ﰡ
[سورة الروم]
فاتحة سورة الروم
لا يخفى على من تحقق بتجددات التجليات الإلهية وتبدلات شئونه وتطوراته لطفا وقهرا قبضا وبسطا جمالا وجلالا ان دوام العسر واليسر والنعمة والنقمة والجدب والرخاء والفرح والترح والغالبية والمغلوبية وكذا عموم الأوصاف المتضادة المتناقضة والأطوار المتخالفة الحاصلة من الإضافات والارتباطات الواقعة بين الشئون والتطورات الحادثة في الأكوان والأزمان بين اهل الزمان المحبوسين في مضيق الإمكان والحدثان انما هي بحسب التجليات الإلهية المقتضية لحدوثها كل ذلك وأمثاله مما لا يتصور امتداده ودوامه ابدا مستمرا بلا تبدل وتحول بل ما هي الا أعراض متبدلة متجددة على تعاقب الأمثال وتوارد الاضداد لا تبقى زمانين متطاولة بالنسبة الى قوم دون قوم بل يتداول ويتداور بينهم بمقتضى سنة الله وجرى عادته المستمرة كما هو المتعارف المشهور المشهود من جريان الزمان وتوارد الحدثان حسب تجدد الملوان لذلك رد الله سبحانه على مشركي مكة خذلهم الله فرحهم وسرورهم حين أخبروا بغلبة فارس الذين هم ليسوا من اهل الكتاب على الروم الذين هم نصارى من اهل الكتاب ومن غاية فرحهم وجهلهم قالوا للمؤمنين تفألا على سبيل التبجح نحن نظهر ونغلب عليكم كما قد ظهر إخواننا على إخوانكم فاغتم المؤمنون من هذه الواقعة الهائلة انزل الله سبحانه هذه السورة تسلية لهم وازالة لغمهم مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلم مخبرا إياه متيمنا باسمه الكريم بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بمقتضى جماله وجلاله حسب ارادته واختياره الرَّحْمنِ لعموم عباده بسعة رحمته وسبقتها على غضبه الرَّحِيمِ لخواصهم بدوام الرحمة عليهم والرضاء عنهم والبسط معهم بلا تخلل الغضب والقبض
[الآيات]
الم ايها الإنسان الأفضل الأكمل اللبيب اللائق الملازم المداوم لاستكشاف غوامض اسرار الوجود ورقائق دقائق آثار الكرم والجود الفائض من الخلاق الودود على خواص مظاهر الأكوان وزبدة الأعيان المحبوسين في مضيق الإمكان ليوصلهم الى فضاء الوجوب وصفاء الكشف والشهود مخلصين عن عموم الأوهام والخيالات المستتبعة لانواع القيود قد
غُلِبَتِ الرُّومُ وصاروا مغلوبين من عسكر الفرس
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وأقربها من ارض العرب وارض الروم وهي أذرعات الشام والأردن او فلسطين على اختلاف الروايات من اصحاب التواريخ وَلا تغتموا ايها المؤمنون من مغلوبية اهل الكتاب وضعفهم إذ هُمْ اى الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ ومغلوبيتهم من الفرس سَيَغْلِبُونَ ويصيرون غالبين عليهم آخذين انتقامهم عنهم على ابلغ وجه وأشده لا بعد زمان بعيد ومدة متطاولة بل
فِي بِضْعِ سِنِينَ والبضع عند العرب من الثلاث الى التسع. روى ان فارس قد عزوا الروم فتلاحقا باذرعات الشأم
بِنَصْرِ اللَّهِ وتأييده باهل الكتاب والملة وبتقوية دينه وكتابه النازل من عنده إليهم وبتغليبهم على اهل الهواء والآراء الباطلة وبالجملة فرحهم انما هو لتقوية الدين واهله لا لمجرد الغيرة والحمية الجاهلية والعصبية المفرطة كما هو ديدنة اهل الزيغ والضلال والا فالله سبحانه يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ من عباده بمقتضى مراده سواء كان من اهل الهداية او الضلالة او السعادة او الشقاوة لا يسأل عما يفعل وَكيف يسئل عن فعله سبحانه مع انه هُوَ الْعَزِيزُ المنيع ساحة عز حضوره عن ان يسأل عن كيفية أفعاله الغالب المقتدر بالقدرة الكاملة على عموم مراداته الرَّحِيمُ لعباده يتفضل عليهم حسب سعة رحمته إحسانا لهم وامتنانا عليهم وما ذلك النصر والتأييد الا
وَعْدَ اللَّهِ وعهده الذي قد وعده وعهده مع المؤمنين حين اشتد عليهم الحزن وهجم الهموم وقت مغلوبية الروم غيرة منهم على دين الله واهله ومن سنته سبحانه انه لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ الذي وعده سيما مع خلص عباده وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الغفلة والنسيان لا يَعْلَمُونَ وعده ولا يؤمنون ولا يصدقون بانجازه الوعد وعدم خلفه في الموعود بل ما
يَعْلَمُونَ وما يأملون الا ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعنى لا يترقى علمهم من المحسوسات الظاهرة مثل الحيوانات العجم بل هم أسوء حالا منها إذ هم مجبولون على التأمل والتدبر والتفطن بما هو المقصود منها ومن ظهورها والتفكر في حكمة إظهارها على هذا النمط البديع والنظم العجيب وفي كيفية ارتباطها بالأسماء الإلهية والأوصاف الذاتية وانعكاسها منها وهم مكلفون عليها قابلون لها بخلاف سائر الحيوانات وَبالجملة هُمْ عَنِ النشأة الْآخِرَةِ المعدة لكشف السدل والستائر ولرفع الحجب وعموم الاغطية والأستار المانعة عن ظهور الحق وانكشاف لقائه على جميع عباده بلا سترة وحجاب هُمْ غافِلُونَ غفلة مؤبدة تامة
أَيقنعون بهذه المزخرفات الفانية أولئك الضالون الغافلون ويرضون أنفسهم بلذاتها الوهمية وشهواتها البهيمية وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ولم يتدبروا في آلائه ونعمائه الفائضة على الترادف والتوالي في الآفاق على الصور العجيبة والهيآت الغريبة سيما فِي أَنْفُسِهِمْ التي هي اقرب الأشياء إليهم وابدعها نظما وتركيبا وأعجبها ظهورا وبروزا وأشملها تصرفا وأكملها علما ومعرفة وأعلاها شأنا وأوضحها برهانا لذلك ما وسع الحق الا فيها وما انعكس أوصافه وأسماؤه الا منها وقد استحقت اى بخصوصها من بين سائر مظاهره سبحانه بخلعة خلافته ونيابته أيطمئنون بهذه المزخرفات الزائلة الخسيسة ولم يعبروا منها الى مباديها التي هي الأوصاف الذاتية والأسماء الإلهية مع انهم هم مجبولون على الجواز والعبرة بحسب اصل الفطرة ولم يعلموا ولم يتفطنوا انه ما خَلَقَ واظهر اللَّهُ الحكيم المتقن في عموم أفعاله السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى عموم العلويات والسفليات وَما بَيْنَهُما من البرازخ المتكونة من امتزاجاتهما واختلاطاتهما أثرا وأجزاء إِلَّا خلقا وإظهارا ملتبسا بِالْحَقِّ منتهيا اليه اعادة وإبداء لكنه قد قدر بقاءه وظهوره بوقت معين وَأَجَلٍ مُسَمًّى عنده وحين انقضائه قد انتهى اليه ورجع نحوه عموم ما ظهر من الموجود وانتفى وفنى جميع ما قد لمع عليه برق الوجود وحينئذ لم يبق في فضاء الوجود سوى الله الواحد القهار لعموم الاظلال والأغيار وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ المجبولين على النسيان والكفران بِلِقاءِ رَبِّهِمْ في النشأة الاخرى لَكافِرُونَ منكرون جاحدون عتوا واستكبارا مغرورين بما عندهم من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية
أَوَلَمْ يَسِيرُوا أولئك المسرفون المفرطون فِي اقطار الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا بنظر العبرة والاستبصار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المسرفين الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد وثمود مع انهما قد كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً لدلالة آثارهم واطلالهم على غاية تمكنهم واقتدارهم وَمن دلائل قوتهم وتمكنهم انهم قد أَثارُوا الْأَرْضَ وقلبوها للمعادن وإخراج العيون والقنوات واجراء الأنهار واحداث الحرث والزراعات وغير ذلك وَبالجملة قد عَمَرُوها أولئك فيما مضى أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها هؤلاء اليوم فدل زيادة عمارتهم على ازدياد قوتهم وتمكنهم وبعد ما أفسدوا على أنفسهم بأنواع الفسادات مباهين بمالهم وجاههم قد قلبنا عليهم أمرهم وشأنهم حيث أرسلنا إليهم رسلا مؤيدين من لدنا بأنواع المعجزات والبينات وَلما جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ القاطعة والبراهين الساطعة فاجؤا أولئك الضالون المسرفون على تكذيبهم وانكارهم بلا تأمل وتدبر فيما جاءوا به فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر فاستأصلناهم وقلبنا عليهم أماكنهم وخربنا بلادهم ومزارعهم فَما كانَ اللَّهُ العزيز المقتدر الحكيم المتقن لِيَظْلِمَهُمْ ويفعل بهم فعل الظلمة بان يأخذهم بلا جرم صدر عنهم موجب لانتقامهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى يظلمون أنفسهم بعتوهم واستكبارهم على ضعفاء عباد الله وتكذيب خلص أنبيائه ورسله وأوليائه وخروجهم عن مقتضى حدوده الموضوعة على محض العدالة
ثُمَّ بعد ما قد تمادوا في الغفلة والعصيان وتكذيب الرسل والطغيان على خلص العباد وانواع الإساءة والأذى عليهم قد كانَ عاقِبَةَ القوم الَّذِينَ
مع الله ورسله والمؤمنين السُّواى والعذاب المخلد والنكال المؤبد المترتب على إساءتهم في النشأة الاخرى جزاء ما كانوا عليه في الاولى كل ذلك بسبب أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وأنكروا عليها واستخفوا بها وبمن أنزلت اليه وَكانُوا من غاية عتوهم واستكبارهم بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ويستسخرون وينسبون إليها ما لا يليق بشأنها افتراء ومراء وكيف يستهزؤن أولئك المسرفون المفرطون مع الله ورسلهم وآياته النازلة من عنده إذ
اللَّهُ المستقل بالتصرف في ملكه وملكوته يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ويبدع المخلوقات أولا من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة ويظهرها في فضاء الوجود على الوجه المشهود ثم يميته ويعدمه ثُمَّ يُعِيدُهُ حيا كذلك في النشأة الآخرة بعد انقراض النشأة الاولى للعرض والجزاء ثُمَّ بعد العرض وتنقيد الأعمال إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ رجوع الأمواج الى البحر والاظلال الى الأضواء
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ المعدة للعرض والجزاء يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ويسكتون حيارى سكارى تائهين هائمين مأيوسين عن الخلاص
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حينئذ مِنْ شُرَكائِهِمْ ومعبوداتهم شُفَعاءُ يجتهدون لخلاصهم وإنقاذهم من عذاب الله بمقتضى ما هو زعمهم إياهم بل وَهم حينئذ قد كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ ينكرونهم ويكفرون بهم حيث يئسوا عنهم وقنطوا عن شفاعتهم
وَاذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ التي يحشر فيها الأموات ويعرضون على الله بما اقترفوا في دار الابتلاء من الحسنات والسيئات يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ويتحزبون حزبا حزبا فرقا فرقا فوجا فوجا كل مع شاكلته في الايمان والكفر والضلال والفساد
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وكتبه ورسله في دار الاختبار وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المؤيدة المؤكدة لإيمانهم فيها فَهُمْ حينئذ من كمال فرحهم وسرورهم متمكنون فِي رَوْضَةٍ ذات ازهار وأنوار وانهار يُحْبَرُونَ يتنزهون ويسرون مسرورين متنعمين
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وأنكروا بتوحيدنا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة من لدنا على رسلنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ اى أنكروا بلقائنا في النشأة الاخرى مع انا قد وعدناهم على ألسنة رسلنا إياهم فَأُولئِكَ الأشقياء المردودون عن ساحة عز الحضور فِي الْعَذابِ المؤبد المخلد مُحْضَرُونَ لا نجاة لهم منه أعاذنا الله من ذلك. ثم أشار سبحانه الى اسباب النجاة والخلاص عن الوعيدات الاخروية والى نيل لذاتها ومتنزهاتها الروحانية فقال
فَسُبْحانَ اللَّهِ اى سبحوا الله الواحد الأحد الصمد المنزه المقدس عن شوائب النقص وسمات الكثرة والحدوث مطلقا ايها الأحرار المتوجهون نحوه في السرائر والإعلان سيما حِينَ تُمْسُونَ وتدخلون في المساء الذي هو أول وقت الفراغ عن الشواغل الجسمانية وفتح باب الخلوة مع الله والعزلة عن اسباب الكثرة مطلقا وَكذا حِينَ تُصْبِحُونَ وتدخلون في الصباح الذي هو نهاية مرتبة خلوتكم مع ربكم فاغتنموا الفرصة فيه وتعرضوا للنسمات المهبة بأنواع النفحات من قبل الرحمن ويمن عالم اللاهوت وبعد ما تزودتم بأنواع الفتوحات الروحانية في تلك الساعة الشريفة التي هي البرزخ بين اللذائذ الروحانية والجسمانية فاشتغلوا بالاشغال الجسمانية المتعلقة لتدبير المعاش النفساني
وَلكم ايها المتوجهون نحو الحق ان تحمدوه وتشكروا نعمه وتداوموا على أداء حقوق كرمه في خلال أيامكم ولياليكم مطلقا سيما طرفي النهار إذ لَهُ الْحَمْدُ والثناء الصادر عن ألسنة عموم ما فِي السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ من المظاهر التي قد لمع عليها برق الوجود وانبسطت على صفحاتها اظلال شمس الذات واضواؤها وَلا سيما عَشِيًّا إذ هو وقت مصون عن الكثرة غالبا وَكذا حِينَ تُظْهِرُونَ وتدخلون وقت
يُخْرِجُ ويظهر لكمال قدرته الْحَيَّ اى ذا الحس والحركة الارادية الذي هو انواع الحيوانات مِنَ الْمَيِّتِ الذي هو النطفة الجامدة وَكذا يُخْرِجُ ويظهر بمقتضى قهره وجلاله الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ يعنى يعقب الموت بالحياة والحياة بالموت وَمن كمال قدرته يُحْيِ الْأَرْضَ بأنواع النضارة والبهاء بَعْدَ مَوْتِها اى يبسها وجمودها وَكَذلِكَ اى مثل اعادة الحياة والنضارة للأرض وقت الربيع تُخْرَجُونَ أنتم من قبوركم ايها المنكرون للبعث والحشر واعادة المعدوم
وَمِنْ آياتِهِ الدالة على كمال قدرته على الإعادة والإبداء على السواء أَنْ اى انه قد خَلَقَكُمْ وقدر جسمكم وصوركم أولا مِنْ تُرابٍ يابس ثم بدلكم أطوارا وادوارا لتكميلكم وتشريفكم امدادا وادوارا الى ان صوركم في احسن صورة وعدلكم في أقوم تعديل ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ اى بعد ما قد كمل صورتكم وتم تمثالكم وشكلكم واستوى بشريتكم ففاجأتم تَنْتَشِرُونَ في الأرض على سبيل التناسل والتوالد وبالجملة من قدر على ابدائكم على الوجه المذكور وابداعكم قدر على حشركم واعادتكم بل هي أسهل من الإبداء
وَايضا مِنْ آياتِهِ الدالة على كمال قدرته أَنْ خَلَقَ وقدر لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ اى من جنسكم وبنى نوعكم أَزْواجاً نساء حتى توانسوا بهن وتستأنسوا معهن بل انما قدر لكم أزواجا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وتتوطنوا معها وتتألفوا بها توطنا خاصا وتألفا تاما بحيث يفضى الى التوالد والتناسل وَلهذه الحكمة البديعة قد جَعَلَ بَيْنَكُمْ وبينهن مَوَدَّةً ومحبة خاصة خالصة منبعثة عن محض الحكمة الإلهية بحيث لا تكتنه لميتها وكيفيتها أصلا وَمن كمال قدرته ومتانة حكمته جعل من امتزاج النطف النازلة منكم ومنهن الناشئة من المودة المذكورة والمحبة المقررة بينكم رَحْمَةً ولدا مثلكم محييا لكم اسمكم ورسمكم إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق والإيجاد والتكميل والتمكين والتقدير والانبعاث والانزعاج وانواع التدبيرات الواقعة فيها والحكم العجيبة المحيرة لعقول ارباب الفطنة والذكاء لَآياتٍ عظاما ودلائل جساما لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويتأملون في آثار صنائع الحكيم القدير العليم الخبير
وَايضا مِنْ آياتِهِ العجيبة الشأن والبديعة البرهان خَلْقُ السَّماواتِ وإيجاد العلويات متطابقة متوافقة مع ما فيها من الكواكب المتفاوتة في الإضاءة والإشراق على أبدع نظام وابلغ التيام وانتظام بحيث لا يكتنه عند ذوى العقول واولى الافهام المجبولين على الاستعلام والاستفهام بل لا حظ لهم منها سوى الحيرة والعبرة وانواع الوله والهيمان وَخلق الْأَرْضِ ممهدة منبسطة مشتملة على جبال راسيات وبحار واسعات وانهار جاريات وأشجار مثمرات ومعادن وحيوانات واصناف من نوع الإنسان المجبول على صورة الرحمن الجامع لانواع التبيان والبيان واصناف الدلائل والبرهان ليصير مرأة مجلوة يتراءى فيها صور الأسماء والصفات الإلهية وتنعكس عنها شئونه وتطوراته وَايضا من آياته العظيمة اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وتكلمكم ولغاتكم ايها المجبولون على فطرة النيابة والخلافة الإلهية وَكذا اختلاف أَلْوانِكُمْ من السواد والبياض وانواع التخليطات والتشكيلات والهيآت الصورية والمعنوية التي قد اشتملت عليها هياكلكم وهوياتكم كل ذلك انما هو من آثار الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية التي قد امتدت وانبسطت على ماهيتكم وتعيناتكم اظلالها وآثارها وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الانطباق والالتصاق وانواع الائتلاف والانتظام الواقعة في الأنفس على اغرب الوجوه
وَمِنْ آياتِهِ العظام ايضا مَنامُكُمْ واستراحتكم تقويما لا مزجتكم وتقوية لقواكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وقت عروض الفتور والعناء وَابْتِغاؤُكُمْ وطلبكم المعاش فيهما مِنْ فَضْلِهِ وسعة رحمته وجوده او على طريق اللف والنشر بان قدر لمنامكم زمان الليل وابتغائكم النهار إِنَّ فِي ذلِكَ التقدير والتدبير المبنى على كمال العطف واللطف لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ دلائل توحيده سبحانه سمع قبول ورضاء ويتأملون في حكمة الحكيم المدبر لمصالح عباده وما هو الأصلح لهم
وَمِنْ جملة آياتِهِ ايضا انه سبحانه يُرِيكُمُ الْبَرْقَ المنبئ عن هجوم البلاء ونزول المطر ايضا انما أراكم سبحانه هكذا خَوْفاً من خشية الله وحلول غضبه وعذابه وَطَمَعاً لنزول فضله ورحمته وانما فعل سبحانه معكم كذلك لتكونوا دائما وفي كل حين من الأحيان وحال من الأحوال خائفين من سخطه وبطشه راجين من فضله وجوده وَيُنَزِّلُ مِنَ جانب السَّماءِ ماءً بعد ما أراكم البرق المخيف المطمع فَيُحْيِي بِهِ اى بالماء النازل الْأَرْضَ اليابسة بَعْدَ مَوْتِها جمودها ويبسها إِنَّ فِي ذلِكَ الاراءة والإخافة والأطماع والإنزال والأحياء لَآياتٍ ودلائل قاطعة دالة على حكمة القادر المختار المستقل بالتصرف والآثار لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويستعملون عقولهم في التفكر والتدبر في المصنوعات العجيبة والمخترعات البديعة الصادرة من الفاعل المطلق بالإرادة والاختيار
وَمِنْ آياتِهِ المحكمة ايضا أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ يعنى من جملة آياته الظاهرة الباهرة قيام السماء والأرض بلا عمد وأوتاد وأسانيد وقرارهما ومدارهما في مكان معين بلا تبدل وتحول وانما هو بِأَمْرِهِ وحكمه وعلى مقتضى ارادته ومشيته بحيث لا يسع لهما الخروج عن امره وحكمه أصلا ثُمَّ بعد ما تأملتم نفاذ حكمه سبحانه ومضى قضائه في معظم المخلوقات فلكم ان تتيقنوا إِذا دَعاكُمْ وقت ارادة اعادتكم واحيائكم دَعْوَةً متضمنة لاخراجكم مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ يعنى بعد ما أسمعكم سبحانه بكمال قدرته مضمون دعوته إليكم قد فاجأتم أنتم الى الخروج منها احياء بلا تراخ ومهلة تتميما لسرعة نفوذ قضائه
وَكيف لا تسمعون ولا تخرجون منها احياء بعد ما تعلق ارادته سبحانه باخراجكم واعادتكم إذ لَهُ سبحانه ملكا وتصرفا ابداعا وإنشاء عموم مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة المغمورين في آلاء الله ونعمائه المستغرقين بمطالعة وجهه الكريم وَكذا عموم من في الْأَرْضِ من ارباب المحبة والولاء الوالهين التائهين في بيداء الألوهية الفانين الحائرين في فضاء الربوبية الهائمين في صحراء الوجود لذلك كُلٌّ ممن أشرقت عليه شمس الذات ولاح عنده نور الوجود ولمع دونه بروق التجليات الحبية اللطفية لَهُ قانِتُونَ منقادون مطيعون طوعا وطبعا
وَكيف لا ينقادون ولا يطيعون لحكمه أولئك المسخرون المقهورون تحت صولجان قضائه وقدره مثل الكرات مع انه هُوَ القادر المقتدر الَّذِي يَبْدَؤُا ويظهر الْخَلْقَ من كتم العدم في فضاء الوجود بمقتضى اللطف والجود ثم يعدمه ويميته بمقتضى قهره وجلاله ايضا فيه في النشأة الاولى ثُمَّ يُعِيدُهُ ايضا على ما ينشئه في النشأة الاخرى إظهارا لكمال قدرته ومقتضى حكمته كي يظهر مصالح الإبداء والإبراز في النشأة الاولى ويلوح فوائد ما يترتب عليها في النشأة الاخرى يوم العرض والجزاء وَاهل
ضَرَبَ لَكُمْ سبحانه تبيينا وتنبيها مَثَلًا متخذا منتزعا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ايها المشركون المتخذون لله شركاء من مصنوعاته وعبيده إذ هي اقرب الأشياء إليكم وأوضحها عندكم هَلْ لَكُمْ ايها الأحرار المتصرفون بالاستقلال في منسوباتكم متصرف آخر سواكم سيما مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وحصلت من اكسابكم من العبيد والإماء الذين من جملة منسوباتكم وهل يصح ويجوز لمملوكاتكم ان يكونوا ويعدوا مِنْ شُرَكاءَ معكم يتصرفون أمثالكم فِي ما رَزَقْناكُمْ اى في أموالكم المنسوبة إليكم مثل تصرفكم بلا اذن منكم وبالجملة فَأَنْتُمْ ايها المالكون وكذا ما ملكت ايمانكم فِيهِ اى في التصرف والاحتياج الى الأموال سَواءٌ إذ هم أمثالكم فباىّ شيء تحتاجون اليه أنتم هم ايضا محتاجون اليه بلا تفاوت لكن أنتم تَخافُونَهُمْ وتحذرون منهم ان يتصرفوا في أموالكم واكسابكم بلا اذن منكم كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ اى كخوفكم من سائر الأحرار من بنى نوعكم يعنى تخافون أنتم على تضييع أموالكم منهم مثل خوفكم من احرار بنى نوعكم بل أشد من ذلك وبالجملة أنتم تخافون منهم ان تساووا معكم في التصرف في أموالكم فلذلك منعتموهم ولم ترضوا بتصرفهم وشركتهم معكم في حطام الدنيا فكيف ترضون أنتم لنا شركة عبيدنا ومخلوقاتنا بل أدونهم وأرذلهم سيما في أخص اوصافنا الذي هو الوهيتنا وربوبيتنا والتصرف في ملكنا وملكوتنا ايها الغافلون المسرفون المفرطون في علو شأننا والجاهلون بقدرتنا وقدر مكانتنا وبالجملة كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ اى دلائل توحيدنا وبراهين وحدتنا وتفردنا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويستعملون عقولهم في تأمل الآيات والتدبر فيها على وجه العبرة والاستبصار فاعتبروا يا اولى الأبصار
بَلِ اتَّبَعَ الجاهلون الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالخروج عن مقتضيات الآيات الواضحة والبراهين اللائحة أَهْواءَهُمْ الباطلة وآراءهم الزائغة الزائلة مع ان اتباعهم بها بِغَيْرِ عِلْمٍ فائض عليهم من المبدأ الفياض بل عن جهل مركوز
فَأَقِمْ وَجْهَكَ فاستقم واعتدل بوجه قلبك الذي فاض عليك من ربك تتميما لتكميلك وتخليصك عن قيود بشريتك وأغلال طبيعتك لتصل به الى مقرك من التوحيد الذاتي الذي قد جبات لأجله لِلدِّينِ النازل لك من عند ربك تأديبا لك يا أكمل الرسل وتديينا لمن تبعك وإصلاحا لشأنك وشأن متابعيك حَنِيفاً اى حال كونك منصرفا مائلا من عموم الأديان الباطلة والآراء الفاسدة مطلقا واعلم يا أكمل الرسل ان فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها وصبغتهم التي قد صبغهم بها اصلية جبلية لا تزول عنهم أصلا إذ لا تَبْدِيلَ ولا تغيير ولا تحويل لِخَلْقِ اللَّهِ الحكيم العليم وتقديره الذي قد قدره بمقتضى علمه وحكمته كما قال عز شأنه ما يبدل القول اى الحكم لدىّ ذلِكَ الدِّينُ المنزل عليك من ربك يا أكمل الرسل لوقاية الفطرية الاصلية المذكورة ورعاية لوازمها المساوية لها من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المرضية هو الدين الْقَيِّمُ والطريق الأعدل الأقوم الموصل الى توحيده سبحانه على الاستقامة بلا عوج وانحراف وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الغفلة والنسيان لا يَعْلَمُونَ حقيته ولا يفهمون استقامته فكيف إيصاله الى التوحيد فعليكم ايها المحمديون ان تتدينوا بدين الإسلام وتطيعوا بجميع ما فيه من أوامر الله ونواهيه
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين نحوه بالإخلاص التام وَاتَّقُوهُ واحذروا عن محارمه خائفين من انتقامه بالخروج عن مقتضيات حدوده ومع ذلك لا تقنطوا من وسعة رحمته وجوده وَبالجملة أَقِيمُوا الصَّلاةَ واديموا الميل نحوه في عموم أوقاتكم وحالاتكم سيما في الأوقات المكتوبة والساعات المحفوظة وَلا تَكُونُوا ايها المنيبون المتوجهون نحو الحق المتدينون بدين الإسلام مِنَ الْمُشْرِكِينَ المشركين له سبحانه غيره في حال من الأحوال ولا تنسبوا الحوادث الكائنة في ملكه وملكوته الى غيره من الاظلال والأسباب الهالكة المستهلكة في شمس ذاته مع كمال توحده واستقلاله في الوجود والتصرفات الواقعة في مظاهره مطلقا وبالجملة لا تكونوا ايها المحمديون المتدينون بالدين النازل من عند الله لحفظ فطرتكم الاصلية التي هي التوحيد الذاتي
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ الوحدانى الذي هو وقاية توحيدهم فرقا مختلفة وابتدعوا فيه مذاهب متفاوتة متخالفة فتشعبوا شعبا كثيرة وَكانُوا شِيَعاً يعنى هم بسبب هذا الاختلاف والافتراق قد صاروا شيعا وأحزابا كثيرة يشايع ويروج كُلُّ حِزْبٍ وشيعة منهم بِما لَدَيْهِمْ وبما هو عندهم من المذهب المستبدع المستحدث من تلقاء نفوسهم فَرِحُونَ مسرورون مدعون كل منهم حقية ما هم عليه من الباطل الزائع الزائل حمية وغيرة عليه بلا سند عقلي وشرعي. ثم أشار سبحانه الى ما حداهم وأغراهم على هذا الزيغ والضلال من الخصلة الذميمة المركوزة في جبلتهم فقال
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ المجبولين على الكفران والنسيان ضُرٌّ اى شدة وبلاء ومصيبة وعناء يزعجهم الى الدعوة والتوجه نحو الحق لكشفه وتفريجه دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ مائلين عن الأسباب العادية مطلقا مسترجعين نحوه عن محض الندم والإخلاص ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ اى
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وأعطيناهم من النعم العظام والفواضل الجسام ولم يشكروا لها وما ذلك الا من خبث طينتهم وتركب جهلهم المركوز في جبلتهم قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا فَتَمَتَّعُوا ايها الكافرون لنعمنا وفواضل لطفنا وكرمنا وتعيشوا بها بطرين مسرورين هكذا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة تمتعكم وكفرانكم وما يترتب عليهما من انواع العذاب والنكال إذ سيأتى عليهم زمان يعترف كل منهم جميع ما جرى عليه من الكفران والعصيان وقت رؤيتهم احوال الكافرين واهوالهم في النار
أَمْ أَنْزَلْنا يعنى بل قد أنزلنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً ملكا ذا سلطنة وسطوة فَهُوَ يَتَكَلَّمُ معهم ويذكرهم بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ اى بجميع ما صدر عنهم من الشرك والكفران وانواع الفسوق والعصيان بلا فوت شيء منها فنجازيهم حينئذ بمقتضى ما اعترفوا
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً وأعطيناهم نعمة وسعة في الرزق وصحة في الجسم على الترادف والتوالي فَرِحُوا بِها وافرطوا في السرور الى ان بطروا وباهوا مفتخرين بما عندهم من الأسباب وَإِنْ تُصِبْهُمْ أحيانا سَيِّئَةٌ مثل جدب وعناء ومصيبة وبلاء تسؤهم مع انه انما أصابهم ما أصابهم بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وبشؤم ما اقترفوا من المفاسد والمعاصي الموجبة للبطش والانتقام فانتقمناهم لذلك إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ يعنى فاجؤا حين البأس على اليأس والقنوط منا بحيث لا يتوجهون إلينا لكشفها وتفريجها بل لا يعتقدون قدرتنا على كشفها ورفعها مع انهم قد جربوا كشفنا عنهم مرارا وتفريجنا إياهم تكرارا
أَينكرون قدرتنا أولئك المنكرون المفرطون وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على انواع اللطف والكرم كيف يَبْسُطُ ويفيض الرِّزْقَ الصوري والمعنوي لِمَنْ يَشاءُ بسطه إياه وَكيف يَقْدِرُ ويقبض عمن يشاء قبضه عنه حسب حكمته المتقنة إِنَّ فِي ذلِكَ القبض والبسط لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بتوحيد الحق وبكمالات أسمائه وأوصافه الذاتية الكاملة الجارية آثارها على مقتضى الحكمة والعدالة الإلهية المعبر عنها بالصراط القويم والقسطاس المستقيم وبعد ما قد أشار سبحانه الى بسط الرزق على من يشاء وقبضه عمن يشاء ارادة واختيارا أراد ان يشير الى مصارفه فقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو جدير بأمثال هذه الخطابات العلية الإلهية
فَآتِ وأعط يا أكمل الرسل من فواضل ما رزق لك من النعم ذَا الْقُرْبى المنتمين إليك من قبل أبويك حَقَّهُ اى ما يليق به وبحفظه ورعاية غبطته فهم اولى وأحق بالرعاية من غيرهم وَبعد أولئك فالاولى بالرعاية الْمِسْكِينَ وهو الذي قد اسكنه الفقر في هاوية الهوان وزاوية الحرمان وَبعده ابْنَ السَّبِيلِ وهم الذين فارقوا عن الأموال والأوطان والأقران والخلان والاخوان بأسباب قد أباحها الشرع لهم ذلِكَ الصرف المذكور والانفاق المأمور خَيْرٌ في الدنيا والآخرة لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ بأموالهم وصرفها وَجْهَ اللَّهِ وابتغاء مرضاته وخوضا في مواظبة
وَما آتَيْتُمْ وأعطيتم مما عندكم مِنْ رِباً اى زيادة حاصلة من أموالكم بطريق الربا انما أعطيتم وآتيتم ايضا لِيَرْبُوَا ويزيد فِي أَمْوالِ النَّاسِ مكافاة لهم أو نية فاسدة اخرى بلا امتثال امر الله وطلب مرضاته فَلا يَرْبُوا يعنى فاعلموا انه لا يزيد لكم صرفكم هذا عِنْدَ اللَّهِ شيأ من الثواب بل لا يقبل صرفكم هذا عنده سبحانه أصلا لفساد اغراضكم ونياتكم فيها وَاما ما آتَيْتُمْ وأعطيتم للفقراء الفاقدين وجه المعاش مِنْ زَكاةٍ قد فرضها سبحانه عليكم امتثالا لأمره واطاعة لدينه على الوجه الذي أمرتم به مع انكم تُرِيدُونَ وتقصدون بإخراجها وصرفها وَجْهَ اللَّهِ ومحض رضاه بلا خلط شيء من أماني اهويتكم وتسويلات امارتكم معها فَأُولئِكَ الفاعلون للزكاة على الوجه المذكور المأمور هُمُ الْمُضْعِفُونَ عند الله ثوابها الى سبعين بل الى سبع مائة بل الى ما شاء الله عناية من الله وإفضالا لهم وكيف لا تطلبون ولا تقصدون بخيراتكم وصدقاتكم خالص وجه الله وتشركون معه غيره من التماثل والاظلال الهالكة الباطلة العاطلة إذ
اللَّهُ المتوحد المتفرد في ذاته القادر المقتدر الحكيم العليم الَّذِي خَلَقَكُمْ وأظهركم أولا من كتم العدم ولم تكونوا شيأ مذكور الا بالقوة ولا بالفعل ثُمَّ بعد ما أظهركم في بيداء الوجود رَزَقَكُمْ وأنعم عليكم من انواع النعم ليربيكم بها على مقتضى اللطف والكرم ثُمَّ بعد ما انقضى الأجل المسمى عنده لبقائكم في النشأة الاولى يُمِيتُكُمْ بمقتضى قهره وجلاله تتميما لقدرته الكاملة الغالبة ثُمَّ بعد ما انقرض النشأة الاولى المعدة لانواع الابتلاءات والاختبارات الإلهية المتعلقة لحكمة اظهاركم وايجادكم في عالم الكون والفساد لتتزودوا فيها من المعارف والحقائق والاتصاف بالأخلاق الإلهية لنشأتكم الاخرى يُحْيِيكُمْ فيها للعرض والجزاء وتنقيد ما اقترفتم من الأعمال والأحوال في النشأة الاولى لتجازوا بها على مقتضاها فيها وبعد ما سمعتم ما سمعتم تأملوا وتدبروا منصفين ايها المشركون بالله المتوحد المتفرد المستقل في التصرفات الواقعة في ملكه غيرة منه وحمية لحمى قدس ذاته من ان يحوم حول سرادقات عزه وجلاله شائبة فتور وقصور وإذا سمعتم نبذا من خواص أوصافه سبحانه تأملوا هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ الذين قد ادعيتم أنتم شركتهم مع الله القادر على أمثاله بالاستقلال والاختيار مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ الذي قد سمعتم صدوره منه سبحانه بل قد رأيتم وابصرتم طول عمركم في الآفاق وفي انفسكم مِنْ شَيْءٍ حقير قليل كلا وحاشا ان يصدر شيء من الأشياء من غيره سُبْحانَهُ بل هو في ذاته منزه عن شوب الشركة والمظاهرة مطلقا وَتَعالى شأنه عَمَّا يُشْرِكُونَ أولئك المشركون المسرفون علوا كبيرا ومن غاية جهلهم بالله وغفلتهم من علو قدره وسمو مكانته قد
ظَهَرَ الْفَسادُ وانواع البليات والمصيبات الواقعة فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ من الجدب والعناء والزلزلة والوباء والحرق والغرق وانواع الضلالات الواقعة في السفن الجارية مع ان اصل الظهور والبروز باعتبار الفطرة الاصلية على العدالة والاستقامة وما ظهر عموم ما ظهر من الانحرافات والانصرافات المنافية لصرافة الاعتدال الحقيقي الإلهي الا بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ وبشؤم ما اقترفوا من الكفر والكفران والفسوق والعصيان والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة
قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا سِيرُوا فِي الْأَرْضِ المعدة لانواع الكون والفساد فَانْظُرُوا نظر معتبر منصف ومتأمل مستبصر ليظهر عندكم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلُ مع انهم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ أمثالكم مشاركين معكم في الشرك والكفر وانواع الفسوق والعصيان وبعد ما قد أشار سبحانه الى وخامة عاقبة اصحاب الآراء الفاسدة والأهواء الباطلة من المنحرفين عن جادة الاستقامة المنصرفين عن سبيل السلامة امر حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالإقامة والاستقامة في منهج العدالة التي هي دين الإسلام الناسخ لعموم الأديان الباطلة والآراء الزاهقة الزائلة فقال
فَأَقِمْ وَجْهَكَ فاستقم وتوجه واعتدل يا أكمل الرسل بوجه قلبك الذي هو يلي الحق لِلدِّينِ الْقَيِّمِ المنزل من عنده سبحانه على الاستقامة والعدالة تفضلا عليك وامتنانا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ ويحل عليك يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ اى لا يرد فيه ما نفذ من القضاء المبرم إذ إتيانه انما هو مِنَ اللَّهِ العليم الحكيم على هذا الوجه إذ لا استكمال ولا رجوع حينئذ ايضا ولا ينفع الطاعة والعبادة حين حلوله بل يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ اى يتفرق الناس فرقا ويتحزبون أحزابا بمقتضى ما كانوا عليه في نشأة الاختبار والابتلاء
مَنْ كَفَرَ فيما مضى فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ اى وبال كفره وفسقه ملازم معه يدخله في النار ويخلده مهانا وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فيما مضى فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ يعنى فهم بايمانهم وعملهم الصالح يمهدون ويبسطون لأنفسهم منزلا ومهادا في الجنة هم فيها خالدون والسر في قيام الساعة وتعاقب النشأة الاخرى
لِيَجْزِيَ سبحانه المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا به سبحانه وأيقنوا بوحدة ذاته وبجميع ما جاء من عنده سبحانه على رسله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقبولة عنده امتثالا لما أمروا به على ألسنة رسله مِنْ فَضْلِهِ اى يجزيهم من محض فضله ولطفه معهم ومحبته إياهم بأضعاف ما استحقوا بأعمالهم وايمانهم ويجزى الكافرين ايضا بمقتضى عدله بمثل ما اقترفوا من الكفر والشرك والظلم والضلال إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والضلال سيما بعد إرساله سبحانه إليهم من يصلحهم ويهديهم الى صراط مستقيم فكذبوه وأنكروا له عنادا واستكبارا
وَمِنْ جملة آياتِهِ سبحانه الدالة على كمال رأفته ورحمته للمؤمنين المتحققين بمرتبة التوحيد المتمكنين بمقر الوحدة الذاتية أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ المشتملة لانواع الروح والراحة المهبة من نفحات النفسات الرحمانية لتعرضوا لها وتستنشقوا منها فيضان آثار اللطف والجمال مع كونها مُبَشِّراتٍ لمزيد فضله وطوله ونزول انواع رحمته وجوده وَلِيُذِيقَكُمْ ويفيض عليكم مِنْ سعة رَحْمَتِهِ ما ينجيكم ويخلصكم من لواز بشريتكم وناسوتكم وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ اى سفن تعيناتكم الجارية في بحر الوجود بِأَمْرِهِ وعلى مقتضى ارادته ومشيته وَلِتَبْتَغُوا وتطلبوا بعد ما فوضتم أموركم كلها اليه واتخذتموه وكيلا مِنْ موائد فَضْلِهِ وإحسانه وعوائد كرمه وجوده ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَانما فعل معكم سبحانه هذه الكرامات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تشكروا نعمه وتفوزوا بمزيد كرمه
الله قَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
يا أكمل الرسل سُلًا
مبشرين ومنذرين لى قَوْمِهِمْ
الذين قد ظهرت عليهم امارات الكفر والطغيان وعلامات الظلم والعدوان جاؤُهُمْ
مؤيدين من عندناالْبَيِّناتِ
الواضحة والمعجزات اللائحة ففاجأوا على تكذيبهم عنادا واستكبارا بلا تأمل وتدبر منهم في آياتهم وبيناتهم انْتَقَمْنا
بمقتضى قهرنا وجلالنانَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
بالجرائم العظام سيما تكذيب الرسل الكرام عليهم التحية والسلام
كيف لا ننتقم عنهم بتكذيبهم رسلنا مع انه قدانَ حَقًّا عَلَيْنا
حسب لطفنا حتما لازما ثبت في لوح قضائنا وحضرة علمناصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
اى نصر الرسل والمؤمنين بهم وتغليبهم على الكافرين بعد ما امتثلوا باوامرنا واجتنبوا عن نواهينا وبلغوا جميع ما امرناهم واوحيناهم الى من أرسلناهم فكذبوهم ولم يقبلوا منهم أولئك البعداء المنكرون المسرفون وحى الحق إياهم والهامه عليهم مع انه
اللَّهُ الجامع لجميع مراتب الأسماء والصفات الكاملة الظاهرة المتجلى على مقتضاها بالاستقلال ارادة واختيارا هو القادر المقدر الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ المنتشئة من محض فضله وجوده بلا سبق سبب يوجبها وعلة تقتضيها على ما جرى عليه عادته سبحانه في سائر الموجودات فَتُثِيرُ وتحرك أجزاء البخار والدخان وتمزج بعضها مع بعض فتركمها وتكشفها حتى صارت سَحاباً هامرا فَيَبْسُطُهُ سبحانه فِي جو السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ عرضا وطولا سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق الى غير ذلك من الأوضاع الممكنة الورود عليه وَبعد ما مهده سبحانه وبسطه يَجْعَلُهُ كِسَفاً وقطعا مختلفة فَتَرَى ايها المعتبر الرائي الْوَدْقَ والمطر يَخْرُجُ ويفيض مِنْ خِلالِهِ فتوقه ومنافذه بعد ما قد تكون فيه بقدرة الله من اجتماع أجزاء الابخرة والادخنة المتصاعدة الممتزجة المتراكمة المتكاثفة المتفاعلة بعضها مع بعض الى ان صارت ماء فتقطر وتسيل فَإِذا أَصابَ بِهِ اى بالماء مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ اى أراضيهم ومزارعهم منا منه سبحانه إياهم وتفضلا عليهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يعنى هم قد فاجؤا بنزوله الى انواع البشارة والابتهاج واظهار الفرح والسرور متفألين بنزوله الى الخصب والرخاء وانواع البهجة والصفاء
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل ثوران الابخرة والادخنة وانعقاد السحب وتراكمها منها لَمُبْلِسِينَ آيسين قانطين لطول عهد عدم نزوله إياهم وامتداد مدة حبسه عنهم
فَانْظُرْ ايها المؤمن المعتبر الناظر بنور الله إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ والى كمال فضله وجوده كَيْفَ يُحْيِ ويخضر الْأَرْضَ سيما بَعْدَ مَوْتِها اى جمودها ويبسها وعدم نضارتها ونزاهتها ويظهر عليها انواع الازهار والأثمار عناية منه سبحانه لعباده وفضلا لهم ليتزودوا بها ويسلكوا سبيل هدايته وتوحيده إِنَّ ذلِكَ القادر المقتدر بالإرادة التامة والاختيار الكامل لَمُحْيِ الْمَوْتى في الحشر والجزاء ومخرجها البتة من قبورهم وقت تعلق ارادته باحيائهم وَكيف لا هُوَ بذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة حضرة علمه وارادته قَدِيرٌ على الوجه الأتم الأكمل بلا فتور ولا قصور
وَمن عدم رسوخهم في الدين القويم وقلة تثبتهم على الصراط المستقيم لَئِنْ أَرْسَلْنا عليهم رِيحاً فَرَأَوْهُ اى ما هبت عليه من الزروع مُصْفَرًّا من أثرها بعد ما كان مخضرا يعنى لا تربى زروعهم ولا تنميها بل تضعفها وترديها
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى اى ليس في وسعك وطاعتك إسماع الموتى بل ما عليك الا الدعوة والتبليغ وَلا تُسْمِعُ ايضا الصُّمَّ الجبلي الدُّعاءَ والدعوة سيما إِذا وَلَّوْا وانصرفوا عنه مُدْبِرِينَ معرضين منكرين لك مكذبين رسالتك ودعوتك
وَكيف تجتهد أنت وتسعى يا أكمل الرسل في تحصيل ما هو خارج عن وسعك وطاقتك مع انك لا تؤمر به من لدنا إذ ما أَنْتَ باستبدادك واستقلالك بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إذ هم مجبولون على الغواية الجبلية في اصل فطرتهم فاقدون بصائر قلوبهم المدركة بها دلائل التوحيد وشواهد الوحدة الذاتية ولا يتأتى لك ان تهديهم الى طريق التوحيد وترشدهم اليه إِنْ تُسْمِعُ بتبليغك وارشادك وما تهدى أنت بسعيك واجتهادك إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا ونحن نوفقهم على الايمان من لدنا بمقتضى ما ثبت وجرى في لوح قضائنا وحضرة علمنا فَهُمْ بعد ما سبقت العناية منا إياهم مُسْلِمُونَ منقادون لك مسلمون منك جميع ما بلغت لهم من شعائر الدين ودلائل التوحيد واليقين. ثم قال سبحانه على سبيل الامتنان إظهارا لكمال قدرته على إبداء الشئون والتطورات الواردة على عباده حسب تعاقب الازمنة والأوقات في النشأة الاولى فكيف ينكرون إعادتها في النشأة الاخرى مع ان الإعادة أهون من الإبداء وان كان الكل في جنب قدرته على السواء
اللَّهُ القادر المقتدر الحكيم المتقن في عموم أفعاله وأحكامه العليم بمقتضاها هو القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَكُمْ وقدر وجودكم بعد ما أراد ابداعكم من كتم العدم وايجادكم في عالم الطبيعة والهيولى مِنْ ضَعْفٍ هو ماء النطفة الضعيفة المهينة ثُمَّ جَعَلَ صير وخلق وقدر مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ كائن في نشأة النطفة قُوَّةً جسمانية متزايدة مستكملة فيها يوما فيوما الى ان قد بلغت كمال القوة والشباب ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ كائنة في عالم الشباب ضَعْفاً وانحطاطا وَشَيْبَةً مضعفة طارية لعموم القوى والآلات منتهية الى الهرم الذي قد عبر عنه سبحانه بارذل العمر كيلا يعلم صاحبه من بعد علمه شيأ وبالجملة يَخْلُقُ ويظهر سبحانه عموم ما يَشاءُ ويقضى ويحكم جميع ما يريد ارادة واختيارا وَكيف لا هُوَ الْعَلِيمُ بجميع ما أحاطت عليه ارادته ومشيته الْقَدِيرُ المقتدر لإيجاده وإظهاره في فضاء العيان بلا فتور وقصور ونقصان وفطور
وَكيف ينكر من ينكر الحشر والنشر واعادة الموتى احياء سيما بعد مشاهدة هذه التطورات المترادفة والنشآت المتخالفة المتعاقبة اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ الموعودة المعدة لحشر الأموات من الأجداث يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ويحلف حينئذ كل منهم عند صاحبه بمدة لبثهم في الدنيا مترفهين متنعمين واتفقوا بعد ما اختلفوا وترددوا كثيرا في مكثهم فيها على انهم ما لَبِثُوا فيها غَيْرَ ساعَةٍ واحدة بالنسبة الى طول يوم القيامة وبالجملة من شدة عذاب يوم القيامة وصعوبة أهوالها وكثرة الهموم والأحزان فيها صار لبثهم في الدنيا ومدة اعمارهم فيها ساعة واحدة
قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني من قبل الحق وَالْإِيمانَ بالمغيبات التي قد أمروا بتصديقها على ألسنة الرسل والكتب سيما يوم البعث والنشور ردا عليهم وتخطئة لهم لَقَدْ لَبِثْتُمْ في الدنيا بمقتضى ما ثبت فِي كِتابِ اللَّهِ ولوح قضائه وحضرة علمه المحيط إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ وحشر الموتى وقيام الساعة فَهذا اليوم الذي أنتم فيه معذبون الآن يَوْمِ الْبَعْثِ الموعود لكم في الدنيا على ألسنة الرسل والكتب وَلكِنَّكُمْ من خبث طينتكم وجهلكم قد كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ولا تؤمنون به ولا تصدقون قيامه بل تنكرونها وتكذبون من اخبر بها من الرسل العظام مع انهم مؤيدون من قبل الحق بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة والمعجزات الباهرة الظاهرة وبالجملة هم بعد ما قد فوّتوا الفرص في دار الاختبار وضيعوا عين العبرة فيها
فَيَوْمَئِذٍ اى حين قيام الساعة وانقضاء ايام التفقد والتدارك لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالخروج عن حدود الله والعرض على عذابه مَعْذِرَتُهُمْ وعذرهم ليعتذروا من قصورهم ويتوبوا عن فتورهم متداركين لما فوتوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ولا يطلب منهم العتبى ولا يسمع منهم المعذرة حتى يزول عتابهم بالتوبة والانابة والندم والرجوع إذ قد انقضى نشأة الابتلاء والاختبار فحينئذ لا يقبل منهم التوبة والعبادة أصلا. ثم قال سبحانه على سبيل التأكيد والمبالغة مشيرا الى كمال قسوة اهل الزيغ والضلال
وَلَقَدْ ضَرَبْنا وبيّنا لِلنَّاسِ الناسين طريق الوصول الى توحيدنا ووحدة ذاتنا فِي هذَا الْقُرْآنِ المنزل من عندنا لنبين طريق توحيدنا وسلوك سبيل الاستقامة والرشد مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ينبئ لهم عنه وينبههم عليه ويبين لهم كيفية التنبه والتفطن منه ومع ذلك لم يتنبهوا ولم يتفطنوا الا قليلا منهم وَمن غلظة غشاوتهم ونهاية غفلتهم وضلالهم لَئِنْ جِئْتَهُمْ يا أكمل الرسل بِآيَةٍ من آيات القرآن ملجئة لهم الى الايمان لو تأملوا معناها وتدبروا فحواها لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عن الحق وانصرفوا عن توحيده والايمان به على سبيل الحصر والمبالغة بلا مبالاة لهم بك وبآياتك إِنْ أَنْتُمْ وما كنتم في دعواكم هذه ايها المدعون الكاذبون يعنون الرسول والمؤمنين إِلَّا مُبْطِلُونَ مفترون مزورون تفترون على الله ما تختلقونه من تلقاء انفسكم تغريرا وترويجا
كَذلِكَ اى مثل طبعهم وختمهم الذي قد شهدت يا أكمل الرسل من هؤلاء الجهلة يَطْبَعُ اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله ويختمه عَلى قُلُوبِ عموم الكفرة والجهلة الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الحق ولا يذعنون به لتركب جهلهم في جبلتهم والجهل المركب لا يزول بالقواطع والشواهد قطعا ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور ومتى سمعت يا أكمل الرسل من أحوالهم وأوضاعهم ما سمعت من عدم قابليتهم واستعدادهم الى الهداية والرشد
فَاصْبِرْ على أذاهم وثق بالله وبوعده الذي قد وعدك بان يظهر دينك على الأديان كلها إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ وإنجازه لما وعد به حَقٌّ بلا خلف وتردد وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ ولا يحملنك ولا يبعثنك يا أكمل الرسل على الخفة والاضطراب وقلة التصبر وعدم الثقة بالله القوم الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ولا يتصفون باليقين في امر من الأمور أصلا فكيف بالمعارف والحقائق الإلهية إذ هم مجبولون على فطرة الضلال مترددون في بيداء الوهم والخيال لا نجاة
خاتمة سورة الروم
عليك ايها المحمدي المتحقق بمراتب اليقين العلمي والعيني والحقي مكنك الحق في مقر لاهوتك وجنبك عن لوازم ناسوتك مطلقا ان تتصبر على اذيات اصحاب التقليدات والتخمينات وتتحمل على تشنيعات ارباب الظنون والجهالات المترددين في تيه الجهل والضلال بمتابعة الوهم والخيال وتصفى خاطرك وضميرك عن معارضتهم ومقابلتهم والبغض معهم والالتفات إليهم مطلقا إذ هم قوم قد خذلهم الله واحطهم عن الرتبة الانسانية التي هي التحقق بمقام اليقين والعرفان والتمكن على مرتبة الخلافة والنيابة من الرحمن المستعان والتخلق بخلق الحنان المنان وأسكنهم في مضيق الإمكان مقيدين بسلاسل التقليد وأغلال الحسبان لا نجاة لهم منها ابدا وعليك ان تتوجه بوجه قلبك الى ربك وتفوض أمورك كلها اليه وتتخذه وكيلا وتجعله حسيبا وكفيلا فانه سبحانه يكفيك ويكف عنك مؤنة شرور أعدائك وحاسديك ولك التبتل والانقطاع الى الله في كل الحالات والرجوع نحوه في عموم المهمات والملمات إذ ما من خير يسرك ويفرحك وشر يؤلمك ويضرك إلا منه بدأ وبقدرته ظهر وعلى مقتضى علمه صدر وبموجب حكمته جرى وقدر فلك ان تسترجع اليه وتتضرع نحوه وتستعيذ به منه إذ الكل من عنده لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم
[سورة لقمان]
فاتحة سورة لقمان
لا يخفى على من تحقق بالمرتبة الحكمية العلية من مقامات مسالك التوحيد وتمكن عليها مطمئنا راضيا مداوما على الميل المعنوي والتوجه التام بعموم الجوارح والأركان نحو الحق مسقطا عن نفسه جميع ما يشغله عن التوجه والالتفات الى المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي على الوجه الأتم الأكمل ان الوصول والتحقق بمرتبة التوحيد والهداية الحقيقية الحقية والتمكن في مقر الاطمئنان واليقين والنيل الى شرف الفناء في الله والبقاء ببقائه انما يحصل برفع الموانع ورفض الرسوم والعادات العائقة عن ادراك السعادات ونيل المرادات وذلك لا يتم الا بعد نزع خلعة الناسوت مطلقا وترك مقتضيات الأوصاف البشرية والقوى الجسمانية رأسا وذلك لا يتيسر الا بارتكاب متاعب الطاعات ومشاق التكليفات القاطعة القالعة عرق التعلقات المرتكزة في القوى البشرية واصول اللذات الوهمية اللازمة للنفوس البهيمية والهياكل الهيولانية المستحدثة من خبث الطبيعة المكدرة بادناس الإمكان المفضى بالطبع الى الدناءة والنقصان وانواع الخساسات والخسران والخلاص عن أمثال هذه الموانع والشواغل العائقة لا يتيسر ولا يحصل الا بتوفيق الله وجذب من جانبه وارشاد مرشد نبيه مؤيد من عنده سبحانه بالدلائل والتنبيهات وانواع المعجزات والتبيينات الخارقة للعادات ولهذه المصلحة العلية والحكمة السنية خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطب بعد ما تيمن بذكره الأجل الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي انشأ ينابيع الحكمة في قلوب أنبيائه وأوليائه واجرى على ألسنتهم انهار المعارف والحقائق المنتشئة منها إرشادا لعموم عباده الرَّحْمنِ عليهم بإرسال الرسل المؤيدين من عنده بنزول