تفسير سورة الرّوم

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الروم من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الروم مكية إلا قوله ﴿ فسبحان الله ﴾ الآية. وهي ستون أو تسع وخمسون آية.

﴿الم﴾ الكلامُ فيه كالذي مرفى أمثالِه من الفواتحِ الكريمةِ
﴿غُلِبَتِ الروم﴾ ﴿فِى أَدْنَى الارض﴾ أي أدنى أرضِ العربِ منهم إذ هيَ الأرضُ المعهودةُ عندهم وهي أطراف الشَّامِ أو في أدنى أرضِهم من العربِ على أنَّ اللامَ عوضٌ عن المضافِ إليهِ قال مجاهدٌ هي أرضُ الجزيرةِ وهي أدْنى أرضِ الرُّومِ إلى فارسَ وعن ابن عباس رضي الله عنهما الأردنُّ وفلسطينُ وقُرىء أدانِي الأرضِ ﴿وَهُمْ﴾ أي الرُّوم ﴿مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ أي من بعد مغلوبيَّتهم وقُرىء بسكونِ اللامِ وهي لغةٌ كالجَلَب والجَلْب ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ أي سيَغلِبون فارسَ
﴿فِى بِضْعِ سِنِينَ﴾ رُوي أنَّ فارسَ غَزَوا الرُّومَ فوافَوهم بأَذْرِعَاتٍ وبُصرَى وقيل بالجزيرةِ كما مرَّ فغلبوا عليهم وبلغ الخبرُ مكَّة ففرح المشركون وشمِتُوا بالمسلمينَ وقالوا انتم والنصارى واهل كتابٍ ونحن وفارسُ أميُّون وقد ظهر إخوانُنا على إخوانِكم فلنظهرنَّ عليكم فقال أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه لا يقْرِرِ الله أعينَكم فو الله ليظهرنَّ الرومُ على فارسَ بعد بضعِ سنين فقال له أُبيُّ بنُ خَلَف اللَّعينُ كذبتَ اجعل بيننا اجلا انا حبك عليه فناحبَه على عشرِ قلائصَ من كلَ منهُما وجعلا الأجلَ ثلاثَ سنينَ فأخبربه أبُو بكرٍ رسولَ الله ﷺ فقالَ البِضْعُ ما بين الثَّلاثِ إلى التِّسعِ فزيدُوه في الخطرِ ومادِّه في الأجلِ فجعلاها مائةَ قلوصٍ إلى تسعِ سنينَ ومات أبيُّ من جرحِ رسولِ الله ﷺ وظهرتِ الرُّوم على فارسَ عند رأسِ سبعِ سنينَ وذلك يومَ الحديبيةِ وقيل كانَ النَّصرُ للفريقينِ يومَ بدرٍ فأخذَ أبُو بكر الخَطَر من ذريَّةِ أبيَ فجاء به رسولَ الله ﷺ فقالَ تصدَّق به وكانَ ذلك قبلَ تحريمِ القِمارِ وهذه الآياتُ من البيِّناتِ الباهرةِ الشَّاهدةِ بصحَّةِ النُّبوةِ وكونِ القرآنِ مِنْ عندِ الله عزَّ وجلَّ حيثُ أخبرتْ عن الغيبِ الذي لا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ وقُرىء غَلَبت على البناءِ للفاعلِ وسيُغلبون على البناءِ للمفعولِ والمعنى أنَّ الروم
49
الرُّوم ٥ ٧ غلبتْ على ريفِ الشامِ وسيغلبُهم المسلمونَ وقد غَزَاهُم المسلمون في السَّنةِ التَّاسعةِ من نزولِها ففتحُوا بعضَ بلادِهم فإضافةُ الغَلَب حينئذٍ إلى الفاعلِ ﴿لِلَّهِ الامر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ أي في أولِ الوقتينِ وفي آخرِهما حين غُلبوا وحين يغلِبون كأنَّه قيل من قبلِ كونِهم غالبينَ وهو وقتُ كونِهم مغلوبينَ ومن بعدِ كونِهم مغلوبينَ وهو وقتُ كونِهم غالبينَ والمعنى أنَّ كلاًّ من كونِهم مغلوبينَ أولاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمرِ الله تعالى وقضائِه وَتِلْكَ الايام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس وقُرىء منْ قُبلُ ومن بعدِ بالجرِّ من غيرِ تقديرِ مُضافٍ إليهِ واقتطاعِه كأنَّه قيل قبلاً وبَعْداً بمعنى أولاً وآخِراً ﴿وَيَوْمَئِذٍ﴾ أي يومَ إذْ يغلبُ الرُّومُ على فارسَ ويحلُّ ما وعدَه الله تعالى من غلبتِهم ﴿يَفْرَحُ المؤمنون﴾
50
﴿بِنَصْرِ الله﴾ وتغليبِه من له كتابٌ على من لا كتابَ له وغيظِ من شمِت بهم من كفَّار مكَّةَ وكونِ ذلك من دلائلِ غلبةِ المؤمنينَ على الكفَّار وقيل نصرُ الله إظهارُ صدقِ المؤمنينَ فيما أخبرُوا به المشركينَ من غَلَبة الرُّومِ على فارسَ وقيل نصرُه تعالى أنَّه ولَّى بعضَ الظَّالمين بعضاً وفرَّق بين كلمتِهم حتَّى تناقصُوا وتفانوا وفلَّ كل منهم شوكةَ الآخرِ وفي ذلك قوَّةٌ وعن أبي سعيدٍ الخدريُّ رضيَ الله عنه أنَّه وافقَ ذلك يومَ بدرٍ وفيهِ من نصرِ الله العزيزِ للمؤمنينَ وفرحِهم بذلك مالا يَخْفى والأولُ هو الأنسبُ لقولِه تعالى ﴿يَنصُرُ مَن يشاء﴾ أي من يشاء أن ينصره من عبادِه على عدوِّه ويُغلِّبه عليهِ فإنَّه استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ قولِه تعالى الله الامر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ﴿وَهُوَ العزيز﴾ المبالغُ في العزَّةِ والغَلَبةِ فلا يُعجزه مَن يشاءُ أنْ ينصرَ عليهِ كائناً مَن كان ﴿الرحيم﴾ المبالِغُ في الرَّحمةِ فينصرُ من يشاءُ أنْ ينصرَه أيَّ فريقٍ كان والمرادُ بالرَّحمةِ هي الدُّنيوية أمَّا على القراءةِ المشهُورة فظاهرٌ لما أنَّ كِلا الفريقينِ لا يستحقُّ الرَّحمةَ الأُخرويَّةَ وأمَّا على القراءةِ الأخيرةِ فلأنَّ المُسلمينَ وإنْ كانُوا مستحقِّين لها لكن المراد ههنا نصرُهم الذي هُو من آثارِ الرَّحمةِ الدُّنيويةِ وتقديمُ وصفِ العزَّةِ لتقدمِه في الاعتبارِ
﴿وَعَدَ الله﴾ مصدرٌ مؤكدٌ لنفسِه لأنَّ ما قبله في مَعنى الوعدِ كأنَّه قيل وعد الله وعدا ﴿لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ﴾ أيَّ وعدٍ كانَ ممَّا يتعلَّقُ بالدُّنيا والآخرةِ لاستحالةِ الكذبِ عليهِ سبحانَه وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتعليلِ الحُكْمِ وتفخيمِه والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لمعنى المصدرِ وقد جُوِّز أنْ تكونَ حالاً منه فيكونَ كالمصدرِ الموصوفِ كأنَّه قيل وعدا الله غيرَ مُخلفٍ ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أيْ ما سبق من شئونه تعالى
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا﴾ وهو ما يُشاهدونَهُ من زخارِفها وملاذِّها وسائرِ أحوالِها الموافقةِ لشهواتِهم الملائمةِ لاهوائهم المستدعية لانهما كهم فيها وعكوفِهم عليها لا تمتعهم بزخارِفها وتنعمهم بملاذِّها كما قيلَ فإنَّهما ليسا ممَّا علمُوه منها بل من أفعالِهم المترتبةِ على علومِهم وتنكيرُ ظاهراً للتَّحقيرِ والتخسيس
50
الروم ٨ دون الواحدة كما تُوهِّم أي يعلمون ظاهراً حقيراً خسيساً من الدُّنيا ﴿وَهُمْ عَنِ الاخرة﴾ التي هي الغاية القصوى والمطلبُ الأسنَى ﴿هُمْ غافلون﴾ لا يُخطرونَها بالبالِ ولا يُدركون من الدُّنيا ما يؤدي إلى معرفتِها من أحوالِها ولا يتفكَّرون فيها كما سيأتي والجملةُ معطُوفةٌ على يعلمونَ وإيرادُها إسمية للدلالةِ على استمرارِ غفلتِهم ودوامِها وهُم الثَّانية تكريرٌ للأولى أو مبتدأٌ وغافلون خبرُه والجملةُ خبرٌ للأولى وهو عَلَى الوجهينِ منادٍ على تمكُّنِ غفلتِهم عن الآخرةِ المحققِّةِ لمقتضَى الجملةِ المتقدمةِ تقريراً لجهالتِهم وتشبيهاً لهم بالبهائمِ المقصورِ إدراكاتُها من الدُّنيا على ظواهِرها الخسيسةِ دونَ أحوالِها التي هي مَبَادي العلمِ بأمورِ الآخرةِ وإشعاراً بأنَّ العلمَ المذكورَ وعدمَ العلمِ رأساً سيان
51
﴿أو لم يَتَفَكَّرُواْ﴾ إنكارٌ واستقباحٌ لِقصَرِ نظرِهم على ما ذُكر من ظاهرِ الحياةِ الدُّنيا مع الغفلةِ عن الآخرةِ والواو للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقام وقوله تعالى ﴿فِى أَنفُسِهِمْ﴾ ظرفٌ للتفكُّرِ وذكرُه مع ظهورِ استحالةِ كونِه في غيرِها لتحقيق أمرهِ وتصويرِ حالِ المتفكِّرينِ وقولُه تعالى ﴿مَّا خَلَقَ الله السماوات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ الخ متعلقٌ إمَّا بالعلمِ الذي يؤدِّي إليه التَّفكُّر ويدلُّ عليهِ أو بالقولِ الذي يترتب عليهِ كما في قولِهِ تعالى ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السماوات والارض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا﴾ أي أعلمُوا ظاهرَ الحياةِ الدُّنيا فقط أو أقصَروا النَّظرَ عليه ولم يُحدِثُوا التفكُّرَ في قلوبِهم فيعلمُوا أنَّه تعالى ما خلقَهما وَمَا بَيْنَهُمَا من المخلُوقاتِ التي هُم من جُملتها ملتبسةً بشيءٍ من الأشياءِ ﴿إِلا﴾ ملتبسةً ﴿بالحق﴾ او يقولُوا هذا القولَ مُعترفين بمضمونِه إثرَ ما علمُوه والمرادُ بالحقِّ هو الثَّابتُ الذي يحِق أن يثبت لا محالة لابتنائه على الحكمةِ البالغةِ والغرضِ الصَّحيحِ الذي هو استشهادُ المكلَّفين بذواتِها وصفاتِها وأحوالِها المتغيرةِ على وجودِ صانعِها عزَّ وجلَّ ووحدتِه وعلمِه وقدرتِه وحكمتِه واختصاصِه بالمعبُوديَّةِ وصحَّةِ أخبارِه التي مِن جُملتِها إحياؤهم بعد الفناءِ بالحياةِ الأبديَّةِ ومجازاتِهم بحسبِ أعمالِهم غِبّ ما تبيَّن المحسنُ من المسيء وامتازتْ درجاتُ أفرادِ كلَ من الفريقينِ حسبَ امتيازِ طبقاتِ علومِهم واعتقاداتِهم المترتبةِ على أنظارِهم فيما نُصبَ في المصنُوعاتِ من الآياتِ والدَّلائلِ والامارات والمخايل كما نطق به قوله تعالَى وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعملِ الجوارحِ ولذلكَ فسَّرَهُ ﷺ بقولِه أيُكم أحسنُ عقلاً وأورَعُ عن محارمِ الله وأسرعُ في طاعةِ الله وقد مرَّ تحقيقُه في أوائلِ سورةِ هُودٍ عليه السَّلام وقولُه تعالى ﴿وَأَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ عطفٌ على الحقِّ أي وبأجلٍ معينٍ قدرَه الله تعالى لبقائِها لا بدَّ لها مِن أنْ تنتهيَ إليه لا محالةَ وهو وقتُ قيامِ السَّاعةِ هذا وقد جوِّز أنْ يكونَ قولُه تعالى في أنفسِهم صلةً للتفكُّرِ على معنى او لم يتفكرُوا في أنفسِهم التي هي أقربُ المخلوقاتِ إليهم وهم اعلم بشئونها وأخبرُ بأحوالِها منهم بأحوالِ ما عداها فيتدبَّروا ما أودَعها الله تعالى ظاهراً وباطناً من غرائبِ الحكمِ الدَّالَّةِ على التَّدبيرِ دونَ الاهمال
51
الروم ٩ ١٠ وانه لابد لها من انتهاءٍ إلى وقتٍ يُجازيها فيه الحكيم الذي دبَّر أمرَها على الإحسانِ إحساناً وعلى الإساءةِ مثلَها حتَّى يعلموا عند ذلك أنَّ سائرَ الخلائقِ كذلك أمرُها جارٍ على الحكمةِ والتَّدبيرِ وأنَّه لا بدَّ لها من الانتهاءِ إلى ذلك الوقتِ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ أمرَ معادِ الإنسانِ ومُجازاتِه بما عملَ من الإساءةِ والإحسانِ هو المقصودُ بالذَّاتِ والمحتاجُ إلى الإثباتِ فجعلُه ذريعةً إلى إثباتِ معادِ ما عَداهُ مع كونِه بمعزلٍ من الجزاء تعكيس للامر فتدبر قوله تعالى ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبّهِمْ لكافرون﴾ تذييلٌ مقررٌ لمَا قبلَهُ ببيانِ أن أكثرَهم غيرُ مقتصرين على ما ذُكر من الغفلةِ عن أحوالِ الآخرةِ والإعراضِ عن التَّفكُّرِ فيما يُرشدهم إلى معرفتِها من خلقِ السمواتِ والأرضِ وما بينهما من المصنُوعاتِ بل هم مُنكرون جاحدون بلقاءِ حسابِه تعالى وجزائِه بالبعثِ
52
﴿أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ﴾ توبيخٌ لهم بعدم اتِّعاظِهم بمشاهدةِ أحوالِ أمثالِهم الدالة على عاقبتهم ومآ لهم والهمزةُ لتقريرِ المنفيِّ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ أي أقعدُوا في أماكنِهم ولم يسيرُوا ﴿فِى الارض﴾ وقولُه تعالى ﴿فَيَنظُرُواْ﴾ عطفٌ على يسيروا داخلٌ في حكمِ التَّقريرِ والتَّوبيخِ والمعنى أنَّهم قد سارُوا في أقطارِ الأرضِ وشاهدُوا ﴿كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِم﴾ من الأممِ المهلكةِ كعادٍ وثمودَ وقوله تعالى ﴿كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ الخ بيانُ لمبدأِ احوالهم ومآ لها يعني انهم كانُوا أقدرَ منهم على التَّمتع بالحياةِ الدُّنيا حيثُ كانوا أشد منهم قوة ﴿وَأَثَارُواْ الارض﴾ أي قلبُوها للزراعةِ والحرثِ وقيل لاستنباطِ المياه واستخراجِ المعادنِ وغيرِ ذلك ﴿وَعَمَرُوهَا﴾ أي عمَّرَها أولئك بفنونِ العماراتِ من الزِّراعةِ والغرسِ والبناءِ وغيرها ممَّا يُعدُّ عمارةً لها ﴿أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ أي عمارةً أكثرَ كمَّا وكيفاً وزماناً من عمارةِ هؤلاءِ إيَّاها كيف لا وهُم أهلُ وادٍ غيرِ ذي زرع لاتبسط لهم في غيرهِ وفيه تهكُّم بهم حيثُ كانوا مغترِّين بالدُّنيا مفتخرينَ بمتاعِها مع ضعفِ حالِهم وضيقِ عطنِهم إذْ مدارُ أمرِها على التبسطِ في البلادِ والتسلطِ على العبادِ والتقلبِ في أكنافِ الأرضِ بأصنافِ التصرفات وهم ضعفة ملجئون إلى وادٍ لا نفعَ فيه يخافُون أنْ يتخطَّفَهم النَّاسُ ﴿وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾ بالمعجزات أو الآياتِ الواضحاتِ ﴿فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ﴾ أي فكذَّبوهم فأهلَكهم فما كانَ الله ليهلَكهم من غير جُرمٍ يستدعيِه من قِبلهم والتعبيرُ عن ذلك بالظَّلمِ مع أنَّ إهلاكَه تعالى إيَّاهم بلا جُرمٍ ليس من الظالم في شيء على ما تقرر من قاعدةِ أهلِ السنةِ لإظهارِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلك بإبرازهِ في معرضِ ما يستحيل صدروه عنه تعالى وقد مرَّ في سورةِ الأنفالِ وسورةِ آلِ عمرانَ ﴿ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بأن اجترءوا على اقترافِ ما يُوجبه من المعاصِي العظيمةِ
﴿ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أساؤوا﴾ أي عملوا السيئات
52
الروم ١١ ١٥ وُضع الموصولُ موضعَ ضميرِهم للتَّسجيلِ عليهم بالإساءةِ والإشعارِ بعلَّةِ الحكمِ ﴿السَّوأى﴾ أي العقوبةِ التي هي أسوأُ العقوبات وأفظعها التي هي العقوبةُ بالنارِ فإنَّها تأنيثُ الأسوأِ كالحُسنى تأنيثُ الأحسنِ أو مصدرٌ كالبُشرى وُصفَ به العقوبةُ مبالغةً كأنَّها نفس السوأى وهي مرفوعةٌ على أنَّها اسمُ كانَ وخبرُها عاقبةَ وقُرىء عَلى العكسِ وهو أدخلُ في الجَزَالةِ وقولُه تعالى ﴿أَنْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله﴾ علة لماء أُشير إليه من تعذيبِهم الدُّنيويِّ والأُخرويِّ أي لأنْ كذَّبُوا أو بأنْ كذَّبُوا بآياتِ الله المنزَّلةِ على رسله عليهم الصلاة والسلام ومعجزاتِه الظَّاهرةِ على أيديهم وقولُه تعالى ﴿وَكَانُواْ بِهَا يستهزؤون﴾ عطفٌ على كذَّبوا داخلٌ معه في حُكمِ العِلِّيةِ وإيرادُ الاستهزاءِ بصيغةِ المضارعِ للدِّلالةِ على استمرارِه وتجدُّدِه هذا هو اللائقُ بجزَالةِ النَّظمِ الجليلِ وقَدْ قيلَ وقيل
53
﴿الله يَبْدَأُ الخلق﴾ أي يُنشئهم ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ بعد الموتِ بالبعثِ ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ إلى موقفِ الحسابِ والجزاءِ والالتفاتُ للمُبالغةِ في التَّرهيبِ وقُرىء بالياءِ
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة﴾ التي هي وقتُ إعادة الخلق ورجعهم إليه ﴿يُبْلِسُ المجرمون﴾ أي يسكُتون مُتحيِّرينَ لا ينبِسُون يقال ناظرتُه فأبلسَ إذا سكتَ وأيسَ من أنْ يحتجَّ وقُرىء بفتحِ اللامِ من أبلسَه إذا أفحمَه وأسكتَه
﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء﴾ يجيرونَهم من عذابِ الله تعالى كما كانُوا يزعمونَه وصيغةُ الجمعِ لوقوعِها في مقابلةِ الجمعِ أي لم يكُن لواحدٍ منهم شفيعٌ أصلاً ﴿وَكَانُواْ بشركائهم كافرين﴾ أي بإلهيتهم وشركتهم لله سبحانه حيثُ وقفُوا على كُنهِ أمرِهم وصيغةُ الماضِي للدِّلالةِ على تحقُّقِه وقيلَ كَانُواْ في الدُّنيا كافرين بسببِهم وليسَ بذاكَ إذْ ليسَ في الإخبارِ به فائدةٌ يعتدُّ بها
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة﴾ أُعيدَ لتهويلِه وتفظيعِ ما يقعُ فيه وقولُه تعالى ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ تهويلٌ له إثرَ تهويلٍ وفيه رمزٌ إلى أنَّ التَّفرقَ يقعُ في بعضٍ منه وضميرُ يتفرَّقُون لجميعِ الخلقِ المدلولِ عليهم بما تقدَّمَ من بدئِهم وإعادتِهم ورجعِهم لا المجرمون خاصَّة وليسَ المرادُ بتفرُّقِهم افتراقَ كلِّ فردٍ منهم عن الآخرِ بل تفرُّقَهم إلى فريقَيْ المؤمنينَ والكافرينَ كما في قوله تعالى فريق فى الجنة وفريق فِى السعير وذلك بعد تمامِ الحسابِ وقولُه تعالى
﴿فأما الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ تفصيلٌ وبيانٌ لأحوالِ ذينكَ الفريقينِ والرَّوضةُ كلُّ أرضٍ ذاتِ نباتٍ وماءٍ ورَوْنقٍ ونَضارةٍ وتنكيرُها للتَّفخيم والمرادُ بها الجَّنةُ والحُبورُ السُّرورُ يقال حبرَهُ إذا سرَّهُ سُروراً تهلَّل له وجهُه وقيل الحبرة كل نعمة حسنة والتحبير التحسين واختفلت فيه الأقاويلُ لاحتمالِه وجوهَ جميع المسارفعن ابنِ عبَّاسٍ ومُجاهدٍ يُكرمون وعن قتادة
53
الروم ١٦ ١٨ يُنعَّمون وعن ابن كيسانَ يُحلَّون وعن بكر بن عياش التيجان على رءوسهم وعن وكيعٍ السَّماعُ في الجَّنةِ وعنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم أنَّه ذكَر الجنَّةَ وما فيها من النعيمِ وفي آخرِ القومِ أعرابيُّ فقالَ يا رسولَ الله هَلْ في الجَّنةِ من سماعٍ قال ﷺ يا أعرابيُّ إنَّ في الجنة لنهرا حافتاه لابكار من كلِّ بيضاءَ خُوصانيةِ يتغنَّين بأصواتٍ لم يسمعِ الخلائقُ بمثلِها قَطّ فذلكَ أفضلُ نعيمِ الجنَّةِ قال الرَّاوي فسألتُ أبا الدرداءِ رضي الله عنه بمَ يتغنَّين قال بالتَّسبيحِ ورُوي إنَّ في الجنَّةِ لأشجاراً عليها أجراسٌ من فضَّةٍ فإذا أرادَ أهلُ الجَّنةِ السَّماعَ بعثَ الله تعالى ريحاً من تحتِ العرشِ فتقعُ في تلكَ الأشجارِ فتحركُ تلك الأجراسَ بأصواتٍ لو سمعها أهلُ الدُّنيا لماتُوا طرباً
54
﴿وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا﴾ التي من جُمْلتِها هذهِ الآياتُ الناطقةُ بما فُصِّل ﴿وَلِقَاء الاخرة﴾ صرَّح بذلك مع اندارجه في تكذيبِ الآياتِ للاعتناءِ بأمرِه وقولُه تعالى ﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب بآياتِه تعالى وبلقاءِ الآخرةِ للإيذانِ بكمالِ تميُّزِهم بذلكَ عن غيرِهم وانتظامِهم في سلكِ المُشاهداتِ وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعدِ منزلتِهم في الشرِّ أي أولئكَ الموصوفونَ بما فُصِّل من القبائحِ ﴿فِى العذاب مُحْضَرُونَ﴾ على الدّوام لا يغيبونَ عنه أبداً
﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ ﴿وَلَهُ الحمد في السماوات والارض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ إثرَ ما بُيِّن حالُ فربقي المؤمنينَ العاملينَ للصالحاتِ والكافرينَ المكذِّبينَ بالآياتِ وما لهُما من الثَّوابِ والعذابِ أُمروا بما يُنجِّي من الثَّاني ويُفضِي إلى الأول من تنزيهِ الله عزَّ وجلَّ عن كل مالا يليقُ بشأنِه سبحانَهُ ومن حمدِه تعالى على نعمِه العظامِ وتقديمُ الأولِ على الثَّاني لما أنَّ التخليةَ متقدِّمةٌ على التَّحليةِ والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلَها أي إذا علمتُم ذلك فسبِّحوا الله تعالى أي نزِّهُوه عمَّا ذكر سبحانَهُ أي تسبيحَه اللائق في هذه الأوقاتِ واحمدُوه فإنَّ الإخبارَ بثبوتِ الحمدِ له تعالى ووجوبِه على المميِّزينَ من أهلِ السَّمواتِ والأرضِ في معنى الأمرِ به على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وتوسيطُه بينَ أوقاتِ التَّسبيحِ للاعتناءِ بشأنِه والإشعارِ بأنَّ حقَّهما أنْ يُجمعَ بينَهما كما ينبيءُ عنه قولُه تعالى وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وقولُه تعالى فَسَبّحْ بحمد ربك وقوله ﷺ من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ حُطَّت خطاياهُ وإنْ كانتْ مثلَ زبد البحر وقوله ﷺ من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ لم يأتِ أحدٌ يومَ القِيامةِ بأفضلَ ممَّا جاءَ بهِ إلا أحدٌ قالَ مثلَ ما قال اوزاد عليه وقوله ﷺ كلمتانِ خفيفتانِ على اللَّسانِ ثقيلتانِ في الميزانِ سبحانَ الله وبحمدِه سبحانَ الله العظيمِ وغيرُ ذلكَ ممَّا لا يُحصى من الآياتِ والأحاديثِ وتخصيصُهما بتلكَ الأوقاتِ للدلالة على أن ما يحدثُ فيها من آياتِ قدرته واحكام
54
الروم ١٩ ٢١ رحمتِه ونعمتِه شواهدُ ناطقةٌ بتنزهِه تعالى واستحقاقِه الحمدَ وموجبةٌ لتسبيحِه وتحميدِه حتماً وقولُه تعالى وعشيَّاً عطفٌ على حينَ تُمسون وتقديمُه على حينَ تُظهرون لمُراعاةِ الفواصلِ وتغييرُ الأسلوبِ لِمَا أنَّه لا يجيءُ منه الفعلُ بمعنى الدُّخولِ في العشى كالمساء والصباحِ والظَّهيرة ولعلَّ السرَّ في ذلك أنَّه ليس من الأوقاتِ التي تختلفُ فيها أحوالُ النَّاس وتتغيرُ تغيراً ظاهراً مصحِّحاً لوصفِهم بالخروجِ عمَّا قبلها والدُّخولِ فيها كالأوقاتِ المذكورةِ فإنَّ كلاًّ منها وقتٌ تتغير فيه الأحوالُ تغيراً ظاهراً أمَّا في المساء والصَّباح فظاهرٌ وأمَّا في الظَّهيرة فلأنَّها وقتٌ يعتاد فيه التَّجرُّدُ عن الثيابِ للقيلولةِ كما مر في سورة النُّور وقيل المرادُ بالتَّسبيح والحمد الصَّلاة لاشتمالِها عليهما وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية جامعةٌ للصلوات الخمس تُمسون صلاتا المغربِ والعشاءِ وتُصبحون صلاةُ الفجرِ وعشياً صلاةُ العصرِ وتُظهرون صلاةُ الظُّهرِ ولذلك ذهبَ الحسنُ إلى أنَّها مدنيةٌ إذ كان يقول إن الواجبَ بمكَّةَ ركعتانِ في أي وقتٍ اتفقتا وإنما فرضت الخمسُ بالمدينة والجمهورُ على أنها فُرضت بمكَّةَ وهو الحقُّ لحديث المعراج وفي آخره هنَّ خمسُ صلواتٍ كل يوم وليلة عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم مَنْ سرَّه أنْ يُكالَ له بالقفيزِ الأَوفى فليقُل فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وحينَ تُصبحون الآيةَ وعنه ﷺ من قال حين يصبح فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وحينَ تُصبحون إلى قولِه تعالى وكذلك تُخرجونَ أدرك ما فاتَه في يومِه ومن قالَها حينَ يُمسي أدرك ما فاته في ليلتِه وقُرىء حينا تُمسون وحينا تُصبحون أي تُمسون فيه وتُصبحون فيه
55
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:﴿ فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحمد فِي السموات والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴾ إثرَ ما بُيِّن حالُ فريَقْي المؤمنينَ العاملينَ للصالحاتِ والكافرينَ المكذِّبينَ بالآياتِ وما لهُما من الثَّوابِ والعذابِ أُمروا بما يُنجِّي من الثَّاني ويُفضِي إلى الأول من تنزيهِ الله عزَّ وجلَّ عن كلِّ مَا لا يليقُ بشأنِه سبحانَهُ ومن حمدِه تعالى على نعمِه العظامِ، وتقديمُ الأولِ على الثَّاني لما أنَّ التَّخليةَ متقدِّمةٌ على التَّحليةِ. والفاء لترتيبِ ما بعدَها على ما قبلَها أي إذا علمتُم ذلك فسبِّحوا الله تعالى أي نزِّهُوه عمَّا ذكر سبحانَهُ أي تسبيحَه اللائقَ به في هذه الأوقاتِ واحمدُوه فإنَّ الإخبارَ بثبوتِ الحمدِ له تعالى ووجوبِه على المميِّزينَ من أهلِ السَّمواتِ والأرضِ في معنى الأمرِ به على أبلغِ وجهٍ وآكدِه، وتوسيطُه بينَ أوقاتِ التَّسبيحِ للاعتناءِ بشأنِه والإشعارِ بأنَّ حقَّهما أنْ يُجمعَ بينَهما كما ينبئ عنه قولُه تعالى :﴿ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ ﴾ [ سورة البقرة، الآية٣٠ ] وقولُه تعالى :﴿ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ ﴾ [ سورة النصر، الآية٣ ] وقولُه صلى الله عليه وسلم :( من قالَ حينَ يُصبحُ وحينَ يُمسي سبحانَ الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ حُطَّت خطاياهُ وإنْ كانتْ مثلَ زَبَدِ البحرِ١ ). وقولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ :( مَنْ قالَ حينَ يُصبحُ وحينَ يُمسي سبُحانَ الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ لم يأتِ أحدٌ يومَ القِيامةِ بأفضلَ ممَّا جاءَ بهِ إلا أحدٌ قالَ مثلَ ما قالَ أو زادَ عليهِ ). وقولُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ :( كلمتانِ خفيفتانِ على اللَّسانِ ثقيلتانِ في الميزانِ سبحانَ الله وبحمدِه سبحانَ الله العظيمِ ٢ ) وغيرُ ذلكَ ممَّا لا يُحصى من الآياتِ والأحاديثِ، وتخصيصُهما بتلكَ الأوقاتِ للدِّلالةِ على أنَّ ما يحدثُ فيها من آياتِ قدرتِه وأحكامِ رحمتِه ونعمتِه شواهدُ ناطقةٌ بتنزهِه تعالى واستحقاقِه الحمدَ وموجبةٌ لتسبيحِه وتحميدِه حتماً. وقولُه تعالى :﴿ وعشيَّاً ﴾ عطفٌ على ﴿ حينَ تُمسون ﴾ وتقديمُه على حينَ تُظهرون لمُراعاةِ الفواصلِ وتغييرُ الأسلوبِ لِمَا أنَّه لا يجيءُ منه الفعلُ بمعنى الدُّخولِ في العشيِّ كالمساء والصباحِ والظَّهيرة، ولعلَّ السرَّ في ذلك أنَّه ليس من الأوقاتِ التي تختلفُ فيها أحوالُ النَّاس وتتغيرُ تغيراً ظاهراً مصحِّحاً لوصفِهم بالخروجِ عمَّا قبلها والدُّخولِ فيها كالأوقاتِ المذكورةِ فإنَّ كلاًّ منها وقتٌ تتغير فيه الأحوالُ تغيراً ظاهراً أمَّا في المساء والصَّباح فظاهرٌ وأمَّا في الظَّهيرة فلأنَّها وقتٌ يعتاد فيه التَّجرُّدُ عن الثيابِ للقيلولةِ كما مرَّ في سورة النُّور، الآية٣٦.
وقيل المرادُ بالتَّسبيح والحمد الصَّلاة لاشتمالِها عليهما. وقد رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ( أن الآية جامعةٌ للصلوات الخمس تُمسون صلاتا المغربِ والعشاءِ وتُصبحون صلاةُ الفجرِ وعشياً صلاةُ العصرِ وتُظهرون صلاةُ الظُّهرِ ). ولذلك ذهبَ الحسنُ إلى أنَّها مدنيةٌ إذ كان يقول إن الواجبَ بمكَّةَ ركعتانِ، في أي وقتٍ اتفقتا وإنما فرضت الخمسُ بالمدينة والجمهورُ على أنها فُرضت بمكَّةَ وهو الحقُّ لحديث المعراج وفي آخره هنَّ خمسُ صلواتٍ كل يوم وليلة. عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ سرَّه أنْ يُكالَ له بالقفيزِ الأَوفى فليقُل :«فسبحانَ الله حينَ تُمسون وحينَ تُصبحون » الآيةَ وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ( من قال حين يُصبح «فسبحانَ الله حينَ تُمسون وحينَ تُصبحون ». إلى قولِه تعالى :﴿ وكذلك تُخرجونَ ﴾ أدرك ما فاتَه في يومِه ومن قالَها حينَ يُمسي أدركَ ما فاتَه في ليلتِه ) وقرئ حينا تُمسون وحينا تُصبحون أي تُمسون فيه وتُصبحون فيه.
١ أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب (٦٦) ومسلم في كتاب المساجد حديث رقم (١٤٦) وفي كتاب الذكر حديث رقم (٢٧) وأبو داود في كتاب التطوع باب (١٢) والترمذي في كتاب الدعوات باب (٥٧، ٥٩) ومالك في كتاب مس القرآن حديث رقم (٢١) وأحمد في (٢/، ٣٧١، ٣٧٥، ٣٧٥، ٥١٥)؛ (٣/٤٣٩)؛ (٥/١٧٣)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب الأيمان باب (١٩) وكتاب التوحيد باب (٥٨) وكتاب الدعوات باب (٦٦) ومسلم في كتاب الذكر حديث رقم (٣٠) وابن ماجه في كتاب الأدب باب (٥٦) والترمذي في كتاب الدعوات باب (٥٩) وأحمد ٢ / ٢٣٢..

﴿يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت﴾ كالإنسان من النطفة والطير من البيضة ﴿وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى﴾ النُّطفةَ والبيضةَ من الحيوانِ ويُحْيِى الارض بالنبات بعد موتها يبسها وكذلك ومثلَ ذلك الإخراجُ تُخْرَجُونَ من قبورِكم وقُرىء تَخرُجون بفتح التَّاءِ وضمِّ الرَّاءِ وهذا نوعُ تفصيلٍ لقوله تعالى الله يَبْدَأُ الخلقَ ثُمَّ يُعيده
﴿ومن آياته﴾ الباهرةِ الدَّالَّةِ على أنَّكم تُبعثون دلالةً أوضحَ ممَّا سبق فإنَّ دلالةَ بدءِ خلقِهم على إعادتِهم أظهرُ من دلالةِ إخراجِ الحيِّ من الميتِ وإخراجِ الميتِ من الحيِّ ومن دلالة إحياءِ الأرضِ بعد موتِها عليها ﴿أَنْ خَلَقَكُمْ﴾ أي في ضمن خلق آدمَ عليه السَّلامُ لما مرَّ مرارا من أنَّ خلقَه ﷺ منطوٍ على خلق ذرياتِه انطواءً إجمالياً ﴿مّن تُرَابٍ﴾ لم يشَمَّ رائحةَ الحياة قطّ ولا مناسبة بينه وبين ما أنتُم عليه في ذاتِكم وصفاتِكم ﴿ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾ أي فاجأتُم بعد ذلك وقت كونِكم بشراً تنتشرون في الأرضِ وهذا مجمل ما فُصِّل في قولِه تعالى يا يها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ الآية
﴿ومن آياته﴾ الدَّالَّةِ على ما ذُكر من البعث وما بعده من الجزاءِ ﴿أَنْ خَلَقَ لكم﴾ أي
55
الروم ٢٢ لأجلِكم ﴿مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا﴾ فإنَّ خلق أصلِ أزواجكم حواءَ من ضِلْعِ آدمَ عليه السَّلام متضمن لخلقهنَّ من أنفسكم على ما عرفته من التَّحقيقِ أو من جنسكم لا من جنسٍ آخرَ وهو الأوفقُ لقولِه تعالى ﴿لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا﴾ أي لتألفُوها وتميلُوا إليها وتطمئنُّوا بها فإنَّ المُجانسةَ من دَوَاعي التَّضامِّ والتَعارفِ كما أنَّ المخالفةَ من أسبابِ التفرُّقِ والتَّنافرِ ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم﴾ أي بين الأزواجِ اما على تغليب الرِّجالِ على النِّساءِ في الخطاب أو على حذفِ ظرفٍ معطوفٍ على الظَّرفِ المذكُورِ أي جعل بينكم وبينهنَّ كما مر في قوله تعالى لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رُّسُلِهِ وقيل أو بين أفرادِ الجنسِ أي بينَ الرِّجالِ والنِّساءِ ويأباهُ قولُه تعالى ﴿مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ فإنَّ المرادَ بهما ما كان منهما بعصمةِ الزَّواج قطعاً أي جعلَ بينكم بالزَّواج الذي شرعَه لكم توادَّاً وتراحُماً من غير أنْ يكونَ بينكم سابقةُ معرفةٍ ولا رابطةٌ مصحِّحةٌ للتَّعاطفِ من قرابةٍ أو رحمٍ قيل المودَّةُ والرَّحمةُ من قِبَل الله تعالى والفَرْك من الشَّيطانِ وَعَنِ الحَسَنِ رَحِمَهُ الله المَودَّةُ كِنايةٌ عنِ الجِمَاعِ وَالرَّحمةُ عَنِ الولدِ كما قال تعالى ورحمةً منا ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ أي فيما ذُكر من خلقِهم من تُرابٍ وخلقِ أزواجِهم من أنفسِهم وإلقاءِ المودَّةِ والرَّحمةِ بينهم وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعد منزلتِه ﴿لاَيَاتٍ﴾ عظيمةٌ لا يُكتَنه كُنهُها كثيرةً لا يُقَادر قدرُها ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في تضاعيفِ تلك الافاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة والجُملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله مع التنبيهُ على أنَّ ما ذُكر ليس بآيةٍ فذَّةٍ كما ينبىء عنه قوله تعالى ومن آياتِه بل هي مشتملةٌ على آياتٍ شتَّى
56
(ومن آياته) الدَّالَّةِ على ما ذُكر من أمر البعثِ وما يتلُوه من الجزاءِ ﴿خُلِقَ السماوات والارض﴾ إما من حيثُ إنَّ القادرَ على خلقِهما بما فيهما من المخلوقات بلا مادَّة مستعدةِ لها أظهرُ قدرة على إعادِة ما كان حيَّاً قبل ذلك وإمَّا منْ حيثُ إن خلقهما ومافيهما ليس إلا لمعاشِ البشرِ ومعادِه كما يُفصح عنه قولُه تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً وقولُه تعالَى وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴿واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ﴾ أي لغاتِكم بأنْ علَّم كلَّ صنفٍ لغتَهُ وألهمه وضعَها وأقدرَه عليها او اجناس نطقكم وأشكالِه فإنَّك لا تكادُ تسمعُ منطقينِ متساويينِ في الكيفيَّةِ من كلِّ وجهٍ ﴿وألوانكم﴾ ببياضِ الجلدِ وسوادِه وتوسطِه فيما بينهما أو تخطيطات الاعضاء وهيآتها وألوانِها وحُلاها بحيثُ وقعَ بها التمايز بين الاشخاص حتَّى إنَّ التَّوأمينِ مع توافقِ موادِّهما وأسبابِهما والأمورِ المتلاقيةِ لهما في التَّخليقِ يختلفانِ في شيءٍ من ذلك لا محالَة وإنْ كانا في غايةِ التَّشابِه وإنَّما نُظِمَ هذا في سلك الآيات الآفافية من خلقِ السمواتِ والأرضِ مع كونِه من الآياتِ الانفسية الحقيقة بالانتظامِ في سلكِ ما سبق من خلقِ أنفسِهم وأزواجِهم للإيذانِ باستقلالِه والاحترازِ عن توهُّمِ كونِه من تتمَّاتِ خلقِهم ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ أي فيما ذكر من خلقِ السمواتِ والأرضِ واختلافِ الألسنةِ والألوانِ ﴿لاَيَاتٍ﴾ عظيمة في أنفسها كثيرة في عددِها ﴿للعالمين﴾ أي المتَّصفين بالعلمِ كما في قولِه تعالى وَمَا يَعْقِلُهَا
56
الروم ٢٣ ٢٥ إِلاَّ العالمون وقُرىء بفتحِ اللامِ وفيه دلالةٌ على كمالِ وضوحِ الآياتِ وعدمِ خفائِها على أحدٍ من الخلق كافة
57
﴿ومن آياته منامكم بالليل والنهار﴾ لاستراحةِ القوى النَّفسانيةِ وتقوِّي القُوى الطَّبيعيةِ ﴿وابتغاؤكم مّن فَضْلِهِ﴾ فيهما فإنَّ كُلاًّ من المنامِ وابتغاءِ الفضلِ يقعُ في المَلَوينِ وإنْ كان الأغلبُ وقوعَ الأول في الأولِ والثَّاني في الثَّانِي أو منامُكم بالليلِ وابتغاؤُكم بالنَّهارِ كما هو المعتادُ والموافقُ لسائرِ الآيات الواردة في ذلك خَلاَ أنَّه فصَل بين القرينينِ الأولينِ بالقرينينِ الآخيرينِ لأنَّهما زمان والزَّمانُ مع ما وقعَ فيه كشيءٍ واحدٍ مع اعادة اللفِّ على الاتحادِ ﴿إِنَّ فى ذلك لآيات لقوم يَسْمَعُونَ﴾ أي شأنُهم أنْ يسمعُوا الكلامَ سماعَ تفهمٍ واستبصارٍ حيثُ يتأمَّلون في تضاعيفِ هذا البيانِ ويستدلُّون بذلك على شئونه تعالى
﴿ومن آياته يُرِيكُمُ البرق﴾ الفعلُ إمَّا مقدَّرٌ بأنْ كما في قول من قال ألا ابهذا الزَّاجِري أحضُرَ الوَغَى أي أنْ أحضُرَ أو منزَّلٌ منزلة المصدروبه فُسِّر المثلُ المشهُورُ تسمعُ بالمُعَيديِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ أو هو على حالِه صفةٌ لمحذوفٍ أي آيةٌ يريكم بها البرق كقولِ مَن قال... وَمَا الدهر الا نارتان فمنها أموتُ وأُخرى أَبتغِي العيشَ أَكْدَحُ... أي فمنهما تارةً أموتُ فيها وأُخرى أبتغِي فيها أو ومن آياتِه شيءٌ أو سحابٌ يُرِيكُمُ البرقَ خَوْفًا من الصَّاعقةِ أو للمسافرِ ﴿وَطَمَعًا﴾ في الغيثِ أو للمقيمِ ونصبُهما على العِلَّةِ لفعلٍ يستلزمُه المذكورُ فإنَّ إراءتهم البرقَ مستلزمةٌ لرؤيتِهم إيَّاه أو للمذكورِ نفسِه على تقديرِ مضافٍ نحو إراءةِ خوفٍ وطمعٍ أو على تأويلِ الخوفِ والطمعِ بالإخافةِ والإطماعِ كقولك فعلنه رغماً للشَّيطانِ أو على الحالِ نحو كلَّمتُه شِفاهاً ﴿وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مَاءً﴾ وقُرىء بالتَّخفيفِ ﴿فَيُحْيِى بِهِ الارض﴾ بالنبات ﴿بعد موتها﴾ يُبسها ﴿إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ فإنَّها من الظُّهورِ بحيث يكفي في إدراكِها مجرَّدُ العقل عند استعمالِه في استنباطِ أسبابِها وكيفيَّةِ تكوُّنِها
﴿ومن آياته أَن تَقُومَ السماء والارض بِأَمْرِهِ﴾ أي بإرادتِه تعالى لقيامهِما والتَّعبيرُ عنها بالأمر للدِّلالةِ على كمال القدرة والغني عن المبادى والأسبابِ وليس المرادُ بإقامتهما إنشاءهما لأنَّه قد بُيِّن حاله بقولِه تعالى وَمِنْ آياته خَلْقُ السموات والارض ولا إقامتهما بغير مقيم محسوسٍ كما قيل فإن ذلك من تتماتِ إنشائِهما وإنْ لم يصرَّحْ به تعويلاً على ما ذُكر في غير موضعٍ من قوله تعالى خَلَقَ السموات بِغَيْرِ عمد ترونها الآية
57
الروم ٢٦ ٢٧ بل قيامَهما واستمرارَهما على ما هُما عليه إلى أجلهما الذي نطقَ به قوله تعالى فيما قبل ما خلق السموات والأرض وما بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وحيث كانتْ هذه الآيةُ متأخرةً عن سائرِ الآياتِ المعدودةِ متَّصلةً بالبعثِ في الوجودِ أُخرت عنهنَّ وجُعلت متَّصلةً به في الذِّكرِ أيضاً فقيلَ ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الارض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ فإنه كلامٌ مسوق للاخبار بوقوعِ البعثِ ووجودِه بعد انقضاء أجل قيامِهما مترتِّب على تعداد آياتِه الدَّالَّةِ عليه غير منتظمٍ في سلكها كما قيا كأنَّه قيل ومن آياتِه قيامُ السَّمواتِ والأرضِ على هيآتهما بأمرِه تعالى إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامِهما ثمَّ إذا دعاكم أي بعد انقضاءِ الأجلِ من الأرض وأنتُم في قبورِكم دعوة واحدة بأنْ قال أيُّها الموتى اخرجُوا فاجأتم الخروجَ منها وذلك قولُه تعالى يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى ومن الأرضِ متعلق بدعاكُم إذ يكفي في ذلك كون المدعوِّ فيها يقال دعوته من أسفلِ الوادِي فطلع إليَّ لا بتخرجون لأنَّ ما بعد إذا لا يعملُ فيما قبلَها
58
﴿وَلَهُ﴾ خاصة ﴿مَن فِى السماوات والارض﴾ من الملائكةِ والثَّقلين خَلقاً ومُلكاً وتصرُّفاً ليس لغيره شركة في ذلك بوجهٍ من الوجوه ﴿كُلٌّ لَّهُ قانتون﴾ أي منقادُون لفعله لا يمتنعون عليه في شأن من شئونه تعالى
﴿وَهُوَ الذى يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ بعد موتِهم وتكريره لزياة التَّقريرِ والتَّمهيدِ لما بعده من قولِه تعالى ﴿وَهُوَ أهون عليه﴾ أي بإضافة إلى قُدَرِكم والقياس على أصولِكم وإلا فُهما عليه سواءٌ وقيل أهونُ بمعنى هَيِّنٌ وتذكير الضمير مع رجوعِه إلى الإعادة لما أنَّها مؤَّولةٌ بأنْ يُعيد وقيل هو راجعٌ إلى الخلقِ وليس بذاك وأما ما قيل من أن الإنشاء بطريقِ التَّفضل الذي يتخيَّر فيه الفاعلُ بين الفعل والتَّرك والإعادةُ من قبيلِ الواجبِ الذي لا بدَّ من فعله حتماً فكان أقربَ إلى الحصولِ من الإنشاءِ المترددِ بين الحصولِ وعدمِه فبمعزلٍ من التَّحصيل إذ ليس المرادُ بأهونيةِ الفعل أقربيَّتَه إلى الوجود باعتبار كثرةِ الأمورِ الدَّاعية للفاعل إلى إيجادِه وقوَّة اقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتَّيه وصدوره عنه بعد تعلق قدرته بوجوده وكونِه واجباً بالغيرِ ولا تفاوتَ في ذلك بين أنْ يكون ذلك التعليق بطريق الإيجابِ أو بطريقِ الاختيارِ ﴿وَلَهُ المثل الاعلى﴾ أي الوصفُ الأعلى العجيبُ الشأنِ من القدرة العامَّةِ والحكمة التَّامةِ وسائر صفاتِ الكمال التي ليس لغيرِه ما يُدانيها فضلاً عمَّا يساويها ومن فسره بقول لا إله إلا الله اراد به الوصف بالواحدانية ﴿في السماوات والارض﴾ متعلق بمضمونِ الجملة المتقدِّمةِ على معنى أنَّه تعالى قد وُصف به وعُرف فيهما على ألسنةِ الخلائقِ وألسنةِ الدَّلائلِ وقيل متعلق بالا على وقيلَ بمحذوفٍ هُوَ حالٌ منه أو من المثل أو من ضميرِه في الأعلى ﴿وَهُوَ العزيز﴾ القادر الذي لا يعجزُ عن بدء ممكن واعادته
58
الروم ٢٨ ٢٩ ﴿الحكيم﴾ الذي يجري الأفعالَ على سَنَنِ الحكمة والمصلحةِ
59
﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً﴾ يتبيَّن به بطلانُ الشِّركِ ﴿مّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ أي مُنتزعاً من أحوالِها التي هي أقربُ الأمورِ إليكم وأعرفُها عندكم وأظهرُها دلالةً على ما ذُكر من بطلان الشِّرك لكونها بطريقِ الأولوية وقولُه تعالى ﴿هَلْ لَّكُمْ﴾ الخ تصوير للمثلِ أي هَلْ لَّكُمْ ﴿مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم﴾ من العبيدِ والإماءِ ﴿مّن شركاء في ما رزقناكم﴾ من الأموالِ وما يجري مجراها مَّما تتصرَّفون فيها فمِن الأُولى ابتدائيةٌ والثَّانيةُ تبعيضيةٌ والثَّالثةُ مزيدةٌ لتأكيدِ النفيُ المستفادِ من الاستفهامِ فقوله تعالى ﴿فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء﴾ تحقيقٌ لمعنى الشركة وبيان لكونهم وشركائهم متساوين في التَّصرف فيما ذُكر من غير مزيَّةِ لهم عليها على أنَّ هناك محذوفاً معطوفاً على أنتُم لا أنَّه عامٌّ للفريقين بطريق التَّغليب أي هل ترضَون لأنفسكم والحالُ أنَّ عبيدَكم أمثالُكم في البشريةِ وأحكامِها أنْ يشاركوكم فيما رزقناكم وهو معار لكم فأنتم وهم فيه سواءٌ يتصرَّفون فيه كتصرُّفكم من غير فرقٍ بينكم وبينهم ﴿تَخَافُونَهُمْ﴾ خبرٌ آخرُ لأنتم أو حالٌ من ضميرِ الفاعل في سواءٌ أي تهابون أنْ تستبدُّوا بالتَّصرُّف فيه بدون رأيهم ﴿كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ أي خيفةً كائنةً مثلَ خيفتِكم من الاحرار المساهمين لكم فيما ذُكر والمعنى نفيُ مضمونِ ما فُصِّل من الجملةِ الاستفهامَّيةِ أي لا ترضَون بأنْ يشاركَكم فيما هو معارٌ لكم مماليكُكم وهم أمثالُكم في البشريةِ غيرُ مخلوقين لكُم بل لله تعالى فكيف تُشركون به سبحانه في المعبوديةِ التي هي من خصائصِه الذاتيةِ مخلوقَه بل مصنوعَ مخلوقِه حيثُ تصنعونَه بأيديكم ثم تعبدونَه ﴿كذلك﴾ أي مثلَ ذلك التَّفصيلِ الواضح ﴿نُفَصّلُ الآيات﴾ أي نبيِّنها ونوضِّحها لا تفصيلاً أدنى منه فإنَّ التَّمثيل تصويرٌ للمعاني المعقولة بصورةِ المحسوسِ وإبرازٌ لأوابدِ المُدركاتِ على هيئة المأنوسِ فيكون في غايةِ الإيضاحِ والبيان ﴿لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي يستعملون عقولَهم في تدبُّرِ الأمور وتخصيصُهم بالذِّكرِ مع عموم تفصيلِ الآياتِ للكلِّ لأنَّهم المنتفعون بها
﴿بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ﴾ إعراضٌ عن مخاطبتهم ومحاولةُ إرشادِهم إلى الحقِّ بضربِ المثلِ وتفصيلِ الآياتِ واستعمالِ المقدِّماتِ الحقَّةِ المعقولةِ وبيانٌ لاستحالةِ تبعيتهم للحقِّ كأنَّه قيل لم يعقلوا شيئاً من الآيات المفصلة بل اتَّبعوا ﴿أَهْوَاءهُمْ﴾ الزائغةَ ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتَّسجيلِ عليهم بأنَّهم في ذلك الاتباعِ ظالمون واضعون للشيءِ في غيرِ موضعِه أو ظالمون لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي جاهلين ببطلانِ ما أتَوَا مكبِّين عليه لا يَلويهم عنه صارفٌ حسبما يصرِّف العالم إذا اتبع الباطل علمه ببطلانه ﴿فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله﴾ أي خلقَ فيه الضلالَ بصرفِ اختيارِه إلى كسبِه أي لا يقدرُ على هدايتِه أحدٌ ﴿وَمَا لَهُمْ﴾ أي لمن أضلَّه الله تعالى والجمعُ باعتبارِ المعنى ﴿مّن ناصرين﴾ يُخلِّصونهم من الضَّلالِ ويحفظونهم من تبعانه وآفاتِه على معنى ليس لواحدٍ منهم ناصرٌ واحدٌ على ما هو قاعدةُ مقابلة الجمع بالجمع
59
الروم
60
٣٠ - ٣٢ ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ﴾ تمثيلٌ لإقباله على الدِّين واستقامتهِ وثباتِه عليه واهتمامِه بترتيبِ أسبابِه فإنَّ من اهتمَّ بشيءٍ محسوسٍ بالبصر عقدَ عليه طرفَه وسدَّد إليه نظره وقوم له وجهة مُقبلاً به عليه أي فقوم وجهك له وعدله غيرَ ملتفتٍ يميناً وشمالاً وقولُه تعالى ﴿حَنِيفاً﴾ حالٌ من المأمورِ أو من الدِّين ﴿فِطْرَةَ الله﴾ الفطرةُ الخلِقةُ وانتصابُها على الإغراءِ أي الزمورا أو عليكم فطرةَ الله فإن الخطاب للكل كما يفصحُ عنه قولُه تعالى منيبين والإفراد في أقِم لما أنَّ الرَّسولَ ﷺ امام الامة فأمره ﷺ مستتبع لأمرِهم والمرادُ بلزومِها الجريانُ على موجبِها وعدمُ الإخلالِ به باتباعِ الهَوَى وتسويلِ الشَّياطينِ وقيل على المصدرِ أي فطرَ الله فطرةً وقولُه تعالى ﴿التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ صفةٌ لفطرةَ الله مؤكدةٌ لوجوبِ الامتثالِ بالأمرِ فإنَّ خلقَ الله النَّاسَ على فطرتِه التي هي عبارةٌ عن قبولِهم للحقَّ وتمكُّنُهم من إدراكِه أو عن ملَّة الإسلامِ من موجباتِ لزومِها والتمسُّك بها قطعاً فإنَّهم لو خُلُّوا وما خُلقوا عليه أدَّى بهم إليها وما اختاروا عليها ديناً آخر ومن غَوى منهم فبإغواءِ شياطين الإنسِ والجنِّ ومنه قوله ﷺ حكايةٌ عن ربَّ العِزَّةِ كلَّ عبادِي خلقتُ حنفاءَ فاجتالتْهُم الشياطينُ عن ديِنهم وأمرُوهم أنْ يُشركوا بي غيري وقوله ﷺ كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرةِ حتَّى يكونَ أَبَواه هُما اللذانِ يهوِّدانه ويُنصِّرانِه وقولُه تعالى ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله﴾ تعليلٌ للأمرِ بلزومِ فطرتِه تعالَى أو لوجوبِ الامتثالِ به أي لا صَّحةَ ولا استقامةَ لتبديلةِ بالإخلالِ بموجبِه وعدمِ ترتيبِ مقتضاهُ عليه باتِّباعِ الهَوَى وقبولِ وسوسةِ الشَّيطانِ وقيل لا يقدِرُ أحدٌ على ان يغير فلا بد حينئذٍ من حملِ التَّبديلِ على تبديلِ نفسِ الفطرةِ بإزالتِها رأساً ووضعِ فطرةٍ أُخرى مكانَها غيرِ مصححةٍ لقبولِ الحقِّ والتمكنِ من إدراكِه ضرورةَ أنَّ التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعاً فالتعليل حينئذ من جهة أنَّ سلامة الفطرةِ متحققةٌ في كلِّ أحدٍ فلا بدَّ من لزومِها بترتيبِ مُقتضاها عليها وعدمُ الإخلالِ به بما ذُكر من اتِّباعِ الهوى وخطواتِ الشَّيطانِ ذلك إشارةٌ إلى الدِّين المأمورِ بإقامةِ الوجهِ له أو إلى لزومِ فطرةِ الله المستفادِ من الاغراءِ أو إلى الفطرةِ إنْ فسِّرت بالملَّة والتَّذكيرُ بتأويلِ المذكورِ أو باعتبارِ الخبرِ ﴿الدين القيم﴾ المُستوِي الذي لا عِوَجَ فيه ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ذلكَ فيصدُّون عنه صُدوداً
﴿منيبين إِلَيْهِ﴾ حالٌ من الضَّميرِ في النَّاصبِ المقدَّرِ لفطره الله أو في أقِم لعمومِه للأمَّةِ حسبما أُشير إليهِ وما بينَهما اعتراضٌ أي راجعين إليه من أنابَ إذَا رجعَ مرَّةً بعدَ أُخرى وقولُه تعالى ﴿واتقوه﴾ أي من مخالفةِ أمرهِ عطفٌ على المقدَّرِ المذكورِ وكذا قولُه تعالى ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين﴾ المبدِّلين لفطرةِ الله تعالى تبديلاً
﴿مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ﴾ بدلٌ من المشركينَ بإعادةِ الجارِّ وتفريقُهم لدينهم اختلافُهم فيما يعبدونه على
60
الروم ٣٣ ٣٧ اختلافِ أهوائِهم وفائدةُ الإبدالِ التَّحذيرُ عن الانتماءِ إلى حزبٍ من أحزابِ المشركينَ ببيان أنَّ الكلَّ على الضَّلالِ المبينِ وقُرىء فارقُوا أي تركُوا دينَهم الذي أُمروا به ﴿وَكَانُواْ شِيَعاً﴾ أي فِرقاً تشايعُ كلٌّ منها إمامَها الذي أضلَّها ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ﴾ من الدينِ المعوجِ المؤسَّس على الرَّأيِ الزَّائغِ والزَّعمِ الباطلِ ﴿فَرِحُونَ﴾ مسرورون ظنَّاً منهم أنَّه حقٌّ وأَنَّى له ذلك فالجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله من تفريقِ دينِهم وكونِهم شيعاً وقد جُوِّز أنْ يكونَ فرحون صفةً لكلُّ على أنَّ الخبرَ هو الظرفُ المقدَّمُ أعني من الذين فرَّقُوا ولا يخفى بعدُه
61
﴿وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ﴾ أي شدَّةٌ ﴿دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ راجعينَ إليه من دعاءِ غيرِه ﴿ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً﴾ خلاصاً من تلك الشدَّة ﴿إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ﴾ الذي كانُوا دَعَوه منيبين إليه ﴿يُشْرِكُونَ﴾ أي فاجأ فريقٌ منهم الإشراكَ وتخصيصُ هذا الفعلِ ببعضِهم لما أنَّ بعضَهم ليسُوا كذلك كما في قوله تعالى فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ أي مقيمٌ على الطَّريقِ القصدِ أو متوسط في الكفر لانزجاره في الجُملة
﴿ليكفروا بما آتيناهم﴾ اللامُ فيه للعاقبةِ وقيل للأمرِ التَّهديديِّ كقولِه تعالى ﴿فَتَمَتَّعُواْ﴾ غيرَ أنَّه التفتَ فيه للمبالغةِ وقرىء وليتمتَّعوا ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عاقبةَ تمتُّعِكم وقُرىء بالياءِ على أنَّ تمتَّعوا ماضٍ والالتفاتُ إلى الغيبة في قوله تعالى
﴿أم أنزلنا عليهم﴾ للإبذان بالإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتِهم لغيرِهم بطريقِ المُباثّةِ ﴿سلطانا﴾ أي حجَّةً واضحةً وقيل ذا سلطانٍ أي مَلَكاً معه برهانٌ ﴿فَهُوَ يَتَكَلَّمُ﴾ تكلُّمَ دلالةٍ كما في قولِه تعالى هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق أو تكلُّمَ نطقٍ ﴿بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ﴾ بإشراكهم به تعالى أو بالأمر الذي بسببه يُشركون
﴿وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً﴾ أي نعمة من صَّحةٍ وسَعَةٍ ﴿فَرِحُواْ بِهَا﴾ بَطَراً وأشَراً لا حَمْداً وشُكْراً ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ﴾ شدَّةٌ ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ بشؤمِ معاصِيهم ﴿إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ فاجئوا القُنوطَ من رحمتهِ تعالى وقرىء بكسر النون
﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ﴾ أي ألم ينظرُوا ولم يشاهدُوا ﴿أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ﴾ فما لهم لم يشكرُوا ولم يحتسبُوا في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ كالمؤمنينَ ﴿إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ فيستدلُّون
61
الروم ٣٨ ٤١ بها على كمالِ القدرةِ والحكمة
62
﴿فآت ذَا القربى حَقَّهُ﴾ من الصلةِ والصدقةِ وسائرِ المَبَرَّاتِ ﴿والمسكين وابن السبيل﴾ ما يستحقَّانِه والخطاب للنبي ﷺ أو لمن بُسط له كما تُؤذن به الفاءُ ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله﴾ ذاتَه أو جهتَه ويقصدون بمعروفهم إيَّاه تعالى خالصاً أو جهةَ التقربِ إليه لا جهةً أُخرى ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ حيث حصَّلْوا بما بُسط لهم النَّعيمَ المُقيمَ
﴿وما آتيتم مّن رِباً﴾ زيادةٌ خاليةٌ عن العوضِ عند المعاملةِ وقُرىء أتيتُم بالقصرِ أي غشيتمُوه أو رهقتمُوه من إعطاء ربا ﴿ليربو فِى أَمْوَالِ الناس﴾ ليزيدَ ويزكو في أموالِهم ﴿فَلاَ يربو عند الله﴾ أي لايبارك فيه وقُرىء لتربُوا أي لتزيدُوا أو لتصيرُوا ذوي ربا ﴿وما آتيتم مّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله﴾ أي تبتغُون به وجهَه تعالى خالِصاً ﴿فَأُوْلَئِكَ هم المضعفون﴾ أي ذووا الأضعافِ من الثَّوابِ ونظيرُ المُضْعف المُقْوى والموسر لذي القوة واليسارِ أو الذين ضعّفوا ثوابَهم وأموالَهم بالبركةِ وقُرىء بفتحِ العينِ وفي تغييرِ النَّظمِ الكريمِ والالتفاتِ من الجزالة مالايخفي
﴿الله الذى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء﴾ أثبت له تعالى لوازمَ الأُلوهيَّةِ وخواصَّها ونفاها رأساً عَّما اتخذوه شركاء له تعالى من الأصنامِ وغيرِها مؤكِّداً بالإنكارِ على ما دلَّ عليه البرهانُ والعيانُ ووقع عليه الوفاقُ ثم استنتج منه تنزهه عن الشُّركاءِ بقولِه تعالى ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وقد جُوِّز أن يكونَ الموصولُ صفةً والخبرُ هل من شركائِكم والرابطُ قولُه تعالى مِن ذلِكم لأنه بمعنى من أفعاله ومن الأولى والثانية تفيدانِ شيوعَ الحُكمِ في جنسِ الشُّركاءِ والأفعالِ والثَّالثة مزيدةٌ لتعميمِ المنفيِّ وكل منها مستقلة بالتأكيدِ وقُرىء تُشرِكون بصيغةِ الخطابِ
﴿ظهر الفساد فى البر والبحر﴾ كالجدبِ والمَوَتانِ وكثرةِ الحَرَقِ والغَرَقِ وإخفاقِ الغاصةِ ومحقِ البركاتِ وكثرةِ المضارِّ أو الضَّلالةِ والظُّلمِ وقيل المرادُ بالبحرِ قُرى السَّواحلِ وقُرى البحورِ ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس﴾ بشؤمِ مَعَاصيهم أو بكسبِهم إيَّاها وقيل ظهر الفساد فى البر بقتلِ قابيلَ أخاهُ هابيلَ وفي البحرِ بأنَّ جَلَندى
62
الروم ٤٢ ٤٦ كانَ يأخذُ كلَّ سفينةٍ غَصْباً ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذى عَمِلُواْ﴾ أي بعضَ جزائِه فإن اتمامه في الآخرةِ واللامُ للعلَّةِ أو للعاقبةِ وقُرىء لنُذيقهم بالنَّونِ ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عمَّا كانُوا عليه
63
﴿قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ﴾ ليشاهدُوا آثارَهم ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ﴾ استئنافٌ للدَّلالة على أنَّ ما أصابَهم لفشوِّ الشركِ فيما بينَهم أو كان الشركُ في أكثرِهم وما دونه من المَعاصي في قليلٍ منهم
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم﴾ أي البليغِ الاستقامة ﴿مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ﴾ لا يقدِرُ أحدٌ على ارده ﴿من الله﴾ متعلق بيأني أو بمردِّ لأنه مصدرٌ والمعنى لا يردُّه الله تعالى لتعلُّقِ إرادتِه القديمةِ بمجيئِه ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ أصله يتصدَّعون أي يتفرَّقُون فريقٌ فى الجنة وفريق فى السَّعيرِ
﴿مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ أي وبال كفر وهو النَّارُ المؤبَّدة ﴿وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ أي يسوون منزلاً في الجنَّة وتقديمُ الظَّرفِ في الموضعينِ للدِّلالة على الاختصاصِ
﴿ليجزي الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات من فضله﴾ متعلق بيصدَّعُون وقيل بيمهدون أي يتفرَّقون بتفريقِ الله تعالى فريقينِ ليُجزي كلاً منهما بحسبِ أعمالِهم وحيث كان جزاءُ المؤمنين هو المقصودَ بالذَّاتِ أُبرز ذلك في معرضِ الغايةِ وعبر عنه بالفضلِ لما أَنَّ الإثابةَ بطريق التفضل لا الوجوبِ وأُشير إلى جزاءِ الفريقِ الآخرِ بقولِه تعالى ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين﴾ فإنَّ عدمَ محبتهِ تعالى كنايةٌ عن بُغضهِ الموجبِ لغضبهِ المستتبعِ للعقوبةِ لا محالة
﴿ومن آياته أَن يُرْسِلَ الرياح﴾ أي الشَّمالَ والصَّبَا والجَنوبَ فإنَّها رياحُ الرَّحمةِ وأما الدَّبُورُ فريحُ العذابِ ومنه قولُه ﷺ اللهمَّ اجعلْهَا رياحاً ولا تجعلْها ريحاً وقُرىء الريحَ على إرادةِ الجنسِ ﴿مبشرات﴾ بالمطرِ ﴿وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ﴾ وهي المنافعُ التَّابعةُ لها وقيل الخصبُ التَّابعُ لنزولِ المطرِ المسبَّبِ عنها أو الرَّوح الذي هو مع هبُوبِها واللامُ متعلقةٌ بيرسل والجملةُ معطوفةٌ على مبشِّراتٍ على المعنى كأنه قيل ليبشركم بها وليذقكم أو بمحذوفٍ يُفهم من ذكرِ الإرسالِ تقديرُه وليذيقكم وليكون كذا وكذا يُرسلها لا لأمرٍ آخرَ لا تعلق له بمنافعِكم ﴿وَلِتَجْرِىَ الفلك﴾ بسوقِها ﴿بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ بتجارةِ البحرِ ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ولتشكروا نعمةَ الله فيما ذُكر من
63
الروم ٤٧ ٥٠ الغاياتِ الجليلةِ
64
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ﴾ كما أرسلناك إلى قومك ﴿فجاؤوهم بالبينات﴾ أي جاء كلُّ رسولٍ قومَه بما يخصُّه من البيِّنات كما جئتَ قومَك ببيِّناتك والفاءُ في قولِه تعالى ﴿فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ﴾ فصيحةٌ أي فكذَّبُوهم فانتقمنَا منهم وإنَّما وضع ضميرِهم الموصولُ للتنبيه على مكانِ المحذوفِ والإشعارِ بكونِه علَّةً للانتقامِ وفي قوله تعالى ﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين﴾ مزيدُ تشريفٍ وتكرمةٍ للمؤمنينَ حيثُ جُعلوا مستحقِّين على الله تعالَى أنْ ينصرَهم وإشعارٌ بأنَّ الانتقامَ من الكفرةِ لأجلهِ وقد يُوقف على حقَّاً على أنَّه متعلق بالانتقامِ ولعلَّ توسيط الآيةِ الكريمةِ بطريقِ الاعتراضِ بين ما سبَقَ وما لَحِق من أحوالِ الرِّياحِ وأحكامِها لإنذارِ الكَفَرةِ وتحذيرِهم عن الإخلالِ بمواجبِ الشُّكرِ المطلوبِ بقولِه تعالى لعلَّكم تشكرُون بمقابلةِ النعمِ المعدودةِ المنوطةِ بإرسالِها كيلا يحلَّ بهم مثلُ ماحل بأولئك الأممِ من الانتقامِ
﴿الله الذى يُرْسِلُ الرياح﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما أُجمل فيما سبقَ من أحوالِ الرِّياحِ ﴿فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ﴾ متصلاً تارةً ﴿فِى السماء﴾ في جوِّها ﴿كَيْفَ يَشَاء﴾ سائراً وواقفاً مُطبقاً وغيرَ مطبقٍ من جانبٍ دون جانبٍ إلى غيرِ ذلك ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً﴾ تارةً أُخرى أي قِطعاً وقُرىء بسكونِ السِّينِ على أنَّه مخففٌ جمعُ كِسْفة أو مصدرٌ وصفَ به ﴿فَتَرَى الودق﴾ المطرَ ﴿يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ في التارتين ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي بلادَهم وأراضيَهم ﴿إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ فاجئوا الاستبشارَ بمجيء الخِصْبِ
﴿وَإِن كَانُواْ﴾ إنْ مخففةٌ منْ أنَّ وضمير الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ أي وإنَّ الشَّأنَ كانَوا ﴿مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ أي المطرُ ﴿مِن قبله﴾ تكرير للتأكد والإيذانِ بطولِ عهدِهم بالمطرِ واستحكامِ يأسِهم منه وقيل الضَّميرُ للمطرِ أو السَّحابِ أو الإرسالِ وقيل للكسف على القراءةِ بالسكون وليس بواضحٍ وأقربُ من ذلك أنْ يكونَ الضَّميرُ للاستبشارِ ومن متعلقة بينزل لتفيد سرعةَ تقَلبِ قلوبِهم من اليأسِ إلى الاستبشار بالإشارةِ إلى غايةِ تقاربِ زمانيهما ببيان اتصال اليأس بالئزيل المتصل بالاستبشار بشهادة إذا الفجائية ﴿لَمُبْلِسِينَ﴾ خبرُ كانُوا واللامُ فارقةٌ أي آيسين
﴿فانظر إلى آثار رَحْمَةِ الله﴾ المترتبةِ على تنزيلِ المطرِ من النباتِ والأشجارِ وأنواعِ الثمارِ والفاءُ للدِلالة على سرعةِ ترتبها عليه وقرىء أثر
64
الروم ٥١ ٥٣ بالتوَّحيدِ وقولُه تعالى ﴿كَيْفَ يحيي﴾ أي الله تعالى ﴿الارض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ في حيِّزِ النِّصبِ بنزعِ الخافضِ وكيفَ معلِّقٌ لانظرْ أي فانظُرْ إلى إحيائِه البديعِ للأرضِ بعد موتِها وقيلَ على الحاليَّةِ بالتَّأويلِ وأيَّاً ما كان فالمرادُ بالأمرِ بالنَّظرِ التنبيهُ عَلَى عظمِ قُدرتِه تعالى وسعةِ رحمته ما فيه من التَّمهيدِ لما يعقبُه مِنْ أمرِ البعث وقرىء تحي بالتَّأنيثِ على الإسنادِ إلى ضميرِ الرَّحمةِ ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ العظيمُ الشأنِ الذي ذُكر بعض شئونه ﴿لَمُحْيِى الموتى﴾ لقادرٌ على إحيائِهم فإنَّه إحداثٌ لمثلِ ما كانَ في موادِّ أبدانِهم من القُوى الحَيَوانيَّةِ كما أنَّ إحياءَ الأرضِ إحداثٌ لمثلِ ما كانَ فيها منَ القُوى النباتيَّةِ أو لمحييهم البتةَ وقولُه تعالى ﴿وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ﴾ تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله أي مبالغٌ في القُدرةِ على جميع الأشياء التي من جملتها إحياؤُهم لما أنَّ نسبةَ قُدرتِه إلى الكُلِّ سواءٌ
65
﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ﴾ أي الأثرَ المدلُولَ عليه بالآثار او النبات المعبر عنه بالآثارِ فإنَّه اسمُ جنسٍ يعمُّ القليلَ والكثيرَ ﴿مُصْفَرّاً﴾ بعد خُضرتِه وقد جُوِّز أنْ يكونَ الضَّميرُ للسَّحابِ لأنَّه إذا كان مُصفرَّاً لم يُمطر ولا يخفى بعدُه واللامُ في لئن موطِّئةٌ للقسمِ دخلتْ على حرفِ الشَّرطِ والفاءُ في فَرأَوه فصيحة واللامُ في قولِه تعالى ﴿لَّظَلُّواْ﴾ لامُ جواب القسم ساد مسدَّ الجوابينِ أي وبالله لئنْ أرسلنا ريحاً حارةً أو باردةً فضربتْ زرْعَهُم بالصَّفارِ فرأَوَه مُصفرَّاً ليظلنَّ ﴿مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ﴾ من غيرِ تلعثُمٍ وفيه منْ ذمِّهم بعد تثبيتِهم وسرعةِ تزلزلِهم بين طَرَفيْ الإفراطِ والتفريطِ مالا يخفى حيثُ كان الواجبُ عليهم أن يتوكلوا على الله تعالى في كل حال ويلجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبسَ عنهم القطرُ ولا ييأسوا من رَوْح الله تعالى ويبادرُوا إلى الشُّكرِ بالطَّاعةِ إذا أصابَهم برحمتِه ولا يفرِّطوا في الاستبشارِ وأنْ يصبرُوا على بلائِه إذا اعترى زرعَهم آفةٌ ولا يكفرُوا بنعمائِه فعكسُوا الأمرَ وأبَوا ما يُجديهم وأَتَوا بما يُرديهم
﴿فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى﴾ لما انهم مثلهم لانسداد مشاعرِهم عن الحقِّ ﴿وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ﴾ تقييدُ الحكم بما ذُكر لبيانِ كمالِ سوءِ حالِ الكفرةِ والتنبيه على أنَّهم جامعُون لخصلتي السُّوءِ نبوِّ أسماعِهم عن الحقَّ وإعراضِهم عن الإصغاءِ إليهِ ولو كانَ فيهم إحداهُما لكفاهُم ذلك فكيفَ وقد جمعُوهما فإنَّ الأصمَّ المقبلَ إلى المتكلِّمِ ربَّما يفطَنُ من أوضاعِه وحركاتِه لشىءٍ من كلامِه وإنْ لم يسمعْهُ أصلاً وأمَّا إذا كانَ مُعرضاً عنه فلا يكادُ يفهمُ منه شيئاً وقُرىء بالياءِ المفتوحةِ ورفعِ الصُّمِّ
﴿وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم﴾ سمُّوا عُمياً إما لفقدِهم المقصودِ الحقيقيِّ من الإبصارِ أو لعَمَى قلوبِهم وقُرىء تهدِي العميَ ﴿إِن تُسْمِعُ﴾ أي ما تُسمِعُ ﴿إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ فإنَّ إيمانَهم يدعُوهم إلى التَّدبرِ فيها وتلقِّيها بالقَبُولِ إو إلاَّ من يُشارفُ الإيمانَ بها ويُقبل عليها إقبالاً لائقاً ﴿فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾ مُنقادُون لما تأمرُهم به من الحق
65
الروم
66
٥٤ - ٥٧ ﴿الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ أي ابتدأكُم ضعفاءَ وجعلَ الضَّعفَ أساسَ أمرِكم كقولِه تعالى وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً أي خلقكُم من أصلٍ ضعيفٍ هو النُّطفة ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً﴾ وذلك عند بلوغِكم الحُلُمَ أو تعلقِ الرُّوح بأبدانِكم ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً﴾ إذا أخذَ منكم السنُّ وقُرىء بضمِّ الضَّادِ في الكلِّ وهو أَقوى لقولِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قرأتها على رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فأقرأنِي من ضُعفٍ وهُما لغُتانِ كالفَقْرِ والفُقْرِ والتَّنكيرُ معَ التَّكريرِ لأنَّ المتقدِّمَ غيرُ المتأخرِ ﴿يَخْلُقُ مَا يشاء﴾ من الأشياء التي من جُمْلتها ما ذكِرَ منَ الضَّعفِ والقُوَّةِ والشَّيبةِ ﴿وَهُوَ العليم القدير﴾ المبالغُ في العلمِ والقدرةِ فإنَّ التَّرديدَ فيما ذُكر من الأطوارِ المختلفةِ من أوضحِ دلائلِ العلمِ والقدرةِ
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة﴾ أي القيامةُ سُمِّيتْ بها لأنَّها تقوم في آخرِ ساعةٍ من ساعاتِ الدُّنيا أو لأنَّها تقعُ بغتة وصارتْ عَلَماً لها كالنَّجمِ للثُّريَّا والكوكَبِ للزُّهْرةِ ﴿يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ﴾ أي في القبُورِ أو في الدُّنيا والأولُ هُو الأظهرُ لأنَّ لبثَهم مُغيَّا بيومِ البعثِ كما سيأتي وليسَ لبثُهم في الدُّنيا كذلكَ وقيلَ فيما بين فناءِ الدُّنيا والبعثِ وانقطاع عذابِهم وفي الحديثِ ما بينَ فناءِ الدُّنيا وَالبَعثِ أربعونَ وهُو محتملٌ للسَّاعاتِ والأيَّامِ والأعوامِ وقيلَ لا يعلم أهي أربعونَ سنة أو أربعونَ ألفِ سنة ﴿غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ استقلُّوا مدَّة لبثهم نسياناً أو كذباً أو تخميناً ﴿كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ﴾ مثلَ ذلكَ الصَّرفِ كانوا يُصرفون في الدُّنيا عن الحقِّ والصِّدقِ
﴿وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان﴾ في الدُّنيا من الملائكةِ والإنسِ ﴿لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله﴾ في علمهِ أو قضائهِ أو ما كتبَه وعيَّنه أو في اللوح أو القرآن وهو قوله تعالى وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ﴿إلى يَوْمِ البعث﴾ ردُّوا بذلك ما قالُوه وأيَّدوه باليمين كأنَّهم من فرطِ حَيرتِهم لم يدرُوا أنَّ ذلك هو البعثُ الموعودُ الذي كانُوا ينكرونَه وكانُوا يسمعون أنَّه يكونُ بعد فناءِ الخلقِ كافَّة ويقدرون لذلك زماناً مديداً وإنْ لم يعتقدُوا تحقُّقه فردَّ العالِمونَ مقالتَهم ونبَّهوهم على أنَّهم لبثُوا إلى غايةٍ بعيدةٍ كانُوا يسمعونَها وينكرونَها وبكَّتوهم بالإخبارِ بوقوعِها حيثُ قالُوا ﴿فهذا يَوْمُ البعث﴾ الذي كنتُم تُوعدون في الدُّنيا ﴿ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أنَّه حقٌّ فتستعجلون به استهزاءً والفاءُ جوابُ شرطٍ محذوفٍ كما في قول من قالَ... قالُوا خراسانُ أقْصَى ما يرادبنا... ثمَّ القُفولُ فقد جِئنا خُراساناً...
﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ﴾ أي عذرُهم وقُرىء تنفعُ بالتاء محافظةً على ظاهرِ اللفظِ وإنْ توسط
66
الروم ٥٨ ٦٠ بينهما فاصلٌ ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ لا يُدعون إلى ما يقتضِي إعتابَهم أي إزالةَ عَتْبِهم من التَّوبة والطَّاعةِ كما دُعوا إليه في الدُّنيا من قولِهم استعتبني فلانٌ فاعتبتُه أي استرضانِي فأرضيته
67
﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرآن مِن كُلّ مَثَلٍ﴾ أي وبالله لقد بينَّا لهم كل حال ووصفنالهم كلَّ صفةٍ كأنَّها في غرابتها مَثَلٌ وقصصنا عليهم كلَّ قصَّةٍ عجيبةِ الشَّأنِ كصفةِ المبعوثينَ يومَ القيامةِ وقصتهم وما يقولُونَ وما يُقال لهم ويفعلُ بهم من ردِّ اعتذارِهم ﴿وَلَئِن جئتهم بآية﴾ من آياتِ القُرآنِ النَّاطقةِ بأمثالِ ذلك ﴿لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ لفرطِ عتوِّهم وعنادِهم وقساوةِ قلوبِهم مخاطبينَ للنبيِّ ﷺ والمؤمنين ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ﴾ أي مزوِّرون
﴿كذلك﴾ مثلَ ذلك الطَّبعِ الفظيعِ ﴿يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ لا يطلبونَ العلمَ ولا يتحرَّون الحقَّ بل يُصرُّون على خرافاتٍ اعتقدوها وتُرَّهاتٍ ابتدعُوها فإن الجهلَ المركَّبَ يمنعُ إدراكُ الحقِّ ويوجبُ تكذيبَ المُحقِّ
﴿فاصبر﴾ على ما نشاهد منهم من الأقوالِ الباطلةِ والافعال السيئة ﴿إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ وقد وعدك بالنُّصرةِ وإظهارِ الدِّينِ وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ ولا بُدَّ من إنجازِه والوفاءِ به لا محالةَ ﴿وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾ لا يحملنَّك على الخفَّةِ والقلقِ ﴿الذين لاَ يُوقِنُونَ﴾ بما تتلُو عليهم من الآياتِ البيِّنةِ بتكذيبِهم إيَّاها وإيذائِهم لك بأباطِيلِهم التي مِنْ جُملتها قولُهم إنْ أنتُم إلا مُبطلون فإنَّهم شاكُّون ضالُّون ولا يُستبعد منهم أمثالُ ذلك وقُرىء بالنُّون المخففةِ وقُرىء ولا يستحقنَّك من الاستحقاقِ أي لا يفتُننَّك فيملكوك وبكونوا أحقَّ بك من المؤمنينَ وأياً ما كان فظاهرُ النظمِ الكريمِ وإنْ كانِ نهياً للكَفَرةِ عن استخفافِه ﷺ واستحقاقه لكنه في الحقيقة نهيٌ له ﷺ عن التَّاثرِ من استخفافِهم والافتتان بفتنتِهم على طريقِ الكنايةِ كما في قوله تعالى ولا يجر منكم شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَن لا تَعْدِلُواْ عن رسولِ الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الرُّوم كان له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ مَلَكٍ يُسبِّحُ الله تعالى بينَ السَّماءِ والأرضِ وأدركَ ما ضيَّع في يومِه وليلتهِ
67
سورة لقمان ١ ٦
مكية وقيل إلا الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة فإن وجوبهما بالمدينة وهو ضعيف لأنه ينافى شرعيتهما بمكة وقيل إلا ثلاثاً من قوله وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وهى اربع وثلاثون آية ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم﴾
68
Icon