تفسير سورة الرّوم

زاد المسير
تفسير سورة سورة الروم من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الروم
وهي مكية كلها بإجماعهم

سورة الرّوم
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥)
قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ.
(١٠٩٧) ذكر أهل التفسير في سبب نزولها أنه كان بين فارس والروم حرب فغلبت فارس الرُّومَ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابَه، فشقَّ ذلك عليهم، وفرح المشركون بذلك، لأنَّ فارس لم يكن لهم كتاب وكانوا يجحدون البعث ويعبُدون الأصنام، والرُّوم أصحاب كتاب، فقال المشركون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إِنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أُمِّيُونَ، وقد ظهر إِخواننا من أهل فارس على إِخوانكم من الرُّوم، فان قاتلتمونا لَنَظْهَرَنَّ عليكم، فنزلت هذه الآية، فخرج بها أبو بكر الصديق إِلى المشركين، فقالوا: هذا كلام صاحبك؟ فقال: اللهُ أَنزل هذا، فقالوا لأبي بكر: نراهنك على أن الروم لا تغلب فارس، فقال أبو بكر: البِضْع ما بين الثلاث إِلى التسع، فقالوا: الوسط من ذلك ست، فوضعوا الرِّهان، وذلك قبل أن يُحرَّم الرِّهان، فرجع أبو بكر إِلى أصحابه فأخبرهم، فلاموه وقالوا: هلاَّ أقررتَها كما أقرَّها الله تعالى؟! لو شاء أن يقول: ستاً، لقال! فلمَّا كانت سنة ست، لم تظهر الروم على فارس، فأخذوا الرهان، فلمَّا كانت سنة سبع ظهرت الرُّومُ على فارس.
(١٠٩٨) وروى ابن عباس قال: لمَّا نزلت: آلم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ ناحب أبو بكر قريشا، فقال له
حديث صحيح بشواهده، دون بعض ألفاظ سأذكرها منكرة ليس لها شواهد. أخرجه الترمذي ٣١٩٤ من طريق إسماعيل بن أويس عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم به.
وإسناده لين، إسماعيل بن أبي أويس، وثقه قوم وضعفه آخرون. وقد تفرد في هذا الحديث بألفاظ منها «فأخذ المشركون رهن أبي بكر» غريب، فعامة الروايات تذكر الخطر، من غير بيان أنه أبو بكر أو أخذه المشركون.
على أنه ورد من حديث البراء أن أبا بكر هو أخذ الرهن. وقد ذكر الألباني هذا الحديث في «صحيح الترمذي» ٢٥٥٢ فحسنة من غير تفصيل وبيان لما فيه من ألفاظ غريبة أو منكرة، والله الموفق. وانظر «فتح القدير» ١٩٠٢ و «تفسير القرطبي» ٤٨٩٠ و «أحكام القرآن» ١٧٣٨ بتخريجنا، والله أعلم.
صحيح. أخرجه الترمذي ٣١٩١ والطبري ٧٨٦٦ عن ابن عباس، وهو مختصر، وإسناده غير قوي لأجل عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي. ولحديث ابن عباس طريق آخر، أخرجه الترمذي ٣١٩٣ والنسائي في «الكبرى» ١١٣٨٩ وفي «التفسير» ٤٠٩ وأحمد ١/ ٢٧٦- ٣٠٤ والحاكم ٢/ ٤١٠ والطبراني ١٢/ ١٢٣٧٧ والطبري ٢٧٨٦٥ والبيهقي في «الدلائل» ٢/ ٣٣٠- ٣٣١ من طرق عن أبي إسحاق الفزاري عن الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، أبو إسحاق هو إبراهيم بن محمد الحارث روى له الشيخان، ومن دونه توبعوا، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح. وهذا المتن أصح شيء في الباب، ولأصله شواهد كثيرة منها الآتي لكن في بعض ألفاظها نكارة وغرابة أحيانا. وله طريق آخر، أخرجه الطبري ٢٧٨٦٧، وفي الإسناد مجاهيل، وفيه أيضا عطية العوفي، وهو واه. وله شاهد عن ابن مسعود، أخرجه الطبري ٢٧٨٧٦، وفيه إرسال بين الشعبي وابن مسعود، ورجال الإسناد ثقات. وله شاهد عن البراء بن عازب، أخرجه أبو يعلى كما في «المطالب العالية» ٣٦٩٨، وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣/ ٥٢٢ وإسناده ضعيف، فيه مؤمل بن إسماعيل، وضعفه غير واحد لسوء حفظه. وفي الباب مراسيل تشهد لأصله منها:
مرسل عكرمة: أخرجه الطبري ٢٧٨٧٢ وكرره ٢٧٨٧٣. مرسل قتادة: أخرجه الطبري ٢٧٨٧٤. مرسل ابن زيد: أخرجه الطبري ٢٧٨٧٨.
- الخلاصة هو حديث صحيح، له شواهد وطرق كما ترى، وفي بعض ألفاظ تلك الشواهد والطرق نكارة أحيانا وغرابة أحيانا أخرى، لكن مع ذلك تشهد لأصل هذا الحديث: وتدل على ثبوته، والله أعلم.
- وانظر «تفسير القرطبي» ٤٨٨٩ و ٤٨٠ و ٤٨٩١ و «فتح القدير» ١٩٠٠ و ١٩٠١ و ١٩٠٢ و ١٩٠٣ و «أحكام القرآن» ١٧٣٧ وهي جميعا بتخريجنا، والله الموفق.
415
رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ألا احتطتَ، فانَّ البِضْع ما بين السبع والتسع». وذكر بعضهم أنهم ضربوا الأجَل خمس سنين، وقال بعضهم: ثلاث سنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إِنما البِضْع ما بين الثلاث إِِلى التسع» فخرج أبو بكر فقال لهم: أُزايدُكم في الخطر وأَمُدُّ في الأجَل إِلى تسع سنين، ففعلوا، فقهرهم أبو بكر، وأخذ رهانهم. وفي الذي تولَّى وضع الرهان من المشركين قولان: أحدهما: أُبيُّ بن خلف، قاله قتادة.
والثاني: أبو سفيان بن حرب، قاله السدي.
قوله تعالى: فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وقرأ أُبيُّ بن كعب، والضحاك، وأبو رجاء، وابن السميفع: «في أَداني الأرض» بألف مفتوحة الدال أي: أقرب الأرض أرض الروم إِلى فارس. قال ابن عباس: وهي طرف الشام. وفي اسم هذا المكان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الجزيرة، وهي أقرب أرض الروم إِلى فارس، قاله مجاهد. والثاني: أذْرِعات وكَسْكَر، قاله عكرمة. والثالث: الأردنُّ وفلسطين، قاله السدي.
قوله تعالى: وَهُمْ يعني الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ وقرأ أبو الدرداء، وأبو رجاء، وعكرمة، والأعمش: «غَلْبهم» بتسكين اللام أي: من بعد غلبة فارس إِيَّاهم، والغَلَب والغَلَبة لغتان، سَيَغْلِبُونَ فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ، في البِضْع تسعة أقوال قد ذكرناها في يوسف «١». قال المفسّرون: وهي ها هنا سبع سنين، وهذا من علم الغيب الذي يدل على أن القرآن حق، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي: من قبل ان تُغلَب الروم ومِنْ بَعْد ما غَلبت والمعنى أن غَلَبة الغالب وخِذْلان المغلوب، بأمر الله عزّ وجلّ وقضائه وَيَوْمَئِذٍ يعني يوم غلبت الرومُ فارس يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ للروم. وكان التقاء الفريقين في السنة السابعة من غَلَبة فارس إيّاهم، فغلبتهم الرّوم، وجاء
(١) يوسف: ٤٢.
416
جبريلُ يخبر بنصر الروم على فارس، فوافق ذلك يوم بدر، وقيل: يوم الحديبية «١».
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٦ الى ٨]
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨)
قوله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ أي: وَعَدَ اللهُ ذلك وَعْداً لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ أنَّ الرُّوم يَظهرون على فارس وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعني كفّار مكّة لا يَعْلَمُونَ أنّ الله تعالى لا يُخْلِف وعده في ذلك.
ثم وصف كفار مكة، فقال: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا قال عكرمة: هي المعايش. وقال الضحاك:
يعلمون بنيان قصورها وتشقيق أنهارها. وقال الحسن: يعلمون متى زرعهم ومتى حصادهم، ولقد بلغ واللهِ مِنْ عِلْم أحدهم بالدنيا أنه ينقُر الدرهم بظُفره فيُخبرك بوزنه ولا يُحسن يصلِّي. قوله تعالى: وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ لأنهم لا يؤمنون بها. قال الزجاج: وذِكْرهم ثانية يجري مجرى التوكيد، كما تقول: زيد هو عالم، وهو أوكد من قولك: زيد عالم. قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قال الزّجّاج: معناه: أو لم يتفكروا فيعلموا فحذف «فيعلموا» لأن في الكلام دليلاً عليه. ومعنى إِلَّا بِالْحَقِّ: إِلاَّ للحق، أي: لإِقامة الحق وَأَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت الجزاء وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ المعنى: لكافرون بلقاء ربِّهم، فقدِّمت الباء، لأنها متّصلة ب «كافرون» وما اتصل بخبر «إِنَّ» جاز أن يقدَّم قبل اللام، ولا يجوز أن تدخل اللام بعد مضي الخبر من غير خلاف بين النحويين، لا يجوز أن تقول: إِن زيداً كافرٌ لَبِالله، لأن اللام حَقُّها أن تدخل على الابتداء والخبر أو بين الابتداء والخبر، لأنها تؤكِّد الجملة. وقال مقاتل في قوله تعالى: وَأَجَلٍ مُسَمًّى: للسّماوات والأرض أَجَل ينتهيان إِليه، وهو يوم القيامة وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعني كفار مكة بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي: بالبعث لَكافِرُونَ.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٩ الى ١١]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١)
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: أو لم يسافروا فينظروا مصارع الأُمم قبلهم كيف أُهلكوا بتكذيبهم فيعتَبروا.
قوله تعالى: وَأَثارُوا الْأَرْضَ أي: قلبوها للزراعة، ومنه قيل للبقرة: مثيرة. وقرأ أبيّ بن كعب، ومعاذ القارئ، وأبو حيوة: «وآثَرُوا الأرض» بمد الهمزة وفتح الثاء مرفوعة الراء، وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي: أكثر من عِمارة أهل مكة، لطول أعمار أولئك وشدّة قوّتهم وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
(١) هذا منكر فإن السورة مكية جميعا باتفاق.
بِالْبَيِّناتِ أي: بالدَّلالات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بتعذيبهم على غير ذنب وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر والتكذيب ودلَّ هذا على أنهم لم يؤمنوا فأُهلكوا.
ثم أخبر عن عاقبتهم فقال: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى يعني الخَلَّة السيِّئة وفيها قولان:
أحدهما: أنها العذاب، قاله الحسن. والثاني: جهنم، قاله السدي. قوله تعالى: أَنْ كَذَّبُوا قال الفراء: لأن كذَّبوا، فلمَّا أُلقيت اللامُ كان نصباً، وقال الزجاج: لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم. وقيل:
السُّوأى مصدر بمنزلة الإِساءَة فالمعنى: ثم كان التكذيب آخرَ أمرهم، أي: ماتوا على ذلك، كأنَّ الله تعالى جازاهم على إِساءَتهم أن طبع على قلوبهم حتى ماتوا على التكذيب عقوبةً لهم. وقال مكي بن أبي طالب النحوي: «عاقبةُ» اسم كان، و «السُّوأى» خبرها، و «أن كذَّبوا» مفعول من أجله ويجوز أن يكون «السُّوأى» مفعولة ب «أساؤوا»، و «أن كذَّبوا» خبر كان، ومن نصب «عاقبةَ» جعلها خبر «كان»، و «السُّوأى» اسمها، ويجوز أن تكون «أن كذَّبوا» اسمها. وقرأ الأعمش: «أساؤوا السُّوءُ» برفع السّوء».
قوله تعالى: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي: يخلُقهم أوّلاً، ثم يعيدهم بعد الموت أحياءً كما كانوا، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «تُرْجَعون» بالتاء فعلى هذا يكون الكلام عائداً من الخبر إِلى الخطاب، وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: بالياء، لأن المتقدِّم ذِكْره غَيبة، والمراد بذِكر الرجوع: الجزاءُ على الأعمال، والخَلْق بمعنى المخلوقين، وإِنما قال: «يُعِيده» على لفظ الخلق.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٢ الى ١٦]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦)
قوله تعالى: يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ قد شرحنا الإِبلاس في سورة الأنعام «١». قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ أي: من أوثانهم التي عبدوها شُفَعاءُ في القيامة وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يتبرَّؤون منها وتتبرَّأ منهم. قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ وذلك بعد الحساب ينصرف قوم إِلى الجنة، وقوم إِلى النار. قوله تعالى: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ الرَّوضة: المكان المخضرُّ من الأرض وإِنَّما خصَّ الروضة، لأنها كانت أعجب الأشياء إِلى العرب قال أبو عبيدة: ليس شيءٌ عند العرب أحسنَ من الرياض المُعْشِبة ولا أطيبَ ريحاً، قال الأعشى:
مَا رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ خَضْرَاءُ جادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ
يَوْماً بأطْيَبَ مِنْها نَشْرَ رائحَةٍ وَلا بأحْسَنَ مِنْها إِذ دَنا الأُصُلُ «٢»
قال المفسرون: والمراد بالروضة: رياض الجنة. وفي معنى «يُحْبَرون» أربعة أقوال: أحدها:
(١) الأنعام: ٤٤.
(٢) في «اللسان» : السّبل: المطر، وقيل: المطر السبل. وقد أسبلت السماء، وأسبل المطر.
يُكْرَمون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: ينعمون، قاله مجاهد، وقتادة. وقال الزجاج:
والحَبْرَة في اللغة: كل نَغْمَةَ حسنَة. والثالث: يفرحون، قاله السدي. وقال ابن قتيبة: «يُحْبَرون» يُسَرُّون، والحَبْرَة السُّرور. والرابع: أن الحَبْر: السّماع في الجنّة، فإذ أخذ أهل الجنة في السماع، لم تبق شجرة إِلاَّ ورَّدت، قاله يحيى بن أبي كثير. وسئل يحيى بن معاذ: أيّ الأصوات أحسن؟ فقال:
مزامير أُنس، في مقاصير قُدس، بألحان تحميد، في رياض تمجيد فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «١».
قوله تعالى: فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي: هم حاضرون العذاب أبداً لا يخفَّف عنهم.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٧ الى ١٩]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)
ثم ذكر ما تُدْرَك به الجنة ويُتباعَد به من النار فقال: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ قال المفسّرون:
المعنى: فصلّوا لله عزّ وجلّ حين تُمسون، أي: حين تدخُلون في المساء وَحِينَ تُصْبِحُونَ أي:
تدخلون في الصّباح، وتُظْهِرُونَ تدخُلون في الظهيرة، وهي وقت الزَّوال، وَعَشِيًّا أي: وسبِّحوه عشيّاً. وهذه الآية قد جمعت الصّلوات الخمس، فقوله تعالى: «حين تُمسون» يعني به صلاة المغرب والعشاء، «وحين تصبحون» يعني به صلاة الفجر، «وعشيّاً» العصر، و «حين تُظْهِرونَ» الظُّهر. قوله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس: يَحْمَده أهل السموات وأهل الأرض ويصلُّون له. قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فيه أقوال قد ذكرناها في سورة آل عمران «٢». قوله تعالى:
وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي: يجعلها مُنْبِتة بعد أن كانت لا تُنْبِت، وتلك حياتها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «تُخْرَجون» بضم التاء، وفتحها حمزة والكسائي والمراد: تخرجون يوم القيامة من الأرض، أي: كما أحيا الأرض بالنبات يُحييكم بالبعث.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٠ الى ٢٩]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩)
(١) القمر: ٥٥.
(٢) آل عمران: ٢٧.
419
قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أي: من دلائل قدرته أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني آدم لأنه أصل البشر ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ من لحم ودم، يعني ذرّيته تَنْتَشِرُونَ يعني تنبسطون في الأرض.
قوله تعالى: أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً فيه قولان: أحدهما: أنه يعني بذلك آدم، خلق حوَّاء من ضِلعه، وهو معنى قول قتادة. والثاني: أن المعنى: جعل لكم آدميَّات مثلكم ولم يجعلهنَّ من غير جنسكم، قاله الكلبي. قوله تعالى: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي: لتأووا إِلى الأزواج وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً وذلك أن الزوجين يتوادَّان ويتراحمان من غير رَحِم بينهما إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكره من صنعه لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في قدرة الله عزّ وجلّ وعظَمته. قوله تعالى: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ يعني اللغات من العربية والعجمية وغير ذلك وَأَلْوانِكُمْ لأنَّ الخلق بين أسود وأبيض وأحمر، وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة. وقيل: المراد باختلاف الألسنة: اختلاف النَّغَمات والأصوات، حتى إِنه لا يشتبه صوت أخوين من أب وأم. والمراد باختلاف الألوان: اختلاف الصُّوَر، فلا تشتبه صورتان مع التشاكل إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «للعالَمِين» بفتح اللام. وقرأ حفص عن عاصم: «للعالِمِين» بكسر اللام.
قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ أي: نومكم. قال أبو عبيدة: المنام من مصادر النَّوم، بمنزلة قام يقوم قِياماً ومَقاماً، وقال يقول مَقالاً، قال المفسرون: وتقدير الآية: منامكم بالليل وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ وهو طلب الرزق بالنهار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع اعتبار وتذكُّر وتدبُّر وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ قال اللغويون: إِنَّما حذف «أنْ» لدلالة الكلام عليه، وأنشدوا:
وما الدَّهْرُ إِلاَّ تارتان فتارةً أموتُ وأُخرى أبتغي العَيْش أكدحُ «١»
ومعناه: فتارة أموت فيها، وقال طرفة:
ألا أيّهذا الزّاجري أحصر الوغى «٢»
أراد: أن أحضر. وقد شرحنا معنى الخوف والطمع في رؤية البَرْق في سورة الرعد «٣».
قوله تعالى: أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أي: تدوما قائمتين بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً وهي نفخة إسرافيل الأخيرة في الصّور بأمر الله عزّ وجلّ مِنَ الْأَرْضِ أي: من قبوركم إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ منها، وما بعد هذا قد سبق بيانه «٤» إلى قوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وفيه أربعة أقوال: أحدها: أن الإِعادة أهون عليه من البداية، وكُلُّ هيِّنٌ عليه، قاله مجاهد، وأبو العالية. والثاني: أنّ «أهون» بمعنى «هين» عليه، فالمعنى: وهو هيِّن عليه، وقد يوضع «أفعل» في موضع «فاعل»، ومثله قولهم في الأذان:
الله أكبر، أي: الله كبير، قال الفرزدق:
(١) البيت لتميم بن مقبل.
(٢) هو صدر بيت لطرفة بن العبد من معلقته وعجزه: وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي.
(٣) الرعد: ١٢. [.....]
(٤) البقرة: ١١٦ والعنكبوت: ١٩.
420
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنى لَنَا بَيْتاً دعَائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ
وقال معن بن أوس المزني:
لَعَمْرُكَ مَا أدْري وإِنِّي لأوجَلُ على أيِّنا تغدو المَنِيَّةُ أَوَّلُ «١»
أي: وإِنِّي لَوَجِل، وقال غيره:
أصبحتُ أمنحُك الصُّدودَ وإِنَّني قسماً إِليك مع الصُّدود لأَمْيَلُ «٢»
وأنشدوا أيضاً:
تَمَنَّى رِجالٌ أنْ أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأَوْحَدِ
أي: بواحد، هذا قول أبي عبيدة، وهو مرويّ عن الحسن، وقتادة. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو عمران الجوني، وجعفر بن محمد: «وهو هَيِّن عليه». والثالث: أنه خاطب العباد بما يعقلون، فأعلمهم أنه يجب أن يكون عندهم البعث أسهل من الابتداء في تقديرهم وحُكمهم، فمن قَدَرَ على الإِنشاء كان البعثُ أهونَ عليه، هذا اختيار الفراء، والمبرد، والزجاج، وهو قول مقاتل. وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الهاء في «عليه» عائدة إلى الله عزّ وجلّ. والرابع: أن الهاء تعود على المخلوق، لأنه خلَقه نطفة ثم علقة ثم مضغة، ويوم القيامة يقول له كن فيكون، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو اختيار قطرب. قوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى قال المفسرون: أي: له الصِّفة العُليا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهي أنَّه لا إِله غيره.
قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا سبب نزولها أن أهل الجاهلية كانوا يلبُّون فيقولون: لبَّيك لا شريك لك إِلا شريكاً هو لك تملكُه وما ملك، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. ومعنى الآية: بيَّن لكم أيها المشركون شَبَهاً، وذلك الشَّبه مِنْ أَنْفُسِكُمْ ثم بيّنه فقال: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي: من عبيدكم مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من المال والأهل والعبيد، أي: هل يشارككم عبيدكم في أموالكم فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أي: أنتم وشركاؤكم من عبيدكم سواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: كما تخافون أمثالكم من الأحرار، وأقرباءكم كالآباء والأبناء؟ قال ابن عباس: تخافونهم أن يَرِثوكم كما يَرِث بعضكم بعضاً؟ وقال غيره: تخافونهم أن يقاسموكم أموالكم كما يفعل الشركاء؟
والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويَه في التصرُّف في ذلك، فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيرَه من الشركاء الأحرار؟، فاذا لم ترضَواْ ذلك لأنفسكم، فلم عَدَلتم بي من خَلْقي مَنْ هو مملوك لي؟! كَذلِكَ أي: كما بيَّنَّا هذا المَثَل نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عن الله تعالى. ثم بيَّن أنَّهم إِنَّما اتَّبعوا الهوى في إِشراكهم، فقال: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أشركوا بالله أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وهذا يدل على أنهم إِنما أشركوا باضلال الله إِيَّاهم وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي: مانعين من عذاب الله تعالى.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٠ الى ٣٨]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤)
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨)
(١) في «اللسان» : الوجل: الفزع والخوف.
(٢) البيت للأحوص.
421
قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ قال مقاتل: أخلص دينك الإِسلام لِلدِّينِ أي: للتوحيد. وقال أبو سليمان الدمشقي: استقم بدينك نحو الجهة التي وجّهك الله تعالى إِليها. وقال غيره: سدِّد عملك.
والوجه: ما يُتَوجَّه إِليه، وعمل الإِنسان ودينه: ما يتوجَّه إِليه لتسديده وإِقامته.
قوله تعالى: حَنِيفاً قال الزجاج: الحنيف: الذي يميل إِلى الشيء ولا يرجع عنه، كالحَنَف في الرِّجل، وهو ميلها إِلى خارجها خِلْقة، لا يقدر الأحنف أن يردّ حنفه، وقوله: فِطْرَتَ اللَّهِ منصوب، بمعنى: اتَّبِع فطرةَ الله، لأن معنى «فأقم وجهك» : اتَّبِع الدِّين القيِّم، واتَّبع فطرة الله تعالى، أي: دين الله تعالى والفطرة: الخلقة التي خلق عليها البشر.
(١٠٩٩) وكذلك قوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة» !، أي: على الإِيمان بالله تعالى. وقال مجاهد في قوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها قال: الإِسلام، وكذلك قال قتادة. والذي أشار إِليه الزجاج أصح، وإِليه ذهب ابن قتيبة، فقال: فرقُ ما بيننا وبين أهل القَدَر في هذا الحديث، أن الفطرة عندهم: الإِسلام، والفطرة عندنا: الإقرار بالله عز وجل والمعرفة به، لا الإِسلام، ومعنى الفطرة: ابتداء الخلقة، فالكلّ أقرّوا حين قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «١»، ولستَ واجداً أحداً إِلا وهو مُقِرّ بأنَّ له صانعاً ومدبِّراً وإِن عبد شيئاً دونه وسمَّاه بغير اسمه فمعنى الحديث: إِن كل مولود في العالَم على ذلك العهد وذلك الإِقرار الأول، وهو الفطرة، ثم يهوِّد اليهودُ أبناءهم، أي:
صحيح. أخرجه مسلم ٢٦٥٨ وأحمد ٢/ ٢٧٥ وابن حبان ١٣٠ من طرق عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به. وهو في «مصنف عبد الرزاق» برقم ٢٠٠٨٧. وأخرجه مسلم ٢٦٥٨ وأحمد ٢/ ٢٣٣ من طريقين عن الزهري به. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» ٣/ ٣٠٨ من طريق قتادة عن ابن المسيب به. وورد من وجه آخر مختصرا عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجّسانه». أخرجه البخاري ١٣٥٨ و ١٣٥٩ و ١٣٨٥ و ٤٧٧٥ ومسلم ٢٦٥٨ وأحمد ٢/ ٣٩٣، وابن حبان. وورد أيضا من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة باللفظ المذكور آنفا عند مسلم ٢٦٥٨ ح ٢٣ والترمذي ٢١٣٨ وأحمد ٢/ ٢٥٣ و ٤٨١ والطيالسي ٢٤٣٣ وأبو نعيم في «الحلية» ٩/ ٩٦ والبغوي في «شرح السنة» ٨٤.
__________
(١) الأعراف: ١٧٢.
422
يعلِّمونهم ذلك، وليس الإِقرار الأول ممَّا يقع به حُكم ولا ثواب، وقد ذكر نحو هذا أبو بكر الأثرم، واستدل عليه بأن الناس أجمعوا على أنه لا يرث المسلُم الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ، ثم أجمعوا على أن اليهوديَّ إِذا مات له ولد صغير ورثه، وكذلك النصراني، والمجوسي، ولو كان معنى الفطرة الإِسلام، ما ورثه إِلا المسلمون، ولا دفن إِلا معهم، وإِنما أراد بقوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة» أي: على تلك البداية التي أقرُّوا له فيها بالوحدانية حين أخذهم مِن صُلْب آدم، فمنهم من جحد ذلك بعد إِقراره. ومثل هذا الحديث حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال:
(١١٠٠) «قال الله عزّ وجلّ: إِني خَلقتُ عبادي حنفاء»، وذلك أنه لم يدعُهم يوم الميثاق إِلاَّ إِلى حرف واحد، فأجابوه.
قوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لفظه لفظ النفي، ومعناه النهي والتقدير: لا تبدّلوا خلق الله عزّ وجلّ، وفيه قولان: أحدهما: أنه خِصاء البهائم، قاله عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. والثاني: دين الله عز وجل، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والنخعي في آخرين، وعن ابن عباس وعكرمة كالقولين. قوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني التوحيد المستقيم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعني كفار مكة لا يَعْلَمُونَ توحيد الله عز وجلّ.
قوله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ قال الزجاج: زعم جميع النحويين أن معنى هذا: فأقيموا وجوهكم منيبين، لأنّ مخاطبة النبيّ صلى الله عليه وسلّم تدخل معه فيها الأُمَّة، ومعنى «منيبين» : راجعين إِليه في كل ما أمر، فلا يخرجون عن شيء من أمره. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «١» إِلى قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً وفيه قولان: أحدهما: أنه القحط، والرحمة: المطر. والثاني:
أنه البلاء، والرحمة: العافية، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ وهم المشركون. والمعنى: إنّ الكلّ يلتجئون إليه في
صحيح. أخرجه مسلم ٢٨٦٥ وعبد الرزاق في «المصنف» ٢٠٠٨٨ وأحمد ٤/ ١٦٢ و ٢٦٦ والطيالسي ١٠٧٩ والطبراني ١٧/ ٩٨٧ و ٩٩٢- ٩٩٧ والبغوي ٤١٠٥ والبيهقي ٩/ ٦٠ وابن حبان ٦٥٣ من طرق عن قتادة.
والحديث بتمامه بلفظ مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال ذات يوم في خطبة: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا كل مال نحلته عبدا، حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب.
وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرّق قريشا. فقلت: رب! إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسة مثله. وقاتل بمن أطاعك من عصاك قال: وأهل الجنة ثلاثة:
ذو سلطان مقسط متصدق موفق. ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم. وعفيف متعفف ذو عيال قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع، وإن دقّ إلا خانه ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك»
.
ومعنى لا يخفى: لا يظهر ويقول أهل اللغة خفيت الشيء إذا أظهرته وأخفيته إذا سترته وكتمته.
__________
(١) البقرة: ٣، الأنعام: ١٥٩.
423
شدائدهم، ولا يلتفت المشركون حينئذ إِلى أوثانهم.
قوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ قد شرحناه في آخر العنكبوت «١»، وقوله تعالى: فَتَمَتَّعُوا خطاب لهم بعد الإِخبار عنهم. قوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ أي: على هؤلاء المشركين سُلْطاناً أي: حُجَّة وكتاباً من السماء فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي: يأمرهم بالشِّرك؟! وهذا استفهام إنكار، ومعناه: ليس الأمر كذلك.
قوله تعالى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ قال مقاتل: يعني كفار مكة رَحْمَةً وهي المطر. والسيِّئة:
الجوع والقحط، وقال ابن قتيبة: الرحمة: النعمة، والسيِّئة: المصيبة. قال المفسرون: وهذا الفرح المذكور ها هنا، هو فرح البطر الذي لا شُكر فيه. والقنوط: اليأس من فضل الله عزّ وجلّ، وهذا خلاف وصف المؤمن، فانه يشكر عند النعمة، ويرجو عند الشدة وقد شرحناه في بني إسرائيل «٢»، إلى قوله تعالى: ذلِكَ يعني إِعطاء الحق خَيْرٌ أي: أفضل من الإِمساك لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي: يطلبون بأعمالهم ثواب الله.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠)
قوله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً في هذه الآية أربعة أقوال «٣» : أحدها: أن الرِّبا ها هنا: أن يُهدي الرجل للرجل الشيء يقصِد أن يُثيبه عليه أكثر من ذلك، هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وطاوس والضحاك وقتادة والقرظي. قال الضحاك: فهذا ليس فيه أجر ولا وزر، وقال قتادة: ذلك الذي لا يقبله الله عزّ وجلّ ولا يَجزي به، وليس فيه وِزْر. والثاني: أنه الرِّبا المحرَّم، قاله الحسن البصري.
والثالث: أن الرجل يُعطي قرابته المال ليصير به غنيّاً لا يقصد بذلك ثواب الله تعالى، قاله إِبراهيم النخعي. والرابع: أنه الرجل يُعطي من يخدمه لأجل خدمته، لا لأجل الله تعالى، قاله الشّعبيّ. قوله تعالى: لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ وقرأ نافع ويعقوب: «لتَرْبوْ» بالتاء وسكون الواو، أي: في اجتلاب أموال الناس واجتذابها فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أي: لا يزكو ولا يضاعَف لأنكم قصدتم زيادة العِوَض ولم تقصُدوا القُربة. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي: ما أَعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة إِنما تريدون بها ما عند الله تعالى: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ قال ابن قتيبة: الذين يجدون التّضعيف والزّيادة. وقال
(١) العنكبوت: ٦٧.
(٢) الإسراء: ٢٦.
(٣) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٥٣٦: من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى لهم فهذا لا ثواب له عند الله، وهذا الصنيع مباح، وإن كان لا ثواب له فيه، إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم خاصة قاله الضحاك واستدل بقوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي: لا تعطي العطاء تريد أكثر منه. وقال ابن عباس: الربا رباءان، فربا لا يصحّ يعني ربا البيع، وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافها، ثم تلا هذه الآية: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وإنما الثواب عند الله في الزكاة، ولهذا قال: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي: الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء.
الزجاج: أي ذوو الأضعاف من الحسنات، كما يقال: رجل مُقْوٍ، أي: صاحب قُوَّة، ومُوسِر: صاحب يسار.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣)
قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ في هذا الفساد أربعة أقوال: أحدها: نقصان البَرَكة، قاله ابن عباس. والثاني: ارتكاب المعاصي، قاله أبو العالية. والثالث: الشِّرك، قاله قتادة، والسدي:
والرابع: قحط المطر، قاله عطية. فأما البَرّ. فقال ابن عباس: البَرُّ: البرِّيَّة التي ليس عندها نهر، وفي البحر قولان «١» : أحدهما: أنه ما كان من المدائن والقرى على شطِّ نهر، قاله ابن عباس. وقال عكرمة:
لا أقول: بحرُكم هذا، ولكن كل قرية عامرة. وقال قتادة: المراد بالبَرِّ: أهل البوادي، وبالبحر: أهل القرى، وقال الزجاج: المراد بالبحر: مدن البحر التي على الأنهار، وكل ذي ماءٍ فهو بحر. والثاني: أن البحر: الماء المعروف. قال مجاهد: ظهور الفساد في البر: قتل ابن آدم أخاه، وفي البحر: مَلِك جائر يأخذ كل سفينة غصباً. وقيل لعطيَّة: أيّ فساد في البحر؟ فقال: إِذا قلَّ المطر قل الغَوص.
قوله تعالى: بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي: بما عملوا من المعاصي لِيُذِيقَهُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، وقتادة، وابن محيصن، وروح عن يعقوب، وقنبل عن ابن كثير:
«لِنُذيقَهم» بالنون بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي: جزاء بعض أعمالهم فالقحط جزاءٌ، ونقصان البركة جزاءٌ، ووقوع المعصية منهم جزاءٌ معجَّل لمعاصيهم أيضاً. قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الذين أُذيقوا الجزاءَ. ثم في معنى رجوعهم قولان: أحدهما: يرجعون عن المعاصي، قاله أبو العالية. والثاني: يرجعون إِلى الحق، قاله إِبراهيم. والثاني: أنهم الذين يأتون بعدهم فالمعنى: لعلَّه يرجع مَنْ بعدَهُم، قاله الحسن.
قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: سافِروا فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي: الذين كانوا قبلكم والمعنى: انظروا إِلى مساكنهم وآثارهم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ المعنى: فأُهلكوا بشِركهم. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي: أَقم قصدك لاتِّباع الدِّين الْقَيِّمِ وهو الإِسلام المستقيم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يعني القيامة، لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم، لأن الله تعالى قد قضى كونه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي: يتفرَّقون إِلى الجنة والنار.
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٠/ ١٩٢: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن الله تعالى ذكره أخبر أن الفساد قد ظهر في البر والبحر عند العرب في الأرض القفار، والبحر بحران: بحر ملح، وبحر عذب فهما جميعا بحر، ولم يخصص جل ثناؤه الخبر عن ظهور ذلك في بحر دون بحر، فذلك ما وقع عليه اسم بحر، عذبا كان أو ملحا، وإذا كان ذلك كذلك، دخل القرى التي على الأنهار والبحار، فتأويل الكلام إذن: إذا كان الأمر كما وصفت، ظهرت معاصي الله في كل مكان من برّ وبحر بما كسبت أيدي الناس، أي: بذنوب الناس، وانتشر الظلم فيهما اه.

[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]

مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي: جزاء كفره وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي: يُوَطِّئُون. وقال مجاهد: يسوُّون المضاجع في القبور، قال أبو عبيدة: «مَنْ» تقع على الواحد والاثنين والجمع من المذكَّر والمؤنَّث، ومجازها ها هنا مجاز الجميع، و «يَمْهَد» بمعنى يكتسب ويعمل ويستعدّ.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ تبشِّر بالمطر وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وهو الغيث والخصب وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ في البحر بتلك الرياح بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا بالتجارة في البحر مِنْ فَضْلِهِ وهو الرزق وكلُّ هذا بالرياح. قوله تعالى: جاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
أي: بالدّلالات على صدقهم انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
أي: عذَّبْنا الذين كذَّبوهم كانَ حَقًّا عَلَيْنا
أي: واجباً هو أوجبه على نفسه صْرُ الْمُؤْمِنِينَ
إِنجاؤهم مع الرُّسل من عذاب المكذِّبين.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٨ الى ٥٧]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢)
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)
قوله تعالى: يُرْسِلُ الرِّياحَ وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، والنخعي، وطلحة بن مصرِّف، والأعمش: «يُرْسِلُ الرِّيح» بغير ألف. قوله تعالى: فَتُثِيرُ سَحاباً أي: تُزعجه فَيَبْسُطُهُ الله فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ إِن شاء بسطه مسيرة يوم أو يومين أو أقل أو أكثر وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي: قِطعاً متفرِّقة.
والأكثرون فتحوا سين «كِسَفاً» وقرأ أبو رزين، وقتادة، وابن عامر، وأبو جعفر، وابن أبي عبلة:
426
بتسكينها قال أبو علي: يمكن أن يكون مثل سِدْرَة وسِدَر، فيكون معنى القراءتين واحداً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية: «مِن خَلَلِه» وقد شرحناه في النور «١». فَإِذا أَصابَ بِهِ أي: بالوَدْق ومعنى يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بالمطر، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر مِنْ قَبْلِهِ وفي هذا التكرير ثلاثة أقوال: أحدها: أنه للتأكيد، كقوله تعالى:
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ «٢»، قاله الأخفش في آخرين. والثاني: أن «قَبْل» الأولى للتنزيل، والثانية للمطر، قاله قطرب. قال ابن الأنباري: والمعنى: مِنْ قَبْل نزول المطر، من قبل المطر، وهذا مثل ما يقول القائل: آتيك من قبل أن تتكلم، من قبل ان تطمئن في مجلسك، فلا تُنكَر الإِعادة، لاختلاف الشيئين. والثالث: أن الهاء في قوله تعالى: «مِنْ قبْله» ترجع إِلى الهُدى وإِن لم يتقدّم له ذكر، فيكون المعنى: كانوا يقنطون من قبل نزول المطر، من قبل الهُدى، فلمَّا جاء الهُّدى والإِسلام زال القُنوط، ذكره ابن الأنباري عن أبي عمر الدريدي وأبي جعفر بن قادم. والمبلسون: الآيسون وقد سبق الكلام في هذا «٣». فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ قرأ أبن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم:
«إِلى أَثَر». وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «إلى آثار» على الجمع. والمراد بالرّحمة ها هنا: المطر، وأثرها: النّبت والمنبت والمعنى: انظر إِلى حسن تأثيره في الأرض كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ أي: كيف يجعلها تُنبت بعد أن لم يكن فيها نبت. وقرأ عثمان بن عفان، وأبو رجاء، وأبو عمران الجوني، وسليمان التيمي، «كيف تُحْيِي» بتاء مرفوعة مكسورة الياء «الأرضَ» بفتح الضاد.
قوله تعالى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً أي: ريحاً باردة مُضِرَّة، والريح إِذا أتت على لفظ الواحد أُريدَ بها العذاب، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول عند هبوب الريح:
(١١٠١) «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً».
فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا يعني النبت، والهاء عائدة إِلى الأثر. قال الزجاج: المعنى: فرأَوُا النبت قد اصفرّ وجفَّ لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ومعناه: لَيَظَلُّنّ، لأن معنى الكلام الشرط والجزاء، فهم يستبشرون بالغيث، ويكفرون إِذا انقطع عنهم الغيث وجفَّ النبت. وقال غيره: المراد برحمة الله: المطر.
و «ظلُّوا» بمعنى صاروا «من بعده» أي: من بعد اصفرار النبت يجحدون ما سلف من النِّعمة. وما بعد هذا مفسَّر في سورة النمل «٤» إِلى قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ وقد ذكرنا الكلام فيه في الأنفال «٥»، قال المفسرون: المعنى: خلقكم من ماءٍ ذي ضَعف، وهو المنيّ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ يعني ضعف الطفولة قوَّة الشباب، ثُمَّ جَعل مِن بَعْد قوَّة الشباب ضعف الكِبَر، وشيبةً، يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي: من ضعف وقوَّة وشباب وشَيبة وَهُوَ الْعَلِيمُ بتدبير خلقه الْقَدِيرُ على ما يشاء. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
ضعيف جدا، أخرجه الشافعي ١/ ١٧٥ والبغوي في «التفسير» ١٢٣٤ من طريق الشافعي أنبأنا من لا أتهم بحديثه ثنا العلاء بن راشد عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلّم على ركبتيه وقال:
اللهم اجعلها... ، وشيخ الشافعي هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو متروك وكذبه القطان وابن معين، وكان الشافعي يوثقه؟! وهذا إسناد ساقط، والخبر شبه موضوع.
__________
(١) النور: ٤٣.
(٢) الحجر: ٣٠.
(٣) الأنعام: ٤٤.
(٤) النمل: ٨٠- ٨١.
(٥) الأنفال: ٦٦. [.....]
427
قال الزجاج: الساعة في القرآن على معنى الساعة التي تقوم فيها القيامة، فلذلك لم تُعرف أيّ ساعة هي. قوله تعالى: يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ أي: يَحْلِف المشركون ما لَبِثُوا في القبور غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ قال ابن قتيبة: يقال: أُفِكَ الرجلُ: إِذا عُدِل به عن الصّدق، فالمعنى أنهم قد كذّبوه في هذا الوقت كما كذّبوه في الدنيا. وقال غيره: أراد الله تعالى أن يفضحهم يوم القيامة بين المؤمنين، فحلفوا على شيء تبيّن للمؤمنين كذبُهم فيه، ويستدلُّون على كذبهم في الدنيا. ثم ذكر إِنكار المؤمنين عليهم بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة.
والثاني: المؤمنون. قوله تعالى: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فيه قولان: أحدهما: أن فيه تقديماً وتأخيراً، تقديره: وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله عزّ وجلّ، قاله ابن جريج في جماعة من المفسرين. والثاني: أنه على نظمه. ثم في معناه قولان: أحدهما: لقد لَبِثتم في عِلْم الله، عزّ وجلّ، قاله الفراء. والثاني: لقد لَبِثتم في خَبَر الكتاب، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ أي: اليوم الذي كنتم تُنْكِرونه وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ في الدنيا أنه يكون. فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر:
«لا تَنْفَعُ» بالتاء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: بالياء، لأن التأنيث غير حقيقي. قال ابن عباس: لا يُقْبَلُ من الذين أشركوا عذر ولا توبة.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
قوله تعالى: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ أي: كعصا موسى ويده لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ أي:
ما أنتم يا محمد وأصحابك إِلَّا مُبْطِلُونَ أي: أصحاب أباطيل، وهذا بيان لعنادهم. كَذلِكَ أي:
كما طبع على قلوبهم حتى لا يصدِّقون الآيات يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ توحيد الله عزّ وجلّ فالسبب في امتناع الكفار من التوحيد، الطَّبْع على قلوبهم.
قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرك وإِظهارك على عدوِّك حَقٌّ. وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ وقرأ يعقوب إِلا روحاً وزيداً: «يَسْتَخِفَّنْكَ» بسكون النون. قال الزّجّاج: لا يستفزّنّك عن دِينك الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ أي: هم ضُلاَّلٌ شاكُّونَ. وقال غيره: لا يُوقِنون بالبعث والجزاء. وزعم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة والله أعلم.
Icon