ﰡ
١ - ﴿الم (١)﴾؛ أي: هذه سورة ألم، قال بعضهم: الحروف المقطعات مبادي السور، ومفاتيح كنوز العبر، والإشارة هنا بهذه الحروف الثلاثة إلى قوله: أنا الله، ولي جميع صفات الكمال، ومني الغفران والإحسان، إلى غير ذلك.
٢ - ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (٢)﴾ وقهرت، وهم أهل الكتاب على دين عيسى - عليه السلام - غلبتهم فارس، وهم المجوس عبدة النيران، والغلبة: القهر والاستعلاء على القرن، بما يبطل مقاومته في الحرب، والروم: اسم قبيلة سميت باسم جدّها (١) روم بن يونان بن يافث بن نوح - عليه السلام -. وقيل: هم بنو روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم - عليهما السلام - سمي عيص؛ لأنه كان مع يعقوب في بطن، فعند خروجهما تزاحما، وأراد كل أن يخرج قبل صاحبه، فقال عيص ليعقوب: إن لم أخرج قبلك.. خرجت من جنب أمي، فتأخر يعقوب شفقة لها، فلذا كان أبا الأنبياء، وعيص أبا الجبارين، والفُرْس بسكون الراء: قوم معروفون، نسبوا إلى فارس بن سام بن نوح عليه السلام؛ أي: غلبتها فارس.
٣ - ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾؛ أي (٢): في أقرب أرض الشام إلى أرض العرب وفارس، وهي أذرعات وكشكر، أو غلبت الروم في أدنى أرضهم، وأقربها إلى عدوهم. ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: الروم ﴿مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾؛ أي: من بعد مغلوبيتهم على يد فارس، فهو من إضافة المصدر إلى المفعول، والفاعل: متروك، والأصل: من بعد غلبة فارس إياهم، ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ فارس (٣)، ولا وقف عليه،
٤ - لتعلق ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ به، وهو ما بين الثلاث إلى العشرة؛ أي: فالروم سيغلبون فارس، فيما بين الثلاث والتسع سنوات من الحرب الأولى، فوقع الغلب للروم على رأس سبع سنين من الحرب الأولى، وعبر بالبضع (٤)، ولم يعين إبقاءً للعباد في ربقة نوع من الجهل، تعجيزًا لهم.
(٢) والواحدي.
(٣) النسفي.
(٤) روح البيان.
وقرأ الجمهور: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (٢)﴾ مبنيًا للمفعول، ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ بالبناء للفاعل، وهي القراءة المشهورة التي جرينا عليها في تفسيرنا، وقرأ الجمهور: ﴿غَلَبِهِمْ﴾ بفتح الغين واللام، وقرأ علي، وابن عمر، ومعاوية بن قرة، وأبو حيوة الشامي، وابن السميفع: بإسكان اللام.
﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿الْأَمْرُ﴾ والقضاء والتصرف ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل غلبة الروم على فارس، وهو وقت كونهم مغلوبين ﴿وَمِنْ بَعْدُ﴾؛ أي: ومن بعد غلبة الروم على فارس، وهو وقت كونهم غالبين. والمعنى (٣): أن كلا من كونهم مغلوبين أولًا، وغالبين آخرًا، ليس إلا بأمر الله وقضائه، كما قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ فمن غلب.. فهو بأمر الله وقضائه
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
وقرأ الجمهور ﴿مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ بضمهما (١)؛ أي: من قبل غلبة الروم، ومن بعدها، ولما كانا مضافين إلى معرفة، وحذفت.. بنيا على الضم، والكلام على ذلك، مذكور في علم النحو، وقرأ أبو السماك، والجحدري، وعون العقيلي: ﴿من قبلٍ ومن بعدٍ﴾ بالكسر والتنوين فيهما، قال الزمخشري: على الجر من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه، كانه قيل: قبلًا وبعدًا، بمعنى أولًا وآخرًا. انتهى.
وقال ابن عطية: ومن العرب من يقول: من قبلٍ ومن بعدٍ، بالخفض والتنوين، وحكى الكسائي عن بعض بني أسد ﴿لله الأمر من قبلٍ ومن بعدُ﴾ الأول مخفوض منون، والثاني مضموم بلا تنوين.
﴿وَيَوْمَئِذٍ﴾ أي: ويوم إذٍ يغلب الروم على فارس، ويحل ما وعده الله تعالى من غلبتهم في بضع سنين ﴿يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ للروم، لكونهم أهل كتاب، كما أن المسلمين أهل كتاب، وفيه فأل حسن، لغلبة المؤمنين على الكافرين، بخلاف فارس فإنه لا كتاب لهم، ولهذا سر المشركون بنصرهم على الروم أولًا، وقد فرح المؤمنون بذلك، وعلموا به يوم وقوعه يوم بدر، بنزول جبريل بذلك فيه، مع فرحهم بنصرهم على المشركين فيه، قد اجتمعت لهم فرحتان: فرحة بنصر الروم على فارس، وفرحة بنصرهم على المشركين، وقيل: نصر الله: هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين، من غلبة الروم على فارس، والأول أولى.
وقال بعضهم: يفرح المؤمنون بقتل الكفار بعضهم بعضًا، لما فيه من كسر شوكتهم، وتقليل عددهم، لا بظهور الكفار، كما يفرح بقتل الظالمين بعضهم بعضًا.
والمعنى: أي (١) ينصر من يشاء أن ينصره على عدوه، ويغلبه عليه على مقتضى المن التي وضعها في الخليقة، وهو المنتقم ممن يستحقون الانتقام بالنصر عليهم، الرحيم بعباده فلا يعاجلهم بالانتقام على ذنوبهم، كما قال: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾.
٦ - وقوله: ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾: مصدر (٢) مؤكد لنفسه؛ أي: وعدهم الله سبحانه بالنصر وبالفرح وعدًا؛ لأن ما قبله، وهو ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ إلخ: في معنى الوعد، إذ الوعد هو: الإخبار بإيقاع شيء نافع قبل وقوعه، وقوله: ﴿وَيَوْمَئِذٍ﴾ إلخ من هذا القبيل، ومثل هذا المصدر، يجب حذف عامله كما قدرنا، يعني انظروا وعد الله، ثم استأنف تقرير معنى المصدر، فقال: ﴿لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ لا هذا الذي في أمر الروم، ولا غيره مما يتعلق بالدنيا والآخرة، لاستحالة الكذب عليه سبحانه. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ وهم المشركون، وأهل الاضطراب ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ صحة وعده لجهلهم، وعدم تفكرهم في شؤون الله تعالى، نفى عنهم العلم النافع للآخرة، وقد أثبت لهم العلم بأحوال الدنيا فيما سيأتي، والضمير في ﴿يَعْلَمُونَ﴾: راجع للأكثر.
والمعنى: أي وعد الله وعدًا بظهور الروم على فارس، والله لا يخلف ما وعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك، لجهلم بشؤونه تعالى، وعدم تفكرهم
(٢) روح البيان.
وهكذا حكم الفرد، فهو لا ينجح في الحياة إلا إذا كان معه أسلحة يغالب بها عوامل الأيام، حتى يغلبها بجده وكده، فهذه الأمور وأمثالها، تحتاج إلى دقة نظر، لا يدركها إلا ذوو البصائر.
٧ - ﴿يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: يعلم أكثرهم ﴿ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؛ أي: ما أدته إليه حواسهم من زخارفها وملاذها، وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم، الملائمة لأهوائهم المستدعية لانهماكهم فيها، وعكوفهم عليها، فكأن علومهم هي علوم البهائم، ولا يعلمون باطنها، وهي مضارها ومتاعبها وفناؤها، وتنكير ﴿ظَاهِرًا﴾ للتحقير والتخسيس؛ أي: يعلمون ظاهرًا حقيرًا خسيسًا من الدنيا، يعني: أمر معاشهم، كيف يكسبون ويتجرون، ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون، وكيف يشققون أنهارها، ويبنون قصورها، وقال الحسن: إن أحدهم يأخذ بيده درهمًا. ويقول: وزنه كذا، ولا يخطىء، وكذا يعرف رداءته وجودته، وهو لا يحسن يصلي.
وقيل: يعلمون وجودها الظاهر، ولا يعلمون فناءها، وقوله: ﴿ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يفيد أن للدنيا ظاهرًا وباطنًا، فظاهرها: ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيقتها: أنها مجاز للآخرة تتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة، ذكر أبو حيان.
ولا فرق (١) بين عدم العلم، وبين العلم المقصور على الدنيا، وفي
﴿وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ﴾ التي هي الغاية القصوى، والمطلب الأسنى، والنعمة الدائمة، واللذة الخالصة، ﴿هُمْ غَافِلُونَ﴾؛ أي: ساهون، لا يلتفتون إليها، ولا يعدون لها ما يحتاج إليه فيها بل لا يخطرونها بالبال ولا يدركون من الدنيا ما يؤدي إلى معرفتها من أحوالها، ولا يتفكرون فيها، أو غافلون عن الإيمان بها، والتصديق بمجيئها.
و ﴿وَهُمْ﴾ لثانية: تكرير للأولى للتأكيد، يفيد أنهم معدن الغفلة عن الآخرة، أو مبتدأ و ﴿غَافِلُونَ﴾ خبر، والجملة: خبر للأولى، وفي الآية تشبيه لأهل الغفلة بالبهائم، المقصور إدراكاتها من الدنيا على الظواهر الحسية، دون أحوالها التي هي من مبادي العلم بأمور الآخرة، وغفلة المؤمنين: بترك الاستعداد لها، وغفلة الكافرين بالجحود بها، وقال بعضهم: من كان عن الآخرة غافلًا.. كان عن الله أغفل، ومن كان عن الله غافلًا.. فقد سقط عن درجات المتعبدين. انتهى.
والمعنى (١): أي وهم غافلون عن أن النفوس لها بقاء بعد الموت، وأنها ستلبس ثوبًا آخر في حياة أخرى، وستنال إذ ذاك جزاء ما قدمت من خير أو شر، ولو لم تكن النفوس تتوقع هذه الحياة.. لكانت آلام الدنيا ومتاعبها لا تطاق، ولا تجد النفوس لاحتمالها سبيلًا، وهي ما قبلت تلك الآلام واحتملتها، إلا لأنها توقن بسعادة أخرى، وراء ما تقاسي من المتاعب في هذه الحياة، ولله در القائل:
وَمِنَ الْبَلِيةِ أَنْ تَرَى لَكَ صَاحِبًا | فِيْ صُوْرَةِ الرَّجُلِ السَّمِيْع الْمُبْصِرِ |
فَطِنٌ بِكُلِّ مُصِيْبَةٍ فِي مَالِهِ | وَإِذَا يُصَابُ بِدِيْنِهِ لَمْ يَشْعُرِ |
والتقدير (١): أقصر كفار مكة نظرهم على ظاهر الحياة الدنيا، ولم يحدثوا التفكر في قلوبهم فيعلموا أنه تعالى ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ﴾؛ أي: لم يخلق السماوات والأجرام العلوية ﴿وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: الأجرام السفلية ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾؛ أي: وما بين السماوات والأرض من المخلوقات، ملتبسة بشيء من الأشياء ﴿إِلَّا﴾ حالة كونها ملتبسةً ﴿بِالْحَقِّ﴾ والحكمة والمصلحة، ليعتبروا بها، ويستدلوا بها على وجود الصانع ووحدته وقدرته، وإنما جعل متعلق الفكر والعلم هو الخلق دون الخالق؛ لأن الله تعالى منزه عن أن يوصف بصورة في القلب، ولهذا روي: "تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تتفكروا في ذات الله".
﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ معطوف على الحق؛ أي: وإلا بأجل معين، قدره الله تعالى لبقائها، لا بد لها من أن تنتهي إليه، وهو وقت قيام الساعة، وقوله (٢): ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية، وقوله: ﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ إشارة إلى معاد الإنسان، فإن مجازاته بما عمل من الإساءة والإحسان هو المقصود بالذات.
وقيل: إن قوله: ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾: مفعول للتفكر، والمعنى عليه؛ أي: أولم يتفكر هؤلاء المكذبون بالبعث من قومك في خلق الله لهم ولم يكونوا شيئًا، ثم تصريفهم أحوالًا وتارات، حتى صاروا كاملي الخلق، كاملي العقل، فيعلموا أن الذي فعل ذلك قادر على أن يعيدهم بعد فنائهم خلقًا جديدًا، ثم يجازي المحسن منهم بإحسانه، والمسيء منهم بإساءته، لا يظلم أحدًا منهم فيعاقبه بدون جرم
(٢) المراح.
ثم ذكر أن كثيرًا من الناس غفلوا عن الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء، فقال: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ مع غفلتهم عن الآخرة، وإعراضهم عن التفكر فيما يرشدهم إلى معرفتها ﴿بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: بلقاء حسابه وجزائه بالبعث، و ﴿الباء﴾: متعلقة بقوله: ﴿لَكَافِرُونَ﴾ و ﴿اللام﴾: هي المؤكدة، فلا تمنع تعلق ما قبلها بما بعدها، والمراد بهؤلاء الكفار: مطلق الكفار، أو كفار مكة؛ أي: منكرون جاحدون، يحسبون أن الدنيا أبدية، وأن الآخرة لا تكون بحلول الأجل المسمى؛ لأنهم لم يتفكروا في أنفسهم، ولو تفكروا فيها، ودرسوا عجائبها.. لأيقنوا بلقاء ربهم، وأن معادهم إليه بعد فنائهم.
٩ - ثم نبههم إلى صدق رسله فيما جاؤوا به عنه، بما أيدهم من المعجزات والدلائل الواضحة، من إهلاك من جحد نبوتهم، ونجاة من صدقهم، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ و ﴿الهمزة﴾ فيه: للاستفهام التوبيخي، المضمن للتقرير، داخلة على محذوف معلوم من السياق. و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقعد هؤلاء المكذبون من كفار مكة في أماكنهم، ولم يسيروا ويمشوا في أقطار الأرض ونواحيها ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ ويشاهدوا ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: كيف كان جزاء الأمم الذين كانوا من قبلهم؛ أي: من قبل أهل مكة، وكيف كان مآلهم حين كذبوا رسلهم، فأهلكوا، كعاد، وثمود، وقوم لوط، وقد ساروا وقت التجارات في أقطار الأرض، وشاهدوا آثارهم، فكيف لا يتعظون.
ثم بين سبحانَهُ مبدأ أحوال تلك الأمم ومآلها، فقال: ﴿كَانُوا﴾؛ أي: كان الذين من قبلهم ﴿أَشَدَّ﴾ وأقوى ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أهل مكة ﴿قُوَّةً﴾ في الجسم، وأقدر منهم على التمتع بالحياة الدنيا ﴿وَأَثَارُوا﴾؛ أي: أثار الذين من قبلهم ﴿الْأَرْضَ﴾؛ أي: حرثوها وقلبوها للزراعة والغرس، وزاولوا أسباب ذلك، ولم
وقرأ أبو جعفر (١): ﴿وَأَثَارُوا الْأَرْضَ﴾ بمدة بعد الهمزة. وقال مجاهد: ليس بشيء، وخرجه أبو الفتح على الإشباع. وقرأ أبو حيوه: ﴿وآثروا الأرض﴾ بحذف ألف بين المثلثة والراء، من الأثرة، وهو الاستبداد بالشيء، وقرىء: ﴿وأثروا الأرض﴾؛ أي: أبقوا عنها آثارًا. ﴿وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالمعجزات الباهرات، والآيات الواضحات، والحجج القاطعات، فكذبوهم، فأهلكهم الله تعالى، ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه بما فعل بهم من العذاب والإهلاك ﴿لِيَظْلِمَهُمْ﴾ من غير جرم يستدعيه من جانبهم ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بالكفر والتكذيب.
والمعنى (٢): أي أولم يسر هؤلاء المكذبون بالله، الغافلون عن الآخرة في البلاد التي يسلكونها تجرًا، فينظروا إلى آثار الله فيما كان قبلهم من الأمم المكذبة، كيف كان عاقبة أمرهم في تكذيبهم رسلم، وقد كانوا أشد منهم قوةً، وحرثوا الأرض وعمروها أكثر مما عمر هؤلاء، ثم أهلكهم الله تعالى بكفرهم وتكذيبهم رسله، وما كان الله بظالم لهم بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله، وجحودهم آياته، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، بمعصيتهم ربَّهم.
والخلاصة (٣): أنه قد كان لكم فيمن قبلكم من الأمم معتبر ومزدجر، فقد
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
١٠ - ثم أكد ما سلف بقوله: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى﴾ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: ﴿عَاقِبَةَ﴾ بالرفع، على أنها اسم ﴿كَانَ﴾، وتذكير الفعل حينئذٍ لكون تانيثها مجازيًا، و ﴿السُّوأَى﴾ خبرها، والمعنى؛ أي: ثم بعد إهلاكهم في الدنيا، كان عاقبة الذين عملوا السيئات في الآخرة الدار السيئة، التي هي نار جهنم، والعقوبة التي هي أسوأ العقوبات وأفظعها، وهي العقوبة بالنار.
وفيه وضع الظاهر، وهو ﴿الَّذِينَ﴾ مقام المضمر؛ لأن مقتضى السياق أن يقول: ثم كان عاقبتهم، وقوله: ﴿أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: مفعول لأجله، علة لما أشير إليه من تعذيبهم الدنيوي والأخروي؛ أي: أهلكهم الله سبحانه في الدنيا، ثم كان عاقبتهم في الآخرة الدار السيئة، لأجل أن كذبوا بآيات الله، المنزلة على رسله، ومعجزاته الظاهرة على أيديهم.
﴿وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ معطوف على ﴿كَذَّبُوا﴾ داخل معه في حكم العلة؛ أي: لأجل تكذيبهم بايات الله تعالى، واستهزائهم بها، وإيراد الاستهزاء بصيغة المضارع للدلالة على استمراره وتجدده.
وقرأ الكوفيون وابن عامر (١): ﴿عاقبة﴾ بالنصب، على أنه خير ﴿كَانَ﴾ مقدم، و ﴿السُّوأَى﴾: مصدر أساؤوا، كالرجعى، أو صفة لمصدر محذوف، و ﴿أَنْ كَذَّبُوا﴾: اسمها المؤخر، والتقدير: ثم كان التكذيب والاستهزاء عاقبة الذين عملوا السوأى، أو عملوا الأعمال السينة، و ﴿السُّوأَى﴾: تأنيث الأسوأ، كالحسنى، تأنيث الأحسن، أو مصدر كالبشرى والرجعى، وصف به العقوبة مبالغةً، كأنها نفس السوأى، وقيل: السوأى: اسم لجهنم، كما أن الحسنى اسم
وحاصل معنى الآيات (١): أن الأمم السالفة المكذبة، عذبوا في الدنيا والآخرة، بسبب تكذيبهم واستهزائهم، وسائر معاصيهم، فلم تنفعهم قوتهم، ولم تمنعهم أموالهم من العذاب والهلاك، فما الظن بأهل مكة، وهم دونهم في العدد وقوة الجسد.
فائدة: قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ قاله (٢) هنا وفي فاطر وفي أول المؤمن بالواو، وفي آخر سورة المؤمن قاله بالفاء، حيث قال: ﴿أَفلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ لأن ما هنا موافق لما قبله، وهو: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ ولما بعده، وهو ﴿وَأَثَارُوا الْأَرْضَ﴾ وما في فاطر موافق أيضًا لما قبله، وهو ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ ولما بعده وهو: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ﴾ وما في أول المؤمن موافق لما قبله، وهو ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ وما في آخرها موافق لما قبله، وهو ﴿فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾ وما بعده، وهو: ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)﴾ فناسب فيه الفاء، وفي الثلاثة قبله الواو.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ (٣) قاله هنا بحذف ﴿كَانُوا﴾ قبل قوله: ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وحذف الواو بعده، وقاله في فاطر بحذف ﴿كَانُوا﴾ أيضًا، وبذكر الواو، حيث قال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ وفي أوائل غافر بذكر ﴿كَانُوا﴾ دون الواو وزيادة ﴿هُمُ﴾ حيث قال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾
(٢) فتح الرحمن.
(٣) فتح الرحمن.
١١ - ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾؛ أي: ينشئهم ويخلقهم أولًا في الدنيا، وهو الإنسان المخلوق من النطفة ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾؛ أي: يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا؛ أي: يحييهم في الآخرة، ويبعثهم بعد الموت، وتذكير الضمير وإفراده، باعتبار لفظ الخلق، ﴿ثُمَّ﴾ بعد بعثكم وإعادتكم ﴿إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى موقف حسابه تعالى وجزائه ﴿تُرْجَعُونَ﴾؛ أي: تردون، لا إلى غيره، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، والالتفات إلى الخطاب للمبالغة في الترهيب، والإتيان بضمير الجمع باعتبار معنى الخلق.
وقرأ عبد الله وطلحة (١): ﴿يبدىء﴾ بضم الياء وكسر الدال، والجمهور: بفتحها، وقرأ أبو بكر، وأبو عمرو، وروح: ﴿يرجعون﴾ بالتحتية على الأصل، والجمهور: بالفوقية على الخطاب.
١٢ - ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾؛ أي: القيامة التي هي وقت إعادة الخلق، ورجعهم إليه للجزاء، والساعة (٢): جزء من أجزاء الزمان، عبر بها عن القيامة تشبيهًا لها بذلك، لسرعة حسابها، كما قال: ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ أو لما نبه عليه قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾، ﴿يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾؛ أي: يسكت المشركون سكوت من انقطعت عن الحجة، متحيرين آيسين من الاهتداء إلى الحجة، أو من كل خير حين عاينوا العذاب، وقرأ (٣) الجمهور: ﴿يبلس﴾ بكسر اللام على البناء للفاعل، وقرأ علي، والسلمي: بفتحها على البناء للمفعول، من أبلسه: إذا أسكته.
ومعنى الآيتين: أي (٤) الله سبحانه ينشىء جميع الخلق بقدرته، وهو منفرد
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
١٣ - ولما كان الساكت قد يغنيه غيره عن الكلام.. نفى ذلك بقوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ﴾ أي: ولا يكون لهؤلاء المشركين ﴿مِنْ شُرَكَائِهِمْ﴾؛ أي: من أوثانهم التي عبدوها رجاء الشفاعة، أو رؤسائهم الذين كانوا يتبعونهم على ما دعوهم إليه من الضلالة ﴿شُفَعَاءُ﴾ يستنقذونهم، ويجيرونهم من عذاب الله، وإذ ذاك يستبين لهم جهلهم وخطؤهم، إذ قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وعبر (١) بالمضارع المنفي بـ ﴿لَمْ﴾ الذي كان ماضي المعنى، لتحققه في علم الله، وكذا يقال فيما بعده، وصيغة الجمع في قوله: ﴿شُفَعَاءُ﴾ لوقوعها في مقابلة الجمع؛ أي: لم يكن لكل واحد منهم شفيع أصلًا، وأضاف الشركاء إليهم في قوله: ﴿شُرَكَائِهِمْ﴾ لأنهم أشركوهم في أموالهم، وقيل: لأنهم اتخذوها بزعمهم شركاء لله.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَلَمْ يَكُنْ﴾ بالياء التحتية، وقرأ خارجة، والأريس كلاهما عن نافع، وابن سنان عن أبي جعفر، والأنطاكي عن شيبة، بتاء التأنيث.
وكتب في المصحف (٣): ﴿شفعواء﴾ بواو قبل الألف كما كتب: ﴿علمواء﴾ بني إسرائيل في الشعراء، و ﴿السوأى﴾ بالألف قبل الياء إثباتًا للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
١٤ - ثم بين سبحانه أن الله يميز الخبيثين من الطيبين، فقال: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾؛ أي: ويوم تجيء الساعة التي يحشر فيها الخلق إلى الله، أعيد لتهويله، وتفظيع ما يقع فيه، وقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ توكيد لفظي لما قبله؛ أي: يوم إذ تقوم الساعة ﴿يَتَفَرَّقُونَ﴾؛ أي: يتفرق أهل الإيمان بالله وأهل الكفر به، فأما أهل الإيمان به.. فيؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة وأما أهل الكفر فيؤخذ بهم ذات
الشمال إلى النار، والمراد: تفرق جميع الخلق المدلول عليهم بقوله: ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ لا تفرق المجرمين خاصة، والمراد بالتفرق: أن كل طائفة تنفرد، وليس المراد: تفرق كل فرد منهم عن الآخر، ومثل الآية قوله تعالى: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ وذلك بعد تمام الحساب، فلا يجتمعون أبدًا، قال قتادة: فرقة والله لا اجتماع بعدها، وقال الحسن: لئن كانوا اجتمعوا في الدنيا.. ليتفرقن يوم القيامة، هؤلاء في أعلى عليين، وهؤلاء في أسفل السافلين.
١٥ - ثم بين سبحانه كيفية تفرقهم، فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات ﴿فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ﴾ عظيمة؛ أي: في رياض الجنة، وهي محاسنها وملاذها، وخص الروضة بالذكر، لأنه لم يكن عند العرب شيء أحسن منظرًا، ولا أطيب نشرًا من الرياض، ففيه تقريب المقصود من أفهامهم ﴿يُحْبَرُونَ﴾؛ أي: يسرون سرورًا تهللت له وجوههم، وبألوان الزهر والسندس الأخضر يتمتعون، ويتلذذون بالسماع والعيش الطيب الهنيء، وقيل: ينعمون، وقيل: يكرمون، والأولى أولى.
١٦ - ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ القرآنية التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بما فصل ﴿وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ﴾ أي: البعث بعد الموت،
وأشار بالإحضار: إلى أن جهنم سجن الله تعالى، فكما أن المجرم في الدنيا يساق إلى السجن، وهو كاره له، فكذا المجرم في العقبى يساق ويجر إلى النار بالسلاسل والأغلال، فيذوق وبال كفره وتكذيبه، وحضوره محاضر أهل الهوى من أهل الملاهي، وربما يحضر في العذاب من ليس بمكذب، إلحاقًا له في بعض الأوصاف، وإن كان غير مخلد فيه، وربما تؤدي الجراءة على المعاصي، والإصرار عليها إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
١٧ - و ﴿الفاء﴾: في قوله: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، والتسبيح محمول على حقيقته وظاهره الذي هو تنزيه الله تعالى عن السوء، والثناء عليه بالخير.
والمعنى: إذا علمتم أيها العقلاء المميزون، أن الثواب والنعيم للمؤمنين العاملين، والعذاب والجحيم للكافرين المكذبين، فسبحوا الله؛ أي: نزهوه عن كل ما لا يليق بشأنه تعالى، وقولوا: سبحان الله ﴿حِينَ تُمْسُونَ﴾ وتدخلون في
والمعنى: وسبحوه تعالى وقت دخولكم في المساء، وساعة دخولكم في الصباح،
١٨ - وجملة قوله: ﴿وَلَهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ لا لغيره، يحمده خاصةً أهل السماوات والأرض، ويثنون عليه (١)، معترضة مسوقة للإرشاد إلى الحمد، والإيذان بمشروعية الجمع بينه وبين التسبيح، كما في قوله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ وقوله: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾.
وفيه لطيفة: وهو أن الله تعالى، لا أمر العباد بالتسبيح.. كأنه بين لهم أن تسبيحم الله سبحانه لنفعهم، لا لنفع يعود على الله تعالى، فعليهم أن يحمدوا الله إذا سبحوه، لأجل نعمة هدايتهم إلى التوفيق اهـ. "رازي".
والمعنى: احمدوه على نعمهِ العظام في الأوقات كلها، فإن الإخبار بثبوت الحمد له تعالى، ووجوبه على أهل التمييز، من خلق السماوات والأرض في معنى الأمر على أبلغ وجه، وتقديم التسبيح على التحميد؛ لأن التخلية بالمعجمة، مقدمة على التحلية بالمهملة، كشرب المسهل مقدم على شرب المصلح، وكالأساس مقدم على الحيطان، وما يبنى عليها من النقوش، والجار والمجرور في قوله: ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ متعلق بنفس الحمد.
وقوله: ﴿وَعَشِيًّا﴾ أي: آخر النهار، معطوف على ﴿حِينَ تُمْسُونَ﴾؛ أي: وسبحوه وقت العشي، وتقديمه على قوله: ﴿وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾؛ أي: تدخلون في الظهيرة التي هي وصط النار، لمراعاة الفواصل، وتغيير الأسلوب؛ لأنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي، كالمساء والصباح والظهيرة.
وإنما خص (٢) بعض الأوقات بالأمر بالتسبيح؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح، لكونه محتاجًا إلى تحصيل مأكول ومشروب
(٢) المراح.
وعبارة "المراغي" هنا: وتخصيص (٢) هذه الأوقات من بين سائرها، لما فيها من التبدل الظاهر في أجزاء الزمن، والانتقال من حال إلى أخرى على صورة واضحة، كالانتقال من الضياء إلى الظلام في المساء، ومن الظلام إلى النور في الصباح، ومن ضياءٍ تامٍ وقت الظهيرة، إلى اضمحلالٍ لذلك الضياء وقت العشي. وهكذا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الآية جامعة للصلوات الخمس ومواقيتها: ﴿تُمْسُونَ﴾ صلاة المغرب والعشاء، و ﴿تُصْبِحُونَ﴾ صلاة الفجر، ﴿وَعَشِيًّا﴾ صلاة العصر، و ﴿تُظْهِرُونَ﴾ صلاة الظهر. فالمعنى عليه: فصلوا لله في هذه الأوقات، الصلاة المشتملة على التسبيح والتحميد، وسائر الأذكار.
والأولى أن يفسر التسبيح بالتنزيه (٣)؛ أي: نزهوا الله سبحانه في هذه الأوقات عن صفات النقص، وصفوه بصفات الكمال؛ لأنه يتضمن الصلاة؛ لأنَّ التنزيه المأمور به يتناول التنزيه بالقلب، وهو الاعتقاد الجازم، ويتناول التنزيه باللسان، وهو الذكر الحسن، ويتناول التنزيه بالأركان، وهو العمل الصالح، والثاني ثمرة الأول، والثالث ثمرة الثاني، فالإنسان إذا اعتقد شيئًا.. ظهر من قلبه على لسانه، وإذا قال.. ظهر صدقه في مقاله من أحواله وأفعاله، فاللسان: ترجمان الجنان، والأركان: ترجمان اللسان، لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان، فهي مشتملة على الذكر باللسان، والتصديق بالجنان، فهو نوع من أنواع التنزيه،
(٢) المراغي.
(٣) الرازي.
وقدم (١) الإمساء على الإصباح، كما قدم في قوله: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ والظلمات على النور، وقابل بالعشي الإمساء، وبالإظهار الإصباح، لأن كلا منهما يعقب بما يقابله، فالعشي يعقبه الإمساء، والإصباح يعقبه الإظهار، ولما لم يتصرف من العشي فعل لا يقال أعشى، كما يقال: أمسى وأصبح وأظهر.. جاء التركيب ﴿وَعَشِيًّا﴾.
وقرأ عكرمة: ﴿حينا تمسون وحينا تصبحون﴾ بتنوين ﴿حين﴾، والجملة: صفة حذف منها الرابط، تقديره تمسون فيه، وتصبحون فيه.
فصل في ذكر نبذة من الأحاديث الواردة في فضل التسبيح
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "من قال: سبحان الله وبحمده، في كل يوم مئة مرة.. حطت خطاياه، وان كانت مثل زبد البحر".
وعنه عن النبي - ﷺ - قال: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده، مئة مرة.. لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال، أو زاد عليه". أخرجهما الترمذي، وقال فيهما: حسن صحيح.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان" حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وعن جويرية رضي الله عنها بنت الحارث زوج النبي - ﷺ -: أن النبي - ﷺ - خرج ذات غداة من عندها، وهي في مسجدها، فرجع بعد ما تعالى النهار فقال: "ما زلت في مجلسك هذا منذ خرجت بعد" قالت: نعم، فقال: "لقد قلتُ بعدَك أربعَ كلماتٍ ثلاثَ مرات، لو وزنت بكلماتك لوزنتهن: سبحان الله وبحمده
وعن سعد بن أبي وقاص، قال: كنا عند رسول الله - ﷺ - فقال: "أيعجز أحدكم أن يكتسب كل يوم ألف حسنة؟ " فسأله سائل من جلسائه، قال: كيف يكتسب ألف حسنة؛ قال: "يسبح الله مئة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، ويحط عنه ألف خطيئة". أخرجه مسلم، وفي رواية غير مسلم: "يحط عنه أربعين ألفًا".
وأخرج أبو داود، والطبراني، وابن السني، وابن مردويه: عن ابن عباس عن رسول الله - ﷺ - قال: "من قال حين يصبح ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧)﴾ إلى قوله: ﴿وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ أدرك ما فاته في ليلته، ومن قال حين يمسي: أدرك ما فاته في يومه"، وإسناده ضعيف.
وعن النبي - ﷺ - (١): "من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى.. فليقل: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ الآية".
١٩ - ولما ذكر الإبداء والإعادة.. ناسبه ذكر إخراج الحي من الميت وعكسه، حيث قال: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ كالإنسان من النطفة، والطير من البيضة، وأيضًا المؤمن من الكافر، والمصلح من المفسد، والعالم من الجاهل، وأيضًا القلب الحي بنور الله من النفس الميتة عن صفاتها وأخلاقها الذميمة، إظهارًا للطفه ورحمته. ﴿وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ كالنطفة والبيضة من الحيوان، أيضًا الكافر والمفسد، والجاهل من المؤمن والمصلح والعالم، وأيضًا القلب الميت عن الأخلاق الحيوانية الشهوانية، من النفس الحية بالأخلاق الحميدة الروحانية.
قيل: ووجه (٢) تعلق هذه الآية بالتي قبلها: أن الإنسان عند الصباح يخرج من شبه الموت وهو النوم، إلى شبه الوجود وهو اليقظة، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم، فإحياء الميت عنده تعالى، كتنبيه النائم، وإماتة الحي، كتنويم المنتبه.
(٢) الشوكاني.
خلاصته: أن الإبداء والإعادة في قدرته سواء، قال مقاتل: يرسل الله يوم القيامة ماء الحياة من السماء السابعة، من البحر المسجور، بين النفختين، فينشر عظام الموتى، وذلك قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ فكما ينبت النبات من الأرض بالمطر، فكذا ينبت الناس من القبور بمطر البحر المسجور كالمني، ويحيون به.
والمعنى: أي وكما سهل حركة النائم الساكن بالانتباه، وإنماء الأرض بإنباتها بعد موتها، يسهل عليه إحياء الميت وإخراجه من قبره لفصل القضاء.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تخرجون﴾ بالتاء المضمومة مبنيًا للمفعول، وقرأ حمزة والكسائي، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش: بفتح تاء الخطاب وضم الراء، مبنيًا للفاعل، فأسند الخروج إليهم كقوله: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾.
٢٠ - ثم ذكر سبحانه آياته من بدء خلق الإنسان آيةً آيةً إلى حين بعثه من القبر، فقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾؛ أي: ومن آياته سبحانه وتعالى، وعلاماته الدالة على بعثكم ﴿أَنْ خَلَقَكُمْ﴾ يا بني آدم في ضمن خلق آدم؛ لأنه خلقه منطويًا على خلق ذرياته انطواءً إجماليًا، أو بوساطة خلق غذائكم ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾ لم يشم رائحة الحياة قط، ولا مناسبة بينه ولا بين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم، وإنما خلق الله (٢) الإنسان من التراب، ليكون متواضعًا ذلولًا حمولًا مثله، والأرض وحقائقها دائمة في الطمأنينة والإحسان بالوجود، ولذلك لا تزال ساكنةً وساكتةً، لفوزها بوجود مطلوبها، فكانت أعلى مرتبةً، وتحققت في مرتبة العلو في عين السفل، وقامت بالرضي.
(٢) روح البيان.
والمعنى: أي (١) ثم فاجأتم بعد ذلك وقت كونكم بشرًا تنتشرون في الأرض، وتتفرقون فيها لطلب معايشكم، فدل بدء خلقكم على إعادتكم، و ﴿إِذَا﴾ الفجائية (٢) وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء، لكنها وقعت هنا بعد ﴿ثُمَّ﴾ بالنظر إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة، وهي أطوار الإنسان، كما حكاه الله سبحانه في مواضع، من كونه نطفةً، ثم علقةً، ثم مضغةً، ثم عظمًا مكسوًا لحمًا، فاجأ البشرية والانتشار.
وهذا مجمل (٣) ما فصل في قوله تعالى في أوائل سورة الحج: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾؛ أي: إن كنتم في شك ن البعث بعد الموت.. فانظروا إلى ابتداء خلقكم، وقد خلقناكم بالأطوار، لتظهر لكم قدرتنا على البعث، فتؤمنوا به، وأنشد بعضهم:
خُلِقْتُ مِنَ التُّرَابِ فَصِرْتُ شَخْصًا | بَصِيْرًا بِالسّؤالِ وَبالْجَوَابِ |
وَعُدْت إِلَى التُرَابِ فَصِرْتُ فِيْهِ | كَأَنِّيْ مَا بَرِحْتُ مِنَ التُّرَابِ |
وقيل: المراد: حواء، فإنه خلقها من ضلع آدم، فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم، متضمن لخلقهن من أنفسكم ﴿أَزْوَاجًا﴾؛ أي: إناثًا، والمعنى
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وقد ذهب بعض العلماء من الفقهاء وغيرهم، إلى جواز المناكحة والعلوق بين الجن والإنس، فقد جعل الله سبحانه أزواجًا من غير الجنس.
والجواب: إن ذلك من النوادر، فلا يعتبر، وليس السكون إلى الجنية كالسكون إلى الإنسية، وإن كانت متمثلة في صورة الإنس.
﴿وَجَعَلَ﴾ سبحانه ﴿بَيْنَكُمْ﴾ وبين أزواجكم من غير أن يكون بينكم سابقة معرفة، أو رابطة قرابة ورحم ﴿مَوَدَّةً﴾؛ أي: محبة ﴿وَرَحْمَةً﴾؛ أي: شفقة؛ أي: تواددًا وتراحمًا، بسبب عصمة النكاح، يعطف به بعضكم على بعض، من غير أن يكون بينكم قبل ذلك معرفة، فضلًا عن مودةٍ ورحمةٍ، وقال (١) مجاهد والحسن، وعكرمة: المودة (٢) النكاح، والرحمة الولد، كنى بذلك عنهما، وقيل: مودةً للشابة، ورحمةً للعجوز، وقيل: مودة للكبير، ورحمةً للصغير، قاله ابن عباس، وقيل: هما اشتباك الرحم، وقيل: المودة من الرحمن، والبغض من الشيطان.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن فيما ذكر من خلقهم من تراب، وخلق أزواجهم من أنفسهم، وإلقاء المودة والرحمة بينهم ﴿لَآيَاتٍ﴾ عظيمةً، ودلائل باهرة على عظمة الله سبحانه، وقدرته على البعث والنشور، ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ويتأملون في صنع الله وفعله، فيعلمون ما في ذلك من الحكم والمصالح؛ لأنهم الذين يقتدرون على الاستدلال، لكون التفكر مادةً له يتحصل عنه، وأما الغافلون عن التفكر فما هم إلا كالأنعام.
قال في "برهان القرآن": ختم الآية بقوله: ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾ لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المذكورة، من التوانس والتجانس بين الأشياء، كالزوجين،
(٢) البحر المحيط.
وحاصل معنى الآيتين (١): أي ومن حججه الدالة على أنه القادر على ما يشاء، من إنشاء وإفناء وإيجاد وإعدام، أن خلقكم من تراب بتغذيتكم، إما بلحوم الحيوان وألبانها وأسمانها، وإما من النبات، والحيوان غذاؤه النبات، والنبات من التراب، فإن النواة لا تصير شجرة إلا بالتراب الذي ينضم إليه أجزاء مائية، تجعلها صالحة للتغذية، ثم بعد إخراجكم منه إذا أنتم بشر تنتشرون في الأرض، تتصرفون فيها في أغراضكم المختلفة، وأسفاركم البعيدة، تكدحون وتجدون لتحصيل أرزاقكم من فيض ربكم، وواسع نعمه عليكم.
ومن آياته الدالة على البعث والإعادة: أن خلق لكم أزواجًا من جنسكم، لتأنسوا بها، وجعل بينكم المودة، والرحمة، لتدوم الحياة المنزلية على أتمّ نظام، إن فيما ذكر من خلقكم من تراب، وخلق أزواجكم من أنفسكم، وإبقاء المودة والرحمة، لعبرةً لمن تأمل في تضاعيف تلك الأفعال المبنية على الحكم والمصالح، فهي لم تخلق عبثًا، بل خلقت لأغراضٍ شتى، تحتاج إلى الفكر، حتى يصل إلى معرفتها ذوو الذهن والعقل الراجح.
٢٢ - ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ ودلائل وجوده وبراهين قدرته على البعث والنشور ﴿خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ على عظمهما وكثافتهما، وكثرة أجزائهما بلا مادة، فهو أظهر قدرة على إعادة ما كان حيًا قبل ذلك؛ أي: خلقه السماوات المزدانة بالكواكب، والنجوم الثوابت، والسيارة المرتفعة السموات الواسعة الأرجاء وخلق الأرض ذات الجبال والوديان، والبحار والقفار، والحيوان والأشجار، فإن من خلق هذه الأجرام العظيمة، التي هي أجرام السماوات والأرض، وجعلها باقيةً مادامت هذه
﴿وَ﴾ من آياته وقدرته ﴿اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾ ولغاتكم اختلافًا لا حد له، من عربية، وفارسية، وفرنسية، وانجليزية، وهندية، وصينية، وتركية، ورومية، وأورمية، إلى نحو ذلك، مما لا يعلم حصره إلا خالق اللغات، فمن اطلع على لغات رأى من اختلاف تراكيبها أو قوانينها مع اتحاد المدلول، عجائب وغرائب في المفردات والمركبات.
وعن وهب (١): إن الألسنة اثنان وسبعون لسانًا، منها في ولد حامٍ سبعة عشر، وفي ولد سامٍ تسعة عشر، وفي ولد يافثٍ ستة وثلاثون.
وهذا من قديم الزمان، وأما الآن فقد صارت تعد بالمئات، وقيل: المراد باللغات الأصوات والنغم، قال الراغب: اختلاف الألسنة، إشارة إلى اختلاف اللغات، واختلاف النغمات، فإن لكل لسان نغمةً يميزها السمع، كما أن له صورة مخصوصةً يميزها البصر، انتهى. فلا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية من كل وجهٍ، متفقين في همسٍ واحدٍ، ولا جهارةٍ واحدةٍ، ولا رخاوةٍ ولا فصاحةٍ، ولا لكنةٍ، ولا نظمٍ، ولا أسلوبٍ، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله، قاله الزمخشري.
﴿وَ﴾ من آياته اختلاف ﴿أَلْوَانِكُمْ﴾ وأشكالكم من البياض والسواد والحمرة، والصفرة والزرقة والخضرة والأدمة مع كونكم أولاد رجل واحد وأم واحدة، ويجمعكم نوع واحد، وهو الإنسانية، وفصل واحد، وهو الناطقية، حتى صرتم متميزين في ذات بينكم، لا يلتبس هذا بهذا، بل في كل فرد من أفرادكم ما يميزه عن غيره من الأفراد، ولولا ذلك الاختلاف. ، لوقع الالتباس، وتعطلت مصالح كثيرة من المعاملات وغيرها، وفي هذا من بديع القدرة، وعجيب الحكمة، ما لا يعاقله إلا العالمون، ولا يفهمه إلا المتفكرون.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن فيما ذكر من خلق السماوات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان ﴿لَآيَاتٍ﴾ عظيمة، ودلائل واضحة، كثيرة عددها ﴿لِلْعَالِمِينَ﴾ بكسر اللام؛ أي: لأولي العلم، الذين يفكرون فيما خلق الله تعالى، الذين هم من جنس هذا العالم، من غير فرق بين بر وفاجر، فيعلمون أنه لم يخلق الخلق عبثًا، بل خلقه لحكمة بالغة، فيها عبرة لمن تذكر، وخص (١) العلماء؛ لأنهم أهل النظر والاستدلال، دون الجهال المشغولين بحطام الدنيا وزخارفها، فلما كان الوصول إلى معرفة ما سبق ذكره إنما يمكن بالعلم ختم الآية بالعالمين، ففيه إشارة إلى كمال وضوح الآيات، وعدم خفائها على أحد من الخلق، من ملك وإنس وجن وغيرهم، وقال في "فتح الرحمن" (٢): ختم الآية به، لأن الكل يظلهم السماء، ويقلهم الأرض، وكل منهم متميز بلطيفة يمتاز بها عن غيره، وهذا يشترك فيه جميع العالمين.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿للعالمين﴾ بفتح اللام؛ لأنها في نفسها آية منصوبة للعالم، وقرأ حفص، وحماد بن شعيب عن أبي بكر، وعلقمة عن عاصم، ويونس عن أبي عمرو بكسر اللام، إذ المنتفع بها، إنما هم أهل العلم، كقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾.
٢٣ - ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ سبحانه؛ أي: ومن أعلام قدرته تعالى، على مجازاة العباد في الآخرة ﴿مَنَامُكُمْ﴾ مفعل من النوم؛ أي (٤): نومكم الذي هو راحة لأبدانكم، وقطع لأشغالكم، ليدوم لكم به البقاء إلى آجالكم ﴿بِاللَّيْلِ﴾ كما هو المعتاد،
(٢) فتح الرحمن.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
والمعنى عليه: ومن آياته العظيمة: أنكم تنامون في الليل، وتنامون بالنهار في بعض الأحوال للاستراحة، كوقت القيلولة، وخصوصًا من كان مشتغلًا في حوائجه في الليل، وابتغاؤكم من فضله فيهما؛ لأن بعض الناس قد يبتغي الفعل في الليل، كالمسافرين والحراس في الليل وغيرهم، وهذا المعنى هو المناسب للنظم القرآني هاهنا، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: أي ومن أياته منامكم بالليل، وابتغاؤكم من فضله في النهار، وهذا المعنى هو المناسب لسائر الآيات الواردة في هذا المعنى.
قال الزمخشري: والظاهر هو الأول، لتكرره في القرآن، وأسد المعاني ما دل عليه القرآن. انتهى.
وجعلهما (١) من جملة الأدلة على البعث، أن النوم شبيه بالموت، والتصرف في الحاجات، والسعي في المكاسب شبيه بالحياة بعد الموت.
وقدم (٢) الليل على النهار؛ لأن الليل لخدمة المولى، والنهار لخدمة الخلق، ومعارج الأنبياء - عليهم السلام - كانت بالليل، ولذا قال الإِمام النيسابوري: الليل أفضل من النهار، وقال بعضهم: الليل محل السكون، وهو الأصل، والنهار محل الحركة، وهو الفرع، وقال بعض الكبار: لم يقل تعالى: وبالنهار، ليتحقق لنا أن يريد أننا في منام في حال يقظتنا المعتادة؛ أي: أنتم في منام ما دمتم في هذه الدار، يقظةً ومنامًا بالنسبة لما أمامكم، فهذا سبب عدم ذكر الباء في قوله: ﴿وَالنَّهَارِ﴾، والاكتفاء بباء الليل. انتهى.
يعني لو قيل: وبالنهار.. كان لا يتعين فيه ذلك، لجواز أن يكون الجار والمجرور معمولًا لمحذوف معطوف على المبتدأ، تقديره: ويقظتكم بالنهار، ثم
(٢) روح البيان.
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدَا
أي: وسقيتها ماء باردًا.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور، من إيجاد النوم بعد النشاط، والنشاط بعد النوم، الذي هو الموت الأصغر، وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما، والجد في الابتغاء، مع المفارقة في التحصيل ﴿لَآيَاتٍ﴾ عديدةً على القدرة والحكم، لا سيما البعث ﴿لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ الآيات والمواعظ، سماع متفكر متدبر، فيستدلون بذلك على البعث؛ أي: شأنهم أن يسمعوا الكلام من الناصحين، سماع من انتبه من نومه، فجسمه مستريح نشيط، وقلبه فارغ عن مكدرٍ للنصح، مانع عن قبوله، وفيه إشارة إلى أن من لم يتأمل في هذه الآيات.. فهو نائم، لا مستيقظ، فهو غير مستأهل لأن يسمع.
قال في "برهان القرآن": ختم الآية بقوله: ﴿يَسْمَعُونَ﴾ لأن من سمع أن النوم من صنع الله الحكيم، لا يقدر أحد على اجتلابه إذا امتنع، ولا على دفعه إذا ورد.. تيقن أن له صانعًا مدبرًا.
قال الخطيب: معنى يسمعون هنا: يستجيبون لما يدعوهم إليه الكتاب.
واعلم (١): أن النوم فضل من الله سبحانه للعباد، ولكن للعباد أن لا يناموا إلا عند الضرورة، وبقدر دفع الفتور المانع من العبادة، ومن آداب النوم: أن ينام على الوضوء، وإذا استطاع الإنسان أن يكون على الطهارة أبدًا فليفعل؛ لأن الموت على الوضوء شهادة، ويستحب أن يضطجع على يمينه، مستقبلًا للقبلة عند أول اضطجاعه، فإن بدا له أن ينقلب إلى جانبه الآخر.. فعل، ويقول حين يضطجع: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العلم، وكان - عليه السلام - يقول: "باسمك ربي وضعت جنبي وبك
الإعراب
﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)﴾.
﴿الم (١)﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا الم، إن قلنا: إنه علم للسورة، والجملة مستأنفة، وتقدم البسط في إعرابها مرارًا، فراجعه، ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (٢)﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة، ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق ﴿غُلِبَتِ﴾. ﴿وَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿هم﴾: مبتدأ، ﴿مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾، و ﴿غَلَبِهِمْ﴾: مصدر مضاف إلى مفعوله؛ أي: من بعد مغلوبيتهم، وجملة ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة الفعلية، ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿الْأَمْرُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة، كأنه جواب لسؤال مقدر، وهو أي فائدة في ذكر قوله: ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ لأن قوله: ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ لا يكون إلا بعد الغلبة؟ فأجيب بأن فائدته إظهار تمام القدرة، وبيان أن ذلك بأمر الله تعالى وحده. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: دار ومجروبى حال من الضمير المستكن في متعلق الخبر، ﴿وَمِنْ بَعْدُ﴾ معطوف على ﴿مِنْ قَبْلُ﴾. وهما ظرفان، بنيا على الضم، لقطعهما عن الإضافة لفظًا، لا معنًى، ثم جرًا بمن، وبقيا على ضمهما؛ أي: من قبل غلب الروم ومن بعده، ﴿وَيَوْمَئِذٍ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿وَيَوْمَئِذٍ﴾: ظرف مضاف إلى مثله متعلق بـ ﴿يَفْرَحُ﴾. ﴿يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة.
{بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ
﴿بِنَصْرِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَفْرَحُ﴾ أيضًا. ﴿يَنْصُرُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة: مستأنفة. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة: صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: من يشاء نصره. ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ، ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر أول، ﴿الرَّحِيمُ﴾: خبر ثان، والجملة: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾: مصدر نائب مناب فعله، منصوب بفعله المحذوف، تقديره: وعدهم الله النصر وعدًا، والجملة المحذوفة: مستأنفة مسوقة لتأكيد مضمون الجملة التي قبلها، وهي قوله: ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾، و ﴿يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾، ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُخْلِفُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، ﴿وَعْدَهُ﴾: مفعول به، والجملة: إما مفسرة مقررة لمعنى المصدر، فلا محل لها من الإعراب، أو حال من المصدر؛ أي: حالة كونه غير مختلف، كما في "الكرخي"، ﴿وَلَكِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: حالية، أو استئنافية، ﴿لكن﴾: حرف نصب واستدراك. ﴿أَكْثَرَ النَّاسِ﴾: اسمها، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾: خبرها، وجملة ﴿لَكِنَّ﴾ في محل النصب حال من ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾، والرابط محذوف، تقديره: حالة كون أكثر الناس لا يعلمونه، أو مستأنفة. ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مستأنفة، ﴿مِنَ الْحَيَاةِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿ظَاهِرًا﴾، ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾، ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ، ﴿عَنِ الْآخِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿غَافِلُونَ﴾، ﴿هُمْ﴾ تأكيد لـ ﴿هُمْ﴾ الأول، ﴿غَافِلُونَ﴾: خبر لـ ﴿هُمْ﴾ الأول، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل ﴿يَعْلَمُونَ﴾.
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (٨)﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقصر كفار مكة نظرهم على ظاهر الحياة الدنيا، ولم يتفكروا في أنفسهم، والجملة المحذوفة: مستأنفة، {لَمْ
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩)﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف دل عليه السياق، ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقعد هؤلاء المشركون من أهل مكة في أماكنهم، ولم يسيروا في الأرض، والجملة المحذوفة: مستأنفة، ﴿لَمْ﴾: حرف جزم، ﴿يَسِيرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿فَيَنْظُرُوا﴾: فعل وفاعل معطوفة على ﴿يَسِيرُوا﴾. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾: مقدم عليها للزومه الصدارة. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿عَاقِبَةُ الَّذِينَ﴾: اسمها ومضاف إليه، وجملة: ﴿كَانَ﴾ في محل النصب مفعول ﴿ينْظُرُوا﴾ معلق عنها باسم الاستفهام، ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة الموصول. ﴿كَانُوا أَشَدَّ﴾:
﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (١٠)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿عَاقِبَةَ الَّذِينَ﴾: خبرها مقدم ومضاف إليه، ﴿أَسَاءُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿السُّوأَى﴾: اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخرًا، أي: ثم كانت ﴿السُّوأَى﴾؛ أي: جهنم، عاقبةً الذين
﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة، ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ معطوفة على ﴿يَبْدَؤُأ﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق، بـ ﴿تُرْجَعُونَ﴾، ﴿تُرْجَعُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة: في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يُعِيدُهُ﴾ على كونها خبر المبتدأ، ولكنها خبر سببي، ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، والظرف: متعلق بـ ﴿يُبْلِسُ﴾، وجملة ﴿تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿وَلَمْ يَكُنْ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم لها، ﴿مِنْ شُرَكَائِهِمْ﴾ حال من ﴿شُفَعَاءُ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿شُفَعَاءُ﴾: اسم ﴿يَكُنْ﴾ مؤخر، وجملة ﴿يَكُنْ﴾: معطوفة على جملة ﴿يُبْلِسُ﴾، ﴿وَكَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِشُرَكَائِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿كَافِرِينَ﴾، ﴿كَافِرِينَ﴾: خبر ﴿كَان﴾، وجملة ﴿كَان﴾: معطوفة على جملة ﴿يُبْلِسُ﴾ أيضًا؛ لأنه في تأويل: ويكونون كافرين بشركائهم، كما سبق في مبحث التفسير، ﴿وَيَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿يَتَفَرَّقُونَ﴾، وجملة ﴿تَقُومُ السَّاعَةُ﴾: مضاف إليه للظرف، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف مضاف لمثله، تأكيد لفظي للظرف قبله، وجملة
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (١٦)﴾.
﴿فَأَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم يتفرقون يوم القيامة، وأردت بيان مأوى كل فريق، فأقول لك، ﴿أَمَّا﴾: حرف شرط وتفصيل، ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿فَهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿أَمَّا﴾ واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع ﴿أما﴾، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿فِي رَوْضَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿يُحْبَرُونَ﴾ من الفعل المغير، ونائبه: خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره: خبر للأول، وجملة الأول، مع خبره جواب ﴿أما﴾، وجملة ﴿أما﴾ من فعل شرطها، وجوابها: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أَمَّا﴾: حرف شرط، ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿كَفَرُوا﴾: صلته ﴿وَكَذَّبُوا﴾: معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾، ﴿وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ﴾: معطوف على ﴿آيَاتِنَا﴾. ﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أَمَّا﴾، ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثان، ﴿فِي الْعَذَابِ﴾: متعلق بـ ﴿مُحْضَرُونَ﴾. ﴿مُحْضَرُونَ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني وخبره خبر للأول، وجملة الأول مع خبره: جواب ﴿أَمَّا﴾، وجملة ﴿أَمَّا﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَمَّا﴾ الأولى.
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)﴾.
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم، من تفرق الناس يوم القيامة فرقتين: فريق في الجنة، وفريق في السعير، وأردتم أن تكلونوا من أهل الجنة، فأقول لكم
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)﴾.
﴿وَمِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مِنْ آيَاتِهِ﴾: خبر مقدم، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿أَنْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، في محل النصب بـ ﴿أَنْ﴾ ﴿خَلَقَكُمْ﴾ المصدرية، ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية، في تأويل مصدر مرفوع على الابتدائية، والتقدير: وخلقكم من تراب من آياته، والجملة مستأنفة، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ. ﴿إِذَا﴾: فجائية ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ،
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣)﴾.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾: خبر مقدم، ﴿خَلْقُ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة: معطوفة على سابقتها أيضًا، ﴿وَاخْتِلَافُ﴾: معطوف على ﴿خَلْقُ﴾، ﴿أَلْسِنَتِكُمْ﴾ مضاف إليه، ﴿وَأَلْوَانِكُمْ﴾: معطوف على ﴿أَلْسِنَتِكُمْ﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم، ﴿لَآيَاتٍ﴾ اسمها مؤخر، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿لِلْعَالِمِينَ﴾ صفة ﴿لآيَاتٍ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾: خبر مقدم. ﴿مَنَامُكُمْ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على سابقتها، ﴿بِاللَّيْلِ﴾: متعلق بـ ﴿مَنَامُكُمْ﴾ لأنه مصدر ميمي لـ ﴿نَامُ﴾، ﴿وَالنَّهَارِ﴾: معطوف على ﴿اللَّيْلِ﴾، ﴿وَابْتِغَاؤُكُمْ﴾: معطوف على ﴿مَنَامُكُمْ﴾. ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿وَابْتِغَاؤُكُمْ﴾، ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم،
التصريف ومفردات اللغة
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (٢)﴾ الغلبة: القهر، كما في "المفردات"، والاستعلاء على القرن بما يبطل مقاومته في الحرب، كما في "كشف الأسرار"، والروم: تارة يطلق على الصنف المعروف، وتارة تطلق على جمع رومي، كفارسي وفرس، وهم بنو روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - والروم الأول: منهم بنو روم بن يونان بن يافث بن نوح - عليه السلام -، والفرس: بنو فارس بن سام بن نوح - عليه السلام - كما مر.
﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ وأدنى: ألفه منقلبة عن واو؛ لأنه من دنا يدنو، وهو يتصرف على وجوه: فتارةً يعبر عن الأقل والأصغر، فيقابل بالأكثر والأكبر، وتارةً عن الأحقر والأذل، فيقابل بالأعلى والأفضل، وتارةً عن الأول، فيقابل بالآخر، وتارةً عن الأقرب، فيقابل بالأبعد، وهو المراد في هذا المقام؛ أي: أقرب أرض العرب من الروم، إذ هي الأرض المعهودة عندهم، وهي أطراف الشام، أو في أقرب أرض الروم من العرب، على أن اللام عوض عن المضاف إليه، وهي أرض جزيرة ما بين دجلة والفرات، انتهى من "الروح".
وليس المراد بها جزيرة العرب، وروى عن الأصمعي: أن حد جزيرة العرب، من أقصى عدن إلى ريف العراق، طولًا، ومن جدة وما والاها، إلى أطراف الشام عرضًا، وسبب تسميتها جزيرةً إحاطة البحار والأنهار العظيمة بها، كبحر الحبشة، وبحر فارس، ودجلة، والفرات اهـ. "زاده"، وقال ابن جزي في "تفسيره": الجزيرة هنا: بين الشام والعراق، وهي أول الروم إلى فارس، وفي "الخازن" في أدنى الأرض، يعني: أقرب أرض الشام إلى فارس، وقيل: هي أذرعات، وقيل: الأردن، وقيل: الجزيرة اهـ.
﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ وفي "القاموس" البضع ما بين الثلاث إلى التسع، وفي
وقال المبرد: البضع ما بين العقدين في جمع الأعداد، وعبر بالبضع، وأبهم ولم يعين، وإن كان معلومًا له - ﷺ - إبقاءً للعباد في ربقة الجهل، تعجيزًا لهم أو لإدخال الرعب والخوف عليهم في كل وقت، كما يؤخذ ذلك من "الرازي".
والبضع بالفتح: قطع اللحم، وبالكسر: العدد المنقطع عن العشرة، ويقال: ذلك لما بين الثلاث إلى العشر، وقيل: بل: هو فوق الخمس دون العشر اهـ. "روح".
قال الراغب: الفرح: انشراح الصدر بلذة عاجلة، وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية، ولم يرخص في الفرح إلا في قوله: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ وقوله: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
وفي "كشف الأسرار": اليوم ترح، وغدًا فرح، اليوم عبرة، وغدًا خبرة، اليوم أسف، وغدا لطف، اليوم بكاء، وغدًا لقاء اهـ.
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ والتفكر: تصرف القلب في معاني الأشياء، لدرك المطلوب، وهو، قبل أن يتصفى اللب، والتذكر بعده، ولذا لم يذكر في كتاب الله تعالى مع اللب إلا: التذكر، قال بعض الأدباء: الفكر مقلوب الفرك، ولكن يستعمل الفكر في المعاني، وهو فرك الأمور وبحثها، طلبًا للوصول إلى حقيقتها.
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ والسير: المضي في الأرض.
﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾ والعاقبة: إذا أطلقت تستعمل في الثواب، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وبالإضافة قد تستعمل في العقوبة، كما في هذه الآية، وهي آخر الأمر.
﴿وَأَثَارُوا الْأَرْضَ﴾ يقال: ثار الغبار والسحاب، انتشر ساطعًا، وقد أثرته، فالإثارة: تحريك الشيء حتى يرتفع غباره، والثور: اسم البقر الذي يثار به
﴿وَعَمَرُوهَا﴾ والعمارة: ضد الخراب؛ أي: عمروا الأرض، بفنون العمارات من الزراعة، والغرس، والبناء وغيرها.
﴿السُّوأَى﴾: تأنيث الأسوأ، كالحسنى تأنيث الأحسن، أو مصدر كالبشرى، وصف به العقوبة مبالغةً، كأنها نفس السوأى، وقيل: السوأى، أي: اسم لجهنم، كما أن الحسثى اسم للجنة، وإنما سميت سوأى؛ لأنها تسوء صاحبها، كما سبق.
قال الراغب: السوء: كل ما يغم الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية، ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجية من ذوات مال، وفقد حميم، وعبر بـ ﴿السوأى﴾ عن كل ما يقبح، ولذلك قوبل بالحسنى، قال: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى﴾ كما قال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى﴾ انتهى.
﴿يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ قال الراغب: الإبلاس: الحزن المعترض من شدة اليأس.. ومنه اشتق إبليس، ولما كان المبلس كثيرًا ما يلزم السكوت، وينسى ما يعينه، قيل: أبلس فلان، إذا سكت وانقطعت حجته اهـ.
ويقال: أبلس فلان، فهو مبلس: إذا سكت عن يأس، ويقال: أبلس الرجل: انقطعت حجته فسكت، فهو لازم، لا يتعدى.
وفي "الكشاف": الإبلاس: أن يبقى ساكنًا يائسًا متحيرًا، يقال: ناظرته فأبلس: إذا لم ينبس ويئس من أن يحتج، ومنه الناقة المبلاس: التي لا ترغو.
وفي "القاموس": وأبلس: يئس وتحير، ومنه إبليس، أو هو أعجمي، فقول صاحب، المنجد: إنه يقال: أبلسه غلط فظيع، وقد علل علماء التصريف قراءة ﴿يُبْلِسُ﴾ بالبناء للمفعول، بأن القائم مقام الفاعل مصدر الفعل، ثم حذف
﴿فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ﴾ والروضة: كل أرض ذات نبات وماء ورونق ونضارة، والمراد بها الجنة، وفي أمثالهم: أحسن من بيضة في روضة، يريدون بيضة النعامة.
وفي "الأساس" و"اللسان": بأرضه روضة وروضات ورياض، وروض الغيث الأرض، وأراض المكان واستراض؛ أي: كثرت رياضه. اهـ.
قال الراغب: الروض: مستنقع الماء والخضرة، وقوله: ﴿فِي رَوْضَةٍ﴾ عبارة عن رياض الجنة، وهي: محاسنها وملاذها انتهى.
﴿يُحْبَرُونَ﴾؛ أي: يسرون سرورًا، تهللت له وجوههم، وفي "المفردات": يفرحون حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم؛ أي: أثره، يقال: حبره: إذا سره سرورًا تهلل له وجهه، ويقال: حبر فلان، إذا بقي بجلده أثر من فرح، والحبر: العالم، لما يبقى من أثر علومه في قلوب الناس، ومن آثار أفعاله الحسنة المقتدى بها، وإلى هذا المعنى، أشار أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - بقوله: والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة، ويقال: التحبير: التحسين الذي يسر به، يقال لعالم: حبر؛ لأنه يتخلق بالأخلاق الحسنة، وللمداد: حبر؛ لأنه يحسن به الأوراق، فيكون الحبرة كل نعمة حسنة اهـ. من "الروح".
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ والسبح: هو المر السريع في الماء أو الهواء، والتسبيح: تنزيه الله، وأصله: المر السريع في عبادة الله، جعل عامًا في العبادات، قولًا كان أو فعلًا أو نيةً، والسبوح والقدوس: من أسماء الله تعالى، وليس في كلامهم فعول سواهما، وسبحان هنا: مصدر كغفران، موضوع موضع الأمر، مثل ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾. والتسبيح: محمول على حقيقته، وظاهره الذي هو تنزيه الله تعالى عن السوء، والثناء عليه بالخير، والحين: بالكسر وقت مبهم يصلح لجميع الأزمان، طال أو قصر، يتخصص بالمضاف إليه، كما في هذا المقام.
﴿وَعَشِيًّا﴾: من عشى العين: إذا نقص نورها، ومنه الأعشى.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ﴾ والخلق: عبارة عن تركيب الأجزاء، وتسوية الأجسام.
﴿مِنْ تُرَابٍ﴾ والتراب: جماد لا حس فيه، ولا حركة.
﴿بَشَرٌ﴾ قال في "المفردات": البشرة ظاهر الجلد، وعبر عن الإنسان بالبشر، اعتبارًا بظهور جلده من الشعر، بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف، أو الشعر، أو الوبر، واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع، وخص في القرآن كل موضع اعتبر من الإنسان جثته، وظاهره بلفظ البشر.
﴿تَنْتَشِرُونَ﴾ قال الراغب: انتشار الناس تصرفهم في الحاجات اهـ.
﴿أَزْوَاجًا﴾ والأزواج: جمع زوج وهو: الفرد المزاوج لصاحبه، وكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى، وزوجةً لغةً رديئةً، وجمعها زوجات، كما في "المفردات".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿غُلِبَتِ﴾، ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿قَبْلُ﴾ و ﴿بَعْدُ﴾.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ للتفخيم، ولإدخال الرعب في
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾، ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
ومنها: تنكير ﴿ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ﴾ للتحقير والتخسيس؛ أي: يعلمون ظاهرًا حقيرًا خسيسًا من الدنيا، وفائدته: تقليل معلومهم، وتقليله يقربه من النفي، حتى يطابق المبدل منه، وهو وقوله: ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾، وهذا ما يرجح البدلية.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾؛ أي: المبالغ في العزة والمبالغ في الرحمة.
ومنها: التعطف في قوله: ﴿وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ والتعطف: إعادة اللفظة بعينها في الجملة من الكلام، أو البيت من الشعر، فقد وردهم للمبالغة في تأكيد غفلتهم عن الآخرة، حتى كأنهم معدن للغفلة، وفيه إفادة الحصر بتكرير الضمير، وفيه الإيتان بالجملة الاسمية، للدلالة على استمرار غفلتهم ودوامها.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا﴾ الآية.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿أَسَاءُوا السُّوأَى﴾.
ومنها: إيراد الاستهزاء في قوله: ﴿وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ بصيغة المضارع، للدلالة على استمراره وتجدده.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ وفي قوله: ﴿تُمْسُونَ﴾ و ﴿تُصْبِحُونَ﴾.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ للمبالغة في الترهيب.
ومنها: الإتيان بلفظ ماضي المعنى في قوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ﴾ وماضي اللفظ والمعنى في قوله: ﴿وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ﴾ إشارةً إلى تحققه في علم الله تعالى.
ومنها: إعادة قوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ إفادةً لتهويله، وتفظيع ما يقع فيه، وفي قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ تهويل له إثر تهويل.
ومنها: المقابلة بين حال السعداء والأشقياء في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (١٦)﴾.
ومنها: التنوين للتعظيم في قوله: ﴿فِي رَوْضَةٍ﴾؛ أي: في روضة عظيمة.
ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ استعار الحي للمؤمن والميت للكافر، وهي استعارة في غاية الحسن والإبداع والجمال.
ومنها: اللف والنشر في قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وترتيبه ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، إلا أنه فصل بين القرينين الأولين، بالقرينين الأخيرين؛ لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه، كشيءٍ واحدٍ، مع إعانة اللف على الاتحاد، ويجوز أن يراد: منامكم في الزمانين، وابتغاؤكم فيهما، والظاهر: هو الأول لتكرره في القرآن وأسد المعاني ما دل عليه القرآن، يسمعونه بالآذان الواعية.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ﴾ للدلالة على عظم شأنها؛ أي: لآياتٍ عظيمةً باهرةً.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٤٥)﴾.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه (١) سبحانه لما ذكر ما يعرض للأنفس من الأوصاف.. ذكر ما يعرض للأكوان والآفاق، ونشاهده رأى العين، الفينة بعد الفينة، مما فيه العبرة لمن ادكر، ونظر في العوالم نظرة متأمل معتبر، في بدائع الأكوان، ليتوصل إلى معرفة مدبرها وخالقها، الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى.
قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما أقام الأدلة على الوحدانية، وهي الأصل الأول، وعلى القدرة على الحشر، وهي الأصل الثاني.. أعقب ذلك بهاتين الآيتين، وجعلهما كالنتيجة لما سلف.
قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لم قبلها: أن الله سبحانه لما بين قدرته على الإعادة، بإقامة الأدلة عليها، ثم ضرب لذلك مثلًا.. أعقب ذلك بذكر المثل على الوحدانية، بعد إقامة الدليل عليها.
قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما عدد البينات والأدلة على وحدانيته، وأثبت الحشر، وضرب لذلك المثل، وسلى رسوله، ووطن عزيمته على اليأس من إيمانهم؛ لأن الله تعالى قد ختم على قلوبهم، فلا مخلص لهم مما هم فيه، ولا ينقذهم من ذلك، لا هو ولا غيره ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾.. أعقب ذلك بأمره بالاهتمام بنفسه، وعدم المبالاة بامرهم، وإقامة وجهه لهذا الدين غير ملتفت عنه يمنةً ولا يسرةً، فهو فطره الله التي خلق العقول معترفةً بها.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ...﴾ الآيات (٢)، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أرشد إلى التوحيد، وأقام الأدلة عليه، وضرب المثل.. أعقبه بذكر حال للشركين يعرفون بها، وسيما لا ينكرونها،
(٢) المراغي.
وقوله تعالى: ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين أنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. أردف ذلك ببيان أنه يحب الإحسان على ذوي القربى وذوي الحاجات من المساكين وأبناء السبيل، فإنه إذا بسط الرزق.. لم ينقصه الإنفاف، وإذا قدر.. لم يزده الإمساك.
إِذَا جَادَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ فَجُدْ بِهَا | عَلَى النَّاسِ طُرًّا إِنَّها تَتَقَلَّبُ |
فَلاَ الْجُوْدُ يُفْنِيْهَا إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ | وَلاَ الْبُخْل يُبْقِيْهَا إِذَا هِيَ تَذْهَبُ |
قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ﴾... الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) نهى الكافر عن بقائه على الحالة التي هو عليها، خيفة أن يحل به سوء العذاب.. أردف ذلك أمر رسوله، ومن تبعه بالثبات على ما هم عليه، بعبادتهم الواحد الأحد، قبل أن يأتي يوم الحساب، الذي يتفرق فيه العباد، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فمن كفر.. فعليه وبال كفره، ومن عمل صالحًا.. فقد أعد لنفسه مهادًا يستريح عليه، بما قدم من صالح العمل، وسينال من فضل ربه وثوابه ورضاه عنه، ما لا يخطر له ببال، ولا يدور له في حسبان، والكافر سيلقى في هذا اليوم العذاب والنكال؛ لأن ربه يبغضه ويمقته، جزاء ما دسى به نفسه من سيء العمل.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٢): ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى، فنزلت هذه الآية ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الطبراني، عن ابن عباس، قال: كان يلبي أهل الشرك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك تملكه وما
(٢) لباب النقول.
وأخرج جويبر مثله عن داود بن أبي هند، عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه.
التفسير وأوجه القراءة
٢٤ - ﴿وَمِنْ آيَاتِه﴾ أي: ومن دلائل قدرته سبحانه وتعالى ﴿يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾؛ أي: أن يريكم البرق؛ أي: إراءَته إياكم البرق، أصله: أن يريكم، فلما حذف (أن) لدلالة الكلام عليه سكن الياء، كما في "برهان القرآن" كما في قول طرفة:
ألا أيهذا اللائمي أحضرَ الوغى | وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي |
وقوله: ﴿خَوْفًا﴾: مفعول لأجله، بمعنى الإخافة، كقوله: فعلته رغمًا للشيطان؛ أي: إرغامًا له.
والمعنى (١): يريكم ضوء السحاب، إخافة من الصاعقة، خصوصًا لمن كان في البرية من أبناء السبيل.
﴿وَطَمَعًا﴾ أي: إطماعًا في الغيث، لا سيما لمن كان مقيمًا. قاله الضحاك.
قلت: يطمع المسافر أيضًا في الأرض القفر، لضرورة شربه، وشرب دوابه، وطهارته، وقال يحيى بن سلام: خوفًا من البرد أن يهلك الزرع، وطمعًا في المطر أن يحيي الزرع، وقال ابن بحر: خوفًا أن يكون البرق برقًا خليًا، لا يمطر، وطمعًا أن يكون ممطرًا، وأنشد:
لَا يَكُنْ بَرْقُكَ بَرْقًا خَلْيًا | إِنَّ خَيْرَ الْبَرْقِ مَا الْغَيْثُ مَعَهْ |
﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: ومن آياته ودلائل قدرته: أن ينزل من السماء والسحاب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (١): بسكون النون.
﴿مَاءً﴾؛ أي: مطرًا ﴿فَيُحْيِي بِهِ﴾؛ أي: بسبب ذلك الماء ﴿الْأَرْضَ﴾ بالنبات ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾؛ أي: يبسها.
فإن قلت (٢): ما حد المطر؟
قلت: المطر: هو الأجزاء المائية إذا التأم بعضها مع بعض وبردت وثقلت رجعت نحو الأرض.
فإن قلت: ما حد الأرض؟
قلت: الأرض: جسم غليظ، أغلظ ما يكون من الأجسام، واقف في مركز العالم، مبين لكيفية الجهات الست، فالمشرق: حيث تطلع الشمس، والمغرب حيث تغيب، والشمال: حيث مدار الجدي، والجنوب: حيث مدار السهيل،
(٢) روح البيان.
فإن قلت: ما النبات؟
قلت: النبات ما الغالب عليه المائية.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور من إراءة البرق، وإنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به بعد موتها، ﴿لَآيَاتٍ﴾؛ أي: لدلالات على قدرة الفاعل المختار، ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: يفهمون عن الله سبحانه حججه وأدلته، فكما أنه تعالى قادر على أن يحيى الأرض بعد موتها، كذلك قادر على أن يحيي الموتى، ويبعث من في القبور.
قال في "برهان القرآن": ختم الآية بقوله: ﴿يَعْقِلُونَ﴾ لأن العقل ملاك الأمر في هذه الأبواب، وهو المؤدي إلى العلم. انتهى.
قال بعض العلماء: العاقل: من يرى بأول رأيه آخر الأمور، ويهتك عن مهماتها ظلم الستور، ويستنبط دقائق القلوب، ويستخرج ودائع الغيوب.
قال حكيم: العقل والتجربة في التعاون، بمنزلة الماء والأرض، لا يطيق أحدهما بدون الآخر إنباتًا.
ومعنى الآية (١): أي ومن آياته الدالة على عظيم قدرته: أنه يريكم البرق فتخافون مما فيه من الصواعق، وتطمعون فيما يجلبه من المطر، الذي ينزل من السماء، فيحيي الأرض الميتة التي لا زرع فيها ولا شجر، إن في ذلك المذكور لبرهانًا قاطعًا، ودليلًا ساطعًا على البعث والنشور، وقيام الساعة، فإن أرضًا هامدةً، لا نبات فيها، ولا شجر، يجيئها الماء فتهتز وتريو وتنبت من كل زوج بهيج، لهي المثال الواضح، والدليل اللائح، على قدرة من أحياها، على إحياء العالم بعد موته، حين يقوم الناس لرب العالمين.
٢٥ - ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ وحججه الدالة على قدرته على ما يشاء {أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ
﴿ثُمَّ﴾ بعد موتكم ومصيركم في القبور ﴿إِذَا دَعَاكُمْ﴾ وناداكم أيها العباد، ﴿دَعْوَةً﴾ واحدةً بالنفخة الأخيرة ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ متعلق بدعاكم؛ أي: دعاكم من الأرض التي أنتم فيها، كما يقال: دعوته من أسفل الوادي، فطلع إلى، ولا يجوز أن يتعلق بـ ﴿تَخْرُجُونَ﴾ لأن ما بعد إذا، لا يعمل فيما قبلها.
والمعنى: ثم إذا دعاكم بعد انقضاء الأجل، وأنتم في قبوركم دعوةً واحدةً، بأن قال: أيها الموتى أخرجوا، والداعي في الحقيقة هو إسرافيل - عليه السلام - فإنه كما قيل: يدعو الخلق على صخرة بيت المقدس، حين ينفخ النفخة الأخيرة من النفختين.
﴿إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ من الأرض. إذا للمفاجأة، ولذلك ناب مناب الفاء في الجواب، فإنهما يشتركان في إفادة التعقيب، أي: فاجأتم الخروج منها بلا توقف ولا إباء، وذلك لقوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾.
وقال الزمخشري (٢): قوله: ﴿إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً﴾ بمنزلة قوله: ﴿يُرِيكُمُ﴾ في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال: ومن آياته قيام السماوات والأرض، ثم خروج الموتى من البور إذا دعاهم دعوةً واحدةً، يا أهل القبور اخرجوا، وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بـ ﴿ثُمَّ﴾ بيانًا لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر، انتهى.
(٢) الكشاف.
والمعنى (٢): أن إمساك هذه العوالم وإقامتها، وتدبيرها وإحكامها، من الآيات التي ترشد إلى إله مدبر لها، ولا يزال الأمر هكذا حتى ينتهي أجل الدنيا، ويختل نظام العالم، فتبدل الأرض غير الأرض، وتدك الجبال دكًا، وحينئذٍ تخرجون من قبوركم سراعًا، حينما يدعوكم الداعي، ونحو الآية قوله: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (٥٢)﴾، وقوله: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)﴾. وقوله: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٥٣)﴾.
٢٦ - ﴿وَلَهُ﴾ سبحانه خاصةً، لا لغيره ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من الملائكة ﴿وَ﴾ من في ﴿الْأَرْضِ﴾ من الإنس والجن خلقًا وملكًا وتصرفًا، ليس لغيره شركة في ذلك بوجه من الوجوه ﴿كُلٌّ﴾؛ أي: كل من فيهما وفي غيرهما ﴿لَهُ﴾ سبحانه وتعالى وهو متعلق بقوله: ﴿قَانِتُونَ﴾ من القنوت، وهو الطاعة، والمراد: طاعة الإرادة، لا طاعة العبادة؛ أي: منقادون لما يريده بهم من حياة وموت وبعث وصحة وسقم وعز وذل وغنى وفقر وغيرها، لا يمتنعون عليه تعالى في شأن من شؤونه، فهم مسخرون تحت حكمه على كل حال، وقال الحسن (٣): ﴿قَانِتُونَ﴾؛ أي: قائمون بالشهادة على وحدانيته، كما قال الشاعر:
وَفِيْ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ | تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ |
٢٧ - ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْق﴾ بمعنى المخلوق؛ أي: ينشئهم
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
﴿وَهُوَ﴾؛ أي: الإعادة، وذكر الضمير نظرًا للخبر أو لأن التاء فيه تاء المصدر، أو نظرا للمعنى؛ لأنه بمعنى العود، كما في قوله تعالى: ﴿لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾؛ أي: مكانًا ميتًا. ﴿أَهْوَنُ﴾؛ أي: أسهل وأيسر ﴿عَلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى من البدء (١) بالنسبة إلى قدرتكم أيها الآدميون، وبالقياس على قوانينكم، وإلا فهما عليه تعالى سواء: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)﴾ سواء هناك مادة أم لا، يعني: إن ابتداء الشيء، أشد عند الخلق من إعادته، وإعادته أهون من ابتدائه، فتكون الآية واردةً على ما يزعمون فيما بينهم، ويعتقدون عندهم، وإلا فما شق على الله ابتداء الخلق، فيكون إعادتهم أهون عليه.
وقال بعضهم: أفعل هنا ليس للتفضيل، بل هو بمعنى فعيل، فيكون أهون بمعنى هين، مثل الله أكبر بمعنى كبير، قال الفرزدق:
إِنَّ الَّذِيْ سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا | بَيْتًا دَعَاِئِمُهُ أَعَزَّ وَأَطْوَلُ |
وقال الزمخشري: فإن قلت (٣): لم أخر الصلة في قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ
(٢) الشوكاني.
(٣) الكشاف.
قلت: هنالك قصد الاختصاص، وهو تجبره، فقيل: و ﴿هُوَ عَلَىّ هَيّنٌ﴾، وإن كان مستصعبًا عندك أن يولد بين هرم وعاجز، وأما هنا: فلا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبني على ما يعقلون، من أن الإعادة أسهل من الابتداء، فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. انتهى.
﴿وَلَه﴾ سبحانه وتعالى، لا لغيره ﴿الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾؛ أي (١): الوصف الأعلى، العجيب الشأن، من القدرة العامة، والحكمة التامة، وسائر صفات الكمال، التي ليست لغيره تعالى ما يدانيها، فضلًا عما يساويها، فالمثل بمعنى الصفة، كما في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي﴾ وقوله: ﴿مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾؛ أي: صفتها وصفتم، قاله الخليل، وقال مجاهد: المثل الأعلى: قول لا إله إلا الله، وبه قال قتادة، أراد به الوصف بالوحدانية، يعني له الصفة العليا، وهي: أنه لا إله إلا هو، ولا رب سواه: وقيل: المثل الأعلى: هو أنه ليس كمثله شيء، وقيل: هو أنه ما أراده كان بقول: كن.
وقوله: ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ متعلق (٢) بمضمون الجملة المتقدمة، على معنى أنه تعالى قد وصف بالمثل الأعلى، وعرف به فيهما على ألسنة الخلائق؛ أي: نطقًا، وألسنة الدلائل؛ أي: دلالةً، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من ﴿الْأَعْلَى﴾، أو من ﴿الْمَثَلُ﴾، أو من الضمير في ﴿الْأَعْلَى﴾.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْعَزِيزُ﴾ في ملكه القادر الذي لا يغالب، أو القادر الذي لا يعجز عن بدء ممكن ما، وإعادته ﴿الْحَكِيمُ﴾ في أقواله وأفعاله الذي يجري الأفعال على سنن الحكمة والمصلحة.
قال بعضهم (٣): دلت الآية على أن السماوات والأرض مشحونة بشواهد وحدته، ودلائل قدرته تعالى، والعجب منك، أنك إذا دخلت بيت غني.. فتراه
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
يَا ذَا الَّذِيْ أَنِسَ الْفُؤادُ بِذِكْرِهِ | أَنْتَ الَّذِيْ مَا إِنْ سِوَاكَ أُرِيْدُ |
تَفْنَى اللَّيَالِيْ وَالزَّمَانُ بِأَسْرِهِ | وَهَوَاكَ غَضٌّ فِيْ الْفُؤادِ جَدِيْدُ |
والخلاصة: أن الإعادة أسهل على الله من البدء، بالنظر لما يفعله البشر، مما يقدرون عليه، فإن إعادة شيء من مادته الأولى، أهو عليهم من إيجاده ابتداءً، والمراد بذلك: التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث، وإلا فكل الممكنات بالنظر إلى قدرته سواء، وقصارى ذلك: أنه أهون عليه بالإضافة إلى أعمالكم، وبالقياس إلى أقداركم.
روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - ﷺ - يقول الله تعالى: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما
﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾؛ أي: وله الوصف البديع في السماوات والأرض، وهو أنه لا إله إلا هو، ليس كمثله شيء، تعالى عن الشبيه والنظير، وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يغلب، الحكيم في تدبير خلقه، وتصريف شؤونه، فيما أراد على وفق الحكمة والسداد.
٢٨ - ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا﴾ أي: بين الله سبحانه وتعالى لكم أيها المشركون، شبهًا لما تشركون به، مأخوذًا ذلك المثل ﴿مِنْ﴾ أحوال ﴿أَنْفُسِكُمْ﴾ التي هي أقرب الأمور إليكم، وأعرفها عندكم، بين به بطلان شرككم، فمن ابتدائية، والمثل تشبيه شيء خفي بشيء جلي، قال أبو الليث: نزلت في كفار قريش، كانوا يعبدون الآلهة، ويقولون في إحرامهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. ثم صور المثل، فقال: ﴿هَلْ لَكُمْ﴾ والاستفهام فيه للإنكار، و ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ وأيديكم من العبيد والإماء: تبعيضية، وفي قوله: ﴿مِنْ شُرَكَاءَ﴾ زائدة، لتأكيد النفي المستفاد من الاستفهام.
﴿فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ من الأموال والأسباب؛ أي: هل ترضون لأنفسكم شركةً في ذلك، والمعنى: هل لكم شركاء فيما رزقناكم من الأموال، كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم، وهم العبيد والإماء، وجملة قوله: ﴿فَأَنْتُمْ فِيهِ﴾؛ أي: فيما رزقناكم ﴿سَوَاءٌ﴾؛ أي: مستوون يتصرفون فيه كتصرفكم، من غير فرق بينكم وبينهم، جواب للاستفهام الإنكاري الذي بمعنى النفي، ومحققة لمعنى الشركة بينهم وبين العبيد والإماء المملوكين لهم في أموالهم، وجملة قوله: ﴿تَخَافُونَهُمْ﴾ خبر آخر لـ ﴿أنتم﴾ داخل تحت الاستفهام الإنكاري، كما في "الإرشاد"؛ أي: تخافون مماليككم أن يستقلوا وينفردوا بالتصرف فيه، و"الكاف" في قوله: ﴿كَخِيفَتِكُمْ﴾ نعت لمصدر محذوف، ومعنى قوله: ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ هاهنا أمثالكم من الأحرار، كقوله: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: بعضكم بعضًا.
والمعنى (١): أي لا ترضون بأن يشارككم فيما بأيديكم من الأموال المستعارة مماليككم، وهم عندكم أمثالكم في البشرية، غير مخلوقين لكم، بل الله تعالى، فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية - التي هي من خصائصه الذاتية - مخلوقه، بل مصنوع مخلوقه، حيث تصنعونه بأيديكم، ثم تعبدونه.
والمراد: إقامة الحجة على المشركين، فإنهم لا بد أن يقولوا: لا نرضى بذلك، فيقال لهم: فكيف تنزهون أنفسكم عن مشاركة المملوكين لكم، وهم أمثالكم في البشرية، وتجعلون عبيد الله شركاء له، فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة.. بطلت الشركة بين الله وبين أحد من خلقه، والخلق كلهم عبيد الله تعالى، ولم يبق إلا أنه الرب وحده لا شريك له.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أنفسكم﴾ بالنصب، على أنه معمول المصدر المضاف إلى فاعله، وقرأ ابن أبي عبلة، وابن أبي عبيدة: بالرفع على إضافة المصدر إلى مفعوله، وهما وجهان حسنان، ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول، مع وجود الفاعل، وفي الآية دليل على أن العبد لا ملك له؛ لأنه أخبر: أن لا مشاركة للعبيد فيما رزقنا الله سبحانه من الأموال.
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك التفصيل الواضح المذكور في هذا المثل ﴿نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾؛ أي: نبين ونوضح دلائل الوحدة، تفصيلًا واضحًا، وبيانًا جليًا، لا تفصيلًا أدنى منه، فإن التمثيل: تصوير للمعاني المعقولة بصورة المحسوس، فيكون في غاية البيان والإيضاح.
(٢) البحر المحيط.
وحاصل معنى الآية (١): أي بين الله تعالى إثبات وحدانيته، بما يكشفها من ذلك المثل المنتزع من أحوال أنفسكم وأطوارها، التي هي أقرب الأمور إليكم، وبه يستبين مقدار ما أنتم فيه من الضلال بعبادة الأوثان والأصنام، فتسرعون إلى الإقلاع عن عبادة من لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا.
وهذا مثل ضربه الله للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء، وهم معترفون بأن شركاءه من الأصنام والأوثان عبيده وملكه، إذ كانوا يفولون في التلبية والدعاء حين أداء مناسك الحج: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك.
وخلاصة المثل: أن أحدكم يأنف أن يساويه عبيده في التصرف في أمواله، فيكف تجعلون لله الأنداد من خلقه.
﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾؛ أي: مثل هذا التفصيل البديع، بضرب الأمثال الكاشفة للمعاني، المقربة لها إلى العقول، إذ تنقل المعقول إلى المحسوس، التي هي به ألصق، ولإدراكه أقرب، نفصل حججنا وآياتنا لقوم يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال، واستخراج مغازيها ومراميها للوصول إلى الأغراض، التي لأجلها ضربت، ولمثلها استعملت، فيستبين الرشد من الغي، والحق من الباطل، ولأمرٍ ما كثرت الأمثال في جلاء الحقائق، وإيضاح ما أشكل منها على الناظرين.
٢٩ - ثم بين أن المشركين إنما عبدوا غيره سفهًا من أنفسهم، وجهلًا، لا ببرهان قد لاح لهم؛ أي: أعرض عن مخاطبتهم، وبين استحالة تبعيتهم للحق، فقال: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالشرك، وكفروا بالله؛ أي (٢): لم يعقلوا شيئًا
(٢) روح البيان.
والاستفهام في قوله: ﴿فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾؛ أي: خلق فيه الضلالة بصرف اختياره إلى كسبها: إنكاري؛ أي: لا أحد يقدر على هدايته؛ لأن الرشاد والهداية، بتقدير الله تعالى وإرادته ﴿وَمَا لَهُمْ﴾؛ أي: لمن أضله الله تعالى، والجمع باعتبار المعنى، والمراد بهم المشركون ﴿مِنْ نَاصِرِينَ﴾ يخلصونهم من الضلال، ويحفظونهم من آفاته؛ أي: ليس لأحدٍ منهم ناصر واحد على ما هو قاعدة مقابلة الجمع بالجمع؛ أي: ما لهؤلاء الذين أضلهم الله من ناصرين ينصرونهم، ويحولون بينهم وبين عذاب الله سبحانه؛ أي: هؤلاء ممن أضلهم الله فلا هادي لهم.
ومعنى الآية (١): أي ولكن الذين ظلموا أنفسهم، فكفروا بالله، اتبعوا أهواءهم جهلًا منهم لحق الله عليهم، فأشركوا الآلهة والأوثان في عبادته، ولو قلبوا وجوه الرأي، واستعملوا الفكر والتدبر.. لربما ردهم ذلك إلى معرفة الحق، ووصلوا إلى سبيل الرشد، ولكن أنى لهم ذلك.
فمن يهدي من خلق الله فيه الضلال، وجعله كاسبًا له باختياره، لسوء استعداده، وميله بالفطرة إليه، وعلم الله فيه ذلك، وليس لهم ناصر ينقذهم من بأس الله، وشديد إنتقامه إذا حل بهم؛ لأنه ما شاء.. كان، وما لم يشأ لم يكن.
وفي الآية إشارة إلى (٢) أن العمل بمقتضى العقل السليم هدى، والميل إلى
(٢) روح البيان.
٣٠ - ثم أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ - بتوحيده وعبادته فقال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ﴾؛ أي: قوم ذاتك وعدلها واصرفها ﴿لِلدِّينِ﴾ الحنيفي، وأقبل بكليتك عليه، غير ملتفت عنه يمينًا وشمالًا، أو أخلص عملك لله تعالى، وهذا تمثيل (١) لإقباله على الدين، واستقامته عليه، واهتمامه بأسبابه، فإن من اهتم بالشيء.. عقد عليه طرفه، وسدد إليه نظره، وقوم له وجهه.
و ﴿الفاء﴾ فيه: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان (٢) حال المشركين اتباع الهوى، والإعراض عن الهدى.. فقوم وجهك يا محمد للدين الحق، الذي هو دين الإِسلام، وعدله غير ملتفت يمينًا وشمالًا، أو سدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك إليه ربك لطاعته، وهو الدين القيم دين الفطرة.
وقوله: ﴿حَنِيفًا﴾ حال من فاعل ﴿أَقِمْ﴾؛ أي: حال كونك مائلًا إليه عن سائر الأديان، مستقيمًا عليه لا ترجع عنه إلى غيره، ويجوز أن يكون حالًا من ﴿الدِّينِ﴾؛ أي: حال كون ذلك الدين قويمًا لا اعوجاج فيه، وقال بعضهم: في الآية الوجه، ما يتوجه إليه، وعمل الإنسان ودينه مما يتوجه الإنسان إليه، لتسديده وإقامته، والمعنى عليه: أخلص دينك، وسدد عملك مائلًا إليه عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة.
والخطاب عام للنبي - ﷺ - ولجميع الأمة، والإفراد في ﴿أَقِمْ﴾ لما أن الرسول إمام الأمة، فأمره مستتبع لأمرهم، وقوله: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ منصوب على الإغراء؛ أي: الزموا أيها الناس فطرت الله سبحانه؛ أي: دينه وتوحيده، وترسم
(٢) روح البيان.
﴿الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾؛ أي: خلق جميع الناس، مؤمنهم وكافرهم عليها في بطون أمهاتهم، وحيث أخذهم الله من ظهر آدم، وسألهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ فقالوا: ﴿بَلَى﴾ والموصول صفة لـ ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ مؤكدة لوجوب الامتثال بالأمر، فإن خلق الله الناس على فطرته التي هي عبارة عن قبولهم للحق، وتمكنم من إدراكه، أو عن ملة الإِسلام، من موجبات لزومها، والتمسك بها قطعًا.
المعنى: أنه خلقهم قابلين للتوحيد والإِسلام، غير نائين عنه ولا منكرين له، لكونه مجاوبًا للعقل، مساوقًا للنظر الصحيح، حتى لو تركوا وما خلقوا عليه ما اختاروا عليه دينًا آخر، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الإنس والجن.
ومنه قوله - ﷺ - فيما يرويه عن ربه: "كل عبادي خلقت حنفاء، فاجتالتهم - استخفتهم وأضلتهم - الشياطين عن دينهم، وأمروهم أن يشركوا بي غيري".
ومنه قوله - ﷺ - في الحديث المتفق عليه، الذي رواه عنه أبو هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء" يعني تكونون أنتم تجدعونها؛ أي: تقطعون أنفها أو أذنها، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ...﴾ الآية.
ومعناه: كل مولود إنما يولد في مبدأ الخلقة، وأصل الجبلة على الفطرة السليمة، والطبع المتهيء لقبول الدين، فلو ترك عليها.. استمر على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها؛ لأن هذا الدين حسنه العقل السليم، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية والتقليد، فمن سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره.
وحكي عن عبد الله بن المبارك (١): أنه قال في معنى الحديث: "إن كل مولود يولد على فطرته"؛ أي: خلقته التي خلقه الله عليها في علمه، من السعادة
فإن قلت: الحديث الذي ورد عنه - ﷺ -: "إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا" يعارضه حديث أبي هريرة: "كل مولود يولد على الفطرة" فما وجه الجمع بينهما؟
قلت: يجمع بينهما بأن المراد بالفطرة: استعداده لقبول الإسلام، كما مر، وذلك لا ينافي كونه شقيًا في جبلته، أو يراد بالفطرة قولهم: ﴿بَلَى﴾ حين قال الله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾. قال النووي: لما كان أبواه مؤمنين.. كان هو مؤمنًا أيضًا، فيجب تأويله بأن معناه - والله أعلم -: إن ذلك الغلام لو بلغ لكان كافرًا. انتهى.
ثم لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي، المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل، ألا ترى أنه يقول: "فأبواه يهودانه" فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه، محكوم له بحكم أبويه الكافرين، كما في "كشف الأسرار".
والمعنى: أي الزموا خلقة الله، التي خلق الناس عليها، فقد جعلهم بفطرتهم جانحين للتوحيد، وموقنين به، لكونه موافقًا لما يهدي إليه العقل، ويرشد إليه صحيح النظر، كما ورد في الحديث المتفق عليه، لأبي هريرة الذي سبق آنفًا، وقوله ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾؛ أي: لدينه وتوحيده تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى لوجوب الامتثال به؛ أي: لا صحة ولا استقامة لتبديله بالإخلال بموجبه، وعدم مقتضاه عليه بقبول الهوى، واتباع وسوسة الشيطان، أو هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها تبديل لها من جهة الخالق سبحانه.
وقال ابن عباس: لا تبديل لقضاء الله بسعادتهم وشقاوتهم.
وفي "التأويلات النجمية": لا تحويل لما له خلقهم، فطر الناس كلهم على التوحيد، فأقام قلب من خلقه للتوحيد والسعادة، وأزاغ قلب من خلقه للإلحاد
وقيل: هو نفي معناه النهي؛ أي: لا تبدلوا خلق الله ودينه بالشرك، بيان (١) هذا: أن العقل الإنساني كصحيفة بيضاء، قابلة لنقش ما يراد أن يكتب فيها، كالأرض تقبل كل ما يغرس فيها، فهي تنبت حنظلًا وفاكهةً ودواءً وسمًا، والنفس ترد عليها الديانات والمعارف فتقبلها، والخير أغلب عليها من الشر، كما أن أغلب نبات الأرض يصلح للرعي، والقليل منه سم لا ينتفع به، ولا تغير بالآراء الفاسدة، إلا بمعلم يعلمها ذلك، كالأبوين اليهوديين أو النصرانيين، ولو ترك الطفل وشأنه.. لعرف أن الإله واحد، ولم يسقه عقله إلى غير ذلك، فإن البهيمة لا تجدع إلا بمن يجدعها من الخارج، هكذا صحيفة العقل، لا تغير إلا بمؤثر خارجي يضلها بعد علم.
﴿ذَلِكَ﴾ الذي أمرتكم به من التوحيد، أو ذلك الدين المأمور بإقامة الوجه له، أو لزوم فطرة الله المستفاد من الإغراء، أو الفطرة إن فسرت بالمملة، والتذكير بتاويل المذكور، أو باعتبار الخير ﴿الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾؛ أي: المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف، وهو وصف بمعنى المستقيم المستوي.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾؛ أي: كفار مكة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ استقامته حتى يفعلوه، ويعملوا به، فينحرفون عنه انحرافًا، وذلك لعدم تدبرهم وتفكرهم في البراهين الواضحة الدالة عليه، ولو علموا ذلك حق العلم.. لاتبعوه، وما صدوا الناس عن الاقتباس من نوره، وما سدلوا الحجب التي تحجب عنهم ضياءه.
٣١ - وقوله: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ تعالى؛ أي: راجعين إليه بالتوبة والإخلاص، ومطيعين له في أوامره ونواهيه: حال من الضمير في الناصب المقدر لـ ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ أو في ﴿أَقِمْ﴾ لعمومه للأمة، وما بينهما اعتراض، وقيل: منصوب على أنه خبر لكان المحذوفة؛ أي: وكونوا منيبين إليه، لدلالة: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ
والمعنى: الزموا فطرة الله، أو فأقيموا وجوهكم للدين، حال كونكم راجعين إليه مالى كل ما أمر به، مقبلين عليه بالطاعة. ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ سبحانه وتعالى باجتناب معاصيه، وهو معطوف على الزموا المقدر الناصب لـ ﴿مُنِيبِينَ﴾.
والمعنى: أي فأقم وجهك أيها الرسول، أنت ومن اتبعك حنفاء لله منيبين إليه، وخافوه وراقبوا أن تفرطوا في طاعته، وترتكبوا معصيته ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ الخمس؛ أي: أدوها في أوقاتها على شرائطها وحقوقها.
قال الراغب: إقامة الشيء: توفية حقه، ولم يأمر الله بالصلاة حيث أمر، ولا مدح بها حيثما مدح، إلا بلفظ الإقامة، تنبيهًا على أن المقصود منها توفية شرائطها، لا الإتيان بهيئاتها.
والمعنى: أي وداموا على إقامتها، فهي عمود الدين، وهي التي تذكر المؤمن ربه، وتجعله يناجيه في اليوم خمس مرات، وتحول بينه وبين الفحشاء والمنكر؛ لأنها تعوِّد النفس الخضوع والإخبات له، ومراقبته في السر والعلن، كما جاء في الحديث: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ به غيره المبدلين لفطرة الله تبديلًا، بل أخلصوا له العبادة، ولا تريدوا بها سواه، وحافظوا على امتثال أوامره واجتناب نواهيه.
٣٢ - وقوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾ بدل من ﴿الْمُشْرِكِينَ﴾ بإعادة الجار، وتفريقهم لدينهم: اختلافهم فيما يعبدون على اختلاف أهوائهم، وفائدة (١) الإبدال: التحذير عن الانتماء إلى ضرب من أضراب المشركين ببيان أن الكل على الضلال المبين. وكانوا شيعًا؛ أي: فرقًا مختلفة يشايع كل منها - أي يتابع - إمامها الذي هو أصل دينها.
وقرأ حمزة والكسائي (٢): ﴿فارقوا دينهم﴾ ورويت هذه القراءة عن علي بن
(٢) الشوكاني.
والخلاصة: أن أهل الأديان قبلنا، اختلفوا فيما بينهم على مذاهب ونحلٍ باطلة، كل منها تزعم أنها على شيء.
﴿كُلُّ حِزْبٍ﴾ وطائفة وجماعة من هؤلا الذين فارقوا دينهم الحق وأحدثوا من البدع ما أحدثوا، ﴿بِمَا لَدَيْهِمْ﴾؛ أي: بما عندهم من الدين المعوج، المؤسس على الزيغ والزعم الباطيل ﴿فَرِحُونَ﴾؛ أي: مسرورون راضون، ظنًا منهم أنه الحق والصواب لا يعدوهم إلى غيرهم من النحل، والمذاهب الأخرى.
٣٣ - ﴿وَإِذَا مَسَّ﴾ وأصاب ﴿النَّاسَ﴾؛ أي: أهل مكة ﴿ضُرٌّ﴾؛ أي: ضرر وشدة وسوء حال، كجوع ووباء وقحط وفقر وغير ذلك من أنواع البلاء ﴿دَعَوْا رَبَّهُمْ﴾ أن يرفع ذلك عنهم، واستغاثوا به حال كونهم ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: راجعين إليه من دعاء غيره، ملتجئين به، لا يعولون على غيره، لسلمهم أنه لا فرج عند الأصنام، ولا يقدر على كشف ذلك عنم غير الله، وقيل: مقبلين إليه بكل قلوبهم.
والمعنى (١): أي وإذا مس هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلهًا آخر ضر، فأصابهم جدب وقحط مثلًا.. أخلصوا لربهم التوحيد، وأفردوه بالتضرع إليه، واستغاثوا به منيبين إليه، تائبين من شركهم وكفرهم.
﴿ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ﴾ ومنحهم ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من عنده سبحانه ﴿رَحْمَةً﴾؛ أي: خلاصًا وعافيةً من الضر النازل بهم بإجابة دعائهم، وذلك بالخصب والغنى والعافية مثلًا ﴿إِذَا﴾: فجائية، وقعت في جواب الشرط؛ لأنها كالفاء في إفادة
وهذا كلام مسوق للتعجيب من أحوالهم، وما صاروا عليه من الاعتراف بوحدانية الله تعالى عند نزول الشدايد، والرجوع إلى الشرك عند رفع ذلك عنهم؛ أي: ثم إذا كشف ربهم عنهم ذلك الضر، وفرجه عنهم، وأصابهم برخاء وخصب وسعةٍ.. إذا جماعة منهم يشركون به، فيعبدون معه الآلهة والأوثان.
والخلاصة: أنهم حين الضرر يدعون الله وحده لا شريك له، وإذا أسبغ عليهم نعمه.. إذا فريق منهم يشركون به سواه، ويعبدون معه غيره.
٣٤ - و ﴿اللام﴾: في قوله: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: أعطيناهم من نعمة الخلاص والعافية: هي لام كي، وقيل: لام الأمر، أمرهم أمر تهديد، كما يقول السيد لعبده متوعدًا، إذا راه قد خالف أمره، اعصني ما شئت، وقيل: هي لام العاقبة؛ أي: ليكون عاقبة أمرهم كفران ما آتيناهم بنسبته إلى الأصنام، أو إلى النجم الفلاني، والمعنى على الأمر؛ أي: فليجحدوا (٢) نعمي عليهم، وإحساني إليهم كيف شاؤوا، فإن لهم يومًا نحاسبهم فيه، يوم يؤخذون بالنواصي، ويجرون بالسلاسل والأغلال، ويقال لهم: ذوقوا ما كنتم تعملون.
ثم خاطب سبحانه هؤلاء الذين وقع منهم ما وقع، فقال: ﴿فَتَمَتَّعُوا﴾ بكفركم قليلًا إلى وقت آجالكم، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، والأمر فيه: للتهديد أيضًا؛ أي: فتمتعوا بما آتيناكم من الرخاء، وسعة النعمة في الدنيا فما هي إلا أوقات قصيرة تمضي كلمح البصر، ثم هددهم أشد التهديد بقوله:
(٢) المراغي.
روي عن بعض السلف أنه قال: والله لو توعدني حارس درب.. لخفت فيه، فكيف والمتوعد هو الله، الذي يقول للشيء: كن فيكون.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ بالتاء فيهما، وقرأ أبو العالية: ﴿فيمتعوا﴾ بالياء مبنيًا للمفعول، وهو معطوف على ﴿لِيَكْفُرُوا﴾ ﴿فسوف يعلمون﴾ بالياء على التهديد لهم، وعن أبي العالية: بياء قبل التاء عطف أيضًا على ﴿لِيَكْفُرُوا﴾؛ أي: لتطول أعمارهم على الكفر، وعنه عن عبد الله: ﴿فليتمتعوا﴾ باللام. وقال هارون: وفي مصحف عبد الله: ﴿يُمتعوا﴾.
٣٥ - ثم أنكر على المشركين ما اختلقوه من عبادة غيره تعالى بلا دليل، فقال: ﴿أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا﴾ و ﴿أَمْ﴾: منقطعة تقدر ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري المضمن لتوبيخ؛ أي: بل: أأنزلنا على هؤلاء المشركين حجة واضحة كالكتاب ﴿فَهُوَ﴾؛ أي: ذلك السلطان ﴿يَتَكَلَّمُ﴾ تكلم دلالة ﴿بِمَا كَانُوا بِهِ﴾ تعالى ﴿يُشْرِكُونَ﴾؛ أي (٢): بإشراكهم به تعالى، وصحته على أن ﴿ما﴾ مصدرية، أو بالأصنام التي يشركون به تعالى في ألوهيته على أنها موصولة، وهي أولى من جعلها مصدرية، لوجود العائد، والمراد بالاستفهام، النفي والإنكار، أي: لم ننزل عليهم ذلك، ويجوز أن تكون الباء سببية؛ أي: بالأمر الذي بسببه يشركون.
والمعنى (٣): أي أأنزلنا على هؤلاء الذين يشركون في عبادتنا الآلهة والأصنام، كتابًا فيه تصديق لما يقولون، وإرشاد إلى حقيقة ما يدعون، وإجمال القصد: أنه لم ينزل بما يقولون كتابًا، ولا أرسل به رسولًا، وإنما هو شيء افتعلوه اتباعًا لأهوائهم.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾؛ أي: شدة من بلاءً وضيق مثلًا. ﴿بِمَا قَدَّمَتْ﴾؛ أي: بسبب شؤم ما قدمته واقترفته ﴿أَيْدِيهِمْ﴾ من المعاصي والذنوب، ﴿هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ وييئسون من رحمة الله تعالى؛ أي: فاجأهم القنوط واليأس من رحمة الله تعالى، والقنوط: اليأس من رحمة الله، كذا قال الجمهور، وقال الحسن: القنوط: ترك فرائض الله سبحانه، وقرأ الجمهور (١): ﴿يقنطون﴾ بضم النون. وقرأ أبو عمرو، والكسائي ويعقوب: بكسرها.
أي: إن الإنسان قد ركب في طبيعته الفرح والبطر حين تصيبه النعمة، كما حكى الله سبحانه عنه ﴿لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ وإذا أصابته شدة بجهله بسنن الحياة، وعصيانه أوامر الدين.. قنط من رحمة الله، وآيس منها، فهو كما قيل:
كَحِمَارِ السُّوْءِ إِنْ أعْلَفْتَهُ | رَمَحَ النَّاسَ وَإِنْ جَاعَ نَهَقْ |
٣٧ - ثم أنكر عليهم ما يلحقهم من اليأس والقنوط لدى الضراء فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف والتقدير: ألم يشاهد الناس؛ أي: أهل مكة، ولم يعلموا ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ الرزاق ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ ويوسعه ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أن يوسع عليه من
والمعنى: ألم يشاهدوا ويعلموا أن الأمرين من الله، فما بالهم لم يشكروا في السراء، ويحتسبوا في الضراء، كما يفعل المؤمنون، فإن من فطر هذا العالم لا ينزل الشدة بعباده إلا لما لم فيها الخير، كالتأديب والتذكير والامتحان، فهو كما يربي عباده بالرحمة، يريبهم بالتعذيب، فلو أنهم شكروه حين السراء، وتضرعوا إليه في الضراء.. لكان خيرًا لهم.
والخلاصة: أنه يجب عليهم أن ينيبوا إليه في الرخاء والشدة، ولا يعوقهم عن الإنابة إليه نعمة تبطرهم، ولا شدة تحدث في قلوبهم اليأس، بل يكونون في السراء والضراء منيبين إليه، قال شقيق رحمه الله تعالى: كما لا تستطيع أن تزيد في خلقك ولا في حياتك، كذلك لا تستطيع أن تزيد في رزقك، فلا تتعب نفسك في طلب الرزق.
فإن قلت: قال هنا (١): ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ بلفظ الرؤية، وفي الزمر ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمُوا﴾ بلفظ العلم، فما الفرق بين الموضعين؟
قلت: الفرق بينهما: أن بسط الرزق مما يرى، فناسبه ذكر الرؤية، وما في الزمر تقدمة ﴿أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ فناسبه ذكر العلم.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور من القبض والبسط ﴿لَآيَاتٍ﴾؛ أي: لدلالات على قدرته التامة، وحكمته البالغة ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ بها فيستدلون بها على وجود الصانع الحكيم، قال أبو بكر محمد بن سابق:
فَكَمْ قَوِيٍّ قَوِيٍّ فِي تَقَلُّبِهِ | مُهَذِّبِ الَّرأْيِ عَنْهُ الرِّزْقُ يَنْحَرِفُ |
وَكَمْ ضَعِيْفٍ ضَعِيفٍ فِيْ تَقَلُّبِهِ | كَأَنَّهُ مِنْ خَلِيْجِ الْبَحْرِ يَغْتَرِفُ |
هَذَا دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ الإِلهَ لَهُ | فِيْ الْخَلْقِ سِرٌّ خَفِيٌّ لَيْسَ يَنْكَشِفُ |
قال: ثلاثة أشياء: ذل اللبيب، وفقر الأديب، وسقم الطبيب.
قال في "التأويلات النجمية": الإشارة فيه إلى أن لا يعلق العباد قلوبهم إلا بالله سبحانه؛ لأن ما يسوءهم ليس زواله إلا من الله، وما يسرهم ليس وجوده إلا من الله، فالبسط الذي يسرهم ويؤنسهم منه وجوده، والقبض الذي يسوءهم ويوحشهم منه حصوله، فالواجب لزوم بابه سبحانه بالإسرار، وقطع الأفكار عن الأغيار. انتهى.
إذ لا يفيد للعاجز طلب مراده من عاجز مثله، فلا بد من الطلب من القادر المطلق، الذي هو الحق سبحانه، نسأل الله سبحانه أن يوقظنا من سنة الغفلة، ولا يجعلنا من المعذبين بعذاب الجهالة، إنه الجواد الكريم، البر الرؤوف الرحيم.
٣٨ - و ﴿الفاء﴾: في قوله: ﴿فَآتِ﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أيها المكلف: أن البسط والقبض كليهما بيد الله سبحانه، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك آت؛ أي: أعط يا من بسط الله عليه الرزق ﴿ذَا الْقُرْبَى﴾؛ أي: صاحب القرابة لك ﴿حَقَّهُ﴾؛ أي: ما يستحقه عليك، إما على سبيل الوجوب، أو الندب من الصلة والصدقة وسائر المبرات.
والخطاب فيه (٢) للنبي - ﷺ - وأمته أسوته، أو لكل مكلف له مال واسع، وقدم الإحسان إلى القرابة؛ لأن خير الصدقة ما كان على قريب، فهو صدقة مضاعفة، وصلة رحم مرغب فيها.
(٢) الشوكاني.
﴿وَ﴾ آت ﴿الْمِسْكِينَ﴾ سواء كان ذا قرابة أم لا ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾؛ أي: المسافر ما يستحقانه من الصدقة والإعانة والضيافة، فإن ابن السبيل هو الضيف، كما في "كشف الأسرار"، والمراد بحقه: الصدقة المندوبة، ولا يصح حملها على الواجبة، وهي الزكاة؛ لأن السورة مكية، والزكاة ما فرضت إلا في السنة الثانية من الهجرة بالمدينة. اهـ. "شيخنا".
ووجه تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر (١): أنهم أولى من سائر الأصناف بالإحسان، ولكون ذلك واجبًا لهم على كل من له مال فاضل عن كفايته وكفاية من يعول.
وقد اختلف في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل: هي منسوخة بآية الميراث، وقيل: محكمة، وللقريب في مال قريبه الغني حق واجب، وبه قال مجاهد وقتادة، قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاج، وقال الحسن: إن الأمر في إيتاء ذي القربى للندب، وقيل: المراد بالقربى: قرابة النبي - ﷺ -، قال القرطبي: والأول: أصح؛ لأن حقهم مبين في كتاب الله سبحانه في قوله: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾.
والمعنى: أي (٢) أعط أيها الرسول أنت ومن تبعك من المؤمنين الأقارب الفقراء، جزءًا من مالك، صلةً للرحم، وبرًا بهم؛ لأنهم أحق الناس بالشفقة، وكذا المسكين الذي لا مال له، إذا وقع في ورطة الحاجة.. فيجب على من عنده مقدرة دفع حاجته، وسد عوزه.
ومثله: المسافر البعيد عن ماله الذي لا يستطيع إحضار شيء منه، لانقطاع السبل به، فيجب مساعدته بما يدفع خصاصته، حتى يصل إلى مأمنه، وسرعة
(٢) المراغي.
﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: إيتاء الحق وإخراجه من المال ﴿خَيْرٌ﴾ من الإمساك ﴿لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ تعالى؛ أي: يقصدون بمعروفهم إياه تعالى، خالصًا، فيكون الوجه (١) بمعنى الذات، أو جهة التقرب إليه، لا جهة أخرى من الأغراض والأعواض فيكون بمعنى الجهة ﴿وَأُولَئِكَ﴾ المعطون حقوق من ذكر، لمن ذكر، لوجه الله تعالى، وطلب رضاه سبحانه ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ أي: الفائزون بالمطلوب في الآخرة، حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم.
والمعنى: لهم في الدنيا خير، وهو البركة في أموالهم؛ لأن إخراج الزكاة يزيد في المال، وفي الآخرة خير، وهو الجزاء الجميل، والثواب الجزيل على إخراجهم المال لطاعة الله تعالى.
ومعنى الآية (٢): أي ذلك الإعطاء لمن تقدم ذكرهم من فعل الخير الذي يتقبله الله تعالى، ويرضى عن فاعليه، ويعطيهم جزيل الثواب، وأولئك قد ربحوا في صفقتهم، فأعطوا ما يغني، وحصلوا على ما يبقى من النعيم المقيم، والخير العميم، وإنما كان هذا العمل خيرًا لما فيه من تكافل الأسرة الخاصة، وتعاونها في السراء والضراء، وتعاون الأسرة العامة، وهي الأمة الإِسلامية جمعاء، كما جاء في الحديث: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا"، ولا يخفى ما لذلك من أثرِ في تولد المحبة والمودة، وفي التكاتف لدفع عوادي الأيام، ومحن الزمان.
٣٩ - ثم ذكر سبحانه وتعالى من يتصرف في ماله على غير الجهة المرضية فقال: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا﴾ أي: وما أعطيتم من عطية خالية من العوض، أو ما (٣) أعطيتم من زيادةٍ محرمة في المعاملة، أو عطية يتوقع بها مزيد مكافأة ﴿لِيَرْبُوَ﴾؛ أي: ليزيد لكم ذلك المعطى، ويتسبب لكم ﴿فِي أَمْوَالِ النَّاسِ﴾؛ أي: في أخذكم
(٢) المراغي.
(٣) البيضاوي.
وقيل: الآية في الرجل، يعطي صديقه أو قريبه، ليكثر ماله لا يريد به وجه الله، وقيل: هو الرجل يلتزق بالرجل، فيخدمه ويسافر معه، فيجعل له ربح ماله، لالتماس عونه، لا لوجه الله تعالى، فلا يربو عند الله تعالى؛ لأنه لم يرد بعمله وجه الله تعالى.
قرأ الجمهور (١): ﴿آتَيْتُمْ﴾ بالمد، بمعنى أعطيتم، وقرأ مجاهد، وحميد، وابن كثير: ﴿أتيتم﴾ بالقصر، بمعنى: ما فعلتم على وجه الإعطاء، فهي راجعة إلى قراءة المد، وأجمعوا على القراءة بالمد في قوله الآتي: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ﴾. ﴿من ربوا﴾ كتب (٢) بالواو للتفخيم على لغة من يفخم في أمثاله من الصلاة والزكاة، أو للتنبيه على أصله؛ لأنه من ربا يربو: إذا زاد، وزيدت الألف تشبيهًا بواو الجمع، وقرأ الجمهور: ﴿ليربو﴾ بالياء وإسناد الفعل إلى الربا، وقرأ ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبو رجاء، والشعبي، ونافع، وأبو حيوة: بالتاء مضمومةً ﴿لتربوا﴾ وإسناد الفعل إليهم؛ أي: لتأخذوا الربا من أموال الناس، أو لتكونوا ذوي زيادات، وقرأ أبو مالك: ﴿ليربوها﴾ بضمير المؤنث.
والربا لغةً: مطلق الزيادة، وشرعًا: عقد مخصوص، مشتمل على الزيادة في المقدار، بأن يباع أحد مطعوم بمطعوم، أو نقدٍ بنقد بأكثر منه من جنسه، ويقال له: ربا الفضل، أو في الأجل بأن يباع أحدهما إلى أجل، ويقال له: ربا النساء، وكلاهما محرم، والمعنى عليه: وما أعطيتم من زيادة خالية من العوض عند
(٢) روح البيان.
وقال بعضهم: المراد بالربا في الآية: هو أن يعطي الرجل العطية، أو أن يهدي الهدية ويثاب ما هو أفضل منها، فهذا ربًا حلال جائز، ولكن لا يثاب في القيامة؛ لأنه لم يرد به وجه الله تعالى.
والمعنى على هذا القول: أي ومن أهدى هديةً يريد أن ترد بأكثر منها.. فلا ثواب له عند الله تعالى، وقد حرم الله ذلك على رسوله - ﷺ - على الخصوص، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦)﴾؛ أي: ولا تعط العطاء تريد أكثر منه.
روي عن ابن عباس أنه قال: الربا ربوان.. ربًا لا يصح، وهو ربا بالبيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافا، ثم تلا هذه الآية.
وقال عكرمة: الربا ربوان: ربًا حلال، وربًا حرام، فأما الربا الحلال: فهو الذي يهدي يلتمس ما هو أفضل منه، وعن الضحاك في هذه الآية: هو الربا الحلال الذي يهدي ليثاب ما هو أفضل منه، لا له ولا عليه، ليس له أجر، وليس عليه فيه إثم.
ومعنى الآية: أنه لا يزكو عند الله، ولا يثاب عليه؛ لأنه لا يقبل إلا ما أريد به وجهه خالصًا له.
واختلف (١) العلماء فيمن وهب هبة يطلب عوضها، وقال: إنما أردت العوض، فإن كان مثله ممن يطلب العوض من الوهوب له. فله ذلك عند مالك، وذلك كهبة الفقير للغني، وهبة الخادم لصاحبه، وهبة الشخص لمن فوقه، ولأميره، وقال أبو حنيفة: لا يكون له عوض إذا لم يشترط، وهذان القولان جاريان للشافعي.
﴿وَمَا آتَيْتُمْ﴾ وأعطيتم ﴿مِنْ زَكَاةٍ﴾؛ أي: من صدقة تطوع إلى المساكين، سميت (١) زكاة لأنها تزكو وتنمو حالة كونكم ﴿تُرِيدُونَ﴾ بها ﴿وَجْهَ اللَّهِ﴾ سبحانه، وتقصدون ثوابه ورضاه، لا ثواب غيره من المكافأة، ولا رضاه بأن يكون رياءً وسمعةً ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المعطون على الصفة المذكورة ﴿هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾؛ أي: الذين أضعفت صدقاتهم في الآخرة بكثرة الثواب من عشرة أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وبحفظ أموالهم في الدنيا، وبالبركة لها، و ﴿الْمُضْعِفُونَ﴾ بكسر العين على قراءة الجمهور: جمع مضعف، والمضعف: ذو الإضعاف في الأجر، كالمقوي لذي القوة، والموسر لذي اليسار، وقرأ أبيّ: ﴿المضعفون﴾ بفتح العين اسم مفعول، وفي عدوله عن الخطاب إلى الإخبار إيماء إلى أنه لم يخص به المخاطبون، بل هو عام في جميع المكلفين إلى قيام الساعة.
واعلم: أن المال عارية مستردة في يد الإنسان، ولا أحد أجهل ممن لا ينقذ نفسه من العذاب الدائم بما لا يبقى في يده، وقد تكفل الله سبحانه بإعواض المنفق.
٤٠ - ولما بين أنه لا زيادة، إلا فيما يزيده، ولا خير إلا فيما يختاره.. أكد ذلك بقوله: ﴿اللَّهُ﴾ الذي لا تصح العبادة إلا له، ولا ينبغي أن تكون لغيره هو ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ وأوجدكم من العدم، ولم تكونوا شيئًا؛ أي: خلقكم في بطون أمهاتكم أطوارًا، ثم أخرجكم وفيكم الروح ﴿ثُمَّ رَزَقَكُمْ﴾ ما به قوام شؤونكم في هذه
ثم وبخ هؤلاء المشركين، الذين يعبدون الآلهة والأصنام، التي لا تخلق ولا ترزق، ولا تحمى ولا تميت بقوله: ﴿هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ﴾ التي زعمتم أنها شركاء لله، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم آلهة، ويجعلون لهم نصيبًا من أموالهم. ﴿مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء.
﴿مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي (١): لا يفعل أحد قط شيئًا من تلك الأفعال، والاستفهام فيه: للإنكار بمعنى النفي، و ﴿مِنْ﴾ الأولى والثانية، تفيدان شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال، والثالثة مزيدة لتعميم المنفي، وكل منها مستعملة للتأكيد، لتعجيز الشركاء، والتقدير: من الذي يفعل شيئًا من ذلكم من شركائكم؟ ومعلوم أنهم يقولون: ليس فيهم من يفعل شيئًا من ذلك، فتقوم عليهم الحجة.
والمعنى: أي هل من آلهتكم وأوثانكم الذين جعلتموهم شركاء لي في العبادة من يخلق أو يرزق أو ينشر الميت يوم القيامة؟ وإجمال المعنى: أن شركاءكم لا يفعلون شيئًا من ذلك، فكيف يعبدون من دون الله تعالى.
ثم برأ سبحانه نفسه من هذه الفرية التي افتروها فقال: ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أي: تنزه الله، أو نزهوه تنزيهًا بليغًا ﴿وَتَعَالَى﴾ تعاليًا كبيرًا ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾؛ أي: عن إشراك المشركين؛ أي: تنزه عن الشريك، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يشركون﴾ بياء الغيبة، والأعمش، وابن وثاب: بتاء الخطاب.
(٢) البحر المحيط.
قال الشيخ أبو حامد رحمه الله: إذا كان مع الرياء قصد الثواب راجحًا.. فالذي نظنه - والعلم عند الله - أن لا يحبط أصل الثواب، ولكن ينقص منه، فيكون الحديث محمولًا على ما إذا تساوى القصدان، أو يكون قصد الرياء أرجح.
قال الكلاباذي رحمه الله: العمل إذا صح في أوله. لم يضره فساد بعد، ولا يحبطه شيء دون الشرك؛ لأن الرياء: هو ما يفعل العبد من أوله ليرائي به الناس، ويكون ذلك قصده ومراده عند أهل السنة والجماعة، لقوله تعالى: ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ ولو كان الأمر على ما زعم المعتزلة: من إحباط الطاعات بالمعاصي.. لم يجز اختلاطها واجتماعها، كذا في "شرح المشارق" لابن الملك.
قال في "الأشباه": لو افتتح الصلاة خالصًا لله تعالى، ثم دخل في قلبه الرياء، فهو على ما افتتح، والرياء: أن يكون الشخص بحيث لو خلا عن الناس لا يصلي، وإذا كان معهم يصلي، فأما لو صلى مع الناس يحسنها، ولو صلى وحده.. لا يحسن، فله ثواب أصل الصلاة دون الإحسان، ولا يدخل الرياء في الصوم. انتهى.
فعلى العاقل أن يجتهد في طريق المراقبة والمشاهدة، حتى يلاحظ الله تعالى في كل فعل باشره من مأموراته، ولا يلاحظ غيره من مخلوقاته، حتى إن الراعي إذا صلى عند الأغنام، لا يلتفت إليها، إذ وجودها وعدمها سواء، فالرياء
٤١ - ﴿ظَهَرَ﴾؛ أي: كثر وشاع ﴿الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ﴾ (١) كالجدب، وقلة النبات والربح في التجارات، والريع في الزراعات، والدر والنسل في الحيوانات، ومحق البركات من كل شيء، ووقوع الموتان بضم الميم كبطلان، الموت الشائع في الماشية، وظهور الوباء والطاعون في الناس، وكثرة الحرق - بفتحتين - اسم من الإحراق، وغلبة الأعداء، ووجود الفتن والحرب، ونحو ذلك من المضار.
﴿وَ﴾ في ﴿الْبَحْرِ﴾ كالغرق بفتحتين - اسم من الإغراق - وعمي دواب البحر، بانقطاع المطر، فإن المطر لها كالكحل للإنسان، وإخفاق الغواصين؛ أي: خيبتهم من اللؤلؤ، فإنه يتكون من مطر نيسان، فإذا انقطع.. لم ينعقد.
والظاهر من الآية (٢): ظهور ما يصح إطلاق إسم الفساد عليه، سواء كان راجعًا إلى أفعال بني آدم من معاصيهم، واقترافهم السيئات، وتقاطعم وتظالمهم وتقاتلهم، أو راجعًا إلى ما هو من جهة الله سبحانه، بسبب ذنوبهم، كالقحط وكثرة الخوف، والبر والبحر: هما المعروفان المشهوران، وقيل: البر: الفيافي، والبحر: القرى التي على ماء، قاله عكرمة، والعرب تسمي الأمصار: البحار، قال مجاهد: البر: ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر: ما كان على شط نهر، والأول أولى.
والباء في قوله: ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ للسببية، و ﴿ما﴾ إما موصولة أو مصدرية؛ أي: بسبب شؤم المعاصي، التي كسبها الناس في البر والبحر، بمزاولة الأيدي غالبًا، أو بسبب كسبهم، ففيه إشارة إلى أن الكسب من العبد، والتقدير والخلق من الله تعالى، فالطاعة كالشمس المنيرة، تنتشر أنوارها في الآفاق، فكذا الطاعة، تسري بركاتها إلى الأقطار، فهي من تأثيرات لطفه تعالى، والمعصية
(٢) الشوكاني.
قيل (١): أول فساد ظهر في البر قتل قابيل أخاه هابيل، وفي البحر أخذ الجلندي الملك كل سفينة غصبًا، وفي المثل: أظلم من ابن الجلندي، بزيادة ابن كما في "إنسان العيون"، وكان من أجداد الحجاج، بينه وبينه سبعون جدًّا، وكانت الأرض خضرةً معجبة بنضارتها، يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرةً، وكان ماء البحر عذبًا، وكان لا تقصد الأسود البقر، فلما وقع القتل المذكور.. تغير ما على الأرض، وشاكت الأشجار؛ أي: صارت ذات شوك، وصار ماء البحر ملحًا مرًا جدًا، وقصد بعض الحيوان بعضًا، وتعلقت شوكة بنبي، فلعنها، فقالت: لا تلعني فإني ظهرت من شؤم ذنوب الآدميين.
و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ للعلة، والذوق: وجود الطعم بالفم، وكثر استعماله في العذاب، يعني: أفسد أسباب دنياهم بسوء صنيعهم، ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا، واقترفوا من الذنوب، والإعراض عن الحق، ويعذبهم بالبأساء والضراء والمصائب، وإنما (٢) قال: ﴿بَعْضَ﴾ لأن تمام الجزاء في الآخرة، ويجوز أن تكون اللام للعاقبة؛ أي: كان عاقبة ظهور الشرور منهم ذلك، نعوذ بالله من سوء العاقبة. ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عما كانوا عليه من الشرك والمعاصي والغفلات، وتتبع الشهوات، وتضييع الأوقات إلى التوحيد والطاعة، وطلب الحق والجهد في عبوديته، وتعظيم الشرع والتأسف على ما فات.
ففيه تنبيه على أن الله تعالى إنما يقضي بالجدوبة، ونقص الثمرات والنبات، لطفًا من جنابه في رجوع الخلق عن المعصية.
وقرأ الجمهور: ﴿لِيُذِيقَهُمْ﴾ بالياء، وقرأ السلمي، والأعرج، وأبو حيوة، وسلام، وسهل، وروح، وابن حسان، وقنبل من طريق مجاهد، وابن الصباح،
(٢) روح البيان.
ومعنى الآية (١): أي ظهر الفساد في العالم، بالحروب والغارات والجيوش والطائرات والسفن الحربية والغواصات، بما كسبت أيدي الناس، من الظلم وكثرة المطامع وانتهاك الحرمات، وعدم مراقبة الخلاق، وطرح الأديان وراء ظهورهم، ونسيان يوم الحساب، وأطلقت النفوس من عقالها، وعاثت في الأرض فسادًا إذ لا رقيب من وازع نفسي، ولا حسيب من دين يدفع عاديتها، ويمنع أذاها، فأذاقهم الله جزاء بعض ما عملوا من المعاصي والآثام، لعلهم يرجعون عن غيهم، ويثوبون. إلى رشدهم، ويتذكرون أن هناك يومًا يحاسب الناس فيه على أعمالهم، إنْ خيرًا.. فخير، وإن شرًا.. فشر، فيخيم العدل على المجتمع البشري، ويشفق القوي على الضعيف، ويكون الناس سواسية في المرافق العامة وحاجَّ المجتمع بقدر الطاقة البشرية.
واعلم: أن الله تعالى (٢) غيَّر بشؤم المعصية أشياء كثيرة، غير صورة إبليس واسمه، وكان اسمه الحارث وعزازيل فسماه: إبليس، وغير لون حام بن نوح، بسبب أنه نظر إلى سوأة أبيه فضحك، وكان أبوه نوح نائمًا، فأخبر بذلك فدعا عليه، فسوده الله تعالى فتولد منه الهند والحبشة، وغير الصورة على قوم موسى فصيرهم دمًا، وعلى قوم عيسى فصيرهم خنازير، وغير ماء القبط ومالهم فصيرهما دمًا وحجرًا، وغير العلم على أمية بن أبي الصلت، وكان من بلغاء العرب - حيث كان نائمًا فأتاه طائر، وأدخل منقاره في فيه، فلما استيقظ نسي جميع علومه، وغير اللسان على رجل بسبب العقوق، حيث نادته والدته، فلم يجب فصار أخرس، وغير الإيمان على برصيصا، بسبب شرب الخمر والزنا بعدما عبد الله تعالى مئتين وعشرين سنة إلى غير ذلك.
(٢) روح البيان.
٤٢ - وبعد أن بين (٢): أن ظهور الفساد كان نتيجة أفعالهم، أرشدهم إلى أن من كان قبلهم، وكانت أفعالهم كافعالهم، أصابهم بعذاب من عنده، وصاروا مثلًا لمن بعدهم، وعبرةً لمن خلفهم فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لأهل مكة: ﴿سِيرُوا﴾ أيها المشركون وسافروا ﴿فِي﴾ نواحي ﴿الْأَرْضِ﴾ وأرجائها؛ أي: في أرض الأمم المكذبة المهلكة ﴿فَانْظُرُوا﴾ بأعينكم ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: كيف صار آخر آمر الذين كذبوا رسلهم من قبلهم، حين أهلكوا فكانوا كأمس الدابر، فإن منازلهم كانت خاويةً، وأراضيهم مقفرةً، موحشةً، كعاد وثمود وقوم لوط من طوائف الكفار.
والنظر على وجهين (٣): يقال: نظر إليه، إذا نظر بعينه، ونظر فيه: إذا تفكر بقلبه، وهاهنا قال: فانظروا، ولم يقل: إليه أو فيه، ليدل على مشاهدة الآثار ومطالعة الأحوال.
﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ﴾؛ أي: كان أكثر الذين من قبل ﴿مُشْرِكِينَ﴾ فأهلكوا بشركهم، وهو استئناف للدلالة على أن ما أصابهم لفشو الشرك فيما بينهم، أو كان الشرك
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والمعنى: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك: سيروا في البلاد، فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم، وكذبوا رسله، كيف أهلكناهم بعذاب منا، وجعلناهم عبرةً لمن بعدهم.
ثم بين سبب ما حاق بهم من العذاب، فقال: ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ فما حل بهم من العذاب، كان جزاء وفاقًا لكفرهم بآيات ربهم، وتكذيبهم رسله.
٤٣ - ولما بين (١) الله تعالى أن المعاصي والشرك سبب لسخط الله سبحانه.. أمر رسوله بأن يستقيم على الدين القويم، تثبيتًا للمؤمنين على ما هم عليه، إلا أنه خاطب به سيدهم تعظيمًا له، ولكونه واسطةً بين الله وبين الأمة، فقال: ﴿فَأَقِمْ﴾ يا محمد واصرف وحول ﴿وَجْهَكَ﴾؛ أي: ذاتك قلبًا وقالبًا ﴿لِلدِّينِ الْقَيِّمِ﴾؛ أي: إلى الدين البليغ الاستقامة، الذي ليس فيه عوج أصلًا، وهو دين الإِسلام، والخطاب هنا: للنبي - ﷺ - ولكن المراد أمته، والفاء فيه: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنه قد ظهر الفساد في الأرض بسبب ما كسبت أيدي الناس، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: فأقم أنت وأمتك وجوهكم للدين القيم، واثبتوا عليه.
وقيل المعنى: أوضح الحق وبالغ في الإعذار ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ هو يوم القيامة ﴿لَا مَرَدَّ لَهُ﴾؛ أي: لذلك اليوم، وهو مصدر بمعنى الرد ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ إما (٢) متعلق بيأتي؛ أي: من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد؛ أي: لا يقدر أحد على رده ودفعه، كقوله تعالى: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا﴾ ولا ينفع نفسًا إيمانها حينئذٍ، أو متعلق بمرد؛ لأنه مصدر؛ أي: لا يرده الله تعالى بعد أن يجيء به، لتعلق إرادته القديمة بمجيئه، وقد وعد ولا خلف في وعده ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ
(٢) النسفي.
٤٤ - كما قال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ﴾ بالله ورسوله في الدنيا ﴿فَعَلَيْهِ﴾ لا على غيره ﴿كُفْرُهُ﴾؛ أي: وبال كفره وجزاؤه، وهو النار المؤبدة، ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا﴾؛ أي: وحد الله سبحانه، وعمل بالطاعة الخالصة بعد التوحيد ﴿فَلِأَنْفُسِهِمْ﴾ وحدها ﴿يَمْهَدُونَ﴾؛ أي: يسوون منزلًا في الجنة، ويفرشون ويهيئون له، وأصل (١) المهد: إصلاح المضجع للصبي، ثم استعير لغيره، كما في "كشف الأسرار" ومن التمهيد: تمهيد المضاجع في القبور، فإنه بالعمل الصالح يصلح منزل القبر ومأوى الجنة، وتقديم الظرف في الموضعين: للدلالة على الاختصاص.
٤٥ - ثم بين العلة في تفرقهم، فقال: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ الله سبحانه ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا به وبرسوله في الدنيا، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ بامتثال المأمورات، وهي ما أريد به وجه الله تعالى ورضاه الجزاء الجميل، والأجر الجزيل ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وكرمه وإحسانه لا وجوبًا عليه، وهو متعلق بـ ﴿يجزي﴾، وهو متعلق بيصدعون؛ أي: يتفرقون بتفريق الله تعالى فريقين، ليجزي كلًّا منهما بحسب أعمالهم، فيجازي المؤمنين بالحسنى من فضله، فيكافىء الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مئة ضعف إلى ما شاء الله من المنح والعطايا.
وقال ابن عطية: ومقابله محذوف لدلالة ما بعده عليه، تقديره: ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله، والكافرين بعدله.
وحيث كان جزاء المؤمنين هو المقصود بالذات، أبرز ذلك في معرض الغاية، وعبر عنه بالفضل، لما أن الإثابة عند أهل السنة بطريق التفضل، لا بطريق الوجوب، كما عند المعتزلة.
وأشار إلى جزاء الفريق الآخر بقوله: ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ به وبرسوله؛ أي: إنه يبغضهم ولا يرضى أعمالهم، وذلك يستدعي
وروي أن الله سبحانه، أوحى إلى موسى عليه السلام: "ما خلقت النار بخلًا منى، ولكن أكره أن أجمع أعدائي وأوليائي في دار واحدة". نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينزلنا دار أوليائه، ونستعيذ به أن يدخلنا دار أعدائه، مع أحبابنا وأحبائنا، وجميع المسلمين. آمين.
الإعراب
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤)﴾.
﴿وَمِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مِنْ آيَاتِهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿يُرِيكُمُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أول مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم. ﴿الْبَرْقَ﴾: مفعول ثان؛ لأن الرؤية هنا بصرية تعدت بالهمزة إلى مفعولين، والجملة الفعلية، مع أن المصدرية المحذوفة - لأن أصله أن يريكم -: في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأً مؤخرًا، تقديره: وإراءته إياكم البرق من آياته تعالى، والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿خَوْفًا وَطَمَعًا﴾: منصوبان على أنهما مفعولان لأجله، وقد اعترض على هذا الإعراب، بأن من حق المفعول له أن يكون فعلًا لفاعل الفعل المعلل، والخوف والطمع ليسا كذلك؟ والجواب عن هذا الاعتراض بأن يقال: بأنه على حذف مضاف؛ أي: يريكم إراءة خوف صاراءة طمع، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وانتصب انتصابه، ويجوز أن يكونا حالين من كاف يريكم؛ أي: خائفين وطامعين. ﴿وَيُنَزِّلُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿يُنَزِّلُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿يُنَزِّلُ﴾. ﴿مَاءً﴾: مفعول به، والجملة: في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يُرِيكُمُ﴾. ﴿فَيُحْيِي﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿يُحْيِي﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على ﴿يُنَزِّلُ﴾، ﴿بِهِ﴾ متعلقان بـ ﴿يُحْيِي﴾ ﴿الْأَرْضَ﴾: مفعول به، ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من الأرض. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: جار
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥)﴾.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿أَن﴾: حرف مصدر، ﴿تَقُومَ السَّمَاءُ﴾: فعل وفاعل منصوب بأن المصدرية، ﴿وَالْأَرْضُ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاءُ﴾. والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأً مؤخرًا، والتقدير: وقيام السماء والأرض بأمره كائن من آياته، والجملة الاسمية: معطوفة على الجمل التي قبلها، ﴿بِأَمْرِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَقُومَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿دَعَاكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿دَعْوَةً﴾: مفعول مطلق، ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿دَعَاكُمْ﴾. والجملة الفعلية: في محل الخفض بـ ﴿إِذَا﴾ على كونها فعل شرط لها. ﴿إِذَا﴾: فجائية قائمة مقام الفاء في ربط الجواب بالشرط، حرف لا محل لها من الإعراب. ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿تَخْرُجُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: جواب إذا لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿إِذَا﴾: في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿أَنْ تَقُومَ﴾ على كونها مبتدأً مؤخرًا، والتقدير: وقيام السماء والأرض بأمره، ثم خروجكم من الأرض وقت دعوته إياكم كائن من آياته.
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (٢٦)﴾.
﴿وَلَهُ﴾: خبر مقدم، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على الجمل التي قبلها، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء به العموم، ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿قَانِتُونَ﴾. ﴿قَانِتُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور في قوله: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾.
{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: معطوفة على الجمل التي قبلها، ﴿يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة الموصول، ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿يبدؤُا﴾. ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَهْوَنُ﴾، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من الإعادة المفهومة من ﴿يُعِيدُ﴾؛ أي: حالة كون الإعادة أهون عليه من البدء بالنظر إلى ما نعرفه. ﴿وَلَهُ﴾: خبر مقدم، ﴿المَثَلُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿الْأَعْلَى﴾: صفة لـ ﴿الْمَثَلُ﴾ الجملة: معطوفة على ما قبلها، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: حال من ﴿الْمَثَلُ﴾، أو من ﴿الْأَعْلَى﴾، أو من الضمير فيه، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: معطوفة على ما قبلها، ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثان.
﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨)﴾.
﴿ضَرَبَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿ضَرَبَ﴾، ﴿مَثَلًا﴾: مفعول أول له، ﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾: صفة لـ ﴿مَثَلًا﴾، ﴿هَلْ﴾: حرف استفهام للاستفهام الإنكاري، ﴿لَكُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْ مَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿شُرَكَاءَ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فعل وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: مما ملكته أيمانكم، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿شُرَكَاءَ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿فِي مَا﴾ متعلق بشركاء، ﴿رَزَقْنَاكُمْ﴾: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: فيما رزقناكموه، والجملة الاسمية: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، مبينة لضرب المثل. ﴿فَأَنْتُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة واقعة في جواب الاستفهام، ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ، ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿سَوَاءٌ﴾. ﴿سَوَاءٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة الاستفهامية، وجملة ﴿تَخَافُونَهُمْ﴾: في
﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٩)﴾.
﴿بَلِ﴾: حرف إضراب وابتداء، ﴿اتَّبَعَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، وجملة ﴿ظَلَمُوا﴾: صلة الموصول. ﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾: مفعول ﴿اتَّبَعَ﴾، ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: جار ومجرور حال من الموصول، ﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿يَهْدِي﴾: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة ﴿اتَّبَعَ﴾، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَهْدِي﴾، ﴿أَضَلَّ اللَّهُ﴾: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: من أضله الله. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية، ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿مِنْ نَاصِرِينَ﴾: مبتدأ مؤخر، و ﴿مِنْ﴾: زائدة. ويجوز أن تجعل ﴿ما﴾: حجازية عند من يجيز تقديم خبرها على اسمها، والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة قبلها.
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١)﴾.
﴿فَأَقِمْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان حال المشركين اتباع الهوى، والإعراض عن الهدى، وأردت
﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)﴾.
﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور بدل من قوله: ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ بإعادة الجار، ﴿فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: صلة الموصول، ﴿وَكَانُوا شِيَعًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره معطوف على جملة الصلة، ﴿كُلُّ حِزْبٍ﴾: مبتدأ
﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾، والظرف: متعلق بالجواب الآتي، ﴿دَعَوْا رَبَّهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: جواب ﴿إِذَا﴾، وجملة ﴿إِذَا﴾: مستأنفة، ﴿مُنِيبِينَ﴾: حال من فاعل ﴿دَعَوْا﴾، ﴿إليه﴾: متعلق بـ ﴿مُنِيبِينَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿أَذَاقَهُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول، ﴿مِنْهُ﴾: حال من ﴿رَحْمَةً﴾، ﴿رَحْمَةً﴾: مفعول ثان لـ ﴿أَذَاقَهُمْ﴾، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾ على كونها فعل شرط لها، ﴿إذَا﴾: فجائية رابطة لجواب ﴿إِذَا﴾ ﴿فَرِيقٌ﴾: مبتدأ، ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة لـ ﴿فَرِيقٌ﴾، ﴿بِرَبِّهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُشْرِكُونَ﴾، وجملة ﴿يُشْرِكُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: جواب ﴿إِذَا﴾ وجملة ﴿إذَا﴾: معطوفة على جملة ﴿إِذَا﴾ الأولى.
﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤)﴾.
﴿لِيَكْفُرُوا﴾: ﴿اللام﴾: لام كي، أو لام العاقبة، وقيل: هي لام الأمر، والمراد بالأمر، التهديد والوعيد، ﴿يَكْفُرُوا﴾: فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد اللام: و ﴿الواو﴾: فاعله، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾: تقديره: لكفرهم بما آتيناهم. والجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُشْرِكُونَ﴾، ﴿آتَيْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني: محذوف، تقديره: بما آتيناهموه، والجملة: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿فَتَمَتَّعُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿تَمَتَّعُوا﴾: فعل أمر، و ﴿الواو﴾: فاعل، والجملة: معطوفة على ﴿يَكْفُرُوا﴾، ولكن فيه التفات عن
﴿أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)﴾.
﴿أَمْ﴾: منقطعة بمعنى بل الإضرابية، و ﴿همزة﴾: الاستفهام الإنكاري، ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنَا﴾، وفيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة، للإيذان بالإعراض عنهم، وبعدهم عن ساحة الخطاب. اهـ. "شيخنا". كما سيأتي في مبحث البلاغة، ﴿سُلْطَانًا﴾: مفعول به، ﴿فَهُوَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿يَتَكَلَّمُ﴾: خبره، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة ﴿أَنْزَلْنَا﴾، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَتَكَلَّمُ﴾، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُشْرِكُونَ﴾، وجملة ﴿يُشْرِكُونَ﴾: خبر ﴿كَانُ﴾، وجملة ﴿كَان﴾: صلة الموصول.
﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿أَذَقْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿النَّاسَ﴾: مفعول أول، ﴿رَحْمَةً﴾: مفعول ثان، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، ﴿فَرِحُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِهَا﴾: متعلق به، والجملة: جواب ﴿إِذَا﴾، وجملة ﴿إِذَا﴾: معطوفة على جملة ﴿إِذَا﴾ الأولى، وما بينهما اعتراض. ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿تُصِبْهُمْ﴾ فعل مضارع ومفعول به مجزوم بـ ﴿إن﴾: الشرطية. ﴿سَيِّئَةٌ﴾: فاعل، ﴿بِمَا﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الجر بالباء، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿تُصِبْهُمْ﴾. ﴿قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما قدمته أيديهم، ﴿إِذَا﴾: فجائية رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَقْنَطُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية: في محل الجزم على كونها جواب
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧)﴾.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف معلوم من السياق، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿لَمْ﴾: حرف جزم، ﴿يَرَوْا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: ألم يشاهد هؤلاء المشركون، ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق، ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾: خبره، ﴿لِمَنْ﴾: متعلق بـ ﴿يَبْسُطُ﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿وَيَقْدِرُ﴾ معطوف على ﴿يَبْسُطُ﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿يَرَوْا﴾، ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿فِي ذَلِكَ﴾ خبرها مقدم، ﴿لَآيَاتٍ﴾: اسمها مؤخر، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿لِقَوْمٍ﴾: صفة ﴿لَآيَاتٍ﴾. وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: صفة قوم. وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨)﴾.
﴿فَآتِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره، إذا عرفت أن القبض والبسط كليهما بيد الله سبحانه، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك أيها المكلف: آت. ﴿آت﴾: فعل أمر وفاعل مستتر مبني على حذف حرف العلة، ﴿ذَا الْقُرْبَى﴾: مفعول به أول، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿حَقَّهُ﴾: مفعول ثان ومضاف إليه، ﴿وَالْمِسْكِينَ﴾: معطوف على ﴿ذَا الْقُرْبَى﴾، ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾: معطوف عليه أيضًا. ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾ وجملة: ﴿يُرِيدُونَ﴾: صلة الموصول. ﴿وَجْهَ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿وَأُولَئِكَ﴾: مبتدأ أول، ﴿هُمُ﴾: مبتدأ ثان، ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني: خبر للأول، وجملة الأول: مقول لجواب إذا.
﴿وَمَا آتَيْتُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة أو استئنافية، ﴿مَا﴾: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا، ﴿آتَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿ما﴾: الشرطية على كونها فعل شرط لها، والمفعول الثاني لـ ﴿آتِ﴾ محذوف، تقديره: وما آتيتموه ﴿مِنْ رِبًا﴾: حال من الضمير المحذوف، ﴿لِيَرْبُوَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يربو﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، ﴿يربو﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿ما﴾ أو على ﴿رِبًا﴾. ﴿فِي أَمْوَالِ النَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿يربو﴾. والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾: تقديره لربائه في أموال الناس، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿آتَيْتُمْ﴾، ﴿فَلَا يَرْبُو﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب بالشرط وجوبًا لاقترانه بـ ﴿لا﴾ النافية. ﴿يربوا﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿ما﴾: الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿ما﴾: الشرطية في محل النصب معطوف على جملة قوله: ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى﴾: على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة، أو مستأنفة. ﴿مَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: الشرطية، ﴿آتَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿ما﴾: الشرطية. ﴿مِنْ زَكَاةٍ﴾: حال من الضمير المحذوف، ﴿تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: في محل النصب حال من فاعل ﴿آتَيْتُمْ﴾. ﴿فَاُؤلئكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة للجواب ﴿أولئك﴾: مبتدأ ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل ﴿الْمُضْعِفُونَ﴾: خبره. والجملة الاسمية: في محل الجزم على كونها جوابًا لـ ﴿ما﴾: الشرطية، وجملة ﴿ما﴾: الشرطية: معطوفة على جملة ﴿ما﴾ الأولى.
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِي﴾: خبر. ﴿خَلَقَكُمْ﴾: صلة الموصول، والجملة الاسمية، متسأنفة، ﴿ثُمَّ رَزَقَكُمْ﴾: معطوف على ﴿خَلَقَكُمْ﴾. ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾:
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١)﴾.
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة لتقرير ما عم في مختلف الأنحاء من البر والبحر، من مفسدة وظلم ولهو ولعب وسائر ما يطلق عليه الفساد الذي هو ضد الصلاح، ﴿فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾: متعلق بـ ﴿ظَهَرَ﴾ أو حال من الفساد، ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿ظَهَرَ﴾ أيضًا، ﴿ما﴾: مصدرية أو موصولة، ﴿كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾: فعل وفاعل. والجملة: صلة لـ ﴿ما﴾: المصدرية؛ أي: بسبب كسبهم، أو صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: بسبب الذي كسبوه. ﴿لِيُذِيقَهُمْ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل متعلقة بمحذوف، تقديره: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ وعاقبهم ﴿لِيُذِيقَهُمْ﴾. وقيل: ﴿اللام﴾: لام العاقبة والصيرورة؛ لأن ذلك هو ماَلهم وعاقبتهم، وأجاز أبو البقاء تعلق ﴿اللام﴾ بـ ﴿ظَهَرَ﴾. ﴿يُذِيقَهُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أول منصوب بأن مضمرة بعد ﴿اللام﴾، ﴿بَعْضَ الَّذِي﴾: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر محرور بـ ﴿اللام﴾ تقديره: لإذاقته إياهم بعض الدين عملوا؛ أي: جزاءه في الدنيا، ﴿عَمِلُوا﴾: فعل وفاعل
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة، ﴿سِيرُوا﴾: فعل أمر وفاعل. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿فَانْظُرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. انظروا: فعل وفاعل معطوف على ﴿سِيرُوا﴾. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم. ﴿كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ﴾: فعل ناقص واسمه ومضاف إليه، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور صلة الموصول. وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل النصب مفعول ﴿انْظُرُوا﴾: معلق عنها باسم الاستفهام، ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان أن ما أصابهم كان لفشو الشرك في أكثرهم والفساد والمعاصي في أقلهم.
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٤٥)﴾.
﴿فَأَقِمْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنه قد ظهر الفساد في الأرض، بسبب ما كسبت أيدي الناس، وأردت بيان ما هو اللازم لك ولأمتك.. فأقول لك: ﴿أَقِمْ وَجْهَكَ﴾ الخ، ﴿أَقِمْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، ﴿وَجْهَكَ﴾: مفعول به، ﴿لِلدِّينِ﴾: متعلق بـ ﴿أَقِمْ﴾. ﴿القيم﴾: صفة ﴿لِلدِّينِ﴾، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿مِنْ قَبْلِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿أَقِمْ﴾، أو من ﴿الدين﴾. ﴿أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية، والجملة: في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من
﴿يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾ البرق: لمعان السحاب. وفي "إخوان الصفا": البرق: نار وهواء. ﴿خَوْفًا﴾؛ أي: إخافةً من الصاعقة، خصوصًا لمن كان في البرية، كقولهم: فعلته رغمًا للشيطان؛ أي: إرغامًا له.
﴿وَطَمَعًا﴾؛ أي: إطماعًا في الغيث، لا سيما لمن كان مقيمًا.
﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾؛ أي: مطرًا، قال في "إخوان الصفا": المطر: هو الأجزاء المائية، إذا التام بعضها مع بعض وبردت وثقلت رجعت إلى الأرض.
﴿فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ﴾: والأرض: جسم غليظ أغلظ ما يكون من الأجسام، واقف في مركز العالم مبين لكيفية الجهات الست كما مر.
﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾: من القنوت، وهو الطاعة، والمراد: طاعة الإرادة، لا طاعة العبادة؛ أي: منقادون لما يريده بهم من حياة وموت وبعث وصحة وسقم وعز وذل، لا يمتنعون عليه تعالى في شأن من شؤونه.
﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾؛ أي: أسهل وأيسر بالنظر إلى ما نعرفه، قال في "القاموس": هان هونًا، بالضم، وهوانًا ومهانةً: ذل، وهونًا: سهل، فهو هين، بالتشديد والتخفيف وأهون. اهـ.
﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾؛ أي: الوصف الأعلى: العجيب الشأن من القدرة العامة، والحكمة التامة، وسائر صفات الكمال التي ليس لغيره ما يدانيها، فضلًا عما يساويها.
﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا﴾: يقال: ضرب الدرهم اعتبارًا بضربه بالمطرقة، وقيل له: الطبع اعتبارًا بتأثير السكة فيه، وضرب المثل: هو من ضرب الدرهم، وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره، والمثل: عبارة عن قول في شيء يشبه قولًا في شيء آخر، بينهما مشابهة، لتبيين أحدهما بالآخر وتصويره.
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ﴾ وأقم من أقام العود وقومه، إذا عدله، والمراد:
﴿حَنِيفًا﴾: وفي "المفردات" الحنف: ميل عن الضلال إلى الاستقامة، وتحنف فلان: تحرى طريق الاستقامة، وسمت العرب كل من اختتن أو حج: حنيفًا، تنبيهًا على أنه على دين إبراهيم - عليه السلام -.
﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ والفطرة: الخلقة وزنًا ومعنًى، وقولهم: صدقة الفطرة؛ أي: صدقة إنسانٍ مفطورٍ؛ أي: مخلوق فيؤول إلى قولهم: زكاة الرأس، والمراد بالفطرة هاهنا: هي الحالة التي خلق الله الناس عليها، من القابلية للتوحيد ودين الإِسلام، والتهيؤ لإدراكه عن غير إباء عنه وإنكار له. قال الراغب: فطرة الله ما فطر؛ أي: أبدع وركز في الناس من قوتهم على معرفة الإيمان.
﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾: هو فطرته المذكورة أولًا.
﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾؛ أي: المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾: هو من أناب الرباعي إذا رجع مرةً بعد أخرى، ويقال: ناب نوبةً ونوبًا: إذا رجع مرة بعد أخرى؛ أي: راجعين إليه بالتوبة وإخلاص العمل.
﴿وَكَانُوا شِيَعًا﴾؛ أي: فرقًا تشايع كل فرقة إمامها الذي مهد لها دينها. وقرره ووضع أصوله.
﴿كُلُّ حِزْبٍ﴾: الحزب: الجماعة من الناس، والسلاح، وجند الرجل، وأصحابه الذين على رأيه، والنصيب والقسم من القرآن أو غيره، والجمع أحزاب، وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب، وإن لم يلق بعضهم بعضًا.
﴿سُلْطَانًا﴾: والسلطان: الحجة، تقول: له سلطان مبين؛ أي: حجة واضحة، وعبارة "القاموس": والسلطان: الحجة وقدرة الملك. اهـ.
والسلطان: يذكر؛ لأنه بمعنى الدليل، ويؤنث؛ لأنه بمعنى الحجة. وقيل: هو جمع سليط للدهن، كرغيف ورغفان.
﴿يَقْنَطُونَ﴾؛ أي: ييئسون من الرحمة، وفي "المصباح": هو بفتح النون وكسرها سبعيتان، وبابه ضرب وتعب. وفي "القاموس": قنط كنصر وضرب وحسب وكرم قنوطًا، وكفرح قنطًا وقناطةً، كمنع وحسب، وهاتان على الجمع بين اللغتين، يئس فهو قنط كفرح، وقنطه تقنيطًا آيسة، والقنط: المنع، وزبيب الصبي. انتهى.
﴿حَقَّهُ﴾: هو صلة الرحم والبر به.
﴿وَالْمِسْكِينَ﴾: هو المعدم الذي لا مال له.
﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾: هو المسافر، احتاج إلى مال وعز عليه إحضاره من بلده، ووسائل المواصلات الحديثة الآن تدفع مثل هذه الحاجة.
﴿رِبًا﴾؛ أي: زيادة، والمراد بها هنا: الهدية التي يتوقع بها مزيد مكافأة.
﴿فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾؛ أي: فلا يبارك فيه.
﴿الْمُضْعِفُونَ﴾؛ أي: الذين يضاعف الله لهم الثواب، جمع مضعف، وهو اسم فاعل من أضعف، إذا صار ذا ضعف بكسر فسكون، كأن يضاعف له ثواب ما أعطاه، كأقوى وأيسر، إذا صار ذات قوةٍ ويسار فهو لصيرورة الفاعل، ذا أصلهُ.
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ﴾ في "القاموس": فسد كنصر وكرم فسادًا: ضد صلح، فهو فاسد، والفساد أخذ المال ظلمًا، والجدب والمفسدة: ضد المصلحة. اهـ.
﴿يَمْهَدُونَ﴾: وفي "المختار": ومهد الفراش بسطه ووطأهُ. اهـ؛ أي: يتخذون ويهيئون منازلهم، ولتسببهم في تهيئة المنازل لهم وتمهيدها واتخاذها نسب إليه. اهـ. "شيخنا".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين قوله: ﴿خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ وبين ﴿يَبْسُطُ﴾، ﴿وَيَقْدِرُ﴾ وبين ﴿يُمِيتُكُمْ﴾، و ﴿يُحْيِيكُمْ﴾، وبين ﴿يَبدَؤُا﴾، و ﴿يُعِيدُهُ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ﴾ وقوله: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ﴾ وفي قوله: ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ للتسجيل عليهم بوصف الظلم؛ أي: بأنهم في ذلك الاتباع ظالمون، وفيه أيضًا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إهانةً لهم، وإيذانًا بأنهم لا يتسحقون الخطاب.
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا﴾ وبين قوله: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿فَهُوَ يَتَكَلَّمُ﴾ كما تقول كتابه ناطق بكذا، وهذا مما نطق به القرآن، ومعناه الدلالة والشهادة، فهو يشهد بشركهم، أو بالذي يشركون به.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ﴾، وفيه الكناية أيضًا لأن قوله: ﴿لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ﴾ كناية، لأن الزيادة التي يأخذها المرابي من أموال الناس، لا يملكها أصلًا، فالظرفية: هي موضع الكناية.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة للتعظيم، فهو أمدح من أن يقول لهم: فأنتم المضعفون، وفيه حذف المفعول به؛ أي: ثوابهم.
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا﴾ وقوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ﴾.
ومنها: الطباق بين البر والبحر في قوله: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ بإطلاق الجزء وإرادة الكل.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ
ومنها: جناس المناسبة اللفظي؛ لأن الجناس أصلين: وهما: جناس المزاوجة، وجناس المناسبة.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ حيث استعار الصدع بمعنى: الشق في الأجسام الصلبة، للصدع بمعنى التفريق، فاشتق من الصدع بمعنى التفريق ﴿يَصَّدَّعُونَ﴾ بمعنى يتفرقون على سبيلى الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ شبه من قدم الأعمال الصالحة بمن يمهد فراشه ويوطئه للنوم عليه، لئلا يصيبه في مضجعه ما يؤذيه، وينغص عليه مرقده.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ فإن عدم محبته تعالى، كناية عن بغضه الموجب لغضبه، المستتبع للعقوبة لا محالة.
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (٦٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك.. ذكر ظهور الصلاح، والكريم لا يذكر لإحسانه عوضًا، ويذكر لعقابه سببًا، لئلا يتوهم به الظلم، فذكر من أعلام القدرة: إرسال الرياح مبشرات
وعبارة "المراغي" هنا: لما ذكر سبحانه أن الفساد ظهر في البر والبحر، بسبب الشرك والمعاصي.. نبّههم إلى دلائل وحدانيته، بما يُشاهدونه أمامهم، من إرسال الرياح بالأمطار فتحيا به الأرض بعد موتها، وجري الفلك حاملةً لما هم في حاجة إليه، مما فيه غذاؤهم، وعليه مدار حياتهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر (١) البراهين الساطعة، الدالة على الوحدانية والبعث والنشور، ولم يرعوِ بها المشركون، بل لجوافي طغيانهم يعمهون.. سلى رسوله - ﷺ - فذكر له أنك لست أول من كُذب، فكثير ممن قبلك جاؤوا أقوامهم بالبينات، فلم تغنهم الآيات والنذر، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر، ونصرنا رسلنا ومن آمن بهم، فلا تبتئس بما كانوا يعملون، ولنجرين عليك وعلى قومك سنّتنا، ولننتقمن منهم، ولننصرنك عليهم فالعاقبة للمتقين.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٢) سلى رسوله - ﷺ - على ما يلاقيه من أذى قومه، ببيان أنه ليس ببدع في الرسل، فكأين من رسول قبله قد كُذب، ثم دالت الدولة على المكذبين، ونصر الله رسوله والمؤمنين.. أعاد الكرة مرة أخرى، فأتبع البرهان بالبرهان، لإثبات الوحدانية، وإمكان البعث والنشور، بما يشاهد من الأدلة في الآفاق، مرشدةً إلى قدرته وعظيم رحمته، ثم بما يرى في الأرض الموات من إحيائها بالمطر، وهو دليل لائح يشاهدونه ولا يغيب عنهم الحين بعد الحين، والفينة بعد الفينة، أفليس فيه حجة لمن اعتبر ومقنع لمن ادكر.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر صنوف الأدلة، ثم ضرب المثل على توحيده،
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه (١) لما ذكر دلائل الآفاق على وحدانيته.. أردفها دلائل الأنفس، فذكر خلق الأنفس في أطوارها المختلفة، من ضعف إلى قوة، ثم انتكاسها وتغيير حالها من قوة إلى ضعف، ثم إلى شيخوخة وهرم، وبين أنه العلم بها في مختلف أحوالها، القدير على تغييرها، واختلاف أشكالها.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها؛ أنه تعالى لما ذكر فيما سلف بدء النشأة الأولى، وذكر الإعادة والبعث، وأقام عليه الأدلة في شتى السور، وضرب له الأمثال.. أردف ذلك بذكر أحوال البعث، وما يجري فيه من الأفعال والأقوال، من الأشقياء والسعداء، ليكون في ذلك عبرة لمن يدكر.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر (٢) من الأدلة على الوحدانية والبعث ما ذكر، وأعاد وكرر بشتى البراهين، وبديع الأمثال.. أردف ذلك بأنه لم يبق بعد هذا زيادةً لمستزيد، وأن الرسول - ﷺ - قد أدى واجبه، وأن من طلب شيئًا بعد ذلك.. فهو معاند مكابر، فإن من كذب الدليل الواضح اللائح، لا يصعب عليه تكذيب غيره من الدلائل، ولقد أجاد من قال:
(٢) المراغي.
قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْس مِنْ رَمَدٍ | وَينْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ |
٤٦ - ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: ومن الدلائل الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته، وهو خبر مقدم لقوله: ﴿أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ﴾؛ أي: إرساله سبحانه وتهييجه وتحريكه الرياح؛ أي: رياح الرحمة لمنفعة الخلق، وهي ريح الشمال والصبا والجنوب، فإنها رياح الرحمة، وأما الدبور، فإنها ريح العذاب، ومنه قوله عليه السلام: "اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا". قال في "القاموس" (١): الشمال بالفتح ويكسر، ما مهبه بين مطلع الشمس وبنات نعش، أو من طلع الشمس إلى مسقط النسر الطائر، ولا تكاد تهب ليلًا، والجنوب: ريح تخالف الشمال، مهبه من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، والصبا: ريح تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، ومقابلتها الدبور، والصبا: موصوفة بالطيب والروح، لانخفاضها عن برد الشمال، وارتفاعها عن حر الجنوب، وفي الحديث: "الريح من روح الله تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها".
وقرأ الجمهور: ﴿الرِّيَاحَ﴾ بالجمع، وقرأ (٢) ابن كثير، وحمزة، والكسائي، والأعمش: ﴿الريح﴾ بالإفراد على إرادة الجنس.
حالة كونها ﴿مُبَشِّرَاتٍ﴾؛ أي: حالة كون تلك الرياح مبشرات للخلق بالمطر ونحوه، قوله: ﴿وَلِيُذِيقَكُمْ﴾ الله سبحانه ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ ونعمته، معطوف على ﴿مُبَشِّرَاتٍ﴾ على المعنى، والمراد بالرحمة: المنافع التابعة لنزول المطر، كالخصب المتسبب عن المطر، والروح: الذي يحصل بهبوب الريح، وزكاء الأرض وتصفية الهواء من العفونة، فكأنه قال: ومن آياته: إرسال الرياح ليبشركم بها وليذيقكم من رحمته.
(٢) البيضاوي.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ هذه النعم، فتفردون الله بالعبادة، وتستكثرون من الطاعة.
ومعنى الآية (١): أي ومن الأدلة على وحدانيته تعالى، والحجج القائمة على أنه رب كل شيء: أنه يرسل الرياح من حين إلى آخر، مبشرات بالغيث، الذي به تحيا الأرض، وينبت الثمر والزرع، فتأكلون منه ما لذّ وطاب، وتعيشون أنتم ودوابكم وأنعامكم فضلًا من ربكم، وتجري السفن ماخرة للبحار، حاملةً للأقوات وأنواع الثمار، متنقلةً من قطر إلى قطر، فتأتي بما في أقصى المعمور من الشرق، إلى أقصاه في الغرب، والعكس بالعكس، فلا تحتجب الثمرات والأقوات في أماكنها، وتكون وقفًا على قومٍ بأعيانهم، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي: وليعدكم لشكره كفاء ما أسدى إليكم من نعمه الوفيرة، وخيراته العميمة، التي لا تحصى، كما قال: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.
تنبيه: فإن قلت (٢): لم أسقط هنا لفظة ﴿فِيهِ﴾ حيث قال: ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾، وزادها في الجاثية حيث قال: ﴿لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ﴾ فما الفرق بين الموضعين؟.
قلت: الفرق بينهما: أن ما هنا لم يتقدمه مرجع الضمير وهو البحر، وهناك
(٢) فتح الرحمن بتصرف.
٤٧ - ولما بين سبحانه الأصلين: المبدأ والمعاد.. بين الأصل الثالث، وهو النبوة، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد بعثنا ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ يا محمد ﴿رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ﴾؛ أي: إلى أقوامهم الكافرين، كما أرسلناك إلى قومك عابدي الأوثان، من دون الله ﴿فَجَاءُوهُمْ﴾؛ أي: فجاءت الرسل أقوامهم ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالحجج الواضحة، والبراهين القاطعة، الدالة على صدقهم، وعلى أنها من عند الله، و ﴿الباء﴾: تصلح (١) للتعدية وللملابسة؛ أي: جاء كل رسول قومه بما يخصه من الدلائل الواضحة على صدقه في دعوى الرسالة، كما جئت قومك بالبراهين النيرة، الدالة على صدقك.
وقوله: ﴿فَانْتَقَمْنَا﴾ معطوف على محذوف، تقديره: فآمن بهم قوم، وكفر بهم قوم ﴿فَانْتَقَمْنَا﴾ ﴿مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾؛ أي: كفروا، والنقمة: العقوبة، ومنها الانتقام، والإجرام: تكذيب الأنباء، والإصرار عليه، وإنما وضع الموصول موضع ضميرهم للتنبيه على مكان المحذوف، والإشعار بكونه علةً للانتقام؛ أي: عاقبناهم وأهلكناهم، ونجينا الذين آمنوا بالله، وصدقوا رسله، ونحن فاعلو ذلك بمجرمي قومك، وبمن آمن بك، سنة الله التي شرعها لعباده، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
﴿وَكَانَ حَقًّا﴾؛ أي: واجبًا ﴿عَلَيْنَا﴾ وجوب (٢) كرم، لا وجوب إلزام. وفي "الوسيط" واجبًا وجوب من أوجبه على نفسه. ﴿نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وإنجاؤهم من شر أعدائهم، ومما أصابهم من العذاب نصر عزيز، وإنجاء عظيم، وهذا تأكيد لبشارة المؤمنين؛ لأن كلمة على تفيد معنى اللزوم، فإذا قال ﴿حَقًّا﴾ أكد ذلك المعنى، والنصر هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة، والكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات، لا يكون ذلك نصرةً، إذ لا عاقبة له. اهـ. من "المراح".
(٢) روح البيان.
ووقف (٢) بعض القراء على ﴿حَقًّا﴾ وجعل اسم ﴿كان﴾ ضميرًا فيها وخبرها ﴿حَقًّا﴾. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، والصحيح: أن ﴿نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ اسمها، و ﴿حَقًّا﴾ خبرها، و ﴿عَلَيْنَا﴾ متعلق بـ ﴿حَقًّا﴾ أو بمحذوف هو صفة له.
٤٨ - ﴿اللَّهُ﴾: الذي يستحق منكم العبادة هو ﴿الَّذِي يُرْسِلُ﴾ ويحرك ويبعث ﴿الرِّيَاحَ﴾؛ أي: رياح الرحمة كالصبا ونحوها ﴿فَتُثِيرُ﴾؛ أي: تزعج وترفع ﴿سَحَابًا﴾ ثقالًا بالمطر من حيث هو، وأضاف الإثارة إلى ﴿الرِّيَاحَ﴾، وإنما المثير هو الله تعالى؛ لأنه سَببها، والفعل قد ينسب إلى سببه كما ينسب إلى فاعله.
وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير وابن محيصن: ﴿يرسل الريح﴾ بالإفراد، وقرأ الباقون: ﴿الرِّيَاحَ﴾ بالجمع. قال أبو عمرو: كل ما كان بمعنى الرحمة، فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو مفرد، وهذه الجملة: مستأنفة مسوقة لبيان ما سبق من أحوال الرياح، فتكون على هذا جملة قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ إلى قوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ معترضةً.
﴿فَيَبْسُطُهُ﴾؛ أي: يمد السحاب وينشره سبحانه وتعالى ﴿فِي السَّمَاءِ﴾؛ أي: في سمتها، ﴿كَيْفَ يَشَاءُ﴾؛ أي: على كيفية وهيئة شاءها سبحانه وتعالى، سائرًا وواقفًا، مسيرة يوم أو يومين، أو أقل أو أكثر من جانب الجنوب أو ناحية الشمال، أو سمت الدبور، أو جهة الصبا إلى غير ذلك؛ أي: يجعله متصلًا تارةً ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا﴾؛ أي: قطعًا تارةً أخرى، أو يجعله بعد بسطه قطعًا متفرقة: جمع
(٢) الشوكاني.
﴿فَتَرَى﴾ يا محمد، أو يا من يتأتى منه الرؤية ﴿الْوَدْقَ﴾؛ أي: المطر ﴿يَخْرُجُ﴾ بالأمر الإلهي ﴿مِنْ خِلَالِهِ﴾؛ أي: من خلال السحاب ووسطه وفرجه وشقوقه وثقبه في التارتين، قيل (١): السحاب كالغربال، ولولا ذلك.. لأفسد المطر الأرض: روي عن وهب بن منبه: أن الأرض شكت إلى الله عَزَّ وَجَلَّ أيام الطوفان؛ لأن الله تعالى أرسل الماء بغير وزن ولا قيل، فخرج الماء غضبًا لله تعالى، فخدش الأرض وخددها فقالت: يا رب إن الماء خددني وخدشني، فقال الله تعالى فيما بلغني، والله أعلم: إني سأجعل للماء غربالًا، كيلا يخددك ولا يخدشك، فجعل السحاب غربال المطر.
والضمير (٢) في ﴿خِلَالِهِ﴾ الظاهر أنه عائد على السحاب، إذ هو المحدث عنه، وذكر الضمير؛ لأن السحاب اسم جنس، يجوز تذكيره وتأنيثه، قيل: ويحتمل أن يعود على ﴿كسفًا﴾ في قراءة من سكن العين، وقرأ أبو العالية والضحاك: ﴿يخرج من خلله﴾؛ أي: من ثقبه.
﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ﴾؛ أي: بذلك الودق ﴿مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾؛ أي: أرض من يشاء إصابتها من عباده وبلادهم ﴿إذا﴾ فجائية واقعة في جواب الشرط ﴿هُمْ﴾؛ أي: عبادة ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾؛ أي: يفرحون بذلك المطر، ؛ أي: فاجؤوا الاستبشار والفرح بمجيء الخصب، وزوال القحط، لحاجتهم إليه أشد الحاجة.
٤٩ - ﴿وَإِنْ﴾ مخففة من الثقيلة؛ أي: وإن الشأن، وقيل: إن بمعنى قد؛ أي: وقد كانوا، وتكون الجملة حينئذٍ حالًا من فاعل ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾، ﴿كَانُوا﴾؛ أي: أهل المطر ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ المطر ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾؛ أي: من قبل التنزيل، كرره للتأكيد والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر، واستحكام يأسهم منه، وقيل: الضمير لإرسال الرياح، أو للسحاب فلا تكرار، ﴿لَمُبْلِسِينَ﴾؛ أي: آيسين من
(٢) البحر المحيط.
أي: وقد كانوا (١) من قبل أن ينزل عليهم قانطين يائسين من نزوله، فلما جاءهم على فاقة وحاجة.. وقع منهم موقعًا عظيمًا.
والخلاصة: أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، ومن قبل ذلك أيضًا، إذ هم ترقبوه في إبانة فتأخر، ثم مضت فترة فترقبوه فيها، فتأخر ثم جاء بغتة بعد اليأس والقنوط، وبعد أن كانت أرضهم هامدةً، أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
٥٠ - ﴿فَانْظُرْ﴾ يامحمد نظر اعتبارٍ واستبصارٍ ﴿إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، وفوائد المطر، لتستدل بذلك على توحيد الله وتفرده بهذا الصنع العجيب.
والمراد برحمة الله (٢): المطر؛ لأنه أنزله برحمته على خلقه، وآثارها: فوائدها ونتائجها من النبات والأضجار والأزهار والثمار والحبوب. و ﴿الفاء﴾: للدلالة على سرعة ترتب هذه الأشياء على تنزيل المطر، والخطاب فيه، وإن توجه إلى النبي - ﷺ - فالمراد به جميع المكلفين.
والمعنى: فانظروا إلى آثار المطر من النبات والأشجار، وأنواع الثمار والأزهار والزرائع التي بها يكون الخصب.
﴿كَيْفَ يُحْيِ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿الْأَرْضَ﴾ بالآثار والنبات ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾؛ أي: بعد يبسها. قال في "الإرشاد": ﴿كَيْفَ..﴾ إلخ. في حيز النصب بنزع الخافض، وكيف معلق لانظر؛ أي: فانظروا إلى كيفية الإحياء البديع للأرض بعد موتها، والمراد بالنظر: التنبيه على عظيم قدرته، وسعة رحمته مع ما فيه من تمهيد أمر البعث.
﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ الإله العظيم الشأن، الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها
(٢) روح البيان.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ أراده، ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: قادر تام القدرة؛ أي: مبالغ في القدرة على جميع الأشياء التي من جملتها إحياء قالب الإنسان بعد موته في الحشر، وإحياء قلبه بعد موته في الدنيا؛ لأن نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على حدّ سواء، رجع كل شيء إلى قدرته فلم يعظم عليه شيء، فقدرة الله سبحانه هي الكاملة، بخلاف قدرة العبد، فإنها مستفادة من قدرة الله تعالى.
وقرأ الحرميان (١) - نافع وابن كثير - وأبو بكر وأبو عمرو: ﴿إلى أثر﴾ بالإفراد وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي: ﴿آثار﴾ بالجمع. وقرأ سلام: ﴿إثر﴾ بكسر الهمزة وإسكان الثاء، وقرأ الجحدري وابن السميقع وأبو حيوة: ﴿تحي﴾ بالتاء للتأنيث، والضمير عائد على الرحمة أو على الآثار على قراءة من قرأ بالجمع، وقرأ زيد بن علي: ﴿نحي﴾ بنون العظمة، والجمهور: ﴿يحيي﴾ بياء الغيبة والضمير لله.
ومعنى الآية: أي فانظر (٢) أيها الرسول أثر الغيث، الذي أنبت به ما أثبت، من الزرع والأشجار والثمار، وفيه الدليل الكافي على عظيم القدرة، وواسع الرحمة، وإذ قد ثبتت قدرته على إحياء الأجسام بعد موتها، وتفرقها وتمزقها إربًا إربًا، ومن ثم قال: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى﴾؛ أي: إن ذلك الذي قدر على إحياء الأرض، قادر على إحياء الأجسام حين البعث، ثم أكد هذا بقوله: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. فلا يعجزه شيء، فإحياؤكم من قبوركم هين عليه، ونحو الآية قوله: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾
٥١ - ثم ذمهم على تزلزلهم، وسوء اضطرابهم، فإذا أصابهم الخير.. فرحوا به، وإن أصابهم
(٢) المراغي.
وقال ﴿مُصْفَرًّا﴾؛ لأن ذلك صفرة حادثة، وقيل: المعنى فرأوا السحاب مصفرًا؛ لأن السحاب الأصفر لا يمطر، والريح التي تصفر النبات: صر حرور، وهما مما يصبح به النبات هشيمًا، والحرور جنب الشمال إذا عصفت، وقرأ صباح بن حبيش ﴿مصفارًا﴾ بألف بعد الفاء، ذكره أبو حيان.
و ﴿الفاء﴾: في قوله: ﴿فَرَأَوْهُ﴾ عاطفة على محذوف كما قدرنا، و ﴿اللام﴾ (١) في قوله: ﴿لَظَلُّوا﴾ لام جواب القسم الساد مسد الجوابين، ولذلك فسر الماضي بالاستقبال؛ أي: يظلون ويصيرون ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: من اصفرار وتغير الزرع والنبات ﴿يَكْفُرُونَ﴾ من غير توقف ولا تأخر.
والمعنى: ولئن أرسلنا ريحًا حارةً أو باردةً فضرب زرعهم بالصفار.. لظلوا من بعد ذلك يكفرون بالله، ويجحدون نعمه، يعني يقيمون على الكفر بالله وبنعمته، وفي هذا دليل على سرعة تقلبهم، وعدم صبرهِم، وضعف قلوبهم، وليس كذا حال أهل الإيمان.
يعني (٢): أن الكفار لا اعتماد لهم على ربهم، فإن أصابهم خير وخصب.. لم يشكروا الله، ولم يطيعوه، وأفرطوا في الاستبشار، وإن نالهم أدنى شيء يكرهونه.. جزعوا ولم يصبروا، وكفروا سالف النعم، ولم يلتجئوا إليه بالاستغفار، وليس كذلك حال المؤمن، فإنه يشكر عند النعمة، ويصبر عند المحنة، ولا ييئس من روح الله، ويلتجىء إليه بالطاعة والاستغفار، ليستجلب الرحمة في الليل والنهار.
وحاصل المعنى: أي ولئن أرسلنا ريحًا حارةً أو باردةً على الزرع الذي
(٢) روح البيان.
٥٢ - ثم شبههم بالموتى وبالصم فقال: ﴿فَإِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ الدعاء إذا دعوتهم، فكذا هؤلاء لا يسمعون دعاءَك إلى الحق، لعدم فهمهم للحقائق، ومعرفتهم للصواب.
وهذه الجملة تعليل (١) لمحذوف، تقديره؛ أي: لا تجزع يا محمد ولا تحزن على عدم إيمانهم، فإنهم موتى صم عمي، ومن كان كذلك لا يهتدي. اهـ. "شيخنا ".
فالكفار في التشبيه كالموتى، لانسداد مشاعرهم عن الحق، وهم الذين علم الله قبل خلقهم أنهم لا يؤمنون به ولا برسله، وفي الآية دليل على أنّ الأحياء قد يسمون أمواتًا إذا لم يكن لهم منفعة الحياة، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أجسادهم مفقودة، وآثارهم بين الورى موجودة.
واعلم: أن الكفر موت القلب، كما أن العصيان مرضه، فمن مات قلبه بالكفر.. بطل سمعه بالكلية، فلا ينفعه النصح أصلًا، ومن مرض قلبه بالعصيان، فيسمع سمعًا ضعيفًا كالمريض.. فيحتاج إلى المعالجة في إزالته، حتى يعود سمعه إلى الحالة الأولى.
ثم أشار إلى تشبيه آخر بقوله: ﴿وَلَا تُسْمِعُ﴾ يا محمد ﴿الصُّمَّ﴾ جمع أصم
ومعنى الآية: أي (٢) إنك لا تقدر يا محمد أن تفهم هؤلاء المشركين، الذين قد ختم الله على أسماعهم، فسلبم فَهْمَ ما يتلى عليهم من مواعظ تنزيله كما لا تقدر أن تفهم الموتى، الذين سلبوا أسماعهم، بأن تجعل لهم أسماعًا، ولا تقدر أن تهدي من تصاموا عن فهم آيات كتابه، فتجعلهم يسمعونها ويفمونها، كما لا تقدر أن تسمع الصم الدعاء إذا ولوا عنك مدبرين هاربين منك.
٥٣ - ثم أشار إلى تشبيهٍ آخر بقوله: ﴿وَمَا أَنْتَ﴾ يا محمد ﴿بِهَادِ الْعُمْيِ﴾ وصارفهم، جمع أعمى، وهو: فاقد البصر ﴿عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾ وخطئهم، متعلق بالهداية، باعتبار تضمنها معنى الصرف سماهم عميًّا إما لفقدهم المقصود والحقيقي من الإبصار، أو لعمى قلوبهم كما في "الإرشاد"، فإنهم ميتون، والميت لا يبصر شيئًا، كما لا يسمع شيئًا، فكيف يهتدي؛ أي: ليس في طوقك أن تهدي من أضله الله، فترده عن ضلالته، بل ذلك إليه وحده، فإنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه، ففيه بيان أن الهداية والضلالة بيده تعالى لا بيد الرسول.
والخلاصة: أن هذا ليس من عملك، ولا بعثت لأجله.
(٢) المراغي.
والمعنى: أي لا تسمع السماع الذي ينتفع به سامعه، فيتبعه، إلا من يؤمن بآياتنا؛ لأنه هو الذي إذا سمع كتاب الله.. تدبره وفهمه وعمل بما فيه، وانتهى إلى حدوده التي حدها، فهو مستسلم خاضع له، مطيع لأوامره، تارك لنواهيه.
٥٤ - ثم ذكر سبحانه دليلًا آخر على كمال قدرته، وهو خلق الإنسان نفسه على أطوار مختلفة، فقال: ﴿اللَّهُ﴾ الذي يستحق منكم العبادة مبتدأ وخبره قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾؛ أي: أوجدكم أيها الإنسان ﴿مِنْ ضَعْفٍ﴾؛ أي: من أصل ضعيف هو النطفة أو التراب على تأويل المصدر باسم الفاعل، والضعف خلاف القوة ﴿ثُمَّ﴾ للتراخي في الزمان ﴿جَعَلَ﴾؛ أي: خلق لأنه عدي لمفعول واحد.
﴿مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ﴾ آخر، وهو الضعف الموجود في الجنين والطفل ﴿قُوَّةً﴾ هي القوة التي تجعل للطفل من التحرك، واستدعائه اللين، ودفع الأذى عن نفسه بالبكاء، ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ أخرى، هي التي بعد البلوغ، وهي قوة الشباب ﴿ضَعْفًا﴾ آخر، وهو ضعف الشيخوخة والكبر، ﴿وَشَيْبَةً﴾؛ أي: شيبة الهرم، والشيب والمشيب بياض الشعر، ويدل (٢) على أن كل واحد من قوله ﴿ضَعْفٍ﴾ و ﴿قُوَّةً﴾ إشارة إلى حالة غير الحالة الأولى، ذكره منكرًا، والمنكر متى أعيد ذكره معرفًا أريد به ما تقدم، كقولك: رأيت رجلًا فقال لي الرجل كذا، ومتى أعيد منكرًا أريد به غير الأول، ولذلك قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله
(٢) روح البيان.
ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَه | إِذَا أَتَتْ نَكِرَةً مُكَرَّرَه |
تَغَايَرَتْ وَإِنْ يُعَرِّفْ ثَانِيْ | تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ |
والخلاصة: أن تنقل الإنسان في أطوار الخلق، حالًا بعد حال، من ضعف إلى قوة، ثم من قوة إلى ضعف، دليل على قدرة الخالق الفعال لما يشاء، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعجزه أن يعيدكم مرة أخرى.
﴿يَخْلُقُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَا يَشَاءُ﴾ من ضعفٍ وقوةٍ وشبابٍ وشيبةٍ؛ أي: يخلق الأشياء كلها، التي من جملتها الضعف والقوة والشباب والشيبة، فليس هذا كله طبعًا، بل بمشيئة الله سبحانه وتعالى ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿الْعَلِيمُ﴾ بتدبير خلقه ﴿الْقَدِيرُ﴾ على ما يشاء، لا يمتنع عليه شيء أراده، وهو كما يفعل هذا، قادر على أن يميت خلقه ويحييهم إذا شاء.
فائدة: فإن قلت (٢): كيف قال: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ﴾ مع أن الضعف صفة ومعنى من المعاني، والمخاطبون لم يخلقوا من صفة، بل من عين وهي الماء، أو التراب؟
قلت: المراد بالضعف: الضعيف، من إطلاق المصدر على اسم الفاعل،
(٢) فتح الرحمن.
وقرأ الجمهور (١): بضم الضاد في ﴿ضَعْفٍ﴾ في المواضع الثلاثة، وقرأ عاصم وحمزة: بفتجها فيها، وهي قراءة عبد الله وأبي رجاء، وروي عن أبي عبد الرحمن الجحدري والضحاك: الضم والفتح في الثاني، وقرأ عيسى: بضمتين فيهما، والظاهر: أن الضم والفتح بمعنى واحد، قال كثير من اللغويين: الضم في البدن، والفتح في العقل.
٥٥ - ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾؛ أي: توجد وتحصلت القيامة، سميت (٢) بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تقع بغتةً وبداهةً، وصارت علمًا لها بالغلبة، كالنجم للثريا، والكوكب للزهرة، وفي "فتح الرحمن": ويوم تقوم الساعة التي فيها القيامة ﴿يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾؛ أي: يحلف الكافرون، ﴿مَا لَبِثُوا﴾؛ أي: ما أقاموا في القبور و ﴿مَا﴾ نافية ﴿غَيْرَ سَاعَةٍ﴾؛ أي: إلا ساعة واحدة، وهي جزء من أجزاء الزمان، واستقلوا مدة لبثهم نسيانًا أو كذبًا أو تخمينًا، ويقال: ما لبثوا في الدنيا، والأول هو الأظهر؛ لأن لبثهم مغيٌّ بيوم البعث، كما سيأتي، وليس لبثهم في الدنيا كذلك.
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك الصرف الواقع منهم يوم القيامة ﴿كَانُوا﴾؛ أي: كان المشركون في الدنيا، بإنكار البعث، والحلف على بطلانه، كما أخبر سبحانه في قوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾ ﴿يُؤْفَكُونَ﴾؛ أي: يصرفون عن الحق والصدق، فيأخذون في الباطل والإفك والكذب، يعني: كذبوا في الآخرة، كما كانوا يكذبون في الدنيا.
والمعنى (٣): أي ويوم تجيء ساعة البعث، فيبعث الله الخلق من قبورهم، يقسم المجرمون الذين كانوا يكفرون بالله في الدنيا، ويكتسبون فيها الآثام، إنهم ما أقاموا في قبورهم إلا قليلًا من الزمان، وهذا استقلال منهم لمدة لبثهم في
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
﴿كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ﴾؛ أي: كذبوا في قولهم: ما لبثنا غير ساعة، كما كانوا في الدنيا يحلفون على الكذب، وهم يعلمون، والكلام مسوق للتعجب من اغترارهم بزينة الدنيا وزخرفها، وتحقير ما يتمتعون به من مباهجها ولذاتها، كي يقلعوا عن العناد، وهويرجعوا إلى سبل الرشاد، وكأنه قيل: مثل ذلك الكذب العجيب كانوا يكذبون في الدنيا، اغترارًا بما هو قصير الأمد من اللذات وزخارف الحياة.
٥٦ - ثم ذكر توبيخ المؤمنين لهم، وتهكمهم بهم بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ بكتاب الله، ﴿وَالْإِيمَانَ﴾ بالله في الدنيا من الملائكة والإنس لأولئك المنكرين، ردًا لقولهم، وإنكارًا لكذبهم، والله ﴿لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾؛ أي (١): في علمه وقضائه الأزلي في أم الكتاب؛ أي: بحسب ما في علم الله تعالى في قبوركم من يوم مماتكم ﴿إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ﴾ وهو مدة مديدة، وغاية بعيدة لا ساعة حقيقة، وفي الحديث: "ما بين فناء الدنيا والبعث أربعون"، وهو محتمل للساعات والأيام والأعوام، والظاهر أربعون سنة، أو أربعون ألف سنة.
ثم أخبروا بوقوع البعث تبكيتًا لهم؛ لأنهم كانوا ينكرونه فقالوا؛ ﴿فَهَذَا﴾ اليوم، (الفاء): واقعة في جواب شرط محذوف؛ أي: إن كنتم منكرين البعث. ، فهذا اليوم الحاضر هو ﴿يَوْمُ الْبَعْثِ﴾ والحشر الذي أنكرتموه وكنتم توعدون في الدنيا؛ أي: فقد تبين بطلان إنكاركم.
وقرأ الحسن (٢): ﴿البعث﴾ بفتح العين في الموضعين، وقرىء: بكسرها، وهو اسم، والمفتوح: مصدر. ﴿وَلَكِنَّكُمْ﴾ من فرط الجهل، وتفريط النظر ﴿كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾ أنه حق سيكون فتستعجلون به استهزاءً.
والمعنى: أي فهذا اليوم الحاضر، هو اليوم الذي أنكرتموه في الدنيا،
(٢) البحر المحيط.
٥٧ - ولما كانت الأدلة تترى على أن الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار جزاء.. ذكر أن المعاذير لا تجدي في هذا اليوم، فلا يجابون إلى ما طلبوا من الرجوع إلى الدنيا، لإصلاح ما فسد من أعمالهم فقال: ﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ تقوم القيامة أو يوم، إذ يقع ذلك من إقسام الكفار، وقول أولي العلم لهم ﴿لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؛ أي: أشركوا ﴿مَعْذِرَتُهُمْ﴾؛ أي: عذرهم، وهو فا عل ينفع؛ أي: لا ينفعهم اعتذارهم من ذنوبهم.
وقرأ الجمهور وابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (١): ﴿لا تنفع﴾ بالتاء الفوقية، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: بالياء التحتية هنا، وفي الطول، وافقهم نافع في الطول؛ لأن التأنيث غير حقيقي. ﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾؛ أي: لا يطلبون بإرضاء الله سبحانه وتعالى بالتوبة الصادقة عن الشرك والمعاصي، ولا يدعون إلى ما يقتضي إعتابهم؛ أي: إزالة عتبهم وغضبهم من التوبة والطاعة، كما دعوا إليه في الدنيا، إذ لا يقبل حينئذ توبة ولا طاعة، وكذلك لا يصح رجوع إلى الدنيا، لإدراك فائت من الإيمان والعمل؛ أي: لا يقال لهم: أرضوا ربكم بتوبة وطاعة؛ أي: لا يطلب منهم الإعتاب؛ أي: الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة.
فإن قلت (٢): كيف قال هنا ذلك مع قوله في فصلت: ﴿وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ حيث جعلهم هنا مطلوبًا منهم الإعتاب، وجعلهم ثم طالبين له؟
قلت: معنى قوله هنا: ﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾؛ أي: ولا هم يقالون عثراتهم بالرد إلى الدنيا، ومعنى قوله: ﴿وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾؛ أي: إن يستقيلوا.. فما هم من المقالين، فلا تنافي.
والمعنى (٣): ففي هذا اليوم لا تنفع هؤلاء المجرمين معاذيرهم عما فعلوا، كقولهم: ما علمنا أن هذا اليوم كائن، ولا أنا نبعث فيه، ولا هم يرجعون إلى
(٢) فتح الرحمن.
(٣) المراغي.
والخلاصة: أنهم لا يعاتبون على سيئاتهم، بل يعاقبون عليها، ولا يطلب منهم الرجوع إلى ما يرضي الله سبحانه من التوبة والعمل الصالح، وذلك لانقطاع التكليف في ذلك اليوم.
٥٨ - ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد ضربنا وبينا، وأوضحنا للناس ﴿فِي هَذَا الْقُرْآنِ﴾ الكريم ﴿مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾؛ أي (١): من كل صفة كأنها في غرابتها كالأمثال، وذلك كالتوحيد والحشر وصدق الرسل وسائر ما يحتاجون إليه، من أمر الدين والدنيا، مما يهتدي به المتفكر، ويعتبر به الناظر المتدبر، أو المعنى: ولقد (٢) وصفنا لهم فيه بأنواع الصفات التي هي في الغرابة، كالأمثال مثل صفة المبعوثين يوم القيامة، وما يقولون وما يقال لهم، وما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة والاستعتاب، أو بينا لهم من كل مثل من الأمثال التي تدلهم على توحيد الله تعالى وعلى البعث وصدق الرسل، واحتججنا عليهم بكل حجة تدل على بطلان الشرك.
ففيه (٣): إشارة إلى إزالة الأعذار وقطعها عنهم والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وكلمة من في قوله: ﴿مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ للتبعيض، كما في "الكرخي".
والمعنى: أي ولقد أوضحنا لهم الحق، وضربنا لهم الأمثال الدالة على وحدانية الخالق الرازق، وعلى البعث وصدق الرسول، ليستبينوا الحق ويتبعوه، لكنهم أعرضوا عن ذلك استكبارًا وعنادًا، كما أشار إلى ذلك بقوله: ﴿وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لئن جئت كفار مكة ﴿بِآيَةٍ﴾ تنزيلية من آيات القرآن الناطقة بذلك، أو بآية تكوينية تدل على صدق الرسل، كالعصا واليد والناقة ﴿لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من أهل مكة وغيرهم من فرط عنادهم وقساوة
(٢) البيضاوي.
(٣) الخازن.
والمعنى: أي والله لئن جئتهم بكل الآيات لا يؤمنون بها، بل يعتقدون أنها سحر مفترًى، وما هي إلا أساطير الأولين، ونحو هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧)﴾.
فإن قلت: لم (١) أفرد الخطاب في قوله: ﴿وَلَوْ جَاءَتْهُمْ﴾ وجمعه في قوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ﴾؟
قلت: في ذلك لطيفة، وهي كأن الله تعالى قال: ولئن جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل.. أجابوا بقولهم: أنتم كلكم أيها المدعون الرسالة مبطلون.
٥٩ - ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك الطبع الفظيع، الذي طبع على هؤلاء المشركين ﴿يَطْبَعُ اللَّهُ﴾ سبحانه؛ أي: يختم الله بسبب اختيارهم الكفر على الإيمان. ﴿عَلَى قُلُوبِ﴾ كل الجهلة ﴿الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ توحيد الله تعالى، ولا يطلبون العلم النافع الذي يهتدون به إلى الحق، وينجون به من الباطل، ويصرون على خرافات اعتقدوها، وترهات ابتدعوها، فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق، ويوجب تكذيب المحق.
والمعنى (٢): أي كذلك يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به من العبر والعظات، والآيات البينات، فلا يفقهون الأدلة ولا يفهمون ما يتلى عليهم من آي الكتاب، لسوء استعدادهم، ولما دسوا به أنفسهم من سوء القول والفعل، فهم في طغيانهم يعمهون.
٦٠ - ثم ختم السورة بأمر الرسول بالصبر على أذاهم، وعدم الالتفات إلى
(٢) المراغي.
وفي هذا إرشاد لنبيه - ﷺ - وتعليم له بأن يتلقى المكاره بصدر رحب، وسعة حلم، روي (١): أنه لما مات أبو طالب عم النبي - ﷺ - بالغت قريش في أذاه، حتى إن بعض سفهائهم نثر على رأسه الشريف التراب، فدخل عليه السلام بيته، والتراب على رأسه فقام إليه بعض بناته، وجعلت تزيله عن رأسه وتبكي ورسول الله - ﷺ - يقول لها: "لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك وكذا أوذي الأصحاب كلهم فصبروا، وظفروا بالمراد، فكانت الدولة لهم دينًا ودنيا وآخرةً.
يقال: استخف فلان فلانًا؛ أي: استجهله حتى حمله على اتباعه في الغي.
وقرأ الجمهور: ﴿يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾ بالخاء المعجمة والفاء، من الاستخفاف، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب: بالحاء المهملة والقاف ﴿يستحفنك﴾ من الاستحقاق؛ أي: لا يزيغنك، فيكونوا أحق بك من المؤمنين، وسكن النون ابن أبي عبلة ويعقوب: ﴿يستخفنك﴾ والنهي في الآية من باب لا أرينك هاهنا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي: أن رجلًا من الخوارج نادى عليًا، وهو في صلاة الفجر فقال: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥)﴾ فأجابه وهو في
فائدة (١): واعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الصدق، فظهر من ظله الإيمان والإخلاص، وخلق الكذب، فظهر من ظله الكفر والنفاق، فأنتج الإيمان المتولد من الصدق، أو يقول المؤمنون يوم القيامة: الحمد لله الذي صدقنا وعده، وهذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، ونحوه، وأنتج الكفر المتولد من الكذب أن يقول الكافرون يومئذ: والله ماكنا مشركين، وما لبثوا غير ساعة، ونحوه من الأكاذيب.
الإعراب
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦)﴾.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مِنْ آيَاتِهِ﴾: خبر مقدم. ﴿أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ﴾: ناصب وفعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به. ﴿مُبَشِّرَاتٍ﴾: حال من ﴿الرِّيَاحَ﴾، والمصدر المؤول من الجملة الفعلية: في محل الرفع مبتدأ مؤخر؛ أي: وإرساله تعالى الرياح مبشرات كائن من آياته ودلائل قدرته، والجملة الاسمية: مستأنفة مسوقة لبيان الآيات. ﴿وَلِيُذِيقَكُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يُذِيقَكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: معطوفة على جملة مأخوذة من ﴿مُبَشِّرَاتٍ﴾ تقديرها: ومن آياته: أن يرسل الرياح ليبشركم برحمته، وليذيقكم من رحمته، وقيل: ﴿الواو﴾: زائدة، و ﴿اللام﴾: متعلقة بـ ﴿يُرْسِلَ﴾. وعبارة الزمخشري هنا: فإن قلت: (٢) بما يتعلق ﴿وَلِيُذِيقَكُمْ﴾؟
(٢) الكشاف.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق، ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: حال من ﴿رُسُلًا﴾. و ﴿رُسُلًا﴾: مفعول به، ﴿إِلَى قَوْمِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم: مستأنفة مسوقة لتسليته - ﷺ - وتأنيسه وإيذانًا بنصره، ﴿فَجَاءُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءُوهُمْ﴾. ﴿فَانْتَقَمْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على محذوف، تقديره: فكذبوهم ﴿فَانْتَقَمْنَا﴾ منهم، ﴿أَجْرَمُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿وَكَانَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿حَقًّا﴾: خبرها مقدم على اسمها، ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق بـ ﴿حَقًّا﴾ أو صفة له، ﴿نَصْرُ﴾ ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾: اسمها مؤخر، والجملة: مستأنفة.
﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨)﴾.
﴿اللَّهُ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة، ﴿يُرْسِلُ﴾: فعل وفاعل
فالدة: قال ابن هشام: وتستعمل ﴿كَيْفَ﴾ على وجهين (١):
أحدهما: أن تكون شرطًا فتقتضي فعلين متفقي اللفظ والمعنى غير مجزومين، نحو كيف تصنع أصنع، ولا يجوز كيف تجلس أذهب باتفاق من النحاة، ولا كيف تجلس أجلس بالجزم عند البصريين، إلا قطربًا، لمخالفتهما لأدوات الشرط بوجوب موافقة جوابها لشرطها كما مر.
الثاني: قيل: يجوز مطلقًا، وإليه ذهب قطرب والكوفيون، وقيل: يجوز بشرط اقترانها بما قالوا، ومن ورودها شرطًا: ﴿يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ ﴿يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ ﴿فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾: وجوابها في ذلك كله: محذوف لدلالة ما قبلها عليه. ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعولان معطوف على ﴿يَبْسُطُ﴾، ﴿فَتَرَى﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ترى: فعل مضارع وفاعل مستتر، وهي بصرية، ﴿الْوَدْقَ﴾: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة ﴿يجعله﴾، وجملة ﴿يَخْرُجُ﴾: حال من ﴿الْوَدْقَ﴾، ﴿مِنْ خِلَالِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَخْرُجُ﴾. ﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿أَصَابَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَصَابَ﴾،
﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩)﴾.
﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية أو عاطفة، ﴿إن﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿مِنْ قَبْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُبْلِسِينَ﴾، ﴿أَنْ يُنَزَّلَ﴾: فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، ونائب فاعله: ضمير يعود على ﴿الْوَدْقَ﴾، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُنَزَّلَ﴾، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور بإضافة ﴿قَبْلِ﴾ إليه، ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾: جار ومجرور مؤكد للجار والمجرور في قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾، ﴿لَمُبْلِسِينَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿مُبْلِسِينَ﴾: خبر ﴿كَانُ﴾، وجملة ﴿كَانُ﴾: في محل الرفع خبر لـ ﴿إنَّ﴾ المخففة، وجملة ﴿إِن﴾ المخففة في محل النصب حال من فاعل ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أو معطوفة على جملة ﴿إِذَا﴾.
﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)﴾.
﴿فَانْظُرْ﴾: ﴿الفاء﴾؛ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن من آياته تعالى أن يرسل الرياح مبشرات، وأردت معرفة ما يترتب عليه من الآثار.. فأقول لك انظر، ﴿انْظُر﴾: فعل وفاعل مستتر، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿انْظُر﴾، ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب حال من الأرض، وهي معلقة لـ ﴿انْظُرْ﴾ عن العمل في ما بعدها. ﴿يُحْيِ الْأَرْضَ﴾: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾: متعلق
﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١)﴾.
﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط بها، ﴿رِيحًا﴾: مفعول به، ﴿فَرَأَوْهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿رأوه﴾: فعل وفاعل ومفعول به في محل الجزم معطوف على ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿مُصْفَرًّا﴾: حال من مفعول ﴿رَأَوْهُ﴾، لأن الرؤية هنا بصرية، ﴿لَظَلُّوا﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، مؤكدة للأولى، ﴿ظَلُّوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَكْفُرُونَ﴾، وجملة ﴿يَكْفُرُونَ﴾: خبر ﴿ظَلُّ﴾، وجملة ﴿ظَلُّ﴾: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: وإن أرسلنا ريحًا، فرأوه مصفرًا.. يكفرون على القاعدة المشهورة:
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ | جَوَابَ مَا أخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ |
﴿فَإِنَّكَ﴾: ﴿الفاء﴾: تعليليلة. ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر ﴿إِن﴾، والجملة الاسمية: في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بـ ﴿الفاء﴾ التعليلية المعللة لمحذوف، تقديره: لا تجزع ولا تحزن على عدم إيمانهم، فإنهم موتى صم عمي، ﴿وَلَا تُسْمِعُ﴾: فعل وفاعل مستتر، ﴿الصُّمَّ﴾: مفعول أول، ﴿الدُّعَاءَ﴾: مفعول ثان، والجملة: في محل الرفع معطوفة على الجملة التي
﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)﴾.
﴿وَمَا أَنْتَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: حجازية، ﴿أَنْتَ﴾: في محل الرفع اسمها، ﴿بِهَادِ﴾: خبر ﴿ما﴾ الحجازية، و ﴿الباء﴾: زائدة، ﴿الْعُمْيِ﴾: مضاف إليه، ﴿عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿هادي﴾: على تضمين هادي معنى صارف. وجملة ﴿ما﴾: الحجازية معطوفة على جملة ﴿إن﴾، ﴿إن﴾: نافية، ﴿تُسْمِعُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿تُسْمِعُ﴾. ﴿يُؤْمِنُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية: صلة ﴿مَنْ﴾: الموصولة، ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿هم مسلمون﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة ﴿يُؤْمِنُ﴾: عطف اسمية على فعلية.
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤)﴾.
﴿اللَّهُ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. ﴿خَلَقَكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة الموصول. ﴿مِنْ ضَعْفٍ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، ﴿مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾. لأنه بمعنى خلق، ﴿قُوَّةً﴾: مفعول به لـ ﴿جَعَلَ﴾. والجملة: معطوفة على جملة ﴿خَلَقَكُمْ﴾. ﴿ثُمَّ جَعَلَ﴾: فعل وفاعل مستتر معطوف على جملة ﴿جَعَلَ﴾، ﴿مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿ضَعْفًا﴾: مفعول به لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿وَشَيْبَةً﴾: معطوف على ﴿ضَعْفًا﴾، ﴿يَخْلُقُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ ﴿يَخْلُقُ﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾: صلته، وجملة ﴿يَخْلُقُ﴾: في محل النصب حال أو فاعل ﴿خَلَقَكُمْ﴾ أو مستأنفة ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ، ﴿الْعَلِيمُ﴾: خبر أول له، ﴿الْقَدِيرُ﴾: خبر ثان، والجملة
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿يُقْسِمُ﴾، ﴿تَقُومُ السَّاعَةُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿ما﴾: نافية، ﴿لَبِثُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: لا محل لها أو الإعراب؛ لأنها واقعة في جواب القسم، ﴿غَيْرَ سَاعَةٍ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿لَبِثُوا﴾، ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿يُؤْفَكُونَ﴾: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة: في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾: مستأنفة؛ أي: يصرفون عز الحق، وهو الصدق، كما صرفوا عن الحق، وهو البعث.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٥٦)﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿أُوتُوا﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿الْعِلْمَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿آتى﴾؛ لأنه بمعنى أعطى، ﴿وَالْإِيمَانَ﴾: معطوف على ﴿الْعِلْمَ﴾، والجملة الفعلية: صلة الموصول، ﴿لَقَدْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق، ﴿لَبِثْتُمْ﴾: فعل وفاعل، ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾: حال أو فاعل ﴿لَبِثْتُمْ﴾ ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: حالة كون مدة لبثكم محسوبة في كتاب الله وعلمه. ﴿إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ﴾: متعلق بـ ﴿لَبِثْتُمْ﴾، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها أو الإعراب، وجملة القسم: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَهَذَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ. ﴿يَوْمُ الْبَعْثِ﴾: خبره، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة ﴿لَبِثْتُمْ﴾. وفي "البيضاوي": و ﴿الفاء﴾: في قوله: ﴿فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ﴾: واقعة في جواب شرط محذوف، تقديره: إن كنتم منكرين للبعث.. فهذا يومه؛ أي: فقد تبين بطلان إنكاركم. اهـ. ﴿وَلَكِنَّكُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿لَكِنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه،
﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)﴾.
﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما أقسم عليه المجرمون، وما رد به عليهم أهل العلم والإيمان، وأردت بيان حال ذلك اليوم.. فأقول لك ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف مضاف لمثله متعلق بـ ﴿يَنْفَعُ﴾، ﴿لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ﴾: فعل ومفعول، ﴿ظَلَمُوا﴾: صلة الموصول، ﴿مَعْذِرَتُهُمْ﴾: فاعل ﴿يَنْفَعُ﴾، وجملة ﴿يَنْفَعُ﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿وَلَا هُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُسْتَعْتَبُونَ﴾: من الفعل المغير ونائبه: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يَنْفَعُ﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.
﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (٥٨)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق، ﴿ضَرَبْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة، ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿ضَرَبْنَا﴾، ﴿فِي هَذَا﴾: جار ومجرور، ﴿الْقُرْآنِ﴾: بدل منه الجار والمجرور حال من ﴿كُلِّ مَثَلٍ﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها أو متعلق بـ ﴿ضَرَبْنَا﴾، ﴿مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾: صفة لمفعول محذوف؛ أي: ضربنا موعظة أو قصة من كل مثل، أو مفعول به لـ ﴿ضَرَبْنَا﴾. ﴿وَلَئِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿جِئْتَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿بِآيَةٍ﴾: متعلق به، والجملة: جواب القسم، وجملة القسم: معطوفة على جملة القسم قبله، ﴿لَيَقُولَنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم مؤكدة
﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (٦٠)﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: مثل ذلك الطبع، ﴿يَطْبَعُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَطْبَعُ﴾، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾: صلة الموصول. ﴿فَاصْبِرْ﴾: ﴿الفاء﴾: قال الفصيحة؛ لأنها أفصحت عز جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أو حالهم بهذه المثابة، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: اصبر، ﴿اصْبِرْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾: ناصب واسمه، ﴿حَقٌّ﴾: خبره، وجملة ﴿إِن﴾: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية، ﴿يَسْتَخِفَّنَّ﴾: فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، و ﴿الكاف﴾: ضمير المخاطب في محل النصب مفعول به، ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل، والجملة الفعلية: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿اصْبِرْ﴾، وجملة ﴿لَا يُوقِنُونَ﴾: صلة الموصول.
التصريف ومفردات اللغة
﴿الرِّيَاحَ﴾: أحد جموع الريح، والريح: مؤنثة، وتجمع أيضًا على أرواح وأرياح وريح، كفيل وفيلة، وجمع الجمع: أراويح وأراييح، والرياح أربع:
قال وكيع: لولا الريح والذباب.. لأنتنت الدنيا، قيل: الريح تموج الهواء بتأثير الكواكب، وسيلانه إلى إحدى الجهات، والصحيح عند أهل الشرع: ما ذكر في الحديث أو أنها من روح الله تعالى.
﴿فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾: يقال ثار الغبار والسحاب، انتشر ساطعًا، وقد أثرته، والسحاب: اسم جنس يصح إطلاقه على سحابة واحدة وما فوقها، قال في "المفردات": أصل السحب: الجر، ومنه السحاب: إما لجر الريح له، أو لجره الماء.
والمعنى: فتنشره تلك الرياح وتزعجه، وتخرجه أو أماكنه.
﴿فَيَبْسُطُهُ﴾؛ أي: ينشره متصلًا بعضه ببعض؛ أي: ينشره كمال الانتشار، وإلا فأصل الانتشار موجود في السحاب دائمًا.
﴿فِي السَّمَاءِ﴾؛ أي: في جهتها؛ أي: في جهة العلو، وليس المراد حقيقة السماء المعروفة.
﴿كِسَفًا﴾: بكسر ففتح، ويجوز تسكين السين: جمع كسفة، وهي قطعة أو السحاب والقطن، ونحو ذلك أو الأجسام المتخلخلة، كما في "المفردات" وفي "القاموس": الكسفة بالكسر: القطعة أو الشيء، والجمع: كسف بكسر فسكون، وجمع الجمع.. أكساف وكسوف، وكسفه يكسفه: قطعه.
﴿الْوَدْقَ﴾: المطر، قيل: الودق في الأصل: ما يكون خلال المطر، كأنه غبار، وقد يعبر به عن المطر.
﴿مِنْ خِلَالِه﴾؛ أي: أو فرج السحاب وشقوقه، قال الراغب: الخلل فرجة بين الشيئين، وجمعه خلال، نحو خلل الدار والسحاب. ﴿لَمُبْلِسِينَ﴾؛ أي: آيسين، في "المصباح": أبلس الرجل إبلاسًا: سكت، وأبلس: أيس، وفي
﴿فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا﴾؛ أي: قد اصفر بعد خضرته، وقرب أو الجفاف، والاصفرار، الاتصاف بالصفرة، والصفرة: لون من الألوان التي بين السواد والبياض، وهو إلى البياض أقرب.
﴿لَظَلُّوا﴾: من ظل يظل بالفتح، أصله: العمل، بالنهار، ويستعمل في موضع صار كما في هذا المقام.
﴿الصُّمَّ﴾: جمع الأصم، والصم: فقدان حاسة السمع، وبه شبه من لا يصغي إلى الحق ولا يقبله، كما في "المفردات".
﴿الْعُمْيِ﴾: جمع الأعمى، وهو: فاقد البصر.
﴿مِنْ ضَعْفٍ﴾: الضعف: بالفتح والضم: خلاف القوة، وفرقوا بأن الفتح لغة تميم، واختاره عاصم وحمزة في المواضع الثلاثة، والضم: لغة قريش، واختاره الباقون، ولذا لما قرأه ابن عمر - رضي الله عنهما - على رسول الله - ﷺ - بالفتح أقرأه بالضم، وفي "المصباح": الضعف بفتح الضاد في لغة تميم، وبضمها في لغة قريش: خلاف القوة والصحة، فالمضموم مصدر ضعف، مثال قرب قربًا، والمفتوح: مصدر ضعف ضعفًا من باب قتل، ومنهم من يجعل المفتوح في الرأي، والمضموم في الجسد، وهو ضعيف، والجمع: ضعفاء وضعاف أيضًا. اهـ.
﴿قُوَّةً﴾: قال بعض العلماء: أول ما يوجد في الباطن حول، ثم ما يجريه في الأعضاء قوة، ثم ظهور العمل بصورة البطش والتناول قدرة.
﴿ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾؛ أي: شيبًا، وهو بياض الشعر الاسود، ويحصل أوله في الغالب في السنة الثالثة والأربعين، وهو أول سن الاكتهال، والأخذ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين، وهو أول سن الشيخوخة، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى. اهـ. "الخطيب".
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾؛ أي: توجد وتحصل الساعة؛ أي: القيامة، وهي
مُولّدة: ومنها الساعة الرملية، والساعة المائية، والساعة الشمسية.
﴿يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾؛ أي: يحلف الكافرون، يقال: أقسم: إذا حلف، أصله من القسامة، وهي أيمان تقسم على المتهمين في الدم، ثم صار اسمًا لكل حلف.
﴿مَا لَبِثُوا﴾: يقال: لبث بالمكان: إذا أقام به ملازمًا له.
﴿يُؤْفَكُونَ﴾: أفك فلان: إذا صرف عن الصدق والخير.
﴿مَعْذِرَتُهُمْ﴾؛ أي: عذرهم، والعذر تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه، بأن يقول: لم أفعل، أو فعلت لأجل كذا، فيذكر ما يخرجه عن كونه مذنبًا، أو فعلت ولا أعود، ونحو ذلك، وهذا الثالث هو التوبة، فكل توبة عذر، وليس كل عذر توبةً، وأصل الكلمة أو العذرة، وهي الشيء النجس، تقول: عذرت الصبي: إذا طهرته وأزلت عذرته وكذا عَذرت فلانًا: إذا أزلت نجاسة ذنبه بالعفو عنه، كذا في "المفردات"، وقال في "كشف الأسرار": أخذ من العذار وهو الستر.
﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾: الإعتاب: إزلة العتب؛ أي: الغضب والغلظة، والاستعتاب: طلب ذلك من قولهم: استعتبني فلان فأعتبته؛ أي: استرضاني فأرضيته، وذلك إذا كنت جانيًا عليه، وحقيقة أعتبته: أزلت عتبه، ألا ترى إلى قوله:
غضبت تميم أن تقتل عامرًا | يوم النسار فأعتبوا بالصيلم |
﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ﴾؛ أي: مزورون، يقال: أبطل الرجل: إذا جاء بالباطل، وأكذب: إذا جاء بالكذب، وفي "المفردات": الإبطال: يقال في إفساد الشيء وإزالته، حقًا كان ذلك الشيء أو باطلًا، قال تعالى: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾. وقد يقال فيمن يقال فيمن يقول شيئًا لا حقيقة له، قال تعالى: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ﴾.
وقوله: ﴿لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: (اللام): فيه: مؤكدة، واقعة في جواب القسم، و ﴿يقولن﴾: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، فـ (اللام): مفتوحة باتفاق القراء، والفاعل: هو الاسم الموصول الذي هو من قبيل الظاهر، وهو ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: إذا علمت هذا فقد علمت أن ما وقع هذا في "الجلالين" من أنه حذف منه نون الرفع لتوالي النونات، والواو: ضمير الجمع لالتقاء الساكنين سبق قلم، فليس بصواب.
﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ﴾: واعلم أن الطبع أن يصور الشيء بصورة ما، كطبع السكة وطبع الدراهم، وهو أعم من الختم، وأخص من النقض، والطابع والخاتم: ما يطبع به ويختم، والطابع: فاعل ذلك، وبه اعتبر الطبع والطبيعة، التي هي السجية، فإن ذلك هو نقش النفس بصورة ما، إما من حيث الخلقة من من حيث العادة، وهو فيما ينقش به من جهة الخلقة أغلب.
﴿وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾ قال في "المفردات": لا يزعجنك ولا يزيلنك عن اعتقادك ودينك بما يوقعون من الشبه.
﴿الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾: الإيقان واليقين: أخذ من اليقين، وهو الماء الصافي، كما في "كشف الأسرار".
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنوعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: أسلوب الإطناب في قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ الآية. وذلك لتعداد النعم الكثيرة، وكان يكفي أن يقول: ﴿لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ ولكنه أسهب تذكيرًا للعباد بالنعم.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ لأنه مجاز مرسل علاقته الحالية، لأن الرحمة تحل في الخصب والمطر، فأطلق الحال وأريد المحل، وفسر بعضهم الرحمة بقوله؛ أي: من نعمته من المياه العذبة والأشجار الرطبة وصحة الأبدان وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا الله.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا﴾.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا﴾ حذف منه فكذبوهم واستهزؤوا بهم.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ لأن مقتضى السياق أن يقال: فانتقمنا منهم، فوضع الموصول الذي هو من قبيل الظاهر، موضع الضمير، للتنبيه على مكان المحذوف، وللإشعار بكونه علة للانتقام.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ فأسند الإثارة إلى الرياح، مع أن المثير حقيقة هو الله تعالى؛ لأنه سببها، والفعل قد ينسب إلى سببه، كما ينسب إلى فاعله. اهـ. "روح".
ومنها: التكرار في قوله: ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ للتأكيد، والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر، واستحكام يأسهم منه.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾؛ أي: بعد
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ الخ. شبه الكفار بالموتى وبالصم والعمي في عدم إحساسهم وسماعهم للمواعظ والبراهين، بطريق الاستعارة التصريحية، لانسداد مشاعرهم عن الحق.
ومنها: إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل في قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ﴾؛ أي: من أصل ضعيف.
ومنها: الطباق بين ﴿ضَعْفٍ﴾ و ﴿قُوَّةً﴾.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ لأن معناه المبالغ في العلم والقدرة.
ومنها: الجناس التام في قوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ المراد بالساعة أولًا: القيامة، وبالثانية: الجزء من الزمان، فبينهما جناس كامل.
ومنها: الاستعارة التمثيلية التبعية في قوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ﴾ الخ. شبه إحداث الله تعالى في نفوس الكفار هيئة تمرنهم وتعودهم على استحباب الكفر والمعاصي، واستقباح الإيمان والطاعات، بسبب إعراضهم عن النظر الصحيح، بالختم والطبع على الأواني، ونحوها في أنهما مانعان، فإن هذه الهيئة مانعة من نفوذ الحق في قلوبهم، كما أن الختم على الأواني ونحوها مانع من التصرف فيها، ثم استعير الطبع لتلك الهيئة، ثم اشتق منه ﴿يَطْبَعُ﴾ فيكون استعارةً تبعية. اهـ. "روح".
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
١ - إثبات النبوة بالإخبار بالغيب.
٢ - البراهين الدالة على الوحدانية.
٣ - الاعتبار بما حدث للمكذبين من قبلهم.
٤ - الأدلة التي في الآفاق، شاهدة على وحدانية الله سبحانه وعظيم قدرته.
٥ - الأدلة على صحة البعث.
٦ - ضرب الأمثال على أن الشركاء لا يجدونهم فتيلًا، ولا قطميرًا يوم القيامة.
٧ - الأمر بعبادة الله وحده، وهي الفطرة التي فطر الناس عليها.
٨ - النهي عن اتباع المشركين، الذين فرقوا دينهم بحسب أهوائهم.
٩ - من طبيعة المشرك: الإنابة إلى الله إذا مسه الضر، والإشراك به حين الرخاء.
١٠ - من دأب الناس: الفرح بالنعمة والقنوط حين الشدة، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
١١ - الأمر بالتصدق على ذوي القربى والمساكين وابن السبيل.
١٢ - الدلائل التي وضعها سبحانه في الأنفس شاهدة على وحدانيته.
١٣ - للخير والشر فائدة تعود إلى المرء يوم تجزى كل نفس بما كسبت.
١٤ - في النظر في آثار المكذبين عبرة لمن اعتبر.
١٥ - تسلية الرسول على عدم إيمان قومه، بأنهم صم عمي لا يسمعون ولا يبصرون.
١٦ - بيان أن الكافرين يكذبون في الآخرة، كما كانوا يكذبون في الدنيا.
١٨ - أمره - ﷺ - بإدامة التبليغ، مهما لاقى من الأذى، فإن العاقبة والنصر له، والخذلان لمن كذب به (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة لقمان مكية، إلا ثلاث (١) آيات: أولاهن قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ﴾ إلى تمام الآيات الثلاث.. قاله ابن عباس فيما أخرجه النحاس عنه، وحكى القرطبي عن قتادة: أنها مكية إلا آيتين: أولاهما: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ﴾ إلى آخر الآيتين. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها مكية ولم يستثن، وأخرج النسائي وابن ماجه عن البراء قال: كنا نصلي خلف النبي - ﷺ - الظهر نسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات.
آياتها: أربع وثلاثون آية، وقيل (٢): ثلاث وثلاثون آية. وكلماتها: خمس مئة وثمان وأربعون كلمة. وحروفها: ألفان ومئة وعشرة أحرف.
التسمية: سميت سورة لقمان، لاشتمالها على قصة لقمان الحكيم، التي تضمنت فضيلة الحكمة، وسر معرفة الله تعالى وصفاته، وذم الشرك، والأمر بمكارم الأخلاق، والنهي عن القبائح والمنكرات، وما تضمنته كذلك من الوصايا الثمينة، التي أنطقه الله بها، وكانت من الحكمة والرشاد بمكان.
فضلها: ومن فضائلها: ما روي عن النبي - ﷺ - أنه قال (٣): "من قرأ سورة لقمان.. كان لقمان رفيقًا له يوم القيامة، وأعطي من الحسنات عشرًا، بعدد من عمل بالمعروف، ونهى عن المنكر، ولكن فيه مقال.
وعن الزهري (٤) - رحمه الله -: أكثروا قراءة سورة لقمان، فإن فيها أعاجيب، والله أعلم.
(٢) البيضاوي.
(٣) البيضاوي.
(٤) النسفي.
١ - أنه تعالى قال في السورة السالفة: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ وأشار إلى ذلك في مُفْتَحِ هذه السورة بقوله: ﴿الم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (٢)﴾.
٢ - أنه قال في آخر ما قبلها: ﴿وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ﴾ وقال في هذه: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا﴾.
٣ - أنه قال في السورة السالفة: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ وقال في هذه: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ ففي كلتيهما إفادة سهولة البعث.
٤ - أنه ذكر في السابقة قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣)﴾. وقال في هذه: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾، فذكر في كل من الآيتين قسمًا لم يذكره في الآخر.
٥ - أنه ذكر في السورة التي قبلها محاربة ملكين عظيمين لأجل الدنيا، وذكر في هذه السورة قصة عبد مملوك زهد في الدنيا، وأوصى ابنه بالصبر والمسالمة، وذلك يقتضي ترك المحاربة، وبين الأمرين التقابل، وشاسع البون، كما لا يخفى.
الناسخ والمنسوخ منها: وجميع (٢) هذه السورة محكم، إلا آيةً واحدة وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ﴾ الآية (٢٣).
سبب نزولها: سبب نزول هذه السورة إلا ما استثني منها (٣): أن قريشًا سألت النبي - ﷺ - عن قصة لقمان مع ابنه، وعن بره والديه، فنزلت: وأما
(٢) ابن حزم.
(٣) المراغي.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١١) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٢١)﴾.قد تقدم لك ذكر مناسبة السورة للسورة، هنا نذكر مناسبة الآيات بعضها لبعض، قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أن الله سبحانه لما بين حال السعداء الذين يهتدون بكتاب الله تعالى، وينتفعون بسماعه، وهم الذين قال الله فيهم: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾.. أردف ذلك بذكر حال الأشقياء، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله تعالى، وأقبلوا على استماع كلام المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال من أعرض عن الآيات، وبين مآله.. عطف على ذلك ذكر مآل من قبل تلك الآيات، وأقبل على تلاوتها والانتفاع بها.
قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين فيما سلف كمال قدرته وعلمه، وإتقان عمله.. أردف ذلك بالاستشهاد لما سلف بخلق السماوات والأرض، وما بعده، مع تقرير وحدانيته، وإبطال أمر الشرك، وتبكيت أهله.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين (٢) فساد اعتقاد المشركين، بإشراك من لا يخلق شيئًا بمن خلق كل شيء، ثم بين أن المشرك ظالم ضال.. أعقب ذلك ببيان أن نعمه الظاهرة في السماوات والأرض، والباطنة من العلم والحكمة، ترشد إلى وحدانيته، وقد آتاها لبعض عباده، كلقمان الذي فطر عليها دون نبي أرشده، ولا رسول بعث إليه.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) أقام الأدلة على التوحيد، وذكر أن لقمان فهمه بالحكمة دون أن يرسل إليه نبي.. عاد إلى خطاب المشركين، وتوبيخهم على إصرارهم على ما هم عليه من الشرك، مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد لائحةً للعيان، يشاهدونها في كل آن في السماوات والأرض، وتسخيرهم لما فيها مما فيه مصالحهم في المعاش والمعاد، وإنعامه عليهم بالنعم المحسوسة والمعقولة، المعروفة لهم وغير المعروفة، ثم أبان أن كثيرًا من الناس يجادلون في توحيد الله وصفاته بدون دليل عقلي على ما يدعون، ولا رسول أرسل إليهم بما عنه يناضلون، ولا كتاب أنزل إليهم يؤيد ما يعتقدون، وإذا هم أفحموا بالحجة والسلطان المبين.. لم يجدوا جوابًا إلا تقليد الآباء والأجداد، بنحو قولهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ وما ذاك إلا من نزغات الشيطان، والشيطان لا يدعو إلا إلى الضلال الموصل إلى النار وبئس القرار.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ...﴾ الآيتين، سبب نزولهما: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: نزلتا في النضر بن الحارث، اشترى قينة - مغنية - وكان لا يسمع بأحد يريد الإِسلام إلا انطلق بها