تفسير سورة الرّوم

اللباب
تفسير سورة سورة الروم من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الروم
مكية١ وهي ستون آية، وثمان مائة وتسع عشرة كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاث حرفاً.
١ كلها من غير خلاف، وانظر: القرطبي ١٤/٢..

مكية وهي ستون آية، وثمان مائة وتسع عشرة كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاث حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿الم غُلِبَتِ الروم﴾ وجه تعلق هذه السورة بما قبلها أن الله تعالى لما قال: ﴿وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ وكان يجادل المشركين بنسبتهم إلى عدم العقل كما في قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨] وكان أهل الكتاب يوافقون النبي والإله كما قال: ﴿وإلهكم وَاحِدٌ﴾ [العنكبوت: ٤٦] وكانوا يؤمنون بكثير مما يقوله، بل كثير منهم كانوا مؤمنين (به) كما قال: ﴿فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [العنكبوت: ٤٧] أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور، وكان بين فارس والروم قتال والمشركون يودون أن تغلب فارس الروم لأن أهل فارس كانوا مجوساً آمنين، والمسلمين يَودُّون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث «كسرى» جيشاً إلى الروم واستعمل عليهم رجلاً (يقال له: شهريار وبعث «قيص» جيشاً واستعمل عليهم) رجلاً يدعى يحانس، فالتقيا باذْرِعاتَ، وبُصْرَى، وقال عكرمة: هي أذرعات وكسكر، وقال مجاهد: أرض الجزيرة، وقال مقاتل: الأردن وفلسطين هي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فغلبت فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة، فشق ذلك عليهم وفرح به كفار مكة وقالوا للمسلمين: إنكم
381
أهل الكتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أمّيُّون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الرُّوم وإنكم إن قاتلتمونا لنَظْهَرَنَّ عليكم فأنزل الله هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق بل الله قد يريد في ثواب المؤمنين من يبتليه، ويسلط عليه الأعادي، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى العذاب الأكبر قبل يوم الميعاد.

فصل


قد تقدم أن كل سورة افْتُتِحَتْ بحروف التَّهَجِّي فَإِن في أولها ذكرَ الكتاب أو التنزيلَ أو القرآنَ، كقوله: ﴿الم. ذلك الكتاب﴾ ﴿المص. كتاب﴾ ﴿طه ما أنزلنا عليك القرآن﴾ ﴿الم. تنزيل الكتاب﴾ ﴿حم. تنزيل من الرحمن الرحيم﴾ ﴿يس. والقرآن﴾ ﴿ق. والقرآن﴾ إلا هذه السورة وسورتين أخريين ذكرناهما في العنكبوت، وذكرنا الحكمة منهما هناك. وأما ما يتعلق بهذه السورة فنقول: إن السورة التي في أوائلها التنزيل والكتاب والقرآن في أوائلها ذكر ما هو معجزة فقدمت عليها الحروف على ما تقدم بيانه في العنكبوت، وهذه في أوائلها ذكر ما هو معجز وهو الإخبار عن الغيب، فقدمت الحروف التي لا يعلم معناها ليتنبه السامع فيقبل بقلبه على الاستماع لما ترد عليه المعجزة ويفزع للاستماع.
قوله: ﴿في أدنى الأرض﴾ زعم بعضهم أن «أل» عوض عن الضمير، وأن الأصل ﴿فِي أَدْنَى أرْضهم﴾ وهو قول كُوفي، وهذا على قول إن الهرب كان من جهة بلادهم، وأما من يقول: إنه من جهة بلاد العرب فلا يتأتى ذلك. وقرأ العامة «غُلِبَتْ» مبنياً للمفعول، وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخُدْري وابن عمر وأهل الشام ببنائه للفاعل.
قوله: ﴿في أدنى الأرض﴾ أي الروم من بعد غلب فارس إِيَّاهم. والغَلَبُ. والغَلَبَةُ «لُغْتَانِ» فعلى القراءة الشهيرة يكون المصدر مضافاً لمفعوله. ثم هذا المفعول إما أن يكون مرفوع المحل على أن المصدر المضاف إليه مأخذو من مبني (للمفعول) على خلاف في ذلك. وإما منصوب المحل على أن المصدر من مبني للفاعل، والفاعل محذوف تقديره: من بعد أن غلبهم عدوهم وهم فارس، وأما على القراءة الثانية فهو مضاف لفاعله.
382
قوله: «سَيَغْلِبُونَ» خبر المبتدأ، و ﴿مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ متعلق به، والعامة - بل نقل بعضهم الإجماع - على سيغلبون مبنياً للفاعل، فعلى الشهيرة واضح أي من بعد أن غلبتهم فارس سيغلبون فارس، وأما على القراءة الثانية فأخبر أنهم سيغلبون ثايناً بعد أن غلبوا أولاً، وروي عن ابن عمر أنه قرأ ببنائه للمفعول. وهذا مخالف لما ورد في سبب الآية، وما ورد في الأحاديث، وقد يلائم هذا بعض ملاءمة من قرأ «غَلَبَتْ» مبنياً للفاعل، وقد تقدم أن ابن عمر ممن قرأ (بذلك). وقد خرج النحاس قراءة عبد الله بن عُمَر على تخريج حسنٍ، وهو أن المعنى: وفارس من بعد غلبهم للروم سيغلبون إلا أن فيه إضمار ما لم يذكر ولا جرى سبب ذكره.
قوله: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ متعلق بما قبله، وتقدم تفسير البضع واشتقاقه في «يُوسُفَ». وقال الفراء: الأصل في غلبهم غلبتهم بتاء التأنيث فحذلت للإضافة كإقامة ضرورة تدعو إليه، وقرأ ابن السَّمَيفَع وأبو حيوة غلبهم فيحتمل أن يكون ذلك تخفيفاً شاذّاً، وأن يكون لغة في المفتوح كالظَّعَنِ والظَّعْنِ.
383

فصل


قوله: ﴿في أَدْنَى الأرض﴾ أي أرض العرب، لأن الألف واللام للعهد، والمعهود عندهم أرضهم. فإن قيل: أي فائدة في ذكر قوله: ﴿من بعد غلبهم﴾ لأن قوله: «سيغلبون» بعد قوله: «غلبت الروم» لا يكون إلا من بعد الغلبة؟
فالجواب: فائدته إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفاً فلو كان غلبتهم بشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعد ما غلبوا دل عليه أن ذلك بأمر الله (فقال) من بعد غلبهم فيتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بقوتهم وإنما ذلك بأمر هو من الله، وقوله: في أدنى الأرض لبيان شدة ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طرف الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك «الرومية» لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإن الله تعالى.

فصل


قال: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ وهو ما بين الثلاثة والعشرة فأبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم لأن السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله وبينها لنبيه، وما أذن له في إظهاره لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلاف في كلامه، ولَمَّا نزلت الآية خرج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكفار فقال: فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فواللَّه لتَظْهَرَنَّ الرُّوم على فارسَ أخبرنا بذلك نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقام إليه أُبَيُّ بن خلف الجُمَحِيّ فقال: كَذَبْتَ فقال: أنت أكذبُ يا عدوَّ اللَّهِ (فقال اجعل بيننا) أجلاً أن احبك عليه، والمناحبة المراهنة على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت، وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأخبره بذلك، وذلك قبل تحريم القُمَار، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر، وماده (في الأجل) فجعلها مائة قلوص، إلى تسع سنين، وقيل: إلى سبع سنين قال: قد فعلت وهذا يدل على علم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بوقت الغَلَبَةِ ثم إنّ أبيّ بْنَ خلف خَشِيَ أن يخرج أبو بكر من مكة فأتاه ولزمه وقال (أبيّ) : أخاف أن تخرج من مكة فأقم
384
لي كفيلاً فكفل له ابن عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد رآه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال: والله لا أدَعُكَ حتى تُعْطِيَنِي كفيلاً فأطاه، ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم.
وقيل: كان يوم بدر، قال الشعبي: لم تَمْض تلك المدة التي عقدوا المانحبة بينهم أهل مكة وصاحب قمارهم أبي بن خلف والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر الصديق، وذلك قبل تحريم القمار حتى غلبت الروم فارس، وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فقمر أبو بكر أبيّاً، وأخذ مال الخطر من ورثته، وجاء به يحمله إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تصدق به.
قوله: ﴿مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ العامة على بنائها ضمّاً لقطعهما على الإضافة وإرادتهما أي من قَبْلِ الغَلَبِ ومِن بَعْدِهِ أو من قبل كل أمر ومن بعده، وإنما بني على الضم لما قطعت عن الإضافة لأن غير الضمة من الفتح والكسرة تشبيه بما يدخل إليهما وهو النصب والجر، أما النصب ففي قولك: «جِئْتُ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ».
وأما الجر ففي قولك: «من قبلِه ومن بَعْدِه» فبني عليه لعدم دخول مثلها عليه في الإعراب وهو الرفع، وحكى الفراء كسرها من غير تنوين. وغلطه النحاس وقال: إنما يجوزُ من قبل ومن بعد يعني مكسوراً منوناً، قال شهاب الدين: وقد قرىء بذلك ووجهه أنه لم ينو إضافتهما فَأَعْرَبَهُمَا كقوله:
٤٠٣٣ - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً أَكَاد أَغُصُّ بِالمَاءِ القُرَاحِ
وقوله:
٤٠٣٤ - وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّة فَمَا شَرِبُوا بَعْداً عَلَى لذَّةٍ خَمْرَا
وحكي من قبلٍ بالتنوين والجر ومن بعدُ بالبناء على الضم.
385
وقد خرج بعضهم ما حكاه الفراء على أنه قدر أن المضاف إيله موجود فترك الأول بحاله وأنشد:
٤٠٣٣ -........................ بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ
والفرق لائح، فإن في اللفظ مثل المحذوف على خلاف في تقدير البيت أيضاً.
(فصل)
وعلى قراءة عبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري، والحسين، وعيسى بن عمر غَلَبَتِ الروم بفتح الغين واللام سيُغْلَبون بضم الياء وفتح اللام. قالوا: نزلت حين أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن غلبة الروم فارساً في أدنى الأرض (إليكم) وهم من بعد غلبهم سيغلبون المسلمين في بضع سنين وعند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم والأول قول أكثر المفسرين وهو الأصح ولله الأمر من قبل وم نبعد أي من قبل دولة الروم على فارس ومن بعدها فأي الفريقين كان لهم الغلبة فهو بأمر الله وقضائه وقدره.
قوله: «ويَوْمَئِذٍ» أي إذ تغلبُ الروم فارساً، والنصاب «ليوم» (يفرح وقوله «بنصر الله ينصر» من التجنيس، وقد تقدم آخر الكهف، وقوله: بنصر الله «الظاهر تلقه» بيفرح). وجوز أبو البقاء أن يتعلق «بِيَنْصُرُ» وهذا فيه تفكيك للنَّظْمِ.

فصل


المعنى: يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله الروم على فارس. قال السدي: فرح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
386
والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر، فظهر أهل الكتاب على أهل الشرك ﴿ينصر من يشاء وهو العزيز﴾ الغالب «الرحيم» للمؤمنين.
387
قوله :﴿ في أدنى الأرض ﴾ زعم بعضهم أن «أل » عوض من الضمير، وأن الأصل ﴿ فِي أَدْنَى أرْضهم ﴾ وهو قول كُوفي، وهذا على قول إن الهرب كان من جهة بلادهم، وأما من يقول : إنه من جهة بلاد العرب فلا يتأتى ذلك. وقرأ العامة «غُلِبَتْ » مبنياً للمفعول، وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخُدْري وابن عمر وأهل الشام ببنائه للفاعل١.
قوله :﴿ وهم من بعد غلبهم ﴾ أي الروم من بعد غلب فارس إِيَّاهم. والغَلَبُ. والغَلَبَةُ «لُغَتَانِ » فعلى القراءة الشهيرة يكون المصدر مضافاً لمفعوله. ثم هذا المفعول إما أن يكون مرفوع المحل على أن المصدر المضاف إليه مأخذ من مبني ( للمفعول٢ ) على خلاف في ذلك. وإما منصوب المحل على أن المصدر من مبني للفاعل، والفاعل محذوف تقديره : من بعد أن غلبهم عدوهم وهم فارس٣، وأما على القراءة الثانية فهو مضاف لفاعله.
قوله :«سَيَغْلِبُونَ » خبر المبتدأ، و ﴿ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ ﴾ متعلق به، والعامة - بل نقل بعضهم الإجماع٤ - على سيغلبون مبنياً للفاعل، فعلى الشهيرة واضح أي من بعد أن غلبتهم فارس سيغلبون فارس، وأما على القراءة الثانية فأخبر أنهم سيغلبون ثانياً بعد أن غلبوا٥ أولاً، وروي عن ابن عمر أنه قرأ ببنائه للمفعول٦. وهذا مخالف لما ورد في سبب الآية، وما ورد في الأحاديث، وقد يلائم هذا بعض ملاءمة من قرأ «غَلَبَتْ » مبنياً للفاعل، وقد تقدم أن ابن عمر ممن قرأ ( بذلك٧ ). وقد خرج النحاس٨ قراءة عبد الله بن عُمَر على تخريج حسنٍ، وهو أن المعنى : وفارس من بعد غلبهم للروم٩ سيغلبون إلا أن فيه إضمار ما لم يذكر ولا جرى سبب ذكره١٠.
١ انظر: مختصر ابن خالويه ١١٦، ومعاني القرآن للفراء ٢/٣١٩. ولم يروها الفراء عن غيره، وانظر: البحر المحيط ٧/١٦١، والقرطبي ١٤/٤. وقد نسب الزجاج هذه القراءة أيضاً إلى أبي عمرو وانظر: معاني الزجاج ٤/١٧٥ بينما اقتصر الزمخشري في الكشاف على القراءة المشهورة ٣/٢٤١، وكذلك غير المشهورة بدون ذكر نسبة..
٢ سقطت من "ب"..
٣ قال أبو إسحاق الزجاج في كتابه إعراب القرآن ومعانيه: "الغلب والطلب مصدران تقول: غلبت غلباً وطلبت طلباً". انظر: معاني الزجاج ٤/١٧٧ وانظر: الكشاف ٣/٢١٤، والدر المصون ٤/٣١٢ والتبيان ١٠٣٦..
٤ هو ابن عطية قال: "وأجمع الناس على "سيغلبون" أنه بفتح الياء يراد به الروم" انظر: المحرر الوجيز "ميكروفيلم"..
٥ في "ب" تغلبوا..
٦ انظر: مختصر ابن خالويه ١١٦، وإعراب القرآن المنسوب للزجاج ٢/٤٦١، والدر المصون ٤/٣١٣، والقرطبي ١٤/٥، وإعراب القرآن للنحاس ٣/٢٦١ لكنه قال: "ستغلبون" بالبناء للمجهول من ناحية الخطاب..
٧ ساقط من "ب"..
٨ النحاس: هو أبو جعفر أحمد بن محمد المصري، تلقى مبادئ اللغة بمصر ثم ارتحل إلى العراق فتلقى عن الأخفش، والزجاج وابن الأنباري كان قويَّ الذاكرة جيد التصنيف، مات مقتولاً سنة ٣٣٧ هـ. انظر: نشأة النحو ١٥٧..
٩ لم أجد في كتاب أبي جعفر النحاس هذا التأويل والتخريج ولعل هذا راجع إلى اختلاف نسخ الكتاب وقد ذكر هذه القراءة الواردة عن ابن عمر..
١٠ انظر: إعراب القرآن المسمى "الدر المصون" في علوم الكتاب المكنون" للسمين ٤/٣١٣..
قوله :﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ متعلق بما قبله، وتقدم تفسير البضع واشتقاقه في «يُوسُفَ »١. وقال الفراء : الأصل٢ في غلبهم غلبتهم بتاء التأنيث فحذلت للإضافة كإقام الصلاة، وغلطه النحاس بأن إقام الصلاة قد يقال فيها٣ ذلك لاعتلالها، وأما هنا فلا ضرورة تدعو إليه، وقرأ ابن السَّمَيفَع٤ وأبو حيوة غلبهم٥ فيحتمل أن يكون ذلك تخفيفاً شاذّاً، وأن يكون لغة في المفتوح كالظَّعَنِ والظَّعْنِ.

فصل :


قوله :﴿ في أَدْنَى الأرض ﴾ أي أرض العرب، لأن الألف واللام للعهد، والمعهود عندهم أرضهم. فإن قيل : أي فائدة في ذكر قوله :﴿ من بعد غلبهم ﴾ لأن قوله :«سيغلبون » بعد قوله :«غلبت الروم » لا يكون إلا من بعد الغلبة ؟.
فالجواب : فائدته إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفاً فلو كان غلبتهم بشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعد ما غلبوا دل عليه أن ذلك بأمر الله ( فقال )٦ من بعد غلبهم ليتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بقوتهم وإنما ذلك بأمر هو من الله، وقوله : في أدنى الأرض لبيان شدة ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طرف الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك «الرومية » لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإذن الله تعالى٧.

فصل :


قال :﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ وهو ما بين الثلاثة والعشرة فأبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم لأن السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله وبينها لنبيه، وما أذن له في إظهاره لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلاف في كلامه، ولَمَّا نزلت الآية خرج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكفار فقال : فرحتم بظهور٨ إخوانكم فلا تفرحوا فواللَّه لتَظْهَرَنَّ الرُّوم على فارسَ أخبرنا بذلك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه أُبَيُّ بن خلف الجُمَحِيّ فقال : كَذَبْتَ فقال : أنت أكذبُ يا عدوَّ اللَّهِ ( فقال اجعل بيننا٩ ) أجلاً أناحبك عليه، والمناحبة المراهنة على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت، وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، وذلك قبل تحريم القُمَار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده١٠ في الخطر، وماده ( في١١ الأجل ) فجعلها مائة قلوص، إلى تسع سنين، وقيل : إلى سبع سنين قال : قد فعلت وهذا يدل على علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقت الغَلَبَةِ ثم إنّ أبيّ بْنَ خلف خَشِيَ أن يخرج أبو بكر من مكة فأتاه ولزمه١٢ وقال ( أبيّ١٣ ) : أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلاً فكفل له ابن عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد رآه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال : والله لا أدَعُكَ حتى تُعْطِيَنِي كفيلاً فأعطاه، ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم.
وقيل : كان يوم بدر، قال الشعبي : لم تَمْض١٤ تلك المدة التي عقدوا المناحبة بينهم أهل مكة وصاحب قمارهم أبي بن خلف والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر الصديق، وذلك قبل تحريم القمار حتى غلبت الروم فارس، وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فقمر١٥ أبو بكر أبيّاً، وأخذ مال الخطر من ورثته، وجاء به يحمله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تصدق به١٦.
قوله :﴿ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾ العامة على بنائهما ضمّاً لقطعهما على الإضافة وإرادتهما أي من قَبْلِ الغَلَبِ ومِن بَعْدِهِ أو من قبل كل أمر ومن بعده، وإنما بني على الضم لما قطعت عن الإضافة لأن غير الضمة من الفتح والكسرة تشبيه بما١٧ يدخل عليهما وهو النصب والجر، أما النصب ففي قولك :«جِئْتُ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ ».
وأما الجر ففي قولك :«من قبلِه ومن بَعْدِه » فبني عليه لعدم دخول مثلها عليه في الإعراب وهو الرفع، وحكى الفراء كسرها من غير تنوين. وغلطه النحاس وقال : إنما يجوزُ من قبل١٨ ومن بعد يعني مكسوراً منوناً، قال شهاب الدين : وقد قرىء بذلك١٩ ووجهه أنه لم ينو إضافتهما فَأَعْرَبَهُمَا كقوله :
٤٠٣٣ - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً أَكَاد أَغُصُّ بِالمَاءِ القُرَاحِ٢٠
وقوله :
٤٠٣٤ - وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّة فَمَا شَرِبُوا بَعْداً عَلَى لذَّةٍ خَمْرَا٢١
وحكي من قبلٍ بالتنوين والجر ومن بعدُ بالبناء على الضم٢٢.
وقد خرج بعضهم ما حكاه الفراء على أنه قدر أن المضاف إليه موجود فترك الأول بحاله٢٣ وأنشد :
٤٠٣٣ -. . . . . . . . . . . . . . . . بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ٢٤
والفرق لائح، فإن في اللفظ مثل المحذوف على خلاف في تقدير البيت أيضاً.
( فصل )٢٥ :
وعلى قراءة عبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري، والحسين، وعيسى بن عمر غَلَبَتِ الروم بفتح الغين واللام سيُغْلَبون بضم الياء وفتح اللام. قالوا : نزلت حين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غلبة الروم فارساً في أدنى الأرض ( إليكم٢٦ ) وهم من بعد غلبهم سيغلبون المسلمين في بضع سنين وعند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم والأول قول أكثر المفسرين وهو الأصح ولله الأمر من قبل ومن بعد أي من قبل دولة الروم على فارس ومن بعدها فأي الفريقين كان لهم الغلبة فهو بأمر الله وقضائه وقدره.
قوله :«ويَوْمَئِذٍ » أي إذ تغلبُ الروم فارساً، والنصاب «ليوم » ( يفرح٢٧ وقوله :«بنصر الله ينصر » من التجنيس، وقد تقدم آخر الكهف، وقوله : بنصر الله «الظاهر تعلقه » بيفرح ). وجوز أبو البقاء٢٨ أن يتعلق «بِيَنْصُرُ » وهذا فيه تفكيك للنَّظْمِ.

فصل :


المعنى : يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله الروم على فارس. قال السدي : فرح النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر، فظهور أهل الكتاب على أهل الشرك ﴿ ينصر من يشاء وهو العزيز ﴾ الغالب «الرحيم » للمؤمنين.
١ يشير إلى قوله "فلبث في السجن بضع سنين" من الآية ٤٢..
٢ معاني القرآن للفراء ٢/٣٦٩..
٣ انظر: إعراب القرآن للنحاس ٣/٢٦١، ٢٦٢..
٤ ابن السميفع: محمد بن عبد الرحمن بن السميفع أبو عبد الله اليماني له اختيار في القراءة ينسب إليه شذ فيه، قرأ على أبي حيوة وطاوس. انظر: غاية النهاية ٢/١٦٢..
٥ قال ابن خالويه في المختصر: إنها لعلي كرم الله وجهه ونقلها أبو حيان في البحر عن علي، وابن عمر ومعاوية بن قرة ٧/١٦١ وانظر: مختصر ابن خالويه ١١٦..
٦ ساقط من "ب"..
٧ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٩٦..
٨ في "ب" لتطهور..
٩ ساقط من "ب"..
١٠ في "ب" فزاده..
١١ ساقط من "ب"..
١٢ في "ب" فلزمه..
١٣ ساقط من "ب" وفيها" وقال إني أخاف أن يخرج أبو بكر من مكة فأقم لي كفيلا"ً..
١٤ انظر: تفسير القرطبي ١٤/٣..
١٥ أي: غلبة..
١٦ انظر هذه القصص في تفسير القرطبي ١٤/١، ٢، ٣، ٤، ٥..
١٧ في "ب" ما يدخل عليهما. انظر: المعاني ٢/٣٢٠..
١٨ إعراب القرآن للنحاس ٣/٢٦٣: ٢٦٥..
١٩ انظر: الدر المصون ٤/٣١٤..
٢٠ البيت من الوافر، ويروى: من الماء الفرات، ومن الماء الحميم وهاتان هما المشهورتان وهو في أبيات تروى ليزيد بن الصعق، ورواية الشطر الأخير فيها: أًَكَادَ أُغَصُّ بنقطة الماء الحميم. يقول: إنه بعد أن أخذ بثأره استساغ له الشراب الذي كان لا يستسيغه قبل ذلك. والشاهد: حذف المضاف إليه لفظاً ومعنى؛ ولهذا نكر فنوَّن منصوباً. وقد تقدم..
٢١ البيت من الطويل وقائله مجهول. وقد تقدم..
٢٢ حكاه القرطبي في الجامع ١٤/٧ وأبو حيان في البحر ٧/١٦٢. ومعاني الزجاج ٤/١٧٦ وقد أنكرها هو والنحاس في الإعراب في ٤/٢٦٣..
٢٣ يقول أبو الفتح ابن جني في خصائصه: "وسمع أيضاً: "لله الأمر من قبل ومن بعد" فحذف ولم يَبْنِ".
انظر: الخصائص ٢/٣٦٥ وقد سبق إلى هذا المعنى الفراء نفسه فقال: "ولا تنكرنَّ أن تضيف قبل، وبعد وأشباههما وإن لم يظهر فقد قال... وقال الآخر، وأنشد البيت" المعاني ٢/٣٢٢..

٢٤ البيت من المنسرح وقد نسب إلى الفرزدق وليس بديوانه وقد استشهد فوق بشطره الثاني وصدره:
يا من رأى عارضاً أُكَفْكِفُهُ
ويروى: عارضاً أرقت له، ويروى: أُسَرُّ به، والعارض: السحاب المعترض في الأفق، وذراعاً الأسد وجبهته من منازل القمر يستدل بها على نزول المطر، والشاهد في البيت: حذف المضاف إليه وبقاء المضاف على حاله وهو قوله: "ذراعي" فلو لم يقصد ذلك لقال "ذراعين" فالنون حذفت للإضافة كما هو معروف لدى المثنى والجمع السالم فكان الأصل حينئذ "ذراعي الأسد وجبهة الأسد" وهذا على تقدير الفراء والمبرد بينما روى سيبويه غير ذلك حيث يؤدي إلى الفصل بين المضاف والمضاف إليه وهو ممنوع. انظر: الكتاب ١/١٨٠، والمقتضب ٤/٢٢٩، والخصائص ٢/٤٠٧ وابن يعيش ٣/٢١ وتمهيد القواعد ٢/٤٥٤ والتصريح ١/١٠٥ والأشموني ٢/٢٧٤ ومعاني الفراء ٢/٣٢٢ ومعاني الزجاج ٤/١٧٧ وإعراب النحاس ٣/٢٦٣ والمذكر والمؤنث للفراء ١١٥، والمذكر والمؤنث لابن الأنباري ١/٤٢٨، واللسان "يا" وسر صناعة الإعراب ١/٢٩٧، وخزانة الأدب ١/٣٦٩، ٢/٢٤٦ بولاق..

٢٥ ساقط من "ب"..
٢٦ زيادة من "أ"..
٢٧ ما بين المعقوفين ساقط كله من "ب"..
٢٨ انظر: التبيان ١٠٣٦..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤:قوله :﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ متعلق بما قبله، وتقدم تفسير البضع واشتقاقه في «يُوسُفَ »١. وقال الفراء : الأصل٢ في غلبهم غلبتهم بتاء التأنيث فحذلت للإضافة كإقام الصلاة، وغلطه النحاس بأن إقام الصلاة قد يقال فيها٣ ذلك لاعتلالها، وأما هنا فلا ضرورة تدعو إليه، وقرأ ابن السَّمَيفَع٤ وأبو حيوة غلبهم٥ فيحتمل أن يكون ذلك تخفيفاً شاذّاً، وأن يكون لغة في المفتوح كالظَّعَنِ والظَّعْنِ.

فصل :


قوله :﴿ في أَدْنَى الأرض ﴾ أي أرض العرب، لأن الألف واللام للعهد، والمعهود عندهم أرضهم. فإن قيل : أي فائدة في ذكر قوله :﴿ من بعد غلبهم ﴾ لأن قوله :«سيغلبون » بعد قوله :«غلبت الروم » لا يكون إلا من بعد الغلبة ؟.
فالجواب : فائدته إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفاً فلو كان غلبتهم بشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعد ما غلبوا دل عليه أن ذلك بأمر الله ( فقال )٦ من بعد غلبهم ليتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بقوتهم وإنما ذلك بأمر هو من الله، وقوله : في أدنى الأرض لبيان شدة ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طرف الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك «الرومية » لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإذن الله تعالى٧.

فصل :


قال :﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ وهو ما بين الثلاثة والعشرة فأبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم لأن السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله وبينها لنبيه، وما أذن له في إظهاره لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلاف في كلامه، ولَمَّا نزلت الآية خرج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكفار فقال : فرحتم بظهور٨ إخوانكم فلا تفرحوا فواللَّه لتَظْهَرَنَّ الرُّوم على فارسَ أخبرنا بذلك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه أُبَيُّ بن خلف الجُمَحِيّ فقال : كَذَبْتَ فقال : أنت أكذبُ يا عدوَّ اللَّهِ ( فقال اجعل بيننا٩ ) أجلاً أناحبك عليه، والمناحبة المراهنة على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت، وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، وذلك قبل تحريم القُمَار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده١٠ في الخطر، وماده ( في١١ الأجل ) فجعلها مائة قلوص، إلى تسع سنين، وقيل : إلى سبع سنين قال : قد فعلت وهذا يدل على علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقت الغَلَبَةِ ثم إنّ أبيّ بْنَ خلف خَشِيَ أن يخرج أبو بكر من مكة فأتاه ولزمه١٢ وقال ( أبيّ١٣ ) : أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلاً فكفل له ابن عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد رآه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال : والله لا أدَعُكَ حتى تُعْطِيَنِي كفيلاً فأعطاه، ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم.
وقيل : كان يوم بدر، قال الشعبي : لم تَمْض١٤ تلك المدة التي عقدوا المناحبة بينهم أهل مكة وصاحب قمارهم أبي بن خلف والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر الصديق، وذلك قبل تحريم القمار حتى غلبت الروم فارس، وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فقمر١٥ أبو بكر أبيّاً، وأخذ مال الخطر من ورثته، وجاء به يحمله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تصدق به١٦.
قوله :﴿ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾ العامة على بنائهما ضمّاً لقطعهما على الإضافة وإرادتهما أي من قَبْلِ الغَلَبِ ومِن بَعْدِهِ أو من قبل كل أمر ومن بعده، وإنما بني على الضم لما قطعت عن الإضافة لأن غير الضمة من الفتح والكسرة تشبيه بما١٧ يدخل عليهما وهو النصب والجر، أما النصب ففي قولك :«جِئْتُ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ ».
وأما الجر ففي قولك :«من قبلِه ومن بَعْدِه » فبني عليه لعدم دخول مثلها عليه في الإعراب وهو الرفع، وحكى الفراء كسرها من غير تنوين. وغلطه النحاس وقال : إنما يجوزُ من قبل١٨ ومن بعد يعني مكسوراً منوناً، قال شهاب الدين : وقد قرىء بذلك١٩ ووجهه أنه لم ينو إضافتهما فَأَعْرَبَهُمَا كقوله :
٤٠٣٣ - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً أَكَاد أَغُصُّ بِالمَاءِ القُرَاحِ٢٠

وقوله :
٤٠٣٤ - وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّة فَمَا شَرِبُوا بَعْداً عَلَى لذَّةٍ خَمْرَا٢١
وحكي من قبلٍ بالتنوين والجر ومن بعدُ بالبناء على الضم٢٢.
وقد خرج بعضهم ما حكاه الفراء على أنه قدر أن المضاف إليه موجود فترك الأول بحاله٢٣ وأنشد :
٤٠٣٣ -................ بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ٢٤
والفرق لائح، فإن في اللفظ مثل المحذوف على خلاف في تقدير البيت أيضاً.
( فصل )٢٥ :
وعلى قراءة عبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري، والحسين، وعيسى بن عمر غَلَبَتِ الروم بفتح الغين واللام سيُغْلَبون بضم الياء وفتح اللام. قالوا : نزلت حين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غلبة الروم فارساً في أدنى الأرض ( إليكم٢٦ ) وهم من بعد غلبهم سيغلبون المسلمين في بضع سنين وعند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم والأول قول أكثر المفسرين وهو الأصح ولله الأمر من قبل ومن بعد أي من قبل دولة الروم على فارس ومن بعدها فأي الفريقين كان لهم الغلبة فهو بأمر الله وقضائه وقدره.
قوله :«ويَوْمَئِذٍ » أي إذ تغلبُ الروم فارساً، والنصاب «ليوم » ( يفرح٢٧ وقوله :«بنصر الله ينصر » من التجنيس، وقد تقدم آخر الكهف، وقوله : بنصر الله «الظاهر تعلقه » بيفرح ). وجوز أبو البقاء٢٨ أن يتعلق «بِيَنْصُرُ » وهذا فيه تفكيك للنَّظْمِ.

فصل :


المعنى : يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله الروم على فارس. قال السدي : فرح النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر، فظهور أهل الكتاب على أهل الشرك ﴿ ينصر من يشاء وهو العزيز ﴾ الغالب «الرحيم » للمؤمنين.
١ يشير إلى قوله "فلبث في السجن بضع سنين" من الآية ٤٢..
٢ معاني القرآن للفراء ٢/٣٦٩..
٣ انظر: إعراب القرآن للنحاس ٣/٢٦١، ٢٦٢..
٤ ابن السميفع: محمد بن عبد الرحمن بن السميفع أبو عبد الله اليماني له اختيار في القراءة ينسب إليه شذ فيه، قرأ على أبي حيوة وطاوس. انظر: غاية النهاية ٢/١٦٢..
٥ قال ابن خالويه في المختصر: إنها لعلي كرم الله وجهه ونقلها أبو حيان في البحر عن علي، وابن عمر ومعاوية بن قرة ٧/١٦١ وانظر: مختصر ابن خالويه ١١٦..
٦ ساقط من "ب"..
٧ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٩٦..
٨ في "ب" لتطهور..
٩ ساقط من "ب"..
١٠ في "ب" فزاده..
١١ ساقط من "ب"..
١٢ في "ب" فلزمه..
١٣ ساقط من "ب" وفيها" وقال إني أخاف أن يخرج أبو بكر من مكة فأقم لي كفيلا"ً..
١٤ انظر: تفسير القرطبي ١٤/٣..
١٥ أي: غلبة..
١٦ انظر هذه القصص في تفسير القرطبي ١٤/١، ٢، ٣، ٤، ٥..
١٧ في "ب" ما يدخل عليهما. انظر: المعاني ٢/٣٢٠..
١٨ إعراب القرآن للنحاس ٣/٢٦٣: ٢٦٥..
١٩ انظر: الدر المصون ٤/٣١٤..
٢٠ البيت من الوافر، ويروى: من الماء الفرات، ومن الماء الحميم وهاتان هما المشهورتان وهو في أبيات تروى ليزيد بن الصعق، ورواية الشطر الأخير فيها: أًَكَادَ أُغَصُّ بنقطة الماء الحميم. يقول: إنه بعد أن أخذ بثأره استساغ له الشراب الذي كان لا يستسيغه قبل ذلك. والشاهد: حذف المضاف إليه لفظاً ومعنى؛ ولهذا نكر فنوَّن منصوباً. وقد تقدم..
٢١ البيت من الطويل وقائله مجهول. وقد تقدم..
٢٢ حكاه القرطبي في الجامع ١٤/٧ وأبو حيان في البحر ٧/١٦٢. ومعاني الزجاج ٤/١٧٦ وقد أنكرها هو والنحاس في الإعراب في ٤/٢٦٣..
٢٣ يقول أبو الفتح ابن جني في خصائصه: "وسمع أيضاً: "لله الأمر من قبل ومن بعد" فحذف ولم يَبْنِ".
انظر: الخصائص ٢/٣٦٥ وقد سبق إلى هذا المعنى الفراء نفسه فقال: "ولا تنكرنَّ أن تضيف قبل، وبعد وأشباههما وإن لم يظهر فقد قال... وقال الآخر، وأنشد البيت" المعاني ٢/٣٢٢..

٢٤ البيت من المنسرح وقد نسب إلى الفرزدق وليس بديوانه وقد استشهد فوق بشطره الثاني وصدره:
يا من رأى عارضاً أُكَفْكِفُهُ
ويروى: عارضاً أرقت له، ويروى: أُسَرُّ به، والعارض: السحاب المعترض في الأفق، وذراعاً الأسد وجبهته من منازل القمر يستدل بها على نزول المطر، والشاهد في البيت: حذف المضاف إليه وبقاء المضاف على حاله وهو قوله: "ذراعي" فلو لم يقصد ذلك لقال "ذراعين" فالنون حذفت للإضافة كما هو معروف لدى المثنى والجمع السالم فكان الأصل حينئذ "ذراعي الأسد وجبهة الأسد" وهذا على تقدير الفراء والمبرد بينما روى سيبويه غير ذلك حيث يؤدي إلى الفصل بين المضاف والمضاف إليه وهو ممنوع. انظر: الكتاب ١/١٨٠، والمقتضب ٤/٢٢٩، والخصائص ٢/٤٠٧ وابن يعيش ٣/٢١ وتمهيد القواعد ٢/٤٥٤ والتصريح ١/١٠٥ والأشموني ٢/٢٧٤ ومعاني الفراء ٢/٣٢٢ ومعاني الزجاج ٤/١٧٧ وإعراب النحاس ٣/٢٦٣ والمذكر والمؤنث للفراء ١١٥، والمذكر والمؤنث لابن الأنباري ١/٤٢٨، واللسان "يا" وسر صناعة الإعراب ١/٢٩٧، وخزانة الأدب ١/٣٦٩، ٢/٢٤٦ بولاق..

٢٥ ساقط من "ب"..
٢٦ زيادة من "أ"..
٢٧ ما بين المعقوفين ساقط كله من "ب"..
٢٨ انظر: التبيان ١٠٣٦..

قوله: «وَعْدَ اللَّهِ» مصدر مؤكد ناصبه مضمر أي وَعَدَهُم اللَّهُ ذلك وعداً بظهور الروم على فارسَ ﴿لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ﴾ وهذا مقدر لمعنى هذا المصدر ويجوز أن يكون قوله: ﴿لا يخلف الله وعده﴾ حالاً من المصدر فيكون كالمصدر الموصوف فهو مبين للنوع (و) كأنه قيل: وعد اله وعداً غير مخلف ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
قوله: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا﴾ يعني أمر معايشهم كيف يكتسبون ويتَّجِرُونَ ومتى يغرسون قال الحسن: إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه، ولا يخطىء وهو لا يحسن (يصلي) والمعنى أن علمهم منحصر في الدنيا بل لا يعلمون الدنيا كما هي وإنما يعلمون ظاهرها وهو ملاذها، ولا يعلمون باطنها وهو مضارها ومتاعبها ولا يعلمون فناها ﴿وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ﴾ ساهون جاهلون بها لا يتفكرون فيها، وذكرهم الثانية ليفيد أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكر حاصلة.
قوله: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا» فقوله في أنفسهم ظرف للتفكّر، وليس مفعولاً للتفكر (ومتعلقه خلق) السماوات والأرض، والمعنى أن أسباب التفكر حاصلة وهي أنفسهم لو تفكروا فيها لعلموا وَحْدَانِيَّة الله، وصدقوا بالحشر أما الوحدانية فلأن الله تعالى خلقهم في أحسن تقويم، ومن يفكر في تشريح بدن الإنسان وحواسه رأى في ذلك حِكَماً كل واحدة منها كافية في معرفة كون الله فاعلاً مختاراً قادراً كاملاً عالماً، ومن يكون كذلك يكون واحداً وإلا لكان عاجزاً عن إرادة شريكه ضد ما أراده وأما دلاله
387
الإنسان على الحشر فلأنه إذا تفكر في نفسه يرى قُوَى مصائره إلى الزوال، وأجزاء ماثلة إلى الانحلالِ وله فناء ضروري فلو لم يكن حياة أخرى لكان خلقه على هذا الوجه عبثاً وإليه الإشارة بقوله ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾ [المؤمنون: ١١٥]، هذا ظاهر، لأن من يفعل شيئاً للعبث، فلو بالغ في أحكامه لضحك منه فأذن خلقه لذلك للبقاء ولا بقاء دون اللقاء بالآخرة فإذن لا بد من البعث. ثم إنه تعالى ذكر بعد دليل الأنفس دليل الأقطار فقال: ﴿مَّا خَلَقَ الله السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ فقوله: «إلا بالحق» إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية وقد بينا ذلك في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٤٤].
قوله: «ما خلق» «ما» نافية، وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها.
والثاني: أنها معلقة للتفكّر فتكون في محل نصب على إسقاط الخافض ويضعف أن تكون استفهامية بمعنى النفي، وفيها الوجهان المذكوران. والباء في «بالحق» إما سببية، وإما حالية لإقامة الحق، وقوله: «وَأَجَلٌ مُسَمّىً تذكير بالأصل الآخر الذي أنكروه أي لوقت معلوم، إذا انتهت إليه فنيت وهو يوم القيامة، ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُون﴾ لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء.
قوله: «بلقاء»
متعلق «بالكافرين» واللام لا تمنع من ذلك لكونها في خبر «إنَّ».
فإن قيل: ما الحكمة في تقديمه ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق وقدم دليل الآفاق على دلائل الأنفس في قوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] ؟
فالجواب: أن المفيد إذا أفاد فائدة يتذكرها على وجه جيد يختاره فإن مهمة السامع المستفيد فذاك، وإلا يذكرها على وجه أبْيَنَ منه وينزل درجة فدرجة وأما المستفيد فإنه يفهم أولاً الأبين ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين المذكور آخراً فالمذكور من المفيد أخِراً مفهوم عند المستمع أولا، إذا علم هذا
388
فنقول ههنا (الفعل) كان منسوباً إلى السامع حيث قال: ﴿أو لم يتفكروا في أنفسهم﴾ فقال: «في أنفسهم» يعني فيما فهموه أولاً ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانياً، وأما في قوله «سَنُرِيهِمْ» الأمر منسوباً إلى المفيد المسمع فذكر أولاً الآفاق، فإن لم يفهموه فالأنفس، لأن دلائل الأنفس لا ذهول للإنسان عنها، وأما دلائل الآفاق فيمكن الذهول عنها، وهذا الترتيب مراعىً في قوله تعالى: ﴿الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٩١] أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال ويتفكرون في خلق السماوات والأرض بدلائل الآفاق.

فصل


وجه دلالة الخلق الحَقِّ على الوحدانية ظاهر، وأما وجه دلالته على الحشر فلأن (تخريب) السموات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع لأن الله قادر على إبقاء الحوادث أبداً كما أنه يبقي الجنة والنار بعد إحداثهما أبداً، والخلق دليل إمكان العدم، لأن المخلوق لم يَجِبْ له القِدَمُ فجاز عيله العدم، فإذا أخبر الصادق عن أمر ممكن وجب على العاقل التصديق والإذعان؛ لأن العالم لما كان خلقه بالحق ينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياةٌ أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست لَعباً ولهواً كما تبين بقوله: ﴿وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾ [العنكبوت: ٦٤] (وخلق السموات والأرض للهو واللعب عبث، والعبث ليس بحق) فخلق السماوات والأرض بالحق يدل على أنه لا بد بعد هذه الحياة الدنيا من الحياة.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله ههنا: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس﴾ وقال من قبل: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ؟.
فالجواب: (فائدته) أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههُنَا قَدْ ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل فبعد الدليل لا بد (أن يؤمن) من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل وإنَّ كَثِيراً، وقال قبله: ﴿ولكن أكثر الناس﴾ لأنه بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه وهو السماوات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه، والأرض التي تحته، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم،
389
وحكاية أشكالهم فقال: ﴿أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ وقال في الدليلين المتقدمين «أَوَلَمْ يَرَوا» «أَوَلَم يَتَفَكَّروا» إذ لا حاجة هناك إلى السير بحضور النفس والسماء والأرض، وقال ههُنا «أوَ لَمْ يَسِيرُوا فينظروا» ذكرهم بحال أمثالهم، ومآل أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك، لأن من تقدم من «عَادٍ وَثُمودَ» كانوا أشدّ منهم قوة، ولم ينفعهم قُوَاهم وكانوا أكثر مالاً وعمارةٌ، ولم يمنعهم من الهلاك أَموالُهُمُ وحُصُونُهُمْ.
قوله: «وَأَثَارُوا الأَرْضَ» حَرَثُوهَا وقلبوها للزراعة (ومنه «البَقَرَة تُثِيرُ الأَرْضَ» وقيل: منه سمي ثوراً)، وأنتم لا حراثة لكم، «وعَمَرُوها أَكْثَرَ ممّا عَمَرُوهَا» أهل مكة، قيل: قال ذلك لأنه لم يكن لأهل مكة حرث، وقوله: «أكثر مما» نعت مصدر محذوف أي عمارة أكثر من عمارتهم. وقرىء: «وآثَارُوا» بألف بعد الهمزة وهي إشباع لفتح الهمزة.
قوله: ﴿وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾ فلم يؤمنوا فأهلكهم الله، ﴿فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ﴾ بنقص حقوقهم ﴿ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بِبَخْسِ حُقُوقِهِمْ.
قوله: «عَاقِبَةُ الذَّيِنَ» قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمروٍ بالرفع، والباقون بالنصب، فالرفع على أنها اسم كان، وذكر الفعل لأن التأنيث مجازي، وفي الخبر حينئذ وجهان:
أحدهما: «السوءى» أي الفعلة السوءى والخَصْلَةُ السوءى.
والثاني: «أَنْ كَذَّبُوا» أي كان آخر أمرهم التكذيب فعلى الأول يكون في «أَنْ كَذَّبُوا» وجهان:
أحدهما: أنه على إسقاط الخافض إما لام العلة أي لأن كذبوا، وإما باء السببية أي
390
بأن كذبوا فلما حذف الحرف جرى القولان المشهوران بين الخليل وسيبويه في محل «أَنْ».:
والثاني: أنه بدل من «السُّوءَى» أي ثم كان عاقبتهم التكذيب، وعلى الثاني يكون «السوءى» مصدراً «لأساءوا» أو يكون نعتاً لمفعول محذوف أي أساء والفعلةَ والسُّوءَى، و «السوءى» تأنيث «لِلأَسْوَأ». وجوز بعضهم أن يكون خبر كان محذوفاً للإبهام، و «السوءى» إما مصدر وإما مفعول كما تقدم أي اقْتَرَفُوا الخَطِيئَةَ السُّوءَى؛ أي كان عاقبتهم الدّمار. وأما النصب فعلى خبر كان، وفي الاسم وجهان:
أحدهما: «السوءى» إن كانت الفعلة السوءى عاقبةَ المُسِيئينَ، و «أَنْ كَذَّبُوا» على ما تقدم.
الثاني: أن الاسم «أَنْ كَذَّبُوا» و «السُّوءَى» على ما تقدم. المعنى: ثم كان عاقبة الذين أساءُوا السُّوءى يعني: الخلة التي تسوؤهم وهي النار (وهي) السُّوءَى اسم لجهنم كما أن الحُسْنَى اسم للجنة «أن كذبوا» أي لأن كذبوا، وقيلك تفسير «السوءى» ما بعده، وهو قوله: «أَنْ كَذَّبُوا» يعني: ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب حَمَلَهُمْ تلك السيئات على أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون.
391
قوله :﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الحياة الدنيا ﴾ يعني أمر معايشهم كيف يكتسبون ويتَّجِرُونَ ومتى يغرسون قال الحسن ١ : إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه، ولا يخطىء وهو لا يحسن ( يصلي٢ ) والمعنى أن علمهم منحصر في الدنيا بل لا يعلمون الدنيا كما هي وإنما يعلمون ظاهرها وهو ملاذها ولا يعلمون باطنها وهو مضارها ومتاعبها ولا يعلمون فناها ﴿ وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ ﴾ ساهون جاهلون بها لا يتفكرون فيها، وذكرهم الثانية ليفيد أن الغفلة منهم٣ وإلا فأسباب التذكر حاصلة.
١ القرطبي ١٤/٨..
٢ ساقط من "ب"..
٣ في "ب" فيهم..
قوله :«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أَنْفُسِهِمْ » فقوله في أنفسهم ظرف للتفكّر، وليس مفعولاً للتفكر ( إذ متعلقه خلق )١ السماوات والأرض، والمعنى أن أسباب التفكر حاصلة وهي أنفسهم لو تفكروا فيها لعلموا وَحْدَانِيَّة الله، وصدقوا بالحشر أما الوحدانية فلأن الله تعالى خلقهم في أحسن تقويم، ومن يفكر في تشريح بدن الإنسان وحواسه٢ رأى في ذلك حِكَماً كل واحدة منها كافية في معرفة كون الله فاعلاً مختاراً قادراً كاملاً عالماً، ومن يكون كذلك يكون واحداً وإلا لكان عاجزاً عن إرادة شريكه ضد ما أراده وأما دلالة الإنسان على الحشر فلأنه إذا تفكر في نفسه يرى قُوَى٣ مصائره إلى الزوال، وأجزاء ماثلة إلى الانحلالِ وله فناء ضروري فلو لم يكن حياة أخرى لكان خلقه على هذا الوجه عبثاً وإليه الإشارة بقوله ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ ]، هذا ظاهر، لأن من يفعل شيئاً للعبث، فلو بالغ في أحكامه٤ لضحك منه فأذن خلقه لذلك للبقاء ولا بقاء دون اللقاء بالآخرة فإذن لا بد من البعث. ثم إنه تعالى ذكر بعد دليل الأنفس دليل الأقطار فقال :﴿ مَا خَلَقَ الله السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ فقوله :«إلا بالحق » إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية وقد بينا ذلك في قوله :﴿ خلق الله السموات والأرض بالحق إن فِي ذلك لآية للمؤمنين ﴾ [ العنكبوت : ٤٤ ].
قوله :«ما خلق » «ما » نافية، وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها.
والثاني : أنها معلقة للتفكّر فتكون في محل نصب٥ على إسقاط الخافض ويضعف أن تكون استفهامية بمعنى النفي، وفيها الوجهان المذكوران. والباء في «بالحق » إما سببية٦، وإما حالية٧ لإقامة الحق، وقوله :«وَأَجَلٌ مُسَمّىً » تذكير بالأصل الآخر الذي أنكروه أي لوقت معلوم، إذا انتهت إليه فنيت وهو يوم القيامة، ﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الناس بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُون ﴾ لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء.
قوله :«بلقاء » متعلق «بالكافرين٨ » واللام لا تمنع من ذلك لكونها في خبر «إنَّ ».
فإن قيل : ما الحكمة في تقديمه ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق وقدم دليل الآفاق على دلائل٩ الأنفس في قوله :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ ﴾ [ فصلت : ٥٣ ] ؟.
فالجواب : أن المفيد إذا أفاد فائدة يتذكرها على وجه جيد يختاره فإن مهمة السامع المستفيد فذاك١٠، وإلا يذكرها١١ على وجه أبْيَنَ منه وينزل درجة فدرجة وأما المستفيد فإنه يفهم أولاً الأبين ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين١٢ المذكور آخراً فالمذكور من المفيد آخِراً مفهوم عند المستمع أولا، إذا علم هذا فنقول ههنا ( الفعل١٣ ) كان منسوباً إلى السامع حيث قال :﴿ أو لم يتفكروا في أنفسهم ﴾ فقال :«في أنفسهم » يعني فيما فهموه١٤ أولاً ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانياً، وأما في قوله «سَنُرِيهِمْ » الأمر منسوباً إلى المفيد المسمع فذكر أولاً الآفاق، فإن لم يفهموه فالأنفس١٥، لأن دلائل الأنفس لا ذهول للإنسان عنها، وأما دلائل الآفاق فيمكن الذهول عنها، وهذا الترتيب مراعىً في قوله تعالى :﴿ الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ] أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال ويتفكرون في خلق السماوات والأرض بدلائل الآفاق.

فصل١٦ :


وجه دلالة الخلق الحَقِّ١٧ على الوحدانية ظاهر، وأما وجه دلالته على الحشر فلأن ( تخريب١٨ ) السموات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع لأن الله قادر على إبقاء الحوادث أبداً كما أنه يبقي الجنة والنار بعد إحداثهما أبداً، والخلق دليل إمكان العدم، لأن المخلوق لم يَجِبْ له القِدَمُ فجاز عيله١٩ العدم، فإذا أخبر الصادق عن أمر ممكن وجب على العاقل التصديق والإذعان ؛ لأن العالم لما كان خلقه بالحق ينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياةٌ أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست لَعباً ولهواً كما تبين بقوله :﴿ وَمَا هذه الحياة الدنيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ ( وخلق السموات٢٠ والأرض للهو واللعب عبث، والعبث ليس بحق ) فخلق السماوات والأرض بالحق يدل على أنه لا بد بعد هذه الحياة الدنيا من حياة.
فإن قيل : ما الفائدة في قوله ههنا :﴿ كَثِيراً مِنَ الناس ﴾ وقال من قبل :﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ؟.
فالجواب :( فائدته٢١ ) أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههُنَا قَدْ ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل فبعد الدليل لا بد ( أن يؤمن )٢٢ من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل وإنَّ كَثِيراً، وقال قبله :﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ لأنه بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه وهو السماوات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه، والأرض التي تحته، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم، وحكاية أشكالهم فقال :﴿ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ وقال في الدليلين المتقدمين «أَوَلَمْ يَرَوا » «أَوَلَم يَتَفَكَّروا » إذ لا حاجة هناك إلى السير بحضور٢٣ النفس والسماء والأرض، وقال ههُنا «أوَ لَمْ يَسِيرُوا فينظروا » ذكرهم بحال أمثالهم، ومآل٢٤ أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك، لأن من تقدم من «عَادٍ وَثُمودَ » كانوا٢٥ أشدّ منهم قوة، ولم ينفعهم قُوَاهم٢٦ وكانوا أكثر مالاً وعمارةً، ولم يمنعهم من الهلاك أَموالُهُمُ وحُصُونُهُمْ.
قوله :«وَأَثَارُوا الأَرْضَ » حَرَثُوهَا وقلبوها للزراعة ( ومنه «البَقَرَة تُثِيرُ الأَرْضَ٢٧ » وقيل : منه سمي ثوراً )، وأنتم لا حراثة لكم، «وعَمَرُوها أَكْثَرَ ممّا عَمَرُوهَا » أهل مكة، قيل : قال ذلك لأنه لم يكن لأهل مكة حرث، وقوله :«أكثر مما » نعت٢٨ مصدر محذوف أي عمارة أكثر من عمارتهم. وقرىء :«وآثَارُوا٢٩ » بألف بعد الهمزة وهي إشباع لفتح الهمزة.
قوله :﴿ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات ﴾ فلم يؤمنوا فأهلكهم الله، ﴿ فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ﴾ بنقص حقوقهم ﴿ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ بِبَخْسِ حُقُوقِهِمْ.
١ ساقط من "ب"..
٢ في "ب" وجوارحه..
٣ في "ب" قواه صائرة وهو الأصح..
٤ انظر: تفسير القرطبي ٢٥/٩٧ و ٩٨ و ٩٩..
٥ انظر: التبيان لأبي البقاء ١٠٣٧، والدر المصون ٤/٣١٥..
٦ يقول الفراء في معاني القرآن: "إلا بالحق: للثواب والعقاب والعمل" انظر: المعاني ٢/٣٢٢..
٧ ذكرها في الكشاف ٣/٢١٥، يقول: "الباء في قوله إلا بالحق مثلها في قولك دخلت عليه بثياب السفر"..
٨ الأصح "بالكافرون"..
٩ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٩٩..
١٠ في "ب" فذلك..
١١ في "ب" فيذكرها..
١٢ في "ب" الذي ذكر آخراً فالمفيد من الذي ذكر آخراً..
١٣ ساقط من "ب"..
١٤ في "ب" فيما فهموا..
١٥ في "ب" بالأنفس..
١٦ في "ب" فإن قيل بدلاً من (فصل)..
١٧ الخلق على الخالق بدلالة الوحدانية في "ب"..
١٨ ساقط من "ب"..
١٩ في "ب" فحان عليه..
٢٠ ساقط كله من "ب" ما بين القوسين..
٢١ ساقط من "ب"..
٢٢ ساقط من "ب"..
٢٣ في "ب" لحضور باللام. وما هنا والفخر الرازي بحضور بالباء..
٢٤ في "ب" أمثال أشكالهم..
٢٥ في "ب" وكانوا أكثر منهم قوة..
٢٦ في "ب" قوتهم..
٢٧ ما بين القوسين بياض في "ب" وهو ساقط منها. وانظر: غريب القرآن لابن قتيبة ٣٤٠، والمجاز لأبي عبيدة ٢/١١٩ قال: "استخرجوها"..
٢٨ انظر: الدر المصون ٤/٣١٥ والتبيان ١٠٣٧..
٢٩ انظر: البحر المحيط ٧/١٦٤، وقد نسبها إلى أبي جعفر، وانظر: السبعة لابن مجاهد ٥٠٦ وقد اعترض ابن مجاهد على هذه القراءة وكذلك أبو الفتح الذي قال: إن الإشباع من ضرورة الشعر.
انظر: البحر ٧/١٦٤، والمحتسب ٢/١٦٣..

قوله :«عَاقِبَةُ الَّذِينَ » قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمروٍ بالرفع١، والباقون بالنصب، فالرفع على أنها اسم كان٢، وذكر الفعل لأن التأنيث مجازي، وفي الخبر حينئذ وجهان :
أحدهما :«السوءى » أي الفعلة السوءى والخَصْلَةُ السوءى.
والثاني :«أَنْ كَذَّبُوا » أي كان آخر أمرهم التكذيب فعلى الأول يكون في «أَنْ كَذَّبُوا » وجهان :
أحدهما : أنه على إسقاط الخافض إما لام العلة أي لأن كذبوا، وإما باء السببية أي بأن كذبوا فلما حذف الحرف٣ جرى القولان المشهوران بين٤ الخليل وسيبويه في محل «أَنْ »٥.
والثاني : أنه بدل من «السُّوءَى » أي ثم كان عاقبتهم التكذيب، وعلى الثاني يكون «السوءى » مصدراً «لأساءوا » أو يكون نعتاً لمفعول محذوف أي أساء والفعلةَ السُّوءَى، و «السوءى » تأنيث «لِلأَسْوَأ »٦. وجوز بعضهم٧ أن يكون خبر كان محذوفاً للإبهام، و «السوءى » إما مصدر وإما مفعول كما تقدم أي اقْتَرَفُوا الخَطِيئَةَ السُّوءَى ؛ أي كان عاقبتهم الدّمار. وأما النصب٨ فعلى خبر كان، وفي الاسم وجهان :
أحدهما :«السوءى » إن كانت الفعلة السوءى عاقبةَ المُسِيئينَ، و «أَنْ كَذَّبُوا » على ما تقدم.
الثاني : أن الاسم «أَنْ كَذَّبُوا » و «السُّوءَى » على ما تقدم. المعنى : ثم كان عاقبة الذين أساءُوا السُّوءى يعني : الخلة التي تسوؤهم وهي النار ( وهي )٩ السُّوءَى اسم لجهنم كما أن الحُسْنَى اسم للجنة «أن كذبوا » أي لأن كذبوا، وقيل : تفسير «السوءى » ما بعده، وهو قوله :«أَنْ كَذَّبُوا » يعني : ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب حَمَلَهُمْ تلك السيئات على أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون.
١ انظر: الإتحاف ٣٦٤ والسبعة ٥٠٦، وإبراز المعاني ٦٤٠ وإعراب النحاس ٤/٢٦٦..
٢ انظر: الكشف لمكي ٢/١٨٢ والبيان لابن الأنباري ٢/٢٤٩..
٣ في "ب" حذف الجر، وانظر في الإعراب الدر المصون ٤/٣١٦ والتبيان ١٠٣٧ و ١٠٣٨ والبيان ٢/٢٤٩ ومشكل إعراب القرآن ٢/١٧٧ ومعاني الفراء ٢/٣٢٢ والقرطبي ١٤/١٠..
٤ الخليل بن أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد البصري الفرهودي سيد أهل زمنه في علمه وزهده كان من تلامذة أبي عمرو، اخذ عنه سيبويه، والنضر بن شميل وهو أول من استخدم علم العروض مات سنة ١٦٠ هـ نزهة الألباء ٢٩، ٣٢..
٥ في "ب" محله..
٦ انظر: الكشاف ٣/٢٢٦..
٧ هو الزمخشري حيث قال: "وأن كذبوا" عطف بيان لها، وخبر كان محذوف كما يحذف جواب "لما" و "لو" إرادة الإبهام، الكشاف ٣/٢٢٦..
٨ أي نصب عاقبة وانظر: المراجع السابقة والبحر ٧/١٦٤..
٩ ساقط من "ب"..
قوله: ﴿الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء
391
ولم يقل: «يُعِيدُهُمْ» رد على الخلق، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؛ فيجزيهم بأعمالهم، قرأ أبو بكر، وأبو عمرو «يَرْجِعُونَ» - بالياء - والآخرون بالتاء.
قوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون﴾ قرأ العامة «يُبْلِسُ» ببنائه للفاعل وهو المعروف يقال: أَبْلَسَ الرجل أي انقطعت حجته فكست وهو قاصر لا يتعدى، قال العجاج:
٤٠٣٦ - يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا... قَالَ: نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
وقرأ السُّلَمِيُّ: «يُبْلَسُ» مبنيّاً للمفعول، وفيه بعدٌ، لأن أبْلَسَ يتعدى، وقد خُرِّجَتْ هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل مصدر الفعل، ثم حذف (المضافُ، وأقيم) المضاف إليه مُقَامَهُ، إذ الأصل يُبْلَسُ إبْلاَس المجرمين، و «يبلس» هو الناصب «ليَوْمَ تَقُومُ» و «يَوْمَئِذٍ» مضاف لجملة تقديرها يَوْمَئِذٍ يقوم وهذا كأنه تأكيد لفظي، إذ يصير التقيدر يبلس المجرمون (يوم تقوم الساعة).

فصل


قال قتادةُ والكَلْبِيُّ: المعنى يبلس المشركون من كل خير؛ وقال الفراء: ينقطع كلامهم وحججهم. وقال مجاهد: يفتضحون. ولم يكن لهم شركائهم أصنامهم التي عبدوها ليشفعوا لهم شفعاء، ﴿وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ﴾ يتبرأون منها وتتبرأُ منهم.
قوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ أي بين أهل الجنة من أهل النار، قال مقاتل: يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار فلا يجتمعون أبداً كما قال تعالى: ﴿فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير﴾ [الشورى: ٧]. قوله: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ﴾
392
وهي البستان الذي في غاية النضارة، وقوله: «يُحْبَرُونَ» قال ابن عباس يكرمون. وقال قتادة ومجاهد: يُنَعمون، وقال مجاهد وأبو عبيدة: يسرون، والحَبْر والحُبُور السرور. وقيل الحَبْرة في اللغة كل نعمة حسنة والتَّحْبير التَّحْسِينُ يقال هو حسن الحِبرَ والسِّبر بكسر الحاء والسين وفتحهما وفي الحديث: «حَبْرْتُهُ لَكَ تَحْبِيراً»، أي حسنت لك صوتي والقرآن تحسيناً، وجاء في الحديث «يَخْرُجُ من النَّارِ رَجُلٌ ذَهَبَ حَبْرُهُ وسَبْرُهُ» فالمفتوح مصدر والمكسور اسم، والروضة الجنة، قيل: ولا تكون روضة إلا وفيها نبت، وقيل: إلا وفيها ماء، وقيل: ما كانت منخفضة، والمرتفعة يقال لها: تُرعة، وقيل: لا يقال لها روضة إلا وهي في مكان غليظ مرتفع. قال الأعشى:
٤٠٣٧ - ما رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةً خَضْرَاءَ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ
وأصل رياضٍ رَواضٌ، فقلبت الواو ياء على حدِّ حَوْصٍ وحِيَاضٍ ونكر الروضة للتعظيم، وقال ههنا: يُحْبَرُونَ: بصيغة الفعل ولم يقل «مَحْبُرُونَ» وقال في الأخرى (مُحْضَرُون) بصيغة الاسم ولم يقل «يُحْضَرُونَ» لأن الفعل يدل على التجديد، والاسم لا يدل عليه، فقوله «يحبرون» يعني كل ساعة يأتيهم ما يسرون به، وقوله «
393
محضرون» أي الكفار في العذاب يبقون (فيه) مُحْضَرُونَ.
394
قوله :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون ﴾ قرأ العامة «يُبْلِسُ » ببنائه للفاعل وهو المعروف يقال : أَبْلَسَ الرجل أي انقطعت حجته١ فكست وهو قاصر لا يتعدى، قال العجاج :
٤٠٣٦ - يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا *** قَالَ : نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا٢
وقرأ السُّلَمِيُّ :«يُبْلَسُ » مبنيّاً للمفعول٣، وفيه بعدٌ، لأن أبْلَسَ يتعدى، وقد خُرِّجَتْ هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل مصدر الفعل، ثم حذف ( المضافُ٤، وأقيم ) المضاف إليه مُقَامَهُ، إذ الأصل يُبْلَسُ إبْلاَس المجرمين، و «يبلس » هو الناصب «ليَوْمَ تَقُومُ » و «يَوْمَئِذٍ » مضاف لجملة تقديرها يَوْمَئِذٍ يقوم وهذا كأنه تأكيد لفظي، إذ يصير التقدير يبلس المجرمون ( يوم تقوم الساعة )٥.
١ قال في اللسان ٣٤٣ "ب ل س" (والمبلس: البائس ولذلك قيل للذي يسكت عنه انقطاع حجته ولا يكون عنده جواب: قد أبلس) وأنشد البيت الذي أعلى..
٢ البيت للعجاج وقد تقدم..
٣ مختصر ابن خالويه ١١٦، والكشاف ٣/٢١٦، والقرطبي ١٤/١٠..
٤ ساقط من "ب"..
٥ الدر المصون ٤/٣١٥، والتبيان ١٠٣٨، ١٠٣٩، هذا وما بين القوسين ساقط من "ب"..

فصل :


قال قتادةُ والكَلْبِيُّ : المعنى يبلس المشركون من كل خير١ ؛ وقال الفراء : ينقطع٢ كلامهم وحججهم. وقال مجاهد : يفتضحون٣. ولم يكن لهم شركائهم أصنامهم التي عبدوها ليشفعوا لهم شفعاء، ﴿ وَكَانُواْ بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ يتبرأون٤ منها وتتبرأُ منهم.
١ تفسير ابن كثير ٣/٤٢٨..
٢ المعاني ٢/٣٢٣..
٣ تفسير ابن كثير ٣/٤٢٨..
٤ انظر: ابن جرير الطبري ٢١/١٩..
قوله :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ﴾ أي بين أهل الجنة من أهل النار، قال مقاتل : يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار فلا يجتمعون أبداً كما قال تعالى :﴿ فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير ﴾.
قوله :﴿ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ ﴾ وهي البستان١ الذي في غاية النضارة، وقوله :«يُحْبَرُونَ » قال ابن عباس يكرمون٢. وقال قتادة ومجاهد : يُنَعمون٣، وقال مجاهد وأبو عبيدة : يسرون٤، والحَبْر والحُبُور السرور. وقيل الحَبْرة في اللغة كل نعمة حسنة والتَّحْبير التَّحْسِينُ يقال هو حسن الحِبرَ والسِّبر بكسر الحاء والسين وفتحهما٥ وفي الحديث :«حَبْرْتُهُ لَكَ تَحْبِيراً »٦، أي حسنت لك صوتي والقرآن تحسيناً، وجاء في الحديث «يَخْرُجُ من النَّارِ رَجُلٌ ذَهَبَ حَبْرُهُ وسَبْرُهُ »٧ فالمفتوح٨ مصدر والمكسور اسم، والروضة الجنة، قيل : ولا تكون روضة إلا وفيها نبت، وقيل : إلا وفيها ماء، وقيل : ما كانت منخفضة، والمرتفعة يقال لها : تُرعة، وقيل : لا يقال لها روضة إلا وهي في مكان غليظ مرتفع٩. قال الأعشى :
٤٠٣٧ - ما رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةً خَضْرَاءَ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ١٠
وأصل رياضٍ رَواضٌ، فقلبت الواو١١ ياء على حدِّ حَوْضٍ وحِيَاضٍ ونكر الروضة للتعظيم١٢، وقال ههنا : يُحْبَرُونَ : بصيغة الفعل ولم يقل «مَحْبُورُونَ » وقال في الأخرى ( مُحْضَرُون١٣ ) بصيغة الاسم ولم يقل «يُحْضَرُونَ » لأن الفعل يدل على التجديد، والاسم لا يدل عليه، فقوله «يحبرون » يعني كل ساعة يأتيهم ما يسرون به، وقوله «محضرون » أي الكفار في العذاب يبقون ( فيه١٤ ) مُحْضَرُونَ.
١ انظر: القرطبي ١٤/١١..
٢ السابق ١٤/١٢..
٣ السابق ١٤/١٢..
٤ مجاز القرآن ٢/١٢٠..
٥ اللسان "ح ب ر"..
٦ هو في حديث أبي موسى "لو علمت أنك تسمع لقراءتي لحبرتها لك تحبيراً"، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ١/٣٢٧..
٧ انظر: النهاية المرجع السابق ١/٣٢٧، وغريب الحديث لأبي عبيد ١/٨٥، الفائق في غريب الحديث للزمخشري ١/٢٢٩، واللسان "ح ب ر" ٧٤٩..
٨ في "ب" فالفتح..
٩ انظر الدر المصون ٤/٣١٧، والقرطبي ١٤/١١ واللسان "ح ب ر" ٧٤٩. وانظر: غريب القرآن لابن قتيبة ٣٤١..
١٠ البيت له من البسيط. وقوله: "مسبل، هطل" صفتان لموصوف محذوف أي سحاب أو غيث و"المسبل" المنتشر الكثير، والهطل: غزير الماء. ولقد أتى البيت لشاهد لغوي وهو أن الروضة هي لا تسمى هكذا إلا في مكان مرتفع حيث قال: "الحزن" وهو المكان المرتفع، وانظر: مجاز القرآن ٢/١٢٠، والمفضليات بشرح الأنباري ٢٢٠، وابن جرير ٢١/١٩١ وفتح القدير ٤/١٢٨ ومجمع البيان ٧/٤٦٥، والقرطبي ١٤/١١ وإعراب القرآن للنحاس ٣/٢٦٨ و ١٦٥ والديوان "١٠٧" د/محمد محمد حسين..
١١ حيث وقعت الواو عيناً لفعال معتلة وقبلها كسرة وبعدها ألف وكانت في المفرد شبيهة بالمعلة وهذا أحد وجوه قلب الواو ياء..
١٢ من شأنها وهذا بخلاف ما لو قال "الروضة" بالتعريف..
١٣ ساقط من "ب"..
١٤ ساقط من "ب"..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:قوله :﴿ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ ﴾ وهي البستان١ الذي في غاية النضارة، وقوله :«يُحْبَرُونَ » قال ابن عباس يكرمون٢. وقال قتادة ومجاهد : يُنَعمون٣، وقال مجاهد وأبو عبيدة : يسرون٤، والحَبْر والحُبُور السرور. وقيل الحَبْرة في اللغة كل نعمة حسنة والتَّحْبير التَّحْسِينُ يقال هو حسن الحِبرَ والسِّبر بكسر الحاء والسين وفتحهما٥ وفي الحديث :«حَبْرْتُهُ لَكَ تَحْبِيراً »٦، أي حسنت لك صوتي والقرآن تحسيناً، وجاء في الحديث «يَخْرُجُ من النَّارِ رَجُلٌ ذَهَبَ حَبْرُهُ وسَبْرُهُ »٧ فالمفتوح٨ مصدر والمكسور اسم، والروضة الجنة، قيل : ولا تكون روضة إلا وفيها نبت، وقيل : إلا وفيها ماء، وقيل : ما كانت منخفضة، والمرتفعة يقال لها : تُرعة، وقيل : لا يقال لها روضة إلا وهي في مكان غليظ مرتفع٩. قال الأعشى :
٤٠٣٧ - ما رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةً خَضْرَاءَ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ١٠
وأصل رياضٍ رَواضٌ، فقلبت الواو١١ ياء على حدِّ حَوْضٍ وحِيَاضٍ ونكر الروضة للتعظيم١٢، وقال ههنا : يُحْبَرُونَ : بصيغة الفعل ولم يقل «مَحْبُورُونَ » وقال في الأخرى ( مُحْضَرُون١٣ ) بصيغة الاسم ولم يقل «يُحْضَرُونَ » لأن الفعل يدل على التجديد، والاسم لا يدل عليه، فقوله «يحبرون » يعني كل ساعة يأتيهم ما يسرون به، وقوله «محضرون » أي الكفار في العذاب يبقون ( فيه١٤ ) مُحْضَرُونَ.
١ انظر: القرطبي ١٤/١١..
٢ السابق ١٤/١٢..
٣ السابق ١٤/١٢..
٤ مجاز القرآن ٢/١٢٠..
٥ اللسان "ح ب ر"..
٦ هو في حديث أبي موسى "لو علمت أنك تسمع لقراءتي لحبرتها لك تحبيراً"، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ١/٣٢٧..
٧ انظر: النهاية المرجع السابق ١/٣٢٧، وغريب الحديث لأبي عبيد ١/٨٥، الفائق في غريب الحديث للزمخشري ١/٢٢٩، واللسان "ح ب ر" ٧٤٩..
٨ في "ب" فالفتح..
٩ انظر الدر المصون ٤/٣١٧، والقرطبي ١٤/١١ واللسان "ح ب ر" ٧٤٩. وانظر: غريب القرآن لابن قتيبة ٣٤١..
١٠ البيت له من البسيط. وقوله: "مسبل، هطل" صفتان لموصوف محذوف أي سحاب أو غيث و"المسبل" المنتشر الكثير، والهطل: غزير الماء. ولقد أتى البيت لشاهد لغوي وهو أن الروضة هي لا تسمى هكذا إلا في مكان مرتفع حيث قال: "الحزن" وهو المكان المرتفع، وانظر: مجاز القرآن ٢/١٢٠، والمفضليات بشرح الأنباري ٢٢٠، وابن جرير ٢١/١٩١ وفتح القدير ٤/١٢٨ ومجمع البيان ٧/٤٦٥، والقرطبي ١٤/١١ وإعراب القرآن للنحاس ٣/٢٦٨ و ١٦٥ والديوان "١٠٧" د/محمد محمد حسين..
١١ حيث وقعت الواو عيناً لفعال معتلة وقبلها كسرة وبعدها ألف وكانت في المفرد شبيهة بالمعلة وهذا أحد وجوه قلب الواو ياء..
١٢ من شأنها وهذا بخلاف ما لو قال "الروضة" بالتعريف..
١٣ ساقط من "ب"..
١٤ ساقط من "ب"..

قوله: ﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ أي سبحوا الله، ومعناه صلوا عليه حين «تمسون» تدخلون في المساء، وهو صلاة المغرب والعشاء «وحين تصبحون» أي تدخلون في الصباح وهو صلاة الصبح. ﴿وَلَهُ الحمد فِي السماوات والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ قال ابن عباس: يَحْمَدُهُ أهل السماوات والأرض ويصلون «وَعَشيّاً» أي صلوا لله عشياً؛ يعني صلاة العصر «وحِينَ تُظْهِرُونَ» أي تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر، قال نافع الأزرق لابن عباس، هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم وقرأ هاتَيْنِ الآيتين، وقال: جمعت الآية الصلوات الخمس ومواقيتها. وروى أبو هريرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال» مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحْمْدِهِ فِي يَوْم مائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ « (وقال عليه السلامَ:» مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبحُ وَحِينَ يُمْسِي سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مائةَ مَرَّةِ لَمْ يَأْتِ أَحِدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَفْضَلَ ممّا جَاءَ بِهِ إلاَّ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أوْ زَادَ عَلَيْهِ «، وقالَ عليه السلام:» كَلَمَتانِ خَفِيفَتَانِ على اللِّسانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ حَبيبَتَانِ عَلَى الرَّحمَن: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ الله العَظيم «
قوله:»
تُمْسُونَ وتُصْبِحُونَ «تامَّاتٌ) أي تدخلون في المساء والصباح كقولهم: إذا سَمِعْتَ بِسُرَى القَيْنِ فاعلم بأنه (مُصْبِح) أي مقيم في الصباح. والعامة على إضافة الظرف إلى الفعل بعده، وقرأ عكرمة:» حِيناً «بالتنوين، والجملة بعده صفة له، والعائد حينئذ محذوف أي تُمْسُونَ فيه، كقوله ﴿واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ﴾ [لقمان: ٣٣]. والناصب لهذا الظرف» سُبْحَانَ «لأنّه نائب عن عامله.
قوله:»
وَعَشيّاً «عطف على» حين «وما بينهما اعتراض و» في السَّمَوَاتِ «يجوز أن يتعلق بنفس الحمد (أي أن الحمد) يكون في هذين الظرفين.
﴿ وَلَهُ الحمد فِي السماوات والأرض ﴾ قال ابن عباس : يَحْمَدُهُ أهل السماوات والأرض ويصلون «وَعَشيّاً » أي صلوا لله عشياً ؛ يعني صلاة العصر «وحِينَ تُظْهِرُونَ » أي تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر، قال نافع١ الأزرق لابن عباس، هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال : نعم وقرأ هاتَيْنِ الآيتين، وقال : جمعت الآية الصلوات الخمس ومواقيتها. وروى أبو هريرة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحْمْدِهِ فِي يَوْم مائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ » ( وقال عليه٢ السلامَ :«مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبحُ وَحِينَ يُمْسِي سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مائةَ مَرَّةِ لَمْ يَأْتِ أَحِدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَفْضَلَ ممّا جَاءَ بِهِ إلاَّ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أوْ زَادَ عَلَيْهِ »، وقالَ عليه السلام :«كَلِمَتانِ خَفِيفَتَانِ على اللِّسانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ حَبيبَتَانِ عَلَى الرَّحمَن : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ الله العَظيم ».
قوله :«تُمْسُونَ وتُصْبِحُونَ «تامَّاتٌ ) أي تدخلون في المساء والصباح كقولهم : إذا سَمِعْتَ بِسُرَى القَيْنِ فاعلم بأنه ( مُصْبِح٣ ) أي مقيم في الصباح. والعامة على إضافة الظرف إلى الفعل بعده، وقرأ عكرمة٤ :«حِيناً » بالتنوين، والجملة بعده صفة له، والعائد حينئذ محذوف أي تُمْسُونَ فيه، كقوله ﴿ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ﴾ [ لقمان : ٣٣ ]. والناصب لهذا الظرف «سُبْحَانَ٥ » لأنّه نائب عن عامله.
قوله :«وَعَشيّا » عطف على «حين » وما بينهما٦ اعتراض و «في السَّمَوَاتِ » يجوز أن يتعلق بنفس الحمد ( أي أن الحمد٧ ) يكون في هذين الظرفين.
١ ابن جرير: نافع بن الأزرق وانظر: تفسير ابن جرير الطبري ٢١/٢٠ بروايات مختلفة..
٢ ما بين القوسين كله ساقط من "ب"..
٣ وفي اللسان "قَ يَ ن" ومن أمثالهم: إذا سمعت بسُرَى القين فإنه مُصبح قال أبو عبيد: يضرب للرجل يعرف بالكذب حتى يُرَدَّ صِدْقُهُ، والقين: الحدَّاد. اللسان "ق ي ن" ٣٧٩٨ و ٣٧٩٩..
٤ إذا أطلق عكرمة فإنه يراد به عكرمة بن خالد بن العاص المخزُومي المكيّ تابِعِيٌّ، ثقةٌ روى عن أصحاب ابن عباس وقرأ على ابن عمر، وقرأ عليه أبو عمرو بن العلاء مات سنة ١٥ هـ، انظر: غاية النهاية ١/٥١٥. وانظر: المختصر لابن خالويه ١١٦، والمحتسب ٢/١٦٣ وهي شاذة غير متواترة..
٥ الدر المصون ٤/٣١٨..
٦ السابق..
٧ ساقط من "ب"..
قوله: ﴿يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾. قد تقدم اختلاف القراء في تخفيف الميت وتثقيله وكذلك قوله «تُخْرَجُونَ» في سورة الأعراف، و «كَذَلِكَ» نعت مصدر محذوف أي ومثل ذلك الإخراج العجيب تُخْرَجُونَ.
واعلم أن وجه تعلق إخراج احي من الميت والميت من الحي بما قبله هو أن عند الإصباح يخرج الإنسان من سُنَّةِ النَّوْم وهو النوم إلى سنة الوجود وهي اليقظة وعند العشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم. واختلف المفسرون في قوله: ﴿يخرج الحي من الميت﴾ فقال أكثرهم يخرج الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة وكذلك الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان. وقيل: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ثم قال: ﴿وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ وفي هذا معنى لطيف وهو أن الإنسان بالموت تبطل حواسه، وأما نفسه الناطقة فتفارقه، وتبقى بعده كما قال: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً﴾ [آل عمران: ١٦٩] لكن الحيوان نام متحرك حساس لكن النائم لا يتحرك، ولا يُحس، والأرض الميتة لا يكون فيها نماء، (ثم) النائم بالانتباه يتحرك ويحس والأرض بعد موتها (ينمو) نباتها، فكما أن تحريك ذلك الساكن وهذا الواقف سهل على الله، كذلك إحياء الميت سهل على الله، وإلى هذا أشار بقوله «وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ».
قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ﴾ مبتدأ أو خبر أي وم جملة علامات توحيده وأنه يبعثكم خلقكم واختراعكم و «من» لابتداء الغاية، وقوله: «من تراب» أي خلق أصلنا وهو آدم من تراب، (أ) وأنه خلقنا من نطفة والنطفة من الغذاء والغذاء إنما يتولد من الماء والتراب على ما تقدم شرحه ﴿ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾ في الأرض. والترتيب والمهلة هنا ظاهران فإنهم يصيرون بشراً بعد أَطْوَارِ كثيرة و «تَنْتَشِرُونَ» حال.
و «إِذَا» هي الفُجَائِيَّة، إلا أنَّ الفجائية أكثر ما تقع بعد الفاء؛ لأنها تقتضي التعقيب ووجه وقوعها (مع) «ثم» بالنسبة إلى ما يليق بالحالة الخاصة أي بعد تلك الأطوزار التي قَصَّها علينا في موضع آخر من كوننا نطفةً ثم علقةً ثم مُضْغَةً (ثُمَّ عظماً مجرداً) ثم عظماً مكسوّاً لحما (فَاجَأ) البشرية فالانتشار.
قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً﴾ «مِنْ أَنْفُسِكُمْ» يعني من بني آدم، وقيل خلق «حَوَّى» من ضِلَع آدم «لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا». والصحيح أن المراد من جنسكم كما قال: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] ويدل عليه قوله: «لِتَسْكُنُوا إلِيها» يعني أن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر، أي لا يثبت نفسه معه، ولا يميل قلبه إليه ﴿وجعل بينكم مودة ورحمة﴾ (وقيل: مودة) بالمجامعة: (ورحمة) للولد تَمَسُّكاً بقَوْلِهِ: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ﴾ [مريم: ٢]، وقيل: جعل بين الزوجين المودةَ (والرحمة) فهما يَتَوَادَّانِ، وَيَتَرَاحَمَانِ وما من شيء أحبَّ إلى أحد من الآخر من غير رحم بينهما. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه إن في خلق الأزواج «لآيات». ويحتمل أن يقال: «إنَّ في جعل المودة والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون» في عظمة الله وقدرته.
قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض﴾ ثم لما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق (ذكر) ما هو من صفات الأنفس وهو قوله: «واخْتِلاَفَ ألْسِنَتِكُمْ» أي لغاتكم من عرب وعجم مع تنوع كل من (الجنسين) إلى أنواع شتى لا سيّما العجم، فإن لغاتهم
396
مختلفة، وليس المراد بالألسنة الجوارح، وقيل: المراد بالألسن اختلاف الأصوات، وأما اختلاف الألوان فالمراد أبيضُ وأسودُ وأحمرُ وأنتم ولدُ رجلٍ واحد، (وامرأةٍ واحدة). وقيل: المراد باختلاف الألوان الذي بين ألوان الإنسان فإن واحداً منهم مع كَثْرة عددهم، وصغر حجم قدودهم لا يشتبه بغيره، والسموات مع غيرها وقلة عددها مشتبهات في الصورة ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ﴾، قرأ حفص بكسر اللام، جعله جمع عَالِمٍ ضد الجاهل ونحوه: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون﴾ [العنكبوت: ٤٣] والباقون بفتحها لأنها آيات لجميع الناس وإن كان بعضهم يَغْفُلُ عنها وقد تقدم أول الفاتحة الكلام في «العَالَمِينَ» (قيل) : هو جمع أو اسم جمع.
قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار﴾ لما ذكر الأعراض اللازمة وهي الاختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة بالنهار طلباً للرزق (و) قيل: في الآية تقديم وتأخير ليكون كل واحد مع ما يلائمه، والتقدير ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار، فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل، وعطفه عليه لأن حرف العطف قد يقوم مَقَامَ الجَارِّ، والأحسن أن يجعل على حاله.
والنوم بالنهار مما كانت العرب تَعُدُّه نعمةً من الله، ولا سيما في أوقات القَيْلُولَةِ في البلاد الحارة، وقوله: ﴿وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ﴾ أي منهما فإن كثير ما يكتسب الإنسان بالليل، ويدل على الأول قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الإسراء: ١٢] وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً﴾ [النبأ: ١٠ - ١١]، ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ سماع تدبير واعتبار وقال ههنا: «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ومن قبل: «لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» وقال: «لِلْعَالَمِينَ» لأن المنام بالليل، والابتغاء يظّن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله، فلم يقل آياتٍ للعالمين، ولأن الأمرين الأولين وهو اختلاف الألسن والأولون من اللوازم
397
والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألون فإنهما يدومان بدَوَام الإنسان فجعلها آيات عامة، وأما قوله: «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر، ومنها ما يكفي فيه مُجَرَّدُ الفكرة، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى مثل حسيّة كالأشكال الهندسية، لأن خلق الأرواح لا تقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية، وأما المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد، وقد يحتاج إلى مرشد بغير فكرة فقال: «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ويجعلون بالهم من كلام المرشد.
قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ لما ذكر العرضيات اللازمة للأنفس المفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق.
قوله: «يُريكُمُ البَرْق» فيه أوجه أظهرها: الموافق لأخواته أن يكون جملة اسمية من مبتدأ وخبر إلا أنه حذف الحرف المصدري، ولما حذف بطل عمله والأصل: ومن آياته أن يُرِيَكُمْ، كقوله:
٤٠٣٨ - أَلاَّ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى...................................
الثاني: أن «من آياته» متعلق «بيريكم» أو بمحذوف على أنه حال من البَرْقِ. والتقدير «يريكم البرق من آياته» فيكون قد عطف جملة فعليةً على جملة اسمية.
والثالث: أن «يريكم» صفة لموصوف محذوف أي ومن آياته (آية) يريكم البرق بها أو فيها البرق فحذف الموصوف والعائد عليها ومثله:
٤٠٣٩ - وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا... أموت............................
398
أي منهما تارة أموت منها.
الرابع: أن التقدير: ومن آياته سحابٌ أو شيءٌ يريكم؛ فيريكم صفة لذلك المقدر، وفاعل «يريكم» ضمير يعود عليه بخلاف الوجه قبله، فإن الفاعل ضمير الباري تعالى.

فصل


المعنى يريكم البرقَ خوفاً للمسافرين من الصواعق، وطمعاً للمقيمين في المطر وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون﴾.

فصل


قدم لوازم الأنفس على العوارض المفارقة (حيث ذكر أولاً اختلاف الألسنة والألوان ثم المنام والأبتغاء، وقدم في الآفاق العارضة المفارقة) على اللوازم حيث قال: ﴿يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ﴾ وذلك لأن الإنسان متغير الحال، فالعوارض فيها أغرب من اللوازم فقدم ما هو عجيب لكونه أدخلَ في كونهِ «آيةً» فإن الإنسان يتغير حاله بالكبر والصغر والصحة والسقم فله صوت يعرف به لا يتغير ول لون يتميز به عن غيره، وهو متغير بذلك في الأحوال وذلك لا يتغير وهو آية عجيبة والسماء (والأرض) ثابتان لا يتغيران ثم نرى في بعض الأحوال أمطاراً هاطلةً، وبُرُوقاً هائِلةً والسماء كما كانت والأرض كما كانت وذلك آية تدل على فاعل مختار يديم أمراً مع تغير المحلِّ ويُزِيل أمراً مع ثبات المحلِّ.

فصل


كما قدم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافعَ كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة وهي أن البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كِنّ
399
يخاف الابتلال فيستعد له، والذي له صهْريج، أو مصنع يحتاج إلى ماء أو زرع يسوي مجاري الماء، وأيضاً أهل البوادي لا يعلمون أن البلاد عشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروقَ اللائحة من جانبٍ دُونَ جانبٍ، واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمُقِيمينَ في البلاد فهي ظاهرة للبادين فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية.

فصل


أما كونه آيةً فلأن الذي فس السحاب ليس إلا ماءً وهواءً وخروج النار منهما بحيث يحرق الجبال في غاية البعد فلا بد له من خالق وهو الله. وقالت الفلاسفة: السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء أو الماء فالهَوَى ألطف منه والماء أكثف فإذا هبت الريحُ قويةً تحرك السحابُ فيَحْدُثُ صوت الرعد وتخرج منه النار، كما أن النار تخرج من وَقْعِ الحَجَر على الحَديد فإن قيل: الحديد والحجر جسمان صُلْبَان، والسحاب والريح جسمان (لَيَنانٍ) (فنقول لكن حركة يد الإنسان ضعيفة، وحركة الريح قوية تقلع الأشجار) فنقول لهم الرعد والبرق (أَمْرانِ) حادثان لا بد لهما من مسبِّب، وقد علم بالبرهان كونُ كلِّ حادث (فهما) من الله ثم نقول: (هب) أن الأمر كما يقولون فهبوب تلك الريح القوية من الأمور الحادثة العجيبة فلا بد لها من سبب وينتهي إلى واجب الوجود فهو آية للعاقل على قدرة الله كَيْفَمَا فَرَضْتُمْ.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله ههنا: ﴿آيات لقوم يعقلون﴾ وقوله فيما تقدم: «لقوم يتفكرون؟» فالجواب:
لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أن ذلك بالطبيعة لأن المطرد أقرب إلى الطبيعة (من) المختلف، والبرق والمطر ليس أمراً دون وقت، وتارة يكون قوياً، وتارة يكون ضعيفاً فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار، فقال هو آية لمن له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً.
400
قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ «مِنْ أَنْفُسِكُمْ » يعني من بني آدم، وقيل خلق «حَوَّى » من ضِلَع آدم «لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ». والصحيح أن المراد من جنسكم كما قال :﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] ويدل عليه قوله :«لِتَسْكُنُوا إلِيها » يعني أن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر، أي لا يثبت نفسه معه، ولا يميل قلبه إليه ﴿ وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾ ( وقيل : مودة١ ) بالمجامعة :( ورحمة٢ ) للولد تَمَسُّكاً بقَوْلِهِ :﴿ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴾ [ مريم : ٢ ]، وقيل : جعل بين الزوجين المودةَ ( والرحمة٣ ) فهما يَتَوَادَّانِ، وَيَتَرَاحَمَانِ وما من شيء٤ أحبَّ إلى أحد من الآخر من غير رحم٥ بينهما. ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه إن في خلق الأزواج «لآيات ». ويحتمل أن يقال :«إنَّ في جعل المودة والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون » في عظمة الله وقدرته.
١ ساقط من "ب" وانظر: القرطبي ١٤/١٧..
٢ ساقط من "ب"..
٣ ساقط من "ب" وانظر: القرطبي ١٤/١٧..
٤ في "ب" أحد بدل شيء..
٥ في "ب" رحمة..
قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض ﴾ ثم لما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ( ذكر١ ) ما هو من صفات الأنفس وهو قوله :«واخْتِلاَفَ ألْسِنَتِكُمْ » أي لغاتكم من عرب وعجم مع تنوع كل من ( الجنسين٢ ) إلى أنواع شتى لا سيّما العجم، فإن لغاتهم مختلفة، وليس المراد بالألسنة الجوارح، وقيل : المراد بالألسن اختلاف الأصوات، وأما اختلاف الألوان فالمراد أبيضُ وأسودُ وأحمرُ وأنتم ولدُ رجلٍ واحد، ( وامرأةٍ واحدة٣ ). وقيل : المراد باختلاف الألوان الذي بين ألوان الإنسان فإن واحداً منهم مع كَثْرة عددهم، وصغر حجم قدودهم لا يشتبه بغيره، والسموات مع غيرها وقلة عددها مشتبهات في الصورة ﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِلْعَالَمِينَ ﴾، قرأ حفص بكسر اللام، جعله جمع عَالِمٍ ضد الجاهل ونحوه :﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون ﴾ والباقون٤ بفتحها لأنها آيات لجميع الناس وإن كان بعضهم يَغْفُلُ عنها وقد تقدم أول الفاتحة٥ الكلام في «العَالَمِينَ » ( قيل٦ ) : هو جمع أو اسم جمع.
١ ساقط من "ب"..
٢ ساقط من "ب"..
٣ انظر: القرطبي ١٤/١٨ وما بين القوسين كله ساقط من "ب"..
٤ انظر: الإتحاف ٣٤٨ والسبعة ٥٠٦ وإبراز المعاني ٦٤٠، ٦٤١ ومعاني الفراء ٢/٣٢٣ الذي قال فيه: يريد العالَمَ من الجن والإنس، ومن قرأها: "للعالمين" بالكسر فهو وجه جيد لأنه قال: "لآيات لقوم يعقلون"..
٥ قيل هناك: إن عالمين اسم جمع لأن واحده من غير لفظه، ولا يجوز أن يكون جمعاً "لِعَالَمٍ"؛ لأن الصحيح في "عالم" أنه يطلق على كل موجود، سوى البارئ لاشتقاقه من العلامة و "عالَمُونَ" بصيغة الجميع لا يطلق إلا على العقلاء دون غيرهم فاستحال أن يكون "عالمون" جمع عالم لأن الجمع لا يكون أخصّ من المفرد..
٦ ساقط من "ب"..
قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار ﴾ لما ذكر الأعراض اللازمة وهي الاختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة بالنهار طلباً للرزق ( و١ ) قيل : في الآية تقديم وتأخير ليكون كل واحد مع ما يلائمه، والتقدير ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار، فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل، وعطفه عليه لأن حرف العطف٢ قد يقوم مَقَامَ الجَارِّ، والأحسن أن يجعل على حاله.
والنوم بالنهار مما كانت العرب تَعُدُّه نعمةً من الله، ولا سيما في أوقات القَيْلُولَةِ في البلاد الحارة، وقوله :﴿ وابتغاؤكم مِن فَضْلِهِ ﴾ أي منهما٣ فإن كثيراً ما٤ يكتسب الإنسان بالليل، ويدل على الأول قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِِن رَبِّكم ﴾ [ الإسراء : ١٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً ﴾ [ النبأ : ١٠ - ١١ ]، ثم قال :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ سماع تدبير واعتبار وقال ههنا :«لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ » ومن قبل :«لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » وقال :«لِلْعَالَمِينَ » لأن المنام بالليل، والابتغاء٥ يظّن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله، فلم يقل آياتٍ للعالمين، ولأن الأمرين الأولين وهو اختلاف الألسن٦ والألوان من اللوازم والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان فإنهما يدومان بدَوَام الإنسان فجعلهما آيات عامة، وأما قوله :«لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر، ومنها ما يكفي فيه مُجَرَّدُ الفكرة، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى مثل حسيّة٧ كالأشكال الهندسية، لأن خلق الأرواح لا تقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان٨ جامد الفكرة، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية، وأما المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد، وقد يحتاج إلى مرشد بغير فكرة فقال :«لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ » ويجعلون بالهم من كلام المرشد.
١ زائد من "ب"..
٢ انظر: الدر المصون ٤/٣١٨: ٣٢٠، والقرطبي ١٤/١٨، والبحر المحيط ٧/١٦٧..
٣ في "ب" فيهما..
٤ في "ب" مما..
٥ في "ب" والإيقاظ بالنهار لا يظن..
٦ في "ب" الألسنة..
٧ في "ب" أمثلة حسنة..
٨ في "ب" إلا إذا يكون جامدة الفكرة..
قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ لما ذكر العرضيات اللازمة للأنفس المفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق.
قوله :«يُريكُمُ البَرْق » فيه أوجه أظهرها : الموافق لأخواته١ أن يكون جملة اسمية من مبتدأ وخبر إلا أنه حذف الحرف المصدري، ولما حذف بطل عمله والأصل : ومن آياته أن يُرِيَكُمْ، كقوله :
٤٠٣٨ - أَلاَّ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى . . . . . . . . . . . . . . . ٢
الثاني : أن «من آياته » متعلق٣ «بيريكم » أو بمحذوف على أنه حال من البَرْقِ. والتقدير «يريكم البرق من آياته » فيكون قد عطف جملة فعليةً على جملة اسمية.
والثالث : أن «يريكم » صفة لموصوف محذوف أي ومن آياته ( آية٤ ) يريكم البرق بها أو فيها البرق فحذف الموصوف والعائد عليه ومثله :
٤٠٣٩ - وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا٥ أموت. . . . . . . . . . . . . ٦
أي منهما تارة أموت منها.
الرابع : أن التقدير : ومن آياته سحابٌ أو شيءٌ يريكم ؛ فيريكم صفة لذلك المقدر، وفاعل «يريكم » ضمير يعود عليه٧ بخلاف الوجه قبله، فإن الفاعل ضمير الباري تعالى.

فصل :


المعنى يريكم البرقَ خوفاً للمسافرين من الصواعق، وطمعاً للمقيمين في المطر وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون ﴾.

فصل :


قدم لوازم الأنفس على العوارض المفارقة ( حيث٨ ذكر أولاً اختلاف الألسنة٩ والألوان ثم المنام والابتغاء، وقدم في الآفاق العارضة المفارقة ) على اللوازم حيث قال :﴿ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ عليكم ﴾ وذلك لأن الإنسان متغير الحال١٠، فالعوارض فيها أغرب من اللوازم فقدم ما هو عجيب لكونه أدخلَ في كونهِ «آيةً » فإن الإنسان يتغير حاله بالكبر والصغر والصحة والسقم فله صوت يعرف به لا يتغير وله لون يتميز به عن غيره، وهو متغير١١ بذلك في الأحوال وذلك لا يتغير وهو آية عجيبة والسماء ( والأرض١٢ ) ثابتان لا يتغيران ثم نرى في بعض الأحوال أمطاراً هاطلةً، وبُرُوقاً هائِلةً والسماء كما كانت والأرض كما كانت وذلك آية تدل على فاعل مختار يديم أمراً مع تغير المحلِّ ويُزِيل أمراً مع ثبات المحلِّ.

فصل :


كما قدم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافعَ كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة وهي أن البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كِنّ١٣ يخاف الابتلال فيستعد له، والذي له صهْريج١٤، أو مصنع يحتاج إلى الماء أو زرع يسوي مجاري الماء، وأيضاً أهل البوادي١٥ لا يعلمون أن البلاد عشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروقَ اللائحة من جانبٍ دُونَ جانبٍ، واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمُقِيمينَ في البلاد فهي ظاهرة للبادين فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية.

فصل :


أما كونه آيةً فلأن الذي في السحاب ليس إلا ماءً وهواءً وخروج النار١٦ منهما بحيث يحرق الجبال في غاية البعد فلا بد له من خالق وهو الله. وقالت الفلاسفة : السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء أو الماء فالهَوَى١٧ ألطف منه والماء أكثف فإذا هبت الريحُ قويةً تحرك السحابُ فيَحْدُثُ صوت الرعد وتخرج منه النار، كما أن النار تخرج من وَقْعِ الحَجَر على الحَديد فإن قيل : الحديد والحجر جسمان صُلْبَان، والسحاب والريح جسمان ( لَينانِ١٨ ) ( فنقول١٩ لكن حركة يد الإنسان ضعيفة، وحركة الريح قوية تقلع الأشجار ) فنقول لهم الرعد والبرق ( أَمْرانِ٢٠ ) حادثان لا بد لهما من مسبِّب، وقد٢١ علم بالبرهان كونُ كلِّ حادث ( فهما )٢٢ من الله ثم نقول :( هب٢٣ ) أن الأمر كما يقولون فهبوب تلك الريح القوية من الأمور الحادثة العجيبة فلا بد لها من سبب٢٤ وينتهي إلى واجب الوجود فهو آية للعاقل على قدرة الله كَيْفَمَا فَرَضْتُمْ.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا :﴿ آيات لقوم يعقلون ﴾ وقوله فيما تقدم :«لقوم يتفكرون ؟ » فالجواب :
لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أن ذلك بالطبيعة لأن المطرد أقرب إلى٢٥ الطبيعة ( من )٢٦ المختلف، والبرق والمطر ليس أمراً مطرداً ( غير مختلف٢٧ ) بل يختلف إذ يقع ببلدة دون بلدة وفي وقت دون وقت، وتارة يكون قوياً٢٨، وتارة يكون ضعيفاً فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار، فقال هو آية لمن له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً.
١ في "ب" الموافق إخوانه وانظر في ذلك التفسير الكبير للإمام الفخر ٢٥/١١٢ و ١١٣..
٢ هذا صدر بيت من الطويل للشاعر طرفة بن العبد من معلقته المعروفة عجزه:
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
في هذا البيت يزجر من يعيب عليه لهوه، والشاهد: حذف "أن" ونصب الفعل وهذا على قول الكوفيين بمن فيهم الفراء قائلين إن ذلك ضرورة، وفيه شاهد آخر وهو رفع الفعل وهو "أحضر" بحذف الناصب وتعريه منه والمعنى لأن أحضر وهو المراد هنا وانظر: البيان ٢/٢٥٠، ومعاني القرآن للفراء ٢/٣٢٣ ومعاني القرآن للزجاج ١/١٣٩ والسبع الطوال لابن الأنباري ١٩٢ والمقتضب ٢/١٣٤ والمسائل العسكرية ٢٠٢، والمقتصد ٧٩، والتصريح ٢/٢٤٥ والهمع ١/٦ ومجالس ثعلب ٣١٧ والبيان- أيضاً- لابن الأنباري ١/١٠١ والخزانة ١/١١٩ والديوان "٣٢" والحماسة البصرية ١/٢٧٠..

٣ في "ب" يتعلق..
٤ ساقط من "ب"..
٥ في "ب" مادتان على رواية في البيت..
٦ تمامه:
وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقد تقدم.
والبيت من الطويل، وقائله تميم من مقبل، وشاهده: حذف الموصوف وإبقاء صفته لدلالة ما قبله عليه والأصل: وتارة أموت فيها وتارة أخرى أكدح فيها انظر: ديوانه (٢٤) والكتاب ٢/٣٤٦ ومعاني الفراء ٢/٣٢٣ والقرطبي ١٤/١٨ والمقتضب ٢/١٣٦ والهمع ٢/١٢٠ والمحتسب ١/٢١٢ والطبري ٢١/٢٢ والخزانة ٥/٥٥-٥٩ والكامل ٣/١٧٩ ومعاني القرآن للزجاج ٢/٢٤٨ و ٤/١٨٢. وانظر في إعراب هذا الوجه وما قبله الدر المصون ٤/٣٢٠ والتبيان ١٠٣٨ و ١٠٣٩ والبيان ٢/٢٥٠..

٧ انظر هذا الوجه في الدر المصون ٤/٣٢٠ والتبيان ١٠٣٩..
٨ من هنا ساقط من "ب"..
٩ ساقط من "ب"..
١٠ في تفسير الفخر الرازي: والعوارض له غير بعيدة، وأما اللوازم فيه فقريبة..
١١ في "ب" يتغير..
١٢ ساقط من "ب"..
١٣ الكنّ مفرد الكنون وهو البيت اللسان "ك ن ن" ٩٤٢..
١٤ واحد الصهاريج وهي كالحياض يجتمع فيها الماء، اللسان "صَ هـْ رَ جَ" ٢٥١٦..
١٥ في "ب" الوادي..
١٦ في "ب" المياه..
١٧ الهواء وهو الأصح في "ب"..
١٨ ساقط من "ب"..
١٩ ساقط كله أيضاً من "ب"..
٢٠ ساقط من "ب"..
٢١ انظر الفخر الرازي ٢٥/١١٤..
٢٢ زيادة من "ب"..
٢٣ ساقط من "ب"..
٢٤ في "ب" نسب..
٢٥ في "ب" من..
٢٦ ساقط من "ب"..
٢٧ ساقط من "ب"..
٢٨ في "ب" قريباً..
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ﴾ قال ابن مسعود: قامتا على غير عُمُدٍ بأمره. واعلم أنه ذكر من لوزم المساء والأرض قيامهما فإن الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها معجب من علوها وثباتها من غير عمد، وهذا من اللوازم، فإن الأرض لا تخرج عن مكانه الذي فيه.
(فإن قيل:) بأنها تتحرك في مكانها كالرَّحَاء، ولكن اتفق العقلاء على أنها في مكانها (لا تخرج عنه. وهذا آية ظاهرة لأن كونهما في الموضع الذي هما فيه، وعلى الموضع الذي هما عليه) من الأمور الممكنة وكونهما في غير ذلك الموضع جائز فكان يمكن أن يَخْرُجَا منه، فلمّا لم يخرجا كان ذلك ترجيحاً للجائز على غيره وذلك لا يكون إلا بفاعل مختار، وقالت الفلاسفة: كون الأرض في الكائن الذي هي فيه طبيعى لها لأنها أثقل الأشياء، والثقيل يطلب المركز والخفيف يطلب المحيط وكون السماء في مكانها إن كانت ذات مكان فلذاتها، فقيامها فيه لطبعها وأُجيبُوا بأنكم وافقتمونا بأن ما جاز على أحد المثلين جاز على المثل الآخر لكن مقعَّر الفلك لا يخالف مُحْدَبه في الطبع فيجوز حصول مقعره في موضع محْدبه وذلك بالخروج والزوال فإذن تطرق الزوال إليه عن المكان ممكن لا سيما على السماء الدنيا فإنها ليست محدّده للجهات على مذهبكم أيضاً والأرض كانت يجوز عليها الحركة الدورية كما تقول على السماء فعدمها وسكونها ليس إلا بفاعل مختار.

فصل


ذكر الله تعالى من كل باب أمرين: أما من الأنفس فقوله: « (خلقكم) وخلق لكم» واستدل بخلق الزوجين ومن الآفاق السماء والأرض (فقال: «خلق السماوات والأرض» ) ومن لواز الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البَرْقَ والأمطار ومن لوازمها قيام السماء والأرض؛ لأن الواحد يكفي للإقرار بالحق، والثاني يفيد الاستقرار ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين، فإن قول أحدهما يفيد الظن، ، وقول الآخر يفيد تأكيده، ولهذا قال إبراهيم عليه (الصَّلاَة و) السلام: ﴿بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٦٠].
401

فصل


قوله: بأمره أي بقوله: «قوما» أو بإرادته قيامها؛ لأن الأمر عند المعتزلة موافقٌ للإرادة وعندنا ليس كذلك ولكن النزاع في أمر التكليف، لا في أمر التكوين فإنا لا ننازعهم في أن قوله: «كُنْ فَيَكُونَ» و «كُونِي» و «كونوا» موافق للإرادة.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله «ههنا» :﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء﴾ وقال قبله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ﴾ [الروم: ٢٤] (ولم يقل: أنْ يُرِيَكُم) ليصير (كالمصدر «بأن» ؟).
فالجواب: أن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل ولم يذكر معه الحروف المصدرية.
فإن قيل: ما الحكمة في أنه ذكر ست دلائلَ وذكر في أربعةٍ منها: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ﴾ [الروم: ٢٤] ولم يذكر الأولى وهو قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾ [الروم: ٢٠] ولا في الآخر وهو قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض﴾ ؟.
فالجواب: أما الأول فلأن قوله بعده: ﴿ومن آياته أن خلق لكم﴾ أيضاً دليل الأنفس فخلق السماء والأرض وخلق الأزواج من باب واحد على ما تقدم من أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير والتوكيد. فلما قال في الثانية: ﴿إن في ذلك لآيات﴾ كان عائداً إليهما، وأما في قيام السماء والأرض فلأنه ذكر في الآيات السماوية أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون وذلك لظهور فلما كان في أول الأمر ظاهراً ففي آخر الأمر بعد سَرْدِ الدلائل يكون أظهر (فلم يميز أحداً في ذلك عن الآخر). ثم إنه تعالى لما ذكر الدليل على القدرة والتوحيد ذكر مدلوله وهو قدرته على الإعادة فقال: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ وجه العطف «بثم» و «بم تعلق» فمعناه أنه تعالى إذا بين لكم كمال قدرته بهذه الآيات بعد ذلك يخبركم ويعلمكم أنه إذا قال للعظام الرميمة اخرجوا من الأجداث يخرجون أحياء.
قوله: «مِنَ الأَرْضِ» فيه أوجه: أظهرها: أنه متعلق بمحذوف يدل عليه «يخرجون» أي خرجتم من الأرض، ولا جائز أن يتعلق «بتَخْرُجُونَ» لأن ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها.
402

فصل


قَوْلُ القَائِل: «دعا فلانٌ فلاناً من الجبل» يحتمل أن يكون الدعاء من الجبل كما يقول القائلك يا فلانُ (اصْعَدْ) إلى الجبل، (فيقال: دَعَاهُ من الجبل، ويحتمل أن يكون المدعوّ يُدْعَى من الجبل كما يقول القائل: يا فلانُ انزل من الجبل فيقال دعاه من الجبل)، ولا يخفى على العاقل أن الدعاء لا يكون من الرض إذا كان الداعي هو اللَّه، والمدعوّ يدعى من الأرض، يعني أنكم في الأرض فيدعوكم منها فتخرجون، وَإِذا هي الفجائية، قال أكثر العلماء معنى الآية: ثم إذا دعاكم دعوة إِذا أنتم تخرجون من الأرض.

فصل


قال ههنا: ﴿إذا أنتم تخرجون﴾ وقال في خلق الإنسان أولاً: ﴿ثم إذا أنتم بشر تنتشرون﴾ لأن هناك يكون خلقٌ وتقديرٌ وتدريجٌ حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفُخُ فيه روحَه فإذا هو بشر، وأما في الإعادة فلا يكون تدريجٌ وتراخٍ بل يكون نداء وخروج، فلم يقل ههنا: «ثُمَّ».
قوله: ﴿وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ قال ابن عباس: كل له مطيعون في الحياة والفناء والموت والبعث وإنْ عَصَوْا في العبادة. وقال الكلبي: هذا خاص لمن كان منهم مطيعاً. ولما ذكر الآيات التي تدل على القدرة على الحشر الذي هو الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأول أشار إليهما بقوله: ﴿وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض﴾ ونفس السموات والأرض له وملكه فكُلٌّ له منقادون قانتون، والشريك يكون منازعاً، فلا شريك له أصلاً، ثم ذكر المدلول الآخر فقال: ﴿هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده﴾ يخلقهم أولاً، ثم يعيدهم بعد الموت للبعث.
403
قوله :﴿ وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ قال ابن عباس : كل له مطيعون في الحياة والفناء والموت والبعث وإنْ عَصَوْا في العبادة١. وقال الكلبي : هذا خاص لمن كان منهم مطيعاً٢. ولما ذكر الآيات التي تدل على القدرة على الحشر الذي هو الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأول أشار إليهما بقوله :﴿ وَلَهُ مَن فِي السموات والأرض ﴾ ونفس السموات والأرض له وملكه فكُلٌّ٣ له منقادون قانتون، والشريك يكون منازعاً، فلا شريك له أصلاً، ثم ذكر المدلول الآخر فقال :﴿ هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾ يخلقهم أولاً، ثم يعيدهم بعد الموت للبعث.
١ انظر: القرطبي ١٤/٢٠ وفيه أن ابن عباس يقول: مصلون وانظر معاني الزجاج ٤/١٨٣..
٢ المرجع السابق..
٣ في "ب" الكل ينقادون..
قوله: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ في «أهون» قولان:
أحدهما: أنها للتفضيل على بابها وعلى هذا يقال: كيف يتصور التفضيل، والإعادة والبداءة بالنسبة إلى الله تعالى على حد سواء؟ في ذلك أجوبة: أحدها: أن ذلك بالنسبة
403
إلى اعتقاد البشر باعتبار المشاهدة من أن إعادة الشيء أهون من اختراعه لاحتياج الابتداء إلى إعمال فكر غالباً، وإن كان هذا (مُنْتَفِياً) عن البارىء تعالى فخوطبوا بحسب ما أَلِفُوهُ.
الثاني: أن الضمير في «عليه» ليس عائداً على الله تعالى إنما يعود على الخلق أي والعود أَهْوَنُ عَلَى الخلق أي أسرع لأن البداء فيها تدريجٌ من طورٍ إلى طورٍ إلى أن صارت إنساناً والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات فكأنه قيل: وهو أَقْصَرُ عليه وأيسر وأقل انتقالاً والمعنى يقومون بصيحة واحد فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نُطَفاً ثم عَلَقاً ثم مُضَغاً إلى أن يَصِيرُوا رجالاً ونساءً - وهي رواية الكلبي عن أبي صالحٍ عن ابن عباس.
الثالث: أن الضمير في «عليه» يعود على (المخلوق بمعنى) والإعادة أَهْوَنُ على المخلوق أي إعادته شيئاً بعد ما أنشأه هذه في عرف المخلوقين، فكيف ينكرون ذلك في جانب الله تعالى، والثاني: أن «أَهْوَن» ليست للتفضيل بل هي صفة بمعنى «هَيِّن» كقولهم «اللَّهُ أكبر» أي الكبير وهي رواية العَوْفِيِّ عن ابن عباس.
وقد يجيء «أفعل» بمعنى الفاعل كقول الفرزدق:
٤٠٤٠ - إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا بَيْتاً دَعائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
أي عزيزة طويلة. والظاهر عود الضمير في «عليه» على الباري تعالى ليوافق الضمير في قوله: (وله المثل الأعلى. قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ وقدمت في قوله) :﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ [مريم: ٩] قلتُ: هنالك قصد الاختصاص وهو (محزة) فقيل: هو على هين وإن كان مستصعباً عندك أن يولد بين هِمٍّ وعاقر فذلك عليّ هين لا على غيري، وأما هنا فلا معنى للاختصاص كيف
404
والأمر مبيَّن على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. قال أبو حيان: ومبنى كلامه على أن التقديم يفيد الاختصاص وقد تقدم منعه. قال شهاب الدين: الصحيح أنه يفيده. وتقدم جمع ذلك.
قوله: ﴿وَلَهُ المثل الأعلى﴾ يجوز أن يكون مرتبطاً بما قبله وهو قوله: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ أي قد ضربه لكم مثلاً فيما يسهل ويصعب. وإليه نحا الزجاج. أو بما بعده من قوله: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [الروم: ٢٨] وقيل: المثل: الوصف أي الصفة العليا. قال ابن عباس: هي أنه ﴿ليس كمثله شيء﴾ وقال قتادة: هو أنه لا إله إلا هو.
قوله:» فِي السَّمَواتِ «يجوز أن يتعلق» بالأَعْلَى «أي أنه أعلى في هاتين الجهتين، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من» الأعلى «أو من» المثل «أو من الضمير في» الأعلى «فإنه يعود علىلمثل،» وَهُوَ العَزِيزُ «في ملكه» الحَكِيمُ «في خلقه.
405
قوله: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ أي بين لكم شبهاً بحالكم ذلك المثل من أنفسكم، و «من» لابتداء الغاية في موضع الصفة «لِمَثَلاً»، أي أخذ مثلاً وانْتَزَعَهُ من أقْرَبِ شيء منكم وهو «أنفسكم» ثم بين المثل فقال: ﴿هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ من المال، والمعنى أن من يكون مملوكاً لا يكون شريكاً له في ماله فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة الله تعالى حتى يعبدوا.
قوله: «مِنْ شُرَكَاء» مبتدأ و «من» مزيدة فيه لوجود شرطي الزيادة، وفي
405
خبره وجهان: أحدهما: الجار الأول وهو «لَكُمْ» و «مِمَّا مَلَكَتْ» يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «شركاء» ؛ لأنه في الأصل نعت نكرة قدم عليها، والعامل فيه العامل في هذا الجار الواقع خيراً، أو الخبر مقدر بعد المبتدأ، و «فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ» «بشركاء» و «ما» في «مما» بمعنى النوع، تقدير ذلك كله: هل شركاءُ فيما رزقناكم كائنونَ من النَّوْعِ الذي مَلَكتْهُ أيْمَانُكُمْ مستقرون لكم؟ «فكائنون» هو الوصف المتعلق به «ممَّا مَلَكتْ» ولما تقدم صار حالاً و «مستقرون» هو الخبر الذي تعلق به «لكم».
والثاني: أن الخبر «مِمَّا مَلَكَتْ» و «لَكُمْ» متعلق بما تعلق به الخبر، أو بمحذوف على أنه حال من «شركاء» أو بنفس «شركاء» كقولك: لَكَ في الدنيا محب «فلك» متعلق (بِمُحِبٍّ) وفي الدنيا هو الخبر. قوله: ﴿وَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ هذه الجملة جواب للاستفهام الذي بمعنى النفي «وَفِيهِ» متعلق «بسَوَاء».
قوله: «تَخَافُونَهُمْ» فيه وجهان:
أحدهما: أنها خبر ثان «لأنتم» تقديره «فأنتم» مُسْتَوُونَ معهم فيما رزقناكم خائفوهم كخوف بعضهم بعضاً أيها السادة، والمراد نفي الأشياء الثلاثة أعني الشركة والاستواء مع العَبِيد وخوفهم إياهم، وليس المراد ثبوت الشركة، ونفي الاستواء والخوف كما هو أحد الوجهين في قولك: مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا بمعنى ما تأتينا محدِّثاً بل تأتينا ولا تحدثُنا بل المراد نفي الجميع كما تقدم. وقال أبو البقاء: ﴿فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ الجملة في موضع نصب على جواب الاستفهام أي هل لكم فتستووا أنتم. وفيه نظر كيف يجعل جملة اسمية حالة محل جملة فعليه ويحكم على موضع الاسمية بالنصب بإضمار ناصب، هذا مما لا يجوز ولو أنه فسر المعنى وقال: إن الفعل لو حل بعد الفاء لكان منصوباً بإضمار «أَنْ» لكان صحيحاً، ولا بد أيضاً أن يبين أن النصب على المعنى الذي قدمته من نفي الأشياء الثلاثة.
والوجه الثاني: أن «تَخافُونَهُمْ» في محل نصب على الحال من ضمير الفاعل في «سَوَاء». أي فَسَاوَوْا خائفاً بعضُكُمْ من بعض مشاركَتَهُ له في المال أي إذا لم تَرْضوا أنه يشارككم عبيدكُم في المال فكيف تشركون بالله من هو مصنوع له؟ قاله أبو البقاء.
وقال ابن الخطيب معنى حَسَناً وهو أن بين المِثْلِ والمُمَثَّل به مشابهةٌ ومخالفةٌ، فالمشابهة معلومة والمخالفة من وجوه:
406
أحدها: قوله: «مِنْ أَنْفُسِكُمْ» أي من نَسْلِكُمْ مع حقارة الأنفس ونقصِها وعجْزِهَا، وقاسَ نفسه عليكم مع جلالتها وعظمتها وقدرتها وكمالها.
وثانيها: قوله: ﴿مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي عبيدكم لكم عليهم ملك اليمين والملك لها طَارِ (ىء) قابل للنقل والزوال، أما النقل فالبيع وغيره، وأما الزوال فبالعِتْقِ ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك فإذا لم يجز أن يكون مملوك يمينكم شريكاً لكم مع أنه يجوز أن يصير مثلكم من جميع الوجوه بل هو في الحال مثلكم في الآدميَّةِ حال الرق حتى أنكم ليس لكم تصرفٌ في روح وآدميته بقطع وقتل وليس لكم منعهم من العبادة وقضاء الحاجة فكيف يجوز أن يكون مملوك الله الذي هو مملوكه من جميع الوجوه وهو مباينله بالكلية شريكاً له؟!
وثالثه: قوله: «مما رَزَقَنْاكُمْ» يعني: الذي لكم هو في الحقيقة ليس لكم بل هو لِلَّه ومن رزقه حقيقة فإذا لم يجز أن يكون لكم شريط فيما هو لكم من حيث الاسم فكيف يجوز أن يكون له شريك فيما هو له من حيث الحقيقة.
ورابعها: قوله: ﴿فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ أي هل أنتم ومماليككم في شيء مما تملكون أنتم سواء ليس كذلك فلا يكون لله شريك في شيء؛ لأن كل شيء فهو لله وما تدعون إِلهيَّتَهُ لا يملكون شيئاً أصلاً، ولا مِثْقَالَ ذرة خَرْدَلٍ فلا يُعْبَدُ لعظمته ولا لمنفعة تصل إليكم (منهم) منه، وأيضاً فأنتم ومماليككم سواء ليس كذلك لأن المملوكَ ليس له عندكم حُرْمَةُ الأحرار، وإذا لم يكن المملوك مع مساواته إياكم في الحقيقة والصفة عندكم حرمة فكيف يكون حال المماليك الذين لا مساواة بينهم وبين المالك بوجه من الوُجُوه، وإلى هذا إشار بقوله: ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِفَتُكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ انتهى. وإنما ذكرت هذا المعنى مبسوطاً لأنه مبين لما ذكرته من وجوه الإعراب. «كخفيفتكم» أي كَخِيفَةٍ مِثْل خِيفَتِكُمْ. والعامة على نصب «نفسكم»، لأن المصدر مضاف لفاعله.
وقرأ ابْنُ أبي عبلةَ بالرفع على إِضافة المصدر لمفعول. اسْتَقْبَحَ بعضهم هذا إِذا وجد الفاعل. وقال بعضهم: ليس بقبيح بل يجوز إضافته إلى كل منهما إذا وجدا وأنشد:
407
٤٠٤١ - أَفْنَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبِ قَرْعُ القَوَارِير أَفْوَاهُ الأَبَارِيقِ
ينصب «الأفواه» و «رفعها».
قوله: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات﴾ أي مثلُ ذلك التفصيل البين نفصل. وقرأ أبو عمرو - في رواية يُفَصِّل - بياء الغيبة رداً على قوله: «ضَرَبَ لَكُمْ»، والباقون بالتكلم رداً على قوله «رَزَقْنَاكُمْ» والمعنى يبين بالآيات والدلائل والبراهيم القطعية والأمثلة: «لقوم يعقلون» ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم، والأمر لا يخفى بعد ذلك إلا على من لا يكون له عقل.
408
قوله: ﴿بَلِ اتبع الذين ظلموا أَهْوَآءَهُمْ﴾ أي لا يجوز أن يشرك مالك ممولكه ولكن الذين ظلموا أي أشركوا اتبعوا أهواءهم في الشرك ﴿مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي من غير دليل جهلاً بما يجب عليهم، ثم بين أن ذلك بإرادة الله بقوله: ﴿فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله﴾ أي هَؤلاء أَضَلَّهم الله فلا هاديَ لهم فلا يحزنْك قَوْلُهُمْ ثم قال: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ مانعيهم يمنعونهم من عذاب الله - عَزَّ وَجَلَّ -.
408
قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً﴾ أي أخلص دينك لله قال سعيد بن جبير: وقامة الوجه إقامة الدين. وقال غيره: سَدِّدُ عملَكَ. والوجه ما يتوجه إليه، وقيل: أقبل بكُلِّكَ على الدين. عبر عن الذات بالوجه كقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] أي ذاته بصفاته.
قوله: «حَنِيفاً» حال من فاعل «أقم أو من مفعوله، أو من» الدِّين «ومعنى حنيفاً مائلاً إليه مستقيماً عليه، ومِلْ عن كل شيء لا يكون في قلبك شيء آخر، وهذا قريب من معنى قوله: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين﴾.
قوله:»
فِطْرَةَ اللَّهِ «فيه وجهان:
أحدهما: أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقوله: ﴿صِبْغَةَ الله﴾ [البقرة: ١٣٨] و ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨].
والثاني: أنه منصوب بإضمار فعل. قال الزمخشري: وإنما أضمره على خطاب الجماعة لقوله:»
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ «وهو حال من الضمير في» الْزَمُوا «.
وقوله: ﴿واتَّقُوهُ وأَقِيمُوا... وَلاَ تَكُونُوا﴾ معطوف على هذا المضمر، ثم قال:»
أو عليكم فطرةَ الله «ورد أبو حيان بأن كلمة الإغراء لا تضمر، إذ هي عِوَضٌ عن الفعل فلو حذفها لزم حذف العِوَضِ والمُعَوَّضِ عنه وهو إجحاف. قال شهاب الدين: هذا رأي البصريين وأما الكسائي وتباعه فيجيزون ذلك.

فصل


ومعنى فطرة الله: دين الله وهو التوحيد فإن الله فطر الناس عليه حيث أخرجهم من ظهر آدم وسألهم: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ [الأعراف: ١٧٢] وقال عليه السلام»
مَا مِنْ مَوْلُودِ إِلاَّ وَهُوَ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ وَإِنَّمَا أَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانه ويمجّسانه «، فقوله:»
409
على الفطرة «، يعني على العهد الذي أخذه عليهم بقوله: ﴿ألست بربكم قالوا بلى﴾ وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الفطرة التي وقع الخلق عليها وإن عبد غيره قال الله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾ [الزخرف: ٨٧] ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣] ولكن لا عبرة بالإيمان الفِطْريِّ في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعُ المأمور به، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين. وقيل: الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله على الإسلام، روي عن عبد الله بن المبارك قال معنى الحديث: إن كل مولود يولد على فِطرته أي على خلقته التي جُبِلَ عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها فمن أمارات الشقاء أن يُولَد بين يَهْودِيَّيْنِ أو نَصْرَانِيِّيْنِ فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما، وقيل: معنى الحديث أن كل مولود في مَبْدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلّة السليمة والطبع المنهيّ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها؛ لأن هذا الدين موجود حُسْنُهُ في العقول، وإنما يَعْدِلُ عنه من يَعْدِلُ إلى غيره لآفة من النُّشوءِ والتقليد فمن يَسْلَمْ من تلك الآفات لم يعتقد غيره، ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخَطَّابيُّ في كتابه.
قوله: ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله﴾ فمن حمل الفِطرة على الدين قال معناه: لا تبديل لذين الله، فهو خبر بمعنى النهي، أي لا تُبَدِّلُوا التوحيد بالشرك. وقيل: هذا تسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال عكرمة ومجاهد: معناه تحريم إخصاء البهائم، ثم قال: ﴿ذَلِكَ الدين القيم﴾ المستقيم الذي لا عوج فيه ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أن ذلكَ هُوَ الدينُ المستقيمُ.
قوله: «مُنِيبِينَ»
حال من فاعل «الْزمُوا» المضمر كما تقدم، أو من فاعل «أَقِمْ» على المعنى لأنه ليس يراد به واحدُ بعينه، وإنما المراد الجميع، وقيل: حال من «
410
النَّاسِ» إِذَا أريد بهم المؤمنون، وقال الزجاج بعد قوله: «وَجْهَكَ» معطوف تقديره «فَأَقِمْ وَجْهَكَ وأُمَّتَكَ» فالحال من الجميع، وَجَازَ حذل المعطوف لدلالة «مُنِيبِينَ» عليه، كما جاز حذفه في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ أي والناسُ لدلالة: «إِذَا طَلَّقْتُمْ» عليه، كذا زعم الزجاج، في ﴿ياا أَيُّهَا النبي﴾ [الطلاق: ١] وقيل: على خبر كان، أي كُونُوا مُنِيبِينَ، لدلالة قَوْلِهِ: «وَلاَ تَكُونُوا».

فصل


معنى منيبين إليه أي مُقْبِلِينَ عليه بالتوبة والطاعة، «وَاتَّقُوهُ» إي إِذَا أقبلتم عليه، وتركتم الدنيا، فلا تأمنوا فتتركوا عبادته بل خافوه وداوموا على العبادة «وأَقِيمُوا الصَّلاَةَ» ولا تَكُونُوا مِنَ المشركِينَ؛ بإِعادة العامل. وتقدم قراءتا «فَرَّقُوا، وَفَارَقُوا» وتفسير «الشِّيَعِ» أيضاً. قوله: «فَرِحُونَ» الظاهر أنه خبر عن «كل حزب» ؛ وجوز الزمخشري أن يرتفع صفة «لكُلّ» قال: ويجوز أن يكون «من الذين» منقطعاً مما قبله ومعناه من المفارقين دينهم كل حزب فَرِحينَ بما لديهم، ولكنه رفع «فَرِحِين» وصفاً لكل كقوله:
٤٠٤٢ - وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ................................
قال أبو حيان: قدر أولاً «فَرِحِينَ» مجروراً صفة «لِرَجُلٍ» وهو الكثر كقوله:
411
٤٠٤٣ - جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدَّرْهَمِ
وجاز الرفع نعتاً «لكُلّ» كقوله:
٤٠٤٤ - وَلِهَتْ عَلَيْهِ كُلُّ مُعْصِفَةٍ هَوْجَاءُ لَيْسَ لِلُبِّهَا زَبْرُ
وهو تقدير حسن.
412
قوله تعالى :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ﴾ أي أخلص دينك لله قال سعيد بن جبير : وإقامة الوجه إقامة الدين. وقال غيره : سَدِّدُ عملَكَ. والوجه ما يتوجه إليه، وقيل : أقبل بكُلِّكَ على١ الدين. عبر عن الذات بالوجه كقوله تعالى :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ] أي ذاته بصفاته.
قوله :«حَنِيفاً » حال من فاعل «أقم » أو من مفعوله، أو من «الدِّين »٢ ومعنى حنيفاً مائلاً إليه مستقيماً عليه٣، ومِلْ عن كل شيء لا يكون في قلبك شيء آخر، وهذا قريب من معنى قوله :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين ﴾.
قوله :«فِطْرَةَ اللَّهِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقوله :﴿ صِبْغَةَ الله ﴾ [ البقرة : ١٣٨ ] و ﴿ صُنْعَ الله ﴾ [ النمل : ٨٨ ].
١ انظر: الطبري ٢١/٢٦..
٢ الكشاف ٣/٢٢٢، والبحر المحيط ٧/١٧١، والدر المصون ٤/٣٣٢..
٣ القرطبي ١٤/٢٤..
والثاني : أنه منصوب بإضمار فعل١. قال الزمخشري : وإنما أضمره على خطاب الجماعة لقوله :«مُنِيبِينَ إِلَيْهِ » وهو حال من الضمير في «الْزَمُوا »٢.
وقوله :﴿ واتَّقُوهُ وأَقِيمُوا. . . وَلاَ تَكُونُوا ﴾ معطوف على هذا المضمر، ثم قال :«أو عليكم فطرةَ الله »٣ ورد أبو حيان بأن كلمة الإغراء لا تضمر، إذ هي عِوَضٌ عن الفعل فلو حذفها لزم حذف العِوَضِ والمُعَوَّضِ عنه وهو إجحاف٤. قال شهاب الدين : هذا رأي البصريين وأما الكسائي وأتباعه فيجيزون ذلك٥.

فصل :


ومعنى فطرة الله : دين الله وهو التوحيد٦ فإن الله فطر الناس عليه حيث أخرجهم من ظهر آدم وسألهم :﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] وقال عليه السلام «مَا مِنْ مَوْلُودِ إِلاَّ وَهُوَ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ وَإِنَّمَا أَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانه ويمجّسانه »٧، فقوله :«على الفطرة »، يعني على العهد الذي أخذه عليهم بقوله :﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الفطرة التي وقع الخلق عليها وإن عبد غيره قال الله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ] ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] ولكن لا عبرة بالإيمان الفِطْريِّ في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعُ المأمور به، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين٨. وقيل : الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله على الإسلام، روي عن عبد الله بن المبارك قال معنى الحديث : إن كل مولود يولد على فِطرته أي على خلقته التي جُبِلَ عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها فمن أمارات الشقاء أن يُولَد بين يَهْودِيَّيْنِ أو نَصْرَانِيَّيِْنِ فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما، وقيل : معنى الحديث أن كل مولود في مَبْدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلّة السليمة والطبع المنهيّ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ؛ لأن هذا الدين موجود حُسْنُهُ في العقول، وإنما يَعْدِلُ عنه من يَعْدِلُ إلى غيره لآفة من النُّشوءِ والتقليد فمن يَسْلَمْ من تلك الآفات لم يعتقد غيره، ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخَطَّابيُّ في كتابه.
قوله :﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ﴾ فمن حمل الفِطرة على الدين قال معناه : لا تبديل لدين الله، فهو خبر بمعنى النهي، أي لا تُبَدِّلُوا دين الله، قاله مجاهد٩ وإبراهيم١٠ والمعنى الزموا فطرة الله أي دين الله فاتبعوه، ولا تبدلوا التوحيد بالشرك. وقيل : هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم – عن الحزن حيث لم يؤمن قومه فقال : هم خلقوا للشقاوة، ومن كتب شقياً لا يسعد، وقال عكرمة ومجاهد : معناه١١ تحريم إخصاء البهائم، ثم قال :﴿ ذَلِكَ الدين القيم ﴾ المستقيم الذي لا عوج فيه ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أن ذلكَ هُوَ الدينُ المستقيمُ١٢.
قوله :«مُنِيبِينَ » حال من فاعل «الْزمُوا »١٣ المضمر كما تقدم، أو من فاعل١٤ «أَقِمْ » على المعنى لأنه ليس يراد به واحدُ بعينه، وإنما المراد الجميع، وقيل : حال من «النَّاسِ١٥ » إِذَا أريد بهم المؤمنون، وقال الزجاج بعد قوله :«وَجْهَكَ » معطوف تقديره «فَأَقِمْ وَجْهَكَ وأُمَّتَكَ » فالحال من الجميع، وَجَازَ حذل المعطوف لدلالة «مُنِيبِينَ » عليه، كما جاز حذفه في قوله :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾ أي والناسُ لدلالة :«إِذَا طَلَّقْتُمْ » عليه، كذا زعم الزجاج١٦، في ﴿ يا أَيُّهَا النبي ﴾ [ الطلاق : ١ ] وقيل : على خبر كان، أي كُونُوا مُنِيبِينَ، لدلالة قَوْلِهِ :«وَلاَ تَكُونُوا »١٧.

فصل :


معنى منيبين إليه أي١٨ مُقْبِلِينَ عليه بالتوبة والطاعة، «وَاتَّقُوهُ » إي إِذَا أقبلتم عليه، وتركتم الدنيا، فلا تأمنوا فتتركوا عبادته بل خافوه وداوموا على العبادة «وأَقِيمُوا الصَّلاَةَ » ولا تَكُونُوا مِنَ المشركِينَ١٩ ؛ بإِعادة العامل.
١ أي الزموا فطرة الله أو عليكم فطرة الله، وانظر هذين الإعرابين في البحر المحيط ٧/١٧١، والدر المصون ٤/٣٢٢، ومعاني القرآن ٤/١٨٤، والتبيان ١٠٤٠، والكشاف ٣/٢٢٢، وإعراب القرآن للنحاس ٤/٢٧١..
٢ انظر: الكشاف ٣/٢٢٢ وقد قال الزمخشري عند "فطرة" إن التقدير: الزموا فطرة الله أو عليكم فطرة الله..
٣ هذا بقية كلام الزمخشري. انظر: الكشاف ٣/٢٢٢..
٤ البحر المحيط ٧/١٧٢ مع تصرف طفيف في عبارته..
٥ الدر المصون ٤/٣٢٥..
٦ معاني الفراء ٢/٣٢٤..
٧ الحديث في الكشاف ٣/٢٢٢ والقرطبي ١٤/٢٤ برواية أبي هريرة- رضي الله عنه..
٨ وهو قول ابن زيد أيضاً، انظر: الطبري ٢١/٢٦، والقرطبي ١٤/٢٤ و ٢٥/٢٦..
٩ انظر: القرطبي ١٤/٣١..
١٠ السابق وإبراهيم هو: إبراهيم بن سويد النخعيّ الكوفيّ الأعور عن علقمة والأسود، وعنه سلمة بن كهيل وزيد اليامي. انظر: خلاصة الكمال ١٨..
١١ انظر: القرطبي أيضاً ١٤/٣١ وهذا عن ابن عباس وعمر بن الخطاب..
١٢ نقله في القرطبي ١٤/٣١..
١٣ نقله في البحر المحيط ٧/١٧٢ والدر المصون ٤/٣٢٥ والتبيان ١٠٤٠، وانظر: إعراب النحاس ٣/٢٧٢ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج كما سيأتي أيضاً ٤/١٨٥ فضلاً عن الكشاف للزمخشري ٣/٢٢٢..
١٤ البيان ٢/٢٥٩ والمراجع السابقة..
١٥ المراجع السابقة..
١٦ قال في معاني القرآن: زعم جميع النحويين أن هذا فأقيموا وجوهكم منيبين إليه لأن مخاطبة النبي- صلى الله عليه وسلم- يدخل معه فيها الأمة والدليل على ذلك قوله "يأيها النبي إذا طلقتم النساء"..
١٧ ذكر هذا أبو حيان في البحر المحيط ٧/١٧٣..
١٨ نقله القرطبي ١٤/٣٢..
١٩ في معظم المراجع (من الذين فرقوا- بدل من المشركين) الكشاف ٣/٢٢٢ والبحر المحيط ٧/١٧٣ والدر المصون ٤/٣٢٥..
وتقدم قراءتا «فَرَّقُوا، وَفَارَقُوا » وتفسير «الشِّيَعِ » أيضاً١. قوله :«فَرِحُونَ » الظاهر أنه خبر عن «كل حزب » ؛ وجوز الزمخشري٢ أن يرتفع صفة «لكُلّ » قال : ويجوز أن يكون «من الذين » منقطعاً مما قبله ومعناه من المفارقين دينهم كل حزب فَرِحينَ بما لديهم، ولكنه رفع «فَرِحِين » وصفاً لكل كقوله :
٤٠٤٢ - وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ . . . . . . . . . . . . . . . ٣
قال أبو حيان : قدر أولاً «فَرِحِينَ » مجروراً صفة «لِرَجُلٍ » وهو الأكثر٤ كقوله :
٤٠٤٣ - جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدَّرْهَمِ٥
وجاز الرفع نعتاً «لكُلّ » كقوله :
٤٠٤٤ - وَلِهَتْ عَلَيْهِ كُلُّ مُعْصِفَةٍ هَوْجَاءُ لَيْسَ لِلُبِّهَا زَبْرُ٦
وهو تقدير حسن.
١ في الأنعام عند الآية ١٥٩ عند قوله "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً" وقد قيل هناك: عن حمزة والكسائي قرءا "فارقوا" بالألف والباقون بالتشديد وانظر: اللباب (ميكروفيلم). والإتحاف ٤٣٨ والسبعة ٢٧٤. وقيل: عن الشيعة أتباع الرجل وأنصاره وجمعها: شيع، والشيعة: الذين يتبع بعضهم بعضا وليس كلهم متفقين..
٢ انظر: الكشاف ٣/٢٢٢..
٣ من الطويل وهو للشماخ بن ضرار الذبياني، وعجزه:
بوصل خليل صارم أو معارز
والهضم: الظلم، والصارم: القاطع، والمعارز: المنقبض. يقول: كل خليل لا يظلم نفسه لخليله فهو ظالم له قاطع ومنقبض عنه. والاستشهاد بالبيت في كلمة "غير" فيجوز رفعها مراعاة "لكل" ويجوز جرها مراعاة "لخليل" والبيت استشهد به الزمخشري على الوجه الأول الذي أجيز لأن "كل" مضاف إلى نكرة. وقد تقدم..

٤ انظر البحر ٧/١٧٢..
٥ هذا بيت من تمام الكامل وهو لعنترة العبسي، و"جادت عليه" من الجود أي المطر. و "ثرة" غنية بالمطر دائمته، والعين مطر أيام لا ينقطع خمسة أو ستة أيام. والحدائق: الحيطان التي فيها النخل و"كالدرهم" في الاستدارة بالماء. وقد تقدم..
٦ هذا بيت من تمام الكامل أيضاً لابن أحمر في وصف ريح تجيء على منازل أصحابه ولا تستقيم في هبوبها على حال واحدة فهي كالناقة الهوجاء، واللب: العقل، والزبر: الإحكام، وولهت: حفّت والشاهد: في كلمة "هوجاء" رفعها وصفاً "لكل"، ويجوز فيه- على الأكثر- الجر- بالفتح حيث لا ينصرف- وصفاً لـ "معصفة". وانظر: الكتاب ٣/٢٢٢ واللسان:" ز ب ر، هـ و ج" وحاشية يس ٢/٣٢، ومعاني القرآن للزجاج ٢/١٤٥، والبحر المحيط ٧/١٧٢ وانظر هذه الأبيات السابقة في الدر المصون ٤/٣٢٦..
قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ﴾ قَحْطٌ وشدّة، ﴿دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ بالدعاء، لما بين التوحيد بالدليل وبالمثل بين أن لهم حالة يعترفون بها، وإن كانوا ينكرونه في وقت ما وهي حالة الشدة، ﴿ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً﴾، خصْبٌ أو نعمة، يعني إذا خلصناهم من تلك الشدة ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾، وقوله: «مِنْهُ» أي من الضر؛ لأن الرحمة غير مطلقة لهم إنما هي على ذلك الضر وحده، وأما الضر المؤخر فلا يذوقون منه رحمة ويحتمل أن يكون الضمير في «منه» عائد إلى الله تعالى، والتقدير ثم إذا أذاقهم اللَّهُ من فضله رحمةً خلصهم بها من ذلك الضر.
قوله: «إذَا فَريقٌ» هذه «إذا» الفُجَائِيَّة، وَقَعَتْ جَوَابَ الشرطِ؛ لأنها كالفاء في أنها للتعقيب ولا يقع أول كلام، وقد تجامعها الفاء زائدةً.
412
فإن قيل: ما الحكمة في قوله ههنا: ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾، وقال في موضع: ﴿فَلَمَّا نَجَاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشرِكُونَ﴾ ولم يقل: فَرِيقٌ.
فالجواب: أن المذكور هناك غير معين، وهو ما يكون من هَوْل البحر، والتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل، والذي لا يشرك منهم بعد الخلاص فرقة منهم فهم في غاية القلة، فلم يجعل المشركين فريقاً لقلة من خرج من الشرك وأما المذكور ههنا الضر مطلقاً فيتناول ضُرَّ البحر والأمراض والأهوال، والمتخلص من أنواع الضر خلقٌ كثير بل جميع الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما فتخلصوا منه والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما فتخلصوا منه والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من جميع الأنواع إذا جمع فهو خلق عظيم وهو جميع المسلمين فإنهم تخلصوا من ضُرّ ولم يبقوا مشركين، وأما المسلمون فلم يتخلصوا من ضُرّ البحر بأجمعهم فلما كان الناجي من الضر المؤمن جمعاً كثيراً سمى الباقي فريقاً.
قوله: «لِيَكْفُرُوا» يجوز أن تكون لام «كي» وأن تكون لام الأمر ومعناه التهديد كقوله: ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تَهْديدٍ فقال: «فَتَمَتَّعُوا».
قرأ العامة بالخطاب فيه، وفي «تَعْلَمُونَ»، وأبو العالية بالياء فيهما، والأول مبني للمَفْعُولِ. وعنه أيضاً «فَيَتَمَتَّعوا» بياء قبل التاء، وعن عبد الله «فلْيَتَمَتَّعُوا» بلام الأمر، والمعنى: فسوف تعلمون حالكم في الآخرة.
قوله: ﴿أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً﴾ أي بُرْهَاناً وحُجَّةً، فإن جعلناهُ حقيقة كان يتكلم مجازاً، وإن جعلناه على حذف مضاف أي ذا سلطان كان يتكلم حقيقة، وقال أبو البقاء هنا: وقيل: هو جميع سليط كرغيف ورغفان انتهى.
413
قال شهاب الدين: وهذا لا يجوز لأنه كان ينبغي أن يقال فهم يتكلمون. و «فَهُوَ يَتَكَلَّمُ» جواب الاستفهام الذي تضمنته «أم» المنقطعة، وهذا استفهام بمعنى الإِنكار أي ما أنزلنا بما يقولون سلطاناً، قال ابن عباس: حجة وعُذْرا، وقال قتادة: كتاباً يتكلم بما كانوا به يشركون «أي ينطق بشركهم».
414
قوله :«لِيَكْفُرُوا » يجوز أن تكون لام «كي » وأن تكون لام الأمر ومعناه التهديد١ كقوله :﴿ اعملوا مَا شِئْتُمْ ﴾٢ ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تَهْديدٍ فقال :«فَتَمَتَّعُوا ».
قرأ العامة بالخطاب فيه، وفي «تَعْلَمُونَ »، وأبو العالية بالياء فيهما، والأول مبني للمَفْعُولِ. وعنه أيضاً «فَيَتَمَتَّعوا »٣ بياء قبل التاء، وعن عبد الله٤ «فلْيَتَمَتَّعُوا » بلام الأمر٥، والمعنى : فسوف تعلمون حالكم في الآخرة.
١ انظر: البحر المحيط ٧/١٧٣، والدر المصون ٤/٣٢٧..
٢ من الآية ٤٠ من سورة "فصلت" والاستشهاد أن اللام إذا كانت للأمر فإن المعنى يكون على التهديد والوعيد كما قرره في البحر المرجع السابق..
٣ انظر: البحر المحيط ٧/١٧٣ والمحتسب لابن جني ٢/١٦٤..
٤ هو ابن مسعود وقد عرفت به..
٥ الكشاف ٣/٢٢٢، والقرطبي ١٤/٣٣ والبحر المحيط ٧/١٧٣، والدر المصون ٤/٣٢٧..
قوله :﴿ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً ﴾ أي بُرْهَاناً وحُجَّةً، فإن جعلناهُ حقيقة كان يتكلم مجازاً١، وإن جعلناه على حذف مضاف أي ذا سلطان كان يتكلم حقيقة، وقال أبو البقاء هنا : وقيل : هو جمع سليط كرغيف ورغفان انتهى٢.
قال شهاب الدين : وهذا لا يجوز لأنه كان ينبغي أن يقال٣ فهم يتكلمون. و «فَهُوَ يَتَكَلَّمُ » جواب الاستفهام الذي تضمنته «أم » المنقطعة٤، وهذا استفهام بمعنى الإِنكار أي ما أنزلنا بما يقولون سلطاناً، قال ابن عباس : حجة وعُذْرا٥، وقال قتادة : كتاباً يتكلم بما كانوا به٦ يشركون «أي ينطق بشركهم ».
١ الكشاف ٣/٢٢٢ و ٢٢٣..
٢ انظر: التبيان ١٠٤٠١ و ١٠٤٠..
٣ انظر: الدر المصون ٤/٣٢٧..
٤ المرجع السابق والبحر المحيط ٧/١٧٣..
٥ انظر: القرطبي ١٤/٣٤..
٦ السابق ١٤/٣٣..
قوله: ﴿وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً﴾ أي الخِصْب وكَثْرة المطر «فَرِحُوا بِهَا» يعني فرح البطر لما بين حال الشرك الظاهر شركه، بين حال الشرك الذي دونه وهو من تكون عبادته للدنيا، فإذا أعطاه رَضِيَ، وإِذا منه سَخِطَ وقَنَطَ، ولا ينبغي أن يكون كذلك بل ينبغي أن يعبد الله في الشدة وزالرخاء.
فإن قيل: الفرح بالرحمة مأمور به قال: ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾ [يونس: ٥٨] وهَهُنَا ذمهم على الفرح بالرحمة.
فالجواب: هناك قال افْرَحُوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله، وهَهُنَا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مِثْلَ فرحهم إذا كان مِنَ الله.
قوله: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ أي الجَدْبُ وقلَّةُ المَطَر، وقيل: الخوف والبَلاَء ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من السيئات ﴿إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ يَيأَسُوا من رحمة الله، وهذا خلاف وصف المؤمنين فإنهم يشركونه عند النعمة، ويرجُونَه عند الشدةِ.
قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾ ألم يعلموا أن الكل من الله فالمحق ينبغي أن لا يكون نظره إلى ما يُوجَد بل إِلى من يُوجد وهو الله، فلا يكون له تبدل حال وإنما يكون عنده الفرح الدائم ولذلك قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
414
قوله: ﴿فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ﴾ من البرِّ والصلة، و «المِسْكِين» بأن يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وابْنَ السَّبِيل «يعني المسافر، وقيل: الضيف. وخص هذه الأصناف الثلاثة بالذكر دون بقية الأصناف الثمانية المذكورة في الصدقات، لأنه أراد ههنا بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال، سواه كان زَكَوِيّاً أو لم يكن وساء كان قبل الحَوْلِ أم بعده؛ لأن المقصودَ هنا الشفقة العامة وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للأنسان مالٌ زائد أما القريب فتجب نفقته عليه إذا كان له مالٌ وإن لم يَحُلْ عليه الحَوْلُ والمسكين كذلك، فإن من لا شيءَ له إذا وقع في الحاجة حتى بلغ الشدة يجب على القادر دفع حاجته وإن لم يكن عليه زكاة، والفقير داخل في المسكين لأن من أوْصَى للمساكين بشيء يُصْرَفُ إلى الفقير أيضاً وإذا نظرتَ إلى الباقين من الأصناف رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وَجَبت الزكاةُ عليهم وقدم القريب لأن دفع حاجته واجبٌ سواء كان في مَخْمَصَةٍ أو لم يكن فلذلك قُدِّمَ على من لا يجب دفع حاجته من غير مال الزكاة إلا إذا كان في شدة، وأما المسكين فحاجته ليست مختصة بموضع، فقدم على من حاجته مختصة بموضعٍ دُونَ مَوْضِعٍ.
قوله:»
ذَلِكَ خَيْرٌ «يحتمل أنْ يُرادَ:» خير من عنده «، وأن يكون ذلك خير في نفسه ﴿لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله﴾ أي يطلبون ثواب الله مما يعملون ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾.
فإن قيل: كيف قال: ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ ؟ مع أن لِلإفلاح شرائطَ أخرى مذكورة في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ﴾ ؟ ﴿.
فالجواب: كل وصف مذكور هنا يفيد الإفلاح، وكذا الذي آتى المال لوجه الله يفيد الإفلاح اللَّهُمَّ إلا إذا وُجِدَ مانعٌ من ارتكاب محظورٍ أو تركِ واجبٍ.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكُرْ غيره من الأفعال كالصلاة وغيره؟
فالجواب: الصلاة مذكورة من قبل وكذا غيرها في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً﴾
[الروم: ٣٠]، وقوله ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ واتقوه وَأَقِيمُواْ الصلاة وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين﴾ [الروم: ٣١].
فإن قيل: قوله في البقرة: «فَأُولَئِكِ هُمُ المُفْلِحُونَ»
إشارة إلى من أقام الصلاة وآتى الزكاة، وآمن بما أنزل على الرسول وبما أنزل من قبل وبالآخرين فهو المفْلح، وإذا كان المفلح منحصراً في «أولئك» فهذا خارج عنهم فكيف يكون مفلحاً؟}.
فالجواب: هذا هو ذاك لأن قوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً﴾ أمر بذلك، فإذا أتَى
415
بالصلاة، وآتى المال، وأراد وجه الله ثبت أنه منم مُقِيمِي الصلاة ومُؤتِي الزكاة ومعترف بالآخرة.
416
قوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾ ألم يعلموا أن الكل من الله فالمحق ينبغي أن لا يكون نظره إلى١ ما يُوجَد بل إِلى من يُوجد وهو الله، فلا يكون له تبدل حال وإنما يكون عنده الفرح الدائم ولذلك قال :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
١ تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٢٤ وفي تفسير الفخر هذا: "المحقق" وليس "المحق"..
قوله :﴿ فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ ﴾ من البرِّ والصلة، و «المِسْكِين » بأن يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وابْنَ السَّبِيل » يعني المسافر، وقيل : الضيف١. وخص هذه الأصناف الثلاثة بالذكر دون بقية الأصناف الثمانية المذكورة في الصدقات٢، لأنه أراد ههنا٣ بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال، سواه كان زَكَوِيّاً أو لم يكن وسواء كان قبل الحَوْلِ أم بعده ؛ لأن المقصودَ هنا الشفقة العامة وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للإنسان مالٌ زائد أما القريب فتجب نفقته عليه إذا كان له مالٌ وإن لم يَحُلْ عليه الحَوْلُ والمسكين كذلك، فإن من لا شيءَ له إذا وقع في الحاجة حتى بلغ الشدة يجب على القادر دفع حاجته وإن لم يكن عليه زكاة، والفقير داخل في المسكين لأن من أوْصَى للمساكين بشيء يُصْرَفُ إلى الفقير أيضاً وإذا نظرتَ إلى الباقين من الأصناف رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وَجَبت الزكاةُ عليهم وقدم القريب لأن دفع حاجته واجبٌ سواء كان في مَخْمَصَةٍ أو لم يكن فلذلك قُدِّمَ على من لا يجب دفع حاجته من غير مال الزكاة إلا إذا كان في شدة، وأما المسكين فحاجته ليست مختصة بموضع، فقدم على من حاجته مختصة بموضعٍ دُونَ مَوْضِعٍ.
قوله :«ذَلِكَ خَيْرٌ » يحتمل أنْ يُرادَ :«خير من غيره »، وأن يكون ذلك خير في نفسه ﴿ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله ﴾ أي يطلبون ثواب الله مما يعملون ﴿ وأولئك هُمُ المفلحون ﴾.
فإن قيل : كيف قال :﴿ وأولئك هُمُ المفلحون ﴾ ؟ مع أن لِلإفلاح شرائطَ أخرى مذكورة في قوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ ﴾ ؟ !.
فالجواب : كل وصف مذكور هنا٤ يفيد الإفلاح، وكذا الذي آتى المال لوجه الله يفيد الإفلاح اللَّهُمَّ إلا إذا وُجِدَ مانعٌ من ارتكاب محظورٍ أو تركِ واجبٍ.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكُرْ غيره من الأفعال كالصلاة وغيره ؟.
فالجواب : الصلاة مذكورة من قبل وكذا غيرها في قوله :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ﴾، وقوله ﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ واتقوه وَأَقِيمُواْ الصلاة وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين ﴾.
فإن قيل : قوله في البقرة :«فَأُولَئِكِ هُمُ المُفْلِحُونَ » إشارة إلى من أقام الصلاة وآتى الزكاة، وآمن بما أنزل على الرسول وبما أنزل من قبل٥ وبالآخرين فهو المفْلح، وإذا كان المفلح منحصراً في «أولئك » فهذا خارج عنهم فكيف يكون مفلحاً ؟ !.
فالجواب : هذا هو ذاك لأن قوله :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ﴾ أمر بذلك، فإذا أتَى بالصلاة، وآتى المال، وأراد وجه الله ثبت أنه منم مُقِيمِي الصلاة ومُؤتِي الزكاة ومعترف بالآخرة٦.
١ القرطبي ١٤/٣٥..
٢ وهي قول الله: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل" وهي الآية ٦٠ من التوبة..
٣ انظر: هذا كله في تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٢٤ و ١٢٥..
٤ الأصح هناك أي في المؤمنون..
٥ في تفسير الفخر: من قبله..
٦ انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥/١٢٦..
قوله: ﴿وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً﴾، قرأ ابن كثير أَتَيْتُمْ مقصوراً، وقرأ الآخرون بالمد أي أعْطَيْتُم ومن قصر فمعناه جِئْتم من رباً ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء كما تقول: أتيت خطأ، وأتيت صواباً وهو يؤول في المعنى إِلى قول من مَدَّ.
قوله: «لِيَرْبُو» العامة على الياء تحت مفتوحة، أسند الفعل لضمير «الرِّبَا» أي لِيَزْدادَ، ونافعٌ ويعقوبٌ بتاءٍ من فوق مضمومةً خطاباً للجماعة، قَالُوا وعلى الأول لامُ الكلمة، وعلى الثاني كلمةٌ، وعلى الثاني كلمةٌ، ضميرُ الغائبينَ.

فصل


ذكر هذا تحريصاً يعني أنكم إذا طلب منكم واحد باثنين (تَرْ) غَبُونَ فيه وتُؤْثِرُونَهُ، وذلك لا يربو عند الله فاختطاف أموال الناس والزكاة تنمُو عند الله كما أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقعُ في يَدِ الرَّحْمنِ فَتَرْبُوا حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَ الجَبَلِ» فينبغي أَن يكون إقْدَامكُمْ على الزكاة أكثرَ واختلفوا في معنى الآية قال سعيد بين جبير، ومجاهد وطاوس وقتادة والضحاك وأكثر المفسرين: هو الرجل يعطي عبده
416
العطيَّة لِيُثيبَ أكثر منها، فهذا جائز حلالاً، ولكن لا يثاب عليه في الفقه فهو معنى قوله تعالى: ﴿فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله﴾ وكان هذا حراماً على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خاصة لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: ٩] أي لا تعطِ وتطلب أكثر مما أعطيتَ، وقال النخعي: هو الرجل يعطي صديقة وقريبه ليكثر ماله، ولا يريد به وجه الله. وقال الشعبي: هو الرجل يَلْتَزِقُ بالرجل فيجزيه ويسافر معه فيحصل له ربح ماله التماس عونه لا لوجه الله فَلاَ يَرْبُو عند الله؛ لأنه لم يُردْ به وَجْهَ الله ﴿وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍَ﴾ أعطيتم من صدقة تريدون وجه الله.
قوله: ﴿فأولئك هُمُ المضعفون﴾ أي أصحاب الأضعاف، قال الفراء: نحو مُسْمِن ومُعْطِشٍ أي ذي إبل سِمَانٍ وعِطَاشٍ، وتقول العرب: القوم مُهْزِلُونَ ومُسْمِنُونَ، إذا هَزِلَتْ وسَمِنَتْ، فالمُضْعِفُ ذو الأضْعَافِ من الحسنات وقرأ «أبيّ» بفتح العين، وجعله اسم مفعول. وقوله: ( «فَأُولَئِكَ هُمْ» قال الزمخشري: «التفات حسن كأنه قال لملائكته وخواص خلقه) فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم» هم المُضْعِفُون «والمعنى هم المُضْعِفُونَ به لأنه من ضمير يرجع إلى (» مَا انتهى) يعني أن اسم الشرط مَتَى كان غير ظرف وَجَبَ عودُ ضميرٍ من الجواب عليه. وقد تقدم ذلك في البقرة عند: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧] ثم قال: «ووجه آخر: وهو أن يكون تقديره فمُؤْتُوه فأولئك هم المضعفون، والحذف لباقي الكلام من الدليل عليه»، وهذا أسهل مأخذاً، والأول أملأ بالفائدة.
قوله: ﴿الله الذي خَلَقَكُمْ﴾ يجوز في خبر الجلالة وجهان:
أظهرهما: أنه الموصول بعدها.
والثاني: أنه الجملة من قوله: ﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ﴾ والموصول (
417
صفة) للجلالة، وقدر الزمخشري الرابط المبتدأ، والجملة الرافعة (خبراً) فقال: «من ذلكم» هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ، لأن معناه من أفعاله. قال أبو حيان: والذي ذكره النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطاً إذا أشير به إلى المبتدأ، وأما ذلك هنا فليس بإشارة إلى المبتدأ لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الرَّبْطِ بالمعنى وذلك في قوله: ﴿والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: ٢٣٤] قال: التقدير يَتَرَبَّصْنَ أزواجُهُمْ، فقد الرابط بمضاف إلى ضمير «الذين» فحصل به الربط كذلك قدر الزمخشري «من ذلكم» من أفعاله بمضاف إلى الضمير العائد إلى المبتدأ.
قوله: «الَّذِي خَلَقَكُمْ» أوجدكم ﴿رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ﴾ جمع في هذه الآية بين الحشر والتوحيد، أما الحشر فقوله: «يُحْيِيكُمْ»، وأما الدليل فقدرته على الخلْق ابتداءً وأما التوحيد، فقوله: ﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ ثم قال: ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي سبحوه تسبحياً ونزهوه ولا تصفوه بالإشراك «. وقوله» : تَعَالَى «أي لا يجوز ذلك عليه.
قوله:»
مِنْ شُرَكَائِكُمْ «خبر مقدم و» مِنْ «لِلتَّبْعيض» مَنْ يَفْعَلُ «هو المبتدأ، و» ذلِكُمْ «متعلق بمحذوف، لأنه حال من» شَيء «بعده فإنه في الأصل صفة له و» مِنْ «الثانية مزيدة في المفعول به؛ لأنه في حَيِّز النفي المستفاد من الاستفهام والتقدير ما الذي يفعل شيئاً مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شركائكم؟.
وقال الزمخشري:»
ومن الأولى والثانية كل واحدة مستقلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم «.
وقال أبو حيان: ولا أدري ما أراد بهذا الكلام؟ وقرأ الأعمش»
تشركون «بتاء الخطاب.
418
قوله :«الَّذِي خَلَقَكُمْ » أوجدكم ﴿ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَن يَفْعَلُ ﴾ جمع في هذه الآية بين الحشر والتوحيد، أما الحشر فقوله :«يُحْيِيكُمْ »، وأما الدليل فقدرته على الخلْق ابتداءً وأما التوحيد، فقوله :﴿ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِن شَيْءٍ ﴾ ثم قال :﴿ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي سبحوه تسبحياً ونزهوه ولا تصفوه بالإشراك »١. وقوله :«تَعَالَى » أي لا يجوز ذلك عليه.
قوله :«مِنْ شُرَكَائِكُمْ » خبر مقدم و «مِنْ » لِلتَّبْعيض و «مَنْ يَفْعَلُ » هو المبتدأ، و «ذلِكُمْ » متعلق بمحذوف، لأنه حال من «شَيء » بعده فإنه في الأصل صفة له و«مِنْ » الثانية مزيدة في المفعول به ؛ لأنه في حَيِّز النفي المستفاد من الاستفهام والتقدير : ما الذي يفعل شيئاً مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شركائكم٢ ؟.
وقال الزمخشري :«ومن الأولى والثانية كل واحدة مستقلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم »٣.
وقال أبو حيان : ولا٤ أدري ما أراد بهذا الكلام ؟ وقرأ الأعمش «تشركون » بتاء الخطاب٥.
١ انظر: تفسير الإمام الفخر ٢٥/٢٧..
٢ انظر: البحر المحيط ٧/١٧٥، والدر المصون ٤/٣٢٩..
٣ عبارته في الكشاف ٣/٢٢٤: " ومن الأولى والثانية والثالثة كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم"..
٤ لم ألمح هذا التعجب وهذا التعقيب من أبي حيان للزمخشري في البحر المرجع السابق..
٥ انظر: البحر المحيط ٧/١٧٦..
قوله: ﴿ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر﴾ وجه تعلق الآية بما قبلها أن الشرك سبب الفساد كَمَا قَالَ تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢] وإذا كان الشرك سببه جعل الله إظهارهم الشرك مورثاً لظهور الفساد ولو فعل (بهم) ما يقتضيه قولهم لفسدت السموات والأرض، كما قال تعالى: ﴿تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً﴾ [مريم: ٩٠، ٩١] ولهذا أشار بقوله: ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ﴾، واختلفوا في قوله: ﴿فِي البر والبحر﴾، فقيل: المراد خوف الطوفان في البحر والبر، وقيل: عدم إنبات بعض الأرض وملحة مياه البحار. وقيل: المراد قحط المطر وقلة النبات، وأراد بالبرّ البوادي والمَفَاوِز وبالبحر المدائن والقُرَى التي على المِياه الجَارِيةِ.
قال عكرمة: العرب تسمي المِصْرَ بَحْراً تقول: أجدب البر وانقطعت مادة البحر.
قوله: «بما كسبت» أي بسب كسبهم، والباء متعلقة «بظَهَرَ» أو بنفس الفساد. وفيه بُعْد (والمعنى بشؤم ذنوبهم) وقال (ابن) عَطِيَّة، البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها، والبحر هو البحر المعروف، والفساد قلة المطر يؤثر في البر والبحر أما تأثيره في البر فهو القحط وأما تأثيره في البحر فيخلوا أجواف الأصداف؛ لأن الصدف إذا جاء المطر يرتفع إلى وجه البحر ويفتح فاه فما يقع فيه من المطر صار لؤلؤاً. قال ابن عباس وعركمة ومجاهد: الفساد في البرِّ قتل أحد ابني آدم أخاه وفي البحر غَضْب الملك الجائر السفينة. وقال الضحاك: كانت الأرض خَضِرَةً مونقة لا يأتي ابن آدم بشجرة إلا وجد عليها ثمرةً وكان ما في البحر عَذْباً وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم فلما قتل قابيلُ هابيلَ اقْشَعَرَّت الأرض وشَاكَتِ الأشجار، وصار ماء البحر ملحاً زُعَاقاً وقصد الحيوان بعضه بعضاً. وقال قتادة: هذا قبل مَبْعَث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امتلأت الأرض ظلماً وضلالة فلما بعث الله محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجع الراجعون من الناس ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس﴾ من المعاصي «يعني كفار مكة».
قوله: «لِيُذِيقَهُمْ» اللام للعلة متعلق «بظَهَرَ» ؛ وقيل: بمحذوف، أي عَاقَبَهْمْ
419
بذلك لِيُذِيقَهُمْ وقيل: اللام للصيرورة. وقرأ قُنْبُلُ: «لنُذِيقَهُمْ» بنون العظمة والباقون بياء الغيبة والمعنى: لنذيقهم عُقُوبة بعض الذي عملوا من الذنوب «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» عن الكفر وأعمالهم الخبيثة، قوله: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض﴾ لما بين حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم ضلال أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم فقال: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلُ﴾ أي قوم نوحٍ وعادٍ وثَمودَ لِيَ ﴿َوْا مَنَازِلَهُمْ ومساكنهم خاوية {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ فأهلكوا بكفرهم.
قوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ القيم﴾ لما (نهى) الكافرين عما هم عليه، أمر المؤمنين بما هم عليه وخاطب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليعلم المؤمن فضيلة من هو مُكَلَّفٌ به فإنه أمر بما شرف الأنبياء الدِّين القيم أي المستقيم وهو دين الإسلام.
قوله: ﴿مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ﴾ المرد مصدر «رَدَّ» و «من الله» يجوز أن يتعلق ب «يأتِي» أو بمحذوف يدل عليه المصدر أي لا يرده من الله أحَدٌ، ولا يجوز أن يعمل فيه «مرد» لأنه كان ينبغي أن يُنَوَّنَ؛ إِذْ هُوَ من قَبِيل المُطَوَّلاَتِ، والمراد يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الله هوغيره عاجز عن رده، فلا بد من وقوعه. «يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ» أي يتفرقون فريق في الجنة، وفريق في السعير، ثم أشار إلى التفرق بقوله: ﴿مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ أي وبال كفره ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ أي يُوَطئُونَ المضاجعَ ويُسَوُّونها في القبور. قوله: «فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» و «يَمْهَدُونَ» تقديم الجارين يفيد الاختصاص يعني أنَّ ضرر كفر هذا، ومنفعة عمل هذا لا يتعداه، ووحد الكناية في قوله: «فعليه» وجمعها في قوله: «فلأنفسهم» إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته، وأما الغضب فمسبوق بالرحمة لازم لمن أساء وقال: «فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ»
420
ولم يبين قوال في المؤمن: «فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» تحقيقاً لكمال الرحمة، لإإنه عند الخير بَيَّن بشارة وعند غير أشار إليه إشَارةً.
421
قوله :﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ﴾ لما بين حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم ضلال أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم فقال :﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلُ ﴾ أي قوم نوحٍ وعادٍ وثَمودَ لِيَرَوْا مَنَازِلَهُمْ ومساكنهم خاوية ﴿ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ﴾ فأهلكوا بكفرهم.
قوله :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ القيم ﴾ لما ( نهى١ ) الكافرين٢ عما هم عليه، أمر المؤمنين بما هم عليه وخاطب النبي - عليه الصلاة والسلام٣ - ليعلم المؤمن فضيلة ما هو٤ مُكَلَّفٌ به فإنه أمر بما شرف الأنبياء الدِّين القيم أي المستقيم وهو دين الإسلام.
قوله :﴿ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ ﴾ المرد مصدر «رَدَّ » و «من الله » يجوز أن يتعلق ب «يأتِي » أو بمحذوف يدل عليه المصدر أي لا يرده من الله أحَدٌ٥، ولا يجوز أن يعمل فيه «مرد » لأنه كان ينبغي أن يُنَوَّنَ ؛ إِذْ هُوَ من قَبِيل المُطَوَّلاَتِ٦، والمراد يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الله وغيره عاجز عن رده، فلا بد من وقوعه. «يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ » أي يتفرقون فريق في الجنة، وفريق في السعير،
١ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٢ في "ب" الكافر بدلاً من الكافرين..
٣ في "ب" صلى الله عليه وسلم..
٤ نقله الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٥/١٢٩..
٥ ذكره الزمخشري في كشافه ٣/٢٢٥ وفيه "حد" بدل أحد..
٦ يريد أنه شبيه بالمضاف لأنه لما كان غير منون وتعلق به ما بعده وهو قوله: "له" أكتفي به لأن المضاف لا يضاف إلى شيئين منفصلين في وقت واحد..
ثم أشار إلى التفرق بقوله :﴿ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ﴾ أي وبال كفره ﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾ أي يُوَطئُونَ المضاجعَ ويُسَوُّونها في القبور. قوله :«فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ » و «فلأنفسهم يَمْهَدُونَ » تقديم الجارين يفيد الاختصاص١ يعني أنَّ ضرر كفر هذا، ومنفعة عمل هذا لا يتعداه، ووحد الكناية في قوله :«فعليه » وجمعها في قوله :«فلأنفسهم » إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته، وأما الغضب فمسبوق بالرحمة لازم لمن أساء وقال :«فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ » ولم يبين قال في المؤمن :«فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ » تحقيقاً لكمال الرحمة، فإنه عند الخير بَيَّن بشارة وعند غيره أشار إليه إشَارةً٢.
١ هذا هو المفهوم من كتاب الكشاف للزمخشري ٣/٢٢٤..
٢ انظر: التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي ٢٥/١٢٩ و ١٣٠..
قوله: «لِيَجْزِيَ» في مُتَعَلَّقِهِ أوجه:
أحدها: «يمهدون».
والثاني: «يَصِّدَّعُونَ».
والثالث: محذوف. (و) قال ابن عطية: تقديره: «ذلك لِيَجْزِيَ» وتكون الإشارة إلى (ما تقدر مِنْ) قوله: «من كفَر ومَنْ عَمِلَ».
هَذا قوله وجعل أبو حيان قسيم قوله: ﴿الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ محذوفاً لدلالة قوله ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين﴾ عليه هذا إذا علقت اللام ب «يَصَّدَّعُونَ» أو بذلك المحذوف، قال: تقديره «ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله والكافرين بعدله».

فصل


قال ابن عباس: ﴿ليجزي الذين آمنوا وعملوا ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم﴾.
قوله: ﴿ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات﴾ لما ذكر ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه سببب العمل الصالح لأن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضَاً ويذرك لإضراره سبباً لئلا يتوهم (بِهِ) الظلم فقال: ﴿يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ﴾ قيل: بالمطر كما قال تعالى: ﴿بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [النمل: ٦٣]، أي قبل الفطرة، وقيل مبشرات بصلاح الأَهْوِية والأحوال؛ فإن الرياح لو لم تَهُبّ لظهر الوباء والفساد وقرأ العامة: «الرياح» جميعاً لأجل «مبشرات»، والأعمش بالإفراد، وأراد الجنس لأجل «مبشرات».
421
قوله: «وَلِيُذِقَكُمْ» إما عطف على معنى مبشرات لأأن الحال والصفة يُفْهما العلة فكان التقدير: «ليبشّر وليذيقكم» وإما أن يتعلق بمحذوف أي وليذيقكم أَرْسَلَها، وإما أن يكون الواو مزيدة على رأي فتتعلق اللام بأن يرسل.
قوله: ﴿وليذيقكم من رحمته﴾ (نعمته) بالمطر أو الخَصْب «وَلَتْجِرِيَ الفُلْكُ» لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله «بأَمْرِهِ» أي الفعل ظاهر عليه ولكنه بأمر الله، والمعنى في ولتجري الفلك في البحر بهذه الرياح بأمره وكذلك لما قال: «وَلتَبْتَعوا» مسنداً إلى العباد ذكر بعده «مِنْ (فَضْلِهِ).
أي لا استقلال لغيره بشيء، والمعنى لتطلبوا من رزقه بالتجارة في البحر»
ولعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «هذه النعم.

فصل


قال تعالى: ؟ هر الفساد - ليذيقهم بعض الذي عملوا»
(وقال ههنا: «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» فخاطبهم ههنا تشريفاً، ولأن رحمته قريب من المحسنين والمحسنين قريب فيخاطب والمسمّى مُبْعَد فلم يُخَاطَبْ وقال هناك: ﴿بَعْضَ الذي عَمِلُواْ﴾ [الروم: ٤١) فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم، وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته فقال: «من رحمته» ؛ لأن الكريم لا يذكر لرحمته وإحسانه عوضاً فلا يقول أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول هذا لك مني، وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي، وأيضاً فلو قال: أرسلت بسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة، وأما إذا قال من رحمته كان غاية البشراة وأيضاً فلو قال: بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنُقْصَان ثوابهم في الآخر، وأما في حق الكفار فإذا قال بما فعلتم إنما عن نُقْصَانِ عقابهم وهو كذلك وقال هناك: «لعلهم يَرْجِعُونَ» وقال ههنا: ولعلكم تشكرون، قالوا وإشارة إلى توفيقهم للشكر في النعم فعطف على النعم.
(قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بالبينات﴾ لما بين الأصلين) بالبراهيم ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال: {ولقد أرسلنا من قبلك
422
رسلاً} أي إرسالهم دليل رسالتك فإنهم لم يكن لهم شُغْلٌ غير شُغْلِكَ ولم يظهر عليهم غير ما أظهر عليك، ومن آمن بهم كان له (الانتصار) ومن كَذَّبهم أَصَابَهُمْ البَوَارُ، وفي تعلق الآية وجه آخر وهو أن الله لما بين بالبراهين ولم ينتفع بها الكفار سَلَّى قلب النبي عليه (الصلاة و) السلامَ وقال: حالك كحاكل من تقدمكم كان كذلك وجاءُوا بالبينات أيضاً: أي بالدلائل والدّلاَلاَتِ الواضحات على صدقهم وكان في قومهم كافرٌ ومؤمنٌ كما في قومك ﴿فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ﴾ عذبنا الذين كذبوهم ونصرنا المؤمنين.
[قوله:] وَكَانَ حَقّاً، وقف بعضهم على «حقاً» وابْتَدَأَ بما بعده فجعل اسم «كان» مضمراً فيها و «حقاً» خبرها، أي وكان الانتقام حقّاً، قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأنه لم (يَدْرِ) قدر ما عرضه في نظم الآية يعني الوقف على «حقاً» ؛ وجعل بعضهم «حقاً» منصوباً على المصدر واسم كان ضمير (الأمر والشأن) و «علينا» خبر مقدم، و «نصر» اسم مؤخر، وجعل بعضهم «حقاً» خبرها و «علينا متعلق» بحقاً «، أو بمحذوف صفة له، فعلى الأول يكون بشارة للمؤمنين الذين آمنوا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أي علينا نَصْرُكُمْ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ونصرهم إنجاؤهم من العذاب، وعلى الثاني معناه وكان حقاً علينا؛ أي نصر المؤمنين كان حقاً علينا.
423
قوله :﴿ ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ﴾ لما ذكر ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه سببب العمل الصالح لأن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضَاً ويذكر لإضراره سبباً لئلا يتوهم ( بِهِ )١ الظلم فقال :﴿ يُرْسِلُ الرياح مُبَشِّرَاتٍ ﴾ قيل : بالمطر٢ كما قال تعالى :﴿ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ [ النمل : ٦٣ ]، أي قبل الفطرة٣، وقيل مبشرات بصلاح الأَهْوِية والأحوال ؛ فإن الرياح لو لم تَهُبّ لظهر الوباء والفساد٤ وقرأ العامة :«الرياح » جمعاً لأجل «مبشرات »، والأعمش بالإفراد، وأراد الجنس لأجل٥ «مبشرات ».
قوله :«وَلِيُذِيقَكُمْ » إما عطف على معنى مبشرات لأن الحال والصفة يُفْهمان العلة فكان التقدير :«ليبشّر وليذيقكم »٦ وإما أن يتعلق بمحذوف أي وليذيقكم أَرْسَلَها، وإما أن يكون الواو مزيدة على رأي فتتعلق اللام بأن يرسل٧.
قوله :﴿ وليذيقكم من رحمته ﴾ ( نعمته )٨ بالمطر أو الخَصْب «وَلِتْجِرِيَ الفُلْكُ » لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله «بأَمْرِهِ » أي الفعل ظاهر عليه ولكنه بأمر الله، والمعنى في ولتجري الفلك في البحر بهذه الرياح بأمره وكذلك لما قال :«وَلتَبْتَعوا » مسنداً إلى العباد ذكر بعده «مِنْ ( فَضْلِهِ ) »٩.
أي لا استقلال لغيره بشيء، والمعنى لتطلبوا من رزقه بالتجارة في البحر «ولعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » هذه النعم.

فصل١٠ :


قال تعالى :«ظهر الفساد - ليذيقهم بعض الذي عملوا » ( وقال ههنا١١ :«وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ » فخاطبهم ههنا تشريفاً، ولأن رحمته قريب من المحسنين والمحسنين قريب فيخاطب والمسمّى مُبْعَد فلم يُخَاطَبْ وقال هناك :﴿ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ ﴾ فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم، وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته فقال :«من رحمته » ؛ لأن الكريم لا يذكر لرحمته وإحسانه عوضاً فلا يقول أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول هذا لك مني، وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي، وأيضاً فلو قال : أرسلت بسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة، وأما إذا قال من رحمته كان١٢ غاية البشارة وأيضاً فلو قال : بما فعلتم لكان ذلك موهماً١٣ لنُقْصَان ثوابهم في الآخرة، وأما في حق الكفار فإذا قال بما فعلتم إنما عن١٤ نُقْصَانِ عقابهم وهو كذلك وقال١٥ هناك :«لعلهم يَرْجِعُونَ » وقال ههنا : ولعلكم تشكرون، قالوا وإشارة إلى توفيقهم للشكر في النعم فعطف على النعم.
١ ساقط من "ب"..
٢ انظر: القرطبي ١٤/٤٣..
٣ في تفسير الفخر الرازي المطر بدل القطرة..
٤ نقله في التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥/١٣٠ و ١٣١..
٥ الإتحاف ٣٤٨ والبحر ٧/١٧٨..
٦ وهو ما يسمى بالعطف على التوهم البحر ٧/٧٨ والدر ٤/٢٣١..
٧ المراجع السابقة..
٨ ساقط من "ب"..
٩ ساقط من "ب"..
١٠ في "ب" فإن قيل بدلاً من "فصل"..
١١ ما بين القوسين كله ساقط من "ب"..
١٢ في "ب" كانت رحمته غاية البشارة..
١٣ في "ب" توهماً..
١٤ في "ب" بناء على..
١٥ في "ب" فقال..
( قوله١ :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بالبينات ﴾ لما بين الأصلين ) بالبراهين ذكر الأصل الثالث وهو٢ النبوة فقال :﴿ ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً ﴾ أي إرسالهم دليل رسالتك فإنهم لم يكن لهم شُغْلٌ غير شُغْلِكَ ولم يظهر عليهم غير ما أظهر٣ عليك، ومن آمن بهم كان له ( الانتصار )٤ ومن كَذَّبهم أَصَابَهُمْ البَوَارُ، وفي تعلق الآية وجه٥ آخر وهو أن الله لما بين بالبراهين ولم ينتفع بها الكفار سَلَّى قلب النبي عليه ( الصلاة٦ و ) السلامَ وقال : حالك كحال من تقدمك كان كذلك وجاءُوا بالبينات أيضاً : أي بالدلائل والدّلاَلاَتِ الواضحات على صدقهم وكان في قومهم كافرٌ ومؤمنٌ كما في قومك ﴿ فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ ﴾ عذبنا الذين كذبوهم ونصرنا المؤمنين.
[ قوله :] ٧ وَكَانَ حَقّاً، وقف بعضهم على «حقاً » وابْتَدَأَ بما بعده فجعل اسم «كان » مضمراً فيها و «حقاً » خبرها، أي وكان الانتقام حقّاً، قال ابن عطية : وهذا ضعيف٨ لأنه لم ( يَدْرِ٩ ) قدر ما عرضه في نظم الآية يعني الوقف١٠ على «حقاً » ؛ وجعل بعضهم «حقاً » منصوباً على المصدر واسم كان ضمير ( الأمر١١ والشأن ) و «علينا » خبر مقدم، و «نصر » اسم مؤخر، وجعل١٢ بعضهم «حقاً » خبرها و «علينا » متعلق «بحقاً »، أو بمحذوف صفة له١٣، فعلى الأول يكون بشارة للمؤمنين الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أي علينا نَصْرُكُمْ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ونصرهم إنجاؤهم من العذاب، وعلى الثاني معناه وكان حقاً علينا ؛ أي نصر المؤمنين كان حقاً علينا.
١ ما بين القوسين كله ساقط من "ب"..
٢ وانظر في هذا الفخر الرازي ٢٥/١٣١..
٣ في "ب" ظهر بثلاثية الفعل..
٤ تصحيح من الفخر الرازي ففي النسختين "الأنصار"..
٥ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٣٢..
٦ زيادة من "ب"..
٧ زيادة من "ب"..
٨ انظر: البحر المحيط ٧/١٧٨..
٩ زيادة من "أ"..
١٠ التبيان ١٠٤١..
١١ ساقط من "ب"..
١٢ في البحر ٧/١٧٨ والصحيح أن "نصر" اسمها و "حقاً" خبرها وعلينا متعلقة "بحقّاً"..
١٣ البحر المحيط ٧/١٧٨، والدر المصون ٤/٣٣١..
قوله: ﴿الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً﴾ أي تنشره وتبْسطه في السَّمَاء كيف يشاء سيره يوماً أو يومين وأكثر على ما يشاء و «يَجْعَلُهُ كِسَفاً» قطعاً متفرقة، «فَتَرَى الوَدقَ» المطر ﴿يخرج من خلاله﴾ وسطه ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ﴾ بِالوَدقِ ﴿مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أي يفرحون بالمطر.
قوله: ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ أي وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم.
423
وقيل: وما كانوا (إلا) «مُبْلِسِينَ» أي آيسين.
قوله: «مِنْ قَبْلِهِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه تكرير «لِمنْ قَبْلِ» الأولى على سبيل التوكيد.
والثاني: أن يكون غير مُكَرَّر؛ وذلك (أن يجعل) الضمي في «قبله» للسَّحَاب، وجاز ذلك لأنه اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه، أو للريح فتتعلق ( «مِن» الثانية) بيُنَزِّل. وقيل: يجوز عود الضمير على «كِسَفاً» كذا أطلق أبو البقاء، وأبو حيان، وهذه بقراءة من سَكَّنَ السِّينَ.
وقد تقدمت قراءات «كسفاً» في «سُبْحَانَ». وقد أبدى الزمخشريُّ ابنُ عَطِيَّةَ (فائدة التوكيد المذكور فقال ابن عطية) أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإِبلاس إلى الاسْتِبْشَار، وذلك أن قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ يحتمل الفُسْحَةَ في الزمان أي من قبل أن ينزل بكثيرٍ كالأيام ونحوه، فجاء قوله: «مِنْ قَبْلِهِ» (بمعنى) أن ذلك متصلٌ بالمطر، فهذا تأكيد مفيد. وقال الزمخشري: ومعنى التأكيد فيه الدلالة على أنَّ عَهْدَهُمْ بالمطر قد نَفَدَ فاستحكم بأسُهُم وتمادى إبلاسهم، فكان استبشارهم على قدر اغتمامهم بذلك، وهو كلام حسن، إِلاَّ أنَّ أبَا حَيَّان لم يَرْتَضِهِ منهما فقال: ما ذكراه من فائدة التأكيد غير ظاهر فإنما هو لمجرد التوكيد ويفيد رفع المجاز انتهى.
قال شهاب الدين ولا أدري عَدَمُ الظُّهُورِ لِمَاذَا.
424
قال قُطْرُبٌ: وإنْ كَانُوا من قبل التَّنْزِيل من قبلِ المَطَرِ، وقيل التقدير من قبل إنْزَالِ المَطَرِ من قبل أن يزرعوا، ودل المطر على الزرع لأنه يخرج بسبب المطر ودل على ذلك قوله: «فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً» يعني الزرع قال أبو حَيَّانَ: وهذا لا يستقيم؛ (لأن) ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ﴾ متعلق «بمبلسين»، (ولا يمكنُ من قبل الزرع أن يتعلق «بمبلسين» ) ؛ لأن حَرْفَيْ جَرٍّ لا يتعلقان بعامل واحد إلا بوَسَاطَةِ حرف العَطْفِ (أ) والبَدَل، وليس هنا عطف والبدل لا يجوز إذْ إنزالُ الغَيْثِ ليس هو الزرع ولا الزرع بعضه، وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف إما لاشتمالِ (الإنزال) على الزرع بمعنى أن الزرع يكون ناشئاً عن الإنزال فكأن الإنزال مشتملٌ عليه، وهذا على مذهب من يقول الأول مشتمل على الثاني.
وقال المبرد الثاني السَّحَاب؛ لأنهم لما رأوا السَّحاب كانوا راجين المَطَرَ انتهى يريد من قبل رؤية السحاب ويحتاج أيضاً إلى حرف عطف ليصح تعلق الحرفين بمبلسين. (وقال الرُّمانِيُّ من قبل الإِرسال)، وقال الكِرْمَانِيُّ: من قبل الاسْتِبْشَار؛ لأنه قرنه بالإبلاس، ولأنه (مَنَّ) عليهم بالاستبشار ويحتاج قولهما إلى حرف العطف لما تقدم، وادعاء حرف العطف ليس بالسسهل فإن فيه خلافاً بعضهم يَقِيسُه، وبعضُهم لا يَقِيسُه، هذا كله في المفردات، أما إذا كان في الجمل فلا خلاف في اقتياسه.
وفي حرف عبد الله بن مسعود: وإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ ينزل عَلَيْهِمْ لَمُبُلِسِينَ غير مكرر.
قوله: ﴿فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ﴾ قرأ أبنُ عامر والأخوانِ وحَفْصٌ بالجمع والباقون
425
بالإفراد: (وَسلاَّمٌ) بكسر الهمزة، وسكون الثاء وهي لغة فيه. وقرأ العامة «كَيْفَ يُحْيِي» بياء الغيبة، أي أثر الرحمة فيمن قرأ بالإفراد، ومن قرأ بالجمع فالفعل مسند لله تعالى وهو يحتمل في الإِفْرَادِ والجَحْدَرِيُّ وأَبو حَيْوَة وابْنُ السَّمَيْقع «تُحْيِي» بتاء التأنيث وفيها تخريجان أظهرهما: ان الفاعل عائد على الرحمة. والثاني: قاله أبو الفصل عائد على «أَثَرِ» وأنت «أثر» لاكتسابه بالإضافة التأنيث كنظائر (له) تقدمت، وَرُدَّ عليه بأن شرط ذلك كون المضاف (بمعنى المضاف) إليه أو من سببه لا اجنبياً، وهذا أجنبي و «كَيْفَ يُحْيِي» معلق «لأنْظُرْ» وهو في محل نصب على إسقاط الخافض. وقال أبو الفتح: الجملة من «كَيْفَ يُحْيي» في موضع نصب على الحال حملاً على المعنى انتهى. وكيف تقع جملة الطلب حالاً؟ وأراد برحمة الله هنا المطر أي انْظُرْ إلى حسن تأثيره في الأرض كيف يحيي الأرض بعد موتها؟!.
قوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الموتى﴾ أي إن ذَلك الذي يُحيِي الأرض لمُحْيِي الموتى، فأَتَى باللام المؤكدة لاسم الفاعل.
426
قوله :﴿ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ﴾ أي وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم.
وقيل : وما كانوا ( إلا١ ) «مُبْلِسِينَ » أي آيسين٢.
قوله :«مِنْ قَبْلِهِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه تكرير «لِمنْ قَبْلِ » الأولى على سبيل التوكيد٣.
والثاني : أن يكون غير مُكَرَّر٤ ؛ وذلك ( أن يجعل )٥ الضمي في «قبله » للسَّحَاب، وجاز ذلك لأنه اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه، أو للريح٦ فتتعلق ( «مِن » الثانية٧ ) بيُنَزِّل. وقيل : يجوز عود الضمير على «كِسَفاً » كذا أطلق أبو البقاء٨، وأبو حيان٩، وهذه بقراءة من سَكَّنَ السِّينَ١٠.
وقد تقدمت قراءات «كسفاً » في «سُبْحَانَ »١١. وقد أبدى الزمخشريُّ ابنُ عَطِيَّةَ ( فائدة التوكيد١٢ المذكور فقال ابن عطية ) أفاد١٣ الإعلام بسرعة تقلب١٤ قلوب البشر من الإِبلاس إلى الاسْتِبْشَار، وذلك أن قوله :﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ﴾ يحتمل الفُسْحَةَ في الزمان أي من قبل أن ينزل بكثيرٍ كالأيام ونحوه، فجاء قوله :«مِنْ قَبْلِهِ » ( بمعنى١٥ ) أن ذلك متصلٌ بالمطر، فهذا تأكيد مفيد. وقال الزمخشري١٦ : ومعنى التأكيد فيه الدلالة على أنَّ عَهْدَهُمْ بالمطر قد نَفَدَ١٧ فاستحكم بأسُهُم وتمادى إبلاسهم، فكان استبشارهم على قدر اغتمامهم١٨ بذلك، وهو كلام حسن، إِلاَّ أنَّ أبَا حَيَّان لم يَرْتَضِهِ منهما فقال : ما ذكراه من فائدة التأكيد غير ظاهر فإنما هو١٩ لمجرد التوكيد ويفيد رفع المجاز انتهى.
قال شهاب الدين ولا أدري عَدَمُ الظُّهُورِ لِمَاذَا٢٠.
قال قُطْرُبٌ : وإنْ كَانُوا من قبل التَّنْزِيل من قبلِ المَطَرِ٢١، وقيل التقدير٢٢ من قبل إنْزَالِ المَطَرِ من قبل أن يزرعوا، ودل المطر على الزرع لأنه يخرج بسبب المطر ودل على ذلك قوله :«فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً » يعني الزرع قال أبو حَيَّانَ : وهذا لا يستقيم٢٣ ؛ ( لأن٢٤ ) ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ ﴾ متعلق «بمبلسين »، ( ولا٢٥ يمكنُ من قبل الزرع أن يتعلق «بمبلسين » ) ؛ لأن حَرْفَيْ جَرٍّ لا يتعلقان بعامل واحد إلا بوَسَاطَةِ حرف العَطْفِ ( أ ) والبَدَل، وليس هنا عطف والبدل لا يجوز إذْ إنزالُ الغَيْثِ ليس هو الزرع ولا الزرع بعضه، وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف إما لاشتمالِ ( الإنزال٢٦ ) على الزرع بمعنى أن الزرع يكون ناشئاً عن الإنزال فكأن الإنزال مشتملٌ عليه، وهذا على مذهب من يقول الأول مشتمل على الثاني.
وقال المبرد٢٧ الثاني السَّحَاب ؛ لأنهم لما رأوا السَّحاب كانوا راجين المَطَرَ انتهى٢٨ يريد من قبل رؤية السحاب ويحتاج أيضاً إلى حرف عطف ليصح تعلق الحرفين بمبلسين٢٩. ( وقال الرُّمانِيُّ٣٠ من قبل الإِرسال٣١ )، وقال الكِرْمَانِيُّ٣٢ : من قبل الاسْتِبْشَار٣٣ ؛ لأنه قرنه بالإبلاس، ولأنه ( مَنَّ٣٤ ) عليهم بالاستبشار ويحتاج قولهما إلى حرف العطف لما تقدم، وادعاء حرف العطف ليس بالسهل فإن فيه خلافاً بعضهم يَقِيسُه، وبعضُهم لا يَقِيسُه، هذا كله في المفردات، أما إذا كان في الجمل فلا خلاف في اقتياسه٣٥.
وفي حرف عبد الله بن مسعود : وإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ ينزل عَلَيْهِمْ لَمُبْلِسِينَ٣٦ غير مكرر.
١ ساقط من "ب"..
٢ انظر: غريب القرآن ٣٤٢ واللسان: " أ ي س" والقرطبي ١٤/٤٤..
٣ نقله الكشاف ٣/٢٢٦٥ والأخفش في معانيه ٢/٦٥٨ والقرطبي ١٤/٤٤ والمحكم "قبل"..
٤ البحر المحيط ٧/١٧٨ وقد رجح ذلك أبو حيان..
٥ ساقط من "ب"..
٦ في "ب" أو الريح..
٧ ساقط من "ب"..
٨ التبيان ١٠٤٢..
٩ البحر المحيط ٧/١٧٨..
١٠ من "كسفاً"..
١١ وهي قول الله تعالى: ﴿أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً﴾، وهي الآية ٩٢ من الإسراء. وقد قرأ بإسكان السين على الإفراد أبو جعفر، وابن ذكوان، وهشام، وقرأ بفتح السين جمعاً ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وروى حفص عن عاصم أنه فتح السين في كل القرآن إلا الطور (٤٤).
انظر: اللباب ٦/١١٣ بتصرف والإتحاف ٣٤٨ والسبعة ٣٥٨ والبحر المحيط ٦/٧٩..

١٢ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
١٣ المحرر الوجيز لابن عطية، والبحر المحيط ٧/١٧٨ و ١٧٩..
١٤ في "ب" تقليب..
١٥ ساقط من "ب"..
١٦ الكشاف ٣/٢٢٦..
١٧ في الكشاف بعد..
١٨ في "ب" اهتمامهم..
١٩ في "ب" وإنما هو..
٢٠ انظر: الدر المصون ٤/٣٣٢..
٢١ انظر: القرطبي ١٤/٤٤، والبحر المحيط ٧/١٧٨، ١٧٩..
٢٢ المرجعان السابقان..
٢٣ البحر المحيط ٧/١٧٩..
٢٤ ساقط من ب..
٢٥ ساقط من ب..
٢٦ ساقط من ب..
٢٧ المبرد هو أبو العباس محمد بن يزيد الأزديُّ الثَّماليّ، أخذ النحو عن الجرميّ، والمازنيّ وغيرهما وكان على المازنيّ يعوّل. مات سنة ٢٨٥ هـ. انظر: أخبار النحويين البصريين ٧٢..
٢٨ نقله في البحر المحيط ٧/١٧٩ وتبعه أبو جعفر النحاس في إعراب القرآن ٣/٢٧٧..
٢٩ البحر المحيط ٧/١٧٩..
٣٠ علي بن عيسى أبو الحسن كان إماماً في العربية، علامةً في الأدب أخذ عن الزّجاج وابن السّراج، وابن دريد من مصنفاته التفسير، الحدود الأكبر، الأصغر، مات سنة ٣٨٤ هـ.
انظر: بغية الوعاة ٢/١٨٠ وانظر رأيه في البحر ٧/١٧٩..

٣١ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٣٢ تقدم..
٣٣ نقله في البحر المحيط ٧/١٧٩ أيضاً..
٣٤ ساقط من "ب"..
٣٥ كل هذه الكلمات نقلها الشارح من البحر لأبي حيان ٧/١٧٩..
٣٦ لم أعثر على هذه القراءة في الكتب المتواترة أو الشاذة..
قوله :﴿ فانظر إلى آثَارِ ﴾١ قرأ ابنُ عامر والأخوانِ وحَفْصٌ بالجمع والباقون بالإفراد :( وَسلاَّمٌ )٢ بكسر الهمزة، وسكون الثاء وهي لغة فيه. وقرأ العامة «كَيْفَ يُحْيِي » بياء الغيبة، أي أثر الرحمة فيمن قرأ بالإفراد، ومن قرأ بالجمع فالفعل مسند لله تعالى وهو يحتمل في الإِفْرَادِ والجَحْدَرِيُّ وأَبو حَيْوَة٣ وابْنُ السَّمَيْقع٤ «تُحْيِي » بتاء٥ التأنيث وفيها تخريجان أظهرهما : أن الفاعل عائد على الرحمة. والثاني : قاله أبو الفضل٦ عائد على «أَثَرِ » وأنت «أثر »٧ لاكتسابه بالإضافة التأنيث كنظائر ( له )٨ تقدمت، وَرُدَّ عليه بأن شرط ذلك كون المضاف ( بمعنى المضاف٩ ) إليه أو من سببه لا أجنبياً١٠، وهذا أجنبي و «كَيْفَ يُحْيِي » معلق «لأنْظُرْ » وهو في محل١١ نصب على إسقاط الخافض. وقال أبو الفتح١٢ : الجملة من «كَيْفَ يُحْيي » في موضع نصب على الحال حملاً على المعنى انتهى١٣. وكيف تقع جملة الطلب١٤ حالاً ؟ وأراد برحمة الله هنا المطر أي انْظُرْ إلى حسن تأثيره في الأرض كيف يحيي الأرض بعد موتها ؟ !.
قوله :﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الموتى ﴾ أي إن ذَلك الذي يُحيِي الأرض لمُحْيِي الموتى، فأَتَى باللام المؤكدة لاسم الفاعل.
١ السبعة ٥٠٨ ومعاني الفراء ٢/٣٢٦ والكشف ٢/١٨٥ والإتحاف ٣٤٨ و ٣٤٩..
٢ سقطت من "ب" وهو: سلام بن سليمان الطويل أبو المنذر المزني مولاهم البصري ثقة جليل ومقرىء كبير، أخذ عن عاصم وأبي عمرو، والجحدريّ وعنه الحضرميّ، وهارون بن موسى، مات سنة ١٧١ هـ. انظر: طبقات القراء ١/٣٠٩..
٣ في "ب" أبو حيان وهو تحريف وقد تقدمت ترجمة أبي حيوة..
٤ ابن السميقع: محمد بن عبد الرحمن أبو عبد الله اليماني له اختيار في القراءة ينسب إليه شذ فيه قرأ على أبي حيوة وطاوس عن ابن عباس وهو أحد رجال نافع قرأ عليهم وأخذ عنهم.
انظر: غاية النهاية ٢/١٦٢..

٥ انظر: المحتسب لابن جني ٢/١٦٥. وهي من الشواذ غير المتواترة والبحر٧/١٧٩ الذي أورد قراءة جديدة إلى زيد بن علي "نحيي" بنون التعظيم..
٦ أبو الفضل هو عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن بندار أبو الفضل الرازي العجلي الإمام المقرىء شيخ الإسلام الثقة الورع الكامل مؤلف كتاب جامع الوقوف وغيره قرأ على أبي داود الداراني وأبي الحسن الحمّادي وغيرهما وروى عنه القراءات محمد بن إبراهيم المزكي ومنصور بن محمد شيخ أبي العلاء مات سنة ٧٣٥ هـ انظر: طبقات القراء ١/٣٦٣..
٧ البحر ٧/١٧٩..
٨ سقطت من "ب"..
٩ ساقط من "ب"..
١٠ البحر ٧/١٧٩..
١١ الدر المصون للسمين ٤/٣٣٤..
١٢ أبو الفتح: عثمان بن جني كان من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بعلم النحو والتصريف صنف في النحو والتصريف كتباً أبدع فيها كالخصائص والمنصف، وسر الصناعة وغيرها مات سنة ٣٩٢ هـ، نزهة الألباء ٢٢٠-٢٢٢..
١٣ المحتسب له ٢/١٦٥ مع تصرف بسيط في العبارة..
١٤ أي أن شرط وقوع الخبر والحال جملة أن تكون تلك الجملة خبرية إلا أن الطلب إذا قصد معناه على الخبرية جاز وكلام أبي الفتح على ذلك جائز والمراد: محيياً أو محيية فالمراد أنه واقع في الحال، والحال خبر..
قوله: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً﴾ لما بين أنهم عند توقف الخير يكونون مُنِيبِينَ آيِسِينَ، وعند ظهوره يكونون مستبشرين بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها بل لو أصاب زرعهم ريحٌ مفسِد لكفروا فهم متقلبون غير تأمِّين نظرهم إلى الحالة لا إلى المآلِ.

فصل


سمى النافعة رياحاً، والضارة ريحاً لوجوه:
أحدها: أن النافعة كثيرة ألنواع كبيرة الأفراد، فجمعها لأن في كل يوم وليلة (تَهُبُّ) نفحات من الرياح النافعة، (و) لا تهب الريح الضارة في أعوام بل الضارة لا تهب في الدهور.
الثاني: أن النافعة لا تكون إلا رياحاً وأما الضارة فنفحة واحدة تقتل كريح السَّمُوم.
الثالث: جاء في الحديث «أن ريحاً هَبَّتْ فقال عليه (الصلاة و) السلام:» اللَّهم اجْعلها رِيَاحاً وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً «إشارة إلى قوله تعالى: ﴿يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الأعراف: ٥٧] وقوله: ﴿يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ﴾ [الروم: ٤٦] وإشارة إلى قوله تعالى: ف ﴿أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم﴾ [الذاريات: ٤١] وقوله: ﴿رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ الناس﴾ [القمر: ١٩، ٢٠].

فصل


معنى الآية ولئن أرسلنا ريحاً أي مُضرّة أفسدت الرزعَ فرأوه مصفراً بعد الخُضْرَة لظلّوا لصاروا من بعد اصفرار الزرع يكفرون يجحدون ما سلف من النعمة يعني أنهم يفرحون عند الخَصْب، ولو أرسلت عذاباً على زرعهم (جحدوا) سالِفَ نعمتي.
قوله:»
فَرَأَوْهُ «أي فرأوا النبات لدلالة السياق عليه أو على الأثر، لأن الرحمة هي
427
الغيث وأثرها هو النبات وهذا ظاهر على قراءة الإفراد، وأما على قراءة الجمع فيعود على المعنى. وقيل: الضمير للسَّحَابِ. وقيل: للريح. وقرأ (جَنَاح) بْنُ حبيش مُصْفَاراً بألف و» لظلوا «جواب القسم الموطأ لَهُ» بِلَئِنْ «وهو ماض لفظاً مستقبل معنى، كقوله: ﴿مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ﴾ [البقرة: ١٤٥] والضمير في» من بعده «يعود على الاصفرار المدلول عليه بالصفة كقوله:
٤٠٤٥ - إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ...............................
أي السَّفَهُ، لدلالة السفيه عَلَيهِ.
قوله (تَعَالى:) ﴿فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى﴾ لما علم رسوله وجوه الأدلة ووعد وأوعد ولم يزدهم دعاؤه إلا فراراً وكفراً وإصراراً، قال: ﴿فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى﴾ وقد تقدم الكلام على نحو ﴿فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ﴾ إلى آخره في الأنبياء، وفي النمل. واعلم أن إرشاد الميِّتِ محالٌ والمحالُ أبعد من الممكن ثم إرشاد الأصمِّ صعبٌ فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم بالإشارة والفهام بالإشارة صعب ثم إرشاد الأعمى أيضاً صعب وإنك إذا قلت له الطريق على يمينك يدور إلى يمينه لكنه لا يبقى عليه بل يَحيد عن قرب، وإرشاد الأصَمُ أصعب ولهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسْهَل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع لأن غايته الإفهامُ بالكلام وليس كلّ ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة، فإن المعدومَ والغائب لا إشارة إليه فقال: ﴿فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى﴾ (ثم قال: وَلاَ الصُمَّ وَلاَ تَهْدِي العُمْيَ) وقال في الأصم: ﴿إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ﴾ ؛ ليكون أدخل في الامتناع لأن الأصمَّ وإن كان يَفْهِم فإنما يفهم بالإشارة، (فإِذَا وَلَّى لا يكون نظره إلى المشير فامتنع إفهامه بالإشارة أيضاً) ثم قال: ﴿وَمَآ أَنتَ بِهَادِ العمي عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ لما نفى
428
استماع الميت والأصم وأثبت إسماع المؤمن بآياته لزم أن يكون المؤمن حيّاً سميعاً وهو كذلك لأن المؤمنَ ينظر في البراهين ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة ويفعل ما يجب عليه فهم مسلمون مطيعون كما قال تعالى (عهنم) :
﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٥].
قوله: ﴿الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ﴾ لما أعاد دليل الآفاق بقوله: ﴿الله الذي يُرْسِلُ الرياح﴾ [الروم: ٤٨] أعاد دليلاً من دلائل الأنفس أيضاً وهو خلق الآدمي وذكر أحواله فقال: ﴿خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ﴾ أي (بأذى ضعف) كقوله: ﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ [المرسلات: ٢٠]، وقرىء: «ضُعْف» بضم الضاد، وفتحها، فالضم لُغة قريش، والفتح لغة تميم «» مِنْ ضَعْف «أي من نطفة. وتقدم الكلام في القراءتين والفرق بينهما في الأنفال، ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً﴾ (أي) من بعد ضعف الطفولية شباباً وهو وقت القوة ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً﴾ هَرَماً» وَشَيْبَةً «والشيبة هي تمام الضعف ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾.
(فإن قيل: ما الحكمة في قوله ههنا: ﴿وَهُوَ العليم القدير﴾ ) فقدم العلم على القدرة، وقولِهِ من قبل: ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ والعزة إشارة إلى كما القدرة، والحكمة إشارة إلى كمال العلم، فقدم القدرة هناك على العلم؟!.
فالجواب أن المذكور هناك الإعادة ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ لأن الإعادة بقوله:»
كُنْ فَيَكُونَ «فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الإبداء وهو أطوارٌ وأحوالٌ والعلم بكل حال حاصل فالعلم هَهُنا أظهر ثم إن قوله تعالى: ﴿وَهُوَ العليم القدير﴾ فيه تبشير وإنذار؛ لأنه إذا كان عالماً بأحوال الخلق يكون عالماً بأحوال المخلوق فإن علموا خيراً علمه ثم إذا كان قادراً فإذا علم الخير أثاب، وإذا علم الشر عاقب، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب اللَّذَيْن هما بالقدرة (والعلم) قدم العِلم، وأما الآية الأخرى فالعلم بتلك الأحوال قبل العقاب فقال: ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾.
429
قوله ( تَعَالى١ :) ﴿ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى ﴾ لما علم رسوله وجوه الأدلة ووعد وأوعد ولم يزدهم دعاؤه إلا فراراً وكفراً وإصراراً٢، قال :﴿ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى ﴾ وقد تقدم الكلام على نحو ﴿ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ﴾ إلى آخره في الأنبياء، وفي النمل٣. واعلم أن إرشاد الميِّتِ محالٌ والمحالُ أبعد من الممكن ثم إرشاد الأصمِّ صعبٌ فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم بالإشارة والإفهام بالإشارة صعب ثم إرشاد الأعمى أيضاً صعب وإنك إذا قلت له الطريق على يمينك يدور إلى يمينه لكنه لا يبقى عليه بل يَحيد عن قرب، وإرشاد الأصَمّ أصعب ولهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسْهَل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع لأن غايته الإفهامُ بالكلام وليس كلّ ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة، فإن المعدومَ والغائب لا إشارة إليه فقال :﴿ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى ﴾ ( ثم قال٤ : وَلاَ الصُمَّ وَلاَ تَهْدِي العُمْيَ ) وقال في الأصم :﴿ إِذَا وَلَّوا مُدْبِرِينَ ﴾ ؛ ليكون أدخل في الامتناع لأن الأصمَّ وإن كان يَفْهِم فإنما يفهم بالإشارة، ( فإِذَا وَلَّى٥ لا يكون نظره إلى المشير فامتنع إفهامه بالإشارة أيضاً ).
١ زيادة من "ب"..
٢ في "ب" وإضرار بالضاد..
٣ يشير إلى قوله تعالى من سورة الأنبياء: ﴿ولا يسمع الصمّ الدّعاء إذا ما ينذرون﴾ الآية ٤٥ والآية "٨٠" من النمل..
٤ سقط من "ب"..
٥ سقط من "ب"..
ثم قال :﴿ وَمَا أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ﴾ لما نفى استماع الميت والأصم وأثبت إسماع المؤمن بآياته لزم أن يكون المؤمن حيّاً سميعاً وهو كذلك لأن المؤمنَ ينظر في البراهين ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة ويفعل ما يجب عليه فهم مسلمون مطيعون كما قال تعالى ( عنهم )١ :
﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ].
١ سقط من "ب"..
قوله :﴿ الله الذي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ﴾ لما أعاد دليل الآفاق بقوله :﴿ الله الذي يُرْسِلُ الرّياح ﴾ أعاد دليلاً من دلائل الأنفس أيضاً وهو خلق الآدمي وذكر أحواله فقال :﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ﴾ أي ( بأذى١ ضعف ) كقوله :﴿ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ [ المرسلات : ٢٠ ]، وقرىء :«ضُعْف » بضم الضاد، وفتحها٢، فالضم لُغة قريش، والفتح لغة تميم «من ضعف » أي من نطفة. وتقدم الكلام في القراءتين والفرق بينهما في الأنفال٣، ﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ﴾ ( أي٤ ) من بعد ضعف الطفولية شباباً وهو وقت القوة ﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً ﴾ هَرَماً «وَشَيْبَةً » والشيبة هي تمام الضعف ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾.
( فإن قيل٥ : ما الحكمة في قوله ههنا :﴿ وَهُوَ العليم القدير ﴾ ) فقدم العلم على القدرة، وقولِهِ من قبل :﴿ وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾ والعزة إشارة إلى كمال القدرة، والحكمة إشارة إلى كمال العلم، فقدم القدرة هناك على العلم ؟ !.
فالجواب أن المذكور هناك الإعادة ﴿ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السموات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾ لأن الإعادة بقوله :«كُنْ فَيَكُونَ » فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الإبداء وهو أطوارٌ وأحوالٌ والعلم بكل حال حاصل فالعلم هَهُنا أظهر ثم إن قوله تعالى :﴿ وَهُوَ العليم القدير ﴾ فيه تبشير وإنذار ؛ لأنه إذا كان عالماً بأحوال الخلق يكون عالماً بأحوال المخلوق فإن عملوا خيراً علمه٦ ثم إذا كان قادراً فإذا علم الخير أثاب، وإذا علم الشر عاقب، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب اللَّذَيْن هما بالقدرة ( والعلم٧ ) قدم العِلم، وأما الآية الأخرى فالعلم بتلك الأحوال قبل العقاب فقال :﴿ وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾.
١ سقط من "ب"..
٢ وهي قراءة الجحدري انظر: القرطبي ١٤/٤٦ والبحر المحيط ٧/١٨٠ بنسبة هذه القراءة إلى الجمهور "ضعف" بضم الضاد وبالفتح إلى عاصم وحمزة..
٣ وهي الآية ٦٦ "أن فيكم ضعفاً" فعاصم وحمزة وخلف بفتح الضاد وافقهم الأعمش بخلفه، والباقون بضمها وكلاهما مصدر، وقيل: الفتح في العقل والرأي، والضم في البدن، وقرأ أبو جعفر بفتح العين والمد والهمزة مفتوحة بلا تنوين جمعاً على فعلاء كظريف وظرفاء، ولا يصح- كما روى عن الهاشمي- من ضم الهمزة وقد وافق الهاشمي المطوعي والباقون بإسكان العين والتنوين بلا مطّ ولا همز.
انظر: اللباب بتصرف ٤/١٥٧..

٤ ساقط من "ب"..
٥ ساقط من "ب" بأكمله..
٦ في تفسير الفخر الرازي "وإن عملوا شراً علمه" انظر: تفسير الفخر ٢٥/١٣٦..
٧ زيادة على ما في تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٢٦..
قوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون﴾ يحلف المشركون «مَا لَبِثُوا» في الدنيا «غَيْرَ سَاعَةٍ» أي إلا ساعة، لما ذكر الإعادة والإبداء ذكره بذكر أحوالها ووقتها.
قوله: «مَا لَبِثُوا» جواب قوله «يُقْسِمُ» وهو على المعنى؛ إذا لو حكى قولهم بعينه لقيل: ما لبثنا، والمعنى أنهم استلقوا أجل الدينا لما عاينوا الآخرة. وقال مقاتل والكلبي: ما لبثوا في قبورهم غير ساعة كما قال: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا﴾ [النازعات: ٤٦] وقوله: ﴿يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾ [الأحقاف: ٣٥].
قوله: «كَذَلِكَ» أي مثْلُ ذَلِكَ الإفك «كانَوا يُؤفَكُونَ» أي يصرفون عن الحق في الدنيا، وقال الكلبي ومقاتل كذبوا في (قبورهم) قولهم غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا بعث، والمعنى أن الله تعالى أراد يَفْضَحَهُمْ فحلفوا على شيء (يتبين) لأهل الجمع أنهم كاذبون، ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم فقال: ﴿وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله﴾ أي فيما كتب الله لكم في سابق علمه في اللَّبث في القبور. وقيل: في كتاب الله في حُكْم الله أي فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث فيكون «في كتاب الله» متعلقاً «بلَبِثْتُم» وقال مقاتل وقتادة: فيه تقديم وتأخير معناه وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان لقد لبثتم إلى يَوْم البَعْثِ.
430
وفي «تَرِدُ بمعنى الباء [و] العامة على سكون عين» البَعْثِ «والحسن بفتحها، وقرىء، بكسرها، فالمكسور اسم، والمفتوح مصدر.
قوله: ﴿فهذا يَوْمُ البعث﴾ في الفاء قولان: اظهرهما: أنها عاطفة هذه الجملة على»
لَقَدْ لَبِثْتُمْ «.
وقال الزمخشري هي جواب شرط مقدر كقوله:
٤٠٤٦ - فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا... كأنه قيل: إن صحَّ ما قلتم إن»
خرسان «أقصى ما يراد بكم وآن لنا أن نخلص وكذلك إن كنتم منكرين فهذا يوم البعث، ويشير إلى البيت المشهور.
٤٠٤٧ - قالوا خُرَاسان أقْصَى ما يُرادُ بِنَا قُلْنَا القُفُول فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
قوله:»
لا تَعْلَمُونَ «أي البعث أي ما يراد بكم (أو) لا يقدر له مفعول أي لم يكونوا من أولي العلم وهو المَنْع.

فصل


اعلم أن الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها، فالمجرم إذا حُشِرَ عَلِمَ أن مصيره (إلى النار يستقل مدة اللَّبْثِ ويخترا تأخير الحشر والإبقاء في الإبقاء، والمؤمن إذا حُشِرَ عَلِمَ أن مصيره) إلى الجنة فيستكثر المدة ولا يريد تأخيرها فيختلف الفريقان ويقول أحدهما: إن مدة لَبْثنا قليلٌ وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث﴾ ونحن صرنا إلى يوم البعث، وهذا يوم البعث ﴿ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وقوعه في الدنيا يعني أن طلبكم (التأخير لأنكم كنتم لا تعلمون البعث ولا تعترفون به، فصار مصيركم إلى النار فتطلبون التأخير ولا ينفعكم العلم به الآن.
قوله: «فَيَوْمَئِذٍ»
أي إِذْ يَشْفَعُ ذَلك يقولُ الذين أثوتوا العلمَ تلك المقالة «لا ينفع» هو
431
الناصب ليومئذ قبله، وقرأ الكوفيون هنا وفي غافر بالياء من تحت وافقهم نافعٌ على ما في غافر؛ لأن التأنيث مجازيّ ولأنه قد فصل أيضاً والباقون بالتأنيث فيهما مراعاةٌ للفظ.
قوله: ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ قال الزمخشري من قولك: أسْتَعْتَبَنِي فلانٌ فَأَعْتَبْتُهُ أي اسْتَرْضَانِي فَأَرضَيْتُهُ، وذلك إذا كان جانياً (عليه) وحقيقة «أَعْتَبْتُهُ» أزلت عَتْبَهُ ألا ترى إلى قوله:
٤٠٤٨ - غَضِبَتْ تَمِيمٌ أن تقَتَّلَ عَامِرٌ يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ
كيف جعلهم غضاباً، ثم قال: «فأُعْتِبُوا» أي أُزِيلَ غَضَبُهُمْ، والغضب في معنى العتب والمعنى لا يقال (لهم) أرضوا ربكم بتوبة وطاعة، ومثله قوله تعالى: ﴿فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ﴾ [الجاثية: ٣٥]. فإن قلتَ: كيف جعلوا غير مُسْتَعْتَبِين في بعض الآيات وغير مُعْتَبِينَ في بعضها وهو قوله: ﴿وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين﴾ [فصلت: ٢٤] قلت: أما كونهم غي مُسْتَعْتَبِينَ فهذا معناه، وأما كونهم غير معتبين فمعناه أنهم غيرُ راضينَ بما هم فيه فشُبِّهَتْ حالُهُمْ بحال قوم جُنِيَ عليهم فهم عاتبون على الجاني غير راضين (منه) فإن يستعتبو الله أي يسألون إزالة ما هم فيه فما هم من المُجَابِينَ انتهى. وقال ابن عطية ويستعتبون بمعنى يعتبون كما تقول يَمْلِكث، ويَسْتَمْلِكُ، والباب في «استفعل» طلب الشيء وليس هذا منه؛ لأن المعنى كان يفسد إذْ كان المفهوم منه ولا يُطْلَبُ منهم عُتْبَى، قال شِهابُ الدِّين: وليس (هذا) فاسداً لما تقدم في قوله الزمخشري.
432
قوله: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ وهذا إشارة إلى إزالة الأعْذَار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وأنه لم يبقَ من جانب الرسول تقصيرٌ فَإن طلبوا شيئاً آخر فذاك عناد مَحْض لأن من كذَّب دليلاً لا يَصْعبُ عليه تكذيب الدلائل بل يا يجوز للمستدل أن يَشْرَع في دليل آخر بعد ذكره دليلاً جيِّداً مستقيماً ظاهراً لا إشكال عليه، وعانده الخصم لأنه إما أن يعترف بوُرُودِ سُؤال الخَصْم عليه أو لا يعترف فإن اعترف يكون انقطاعاً وهو يَقْدَحُ في الدليل والمستدلّ إما أن يكون الدليل فاسداً وإما أن المستدل جاهل بوجه الدلالة والاستدلال وكلاهما لا يجوز الاعراف (به) من العلم فكيف من النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وإن لم يعترف بكون الشُّرُوعِ في غيره يوهم أن الخَصم معاند فيحترز عن العناد في الثاني أكثر.
فإن قيل: فالأنبياء عليهم (الصلاة و) السلام ذكروا أنواعاً من الدلائل، فنقول سردوها سَرْداً ثم فردوها فرداً فرداً (كما) يَقُولُ: الدليلُ عليه من وجوه: الأول: كذا، والثاني: كذا، والثالث: كذا.
وفي مثل هذا الواجب عدم الالتفات إلى عناد المعاند لأنه يريد تضييع الوقت كي لا يتمكن المُسْتَدِلُ مِن الإتيان بجميع ما وعد من الدليل فتَنْحَطُّ درجته وإلى هذا أشار بقوله: ﴿وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ﴾ أي ما أنتم إلا على باطل، ووحد في قوله: «جئْتَهُمْ» وجمع في قوله: «إنْ أَنْتُمْ» لنكتةٍ وهي أنه تعالى أخبر في موضع آخر فقال: ﴿وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ آيَةٍ﴾ أي جاءت بها الرسل فقال الكفار ما أنتم أيها المُدعُون الرسالة (كلكم) إلا كذا.
433
ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم فقال :﴿ وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله ﴾ أي فيما كتب الله لكم في سابق١ علمه في اللَّبث في القبور. وقيل : في كتاب الله في حُكْم الله٢ أي فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث فيكون «في كتاب الله » متعلقاً «بلَبِثْتُم » وقال مقاتل وقتادة : فيه تقديم وتأخير٣ معناه وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان لقد لبثتم إلى يَوْم البَعْثِ.
و «في » تَرِدُ بمعنى الباء [ و ] العامة على سكون عين «البَعْثِ » والحسن بفتحها٤، وقرئ، بكسرها٥، فالمكسور اسم، والمفتوح مصدر.
قوله :﴿ فهذا يَوْمُ البعث ﴾ في الفاء قولان : أظهرهما : أنها عاطفة هذه الجملة على «لَقَدْ لَبِثْتُمْ »٦.
وقال الزمخشري هي جواب٧ شرط مقدر كقوله :
٤٠٤٦ - فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا ***. . .
كأنه قيل : إن صحَّ ما قلتم إن «خراسان » أقصى ما يراد بكم وآن لنا أن نخلص وكذلك إن كنتم منكرين فهذا يوم البعث، ويشير إلى البيت المشهور :
٤٠٤٧ - قالوا خُرَاسان أقْصَى ما يُرادُ بِنَا *** قُلْنَا القُفُول فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا٨
قوله :«لا تَعْلَمُونَ » أي البعث أي ما يراد بكم ( أو ) لا يقدر له مفعول أي لم يكونوا من أولي العلم وهو المَنْع٩.

فصل :


اعلم أن الموعود بوعد١٠ إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها، فالمجرم إذا حُشِرَ عَلِمَ أن مصيره ( إلى النار يستقل١١ مدة اللَّبْثِ ويختار تأخير الحشر والإبقاء في الإبقاء، والمؤمن إذا حُشِرَ عَلِمَ أن مصيره ) إلى الجنة فيستكثر المدة ولا يريد تأخيرها فيختلف الفريقان ويقول أحدهما : إن مدة لَبْثنا قليلٌ وإليه الإشارة بقوله :﴿ وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث ﴾ ونحن صرنا إلى يوم البعث، وهذا يوم البعث ﴿ ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ وقوعه في الدنيا يعني أن طلبكم ( التأخير١٢ لأنكم كنتم لا تعلمون البعث ولا تعترفون به، فصار مصيركم إلى النار فتطلبون التأخير ) ولا ينفعكم العلم به الآن.
١ انظر المراجع السابقة..
٢ انظر المراجع السابقة..
٣ انظر المراجع السابقة..
٤ المحتسب ٢/١٦٦ وهي من الشواذ..
٥ نقلها في البحر ولم يعزها إلى معين..
٦ هذا رأي أبي حيان في البحر، انظر البحر المحيط ٧/١٨٠..
٧ انظر: الكشاف ٣/٢٢٧..
٨ البيت من البسيط وهو للعباس بن الأحنف والقفول: الرجوع إلى ديار الأهل والمعنى في التألم من فراق الأهل والصحب والأحبة. والشاهد فيه "فقد جئنا خراسانا" فالفاء هنا جواب الشرط مقدر على رأى الزمخشري والتقدير: فقلنا فقد جئنا وهلا أذنتم لنا بالرجوع تصديقاً لوعدكم إيانا، وفسر الآية بالبيت الكشاف ٣/٢٢٧ والأغاني ٨/٢٤. ودلائل الإعجاز ٢٢٥، وديوانه ١٢..
٩ في "ب": "وهو أبلغ" وهوالصواب..
١٠ في "ب" بوعيد؛ وهو خطأ وتحريف..
١١ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
١٢ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
قوله :«فَيَوْمَئِذٍ » أي إِذْ يَشْفَعُ ذَلك يقولُ الذين أوتوا العلمَ تلك المقالة «لا ينفع » هو الناصب ليومئذ قبله، وقرأ الكوفيون١ هنا وفي غافر٢ بالياء٣ من تحت وافقهم نافعٌ على ما في غافر ؛ لأن التأنيث مجازيّ ولأنه قد فصل أيضاً والباقون بالتأنيث فيهما مراعاةٌ للفظ٤.
قوله :﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ قال الزمخشري من قولك : اسْتَعْتَبَنِي فلانٌ فَأَعْتَبْتُهُ أي اسْتَرْضَانِي فَأَرضَيْتُهُ، وذلك إذا كان٥ جانياً ( عليه ) وحقيقة «أَعْتَبْتُهُ » أزلت عَتْبَهُ ألا ترى إلى قوله :
٤٠٤٨ - غَضِبَتْ تَمِيمٌ أن تقَتَّلَ عَامِرٌ يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ٦ ٧
كيف جعلهم غضاباً، ثم قال :«فأُعْتِبُوا » أي أُزِيلَ غَضَبُهُمْ، والغضب في معنى العتب والمعنى لا يقال ( لهم )٨ أرضوا ربكم بتوبة وطاعة، ومثله قوله تعالى :﴿ فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ ﴾٩. فإن قلتَ : كيف جعلوا غير مُسْتَعْتَبِين في بعض الآيات وغير مُعْتَبِينَ في بعضها وهو قوله :﴿ وَإِن يُسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِنَ المعتبين ﴾ قلت : أما كونهم١٠ غير مُسْتَعْتَبِينَ فهذا معناه، وأما كونهم غير معتبين فمعناه أنهم غيرُ راضينَ بما هم فيه فشُبِّهَتْ حالُهُمْ بحال قوم جُنِيَ عليهم فهم عاتبون على الجاني غير راضين ( منه١١ ) فإن يستعتبوا الله أي يسألون إزالة ما هم فيه فما هم من المُجَابِينَ١٢ انتهى. وقال ابن عطية ويستعتبون١٣ بمعنى يعتبون كما تقول يَمْلِك، ويَسْتَمْلِكُ، والباب في «استفعل » طلب الشيء وليس هذا منه ؛ لأن المعنى كان يفسد إذْ كان المفهوم منه ولا يُطْلَبُ منهم عُتْبَى، قال شِهابُ الدِّين١٤ : وليس ( هذا )١٥ فاسداً لما تقدم في قول الزمخشري١٦.
١ هم عاصم وحمزة والكسائي..
٢ وهو قول الله من الآية ٥٢ منها: " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم"..
٣ انظر: الإتحاف ٣٤٩ والسبعة ٥٠٩ والكشف ٢/١٨٦ والبحر المحيط ٧/١٨١، والقرطبي ١٤/٤٩ وزاد المسير ٦/٣١٢..
٤ المراجع السابقة..
٥ في الكشاف: "كنت جانياً" وانظر الكشاف للزمخشري ٣/٢٢٧..
٦ ساقط من "ب" وموجودة في الكشاف أيضاً..
٧ البيت من تمام الكامل وهو لبشر بن أبي خازم الأسدي و"النّسار" ماء لبني عامر و"الصيلم" الداهية المستأصلة ويسمى به السيف والمعنى أن قوم الشاعر أزالوا غضب تميم لمقاتلة عامر بالسيف أي أرضوهم بالقتل وهذا هو الشاهد كما قرره الزمخشري فوق. وقد تقدم..
٨ ساقط من "ب"..
٩ الجاثية: ٣٥..
١٠ في "ب" وإن قلت: غير معتبين..
١١ ساقط من "ب" وهو في الكشاف "عنه"..
١٢ في الكشاف: من المجابين لإزالته..
١٣ البحر المحيط ٧/١٨١..
١٤ الدر المصون ٤/٣٣٦..
١٥ ساقط من "ب"..
١٦ في الدر المصون: "أبي القاسم" بدلاً من الزمخشري..
قوله :﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾ وهذا إشارة إلى إزالة الأعْذَار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وأنه لم يبقَ من جانب الرسول تقصيرٌ فَإن طلبوا شيئاً آخر فذاك عناد مَحْض لأن من كذَّب دليلاً لا يَصْعبُ عليه تكذيب الدلائل بل لا يجوز للمستدل أن يَشْرَع في دليل آخر بعد ذكره دليلاً جيِّداً مستقيماً ظاهراً لا إشكال عليه، وعانده الخصم لأنه إما أن يعترف بوُرُودِ سُؤال الخَصْم عليه أو لا يعترف فإن اعترف يكون انقطاعاً وهو يَقْدَحُ في الدليل والمستدلّ إما أن يكون الدليل فاسداً وإما أن المستدل جاهل١ بوجه الدلالة والاستدلال وكلاهما لا يجوز الاعتراف ( به٢ ) من العالم فكيف من النبي عليه الصلاة والسلام٣ وإن لم يعترف بكون الشُّرُوعِ في غيره يوهم٤ أن الخَصم معاند فيحترز عن العناد في الثاني أكثر.
فإن قيل : فالأنبياء عليهم ( الصلاة٥ و ) السلام ذكروا أنواعاً من الدلائل، فنقول سردوها سَرْداً ثم فردوها فرداً فرداً ( كما٦ ) يَقُولُ : الدليلُ عليه من وجوه : الأول : كذا، والثاني : كذا، والثالث : كذا.
وفي مثل هذا الواجب عدم الالتفات إلى عناد المعاند لأنه يريد تضييع الوقت كي لا يتمكن المُسْتَدِلُ مِن الإتيان بجميع ما وعد من الدليل فتَنْحَطُّ درجته وإلى هذا أشار بقوله :﴿ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ ﴾ أي ما أنتم إلا على باطل، ووحد في قوله :«جئْتَهُمْ » وجمع في قوله :«إنْ أَنْتُمْ » لنكتةٍ وهي أنه تعالى أخبر في موضع آخر فقال :﴿ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ آيَةٍ ﴾ أي جاءت بها الرسل فقال الكفار ما أنتم أيها المُدعُون الرسالة ( كلكم٧ ) إلا كذا.
١ في "ب" وإما أن يكون المستدل جاهلاً وفي تفسير الفخر وإما بأن المستدلَّ جاهل..
٢ ساقط من "ب" وموجود في تفسير الرازي..
٣ في "ب" صلى الله عليه وسلم..
٤ في تفسير الرازي: "موهماً أن الخصم ليس معانداً فيكون اجتراؤه على العناد في الثاني"..
٥ زيادة من "ب"..
٦ ساقط من "ب" وفي تفسير الرازي "كمن يقول الدليل...."..
٧ ساقط من "ب"..
قوله: «كَذَلك يَطْبَعُ» أي مثل ذلك الطبع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ توحيد الله.
(فإن قيل: من لا يعلم شيئاً أيّ فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه؟
فالجواب:) معناه أن من لا يعلم الآن فقد طبع على قلبه من قبل، ثم إنه تعالى
433
سَلَّى نبيه عليه (الصلاة و) السلام فقال: ﴿فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ في نصرتك وإظهارك على عدوك وتبيين صدقك.
قوله: ﴿وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ﴾ العامة من الاسْتِخْفَافِ - بخاء مُعْجَمَةٍ وفاءٍ - ويعقوبُ، وابنُ أبي إسحاق بحاء مهملة وقاف من الاسْتِحْقَاق. وابنُ أبي (عبلة) ويعقوبُ بتخفيف نون التوكيد والنهي من باب: لاَ أَرَينْكَ هَهُنَا.

فصل


المعنى ولا يَسْتَجْهِلَنَّكَ أي لا يَجْهَلَنَّكَ ﴿الذين لا يوقون﴾ على الجهل واتباعهم في البغي، وقيل: لا يَسْتَحِقَّنَ رأيكَ وحِلْمَك الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب، وهذا إشارة إلى وجوب مُدَاومَةِ النبي - عليه السلام - على الدعاء إلى الإيمان، فإنه لو سكت لَقَالَ الكافريون: إن هـ متقلب قابل الرأي لا ثبات له.
روى أبو أمامة عن أبيِّ بْنِ كَعْبٍ قال: «قال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَنْ قَرَأَ سُورَة الرُّومِ كان لَهُ من الاجر عشر حسناتٍ بعدد كُلّ مَلَك يُسَبِّح اللَّهُ بَيْنَ السَّمَاء والأرض وأَدْرَكَ ما صَنَعَ في يومه وليلته «رواه في تفسير والله أعلم (وأحكم).
434
سورة لقمان
435
ثم إنه تعالى سَلَّى نبيه عليه ( الصلاة١ و ) السلام فقال :﴿ فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ﴾ في نصرتك وإظهارك على عدوك وتبيين صدقك٢.
قوله :﴿ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين ﴾ العامة من الاسْتِخْفَافِ٣ - بخاء مُعْجَمَةٍ وفاءٍ - ويعقوبُ، وابنُ أبي إسحاق٤ بحاء مهملة٥ وقاف من الاسْتِحْقَاق. وابنُ أبي ( عبلة٦ ) ويعقوبُ بتخفيف نون التوكيد والنهي من باب : لاَ أَرَينْكَ هَهُنَا٧.

فصل :


المعنى ولا يَسْتَجْهِلَنَّكَ أي لا يَجْهَلَنَّكَ٨ ﴿ الذين لا يوقنون ﴾ على الجهل واتباعهم في البغي٩، وقيل : لا يَسْتَحِقَّنَ رأيكَ وحِلْمَك الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب، وهذا إشارة إلى وجوب مُدَاومَةِ النبي - عليه السلام - على الدعاء إلى الإيمان، فإنه لو سكت لَقَالَ الكافرون : إنه متقلب قابل الرأي لا ثبات له.
١ زيادة من "ب"..
٢ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٣٧ و ١٣٨..
٣ قال ابن منظور في اللسان: "واستخف فلان بحقّي إذا استهان به واستخفّه الفرح إذا ارتاح لأمر".
انظر: اللسان:" خ ف ف" ١٢١٢.
وقال الزجاج في معاني القرآن: "أي لا يستفزنّك عن دينك الذين لا يوقنون، أي هم ضُلاَّلٌ شاكُّون".
انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٩٢..

٤ ابن أبي إسحاق: هو أبو بحر عبد الله بن أبي إسحاق زيد الحضرمي البصري اشتهر بكنية والده، أخذ عن نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وجدَّ في العلم حتى بلغ الغاية فيه مات سنة ١١٧ هـ.
انظر: نشأة النحو ٦١..

٥ أوردها ابن جني في المحتسب في القراءات الشاذة ٢/١٦٦ وهي معترض عليها كما قال ابن جني لمخالفتها لفظاً ومعنى القراءة المعتادة إذ يصير المعنى لا يغلبنك فيصيروا أحق بك منك بنفسك..
٦ ساقط من "ب"..
٧ انظر هذه القراءة في الإتحاف ٣٤٩ والبحر المحيط ٧/١٨١ والكشاف ٣/٢٢٨، ومعنى "لا أرينك ههنا" أنه مثال مأخوذ من قولهم في المثل "بعين ما أرينك" ومعناه اعمل كأني أنظر إليك ودخل التوكيد لدخول (ما) لأن ما زائدة للتوكيد ولأجلها دخلت النون. ومثله المثال والنهي مقصود به هنا الدوام والثبات على الحال التي هو فيها يقول سيبويه في الكتاب ٣/٥١٧: ومن مواضعها أفعال غير الواجب التي في قولك: بجهد ما تبلغنَّ، وأشباهه، وإنما كان ذلك لمكان "ما"..
٨ في "ب" لا يحملنَّك وهو الأصح..
٩ في "ب" الغيّ..
Icon