تفسير سورة الرّوم

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الروم من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية كلها. وهي مبدوءة بالإخبار عن الروم بأنهم غالبون في بضع سنين. وذلك نبأ من أنباء الغيب يخبر الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
والسورة في جمالها وجلالها وبالغ إيقاعها وتأثيرها، تفيض بمختلف المعاني والعبر، والعديد من المشاهد والصور. إلى غير ذلك من المواعظ والحكم والتذكير باليوم الآخر.
وفي السورة من الدلائل والبينات والآيات في الكون والطبيعة ما يحمل العقل على التدبر وإطالة التفكير. وفيها من وصف أحوال الكافرين يوم القيامة مما يغشاهم من الإياس والفزع الداهم ما يثير في النفس الذُعر وينشر في التصور والذهن دوام الذهول. وذلك كشأن الآيات من الكتاب الحكيم التي تصف أحوال الكون والكائنات إذا قامت الساعة.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الم ( ١ ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( ٢ ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( ٣ ) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ( ٤ ) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ٥ ) وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٦ ) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾
نزلت هذه الآيات حين غلب ملك الفرس على بلاد الشام وأقاصي بلاد الروم فاضطر هرقلَ ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية وحاصره فيها مدة طويلة ثم عادت الدولة لهرقل كما كانت من قبل. وفي هذا الصدد روى الإمام أحمد عن ابن عباس – رضي الله عنهما- في قوله تعالى :﴿ الم ( ١ ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( ٢ ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ﴾ قال : غُلبت وغَلَبت، قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ لأنهم أصحاب أوثان. وكان المسلمون يحبون أن تظهر الرم على فارس ؛ لأنهم أهل الكتاب. فذكر ذلك لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أنهم سيغلبون " فذكره أبو بكر لهم. فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ؛ فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجل خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ألا جعلتها إلى دون – أراه قال : لعشر " والبضع ما دون العشر. ثم ظهرت الروم بعد. فذلك قوله :﴿ الم ( ١ ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( ٢ ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾ ١. غَلَب، مصدر مضاف إلى المفعول. وتقديره : وهم من بعد أن غُلبوا سيغلبون٢
وفي هذا الإخبار دليل على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الروم غلبتها فارس فأخبر الله نبيه أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين وسوف يفرح المؤمنون حينئذ بنصر الله للروم لأنهم أهل كتاب. وهذا من علم الغيب الذي أخبر الله به مما لم يعلمه الناس وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يراه المشركين على ذلك، وأن يزيد في الرهان ثم حرّم الرهان بعد ذلك ونسخ بتحريم القمار.
١ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٢٢، وأسباب النزول للنيسابوري ص ٣١٢..
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٥٤٨..
نزلت هذه الآيات حين غلب ملك الفرس على بلاد الشام وأقاصي بلاد الروم فاضطر هرقلَ ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية وحاصره فيها مدة طويلة ثم عادت الدولة لهرقل كما كانت من قبل. وفي هذا الصدد روى الإمام أحمد عن ابن عباس – رضي الله عنهما- في قوله تعالى :﴿ الم ( ١ ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( ٢ ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ﴾ قال : غُلبت وغَلَبت، قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ لأنهم أصحاب أوثان. وكان المسلمون يحبون أن تظهر الرم على فارس ؛ لأنهم أهل الكتاب. فذكر ذلك لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أنهم سيغلبون " فذكره أبو بكر لهم. فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ؛ فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجل خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ألا جعلتها إلى دون – أراه قال : لعشر " والبضع ما دون العشر. ثم ظهرت الروم بعد. فذلك قوله :﴿ الم ( ١ ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( ٢ ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾ ١. غَلَب، مصدر مضاف إلى المفعول. وتقديره : وهم من بعد أن غُلبوا سيغلبون٢
وفي هذا الإخبار دليل على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الروم غلبتها فارس فأخبر الله نبيه أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين وسوف يفرح المؤمنون حينئذ بنصر الله للروم لأنهم أهل كتاب. وهذا من علم الغيب الذي أخبر الله به مما لم يعلمه الناس وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يراه المشركين على ذلك، وأن يزيد في الرهان ثم حرّم الرهان بعد ذلك ونسخ بتحريم القمار.
١ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٢٢، وأسباب النزول للنيسابوري ص ٣١٢..
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٥٤٨..
قوله ﴿ في بضع سنين ﴾ البضع : بكسر الباء، وهو ما بين الثلاث إلى التسع، نقول : بضع سنين، وبضعة عشر رجلا، وبضع عشرة امرأة. فإذا جاوزت لفظ العشر ذهب البضع، فلا نقول : بضع وعشرون. ١
قوله :﴿ لله الأمر من قبل ومن بعد ﴾ يخبر الله عن تفرده بمطلق الإرادة والقدرة، فهو سبحانه المدبر لشئون الكون وأحوال العالمين، وهو العالم بما يجري في ذلك من أخبار وأحداث، وما من شيء أو حدث أو غلبة إلا منه وبقدرته ﴿ من قبل ومن بعد ﴾ مبنيان على الضم لاقتطاعهما عن الإضافة، أي من قبل هذا الغلب، ومن بعده، أو من قبل كل شيء ومن بعده٢.
قوله :﴿ ويومئذ يفرح المؤمنون ( ٤ ) بنصر الله ﴾ أي يفرح المؤمنون بنصر الله للروم أصحاب قيصر، على فارس أصحاب كسرى وهم مجوس، فهؤلاء وثنيون بعيدون عن ديانة السماء، أما أولئك وهم الروم فهم أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب.
١ مختار الصحاح ص٥٥..
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ٥٤٨.
قوله :﴿ ويومئذ يفرح المؤمنون ( ٤ ) بنصر الله ﴾ أي يفرح المؤمنون بنصر الله للروم أصحاب قيصر، على فارس أصحاب كسرى وهم مجوس، فهؤلاء وثنيون بعيدون عن ديانة السماء، أما أولئك وهم الروم فهم أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب.
قوله :﴿ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ يكتب الله النصر لمن يشاء من عباده. وهو سبحانه الغالب الذي لا يقهر، المنتقم من عباده الظالمين، أعدائه أعداء الدين، وهو الرحيم بعباده المؤمنين، إذ يكتب النصر والتأييد والتمكين.
قوله :﴿ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ وعد الله، منصوب على المصدر المؤكد لما قبله١ووعدُ الله أن الروم ستغلب فارس من بعد غلبة فارس لهم. وقد وعد الله المؤمنين بذلك وعدا لا يُخلف ؛ لأن الله يفي بوعده وليس في مواعيده إخلاف.
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي أكثر قريش لا يعلمون أن وعد الله حق، وأنه لا يجوز في وعده إخلاف. وقيل : المراد بأكثر الناس، الكافرون، وهم الأكثرون، فإنهم لا يعلمون الحق ولا يعبأون به، وإنما يجنحون للشهوات والباطل.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٤٩..
قوله :﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أكثر الناس لا يعبأون بأمر الآخرة وما يصيرون إليه إذا سيقوا إلى ربهم للحساب، وإنما يعلمون أمور الدنيا وما فيها من وجوه المعايش عن طريق التجارة والزراعة والصناعة وغير ذلك من وجوه الكسب وتحصيل الثروة والمال، فهم في أمور الحياة الدنيا حاذقون بارعون أذكياء. وفي أمور الدين جاهلون، وعن أمور الساعة خاملون غافلون، وفي السعي لها بفعل الصالحات والطاعات مفرّطون.
قال ابن عباس عن قوله :﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ : يعني معايشهم متى يحصدون ؟ ومتى يغرسون ؟ وكيف يبنون ؟ وقال الحسن البصري : والله ليبلغ من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه، وما يُحسن أن يصلي.
قوله :﴿ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ أي هم في غفلة عن لقاء ربهم وعن العمل بما فيه مرضاة لله ومنجاة لهم يوم القيامة١.
١ تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١-٥، وفتح القدير ج ٣ ص ٢١٤، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٢٦، وتفسير الطبري ج ٢١ ص ١-٥١..
قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ( ٨ ) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ٩ ) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون ﴾.
ينبه الله على التفكر فيما خَلَقه من عجيب الخلائق الكثيرة والمختلفة. وهي بكثرتها وعجيب صنعها وكامل اتساقها وانسجامها وتكاملها، تدل قطعا على عظمة الخالق الصانع المدبّر وعلى أنه وحده متفرد بالخلق والإبداع، وليس له في ذلك شريك ولا نديد. وهو قوله :﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ ﴿ مّا ﴾ : نافية. والمراد بالتفكر ؛ النظر والتدبر والتأمل في الكائنات وفيما خلق الله من أشياء كثيرة في السماوات بطباقها الواسعة المديدة، وفي الأرض وما حوته من مياه ومعادن وأناسي ونبات مختلف ألوانه وأجناسه. وما بين ذلك كله وما في خلاله من أجرام ومُركَّبات وكائنات إحياء وغير أحياء. أو لم يتفكر الناس في كل هذه المخلوقات العجائب ؛ ليعلموا أنها لم تخلق عبثا ولا باطلا ولا سدى. بل خلقت بالحق ؛ أي بالعدل، أو أن خلقها هو الحق، أو أن الله خلقها للحق.
قوله :﴿ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي خلق الله السماوات والأرض إلى أجل مسمى ينتهيان إليه وهو يوم القيامة. فيومئذ تُبدل الأرض غير الأرض والسماوات.
قوله :﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ اللام للتوكيد. والمعنى : أن كثيرا من الخلق جاحدون مكذوبون بالبعث والدين، منكرون للمعاد بعد الموت. لا جرم أن هؤلاء هالكون خاسرون.
قوله :﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ الاستفهام للتقريع والتوبيخ لهؤلاء المشركين الجاحدين الذين يكذبون بيوم الدين وينكرون نبوة رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فلقد سار هؤلاء المكذبون الضالون في طريقهم إلى البلاد الأخرى تجارا، ورأوا ما حل بالأمم من قبلهم من خراب ودمار. أفلم يتدبروا ما رأوه فيخشوا ويزدجروا عن كفرهم وعصيانهم ؟. أفلا يخافون أن يحيق بهم ما حاق بالسابقين من تدمير وهلاك بسبب عصيانهم وتكذيبهم أنبياءهم الذين أرسلوا إليهم هداة مرشدين ؟.
قوله :﴿ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ فقد كانوا أكثر من هؤلاء أموالا وأولادا، وأشد منهم بُنية وأجساما، وأطول أعمارا.
قوله :﴿ وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ﴾ إعمار الأرض تهيئتها للحرث والزراعة ؛ فقد عمر السابقون الأرض ؛ أي حرثوها لمزاولة الزراعة فيها أكثر مما عمرها هؤلاء وهم مشركوا مكة ؛ إذ لم يكونوا أهل حرث أو زراعة.
قوله :﴿ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ جاءهم المرسلون بالآيات الواضحة والدلائل الظاهرة على صدق ما جاءوهم به من عند الله لكنهم كذبوهم وجحدوا رسالتهم وأنكروا حججهم وبيناتهم فأنزل الله فيهم عذابه. فما أغنى عنهم بأسهم ولا قوتهم ولا أموالهم ؛ بل أخذهم الله بالتدمير والإبادة ﴿ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ لم يعذبهم الله من غير ذنب فعلوه. ولكن يعذبهم بكفرهم وتكذيبهم وكبير معاصيهم.
قوله :﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ ﴿ عَاقِبَةَ ﴾ مرفوع على أنه اسم كان، و ﴿ السُّوأَى ﴾ من السوء، تأنيث الأسوأ وهو الأقبح كما أن الحسنى تأنيث الأحسن. وجملة ﴿ أَن كَذَّبُوا ﴾ في موضع نصب مفعول له. وتقديره : لأن كذبوا. ويجوز أن تكون بدلا من السوأى١.
والمعنى : أن هؤلاء الكافرين المكذبين، مصيرهم ﴿ السُّوأَى ﴾ سواء في الدنيا حيث الشقاء والبوار والندامة، أو في الآخرة حيث النار وبئس القرار. وقيل : السوأى اسم جهنم كما أن الحسنى اسم الجنة. وذلك جزاء المجرمين الخاسرين يوم القيامة ؛ لأنهم كذبوا بآيات الله وكتبه ورسله وكانوا يسخرون من آيات الله ويستهزئون بها٢.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٤٩..
٢ تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٨-١٠، وتفسير الطبري ج ٢١ ص ١٨..
قوله تعالى :﴿ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ١١ ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ( ١٢ ) وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ( ١٣ ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ( ١٤ ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ( ١٥ ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾.
الله المنشئ للخلق كله. وهو سبحانه متفرد بإنشائه من غير شريك له في ذلك ولا ظهير. وهو سبحانه المعيد لهذا الخلق يوم القيامة بعد إفنائه، فيجمعهم الله جميعا في المحشر ثم يصارون بعد الحساب إما إلى الجنة وإما إلى النار، حيث الثبور والبوار.
قوله :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ ﴿ يُبْلِسُ ﴾ ييأس في حيرة، من الإبلاس وهو اليأس المحيّر. أبلس من رحمة الله أي يئس. ومنه سمي إبليس. ويأتي الإبلاس بمعنى الانكسار والحزن. أبلس إذا سكت غما١.
والمعنى : يوم تقوم القيامة، ويُبعثُ الناس من قبورهم أحياء فينتشرون ويساقون إلى الحشر للحساب، يبأس المجرمون الذين كذبوا بلقاء الله وجحدوا ما أنزله على رسله من الآيات والبينات، واكتسبوا في دنياهم المعاصي والمنكرات، أو يغشاهم اليأس وتطغى عليهم الندامة والحيرة والاكتئاب فلا يملكون حيلة ولا حجة يحتجون بها، وليس لهم حينئذ إلا النار.
١ مختار الصحاح ص ٦٣، وأساس البلاغة ص ٤٩..
قوله ﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء ﴾ أي ليس لهؤلاء المجرمين اليائسين في هذا اليوم العصيب الموئس ﴿ مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء ﴾ أي ليس لهم حينئذ مما عبدوه من دون الله كالأصنام والأوثان وغير ذلك من مختلف الأنداد، من شفعاء فيشفعوا لهم عند ربهم، ويستنقذوهم من العذاب.
قوله :﴿ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ أي تبرأ الجاحدون التابعون من المتبوعين من آلهتهم المزعومة. وهي آلهة كثيرة ومختلفة، ما بين أحجار صماء تُعبد، أو أوثان متعددة الأشكال والأجناس يلين أمامها الواهمون السفهاء ويلاطفونها. أو مخاليق من طواغيت البشر يُذعن لهم الخاسرون الضعفاء من المنافقين والمرائين والخوّارين والمنتفعين أولي الأهواء والأغراض المسفّة. أ أولئك جميعا يكفرون يوم القيامة بآلهتهم الموهومة المصطنعة ويتبرأون منهم تبرأ كاملا.
قوله :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ﴾ عندما تقوم القيامة يتفرق الناس بعضهم عن بعض، إذ يتفرَّق المؤمنون من الكافرين. أو يتفرق الآمنون الناجون من الخاسرين الهالكين، فيذهب كل فريق من الفريقين في سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار. وهو قوله :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ﴾.
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ﴾ الروضة : البستان الحسن، أو الأرض ذات الخضرة١ و ﴿ يُحْبَرُونَ ﴾، من الحبور وهو السرور٢.
يعني : الذين آمنوا بربهم وأفردوه بالتوحيد والألوهية وأطاعوه فيما أمر ولم يشركوا به أحدا من الأنداد أو الشركاء فأولئك في جنة الله يكرمون وينعمون ويسرون ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾.
١ المعجم الوسيط ج ١ ص ٣٨٢، وأساس البلاغة ص ٢٥٩..
٢ أساس البلاغة ص ١١٠..
﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾ أي الذين كفروا بالله وجحدوا البعث بعد الممات وكذبوا بالرسل فأولئك مجموعون في النار. أو نازلون فيها ليذوقوا الويل والعذاب الأليم١.
١ تفسير الرازي ج ٢٥ ص ١٠٢، والكشاف ج ٣ ص ٢١٦-٢١٧..
قوله تعالى :﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( ١٧ ) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ( ١٨ ) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾.
سبحان : من التسبيح وهو تنزيه الله من السوء، والثناء عليه بالخير في كل الأوقات. وهذا تسبيح من الله لنفسه المقدسة وإرشاد لعباده كي يسبحوه وينزهوه عن النقائص والعيوب، ويحمدوه حمدا كثيرا دائما لا ينقطع.
وقيل : المراد بالتسبيح ههنا، الصلاة. فقد سئل ابن عباس-رضي الله عنهما- : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال : نعم. وتلا هذه الآية. فتمسون : يراد صلاتا المغرب والعشاء. و ﴿ تُصْبِحُونَ ﴾ : يراد صلاة الفجر ﴿ وَعَشِيًّا ﴾ يراد صلاة العصر. و ﴿ تُظْهِرُونَ ﴾ : يراد صلاة الظهر. والمساء معناه إقبال الليل بظلامه. والصباح هو إسفار النهار بضيائه.
قوله :﴿ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ وهذا كلام معترض بالتحميد، وهو يناسب التسبيح ؛ أي أن الله المحمود على نعمه وآلائه في السماوات والأرض. ثم قال بعد ذلك :﴿ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴾ العشي والعشاء معناه اشتداد الظلام. و ﴿ تُظْهِرُونَ ﴾ من الإظهار وهو الضياء.
قوله :﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ خلق الله الأشياء وأضدادها ليدل بذلك على كمال قدرته وأنه الخالق العظيم. وذلك كإخراج النبات ذي الحياة من الأرض الهامدة الميتة. وإخراج العالم من الجاهل ؛ كأن العلم حياة بما يفضي إليه من الخير والحق والاستقامة. وعكس ذلك إخراج الجاهل من العالم. وكأن الجهل موات بما يفضي إليه من التعثر والتخبط والإيغال في ضروب الباطل. وكذلك المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. والكفر كأنما هو الموت، والإيمان فإنه حياة. ﴿ وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ أي كذلك يحيي الله الخلق ببعثهم من قبورهم يوم القيامة. فالقادر على خلق الأحياء من الأموات، والأموات من الأحياء، لا جرم قادر على إحياء الأموات وبعثهم من قبورهم حين تقوم الساعة١.
١ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٢٨، والكشاف ج ٣ ص ٢١٧..
قوله تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ( ٢٠ ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
المصدر من ﴿ أن ﴾ والفعل في موضع رفع مبتدأ، والجار والمجرور قبله خبر. والتقدير : وخلقُكم من تراب من آياته١.
يعني : ومن آيات الله ودلالاته على ربوبيته ووحدانيته وكمال قدرته وعظمته ﴿ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ﴾ أي خلق أصلكم وهو أبوكم آدم ﴿ مِّن تُرَابٍ ﴾ وأنتم فرع آدم، والفرع كالأصل ﴿ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴾ وذلك بعد أن مررتم في جملة مراحل وأطوار، واحدا عقب الآخر، بدءا بالنطف في الأرحام، ثم المُضَغ، ثم العلق، ثم العظام واكتساؤه باللحم، ثم النفخ لبعث الروح، ثم الخروج إلى الدنيا أطوار، بدءا بالرضاع، ثم الفطام، ثم اليفاع، ثم الشباب فالشيخوخة والاكتهال. ويتخلل ذلك سعي وكدّ ونشاط وتعامل ونَصَب وصراع مع الباطل وأهله.
ذلك هو الإنسان المفكر والساعي والمنتشر ؛ فهو أوله نطفة مهينة مستقذرة، ثم تقلّب في مراحل شتى من التطور المتعاقب حتى صار إنسانا سويا قويا مكتمل البنية والإرادة والفهم. وصار ذا بصر وتفكير وتدبير ودهاء وحيلة، فيقطع الأمصار ويجوب البحار والفضاء مسافرا طمعا في كسب أو تحصيل. وبات يعقد المعاهدات والمؤامرات في وضح النهار أو بهيمة الظلمات. أفلا يدل ذلك على قدرة الخالق العليم.
والأعجب من ذلك أن تندرج كل هذه المعاني الكبيرة والكثيرة والمختلفة في هذه الآية القصيرة ذات الكلمات المعدودة ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴾ آية وجيزة تعرض لحال الإنسان كله بدءا بكونه نطفة في رحم أمه وانتهاء بكونه بشرا ذا قوة وإرادة وصورة حسنة، يسعى جادا منتشرا في الأرض. وهذا واحد من الأدلة الظاهرة على إعجاز القرآن وعلى أنه حق وأنه الخالق الموجد القادر.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٤٩..
قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ وهذا دليل كبير على عظيم صنع الله وبالغ قدرته وحكمته. وهو أنه ﴿ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾ أي خلق لكم نساء من جنسكم ؛ فالنساء مخلوقات من نُطف الرجال. وقيل : المراد حواء زوجة آدم خلقها الله من ضلعه. والمراد : أن الإناث قد خلقهن الله من جنس الرجال ليسكن إليهن الرجال ؛ أي يميلوا إليهن ويستأنسوا بهن. وذلك من السكينة وهي الدعة والهدوء والوقار١. وذلك أن الجنس الواحد لا يسكن لجنسه ولا يستأنس به كما يستأنس بالجنس الآخر. وهذه خصلة أساسية ومفطورة قد جُبل عليها البشر ؛ إذ يميل كل صنف إلى الصنف الآخر المخالف. الذكر يميل للأنثى وهي تميل للذكر.
قوله :﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ أي تعطف قلوب بعضهم على بعض فكل منهما يحب الآخر ويحنو عليه ويجنح إليه جنوحا فطريا. وذلك بعصمة الزواج الذي تنشأ عنه الختونة والصهرية والنسب. وبذلك تتسع دائرة التعارف والتواد والتراحم بين الناس فتعمهم الألفة والمودة والوئام.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ يعني فيما تبين من عجيب قدرة الله على خلق الناس من تراب ليصيروا بشرا منتشرا، ثم خلق الإناث من جنس الذكور لتشيع بينهم المودة والرحمة ووشائج الصهرية والقربى ﴿ لَآيَاتٍ ﴾ أ ي لدلائل عظيمة تكشف عن قدرة الله وعلى حقيقة البعث يوم القيامة ﴿ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ يعني لأولي النباهة والفطانة من أولي العقول النيرة الذين يتدبرون ويتعظون٢.
١ أساس البلاغة ص ٣٠٤..
٢ الكشاف ج ٣ ص ٢١٨، وفتح القدير ج ٣ ص ٢١٩..
قوله تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ( ٢٢ ) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( ٢٣ ) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ٢٤ ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ( ٢٥ ) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾.
هذه جملة علامات توقظ الأذهان لتتدبر وتتفكر وتستيقن أن الله حق، وأنه بالغ القدرة، مطلق الإرادة والسلطان. وأول ذلك قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ وهذه علامة هائلة وكبرى تدل على عظيم قدرة الله الذي خلق السماوات باتساعها واتساقها وامتداد طباقها وروعة نظامها وما تزدان به من زهارة الكواكب والنجوم وغير ذلك من الأجرام على كثرتها وضخامتها واختلاف أنواعها وأجناسها. وكذلك خلق الأرض على هيئتها المثيرة المذهلة من جمال النظام ومتانة الإحكام واختلاف الأجناس والمركبات.
قوله :﴿ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ﴾ وهذه علامة أخرى تكشف عن حكمة الله البالغة في خلق الناس على لغات مختلفة كثيرة. فمنهم الناطقون بالعربية أو اللاتينية أو الفارسية أو البنغالية أو التركية أو الهندية أو غير ذلك من لغات الأمم المختلفة كالأوروبيين والأفريقيين وغيرهم.
وكذلك اختلاف الألوان لبني الإنسان ليكون فيهم الأبيض والأسود والأسمر والأصفر والأحمر والأشقر. فما من أحد من البشر يشبه الآخر ؛ بل إنهم جميعا مختلفون متفاوتون في الهيئة والسمت والكلام والمشية والصوت واللون ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ﴾ أي فيما تبين من علامات وحجج لعبرة ظاهرة تكشف عن قدرة الله وحكمته لأولي العقول والمتفكرين.
قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ وهذه علامة من علامات ظاهرة تدل على وحدانية الله وأنه الخالق القادر المبدع، إذ جعل في الناس صفة النوم في الليل أو النهار. والإنسان بطبيعته يميل للاستراحة والاسترخاء كلما أصابه تعب أو كلال فيجنح للنوم سواء في الليل أو النهار. وهذه خصيصة خَلقية من خصائص الإنسان الأساسية قد أنعم الله بها على عباده ليهجعوا ويسكنوا راقدين وادعين. وفي النهار يسعى الناس ناشطين مجتهدين لتحصيل الرزق والمعاش.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ أي فيما تبين من دليل لهو علامة ينتبه إليها الذين يسمعون سماع تدبر وتفكر، لا سماع الغافلين المُفرّطين.
قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ ومن الدلائل على عظيم قدرة الله هذه الظاهرة الساطعة المنظورة التي تبهر القلوب والعقول، وتخطف بالأبصار والأنظار، وهي ظاهرة البرق الذي يريه الله عباده ﴿ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ أي خوفا من احتمالات الصواعق المهلكة، وطمعا في المطر النازل من السماء فيحيي به الله الزرع فيعم الخير والخصب. وهو قوله :﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ ظاهرة البرق تسبق الرعد، وهاتان علامتان تبشران بنزول الغيث المغيث من السماء إلى الأرض لإحياء النبات على اختلاف أصنافه فيها بعد موات وهمود ويبس.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ إن في هذه الظواهر العجيبة الباهرة من البرق والمطر وإحياء الأرض بعد موات لدلالة مكشوفة بلجة يتدبرها أولوا الأفهام والنُّهى من الناس.
قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ﴾ أي من حجج الله على أنه قادر على ما يشاء، قيام السماء والأرض مكينة متماسكة من غير عمد، وذلك بقدرة الله الواحد وبتدبيره وحكمته وعظيم سلطانه، إذ جعلهما على هيئتهما الهائلة العظمى، وفي غاية الإحكام والدقة والترابط والانسجام، فالسماء بعجائبها وخلائقها ونجومها الثوابت السواطع، أو كواكبها المتحركة اللوامع أو غير ذلك من الشموس والأجرام والمعالم الكونية المذهلة العجاب ؛ ثم الأرض هذا الجرم الكوني الدائر العجيب وما في جوفه أو على متنه من مختلف المخلوقات والأجناس والعناصر، كل أولئك قائم ومتكامل ومتسق بأمر الله، أي بقدرته وإرادته وتدبيره. لا جرم أن الذي صنع ذلك كله لقادر على بعث الخلائق يوم القيامة لتواجه الحساب والجزاء وهو قوله :﴿ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾ أي إذا دعاكم الداعي للخروج من باطن الأرض خرجتم من قبوركم مبادرين مسرعين إلى الحشر حيث الحساب، من غير توقف ولا تلبُّث ولا تردد.
قوله :﴿ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ الله له ملكوت كل شيء وإليه تصير الأمور جميعا وبيده مقاليد الأشياء كافة. وكل شيء في الكون قانت له، أي مطيع له طاعة انقياد وخضوع. أو مُقر له بالعبودية إقرار مقالة أو دلالة١
١ تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٧-٢١، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٢٨-٤٣٠..
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ الله الذي تجلت قدرته فيما بيناه من الآيات والدلالات والحجج لهو الذي يبدأ الخلق من العدم ثم يعيده يوم البعث للحساب ﴿ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ أي بعثُ الخلق يوم القيامة هين على الله فهو سبحانه المبدئ والمعيد. وهو لا يعز عليه أن يعيد الحياة إلى الخلائق يوم القيامة. وقيل : أهون على ما يقوله بعضكم لبعض ؛ لأنه لا شيء أهون على الله من شيء بل كل شيء على الله هين ويسير.
قوله :﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ ﴿ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾ شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل : المثل الأعلى يعني وصفه الأعلى ؛ فالله سبحانه له الوصف بالوحدانية في السماوات والأرض ؛ فهو خالقهما ومبدعهما من غير شريك له في ذلك ولا نديد.
قوله :﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ الله جل جلاله القوي الذي لا يغالَب، الجبار الذي لا يقهر. وهو سبحانه الحكيم في أقواله وأفعاله، وفي خلقه وتدبيره وتصريفه للأمور.
قوله تعالى :﴿ ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ٢٨ ) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴾.
يمثل الله للمشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء وأشركوا معه في العبادة آلهة أخرى، مثلا من أنفسهم، عبدا مملوكا. وهو قوله :﴿ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ أي هل لكم من مماليككم الذين اتخذتموهم لكم عبيدا، من شركاء فيما رزقناكم من مال ﴿ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء ﴾. أو هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكا له في ماله ليكون هو ومملوكه في هذا المال سواء ؟.
قوله :﴿ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي تخافون هؤلاء الشركاء من مماليككم العبيد أن يقاسموكم أموالكم كما تخافون أن يقاسم بعضكم بعضا. فإن كنتم أنتم تأنفون من مشاركة عبيدكم إياكم فيما تملكونه من المال، فكيف ترضون وتصدقون أن يكون لله أنداد من خلقه يشاركونه في الملك ؟. أو كيف يُتصور أن تنزهوا أنفسكم أيها الناس عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا أنتم عبيد الله شركاءه في خلقه ؟ ! لا جرم أن حكمكم هذا باطل ؛ بل أنه تصور فاسد ومستهجن لا يصدر إلا عن مأفونين موغلين في الضلالة والجهالة والعناد.
قوله :﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ الكاف في الإشارة في موضع نصب صفة لمصدر محذوف. أي مثل ذلك التفصيل نبين لكم الحجج والدلائل الواضحات لأولي العقول النيرة والأفهام التي تتفكر وتتدبر وهؤلاء مخصوصون بتفصيل الآيات ؛ لأنهم أجدر أن يبادروا للانتفاع بآيات الله وحججه وعلاماته الدالة على قدرته على الخلق والبعث ليوم الحساب.
قوله :﴿ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي ما أشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله آلهة وأندادا أخرى إلا لظلمهم أنفسهم واتباعهم أهواءهم. فهم لا يعقلوا الآيات ولم يتدبروا الحجج والبرهان ولم يتفكروا تمام التفكر وإنما اتبعوا في ذلك أهواءهم الضالة العمياء.
قوله :﴿ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ﴾ من ذا الذي يسدّد للرشاد ويوفق للإسلام ويهدي للحق والصواب، من أضله الله فليس له من هاد سوى الله ﴿ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ أي ليس لمن أضله الله من ناصر ينصره فيستنقذه من الخسران وسوء المصير. ١
١ فتح القدير ج ٣ ص ٢١٢/٢٢٣، وتفسير الطبري ج ٢١ ص ٢٤-٢٦ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٣١..
قوله تعالى :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٣٠ ) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٣١ ) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾.
أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته بعبادة الله وحده وأن يفردوه بالوحدانية والإلهية وأن لا يشركوا به شيئا من المخاليق.
وهو قوله :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ﴾ خص الوجه بالذكر لما يجتمع فيه من حواس الإنسان، ولأنه أشرفه. والمراد التوجه بالنية والقول والعمل إلى الله وحده، وأن يقام ذلك للدين المستقيم، دين الإخلاص والتوحيد، دين الإسلام.
قوله :﴿ حَنِيفًا ﴾ منصوب على الحال. و ﴿ حَنِيفًا ﴾ أي مائلا إلى دين الله المستقيم غير ملتفت إلى غيره من الأديان والملل الضالة الباطلة. نقول : تحنّف إلى الشيء إذا مال إليه. ومنه قيل لمن مال عن كل دين أعوج هو حنيف، وله دين حنيف، وتحنّف فلان إذا أسلم١.
والمقصود هو تسديد الوجه على التوحيد والإقامة على الدين الذي شرعه الله لعباده من الحنيفية وهي ملة إبراهيم، ملة الحق والتوحيد.
قوله :﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ ﴿ فِطْرَت ﴾، منصوب بتقدير فعل، وتقديره : اتبع فطرة الله. وقيل : منصوب على المصدر. والتقدير : فطر الله الناس على ذلك فطرة٢.
والمراد بالفطرة الإسلام. وهو قول الجمهور من السلف. ويستدل من ذلك على أن الله خلق عباده على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره.
وعلى هذا فإن الطفل قد خلق سليما من الكفر أو الزيغ أو الضلال. بل خلق حنيفا مبرأ من الإشراك والإلحاد والزيغ عن جادة الحق والصواب. ولو نجا الإنسان منذ صغره حتى الكبر من أسباب الإضلال والإغواء والفتنة ولم تعترضه في حياته مكائد الشياطين على اختلاف أجناسهم ومسمياتهم لما زاغ هذا الإنسان عن عقيدة التوحيد ولما أعرض عن منهج الله القويم.
لقد أعرض الإنسان عن دين الله ومنهجه الحكيم القويم الذي شرعه للناس، بفعل الشياطين من الإنس والجن، أولئك الذين نصبوا المكائد والفتن، واصطنعوا الأساليب والمخططات والبرامج والحيل لإغواء الإنسان وإضلاله عن عقيدة التوحيد. عقيدة الإسلام. لقد بُذلت من أجل هذه الوجيبة الفظيعة المريعة جهود هائلة من التخطيط وفي غاية البراعة لاستدراج الإنسان كيما يسقط في حمأة الكفر والرذيلة والفساد، لا جرم أن ما بذله الشياطين من استعماريين وصليبيين ووثنيين وملحدين وماسونيين وصهيونيين، وعملاء ناعقين من جهود وخطط وأساليب فكرية وثقافية وإعلامية واقتصادية ونفسية قد أسهم إسهاما أكبر في تدنيس الفطرة البشرية وفي إفسادها وإبعادها عن صراط الحق لتسام الكفر والانحراف والاعوجاج والارتداد إلى الدركات المسفة من الهبوط والباطل.
ولقد جاء في الحديث الصحيح مما رواه أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمةُ بهيمة جمعاء٣ هل تحسون فيها من جدعاء " ٤.
وروى الإمام أحمد عن الأسود بن سريع قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه فأصبت ظفرا، فقاتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية ؟ " فقال رجل : يا رسول الله أما هم أبناء المشركين ؟ فقال : " لا إنما خياركم أبناء المشركين " ثم قال : " لا تقتلوا ذرية لا تقتلوا ذرية ".
وقال عليه الصلاة والسلام : " كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها ؛ فأبواها يهودانها أو ينصرانها ".
وروى الإمام أحمد عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته :" إن ربي عز جل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا : كل ما نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ".
قوله :﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ أي لا تغيير لدين الله، أو لا تبديل لهذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي الإسلام، أو عقيدة التوحيد أو الإيمان بالله وحده لا شريك له.
قوله :﴿ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ الإشارة، تعود إلى إقامة الوجه للدين حنيفا غير مبدّل ولا محرّف. الدين القائم على الحنيفية الكاملة والتوحيد الخالص لله. وذلك هو ﴿ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ أي الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ضلال، وهو دين الإسلام. لا جرم أن دين الإسلام بني على التوحيد، بعيدا عن كل ظواهر الإشراك أو الضلالة أو الباطل. الإسلام قد جيء به ملائما لطبائع البشر التي جُبلوا عليها وملائما لفطرة الإنسان السليمة من الخلل والشذوذ ؛ فهو وحده الذي يراعي حقيقة الإنسان بكل مركباته النفسية والعقلية والروحية والجسدية. وما من ملة أو عقيدة أو مذهب دون الإسلام إلا بني على أحد الخطأين أو كليهما وهما الإفراط والتفريط. لكن الإسلام جاء منافيا كل المنافاة هذين الخطأين ؛ فلا هو يرتضي لأهله الإفراط، وكذلك لا يقبل لهم التفريط. وإنما هو المنهج المعتدل المستقيم الوسط الذي تصلح عليه البشرية طوال الزمن لو سلمت من أفاعيل الشياطين الذين يقطعون الليل والنهار وهم يأتمرون بالبشرية لتدميرها وإفسادها وإشاعة الكفر والضلال والرذيلة فيها.
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أكثر الناس لا يعلمون الحق ولا يدرون حقيقة الصواب، وهم غير موقنين أنهم مبطلون أو أنهم سائرون سادرون في العمه والعوج والباطل.
إن جُل البشرية مجانب لمنهج، بعيد عنه بعدا كبيرا. والبشرية في جفوتها الكبيرة هذه قد ركنت إلى الشياطين الذين يسولون لهم الشر والرذيلة وفعل المعاصي، وينفرونهم أشد تنفير من عقيدة التوحيد، ومنهج الحق والفضيلة. وذلك بما برعوا فيه من تخطيط للإضلال والإغواء، فهم جادون ناشطون في أساليب التحيل على البشرية بمختلف الأساليب والوسائل الإعلامية والثقافية والفكرية، لإفساد عقيدتها وتدمير قيمها ونسف حضارتها الناصعة الخيّرة نسفا.
١ أساس البلاغة ص ١٤٤..
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٥٠..
٣ الجمعاء من البهائم: التي لم يذهب من بدنها شيء. انظر المعجم الوسيط ج ١ ص ١٣٥..
٤ الجدعاء: مقطوعة الأنف والأذن. انظر المصباح المنير ج ١ ص ١٠٠ وأساس البلاغة ص ٨٤..
قوله :﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ﴾ ﴿ مُنِيبِينَ ﴾، منصوب على الحال من ضمير ﴿ فأقم ﴾. وقد جمع حملا على المعنى ؛ لأن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته١ ؛ أي تائبين إلى الله، راجعين إليه، مقبلين عليه بالطاعة.
قوله :﴿ وَاتَّقُوهُ ﴾ أي خافوه بالتزام أوامره واجتناب مناهيه وزواجره.
قوله :﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ﴾ خص الصلاة بالذكر من بين العبادات المفروضة بسبب أهميتها وجليل قدرها وعظيم شأنها ؛ فهي عماد الدين كله، ولا يتردد الناس في أداء الصلوات أو يثنون عنها إلا بكلال عزائمهم وهممهم، وفتور العقيدة والتقوى في قلوبهم.
قوله :﴿ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ وذلك بالفسق عن أمر الله ومخالفة دينه، والركون إلى ملل الكفر والباطل.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٥١..
قوله :﴿ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ﴾ أي لا تكونوا من المشركين الذين بدلوا دينهم أو خالفوه ففارقوه ﴿ وَكَانُوا شِيَعًا ﴾ أي أديانا أو فرقا شتى، كل فرقة تشايع إمامها الذي أضلها، وهم في الحقيقة جميعا ضالون بعيدون عن السداد وجادة الصواب.
قوله :﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ الحزب بمعنى الطائفة١ أي كل فرقة من هذه الفرق أو طائفة من هذه الطوائف، مسرورون بما هم عليه من ضلال وعوج، معجبون بما تلبسوا به من ملل الباطل وضلالات الشيطان والهوى. وتلك هي صفة الضالين التائهين من الناس، السادرين في ظلام الكفر والزيغ عن منهج الله ؛ فإنهم معجبون بما هم عليه من ضلالات ؛ إذ يحسبون أنهم على كل شيء، وهم في الحقيقة موغلون في السقوط والانحراف عن دين الله إلى ملل الظلام والكفر٢.
١ أساس البلاغة ص ١٢٤..
٢ الكشاف ج ٣ ص ٢٢٢، وتفسير القرطبي ج ٤١ ص ٣١-٣٣، وتفسير الطبري ج ٢١ ص ٢٨..
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ( ٣٣ ) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ٣٤ ) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ( ٣٥ ) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ( ٣٦ ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
ذلك تعجيب من حال المشركين أولي الهلع والجزع، الذين يلوذون بالأصنام والآلهة المزيفة المصطنعة فيذعنون لها بالولاء والخضوع والمودة حتى إذا أصابهم البأس أو الشدة من قحط أو مرض أو خوف أو نحو ذلك من وجوه البلاء والكرب، أنابوا إلى الله خاشعين متضرعين أن يكشف عنهم ما نزل بهم من الضُّر. تلك هي صفة المشركين المكذبين، أو المرتابين أولي الخور الذين يعبدون الله على حرف ؛ فإنهم لا يتعرَّفون على الله إلا في الشدة وحين اشتداد البأس. لكنهم إذا أضلهم الرخاء والنعيم والسعة نسوا الله وأعرضوا عن دينه وجنحوا للأهواء والشهوات ومالوا إلى الدنيا بملذاتها وحطامها الدارس الداثر ؛ وهو قوله :﴿ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ﴾ إذا أصاب هؤلاء المشركين الضُّر أو الشدة، كالقحوط أو الجدوب جأروا إلى الله بالدعاء ﴿ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ﴾ مطيعين له، مقبلين عليه بقلوبهم، تائبين راجعين من شركهم إلى إفراده بالعبادة والتوحيد وهم يستغيثونه ويتضرعون إليه ليكشف عنهم الضر النازل بهم ﴿ ثُُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً ﴾ أي إذا كشف الله عنهم هذا البلاء وأزال عنهم ما أصابهم من الكرب فأبدلهم به رخاء ونعمة وسعة ﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾ ﴿ إذا ﴾ الفجائية ؛ أي إذا كشف الله عنهم الضر بادر الذين دعوا الله، إلى الإشراك به وإلى اتخاذ الأنداد معه والشركاء.
قوله :﴿ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ ﴾ لام كي أو التعليل. وقيل : لام الأمر والمراد به الوعيد والتهديد لهؤلاء المشركين الذين إذا أصابهم البلاء من ربهم دعوه تائبين مخلصين حتى إذا خوَّلهم منه نعمة وفضلا بادروا بالإشراك ومعاودة الضلال والعصيان والكفران.
قوله :﴿ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ وهذا الوعيد والتهديد ؛ أي تمتعوا أيها الجاحدون الضالون بما أوتيتم من نعمة فسوف ترون ما يعقب هذا الرخاء الزائل من العذاب المهين.
قوله :﴿ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ﴾ ﴿ أم ﴾ للاستفهام الإنكاري. والسلطان بمعنى الحجة أو البرهان. والمراد : أن الله لم ينزل بما يتقوّلونه ويفترونه من دعوة الشرك وعبادة الآلهة مع الله ﴿ سُلْطَانًا ﴾ أي حجة أو برهانا من كتاب أو رسول ينطق بصدق إشراكهم وكفرهم.
قوله ﴿ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا ﴾ تلك هي حال أكثر الناس سواء فيهم المشركون أو ضَعَفَة الإيمان من المسلمين، الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم رسوخا، فأولئك إذا أصابهم الله برحمته كالخصب والرخاء والسعة والأمن والعافية في الأبدان والأولاد وغير ذلك من وجوه النعم ﴿ فَرِحُوا بِهَا ﴾ أي فرحوا بهذه النعم.
قوله :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴾ إن، شرطية، وجوابها ﴿ إذا ﴾ بمنزلة الفاء١ أي إذا أصابهم بلاء أو شدة كالجدب أو القحط أو المرض أو غير ذلك من ضروب المرض بسبب عصيانهم وذنوبهم ﴿ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴾ أي يأسون من الفرج وانكشاف البلاء والكروب.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٥١..
قوله ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ ﴾ أو لم ير هؤلاء الذين يفرحون بالنعم والخيرات، وييأسون من حصول الفرج وانكشاف البلاء، أن الله بيده كل شيء ؛ فهو الذي يوسع على من يشاء من عباده أو يضيّق على من يشاء منهم ؛ لما يعلمه الله في ذلك من الحكمة. فما ينبغي أن يستيئس المسلمون المبتلون بالشدائد والمحن من رحمة الله.
وما ينبغي للإياس أن يجد إلى نفوسهم سبيلا. وإنما الإياس والقنوط شأن الكافرين والمنافقين والخائرين من ضَعَفَة الإيمان.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ اسم الإشارة ﴿ ذلك ﴾ يعود على بسط الرزق على من بسط الله عليه، وتضييقه وتقتيره على من أراد التقتير عليه.
وفي هذا لدلالة على بالغ الحكمة لله في كل ما يريد ويفعل١.
١ تفسير الرازي ج ٢٥ ص ١٢٣، والكشاف ج ٣ ص ٢٢٣، وتفسير الطبري ج ٢١ ص ٢٨-٢٩..
قوله تعالى :﴿ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٣٨ ) وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ( ٣٩ ) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
يأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإيتاء أولي القربى من الأهل وذوي الأرحام من البر والإحسان والصلة ؛ فهؤلاء يجب البر بهم ببذل المال لهم إن كان ذلك مستطاعا. أما صلتهم فإنها واجبة في كل حال إلا لعذر من مرض أو خوف أو فتنة ؛ فإنه لا يقطع صلة الأرحام متعمدا إلا كل خاسر أثيم.
وقد أوجب الله كذلك إعطاء المسكين من مال الله. والمسكين، الذي لا يجد شيئا يقتاته أو ينفقه على نفسه وعياله أو كان يملك القليل النزر الذي لا يكفيه ولا يسد خلته، وكذلك أوجب إعطاء ابن السبيل : وهو المسافر المنقطع عن أهله ووطنه وقد أعوزته البُلغة من العيش أو ما ينفقه على نفسه
قوله :﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ﴾ الإشارة إلى الإحسان والبر بذي القربى والمسكين والمسافر ؛ فإن ذلك خير للذين يقصدون وجه الله ويبتغون الفوز والنجاة في الآخرة.
قوله :﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ أي الفائزون بخير العاقبة وحسن المصير في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ﴾ المراد بذلك : ما يعطيه الناس بعضهم لبعض غير مبتغين بذلك وجه الله، وإنما يبتغون أن يُعطوا أكثر مما قدموا. ومثال ذلك : الهدية يغدقها المرء على غيره وهو يريد أن يُعطى هدية أكبر منها فلذلك لا إثم فيه على المعطي ولكن لا أجر له. وعلى هذا فإن الربا، قسمان : ربا حلال، وربا حرام. فأما الحلال : فهو الذي يُهدي يلتمس به المُهدي ما هو أفضل منه. وليس في ذلك أجر ولا وزر. وأما الربا الحرام فهو ما كان من ربا في البيع.
قوله :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ أي ما أعطيتم من صدقة، واجبة كانت أو تطوعا، تبتغون بها وجه الله ورضاه ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ أي ذلك الذي يقبله الله عز وعلا ويضاعف من أجله الأجر والحسنات أضعافا كثيرة.
قوله :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ ذلك احتجاج من الله على المشركين السفهاء الذين عبدوا الأصنام واتخذوا الأنداد والشركاء من دون الله ؛ إذ يُذكّرهم أنه الذي خلقهم وأنشأهم وصوَّرهم في أحسن صورة، وأنه هو رازقهم من خيره وفضله بأصناف الرزق، ثم هو مميتهم عقب ذلك. فمحييهم حين تقوم الساعة ليعاينوا الحساب والجزاء. لا جرم أن هذه صنائع كبريات لا يستطيع القيام بها وتحقيقها من أحد سوى الله المقتدر. ولذلك خاطبهم الله على جهة الاستفهام والتقريع ﴿ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ ﴾ هل تستطيع آلهتكم المزعومة المفتراة أن تفعل شيئا مما ذكر ؟. لا ريب أنها عاجزة بالغ العجز أن تفعل شيئا من الخلق أو الرزق أو الإماتة أو الإحياء والبعث.
قوله :﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ يقدس الله ذاته وينزّه جلاله الكريم عن كل ما يفتريه عليه المبطلون الظالمون من الأنداد والشركاء أو الأولاد والصاحبة١.
١ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٣٤، وتفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٦-٤٠..
قوله تعالى :﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٤١ ) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ﴾.
المراد بالفساد ههنا القحط ونقص الزروع والثمرات وذهاب البركة. والمراد بالبر : الفيافي والفلوات أي المفاوز. أما البحر : فمعناه هنا الأمصار والأرياف والقرى، والمعنى : استبان النقص في الزروع والخيرات والثمرات بسبب ما يقترفه الناس من الذنوب والمعاصي والظلم. فإن زوال النعمة والبركة عن العباد سببه المعاصي والخطايا. وهو قوله :﴿ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ﴾ أي ليعاقبهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات والأسقام وغير ذلك من وجوه المحن بسبب بعض ذنوبهم ومعاصيهم ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ أي لكي يبوءوا بآثامهم ويرجعوا إلى الله مبادرين بالتوبة ومجانبة المعاصي.
قوله :﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ ﴾ أي قل لقومك يا محمد : سيروا في البلاد فانظروا مساكن الكافرين والفاسقين من قبلكم، الذين أشركوا بربهم وكذبوا بما جاءهم من عند الله، وانظر كيف كان عاقبة كفرهم وتكذيبهم أنا أهلكناهم ودمرنا عليهم. وهذه عاقبة الذين يعرضون عن دين الله ويأبون إلا الكفر والتكذيب والعصيان.
قوله :﴿ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ﴾ أي أهلكنا السابقين وأخذناهم بالعذاب والتدمير ؛ لأن أكثرهم كانوا مكذبين مشركين مثل هؤلاء.
قوله تعالى :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( ٤٣ ) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( ٤٤ ) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لا َيُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ الخطاب من الله ولرسوله، وأمته. والمعنى : وجِّه وجهك نحو الدين المستقيم، دين الإسلام الذي لا عوج فيه ولا زيغ، فهو المنزّل عليك من رب العالمين ليكون للناس هداية ونورا ﴿ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾ وذلك أمر من الله لعباده بالمبادرة إلى التوجه نحو الإسلام، الدين الحق المستقيم من قبل أن يأتي يوم القيامة، فإنه إذا جاء لا يرده الله عنهم ولا يقدر أحد أن يدفعه عنهم.
قوله :﴿ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴾ من الصدع، وهو الشق. وتصدع القوم، أي تفرقوا١ وفي هذا اليوم العصيب الذي تتزلزل فيه القلوب والأبدان يتصدع الناس، أي يتفرقون فرقتين، واحدة تساق إلى الجنة، والأخرى يُصار بها إلى النار.
١ مختار الصحاح ص ٣٥٨ وأساس البلاغة ص ٣٥٠..
قوله :﴿ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ﴾ لا يُجزى الكافر الخاسر إلا سوء عمله فعليه ما حُمّل من الوزر يوم يلقاه الحساب ﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾ ﴿ يَمْهَدُونَ ﴾ من المهد، وهو المضجع أو الفراش. مهَّد الأمر أي وطَّأه وسواه١ والمعنى : أن المؤمنين الذين يعملون الصالحات يوطئون لأنفسهم يوم القيامة خير مستقر وخير مسكن.
١ مختار الصحاح ص ٧٢٧ وأساس البلاغة ص ٦٨٠..
قوله :﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ ﴾ أي ليجزي الله من فضله وإحسانه أولئك المؤمنين الذين يوطئون لأنفسهم قرارا في الآخرة، أو الذين يصَّدَّعون فيتفرقون. وحينئذ يتميز المؤمن من الكافر، فيجزي الله المؤمنين بإيمانهم ﴿ إِنَّهُ لا َيُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ الكفر بغيض إلى الله وهو سبحانه يبغض الذين استكبروا عن الإذعان لجلاله وأعرضوا عن دينه وما جاءهم به المرسلون١.
١ تفسير الطبري ج ٢١ ص ٣٣، ٣٤ وفتح القدير ج ٣ ص ٢٢٩..
قوله تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٤٦ ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
يبين الله بعضا من أدلته على وحدانيته، وجلال شأنه وعظيم اقتداره. ومن جملة هذه الأدلة والعلامات إرساله الرياح ﴿ مُبَشِّرَاتٍ ﴾ أي تبشر بنزول الغيث والرحمة ﴿ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ ﴾ أي ينعم عليكم بالرحمة وهي الخصب والسعة. وهذه رحمة من الله يمنُّ بها الله على العباد فيعمهم الخير والبحبوحة ﴿ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ﴾ أي تجري السفن في البحر بهبوب الرياح الدافعة لها بأمر الله.
على أن الرياح تظل سببا في حركة الوسائط النقلية جميعا سواء في الزمن الماضي ؛ إذ كانت السفائن على ظهر الماء تندفع جارية بفعل الريح الدافعة. وهي في الزمن الراهن تؤثر في كل وسائل النقل البخارية والميكانيكية والكهربية. وذلك بما يتضمنه الهواء من مختلف المركبات والعناصر، ومن بينها العنصر الأهم وهو الأوكسجين.
فإنه العامل الأساسي في استخراج الطاقة الحرارية وبقائها. وكل ذلك بأمر الله وتقديره وكماله سلطانه.
قوله :﴿ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ﴾ أي تلتمسوا الأرزاق والمعايش بالتجارات وأنتم تجوبون البحار لتصلوا البلاد والأمصار.
قوله :﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي تشكرون الله على ما أنعم به عليكم فتفردونه بالعبادة والطاعة والإذعان.
قوله :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ ﴾ هذه تسلية من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، إذ يذكره بالمرسلين من قبله فقد أوذوا في سبيله واحتملوا في دعوتهم إلى الله، الشدائد والمكاره من أقوامهم الضالين المكذبين. وذلك كيلا يبتئس مما يجده من المشركين من أنواع البلاء والأذى.
قوله :﴿ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ﴾ جاءوهم بالحجج الظاهرة البلجة، كالمعجزات ونحوها التي تشهد بصدق ما جاءوا به، فكذبوهم قومهم كما كذبك قومك فانتقم الله منهم بإجرامهم وتكذيبهم ؛ إذ أخذهم بالهلاك على اختلاف صوره.
قوله :﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ﴿ حَقًّا ﴾، خبر كان. واسمها، ﴿ نَصْرُ ﴾ أي أن نصر المؤمنين على الكافرين حق أوجبه الله على نفسه. وهذا وعد من الله لا يختلف وحقيقة راسخة مستقرة ومسطورة لا تقبل المراء أو الشك. وهي أن الله ناصر عباده المؤمنين الموحدين الذين استقاموا على صراطه الحق والتزموا شرعه ومنهجه للحياة فأطاعوه وأذعنوا لجلاله بالخضوع والاستسلام ولم يرتضوا عن دين الإسلام أيما بديل. أولئك هم المؤمنون الثابتون على الحق، السائرون في ضياء الإسلام المشرق، المتوكلون على الله حق التوكل بعد أن جهدوا ما استطاعوا في اتخاذ الأسباب المادية والمعنوية إعدادا لكل معركة يجاهدون فيها أعداء الله. لا جرم أن أولئك المؤمنين الصادقين المخلصين سيكتب الله لهم النصر والتأييد والإعزاز١.
١ تفسير الطبري ج ٢١ ص ٣٤-٣٥، وفتح القدير ج ٣ ص ٢٢٩..
قوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ٤٨ ) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ( ٤٩ ) فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٥٠ ) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ﴾.
هذا إخبار من الله عن بالغ قدرته على خَلق ما يشاء ؛ فهو جل وعلا خالق كل شيء وهو مدبر الأمور في الكون كله. ومن جملة ذلك إنزال المطر من السماء عقب مراحل متتالية في الطبيعة يأتي بعضها إثر بعض وذلك بدءا يتصاعد البخار من ماء الأرض وظهوره في السماء ليلامس في الفضاء طبقات باردة مما يفضي إلى تكثفه ونزوله على الأرض ثانية مطرا. لا جرم أن الآية الكريمة ههنا ؛ إذ تنبئ قبل أدهار طويلة عن ظاهرة المطر وكيفية نزوله، لهي دليل ظاهر ساطع على أن هذا القرآن يسمو على مستوى البشر وهو من صنع إله قادر حكيم، إذ خاطب البشرية بهذه الحقيقة قبل أحقاب غابرة، حينما كانت معارف الناس عن الطبيعة وأحداثها في غاية البساطة والبدائية. وذلك هو قوله :﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ﴾ إرسال الرياح إنما يقع بقدرة الله ومشيئته. فما من شيء في الطبيعة والكون إلا وتُسيره إرادة الله الخالق المدبّر. والرياح من شأنها أن تثير السحاب ؛ أي تهيجه وتنشره في طبقات السماء١على أبعاد مختلفة متفاوتة. والسحاب والسحب والسحائب، جمع ومفرده سحابة وهي الغيم٢.
قوله :﴿ فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء ﴾ البسط، معناه النشر٣ فالله عز وجلا يسخر الرياح لتحمل في خلالها الغيم، وهو المكون من ذرات الماء، فتنشره في السماء متفرقا ممتدا تبعا لما تقتضيه مشيئة الله، فإن شاء جعله قريبا أو بعيدا، وإن شاء جعله كثيرا أو قليلا.
قوله :﴿ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا ﴾ أي يجعل الغيم في السماء قطعا متفرقة.
قوله :﴿ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ﴾ ﴿ الْوَدْقَ ﴾، معناه المطر٤ أي يخرج المطر من خلال السحاب وهو الغيم فينزل على الأرض ﴿ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ أي إذا صرف الله هذا المطر إلى أرض أو بلد من البلاد استبشر أهله بذلك، وعمتهم الفرحة والبشرى.
١ مختار الصحاح ص ٨٩، وأساس البلاغة ص ٧٩..
٢ نفس المصدر السابق..
٣ أساس البلاغة ص ٣٩..
٤ أساس البلاغة ص ٦٧٠..
قوله :﴿ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ﴾ في تكرير ﴿ قَبْلِ ﴾ وجهان. أحدهما : أن يكون التكرير للتأكيد.
والثاني : أن يكون التقدير : وإن كانوا من قبل أن ينزل الغيث عليهم من قبل السحاب لمبلسين. والضمير يعود إلى السحاب.
في قوله سبحانه :﴿ فَتُثِيرُ سَحَابًا ﴾ ١ أي إن هؤلاء الذين استبشروا وفرحوا بنزول المطر عليهم كانوا قبل نزوله مكتئبين باحتباسه عنهم. أو كانوا مستيئسين قانطين. ٥٠
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٥٢..
قوله :﴿ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ يخاطب الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته أن تفكروا في نزول المطر، كيف يحيي به الله الأرض، إذ ينبت فيها الزرع بعد مواتها وهمودها. أفلا يقدر من بعث الحياة في الأرض بالزرع والخصب والنماء، أن يحيي الموتى من العباد فيبعثهم من قبورهم. لا جرم أن الله يبعث من في القبور فيحشرهم جميعا ليلاقوا الحساب والجزاء. وذلك قوله :﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
قوله :﴿ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا ﴾ الهاء في قوله :﴿ فَرَأَوْهُ ﴾ تعود إلى الزرع وقيل : إلى السحاب١. و ﴿ مُصْفَرًّا ﴾ من الاصفرار وهو اليبس بعد الاخضرار ؛ أي لو أرسلنا ريحا فيها ضررا –كأن تكون حارة أو باردة- على زرعهم الذي زرعوه ونما واخضرّ واستوى على سوقه ثم اصفر وفسد بفعل الريح الضارة ﴿ لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ﴾ لسوف يظلون من بعد فرحهم وإعجازهم يجحدون نعمة الله. وذلكم هو الإنسان ؛ فإنه بطبعه عجول ؛ فهو يبتهج بالنعمة ويهش لها غاية الهشاشة ويغشاه بسببها الفرح والحبور، حتى إذا نزعها الله منه لحكمة من الحكم بادر إلى القنوط وكفران النعمة، إلا أن يؤتيه الله قوة في العزم ويخوله الصبر والثبات٢.
١ نفس المصدر السابق..
٢ تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٤٤-٤٥، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٣٧..
قوله تعالى :﴿ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ( ٥٢ ) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾.
يصف الله حال الكافرين المعاندين بالموتى الذين لا يسمعون ولا يعقلون ؛ لأنهم هامدون خامدون، لا حياة فيهم ولا حراك. وكذلك الكافرين الذين ختم الله على قلوبهم فهم أولو طبائع كزَّة لا تلين لموعظة ولا تستجيب لحجة أو برهان. أولئك هم الجاحدون المعاندون الذين لا تسددهم النصيحة ولا يعطفُ قلوبهم الوعظ الكريم الحسن. وهم كذلك يشبهون الصُّمَ الذين لا يسمعون النداء. والأصم إذا ولى مدبرا لا يرده أيُّما نداء رفيع ولا هتاف صارخ ؛ لأنه سادر في صممه لا يسمع. وكذلك الجاحد المعاند ذو الفطرة البور والنفس الفاسدة الكنود ؛ فإنه لا يتعظ بالنصح وحسن الحديث ولا يزدجر بالتحذير ولا التنذير.
قوله :﴿ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ ﴾ أي لا تستطيع أن تسدد إلى صواب المحجة من أعماه الله فضل عن سبيله وسلك سبيل الباطل. وهذه حقيقة الكافرين الذين يجحدون الحق ويحادّون الله ورسوله ويكذبون بمنهج الإسلام ويتصدون له بالمكائد والدسائس والمؤامرات والتشكيك أولئك المجرمون بور قد عموا عن رؤية الحق رؤية استبصار وتدبر، وصَموا عنه صمم الشاردين المستكبرين الموغلين في اللجاجة والعناد. أولئك جميعا لا يستطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهديهم إلى الحق، فيهتدوا، أو يرشدهم إلى محجة الإسلام فيرشدوا. وكذلك لا يستطيع الداعون إلى منهج الإسلام في كل زمان ومكان أن يحملوا المكابرين والمعاندين من الجاحدين على القناعة والتصديق ؛ لأن هؤلاء أولوا أذهان وإرادات وهمم مسلوبة، فما يجنحون بعد ذلك إلا للهوى والفسق والباطل.
وعلى هذا، فإنه حقيق بالمؤمنين الداعين إلى منهج الإسلام في كل زمان أن يجتهدوا في دعوة الطيبين من الناس، أولي الفطر السوية والطبائع السليمة ؛ أولئك المبرأون من الخلل والعيوب النفسية والفطرية، لا جرم أن هؤلاء المبرأين من عيوب النفس وأمراضها مهيأون وحدهم لاستقبال العقيدة الإسلامية، وتدبر التعاليم والمعاني التي جاء بها هذا الدين الحنيف.
قوله :﴿ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾ أي لا تُسمع يا محمد سماع تصديق وتدبُّر إلا الذين آمنوا بآياتنا ؛ فهؤلاء مصدقون موقنون أن الذي جئتهم به حق ؛ فهم يبادرون السماع والانتفاع بخير ما يسمعون ؛ لأنهم مستسلمون لأمر الله، مذعنون له بالخضوع والطاعة.
أما غلاظ الطبائع، قساة القلوب من المعاندين العتاة فإنهم لا يستجيبون لدعوتك لهم، ولا يصيخون لندائك إياهم بأنهم أشرار قد فسدت فيهم الفطرة وجنحت فيهم الطبائع والعقول.
قوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾.
هذا برهان ظاهر على أن الله حق وأنه الخالق القادر المبدع، وأنه بيده المقاليد وبيده ملكوت كل شيء. إن هذا دليل ساطع مجلجل يتدبره كل ذي نباهة وعقل من أولي الطبائع السليمة من الخلل والعيوب. وذلكم هو خَلق الإنسان أطوارا. وذلك خلال مراحل متتالية من يعقب بعضها بعضا، بدءا بكونه نطفة في بطن أمه ثم يصير بعد تلقيحه البويضة علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم تكسى العظام باللحم، ثم ينفخ فيه الروح وذلكم سرّ أودعه الله في كنه بني آدم ولا تقوى الكائنات على اصطناع مثله. وعقب ذلك كله مرحلة الفصام والخروج ؛ إذ يندلق الجنين مولودا من بطن أمه إلى آفاق الحياة الدنيا ليتقلّب في مراحله العديدة المتعاقبة بدءا بكونه رضيعا ثم يصير طفلا صغيرا ثم فتى يافعا ثم شاباًّ مكتمل القوة ومتانة الجسم. ثم يعقب ذلك ضعف ومشيب. وهو قوله :﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ﴾ ﴿ وَشَيْبَةً ﴾، مصدر ؛ أي بعد القوة في الجسد والهمة والإرادة والهيئة، يأخذ الإنسان في الكبر والمشيب ليتخلله الضعف كضعف الجسد والعزيمة والقدرة والفهم وكذلك ضعف الحواس كضعف السمع والبصر. وحينئذ يأخذ الإنسان في التداعي والهزال والهرم شيئا فشيئا حتى يفضي إلى المصير المحتوم وهو الموت. إلا أن يأتيه الموت من قبل ذلك.
قوله :﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاء ﴾ الله يفعل ما يريد ويصنع في الخلق ما يشاء. فهو الذي يخلق الصغر والكبر. والقوة والضعف، والشباب والمشيب.
قوله :﴿ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ الله عليم بشؤون خلقه، قدير على فعل ما يشاء ؛ لا يعز عليه شيء١.
١ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٣٨-٤٤٠، وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٤٤-٤٧..
قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ( ٥٥ ) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( ٥٦ ) فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾.
ذلك إخبار عن هول من أهوال القيامة إذا قامت، فحينئذ ﴿ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ ﴿ الْمُجْرِمُونَ ﴾ هم الذين فرطوا في دينهم وزاغوا عن منهج الله الحكيم وآثروا الاعوجاج على الاستقامة والهدى ؛ أولئك ينالهم من الرعب والذعر واليأس ما ينالهم، وهم إذا عاينوا شدائد القيامة ولمسوا فظائعها وفوادحها الثقال راحوا يحلفون-وهم واهمون- على أنهم ﴿ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ أي يحلفون أنهم لم يلبثوا في قبورهم غير ساعة قصيرة عابرة من نهار، أو أنهم لم يلبثوا في الدنيا غير ساعة. وذلك لسرعة انقطاعها وزوالها، وقيل : يحلفون كاذبون. وهذه حالهم في الكذب في الدنيا، وكذلك يكذبون في الآخرة.
وهو قوله :﴿ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ﴾، يُصرفون. أفكه عن رأيه : أي صرفه، ورجل أفاك : أي كذاب١ والمعنى : مثل ذلك الصرف كانوا يُصرفون عن الحق أو الصدق في الدنيا. أي كانوا يكذبون ويصدون عن دين الله وهو الحق.
١ أساس البلاغة ص ١٩..
قوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ﴾ يرد عليهم العلماء من المؤمنين قائلين لهم : لقد لبثتم في قبوركم إلى يوم البعث ﴿ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ﴾ أي هذا هو اليوم الذي تبعث فيه الخلائق من قبورهم للحساب والذي كنتم تكذبون به. والمراد بكتاب الله، علمه المثبت في اللوح المحفوظ.
قوله :﴿ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ أي ما كنتم تعلمون أن هذا اليوم حق، بل كنتم تستعجلونه تهكما واستخسارا. هكذا يقال للمجرمين يوم القيامة على سبيل التوبيخ والتبكيت، زيادة لهم في التنكيل. وحينئذ يصيبهم من شدائد الندم والقنوط ما يصيبهم، من غير أن يجديهم ذلك نفعا.
قوله :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ﴾ إذا قام الناس من قبورهم وأقسم المجرمون أنهم لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور غير ساعة واصطنعوا لأنفسهم المعاذير في هذا الموقف العصيب فإن ذلك لا ينفعهم ولا يغنيهم ولا يرد عنهم ما حاق بهم من عذاب محتوم واصب.
قوله :﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ أي لا يطلب منهم العتبى وهي الطاعة أو الرجوع إلى ما يرضي الله. يقال : استعتبني فأعتبته : أي استرضاني فأرضيته١ والمعنى : أن المجرمين الخاسرين يوم القيامة، لا يطلب منهم الإعتاب وهو الرجوع إلى الدنيا للطاعة والتوبة عما فعلوه من المعاصي٢.
١ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٤٠، وتفسير الرازي ج ٢٥ ص ٥٨٢..
٢ مختار الصحاح ص ٤١٠، والمعجم الوسيط ج ٢ ص ٥٨٢..
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ( ٥٨ ) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٥٩ ) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ﴾.
المراد بالأمثال : الصفات والقصص والحجج التي تدل على وحدانية الله وأنه المعبود الحق، المتفرد بالإلهية والربوبية. وهو قوله :﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾ أي مثَّلنا بمختلف الأمثال والدلائل التي تبين وحدانية الله وتكشف عن صدق ما جاء به المرسلون.
قوله :﴿ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ﴾ يعني لئن جئت هؤلاء المشركين المعاندين بآية، أي معجزة أو دلالة على صدق ما جئتهم به، ليجيبنّك هؤلاء الضالون الجاحدون قائلين :﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ﴾ يعني ما أنتم أيها المصدقون محمدا فيما جاءكم به من نبوة وكتاب إلا أصحاب أباطيل تتبعون السحر والباطل.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ الكاف في الإشارة في موضع نصب صفة لمصدر محذوف، أي مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الذين لا يتفكرون ولا يتدبرون ما يأتيهم من الأدلة والبينات.
قوله :﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ أي اصبر على أذى المشركين وما تلقاه منهم من المكاره وسوء الفعال، فإن الله ناصرك ومؤيدك ومظهر لك عن المشركين، ومنجز لك ما وعدك، فإن وعده حق وواقع لا يتخلف.
قوله :﴿ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ﴾ ﴿ يَسْتَخِفَّنَّكَ ﴾، من الاستخفاف استخف فلان فلانا أي استجهله واستفزّه، استخف قومه : أي حملهم على الخفة والجهل ؛ أي لا يحملنك قومك الضالون على الخفة فيستفزوك عن دينك ويثبطوك عن أمر الله. والذين لا يوقنون، أي لا يصدقون بالبعث ولا بالنبوة. وهو من اليقين، أي العلم وزوال الشك، ومنه أيقنت واستيقنت وتيقنت١.
١ الكشاف ج ٣ ص ٢٢٨، وتفسير البضاوي ص ٥٤٢، وفتح القدير ج ٣ ص ٢٣٢، وتفسير الرازي ج ٢٥ ص ١٣٨، والمصباح المنير ج ١ ص ١٨٩، وأساس البلاغة ص ١٧٠، ومختار الصحاح ص ٧٤٣..
Icon