعد مضي الخبر، كقولك: زيد كافر لباللَّه؛ لأنها تدخل على الابتداء والخبر فتؤكد الجملة، ولا تأتي توكيدًا وقد مضت الجملة (٣).
٩ - قال مقاتل: ثم خوفهم فقال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ يعني: الأمم الخالية كان عاقبتهم العذاب في الدنيا (٤). والمعنى: أو لم يسافروا في الأرض فينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم ويعلموا أنهم أهلكوا بتكذيبهم فيعتبروا. ثم وصفهم فقال:
﴿كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ أي: أعطاهم من القوة ما لم يعطِ هؤلاء ﴿وَأَثَارُوا الْأَرْضَ﴾ ذكرنا تفسير: الآثار، عند قوله: ﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ [البقرة: ٧١] (٥) قال الفراء: حرثوها (٦). وهو قول مجاهد (٧).
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ، بنصه.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٩.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ.
(٥) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: ﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ أي: تقلبها للزراعة. ومعنى الإثارة: تفريق الشيء في كل جهة، يقال: أثرت الشيء واستثرته إذا هيجته...
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٢. وقال أبو عبيدة: أي: استخرجوها، ومنه قولهم: أثار ما عندي: أي: استخرجه، وأثار القوم: أيَ: استخرجهم. "مجاز القرآن" ٢/ ١١٩.
(٧) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢٥.
وقال ابن عباس: يريد الأجنة (٢) والأنهار وما غرسوا من الأشجار (٣). يريد أن أثارهم كان لأجل هذه الأشياء.
وقال مقاتل: يعني: وملكوا الأرض (٤)؛ وهذا معنى وليس بتفسير؛ وذلك أنه يثير الأرض مالكها.
وقوله: ﴿وَعَمَرُوهَا﴾ يعني: الأمم ﴿أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ يعني: كفار مكة (٥). واختلفوا لِمَ كانت الأمم أكثر عمارة من أهل مكة؟ فذهب قوم إلى أنهم كانوا أكثر عمارة لأنهم كانوا أطول عمرًا؛ وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل؛ قال الكلبي: وبقوا فيها أكثر مما بقي فيها قومك (٦).
وقال مقاتل: يقول: وعاشوا في الأرض أكثر مما عاش فيها كفار مكة (٧). وإذا كانوا أطولَ بقاءً، وأكثرَ عيشًا كانوا أكثر عمارة. وقال آخرون: لأنهم كانوا أكثر عددًا؛ فقد روي أنه لم يبق نَشَزٌ (٨) من الأرض يحتمل عمارة إلا كان لها عامر على عهد عاد، والأمم السالفة. وذكر أبو إسحاق معنًى آخر؛ فقال: يعني: أن الذين أهلكوا من الأمم كانوا أكثر حرثًا
(٢) هكذا في (أ)، (ب): (الأجنة)، وهي جمع جنة. قال الأزهري: الجنة: الحديقة، جمع جنانه "تهذيب اللغة" ١٠/ ٥٠٣ (جنن).
(٣) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢٤، بلفظ: ملكوا الأرض وعمروها.
(٤) لم أجده في تفسير مقاتل، ولم أجده كذلك عند الثعلبي.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٢.
(٦) "تنوير المقباس" ص ٣٣٩.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٧ ب.
(٨) النَّشَزُ، والنَّشْزُ، والوَشَز: ما ارتفع من الأرض. "تهذيب اللغة" ١١/ ٣٠٥ (نشز).
قوله: ﴿وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قال ابن عباس: يريد: الحلال والحرام، والأحكام والحدود. وقال مقاتل: فيعذبهم على غير ذنب (٢) ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بالكفر والتكذيب. ودلَّ هذا الكلام على أنهم لم يؤمنوا فأهلكوا؛ لأن الله أعلم أنه عذبهم غيرَ ظالم لهم.
قال صاحب النظم: يأتي [الظلم] (٣) في الكلام لثلاثة معانٍ؛ أحدها: وضع الشيء في غير موضعه، كقوله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] وذلك أنه وضع الربوبية غير موضعها. والثاني: المنع والحبس، كقوله: ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: ٣٣] والثالث: أخذ الشيء قبل وقت أخذه، كقول الشاعر:
وقائلة ظلمتُ لكم سقائي | وهل يخفى على العَكِد الظليم (٤) |
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٧ ب، في تفسير قول الله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ فلعل ذكر الآية سقط من النسختين. والله أعلم.
(٣) كلمة (الظلم) غير موجودة في النسختين، وزدتها لاستقامة الكلام.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٤/ ٣٨٣ (ظلم)، ولم ينسبه. وكذا في "مقاييس اللغة" ٣/ ٤٦٩. وكذا في "لسان العرب" ١٢/ ٣٧٥. سبق أن استشهد الواحدي بهذا البيت في تفسير سورة البقرة. والبيت غير منسوب في "جمهرة الأمثال" ١/ ١٣١، واستشهد بهذا البيت في ذكر المثل: أهون مظلوم سِقاء مروَّب. وكذا في "مجمع الأمثال" ٢/ ٤٨٢، و"المستقصى" للزمخشري ١/ ٤٤٤. والعَكِد: أجل اللسان. "تهذيب اللغة" ١/ ٣٠٠ (عكد). معنى البيت: أن اللسان يدرك بالشرب أن اللبن قد ظُلِم بأخذه قبل وقته.
١٠ - ثم أخبر عن عاقبتهم فقال: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يعني أشركوا (١).
وقوله: ﴿السُّوأَى﴾ أكثر التفسير في ﴿السُّوأَى﴾ أنها: النار، ضد الحُسنى؛ وهي: الجنة (٢). وهو قول الأخفش والفراء والزجاج وابن قتيبة (٣)، قال الزجاج وغيره: إساءتهم هاهنا: كفرهم، وجزاء الكفر: النار (٤). كما جُعل للعمل الحسنى؛ وهو: الإيمان: الثواب الحسن؛ وهو: الجنة، في قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى﴾ [يونس: ٢٦].
قال ابن قتيبة: ﴿السُّوأَى﴾ جهنم، والحسنى: الجنة (٥). وقال غيره: سميت جهنم ﴿السُّوأَى﴾ لأنها تسوء صاحبها، من قولهم: ساءه يسوؤه.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢٥، عن ابن عباس، وقتادة. "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٥ ب، ولم ينسبه. والحسنى وردت في قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦] وقد ذكر الآية الواحدي بعد ذلك.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٢. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٤٠. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٩. قال الأخفش: ﴿السُّوأَى﴾ مصدر هاهنا مثل: التقوى. "معاني القرآن" ٢/ ٦٥٦، ولم أجد فيه ما ذكر الواحدي.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٩.
(٥) "غريب القرآن" ص ٣٤٠.
وفي قوله: ﴿عَاقِبَةَ الَّذِينَ﴾ قراءتان؛ الرفع والنصب (٣)، فمن نصب جعلها خبر كان، ونصبَها متقدمةً، كما قال: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧] واسم كان على هذه القراءة يجوز أن يكون أحد شيئين؛ أحدهما: ﴿السُّوأَى﴾ على تقدير: ثم كان عاقبة الذين أساؤا (٤)، ويكون أن في قوله: ﴿أَنْ كَذَّبُوا﴾ مفعولًا له؛ أي: لأن كذبوا (٥).
وهذا معنى قول الفراء والزجاج؛ قال الفراء: ﴿أَنْ كَذَّبُوا﴾ لتكذيبهم، ولِأن كذبوا، فإذا ألقيتَ اللام كان نصبًا (٦).
وقال الزجاج: المعنى: ثم كان عاقبة الكافرين النارَ لتكذيبهم بآيات
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٧ ب.
(٣) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع: ﴿عَاقِبَةَ﴾ بالرفع، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿عَاقِبَةَ﴾ بالنصب. "السبعة في القراءات" ص ٥٠٦، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٢، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" ٢/ ١٩٣، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٤.
(٤) اسم كان هنا غير واضح؛ لأن في العبارة نقصًا، وصوابها كما عند أبي علي في "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٢: التقدير: ثم كان السوأى عاقبةَ الذين أساؤوا.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٣.
(٦) "معاني القرآن" للفر اء ٢/ ٣٢٢.
الوجه الثاني في اسم كان على هذه القراءة هو: ﴿أَنْ كَذَّبُوا﴾ التقدير: ثم كان التكذيبُ ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا﴾ ويكون: ﴿السُّوأَى﴾ على هذا مصدرًا، وفُعْلَى من أبنية المصادر، كالرُّجعى، والشُّورى، والبُّشرى (٢)، ومعنى الآية: ثم كان التكذيب آخرَ أمرهم أي: ماتوا على ذلك، كأن الله تعالى جازاهم على إساءتهم أن طبع على قلوبهم حتى ماتوا على التكذيب والشرك عقابًا لهم بذنوبهم. وهذا الوجه ذكره أبو علي، وصاحب النظم.
ومن رفع العاقبة جاز أن يكون الخبر: ﴿السُّوأَى﴾ و ﴿أَنْ كَذَّبُوا﴾ كما جاز فيمن نصب العاقبة أن يكون كلُّ واحد منهما: الاسم، والتقدير: ثم كان عاقبةُ المسيء التكذيبَ بآيات الله، يعني أنه مات على التكذيب كما ذكرنا، أو يكون المعنى: أنه لم يظفر في شركه وكفره بشيء إلا بالتكذيب بآيات الله، و ﴿السُّوأَى﴾ على هذا في موضع نصب بأنه مصدر. وقد يجوز أن يكون: صفة لموصوف محذوف، كأنه الخَّلَة ﴿السُّوأَى﴾ أو الخِلال ﴿السُّوأَى﴾ (٣).
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٣. والرُّجعى وردت في قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ [العلق: ٨] والبشرى في قوله تعالى: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..﴾ [يونس: ٦٤] و ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى..﴾ [هود: ٧٤] و ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى﴾ [الزمر: ١٧]، وأما الشورى فلم ترد في القرآن معرفة بالألف واللام، وإنما جاءت منكرة، قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ..﴾ [الشورى: ٣٨] والله أعلم.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٤، بنصه. وقد ضبطت: الخلة، بضم الخاء، والخلال بكسرها، ولم يبين في الحاشية المعنى، ولعل الصواب -والله أعلم- =
وقرئ (تُرْجَعُونَ) بالياء والتاء (٢)؛ فمن قرأ بالياء فلأن المتقدم ذكرُه غيبة؛ وهو قوله: (يَبْدَؤُا الخَلْقَ) والخلق هم: المخلوقون في المعنى، وجاء قوله: (ثُمَّ يُعِيدُهُ) على لفظ الخلق، وقوله: (تُرْجَعُونَ) على المعنى، ولم يرجع على لفظ الواحد كما كان ﴿يُعِيدُهُ﴾ كذلك. ووجه التاء أنه صار من الغيبة إلى الخطاب، ونظيره: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] (٣).
١٢ - قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ قال مقاتل: ييأس. وهو قول الكلبي وقتادة (٤).
(١) "تفسير مقاتل" ٧٧ ب.
(٢) قرأ أبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر ﴿يُرْجَعُونَ﴾ بالياء، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه: ﴿تُرْجَعُونَ﴾ بالتاء، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: ﴿تُرْجَعُونَ﴾ بالتاء. "السبعة في القراءات" ص ٥٠٦، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٤، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" ٢/ ١٩٤، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٤.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٤، بنصه.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٧ ب وذكره السيوطي عن ابن عباس، وعزاه لابن أبي حاتم. "الدر المنثور" ٦/ ٤٨٥. وهو قول الفراء، قال: ييأسون من كل خير. "معاني القرآن" ٢/ ٣٢٢. وكذا أبو عبيدة، في "المجاز" ٢/ ١٢٠. وابن جرير ٢١/ ٢٦.
وقال الفراء: ينقطع كلامهم وحجتهم (٢).
وقال أبو إسحاق: المُبْلِس: الساكت المنقطع في حجته، اليائس من أن يهتدي إليها، تقول: ناظرت فلانًا فأبلسَ؛ أي: انقطع وأمسك، ويئس من أن يحتج (٣).
وذُكر تفسير الإبلاس عند قوله: ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤] (٤).
قال الكلبي: يأس المشركون من كل خير حين عاينوا العذاب (٥).
١٣ - ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ﴾ أوثانهم التي عبدوها من دون الله ليشفعوا لهم (٦) ﴿شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ﴾ قال الكلبي: تتبرأ منهم الآلهة، ويتبرءوا منها (٧).
١٤ - ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ قال ابن عباس: يُفرق بين أولياء الله وبين
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٢.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٩.
(٤) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال ابن عباس: آيسون من كل خير، وهو قول مقاتل، وقال الفراء: المبلس: اليائس المنقطع رجاؤه، ولذلك قيل للذي يسكت عند انقطاع حجته أو لا يكون عنده جواب: قد أبلس.. وقال الزجاج: المبلس: الشديد الحسرة اليائس الحزين. فالإبلاس في اللغة يكون بمعنى: اليأس من النجاة عند ورود الهلكة، ويكون بمعنى: انقطاع الحجة، ويكون بمعنى: الحيرة بما يرد على النفس من البلية، وهذه المعاني متقاربة.
(٥) "تنوير المقباس" ص ٣٣٩.
(٦) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٦ أ، بنصه.
(٧) "تنوير المقباس" ص ٣٣٩، بنحوه.
وقال أبو علي: يصيرون فرقة بعد فرقة من قوله: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: ٧] وهذا إخبار عن الخلق المذكور في قوله: ﴿يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ لأنه أراد المسلمين والكافرين جميعًا؛ يدل على ذلك أنه أخبر بمنزلة الفريقين فقال:
١٥ - ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ (٤) قال الأخفش: يقال حَبَّره الله يُحَبِّره حَبْرًا، وهو محبور: مُكَرَّمٌ مُنَعَّمٌ (٥).
قال ابن السكيت: يُسَرُّون (٦). والحَبْرَة والحَبُور: السُّرور، وأنشد:
الحمد لله الذي أعطى الحَبْرَ (٧)
(٢) "الدر المنثور" ٦/ ٤٨٦، ونسبه لابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٨٩.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢٧.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٠، حيث قال: وفيما بعده دليل على أن التفرق للمسلمين والكافرين، فقال: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ ثم بين على أي حال يتفرقون فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾.
(٥) لم أجد قول الأخفش في كتابه المعاني عند هذه الآية، ولا عند قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ﴾ [الزخرف: ٧٠]. ولم أجده في "تهذيب اللغة".
(٦) ذكره عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" ٥/ ٣٤ (حبر). وذكره ابن قتيبة، "غريب القرآن" ٣٤٠، ولم ينسبه.
(٧) قول ابن السكيت مع إنشاد البيت ونسبته للعجاج في "إصلاح المنطق" ٢٥٢. =
قَد لَبِسْتُ الدهر من أفنانه | كلَّ فان ناعمٍ منه حَبِر (٢) |
وقال أبو عبيدة: ﴿يُحْبَرُونَ﴾ يُسَرُّون ويُفرَحون (٤). قال ابن عباس: يريد في رياض الجنة ينعمون (٥). وهو قول مجاهد وقتادة (٦).
وقال مقاتل: يُكرمون بالتحف ونحوه (٧).
موالي الحق إنِ المولى شكر
(١) المَرَّار العدوي، زياد بن منقذ بن عمرو، وسماه ابن قتيبة: المرَّار بن منقذ من صدي ابن مالك بن حنظلة، وأم صدي من جَلّ بن عدي فيقال له ولولده: بنو العدوية. والمرار من شعراء الدولة الأموية، كان معاصرًا للفرزدق وجرير. ت: ١٠٠ هـ. "الشعر والشعراء" ص ٤٦٩، و"خزانة الأدب" ٥/ ٢٥٣، و"الأعلام" ٣/ ٥٥.
(٢) كتاب "العين" ٣/ ٢١٨ (حبر)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" ٥/ ٣٤، وفيهما نسبة البيت للمرار العدوي.
(٣) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٣٤٠، بلفظ: كل حَبرة تتبعها عَبرة. لم أجده في كتب الأمثال التي اطلعت عليها.
(٤) "مجاز القرآن" ٢/ ١٢٠.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢٧، بلفظ: يكرمون. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٦٦ أ.
(٦) أخرجه عنهما ابن جرير ٢١/ ٢٨، بلفظ: ينعمون. وذكره عنهما الثعلبي ٨/ ١٦٦ أ.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٧ ب، ولفظه: في البساتين يكرمون وينعمون فيها وهي: الجنة.
وقال أبو إسحاق: الحَبْرة في اللغة: كلُّ نِعمَةٍ حَسَنةٍ، والتحبير: التحسين، والحَبْر العالم؛ لأنه متخلق بأحسن الأخلاق (٢)، وُيحبرون: يُكرمون إكرامًا يبالغ فيه. وعن الأوزاعي ويحيى بن أبي كثير أنهما قالا هو: السماع في الجنة (٣). وعلى هذا المعنى: يُنَعَّمون بالسماع.
١٦ - ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية، قال أبو إسحاق: أخبر أن حال المؤمنين: السماعُ في الجنة، والشغلُ بغاية النعمة. وأن حال الكافرين: العذاب الأليم، هم حاضروه أبدًا، غير مخفف عنهم.
١٧ - ثم ذكر ما تُدرك به الجنة فقال: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ (٤) قال الكلبي ومقاتل والفراء: فصلوا لله (٥).
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٠، وفيه: والحِبر: المداد؛ إنما سمي لأنه يُحَسَّنُ به.
(٣) أخرجه عنهما ابن جرير ٢١/ ٢٨. والثعلبي ٨/ ١٦٦ أ. واقتصر عليه الزجاج ٤/ ١٨٠، ولم ينسبه.
- الأوزاعي، عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي، أبو عمرو الفقيه، تقدم.
- يحيى بن أبي كثير، الطائي مولاهم، أبو نصر اليماني، اسم أبيه: صالح، وقيل: غيره، أحد الأعلام الحفاظ، ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل، روى عن أبي أمامة الباهلي في "صحيح مسلم"، ولكنه مرسل، وروى عنه الأوزاعي، ومعمر، ومحمد بن جابر، وغيرهم. ت: ١٣٢ هـ "سير أعلام النبلاء" ٦/ ٢٧، و"تقريب التهذيب" ص ١٠٦٥.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٠.
(٥) "تنوير المقباس" ص ٣٣٩. و"تفسير مقاتل" ٧٧ ب. و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٣.
قال المبرد: والعرب تقول: حتى أفرغ من سُبحتي؛ أي: من صلاتي. والتسبيح: اسم الصلاة، قال الله تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ [الصافات: ١٤٣] أي: من المصلين.
قال صاحب النظم: فتكون سبحان الله على تأويل: سبحوا لله، فلما صُرف قوله: سبحوا إلى مصدره، نُصبَ ليُعلم أن معناه: الإغراء والأمر، كما قال -عز وجل-: ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [محمد: ٤] أي: فاضربوا الرقاب. هذا كلامه. وروي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس؛ فقال: أرأيتَ الصلواتِ الخمس تجدها في القرآن؟ قال: نعم؛ ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ المغرب ﴿وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ الغداة ﴿وَعَشِيًّا﴾ العصر ﴿وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ الظهر ﴿وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ﴾ [النور: ٥٨] (٢).
وروى أبو عياض عنه قال: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة؛ ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ المغرب والعشاء ﴿وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ الفجر ﴿وَعَشِيًّا﴾ العصر ﴿وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ الظهر (٣).
١٨ - قوله: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وهو ابتداء الآية الثانية
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ١٠٣، وابن جرير ٢١/ ٢٩، وفيه: ثم قرأ ﴿وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾. وأخرجه الحاكم ٢/ ٤٤٥، كتاب التفسير، رقم (٣٥٤١)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢٩، من طريق الحكم بن أبي عياض. وأخرجه من طريق آخر الثعلبي ٨/ ١٦٧ أ.
وقال مقاتل: يحمده أهل السموات: الملائكة، ويحمده المؤمنون في الأرض (١).
قوله: ﴿تُظْهِرُونَ﴾ أي: تدخلون في وقت الظهيرة (٢)؛ وهو: نصف النهار، وقد مر (٣). يقال: أظهر مثل: أصبح وأضحى وأمسى.
١٩ - قوله: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ قال عبد الله: هي النطفة تخرج من الرجل ميتة، وهو حي، ويخرج الرجل منها حيًا، وهي ميتة (٤).
ونحو هذا قال مقاتل (٥). وهذه الآية مما قد تقدم القول فيها (٦).
(٢) في (ب): (الظهر).
(٣) عند قوله تعالى: ﴿وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ﴾ [النور: ٥٨]، ولم أجد في تفسير الواحدي لها إلا قوله: ﴿مِنَ الظَّهِيرَةِ﴾ يريد: المقيل.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٣٠، وأخرج نحوه أيضًا عن ابن عباس. وأخرج عن الحسن قال: المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. ومثل ذلك: الطير من البيضة، والنخل من النواة. والآية عامة تشمل جميع ما ذكر؛ وإن كان الأقرب لسياق الآية أن المراد بها ضرب الأمثلة الحسية من المخلوقات على وحدانية الله -عز وجل-، وعلى البعث بعد الموت، ويدل لذلك قول الله تعالى بعد ذلك: ﴿وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾. والله أعلم.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٧ ب. واقتصر عليه الزجاج ٤/ ١٨١، ولم ينسبه.
(٦) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧]: أكثر المفسرين على أن معناه: تخرج الحيوان من النطفة، وتخرج النطفة من الحيوان. وقال الكلبي: تخرج الفرخ من البيضة، =
﴿وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ قال مقاتل: وهكذا تخرجون يا بني آدم من الأرض يوم القيامة بالماء كما يخرج العُشب من الأرض بالماء؛ وذلك أن الله تعالى يرسل يوم القيامة ماء الحيوان من السماء السابعة على الأرض بين النفختين كمني الرجال فتنبت عظام الخلق ولحومهم وجلودهم في قبورهم نبات العُشب (٢)، كما ينبتون في بطون أمهاتهم (٣).
(١) "تفسير مقاتل" ٧٧ ب. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨١.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٧ ب.
(٣) هذا جزء من حديث طويل موقوف على عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، أخرجه الحاكم من طريق سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء قال: كنا عند عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فذُكر عنده الدجال، فقال عبد الله بن مسعود: تفترقون أيها الناس لخروجه على ثلاث فرق فرقة تتبعه وفرقة تلحق بأرض آبائها بمنابت الشيح وفرقة تأخذ شط الفرات يقاتلهم ويقاتلونه.. إلى أن قال: ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون.. قال: فيرسل الله ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت لحمانهم وجثمانهم من ذلك الماء كما ينبت الأرض من الثرى، ثم قرأ عبد الله: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ [فاطر: ٩] قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال الذهبي: ما احتجا بأبي الزعراء. "المستدرك على الصحيحين" ٤/ ٦٤١، كتاب: الأهوال، رقم (٨٧٧٢). وهذا الحديث معروف عند أهل العلم بحديث الشفاعة الذي يرويه أبو الزعراء عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رابع شفيع يقوم يوم القيامة، واسم أبي =
وقال أبو إسحاق: كذلك يخرجون من قبورهم مبعوثين، ومعنى الكاف نصب لقوله: ﴿تَخْرُجُونَ﴾ والمعنى: أن بعثكم عليه -عز وجل- كخلقكم، أي: هما في قدرته متساويان (٢). يعني: أن ذكر ابتداء الخلق بقوله: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ يعني: الإنسان من النطفة، ثم قال: ﴿وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾.
روى عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، في الشفاعة: ثم يقوم نبيكم رابعهم، والمعروف عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنا أول شافع، ولا يتابَع على حديثه. "التاريخ الكبير" ٥/ ٢٢١، رقم (٧٢٠). وقال ابن عدي: يروي سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء، عن عبد الله بن مسعود إنْ كان قد سمع من عبد الله بن مسعود. "الكامل في ضعفاء الرجال" ٤/ ١٥٤٩. وقد وقعت تسمية أبي الزعراء في تحقيق الألباني لأحاديث "شرح العقيدة الطحاوية" ص ٤١٠، بـ: الوليد بن يحيى، ولا أدري كيف وقع ذلك، فلعله لم يقف على كلام البخاري، ولا ابن عدي، حيث أحال على الهيثمي وحده في "مجمع الزوائد" ١٠/ ٣٣٠، والهيثمي ذكره هناك بكنيته، ونقد الهيثمي هذه الرواية لمخالفتها للحديث الصحيح: أنا أول شافع، ونسب هذا النقد الألباني للَّهيثمي، مما يدل على أنه لم يطلع على كلام البخاري في هذا الموضع. والله تعالى أعلم. وكون السماء تمطر مطرًا ينبت منه أجساد العباد ثابت من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- في حديثٍ مرفوع؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" ٤/ ٢٢٥٩، كتاب. الفتن وأشراط الساعة، رقم (٢٩٤٠)، والشاهد فيه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثم يرسل الله أو قال ينزل الله مطرا كأنه الطَّلُ أو الظَّلُ [نعمانُ الشاكُّ] فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون".
(١) "تنوير المقباس" ص ٣٣٩.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨١.
٢٠ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ ومن دلالاته على توحيده وقدرته ﴿أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ قال ابن عباس والمفسرون: يعني: آدم أبا البشر (٣) ﴿ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ قال ابن عباس: من لحم ودم. يعني: ذرية آدم ينتشرون: ينبسطون في الأرض. قاله مقاتل (٤). وقال ابن عباس: تذهبون وتجيئون. ومعنى الآية: تعجيبهم من خلقه إياهم من تراب، ثم صيرورتهم بشرًا ينتشرون في الأرض.
٢١ - قوله تعالى: ﴿أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ قال الكلبي: يقول: جعل لكم مِنْ خلقكم آدميًا مثلكم، ولم يجعله من الجن ولا من غيره (٥). وقال غيره: يعني خَلْق حواء من ضِلَع من أضلاع آدم. حكاه الزجاج، وهو قول قتادة (٦). وذكر غيره أن معنى ﴿خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾: أنه خلق
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٥.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٨ أ. وتفسير ابن جرير ٢١/ ٣١، وأخرجه عن قتادة. "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٧ ب.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٨ أ.
(٥) "تنوير المقباس" ص ٣٤٠، وذكره الثعلبي ٨/ ١٦٧ ب، ولم ينسبه.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٢، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير ٢١/ ٣١، عن قتادة. وكون حواء عليها السلام خلقت من ضلع من أضلاع آدم -عليه السلام-، مروي عن جمع من المفسرين، تفسير ابن جرير ٧/ ٥١٥، تح: محمود شاكر، وابن أبي حاتم ٣/ ٨٥٢، وهي آثار موقوفة، ليس فيها شيء مرفوع للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد صرح ابن =
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ جعل بين الزوج والمرأة المودة والرحمة، فهما يتوادان ويتراحمان، وما شيء أحبَّ إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما. وهذا معنى قول مقاتل والمفسرين (٢). وروى عطاء عن ابن عباس في قوله: ﴿مَوَدَّةً﴾ يعني: الجماع ﴿وَرَحْمَةً﴾ يعني: الولد. وهو قول الحسن (٣).
وأما كون المرأة خلقت من ضِلَع فهذا ثابت في الصحيحين، من حديث أبي هريرة؛ ولفظه: استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا. البخاري، كتاب: النكاح، رقم (٥١٨٥)، "فتح الباري" ٩/ ٢٥٢، ومسلم ٢/ ١٠٩٠، كتاب: الرضاع، رقم (١٤٦٨)، وزاد: (وكسرها طلاقها). قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: قوله: (فإنهن خلقن من ضلع) كأن فيه إشارة إلى ما أخرجه ابن إسحاق في المبتدأ، عن ابن عباس، أن حواء خلقت من ضلع آدم الأقصر الأيسر وهو نائم. "فتح الباري" ٩/ ٢٥٣.
(١) لعله يعني مقاتل؛ حيث قال: ﴿أَنْفُسِكُمْ﴾ يعني: بعضكم من بعض. "تفسير مقاتل" ٧٨ أ. وذكره الثعلبي ٨/ ١٦٧ ب، ولم ينسبه. وذكر نحوه الماوردي عن علي بن عيسى. "النكت والعيون" ٦/ ٣٠٥.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن لا تعارض بين هذه الأقوال، فالقول الأول يدل على أن الزوج من جنس الآدمي، وهو بهذا يتفق مع القولين بعده، وأفاد القول الثاني أن أجل خلق الأنثى زوج الذكر من ضلع -على ما سبق بيانه- وأفاد القول الثالث التكاثر والتناسل عن طريق النطف. والله تعالى أعلم.
(٢) "تفسِير مقاتل" ٧٨ أ. وتفسير ابن جرير ٢١/ ٣١.
(٣) ذكره السيوطي، عن الحسن، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. "الدر" ٦/ ٤٩٠.
٢٢ - ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ الدالة على توحيده وقدرته: ﴿خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال مقاتل: بأن الله خالقهما، كقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨] (١).
قوله تعالى: ﴿وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ يعني: اختلاف اللغات كالعربية والعجمية والتركية وغيرها. وقوله: ﴿وَأَلْوَانِكُمْ﴾ مختلفة؛ لأن الخلق من بين أبيض وأسود وأحمر (٢). قال الكلبي: وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة (٣)، وألسنتهم وألوانهم مختلفة.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد البر والفاجر. وعنه أيضًا: الإنس والجن (٤). وقرأ حفص: بكسر اللام (٥)؛ قال الفراء: وهو وجه جيد؛ لأنه قد قال: ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الروم: ٢٤] ﴿لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ١٩٠] (٦).
٢٣ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٨ أ، بمعناه. من قوله: {وَاخْتِلَفُ...﴾.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٧ ب، ولم ينسبه.
(٤) "تنوير المقباس" ص ٣٤٠.
(٥) قرأ حفص عن عاصم: ﴿لِلْعَالِمِينَ﴾ بكسر اللام، جمع: عالِم، وقرأ الباقون: ﴿لِلْعَالِمِينَ﴾ بنصب اللام. "السبعة في القراءات" (٥٠٦)، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٤، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٤.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٣.
قوله تعالى: ﴿لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ يعني: سماع اعتبار وتدبر. قال ابن عباس: يريد: لقوم يجيبون داعي الله، وجعل السماع بمعنى: الإجابة. وقال الكلبي ومقاتل: ﴿لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ مواعظ الله فيوحدون ربهم (٢).
٢٤ - قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾ قال الأخفش: أراد أن يريكم، فحذف أن؛ لأن المعنى يدل عليه، وفي حرف عبد الله: ﴿أَن يُرِيكُمُ﴾ (٣) وأنشد قول طرفة:
ألا أيُّهذا الزَّاجِري أَحضُرَ الوغى................ البيت (٤)
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٨ أ.
(٣) لم أجد هذه القراءة عند ابن خالويه ولا ابن جني.
(٤) البيت لطرفة من معلقته في "الديوان" ص ١٠٥، وفيه: اللائمي، بدل: الزاجري، وعجزه:
وأن أشهدَ اللذاتِ هل أنت مُخلدي
وأنشده كاملاً منسوبًا سيبويه ٣/ ٩٩، والثعلبي ٨/ ١٦٧ ب. وأنشده ولم ينسبه، الأخفش ٢/ ٦٥٧، وابن جرير ٢١/ ٣٢، وفي حاشية ابن جرير: رواية البيت عند البصريين: أحضرُ، بالرفع؛ لأنه لما أضمر "أن" قبله ذهب عملها، وعند الكوفيين: أحضرَ، بالنصب؛ لأنها وإن أضمرت فكأنها موجودة لقوة الدلالة عليها. والوغى: الحرب، أراد: أيها الإنسان الذي يلومني على شهودي الحرب، وتحصيل اللذات، هل تخلدني في الدنيا إذا كففتُ عن الحرب. وأنشد صدره ولم ينسبه أبو علي، "المسائل العسكرية" ص ٢٠٢، وأنشد صدره ونسبه: ابن جني "سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٨٥
وقال أبو إسحاق: المعنى: ومن آياته آيةٌ يريكم بها البرق، هذا أجود في العطف؛ لأن قبله خلق السموات، ومنامكم، فيكون اسمًا منسوقًا (٢) علي اسم، ثم حُذف، ودلَّ عليه قوله: ﴿وَمِنَ﴾ كما قال الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما | أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (٣) |
قوله تعالى: ﴿خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ قال ابن عباس: خوفًا من الصواعق، وطمعًا [من آياته فيكون] (٨) بالرحمة.
وقال مقاتل وقتادة: خوفًا من الصواعق للمسافر، ولمن كان بأرض،
(٢) أي: معطوفًا.
(٣) البيت لتميم بن مقبل، "ديوانه" ص ٢٤، أنشده ونسبه سيبويه ٢/ ٣٤٦. وأنشده ولم ينسبه، الفراء ٢/ ٣٢٣، وابن جرير ٢١/ ٣٣، والزجاج ٤/ ١٨٢. وفي حاشية سيبويه: الشاهد فيه: حذف الاسم لدلالة الصفة عليه، والتقدير: فمنهما تارة أموت فيها.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٢.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٣.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٢.
(٧) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٣.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ).
قال أبو إسحاق: وهما منصوبان على المفعول له؛ المعنى: يريكم للخوف والطمع، وهو خوفٌ للمسافر، وطمعٌ للحاضر (٣).
٢٥ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ قال ابن مسعود: قامتا على غير عمد بأمره (٤).
وقال الفراء: يقول: تدوما قائمتين بأمره بغير عَمَدٍ (٥).
قال ابن عباس: يريد: بقوته وقدرته.
قوله: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ﴾ قال الكلبي: يعني النفخة الأخيرة (٦). وقال مقاتل: يدعو إسرافيلَ من صخرة بيت المقدس حتى ينفخ في الصور عن أمر الله (٧).
(٢) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ﴾ [الرعد: ١٢]: قال ابن عباس: يريد: خوفًا من الصواعق وطمعًا في المطر. وهو قول الحسن. وقال قتادة: خوفًا للمسافر، وطمعًا للمقيم. وهذا قول أكثر أهل التأويل. قال أبو إسحاق وأبو بكر: الخوف للمسافر لما تأذى به من المطر، كما قال الله تعالى: ﴿إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ﴾ [النساء: ١٠٢] والطمع للحاضر المقيم؛ لأنه إذا رأى البرق طمع في المطر الذي هو سبب الخصب.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٢.
(٤) ذكره عن ابن مسعود: مقاتل ٧٨ أ. وأخرجه ابن جرير ٢١/ ٣٤، عن قتادة.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٣. وهو قول الزجاج ٤/ ١٨٢.
(٦) "تنوير المقباس" ص ٣٤٠.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٨ أ. =
وأما الأحاديث الضعيفة فكثيرة؛ منها حديث الصور الطويل الذي أخرجه الطبراني، في كتابه: "الأحاديث الطوال" ص: ٣٦، المطبوع مع "المعجم الكبير" للطبراني ٢٥/ ٢٦٦، وقد ساقه بطوله ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٤٦، عند قوله تعالى: ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [الأنعام: ٧٣] ثم قال: "هذا حديث مشهور، وهو غريب جدًّا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة، وفي بعض ألفاظه نكارة".
أما ما ذكره الواحدي عن مقاتل في تحديد المكان؛ من صخرة بيت المقدس، فلم أجده بهذا اللفظ في الأحاديث، وهذا التحديد يحتاج إلى دليل. والله أعلم.
(١) "تفسير مقاتل" ٧٨ ب. وتفسير ابن جرير ٢١/ ٣٤، وأخرجه عن الضحاك. "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٨ أ، ونسبه لأكثر العلماء، ولم يسمهم. وذكره النحاس عن أبي حاتم، "القطع والائتناف" ٢/ ٥٣٢.
وقال النحاس: ﴿إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً﴾ ليس بوقف؛ لأنه لم يأت بجواب ﴿إِذَا﴾ وجواب ﴿إِذَا﴾ على قول الخليل وسيبويه: ﴿أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ أي: خرجتم. وكذا قال سيبويه: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ [الروم: ٣٦] تقديره عنده: قنطوا (٣). والقول ما قال النحاس.
٢٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ قال مقاتل: كلهم عبيده، وفي ملكه (٤) ﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ قال: يعني: مقرون له بالعبودية، يعلمون أن الله ربهم وهو خلقهم. وهذا قول قتادة واختيار ابن قتيبة (٥). والقنوت على هذا القول معناه: طاعة الإقرار (٦).
(٢) "القطع والائتناف" ٢/ ٥٣٢.
(٣) "القطع والائتناف" ٢/ ٥٣٢. وقد سئل سيبويه الخليلَ عن هذه الآية، "الكتاب" ٣/ ٦٣، وذكره المبرد في "المقتضب" ٢/ ٥٨. وإنما قدمت كتاب النحاس لنقل الواحدي عنه مذهب الخليل وسيبويه.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٨ ب.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٣٥، عن قتادة. و"تأويل مشكل القرآن" ص ٤٥٢، و"غريب القرآن" ص ٣٤٠. وهو قول مقاتل ٧٨ ب.
(٦) ذكر ابن الأنباري أن القنوت ينقسم في كلام العرب على أربعة أقسام: الطاعة، =
وقال أبو إسحاق: معنى ﴿قَانِتُونَ﴾ مطيعون طاعة لا يجوز أن يقع معها معصية؛ لأن القنوت: القيام بالطاعة، ومعنى الطاعة هاهنا: أن من في السموات والأرض مخلوقون كما أراد الله -عز وجل-، لا يقدر أحد على تغيير الخِلقة، ولا مَلَك مقرب، فآثار الصَنعة والخِلقة تدل على الطاعة؛ ليس يعني بها طاعة العباد، إنما هو: طاعة الإرادة والمشيئة (٣). وهذا معنى قول ابن عباس: كل له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث، وإن عصوا في العبادة (٤). وهذا مفسر في سورة البقرة (٥).
٢٧ - قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ قال مقاتل:
(١) "تنوير المقباس" ص ٣٤٠.
(٢) قال ابن جرير ٢١/ ٣٥: "وقال آخرون: هو على الخصوص، والمعنى: وله من في السموات والأرض من ملك وعبد مؤمن لله مطيع دون غيرهم". ثم ذكر معناه بإسناده عن ابن زيد.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٣.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٣٥.
(٥) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ [البقرة: ١١٦]: قال مجاهد وعطاء والسدي: مطيعون. قال أبو عبيد: أجل القنوت في أشياء؛ منها: القيام، وبه جاءت الأحاديث في قنوت الصلاة؛ لأنه إنما يدعو قائمًا.. والقنوت أيضًا: الطاعة.. قال الزجاج: المشهور في اللغة أن القنوت الدعاء، وحقيقة القانت أنه القائم بأمر الله.. قال ابن عباس في هذه الآية: قوله: ﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ راجع إلى أهل طاعته، دون الناس أجمعين. وهو من العموم الذي أريد به الخصوص، وهو اختيار الفراء.
وهذا مذهب أبي عبيدة، وذكره المبرد والزجاج (٣)؛ وقالوا: يجيء أفعل بمعنى الفاعل، وأنشد (٤) لمعن بن أوس (٥):
لعمرك ما أدري وإني لأَوجلُ
يعني لوجل (٦).
(٢) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٣٦، عن ابن عباس، وقتادة، والربيع بن خُثيم. وذكره الثعلبي ٨/ ١٦٨ أ، عن الربيع بن خثيم، والحسن، وقال: وهو رواية العوفي عن ابن عباس. وذكره السيوطي عن الحسن، وعزاه لابن المنذر، "الدر المنثور" ٦/ ٤٩١. و"تنوير المقباس" ص ٣٤٠.
(٣) "مجاز القرآن" ٢/ ١٢١، و"الكامل" ٢/ ٨٧٦. و"المقتضب" ٣/ ٢٤٦، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٣.
(٤) هكذا في النسختين؛ ولعل الصواب: وأنشدوا.
(٥) معن بن أوس بن نصر بن زياد المزنين شاعر فحل، من مخضرمي الجاهلية والإسلام، له مدائح في جماعة من الصحابة، رحل إلى الشام والبصرة، وكف بصره في أواخر أيامه. مات في المدينة. "خزانة الأدب" ٧/ ٢٦١، "الأعلام" ٧/ ٢٧٣. وذكره ابن حجر في القسم الثالث؛ المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ولم يرد في خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. "الإصابة في معرفة الصحابة" ٦/ ١٧٩.
(٦) "مجاز القرآن" ٢/ ١٢١، وأنشد البيت كاملًا، ولم ينسبه، وعجزه: =
بيتًا دعائمُه أعزُّ وأطولُ (١)
وأنشد المبرد:
قُبَّحتُم يا آل زيدٍ نفرًا | إلام قومٍ أصغرَا وأكبرَا (٢) |
قال قتادة: وفي حرف ابن مسعود: ﴿وهو عليه هَيِّن﴾ (٤). وهذا معنى رواية عطاء عن ابن عباس؛ قال: يريد: هان الأول والآخر عليه (٥).
وهو في "ديوان معن بن أوس" ص ٣٦، وأنشده المبرد، "الكامل" ٢/ ٨٧٦، و"المقتضب" ٣/ ٢٤٦، وابن جرير ٢١/ ٣٧، ونسباه لمعن بن أوس. وأنشده ولم ينسبه الزجاج ٤/ ١٨٣.
(١) "ديوان الفرزدق" ٢/ ١٥٥، وصدره:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
وأنشده ونسبه أبو عبيدة ٢/ ١٢١، والمبرد، في "الكامل" ٢/ ٨٧٧، وابن جرير ٢١/ ٣٧.
(٢) "الكامل" ٢/ ٨٧٧، و"المقتضب" ٣/ ٢٤٧، ولم ينسبه، وقال بعده: يريد: صغارًا وكبارًا. وفي "حاشية المقتضب": لم يعرف قائل البيت. وهو في "خزانة الأدب" ٨/ ٢٤٦، غير منسوب.
(٣) "مجاز القرآن"، لأبي عبيدة ٢/ ١٢١. ولم ينشد البيت. والزاهر في "معاني كلمات الناس" ١/ ٢٩.
(٤) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ١٠٢. لم أجدها عند ابن خالويه.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٣٦، من طريق محمد بن سعد بسنده عن ابن عباس، ولفظه: كل شيء عليه هين.
ووجهه ما ذكره مقاتل، والمبرد، والفراء، والزجاج؛ قال مقاتل: يقول: البعث أيسر عليه عندكم يا معشر الكفار من الخلق الأول (٣).
وقال المبرد: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ عندكم؛ لأنكم قد أقررتم بأنه بدأ الخلق، وإعادة الشيء عند المخلوقين أهون من ابتدائه (٤). ونحو هذا قال الفراء (٥). واختار أبو إسحاق هذا الوجه؛ وقال: إن الله خاطب العباد بما يعقلون فأعلمهم أنه يجب عندهم أن يكون البعث أسهل من الابتداء والإنشاء (٦).
وفي الآية قول ثالث؛ وهو: أن الكناية في ﴿عَلَيْهِ﴾ تعود إلى الخلق،
(٢) أخرجه بسنده الفراء، عن مجاهد، ثم قال: ولا أشتهي ذلك، والقول فيه: أنه مثل ضربه الله فقال: أتكفرون بالبعث، فابتداء خلقكم من لا شيء أشد. "معاني القرآن" ٢/ ٣٢٤.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٨ ب.
(٤) "المقتضب" ٣/ ٢٤٥، بلفظ: "تأويله: وهو عليه هين؛ لأنه لا يقال: شيء أهون عليه من شيء".
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٤.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٣.
وقال السدي: ليس يشتد على الله شيء، ولكن يعني به: المخلوق، يصاح به فيقوم سويًا؛ أهون عليه من أن يكون كما خلقه أولًا؛ نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظامًا ثم يعود رضيعًا ثم فطيمًا.
وقال عطاء: هو أهون على المخلوق أن يُبعث سميعًا بصيرًا، يَفهم ويفقه ويعقل، ليس مثل المولود لا يعقل حتى يكبر. قال أبو إسحاق: ومعنى هذا القول أن البعث أهون على الإنسان من إنشائه؛ لأنه يقاسي في النشأة ما لا يقاسيه في الإعادة والبعث (٣).
(٢) أخرجه بسنده الفراء من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. "معاني القرآن" ٢/ ٣٢٤. وذكره ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٨٢، عن ابن عباس، من طريق أبي صالح. وذكره كذلك الثعلبي ٨/ ١٦٨ أ.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٣. وقد اعترض على هذا القول أبو عبيدة، فقال بعد أن ذكر أن المراد في الآية: وهو هين عليه، قال: فإن احتج محتج فقال: إن الله لا يوصف بهذا، وإنما يوصف به المخلوق، فالحجة عليه قول الله تعالى: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [الأحزاب: ١٩] وقوله: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: ٢٥٥]. "مجاز القرآن" ٢/ ١٢١.
ولم يرجح الواحدي شيئًا من هذه الأقوال، والذي يظهر من سياق الآيات أن المراد إثبات البعث والرد على المنكرين له، المستبعدين وقوعه، بعد موتهم وفنائهم، فأعلمهم الله -عز وجل- أن إقرارهم بالخلق الأول يستلزم الإيمان بإعادتهم، إذ هي أهون وأيسر، ويدل على ذلك تقدم الآيات في إثبات الربوبية، والتي منها =
وقال قتادة: مثله الأعلى أنه: لا إله إلا هو في السموات والأرض (٢). وعلى هذا يكون المثل بمعنى الصفة؛ يعني: وله الصفة العليا وهي أنه: لا إله غيره. وذكرنا قول من أجاز أن يكون المثَل بمعنى: الصفة، عند قوله: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ في سورة الرعد [: ٣٥] (٣)
وقال قوم: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ يعني: ما ضرب من المثل في الإعادة أهون على المخلوق من الابتداء؛ لأن من قدر على ابتداء شيء كان أحرى أن يقدر على إعادته. وهذا اختيار الفراء والزجاج؛ قال الزجاج: أعلمهم أن يجب عندهم أن يكون البعث أسهل من الابتداء، وجعله مثلًا لهم، ثم قال: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ أي قوله: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ قد ضربه لكم مثلًا
(١) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٣٨، من طريق علي بن أبي طلحة. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٦٨ أ.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٣٨، عن قتادة. و"تفسير مقاتل" ٧٨ ب. بمعناه. واقتصر على هذا القول ابن قتيبة، "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٨٢، ولم ينسبه.
(٣) أطال الواحدي الكلام في تفسير هذه الآية عن وجه ارتفاع: ﴿مَثَلُ﴾ فذكر قول سيبويه والمبرد أنه مرفوع على الابتداء بتقدير: فيما نقص عليكم مثل الجنة، واختار هذا القول الأنباري وأبو علي، ثم قال: وقال قوم: المثل هاهنا: بمعنى الصفة؛ قالوا: ومعناها: صفة الجنة التي وعد المتقون، ونسبه لعمرو بن العلاء، ثم ذكر نقد المبرد وأبي علي لهذا القول، ولم يرجح الواحدي في هذه المسألة. وممن يمنع تفسيره بالصفة سيبويه، "الكتاب" ١/ ١٤٣.
وقال غيره من أهل المعاني مصححًا لهذه الطريقة: معنى قوله: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ أي: ما يمثل به في دليلاً صفته الذي هو طريق إلى معرفته من أن إنسانًا إذا نسخ كتابًا فإعادة نسخه عليه أهون، وكذلك إذا صاغ حُليًا، هذا في مقدور العباد مع نقصانهم، فمقدور من لا يلحقه النقص من وجهٍ أولى أن يسع الإعادة. وعلى هذا المثل الأعلى هو: المثل الذي ضربه الله لتحقيق بيان قدرته على الإعادة، ووصف هذا المثل بأنه: ﴿الْأَعْلَى﴾؛ لأنه مؤدٍّ إلى معرفةِ قدرة الله وصفتِه.
قوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ قال ابن عباس: ﴿الْعَزِيزُ﴾ في ملكه ﴿الْحَكِيمُ﴾ في خلقه.
٢٨ - قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا﴾ قال مقاتل: نزلت في كفار قريش؛ وذلك أنهم كانوا يقولون في إحرامهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، فقال الله: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ﴾ يقول: وَصَف لكم شَبهًا من أنفسكم (٢).
قال الكلبي: مِنْ مِثل خلقكم ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يعني: من عبيدكم ﴿مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ من أموالكم وعبيدكم وأهليكم ﴿فَأَنْتُمْ﴾ وشركاؤكم من مماليككم فيما رزقناكم شرع ﴿سَوَاءٌ﴾ (٣).
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٨ ب. ولم يذكره الواحدي في "أسباب النزول".
(٣) "تنوير المقباس" ص ٣٤٠، وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٦٨ أ. هكذا وردت عنده: شرع سواء. وفي "تنوير المقباس": شرك. أي: من الشراكة؛ وهو أقرب. والله أعلم. قال ابن عباس: ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ في الآلهة، وفيه، تخافونهم أن =
قال الكلبي: تخافون لائمتهم كما يخاف الرجل لائمة أخيه وأبيه وأقاربه (٣).
وقال أبو مجلز: تخافون أن يقاسموكم أموالكم كما يقاسم بعضكم بعضًا (٤).
فهذه ثلاثة أقوال في معنى قوله: ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ مرجعها إلى معنى واحد؛ وهو: أن عَبْدَ الرجل لا يكون مثله حتى يكون بينهما توارث، وخوف لائمةٍ ومقاسمةٍ. ومعنى الآية: أن الله تعالى يقول: كيف تعدلون بي عبيدي، وأنتم لا تعدلون عبيدكم بأنفسكم. قال قتادة: يقول: ليس مِن أحدٍ يرضى لنفسه أن يشاركه عبده في ماله وزوجه، حتى
(١) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٣٩، من طريق عطاء الخرساني. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٦٨ أ.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٨ ب، بنحوه. وذكر نحوه الماوردي عن السدي. "النكت والعيون" ٤/ ٣١١.
(٣) "تنوير المقباس" ص ٣٤٠.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢/ ٣٩١. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٦٨أ.
وقد شرح أصحاب المعاني هذه الآية أبين شرح؛ قال صاحب النظم: هذا مثل ضربه الله -عز وجل- للذين جعلوا له شريكًا، فقال: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكًا له في ماله وولده حتى يكون هو ومملوكه في سواء يخافه كما يخافه غيره من شريكٍ له لو كان معه، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فِلمَ تجعلون لي عبيدي شركاء؟ والفاء في قوله: ﴿فَأَنْتُمْ﴾ بمنزلة حتى، تأويله: حتى أنتم وعبيدكم فيه سواء. انتهى كلامه.
وقال ابن قتيبة: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ وذلك أقرب عليكم ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ﴾ شركاء من عبيدكم الذين تملكون ﴿فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ﴾ وعبيدكم ﴿سَوَاءٌ﴾ يأمرون فيه كأمركم، ويحكمون كحكمكم، وأنتم ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: كما يخاف الرجلُ الحرُّ شريكه الحرَّ في المال يكون بينهما، فلا يأمر فيه بشيء دون أمره، ولا يُمضي فيه عطيةً بغير أمره، وهو مِثلُ قوله: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: ١١] أي: لا تغيبوا إخوانكم من المسلمين. وقوله ﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ [النور: ١٢] أي بأمثالهم من المؤمنين خيرًا، يقول: فإذا كنتم أنتم بهذه المنزلة فيما بينكم وبين أقاربكم وأرقائكم، فكيف تجعلون لله مِنْ عبيده شركاء في ملكه؟ ومثلُه قوله: ﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾ [النحل: ٧١] فجعل منكم المالك والمملوك ﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا﴾ يعني السَّادة ﴿بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ مِنْ عبيدهم حتى يكونوا فيه شركاء. يريد:
وقال أبو إسحاق: أعلم الله -عز وجل- أن مملوك الإنسان ليس بشريكه في ماله وزوجته، وأنه لا يخاف أن يرثه مملوكه، يقول: فقد جعلتم ما هو مُلكٌ لله مِنْ خلقه مثلَ الله وأنتم كلكم بشر ليس مماليككم بمنزلتكم في أموالكم، فالله -عز وجل- أجدرُ أن لا يُعدل به خلقُه. انتهى كلامه (٢).
انتصب قوله: ﴿أَنْفُسِكُمْ﴾ وهو مضاف إلى الفاعل، كما تقول: عجبت من اشترائك عبدًا لا تحتاج إليه، فإذا أضيف المصدر إلى المفعول ارتفع ما بعده، تقول: عجبت من موافقتك كثرة شربِ الماء؛ لأن المعنى: من أن وافقك، والعرب تقول: عجبت من قيامكم أجمعون وأجمعين، فمن خفض أتبعه اللفظ؛ لأنه في الظاهر خفض، ومن رفع ذهب إلى التأويل، وذلك أنه في تأويل رفع؛ لأنهم الفاعلون. هذا قول الفراء (٣).
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: كما بينا في ضرب المثل من أنفسكم. قال مقاتل: هكذا نبين الآيات ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ عن الله الأمثال فيوحدونه.
٢٩ - ثم ذكر الله الذين ضرب لهم المثل فقال: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ (٤) يعني: الذين أشركوا ﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾ في الشرك ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ يعلمونه بأن مع الله شريكًا. قاله مقاتل (٥). وقال ابن عباس: يريد: بغير علم جاءهم من الله.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٤.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٤.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٨ ب.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٨ ب.
٣٠ - قال مقاتل: ثم قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن لم يوحدْ كفارُ مكة ربَّهم فوحدْ أنت ربَّك، وهو قوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ﴾ فالمعنى: فأخلص دينك (١). ونحوه قال سعيد بن جبير. وقال غيره: سدد عملك (٢).
والوجه في اللغة: ما يُتوجه إليه، وعملُ الإنسان ودينُه مما يَتوجه إليه الإنسانُ لتسديده وإقامته. وذكرنا ذلك عند قوله: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١١٢] (٣).
قوله: ﴿لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ معناه على التقديم والتأخير، أي: حنيفًا للدين، أي: مائلاً إلى الطاعة، مستقيمًا عليها لا ترجع عنها.
قال أبو إسحاق: والحنيف الذي يميل إلى الشيء فلا يرجع عنه (٤).
قوله: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ قال عكرمة ومجاهد:
(٢) ذكره الماوردي عن الكلبي. "النكت والعيون" ٤/ ٣١١.
(٣) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: معنى قوله: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ أي: بذل وجهه له في السجود، وعلى هذا أسلم بمعنى: سلم.. قال ابن الأنباري: والمسلم على هذا هو المخلص لله العبادة.. وقال قوم من أهل المعاني: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ أي: أسلم نفسه وجميع بدنه لأمر الله، والعرب تستعمل الوجه وهم يريدون نفس الشيء إلا أنهم يذكرونه باللفظ الأشرف كما قال: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] وقال جماعة: الوجه قد يقع صلة في الكلام؛ فقوله: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ أي: انقاد هو لله. ومثله: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: ٢٠].
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٤، وفيه: كالحَنَف في الرِجل، وهو ميلها إلى خارجها خِلقة، لا يملك الأحنف أن يَرد حَنفه.
وقال مقاتل: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ الملة، وهي: الإسلام والتوحيد الذي خلقهم عليه يوم أخذ الميثاق حين قال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: ١٧٢] فأقروا له بالربوبية والمعرفة (٢). ونحو هذا قال ابن زيد (٣). واختاره الزجاج.
فذكره (٤). هذا قول المفسرين في هذه الآية، ويشكل هذا بأن يقال: الفطرة ابتداء الخلق، ولو كان الله تعالى خلق الخلق حين خلقهم على ملة الإسلام والتوحيد ما أشرك أحد ولا كفر أحد مع قيام الدليل بأن الله خلق أقوامًا للنار (٥)، وهم لم يخلقوا على الإسلام والتوحيد وهو قوله: {وَلَقَدْ
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٩ أ. ونحوه قال ابن قتيبة، ولفظه: أي: خلقة الله التي خلق الناس عليها؛ وهي أن فطرهم جميعًا على أن يعلموا أن لهم خالقًا ومدبرًا. "غريب القرآن" ص ٣٤١.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٤٠.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٤. قال ابن كثير ٦/ ٣١٤: "فإن الله تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره.. وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى فطر خلقه على الإسلام، ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية أو النصرانية أو المجوسية".
(٥) لعل الواحدي يشير بذلك إلى حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: دعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة؛ لم يعمل السوء، ولم يدركه، قال: "أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم". أخرجه مسلم ٤/ ٢٠٥٠ في القدر (٢٦٦٢).
ومن ذلك أيضًا حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم فأخرج من صلبه ذرية ذراها فنثرهم نثرًا بين يديه كالذر، ثم كلمهم فقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾. أخرجه الحاكم ١/ ٨٠، كتاب: الإيمان، رقم (٧٥)، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبر، ووافقه الذهبي. وأخرجه من الطريق نفسه ابن أبي عاصم في كتاب السنة (٨٩). ورجح ابن كثير ٣/ ٥٠٢، وقف هذا الحديث على ابن عباس. وحسن رفعه الألباني، "السلسلة الصحيحة" ٤/ ١٥٨، رقم (١٦٢٣)، لكونه واردًا في تفسير القرآن فيأخذ حكم الرفع، ولوروده من طرق أخرى مرفوعًا، وإن كان فيها ضعفٌ.
والأول غير مسلم؛ إذ إن الروايات الإسرائيلية في التفسير قد تصح إسنادًا إلى بعض الصحابة، ومصدرها الأخذ عن بني إسرائيل؛ فهل يُجزم بأخذها حكم المرفوع. والله أعلم. هذا ما يتعلق بأصل أخذ الميثاق وثبوته، أما ما ذكره الواحدي من تفصيلهم إلى فريقين، سود وبيض، فقد ورد ذكر ذلك في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-، قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبي ثنا هيثم وسمعته أنا منه قال ثنا أبو الربيع عن يونس عن أبي إدريس عن أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذَّر وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحَمَم، فقال للذي في يمينه إلى الجنة ولا أبالي، وقال =
وبيان هذا الإشكال أن يقال: المراد بالناس هاهنا: المؤمنون الذين فطرهم الله على الإسلام يوم أخذ الميثاق؛ لأن المشرك لم يفطر على الإسلام، فلفظ الناس عام والمراد منه الخصوص. هذا وجه قول المفسرين في هذه الآية، وهو اختيار أبي الهيثم؛ قال في هذه الآية: هذه فطرة فُطر عليها المؤمن (٢).
(١) أخرجه مسلم ٤/ ٢٠٥٠، كتاب: القدر، رقم (٢٦٦١)، ولفظه: "إن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا". وأخرجه الترمذي ٥/ ٢٩٢، كتاب "تفسير القرآن"، رقم (٣١٥٠).
(٢) ذكره عن أبي الهيثم الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٣/ ٣٢٦. وما ذهب إليه الواحدي واختاره أبو الهيثم في دفع الإشكال في الجمع بين الآية والحديث غير وجيه؛ والصواب أن لفظ الناس في قوله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ باقٍ على عمومه لم يدخله التخصيص، يشهد لذلك آية سورة الأعراف: ١٧٢ ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ..﴾ فلم يُستثن من الذرية أحد، وعليه فحديث: كل مولود يولد على الفطرة، يدل على أن المولود ولد على الفطرة سليمًا، وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيرها الأبوان كما قدَّر الله تعالى ذلك وكتبه، كما مثل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله في آخر الحديث: (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) فبين أن البهيمة تولد سليمة ثم يُجدعها الناس؛ وذلك بقضاء الله وقدره فكذلك المولود يولد على الفطرة سليمًا ثم يفسده أبواه؛ وذلك أيضًا بقضاء الله وقدره "درء تعارض العقل والنقل" ٨/ ٣٦١.
وأما حديث الغلام الذي قتله الخضر فقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: "طبع يوم طبع كافرًا" معناه: طُبع في الكتاب أيَ قُدَّر وقُضي لا أنه كان كفره موجودًا قبل أن يولد فهو =
وحديث الأسود بن سَرِيع أخرجه الإمام أحمد ٢٤/ ٣٥٤، رقم (١٥٥٨٨)، ط/ الرسالة، وقال محققو المسند: رجاله ثقات رجال الشيخين، إلا أن الحسن البصري لم يسمع من الأسود بن سَرِيع. وأخرج الحديث الحاكم ٢/ ١٣٣، رقم (٢٥٦٦)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قال الذهبي: تابعه يونس عن الحسن حدثنا الأسود بن سريع بهذا على شرط البخاري ومسلم. وأخرجه البيهقي، السنن الكبرى ٩/ ١٣٠، قال البيهقي: قال الشافعي في رواية أبي عبد الرحمن عنه: "هي الفطرة التي فطر الله عليها الخلق فجعلهم ما لم يفصحوا بالقول لا حكم لهم في أنفسهم إنما الحكم لهم بآبائهم".
(١) هو إسحاق بن إبراهيم الحنظلي؛ صرح بذلك الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٣/ ٣٢٨ (فطر).
وقال الأزهري: والقول قول أبي إسحاق (٣) في تفسير الآية، ومعنى الحديث (٤). وعلى هذا القول انتصب: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ على المصدر. وهو
(٢) ذكر قول إسحاق: الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٣/ ٣٢٩ (فطر).
(٣) هكذا في النسختين: أبي إسحاق؛ والصواب: إسحاق، كما في "تهذيب اللغة" ١٣/ ٣٢٩.
(٤) الصواب القول الأول الذي عليه المفسرون من الصحابة والتابعين؛ وهو أن الفطرة المراد بها: الإسلام، وقوله: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ أي: لدين الله؛ قال ابن عبد البر: "وقال آخرون: الفطرة هاهنا: الإسلام؛ قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف أهل التأويل، وقد أجمعوا في تأويل قوله -عز وجل-: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ على أن قالوا: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ دين الله الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث: اقرأوا إن شئتم: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ وذكروا =
معنى الآية: أن الكلام قد تم عند قوله: ﴿حَنِيفًا﴾ ثم أخبر -عز وجل- أنه خلق الخلق على ما أراد من شقاوة وسعادة، ولا تبديل لذلك. وفيه إشارة إلى أن الكفار الذين سبق ذكرهم خُلقوا للنار، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين خلقوا للجنة؛ لأن قوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ﴾ خطاب له وللمؤمنين، يدل عليه قوله بعد هذا: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ بلفظ الجمع، وإن قلنا: إن ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ يعني: دين الله التوحيد، على ما ذكر المفسرون فانتصابها يكون بالإغراء، وهو قول الزجاج، وقال: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ منصوب، بمعنى: اتبع فطرة الله؛
ويدل لذلك ما أخرجه ابن جرير ٢١/ ٤١، عن ابن عباس أنه سئل عن إخصاء البهائم فكرهه؛ وقال: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ وعن عكرمة ومجاهد كذلك. قال شيخ الإسلام: "لا منافاة بينهما كما قال تعالى: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء: ١١٩] فتغيير ما خلق الله عليه عباده من الدين تغيير لخلقه، والخِصاءُ وقطع الأُذن أيضًا تغيير لخلقه، ولهذا شبه النبي -صلى الله عليه وسلم-، أحدهما بالآخر في قوله: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تُنتج البهيمة بهيمةً جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" فأولئك يغيرون الدين، وهؤلاء يغيرون الصورة بالجَدْع والخِصاء، هذا تغيير لما خُلقت عليه نفسه، وهذا تغيير ما خُلق عليه بدنه".
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٦٥٧.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٤، ولفظه: يريد: دينَ الله، منصوب على الفعل.
قوله تعالى: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ قد ذكرنا معناه: لا تبديل لما خلقهم له. وقال مجاهد وإبراهيم: الدين: الإسلام، و ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ لدين الله (١). وعلى هذا المراد بلفظ النفي: النهي، أي: لا تبدلوا دين الله الذي هو التوحيد بالشرك والكفر.
﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ قال مقاتل: يعني التوحيد هو الدين المستقيم ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ يعني: كفار مكة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ بتوحيد الله (٢).
٣١ - قوله تعالى: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ قال الأخفش: نصبه على الحال؛ لأنه حين قال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ﴾ قد أمرَه، وأمرَ قومه حتى كأنه قال: فأقيموا وجوهكم منيبين (٣). وقال المبرد: لما قال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ﴾ كانت له ولأمته قاطبة؛ وهذا أجودُ كلامٍ إذا كان واحداً حاضرًا أن تأمره بما يخصه، وتعم من وراءه من يأمره (٤) كقولهم: يا زيد اتق عمرًا، واحذروا أن تظلموه، إذا كان زيد رئيس القوم؛ هم مأمورون بما أُمر به زيدٌ. ونحو هذا قال الفراء،
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٩ أ.
(٣) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥٧
(٤) هكذا في النسختين؛ ولعل الصواب: وتعم من وراءه ممن يأتمر بأمره. ويوضح هذا المثال الذي ذكره بعد ذلك.
وقال الزجاج: زعم جميع النحويين أن معنى هذا: فأقيموا وجوهكم منيبين؛ لأن مخاطبة النبي عليه السلام تدخل معه فيها: الأمة؛ والدليل على ذلك قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: ١] قال: ومعناه: راجعين إلى كل ما أمر الله به، مع التقوى وأداء الفرائض (٢)، وهو قوله: ﴿وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾.
ثم أخبر أنه لا ينفع ذلك إلا بالإخلاص في التوحيد؛ فقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
٣٢ - ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ (٣) ذكرنا تفسيره في آخر سورة: الأنعام (٤). وهذه الآية متصلة بالأُولى؛ لأنها من نعت المشركين. قال الفراء: وإن شئت استأنفت قولَه تعالى: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (٥).
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٥.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٥.
(٤) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [١٥٩]: "قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: المشركين بعضهم يعبدون الملائكة يزعمون أنهم بنات الله، وبعضهم يعبد الأصنام ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: ١٨] فهذا معنى: ﴿فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ أي: فرقًا وأحزابًا في الضلالة؛ فتفريقهم دينهم أنهم لم يجتمعوا في دينهم الذي هو شرك على شيء واحد.. ".
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٥، وتمامه: كأنك قلت: الذين تفرقوا وتشايعوا كل حزب بما في يده فرح.
وقال الزجاج: كل حزب من هذه الجماعة الذين فرقوا دينهم فرح؛ يظن أنه هو المهتدي (٣). وهذا مذكور في سورة: المؤمنين (٤).
٣٣ - قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ﴾ قال مقاتل: يعني كفار مكة، الضر يعني: القحط والسَّنة ﴿دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ راجعين إليه (٥). قال أبو إسحاق: أي لا يلتجئون في شدائدهم إلى مَنْ عبدوه مع الله -عز وجل-، إنما يرجعون في دعائهم إليه وحده (٦).
قوله: ﴿ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً﴾ قال مقاتل: إذا أعطاهم من عنده، يعني: المطر ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ يقول: تركوا توحيد ربهم في
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٩ أ.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٦.
(٤) عند قوله تعالى: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ وقد أحال الواحدي في تفسيرها على سورة الأنبياء؛ حيث قال: "والكلام في هذا قد سبق في نظيرتها في سورة الأنبياء". "البسيط" ٢/ ٦١٩. تح/ المديميغ. قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٣]: "قال ابن عباس: يريد المشركين اتخذوا من دونه آلهة. هذا كلامه في رواية عطاء. والصحيح أن هذا إخبار عن جميع مخالفي شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول: اختلفوا في الدين فصاروا فيه فرقا وأحزابًا. ويجوز أن يكون هذا الاختلاف راجعًا إلى اختلاف أهل كل ملة كاختلاف اليهود فيما بينهم، واختلاف النصارى؛ وهذا هو الظاهر. ويجوز أن يرجع إلى مخالفتهم دين الحق". "البسيط" ١/ ١٨٧ (تح/ المديميغ).
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٩ أ.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٦.
٣٤ - ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ هذه الآية مفسرة في آخر سورة: العنكبوت (٢).
وقوله: ﴿فَتَمَتَّعُوا﴾ قال أبو إسحاق: هذا خطاب بعد الإخبار؛ لما قال: ﴿لِيَكْفُرُوا﴾ كان خبرًا عن غائب، وكأن المعنى: فتمتعوا أيها الفاعلون لهذا، وليس هذا بأمر لازم، بل هو أمر على جهة الوعيد، يدل عليه قوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ يعني حالكم في الآخرة (٣).
٣٥ - وقوله: ﴿أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا﴾ قال ابن عباس: حجة (٤).
قال قتادة ومقاتل: كتابًا من السماء ﴿فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا﴾ يقولون؛ يعني: من الشرك (٥)؛ يعني: يأمرهم به، ونعذرهم على ذلك (٦). وهذا استفهام معناه: الإنكار، أي: ليس الأمر على هذا.
٣٦ - ثم ذكر بطرهم عند النعمة، وبأسهم عند (٧) الشدة بقوله: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً﴾ الآية، وهذا خلاف وصف المؤمن؛ فإنه يشكر عند
(٢) عند قوله تعالى: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت].
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٦. قال الأخفش: كأنه قال: فقد تمتعوا فسوف يعلمون.
(٤) ذكره الثعلبي ٨/ ١٦٩ أ، عن ابن عباس، والضحاك.
(٥) أخرج ابن جرير ٢١/ ٤٤، عن قتادة. و"تفسير مقاتل" ٧٩ أ. وذكره الثعلبي ٨/ ١٦٩ أ، عن قتادة والربيع.
(٦) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٩ أ. واقتصر عليه الفراء، ولم ينسبه. "معاني القرآن" ٢/ ٣٢٥.
(٧) (عند) ساقطة من النسختين؛ وزدتها لاستقامة الكلام.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ يعني: شدة وبلاء ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي: بما عملوا من السيئات ﴿إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ ﴿إِذَا﴾ جواب الشرط، وهو مما يجاب به الشرط، قوله: ﴿إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ في موضع: قنطوا (١).
٣٧ - قال مقاتل: ثم وعظهم فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ﴾ الآية (٢)
٣٨ - وقوله: ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ أي: من الصلة والبر (٣). قال مقاتل: حقُّ القرابة: الصلة (٤).
وقال قتادة: إذا كان لك ذو قرابة فلم تصله بمالك، ولم تمش إليه برجلك فهو قطيعة (٥).
وقال أبو إسحاق: وفرائض المواريث كأنها قد نَسختْ هذا؛ أعني:
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٩ ب.
(٣) تفسير ابن جرير ٢١/ ٤٥.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٩ ب.
(٥) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ١٠٣.
وقوله: ﴿وَالْمِسْكِينَ﴾ قال ابن عباس: أطعم الطواف (٢)
قال أبو المظفر السمعاني ٤/ ٢١٥: "أكثر المفسرين على أن المراد من إيتاء ذي القربى هاهنا صلة الرحم بالعطية والهدية، ثم ذكر قول قتادة. وقال القاسمي: ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ أي: من البر والصلة. واستدل به أبو حنيفة على وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب؛ لأن ﴿ءاتِ﴾ أمر للوجوب. والظاهر من الحق بقرينة ما قبله أنه: مالي، وهو استدلال متين. "تفسير القاسمي" ١٣/ ١٨١.
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمرًا بإعطاء ذي القربى حقه أي: من البر والصلة". "تفسير ابن كثير" ٦/ ٣١٨. وهو قول البغوي ٦/ ٢٧٢. قال أبو حيان ٧/ ١٦٩، بعد ذكر رأي الحنفية: "الظاهر أن الحق ليس الزكاة وإنما يصير حقاً بجهة الإحسان والمساواة". قال ابن عطية ١١/ ٤٥٩: "هذا على جهة الندب". وهذا محمول على إذا لم تكن قرابته محتاجة، إذا كانت قرابته محتاجة فقيرة وهو غني مقتدر فيجب عليه أن يصل قرابته بماله. والله أعلم.
(٢) ذكره عنه القرطبي ١٤/ ٣٥، بلفظ: أطعم السائل الطواف.
وقوله: ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ يعني: حق الضيف عليك أن تحسن إليه (٢).
﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ يقول: إعطاء الحق أفضل من الإمساك ﴿لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ (٣) يطيعون بما يعلمون ثوابه. ثم نعتهم فقال: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (٤).
٣٩ - قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ﴾ الآية، روى قتادة عن ابن عباس في هذه الآية قال: هي هدية الرجل يهدي الشيء يريد أن يثاب أفضل منه، فذلك الذي لا يربو عند الله، لا يؤجر فيه صاحبه، ولا إثم عليه فيه (٥). وعن مجاهد قال: هي الهدايا (٦).
وروى ابن أبي روَّاد عنه قال: هو الربا الحلال؛ يهدي الرجل الشيء ليُهدَى له أفضل منه، فهو حلال ليس فيه إثم ولا أجر (٧). وقوله: {وَلَا تَمْنُنْ
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٩ ب. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٧.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٩ ب.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٩ ب، من قوله: ثم نعتهم.
(٥) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ١٠٣، وأخرجه ابن جرير ٢١/ ٨٤، عن ابن عباس من طريق قتادة. وأخرجه ابن جرير ٢١/ ٤٦، من طريق محمد بن سعد بإسناده عن ابن عباس. وهو قول مقاتل ٧٩ ب.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٤٦.
(٧) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ١٠٤، عن الضحاك بن مزاحم، من طريق عبد العزيز بن أبي رواد.
- عبد العزيز بن أبي رواد، شيخ الحرم، واسم أبيه: ميمون، حدث عن سالم بن عبد الله، والضحاك بن مزاحم، وعكرمة، ونافع، وغيرهم، وحدث عنه: يحيى القطان، وعبد الرزاق، وابن المبارك، وغيرهم، صدوق عابد، وربما وهم، ورمي بالإرجاء، ت: ١٥٩ هـ. "سير أعلام النبلاء" ٧/ ١٨٤، و"تقريب التهذيب" ص ٦١٢.
وقال السدي: الربا في هذا الموضع: الهدية يهديها الرجل لأخيه، طلبَ المكافأة، فإن ذلك لا يربو عند الله، ولا يؤجر عليه صاحبه. وقال سعيد بن جبير: هذا في الرجل يُعطِي ليثابَ عليه (٢). هذا قول المفسرين في هذه الآية.
وشرحها أهل المعاني؛ فقال أبو إسحاق: يعني به: دفعُ الإنسان الشيء ليعوض ما هو أكثر منه، فذلك ليس بحرام، ولكنه لا ثواب فيه؛ لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه (٣).
وقال أبو علي الفارسي: ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ﴾ يحتمل تقديرين؛ يجوز أن تكون للجزاء (٤)، ويجوز أن تكون موصولة؛ فإن قدرتها جزاء كانت في موضع نصب بـ: ﴿آتَيْتُمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ في موضع جزم بأنه جواب للجزاء، ويقوي هذا الوجه: قوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ ألا ترى أنه لو كان مبتدأً لعاد عليه ذكرٌ، وإن جعلتها موصولة كان موضع ﴿مَا﴾ رفعًا بالابتداء، و ﴿آتَيْتُمْ﴾ صلة، والعائد
(٢) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٤٦.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٧، بمعناه.
(٤) أي: اسم شرط جازم.
وقوله: ﴿آتَيْتُمْ﴾ أكثر القراء قرأ: ﴿آتَيْتُمْ﴾ بالمد (٢)، (٣) إلى قول: من مد كأنه قيل: ما جئتم من ربًا، ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء له كما قال (٤): أتيت الخطأَ، وأتيت الصوابَ، وأتيت قبيحًا، قال الشاعر:
أتيتُ الذي يأتي السفيه لِغرتي | إلى أن علا وَخْطٌ من الشيبِ مَفْرِقي |
وقوله: ﴿مِنْ رِبًا﴾ على ضربين؛ أحدهما: متوعد عليه محرم بقوله: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ [البقرة: ٢٧٨] والآخرُ غير محرم: وهو أن يُهدِي
(٢) قرأ ابن كثير: ﴿أَتَيْتُمْ﴾ مقصورة، والباقون: ﴿آتَيْتُمْ﴾ بالمد، في قوله تعالي: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا﴾ وأما قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ﴾ فلم يختلفوا في مدها. "السبعة في القراءات" ص ٥٠٧، "والحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٦، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" ٢/ ١٩٦، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٤.
(٣) يوجد هنا سقط في النسختين؛ ولا يتم المعنى بدونه، وتمام الكلام كما هو عند أبي علي في "الحجة" ٥/ ٤٤٦: "وأما قصر ابن كثير فإنه يؤول في المعنى إلى قول من مد.. ".
(٤) في "الحجة" ٥/ ٤٤٦: كما تقول.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٦، وأنشد البيت كاملًا، ولم ينسبه. الغِزُّ: الصغير الذي لم يجرب الأمور، يقال: كان ذلك في غرارتي وحداثتي. "تهذيب اللغة" ١٦/ ٧١ (غرر). والمفرق: وسط الرأس. "لسان العرب" ١٠/ ٣٠١ (فرق).
وقوله: ﴿لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ﴾ فاعل (يَرْبُوَا) الربا المذكور في قوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا﴾ وقُدِّر المضاف فحذفه، كأنه: في اجتلاب أموال الناس، أو اجتذابه، ونحو ذلك (٢).
وقرأ نافع: (لِتُربوا) بالتاء وضمها (٣)، أي: لتصيروا ذوي زيادة من
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٧، ولفظه: "وقدر المضاف وحذف كأنه: اجتلاب أموال الناس، واجتذابها، ونحو ذلك".
(٣) قرأ نافع: ﴿لِتُربوْا﴾ بضم التاء، ساكنة الواو، وقرأ الباقون: ﴿لِيَربوَا﴾ بالياء، مفتوحة الواو. "السبعة في القراءات" ص ٥٠٧، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٧. و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٩٦، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٤. وقد ضبط محقق كتاب "الحجة" قراءة نافع هكذا. ﴿لِترْبُوَ﴾ وقال بعدها: بالتاء ساكنة الواو. وهذا خطأ من وجهين؛ الأول: قراءة نافع بالتاء مضمومة، وليست مفتوحة كما ضبطها المحقق في ص ٤٤٨، الثاني: الواو في قراءة نافع: ساكنة، وليست مفتوحة، مع أن المحقق قد أحال في الحاشية على كتاب "السبعة".
وقوله: ﴿فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: لأنكم إنما قصدتم إلى زيادة العِوض، ولم تقصدوا وجه البر والقربة، ولو قصدتم به وجه الله لكان كقوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ وفي (مَا) هذه الوجهان ذكرناهما في (مَا) في أول الآية؛ فإن جعلتها: الموصولة فهي في موضع رفع، و (ءَاتَيْتُم) صلة، والراجع إلى الموصول محذوف، على تقدير: آتيتموه.
قال: (وَمَاءَاتَيْتُم) ثم قال: (فَأُولَئِكَ) فانتقل من الخطاب إلى الغيبة (٢)، كما جاء في ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ [يونس: ٢٢] (٣). والفاء دخلت على: (فَأُولَئِكَ) لذكر الفعل في الصلة، والجملة في موضع خبر المبتدأ الذي هو: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ﴾ ويقدر راجعًا محذوفًا، التقدير: فأنتم المضعفون به. أي: ذوو الضعف بما آتيتم من زكاة، فحذفت العائد على حد ما حذفته من قولك: السمن منوان بدرهم (٤).
(٢) "المسائل الحلبيات" ص ٨٥.
(٣) ذكر هذا ابن قتيبة، "تأويل مشكل القرآن" ص ٢٨٩.
(٤) ساق هذا المثال للتدليل على حذف العائد المجرور، وتقديره: السمن منوان منه بدرهم، فحذف منه لدلالة السياق عيه، كما قدر في الآية: فأنتم المضعفون به. والله أعلم. والمَنَّ: معيار قديم يكال به أو يوزن. "لسان العرب" ١٣/ ٤١٨ (منن)، و"المعجم الوسيط" ٢/ ٨٨٨.
قال أبو إسحاق: وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة وإنما تقصدون بها ما عند الله ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ أي: فأهلها يضاعف لهم الثواب؛ يُعطون بالحسنة عشر أمثالها. وقيل ﴿الْمُضْعِفُونَ﴾ كما يقال رجل مقوٍ؛ أي: صاحب قوة، وموسر، أي: صاحب يسار، وكذلك: مُضعف، ذو أضعاف من الحسنات (١).
قال مقاتل: ثم ذكر ما أصاب الناس من ترك التوحيد في قوله تعالى:
٤١ - ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ يعني: قحط المطر وقلة النبات (٢). قال أبو علي: الفساد جاء في القرآن على ضربين؛ فساد معاقب عليه، وهو كثير (٣). وفساد على غير ذلك؛ بمعنى: الجدْب (٤)، وهو المراد في هذه الآية، وهذا كما قلنا في: الحسنة والسيئة؛ وقد ذكرنا ذلك في قوله: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ﴾ [الأعراف: ٩٥] (٥).
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٩ ب.
(٣) مثل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١١، ١٢]. وقد ورد الفساد بهذا المعنى في أكثر من خمسة وأربعين موضعًا في القرآن الكريم. انظر الآيات في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ٥١٨ (فسد).
(٤) من أمثلته قول الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: ٢٥١]، وهو بهذا المعنى قليل لم أجده إلا في أربعة مواضع؛ البقرة: ٢٥١، الأنبياء: ٢٢، المؤمنون: ٧١، وآية الروم هذه. والله أعلم.
(٥) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: "قال أهل اللغة: السيئة كل ما يسوء صاحبه، والحسنة ما يحسن عليه أثره. ثم ذكر قول أبي علي الذي ذكره هنا، ثم قال: والمعنى: أنه تعالى أخبر أنه يأخذ أهل المعاصي بالشدة تارة، وبالرخاء تارة".
قال ابن عباس في رواية عكرمة: أما البحر فما كان من المدائن والقرى على شاطئ نهر، وأما البر: فالبرية التي ليس عندها نهر (٣).
وقال السدي: الفساد: القحط. والبر: كلُّ قرية من قرى العرب نائيةٍ عن البحر، مثل: المدينة ومكة. [قال: والعرب تسمي الأمصار: بحرًا] (٤) وأما البحر: فكلُّ قريةٍ مثلُ: البصرة والكوفة والشام (٥).
وقال عكرمة: أما إني لا أقول: بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماء، قال: والعرب تسمي الأمصار: بحرًا (٦).
وقال فضيل بن مرزوق: قلت لعطية في قوله: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ
(٢) كتاب "الشعر" لأبي علي ٢/ ٤٥٧، بتصرف. قال مقاتل ٧٩ ب: ثم أخبرهم أن قحط المطر في البر ونقص الثمار في الريف حيث تجري فيها الأنهار إنما أصابهم بترك التوحيد، فقال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ يعني: قحط المطر، وقلة النبات حيث لا تجري فيها الأنهار لأهل العمود، ثم ظهر الفساد يعني: قحط المطر، ونقص الثمار في البحر، يعني: الريف، يعني: القرى التي تجري فيها الأنهار.
قال الليث: يقال لأهل الأخبية الذين لا ينزلون غيرها: هم أهل عَمُود، وأهل عماد. كتاب "العين" ٢/ ٥٧ (عمد) ونقله الأزهري، "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٥١.
(٣) ذكره السيوطي، "الدر المنثور" ٦/ ٤٩٦، وعزاه لابن أبي حاتم.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ).
(٥) ذكره السيوطي، "الدر المنثور" ٦/ ٤٩٧، وعزاه لابن أبي حاتم.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٤٩.
قوله تعالى: ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ أي: من المعاصي (٤). يعني: كفار مكة ﴿لِيُذِيقَهُمْ﴾ الله بالجوع في السنين السبع (٥) ﴿بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ أي: جزاء
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لكي يرجعوا من الكفر إلى الإيمان (٦). هذا الذي ذكرنا هو الصحيح في تفسير هذه الآية. وذُكر في تفسيرها أقوالٌ لا تليق
(٢) ذكره الثعلبي ٨/ ١٦٩ ب، عن ابن عباس.
(٣) يعني أن المراد بالبحر: القرى التي على شاطىء البحر، وهذا القول وإن كان له وجه، لكن إجراء الآية على ظاهرها حيث لا يمنع من ذلك شيء أولى. ولعل الذي حمل الواحدي على ترجيح هذا القول تفسيره الفساد في الآية بالجدب والقحط، وهو غير مُتصور في البحر. وسيأتي توضيح القول الصحيح إن شاء الله تعالى.
(٤) ذكره السيوطي، "الدر المنثور" ٦/ ٤٩٧، وعزاه لابن أبي حاتم.
(٥) المراد بذلك ما ورد في الحديث الصحيح في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- على أهل مكة بسنين كسني يوسف، -عليه السلام-، وقد سبق ذكره وتخريجه في تفسير الآية: ٩٣، من سورة النمل.
(٦) "تفسير مقاتل" ٧٩ ب، بنصه.
قال مجاهد: قَتْلُ ابنِ آدم أخاه في البر، وأخذُ الملِك السفنَ غصبًا في البحر (٢).
قال الحسن: أفسدهما الله بذنوبهم في بر الأرض وبحرها ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ يرجع مَنْ بعدهم (٣). وهذه الأقوال مرذولة فاسدة ليست تحسن في تفسير هذه الآية (٤).
(٢) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٤٩.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٤٩، ٥٠. وأخرج عن ابن زيد: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ قال: الذنوب.
(٤) كان الأولى بالواحدي أن يبين ضعف هذه الأقوال دون الحاجة لوصفها بهذا الوصف.
فعلى القول الذي صححه الواحدي يكون المراد بالفساد: ما أصاب الناس من القحط والجدب. وعلى القول الثاني الذي رده الواحدي، المراد بالفساد: ظهور الشرك والمعاصي في كل مكان، من البر والبحر، وانتشار الظلم، وحصول النقص في الخيرات، والحروب، والكوارث، ونحو ذلك كلُه ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ أي: بذنوب الناس انتشر الشر والظلم والفسق والفجور في البر والبحر. وقد اقتصر على هذا القول ابن جرير ٢١/ ٥٠، قال: "فتأويل الكلام إذًا إذ كان الأمر كما وصفت: ظهرت معاصي الله في كل مكان، من بر وبحر ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ أي: بذنوب الناس، وانتشر الظلم فيهما". وقد تأول ابن جرير هذا القول من أقوال قتادة، ومجاهد، والحسن، التي وصفها الواحدي بأنها: أقوال مرذولة!؛ والصواب أنها أقوال مناسبة لسياق الآية، ولظاهرها كما يدل عليه تمثيل مجاهد للفساد في البحر: بأخذ السفن غصبا، وهذا هو مقتضى الحكمة، والقول الذي =
ذنوب بني آدم، ولا يُعترض على هذا بمثل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: ٩٦] فالآية في زيادة الخير والرزق لمن حقق الإيمان والتقوى، بل إن من حكمة الله تضييق الرزق على الأنبياء وأتباعهم، تعظيمًا لأجرهم في الآخرة كما لا يخفى، وخلاصة ذلك أن اعتراض الواحدي ورده لهذه الأقوال لم يبين دليله عليه، مع أن القول الذي رده ظاهر جدًا من سياق الآية، وعليه فيحمل الفساد على ما يظهر في البر والبحر من الكفر والظلم والطغيان، وما يلحق الناس بسبب ذلك من نقص المطر وحصول القحط والجدب، والعذاب بالزلازل والخسف والغرق، والحروب، والسلب والنهب، والخوف وغيره من أنواع الفساد الذي ينتشر بسبب ذنوب الناس؛ من الشرك وغيره، ومما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: ١١٧]. والله تعالى أعلم.
(١) "تفسير مقاتل" ٨٠ أ.
﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ أي: يتفرقون بعد الحساب، إلى الجنة والنار. قاله مقاتل (٣). وهذا كقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ وقد مر (٤). قال الفراء: ﴿يَصَّدَّعُونَ﴾: يتصدعون، أي: يتفرقون، تقول العرب: صدَعتُ غنمي صِدْعَتين، أي: فَرَقْتُها فِرقتين (٥).
٤٤ - قوله: ﴿مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ قال ابن عباس: يجازى بكفره. قال مقاتل: عليه إثم كفره (٦) ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ أي: يوطئون لأنفسهم منازلهم (٧).
وقال الكلبي: يفرشون (٨).
وقال مجاهد: يسوون المضاجع في القبر (٩). يقال: مهدت لنفسي
(٢) "تفسير مقاتل" ٨٠ أ.
(٣) "تفسير مقاتل" ٨٠ أ. والزجاج، "معاني القرآن" ٤/ ١٨٨.
(٤) الآية ١٤، من هذه السورة.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٥، وليس فيه: يتصدعون.
(٦) "تفسير مقاتل" ٨٠ أ.
(٧) قال الزجاج ٤/ ١٨٨: أىِ: لأنفسهم يوطئون.
(٨) "تنوير المقباس" ص ٣٤٢.
(٩) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٥٢.
٤٥ - قوله: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ اللام متعلقة بقوله: ﴿يَمْهَدُونَ﴾ أي: يمهدون لأنفسهم ليجزيهم الله ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ قال ابن عباس: ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم.
٤٦ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ قال ابن عباس: بالمطر (١) ﴿وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ قال: يريد الغيث والخَصْب. قال صاحب النظم: هو معطوف على تأويل: ﴿مُبَشِّرَاتٍ﴾ على نظم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ﴾ ليبشركم وليذيقكم من رحمته، ولتجري الفلك في البحر بتلك الرياح بأمره، ولتبتغوا في البحر من فضله، يعني: الرزق بالتجارة. قال مقاتل: كل هذا بالرياح ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ هذه النعمة فتوحدونه.
٤٧ - ثم خوف كفار مكة، وعزَّى نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ (٢) أي: بالدلالات الواضحات على صدقهم. وقال ابن عباس: بالفرائض والحلال والحرام.
وقال مقاتل: أخبروهم بالعذاب أنه نازل بهم إن لم يؤمنوا (٣).
قوله تعالى: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ كفروا بآياتهم (٤).
وقال الكلبي: جرمهم هاهنا: الكفر (٥).
(٢) "تفسير مقاتل" ٨٠ أ.
(٣) "تفسير مقاتل" ٨٠ أ.
(٤) الضمير يعود على البينات التي جاء بها الرسل، كما يدل عليه سياق الآية.
(٥) "تنوير المقباس" (٣٤٢)، وهو قول مقاتل ٨٠ أ.
٤٨ - قال مقاتل: ثم أخبر عن صُنعه ليعرفوا توحيده فقال: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ (٢) يزعجه من حيث هو ﴿فَيَبْسُطُهُ﴾ الله ﴿فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ قال مقاتل: إن شاء بسطه مسيرة يوم، أو بعض يوم، أو مسيرة أيام (٣) ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا﴾ أي: قطعًا (٤)، بعد أن بسطه الله يجعله قطعًا متفرقًا يسير بها الريح. وتفسير الكِسْف، قد ذكرناه في أواخر سورة بني إسرائيل (٥).
(٢) "تفسير مقاتل" ٨٠ أ.
(٣) "تفسير مقاتل". ٨٠ أ، والمراد بذلك المطر النازل من السحاب تختلف كثرته وقلته، من مسيرة يوم، أو أيام، وهذا مقصود مقاتل، حيث قال: أو مسيرة أيام يمطرون. والظاهر من الآية بسطه في السماء قبل نزوله، بدليل ما ذكر في الآية بعد ذلك من تقطيع السحاب، ثم نزول المطر. والله أعلم.
(٤) أخرج ابن جرير ٢١/ ٥٤، عن قتادة. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٩، ولم ينسبه.
(٥) عند قوله تعالى: ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا﴾ [٩٢] قال الواحدي: =
٤٩ - ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ﴾ اختلفوا في تفسير ﴿قَبْلِ﴾ فذكر أبو إسحاق وابن الأنباري فيه قولين؛ أحدهما: أن الأُولى: داخلة في الإنزال، والثانية: على المطر، والمعنى: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ﴾ إنزال المطر، من قبل المطر، فلما دخلت الثانية على غير ما دخلت عليه الأولى صلح الجمع بينهما، كما تقول: أجيئك من قبل أن تجلس، مِنْ قبل أن تبلغ إلى المجلس، فلا تُنكر الإعادة إذا اختلف الشيئان. هذا كلام أبي بكر (٣)، وهو قول قطرب (٤).
القول الثاني: أن تكرير ﴿قَبْلِ﴾ إطناب بمعنى: التوكيد (٥). والمعنى: وإن كانوا من قبل إنزال المطر ﴿لَمُبْلِسِينَ﴾ قال أبو إسحاق: والقول ما
(١) عند قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا..﴾ [٤٣].
(٢) "تفسير مقاتل" ٨٠ ب.
(٣) المراد به: ابن الأنباري؛ ولم أقف على قوله.
(٤) نسبه لقطرب الزجاج ٤/ ١٨٩، والثعلبي ٨/ ١٧٠ أ. وحكاه ابن جرير ٢١/ ٥٤، ولم ينسبه. أي: لما اختلف المضاف إلى الضمير لفظًا صح تكراره، والمعنى واحد، فالأول من قبل إنزال المطر، والثاني من قبل المطر، والمطر لا يكون إلا تنزيلًا.
(٥) هذا قول الأخفش. "معاني القرآن" ٢/ ٦٥٨، واختاره ابن جرير ٢١/ ٥٤.
وقوله: ﴿لَمُبْلِسِينَ﴾ أي: آيسين قانطين من المطر. قاله ابن عباس ومقاتل (٤). والتقدير: وما كانوا إلا مبلسين. وقد تقدم لهذا نظائر.
٥٠ - قوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ﴾ أي: بعد إنزال المطر، فانظر إلى حُسنِ تأثيره في الأرض. وتقرأ (آثَارِ) على الجمع (٥)؛ فمن أفرد فلأنه مضاف إلى مفرد. ومن جمع جاز؛ لأن رحمة الله يجوز أن يراد بها:
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٩.
(٣) ويمكن حمل الضمير في قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ على لفظ الاستبشار المفهوم من قوله: ﴿إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أو على الحال الموصوف في الآية السابقة إجمالًا المتضمن وصف السحاب وكيفية تكونه وسوقه وبسطه في السماء قبل خروج الودق منه وأثنائه، وهذا -كما يظهر- أحسن وأولى بالسياق من القول بالإطناب. والله أعلم.
(٤) "تفسير مقاتل" ٨٠ ب. وأخرجه ابن جرير ٢١/ ٥٤، عن قتادة. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٣٤٢، ولم ينسبه.
(٥) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: ﴿إِلَى أَثَرِ﴾ واحدة بغير ألف، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: ﴿ءَاثَرِ﴾ جماعة. "السبعة في القراءات" ص ٥٠٨، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٨، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٥
وقوله: ﴿كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي: كيف يجعلها تنبت بعد أن لم يكن فيها نبت.
(إِنَّ ذَلِكَ) الذي فعل ما ترون؛ وهو الله تعالى: ﴿لَمُحْيِ الْمَوْتَى﴾ في الآخرة، فلا تكذبوا بالبعث (٣) ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من البعث والموت.
ثم عاب كافر النعمة، والجاهل بأن الله تعالى يفعل ما يشاء فقال:
٥١ - ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا﴾ قال ابن عباس: يريد عذابًا، يعني: ريحًا هي العذاب كما قال مقاتل: ريحًا باردة مضرة (٤). والريح إذا أتت على لفظ الواحد أريد بها: العذاب، ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عند هبوب الرياح: "اللَّهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا" (٥).
(٢) "تفسير مقاتل" ٨٠ ب.
(٣) "تفسير مقاتل" ٨٠ ب.
(٤) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٧٠ ب. ولم ينسبه. و"تفسير مقاتل" ٨٠ ب. بنحوه.
(٥) أخرجه أبو يعلي، في "مسنده" ٤/ ٣٤١، رقم (٢٤٥٦)، من طريق حسين بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس، يرفعه، ومن الطريق نفسه أخرجه الطبراني، في "المعجم الكبير" ١١/ ١٧٠، رقم (١١٥٣٣)، قال الهيثمي: فيه حسين بن قيس الملقب بحنش، وهو متروك، وقد وثقه حصين بن نمير. "مجمع الزوائد" ١٠/ ١٣٥. وهذا الحديث له طريق آخرة قال الشافعي: أخبرني من لا أتهم، أنبأنا العلاء بن راشد، عن عكرمة عن ابن عباس.. الحديث. قال الأصم: سمعت الربيع ابن سليمان يقول: كان الشافعي إذا قال: أخبرني من لا أتهم؛ يريد به: إبراهيم بن أبي يحيى السلمي. "تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" ٣/ ٥٩، قال ابن حجر: =
وقوله: ﴿لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ﴾ قال: معناه: لَيَظَلُنَّ، معنى الكلام: الشرط والجزاء (٢)، قال الخليل: معناه: لَيَظَلُنَّ، فأوقع الماضي موقع المستقبل (٣)، كقول الحطيئة:
شَهِدَ الحطيئةُ حين يلقى ربَّه
أي: يشهد (٤).
وقوله: ﴿بَعْدِهِ﴾ أي: من بعد اصفرار النبت يجحدون ما سلف من النعمة. وهذا بيان عن حال الجاهل عند المحنة من كفره ما سلف من النعمة.
قال أبو إسحاق: يعني فهم يستبشرون بالغيث، ويكفرون إذا انقطع
(١) "تفسير مقاتل" ٨٠ ب.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٩.
(٣) "الكتاب" ٣/ ١٠٨؛ قال سيبويه: "وسألته عن قوله -عز وجل-: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ﴾ فقال: هي في معنى: ليفعلُنَّ، كأنه قال: ليظلُنَّ، كما تقول: والله لا فعلت ذلك أبدًا تريد معنى: لا أفعل". وما ذكره الواحدي بنصه في "سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٩٨.
(٤) أنشده كاملًا ونسبه ابن جني، "سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٩٨، وعجزه:
أن الوليد أحقُّ بالعذر
والوليد، هو: الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وهو في "ديوان الحطيئة" ١٩٩.
قال الكلبي: يقول الله تعالى: لو فعلت ذلك بهم لفعلوا (٢)؛ يعني: أنهم يفرحون عند الخصب، فلو أرسلت عذابًا على زرعهم كفروا سالف نعمتي، وكفروا ما كانوا يستبشرون به، وليس كذا حال المؤمن؛ لأنه لا يستشعر الخيبة والكفران عند الشدة والمحنة.
٥٢، ٥٣ - قوله تعالى: ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ هذه الآية، والآية التي بعدها مفسرتان في سورة: النمل (٣).
٥٤ - قال مقاتل: ثم أخبر عن خلق أنفسهم ليتفكر المكذب بالبعث في خلق نفسه فقال: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ﴾ (٤) قال قتادة والكلبي: يعني من نطفة (٥).
قال الزجاج: تأويله أنه خلقكم من النُّطفِ في حال ضعف (٦).
قال أبو علي: المعنى: خلقكم من ذي ضعف، أي: من ماء ذي ضعف، كما قال: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [المرسلات: ٢٠] (٧). ومعنى ضَعفِ ذلك الماء: أنه قليل.
(٢) "تنوير المقباس" ٣٤٣.
(٣) عند قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ..﴾ [٨٠، ٨١].
(٤) "تفسير مقاتل" ٨٠ ب.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٥٦، عن قتادة. و"تفسير مقاتل" ٨٠ ب. و"تنوير المقباس" ص ٣٤٣، وذكره ابن قتيبة، "غريب القرآن" ص ٣٤٣، ولم ينسبه.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٩٠.
(٧) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٥٠.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٥٠.
(٣) لم أجده عند الفراء، لكن نسبه له الثعلبي ٨/ ١٧٠ ب. واختار هذه القراءة للرواية الزجاج ٤/ ١٩١. والحديث أخرجه الإمام أحمد ٧/ ١٥٣، تح: أحمد شاكر، والترمذي ٥/ ١٧٤، كتاب "القراءات" رقم (٢٩٣٦)، وأبو داود ٤/ ٢٨٣، كتاب "الحروف والقراءات"، رقم (٣٩٧٨)، والحاكم ٢/ ٢٧٠، كتاب التفسير، رقم (٢٩٧٤)، وأخرجه الثعلبي ٨/ ١٧٠ ب، كلهم من طريق فُضيل بن مرزوق عن عطية بن سعد العوفي، قال: قرأت على ابن عمر ﴿مِنْ ضَعْفٍ﴾ فقال ﴿مِنْ ضَعْفٍ﴾ قرأتهُا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما قرأتَها عليَّ، فأَخذ علي كما أخذت عليك. وضَعَّف وضعف الحديث الشيخ: أحمد شاكر، لضعف عطية العوفي، راويه عن ابن عمر، "مسند الإمام أحمد" ٧/ ١٥٣، (تح: أحمد شاكر)، والحديث لا يُعرف بهذا اللفظ إلا من طريقه كما قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث فُضيل بن مرزوق عن عطية العوفي. وقال الحاكم: تفرد به عطية العوفي، ولم يحتجا به، وقد احتج مسلم بالفضيل بن مرزوق. وعطية هذا قال عنه ابن حجر: صدوق يخطئ كثيرًا، وكان شيعيًا مدلسًا. "تقريب التهذيب" ص ٦٨٠، رقم (٤٦٤٩). وحَسَّن الحديث الألباني، "صحيح سنن الترمذي" ٣/ ١٤، رقم (٢٣٣٩)، وأحال على كتابه: "الروض النضير". وكتاب "الروض النضير" غير مطبوع فلعل تحسين الألباني له لورود هذا الحديث من طريق آخر؛ قال الطبراني: حدثنا هارون بن موسى =
وذكر ابن عدي سلام بن سليمان هذا؛ وقال: هو عندي منكر الحديث، ثم ساق له أحاديث استنكرها عليه منها هذا الحديث؛ ثم قال: وهذه الأحاديث عن أبي عمرو عن نافع عن ابن عمر لا يرويها عن أبي عمرو إلا سلام هذا. "الكامل في ضعفاء الرجال" ٣/ ١١٥٦.
والصواب -والله أعلم- ضعف هذا الحديث، وأنه لا يرتقي لدرجة الحسن. وأقصى ما يفيده الحديث على فرض صحته أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنكر على ابن عمر قراءته ﴿ضَعْفٍ﴾ بغير القراءة التي أقرأه إياها؛ كما ذكر الواحدي عن الفراء أن الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم؛ وعلى ذلك لا يؤخذ من هذا الحديث تفضيل قراءة الضم على قراءة الفتح. والله تعالى أعلم.
(١) قول المبرد: من حملة الشيب، الظاهر منه أنه جعل لفظ: الشيبة أحد أفراد الشيب على اعتبار أن لفظ الشيب مصدر فيه عموم وشمول وإحاطة على حد قوله: فهي تحيط بالشيء، وعليه فلفظ: شيبة مفرد كما هو ظاهر من لفظه أريد به الجمع. والله أعلم.
﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أي: من ضعف وقوة وشيبة وشباب ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ﴾ بتدبير خلقه ﴿الْقَدِيرُ﴾ على ما يشاء.
٥٥ - وقوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ قال ابن عباس والمفسرون: يريد يوم القيامة ﴿يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ يحلف المشركون ﴿مَا لَبِثُوا﴾ في القبور ﴿غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ إلا ساعة واحدة (١)
وقال قتادة: ما لبثوا في الدنيا غير ساعة (٢). والقول هو الأول؛ لأن الآية الثانية دلت عليه (٣). قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ﴾ قال الزجاج: مثل هذا الكذب كذبهم؛ لأنهم أقسموا على غير تحقيق (٤).
وقال الكلبي: كذبوا في قولهم: ﴿غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ كما كذبوا في الدنيا (٥).
وقال مقاتل: يقول: هكذا كانوا يكذبون بالبعث في الدنيا، كما كذبوا أنهم لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة (٦).
(٢) ذكره عنه السيوطي، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن المنذر، وعبد بن حميد. "الدر المنثور" ٦/ ٥٠٢.
(٣) وهي قوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٩٢.
(٥) "تنوير المقباس" ص ٣٤٣.
(٦) "تفسير مقاتل" ٨١ أ.
وذكر مقاتل وغيره في سبب كذبهم: أنهم استقلوا قدر لبثهم في الدنيا في القبور لَمَّا عاينوا الآخرة (٢). والصحيح في معنى الآية: أنهم كذبوا من غير عذر، بل حلفوا كاذبين كذبًا صريحًا؛ لأنهم لو استقصروا مدة لبثهم وخُيل إليهم أنهم لم يلبثوا إلا ساعة كانوا معذورين في كذبهم، وليس الأمر على ذلك، ولكن الله تعالى أراد أن يفضحهم فحلفوا على شيء يتبين لأهل الجمع من المؤمنين أنهم كاذبون في ذلك، ويستدلون بكذبهم هناك على كذبهم في الدنيا بالشرك والكفر، وكان ذلك من قضاء الله وقدره بدليل قوله: ﴿يُؤْفَكُونَ﴾ أي: يُصرفون، يعني: كما صُرفوا عن الصدق في حلفهم حتى حلفوا كاذبين، صرفوا في الدنيا عن الإيمان، ولو أراد: كذلك كانوا يكذبون؛ لقال: يَأفكون، فلما قال: ﴿يُؤْفَكُونَ﴾ دلَّ على إثبات القَدَر. ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم كذبهم بقوله:
٥٦ - ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ﴾ أي: لبثتم في القبور في خبر الكتاب إلى يوم القيامة (٣)، وهو قوله: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٠] وقيل: المعنى فيما كتب الله لكم من اللُبث.
(٢) "تفسير مقاتل" ٨١ أ.
(٣) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٣٤٣، بنصه.
وقال صاحب النظم: في حكم الله الذي حكم به في قوله: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. وأما المفسرون فإنهم يقولون: هذا على التقديم؛ على تقدير: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ وهو قول الكلبي وقتادة (٢). وهذا يحتمل تأويلين؛ أحدهما: الذين يعلمون كتاب الله فلهم فيه علم. والثاني: الذين حكم لهم في كتاب الله بالعلم، وأخبر في الكتاب عن علمهم.
قوله تعالى: ﴿فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ﴾ أي: اليوم الذي كنتم تنكرونه في الدنيا، وتكذبون به. ﴿وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ وقوعه في الدنيا فلا ينفعكم العلم به الآن؛ يدل على هذا المعنى قوله تعالى:
٥٧ - ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد: لا يُقبل من الذين أشركوا عذر، ولا عتاب، ولا توبة ذلك اليوم. وقرئ ﴿لَا يَنْفَعُ﴾ بالياء (٣)؛ لأن التأنيث ليس بحقيقي، وقد
(٢) ذكره السيوطي عن قتادة، وعزاه لابن أبي حاتم، وعبد بن حميد. "الدر المنثور" ٦/ ٥٠٢. وقد وقع خطأ في كتابة قول قتادة في تفسير ابن جرير ٢١/ ٥٧، حيث كتب: هذا من مقاديم الكلام، وتأويلها: وقال الذين أوتوا الإيمان والعلم: لقد لبثتم في كتاب الله. والصواب ما ذكره السيوطي في الدر، ونسبه أيضًا لابن جرير. وقال بقول قتادة: مقاتل ٨١ أ. ونسبه لقتادة ومقاتل الثعلبي ٨/ ١٧١ أ.
(٣) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر: ﴿لَا تَنفَعُ﴾ بالتاء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: ﴿لَا يَنْفَعُ﴾ بالياء. "السبعة في القراءات" ص ٥٠٩، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٥٠، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٦.
فصل القول بين الفاعل وفعله (١). وإذا انضم إلى أن التأنيث ليس بحقيقي، قوي التذكير (٢).
﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أي: لا يطلب منهم العتبى والرجوع في الآخرة.
٥٨ - وقوله: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ﴾ بينا ووصفنا (٣) للمشركين ﴿فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ احتجاجًا عليهم، وتنبيهًا لهم ﴿وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ﴾ يا محمد ﴿تَنفَعُ﴾ قال ابن عباس: يريد كما أرسل الأولون قبلك، يعني بآية؛ كالعصا واليد، وغير ذلك من آيات الأنبياء ﴿لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ﴾ ما أنتم يا محمد وأصحابك ﴿إِلَّا مُبْطِلُونَ﴾ أصحاب أباطيل. وهذا إخبار عن عنادهم وتكذيبهم، وأنهم لا يعقلون عن شركهم وكفرهم بالآيات الواضحة إن أُتوا بها. ثم ذكر سبب ذلك فقال:
٥٩ - ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ بتوحيد الله، وكل من لم يؤمن بالله ويعلم توحيده فذلك لأجل طبع الله على قلبه.
٦٠ - ولما أخبر عن الطبع على قلوبهم أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالصبر إلى وقت النصر فقال: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ بنصر دينك، وإظهارك على عدوك حقٌ (٤) ﴿وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾ قال أبو إسحاق: أي: لا يستفزونك عن دينك ﴿الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ أي: هم ضالون شاكون (٥).
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٥٠.
(٣) "تفسير مقاتل" ٨١ أ.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٩٢.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٩٢، وفيه: يسَتفزَّنَّك.
وقال مقاتل: لا يوقنون بنزول العذاب عليهم في الدنيا؛ وهم الذين عذبهم الله ببدر (٢).
وقيل: ﴿الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ بالبعث والحساب.
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من أول سورة لقمان إلى آخر سورة يس
تحقيق
د. محمد بن عبد الله بن سابح الطيار