ﰡ
كلها مَكِّيَّة وهي ستون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (٧)قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) وفي بعض القراءات: (غَلَبَتِ الرُّومُ) بفتح الغين على المستقبل.
يذكر أهل التأويل: أنه إنما يذكر هذا؛ لأن المشركين كانوا يجادلون وهم بمكة، يقولون: إن الروم أهل الكتاب وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل على نبيكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم، فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية: (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ...) الآية، لكن يذكر في آخره: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ)؛ فلا يحتمل فرح المؤمنين بغلبة الروم على فارس، ويسمى ذلك: نصر اللَّه وهم كفار، وغلبتهم عليهم معصية، اللهم إلا أن يكون فرحهم بما يظهر الإيمان بكتب اللَّه وتصديقها والعمل بها، وهم كانوا أهل كتاب، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان بعث مصدقًا بكتب اللَّه وبرسله أجمع، ففرحوا بذلك، فإن كان كذلك فجائز الفرح بذلك وتسميته نصر اللَّه.
وأما على الوجه الذي يقولون هم فلا.
وعندنا: أن في ذلك آية عظيمة في إثبات رسالة نبينا مُحَمَّد - صلوات اللَّه عليه - ونبوته وصدقه ما لم يجد الكفار فيه مطعنا، ولا النسبة إلى الكذب والافتراء، على ما قالوا وطعنوا في سائر الآيات والأنباء، كقولهم: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)، ونحو ذلك من المطاعن التي طعنوا في القرآن والأنباء المتقدمة؛ حيث قالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، مثلها لم يجدوا فيما أخبر من غلبة الروم على فارس؛ لأنه أخبر عن غلبة ستكون وستحدث لا عن غلبة قد كانت،
وهم جائز أن يستدلوا بما كان من قبل من غلبة فارس على الروم أن يقولوا: تغلب فارس على الروم بما شاهدوه مرة أو بوجوه أخر يستدلون بذلك؛ من نحو أن يقولوا: إنهم أهل كتاب وعبادة يكونون مشاغيل بالنظر فيها والعمل ببعض ما فيها لا يتفرغون للقتال والحرب.
أو أن يقولوا: إنهم نصارى - أعني: أهل الروم - وليس في سنتهم ومذهبهم القتال والحرب، فيستدلون بمثل هذه الوجوه على أن لا غلبة تكون لهم ولا ظفر.
وأمَّا أهل الإسلام ليس لهم شيء من تلك الوجوه ولا بغيرها وجه الاستدلال بغلبة أُولَئِكَ، فما قالوا ذلك إلا وحيًا من اللَّه إليه وإعلامًا منه إياه، فكان في ذلك أعظم آية لصدق رسوله وأكبرها فيكون فرح المؤمنين وذكر نصر اللَّه بإظهار تلك الآية في تصديق رسوله؛ إذ نصر رسوله حيث أظهر صدقه ورسالته.
وقوله: (غُلِبَتِ) و (غَلَبَت): (غُلِبَتِ) على الماضي؛ لما كان من غلبة فارس على الروم، و (غَلَبَت) بالفتح على المستقبل؛ أي: تغلب الروم على فارس، وهو كقوله: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، على الأمر في المستقبل، (بَاعَدَ بين أسفارنا) على الخبر، فعلى ذلك الأول.
وقوله: (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) قيل: أقرب إلى أرض فارس.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَدْنَى الْأَرْضِ) أي: أدنى أرض الشام.
وقيل: الأرض التي تلي فارس، واللَّه أعلم.
وفي قوله: (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) وفي قوله: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) وجوه على المعتزلة:
أحدها: يقال لهم: وعد أن يغلب الروم على فارس، وقد أراد أن يخرج ما وعد حقًا صدقًا أم لا؟ فإن قالوا: لا، فقد أعظموا القول وأفحشوه؛ حيث زعموا أنه أراد ألا يفي بما وعد أنه يكون.
وإن قالوا: نعم، قيل: دل أنه أراد ما فعلوا، وإن كان الفعل منهم فعل معصية
والثالث: في قوله: (بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ) دلالة: أن لله في فعل العباد صنعًا وتدبيرًا حيث ذكر فعل بعضهم على بعض، ثم سمّى: نصر اللَّه؛ دل أن له في ذلك تدبيرًا.
وقوله: (فِي بِضْعِ سِنِينَ) قيل: البضع: سبع.
وقيل: ما دون العشر فهو بضع، وكذلك ذكر في الخبر أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما خاطر المشركين وبايعهم في ذلك بخطر في سنين ذكرها، فمضت تلك المدة ولم تغلب الروم على فارس، فقال رسول اللَّه على لأبي بكر: " أما علمت أن ما دون العشر بضع كله، فزد في الأجل، وزد في الخطر "، ففعل ذلك، فلم تمض تلك السنون حتى ظهرت الروم على فارس.
وفي بعض الحديث قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لم تكونوا أن تؤجلوا أجلا دون العشر؛ فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر، فزيدوهم ومادوهم في الأجل " ففعلوا حتى ظهرت الروم على فارس... فذكر الحديث.
ثم المسألة في المخاطرة التي كانت بين أبي بكر وبين أُولَئِكَ الكفرة:
أحدها: أن مكة كانت يومئذ دار حرب؛ دليله: قوله: (وَإِذْ يَمكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا...) الآية، وذلك كان قبل الهجرة، وما أمر بالهجرة -أيضًا- إلى المدينة، ونحوه كثير، وذلك كان كله قبل غلبة الروم على فارس، فإذا كانت مكة يومئذ دار حرب
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر( أما علمت أن ما دون العشر بضع كله، فزد في الأجل، وزد في الخطر ) [ ابن جرير الطبري في تفسيره ٢١/١٨ ] ففعل ذلك. فلم تمض تلك السِّنونَ حتى ظهرت الروم على فارس.
وفي بعض الحديث [ أنه ] ( ٢ ) قال رسول صلى الله عليه وسلم :( ألم تكونوا أحقاء أن تؤجلوا أجلا دون العشر، فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر، فزايدوهم [ في القمار ]( ٣ ) ومادّوهم في الأجل ) [ ابن جرير الطبري في تفسيره : ٢١/١٩ ] ففعلوا حتى ظهرت الروم على فارس.
ثم المسالة في المخاطرة التي كانت بين أبي بكر وبين أولئك الكفرة [ تخرّج على وجهين :
أحدهما ] ( ٤ ) : أن مكة كانت يومئذ دار حرب. دليله قوله :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ الآية [ الأنفال : ٣٠ ].
وذلك كان قبل الهجرة. أما أمر بالهجرة أيضا إلى المدينة، ونحوه كثير. وذلك كان كله قبل غلبة الروم على فارس.
فإذا كانت مكة يومئذ دار حرب جازت المخاطرة بالعقود في دار الحرب في ما بينهم وبين أهل الحرب، وإن كان مثلها في دار الإسلام غير جائز.
وهذا يدل لأبي حنيفة، رحمه الله، في إجازته عقد الربا في دار الحرب في ما بينهم وبين أهل الإسلام، وإن كان مثله في دار الإسلام غير جائز.
والثاني : جاز ذلك يومئذ، وإن كانت فيه جهالة أسنان الإبل. والجهالة في العقود إنما تبطل العقود لخوف وقوع التنازع بينهم في أمثالهم، لا يتوهم وقوعه إن كانوا أهل شرف وكرم وأهل جود لا ينازعوا في أمثالها.
فإذا كان التنازع في مثلها مرتفعا من بينهم جاز ذلك أن يكون التنازع بينهم في الدين. فأما في الأموال فقلما يقع لما ذكرنا.
ومنهم من يقول : كان جائزا ذلك في الجاهلية. فأما اليوم فقد جاء النهي عن القمار فنسخه. وإنما عرف النهي عن الميسر، والميسر هو القمار فيكون النهي عن الشيء نهيا عما هو في معناه، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ لله الأمر من قبل ومن بعد ﴾ قال بعضهم :﴿ لله الأمر من قبل ﴾ قبل غلبة فارس على الروم ﴿ ومن بعد ﴾ بعد غلبة فارس على الروم. ويقال :﴿ لله الأمر من قبل ﴾ حين ظهرت الفارس على الروم ﴿ ومن بعد ﴾ بعدما ظهرت الروم [ على فارس. وجائز ]( ٥ ) أن يكون قوله :﴿ لله الأمر ﴾ في خلقه، أي التدبير فيه وله الأمر فيهم، أي ليس لأحد في الخلق أمر ولا تدبير، وإنما ذلك له كقوله :﴿ ألا له الخلق والأمر ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] له التدبير فيهم والأمر.
وفي قراءة من قرأ :﴿ غلبت الروم ﴾ غَلبت بالنصب يكون قوله :﴿ وهم من بعد غلبهم سيغلبون ﴾ حين يتظاهر عليهم المسلمون في آخر الزمان حين تفتح قسطنطينية.
وفي حرف ابن مسعود وحفصة : في بعض سنين قريبا.
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: أحدها..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
والثاني: جاز ذلك يومئذ وإن كانت فيه جهالة أسنان الإبل، والجهالة في العقود إنما تبطل العقود، لخوف وقوع التنازع بينهم في الدِّين، فأما في الأموال فقلما يقع؛ لما ذكرنا.
ومنهم من يقول: كان جائزا ذلك في الجاهلية، فأمَّا اليوم فقد جاء النهي عن القمار فنسخه، وإنما عرف النهي عن الميسر، والميسر هو القمار؛ فيكون النهي عن الشيء نهيًا عما هو في معناه، واللَّه أعلم.
وقوله: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ) غلبة فارس الروم (وَمِنْ بَعْدُ) غلبة الروم فارس. ويقال: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ) وحين ظهرت فارس على الروم (وَمِنْ بَعْدُ) ما ظهرت الروم على فارس.
وجائز أن يكون قوله: (لِلَّهِ الْأَمْرُ) في خلقه؛ أي: التدبير فيه، وله الأمر فيهم؛ أي: ليس لأحد في الخلق أمر ولا تدبير، وإنما ذلك له؛ كقوله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ): له التدبير فيهم والأمر.
وفي قراءة من قرأ (غَلَبَتِ الرُّومُ) بالنصب يكون قوله: (وهم من بعد غلبهم سَيُغْلَبُونَ) حين تظاهر عليهم المسلمون في آخر الزمان حين تفتح قسطنطينية.
وفي حرف ابن مسعود وحفصة: (في بعض سنين قريبًا).
وقوله: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ... (٥) فَرَحُ المؤمنين بنصر اللَّه حيث نصر رسوله بإظهار ألاية له في إثبات الرسالة والنبوة وصدقه، وذلك النصر له، وما يقول بعض أهل التأويل: نصر الروم على فارس - بعيد؛ لأن ما كان الفعل فعل معصية لا يقال: نصر اللَّه، وإنما يقال ذلك فيما كان الفعل فعل طاعة، والوجه فيه ما ذكرنا: أنه نصر رسوله بما ذكرنا.
وقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ذكر العزيز على إثر ما سبق؛ لأنه عزيز بذاته، فهلاك من هلك من عبيده لا يوجب وهنًا ولا نقصًا في ملكه وسلطانه، ليس كهلاك بعض عبيد
وقوله: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦) إنما يكون خلف الوعد في الشاهد لإحدى خصال ثلاث:
إما لندامة استقبلته فيما وعد فتمنعه تلك الندامة عن إنجاز ما وعد، وحفظ الوفاء له. وإما لحاجة وقعت له فيما وعد فتمنعه تلك الحاجة عن وفاء ما وعد وإنجاز ما يطمع.
وإما لعجز يكون به لا يقدر على إنجاز ما وعد، فيحمله عجزه عن وفاء ما وعد وإنجازه، فإذا كان اللَّه - سبحانه - يتعالى عن الوجوه التي ذكرنا فإن ما وعد لم يحتمل الخلف منه، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) يحتمل قوله: (لَا يعْلَمُونَ) لما لم ينظروا ولم يتفكروا في الأسباب التي هي أسباب العلم بعدما أعطاهم أسباب العلم، لكنهم إذا تركوا النظر في الأسباب والتفكر فيها لم يعلموا، فلم يعذروا بذلك لتركهم النظر والتفكر فيها.
ويحتمل قوله: (لَا يَعْلَمُونَ) أي: لا ينتفعون بما علموا، فنفى عنهم العلم؛ لما لم ينتفعوا بهذه الحواس وإن كانت لهم هذه الحواس.
وقوله: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (٧) يحتمل قوله: ظاهر الأشياء في المنافع، ولا يعلمون باطن المنافع بم؟ وكيف؟ نحو ما يعلم أن الماء به حياة الأشياء، ويعلمون أن بالطعام قوام الأبدان، ولكن لا يعلمون قدر منفعته وكيفيته وما في سرية ذلك من المنافع، وكذلك السمع والبصر واللسان لا يعلم حقيقة ذلك وكيفيته، وإن كان يعلم أنه بها يسمع ويبصر ويتكلم ويفهم.
وجائز أن يكون قوله: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا): منافع الحياة الدنيا، وعن منافع الآخرة هم غافلون، وإنَّمَا أنشئت منافع الدنيا لا لتكون لها، ولكن ليعلموا بها منافع الآخرة.
وابن عَبَّاسٍ والكلبي وهَؤُلَاءِ يقولون: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) قالوا: يعلمون معايشهم، وتجاراتهم، وحرفهم، وجميع الأسباب والمكاسب والحيل التي بها تقوم أمور دنياهم (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) أي: لا يؤمنون بها، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون قوله :﴿ يعلمون ظاهرا ﴾ منافع ﴿ الحياة الدنيا وهم ﴾ عن منافع ﴿ الآخرة هم غافلون ﴾ وإنما أنشئت منافع الدنيا لا لتكون لها، ولكن ليعلموا بها منافع الآخرة.
وابن عباس والكلبي وهؤلاء يقولون :﴿ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ﴾ قالوا : يعلمون معايشهم وتجارتهم وحرفهم وجميع الأسباب والمكاسب والحيل التي بها تقوم أمور دنياهم ﴿ وهم عن الآخرة هم غافلون ﴾ أي لا يؤمنون بها، والله أعلم.
وقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) قد ذكرنا في غير موضع أن كل استفهام من اللَّه وسؤال يخرج على الإيجاب والإلزام؛ ثم الإيجاب يخرج على وجوه:
أحدها: أن قد تفكروا ونظروا واعتبروا وعرفوا أنه ما خلق اللَّه السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، لكنهم عاندوا، وكابروا، ولم ينقادوا، ولم يقروا.
والثاني: يخرج على الأمر؛ أي: تفكروا وانظروا واعتبروا؛ لتعلموا أنه ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق.
والثالث: على الخبر أنهم لم يتفكروا، ولم ينظروا، ولم يعتبروا، ولو تفكروا واعتبروا لعلموا أنه ما خلق اللَّه السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، لكنهم لم يتفكروا، ولم ينظروا بعدما أعطوا أسباب العلم به، فلم يعذروا بترك التفكر والنظر والاعتبار.
وعلى هذه الوجوه الثلاثة يخرج قوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ونظروا، وعلموا ما حل بالمكذبين بالتكذيب، وما صار عاقبة أمرهم.
أو سيروا في الأرض على الأمر؛ لتعرفوا ما أصاب أُولَئِكَ بالتكذيب.
أولم يسيروا في الأرض - على ما ذكرنا - لئلا يعلموا عاقبة أُولَئِكَ.
ثم قوله: (إِلَّا بِالْحَقِّ) قيل فيه بوجوه:
أحدها: أن ما خلق اللَّه السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الذي عليهم من الشكر له فيما أنعم عليهم، والتعظيم له والتجيل.
والثاني: (إِلَّا بِالْحَقِّ) الذي لله عليهم من الشكر له فيما عليهم؛ أي: ما يحمد بفعله
والثالث: (إِلَّا بِالْحَقِّ) أي: بالبعث؛ لأنه لو لم يكن البعث لكان خلقه السماوات
والأرض وما بينهما لعبًا باطلا لا حقًّا، كقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا).
وقوله: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) سمى البعث: لقاء الرب، والمصير إليه والرجوع إليه، والبروز إليه، والخروج، وإن كانوا في الأوقات كلها بارزين له، خارجين، صائرين إليه، راجعين؛ لأن خلقه إياهم إنما صار حكمة لذلك البعث، والمقصود بخلقهم ذلك البعث؛ لذلك سمي البعث بما ذكرنا.
وقوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) هو يخرج على الوجوه التي ذكرنا في قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ). وقوله: (كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) يذكر أهل مكة ويوبخهم في تكذيبهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وسوء معاملتهم إياه بما ذكر من القرون الماضيهَ أنهم مع شدتهم، وقوتهم، وبطشهم، وكثرة أتباعهم وحواشيهم وأموالهم، وطول أعمارهم وبنيانهم - لم يتهيأ لهم الانتصار والامتناع عن عذاب اللَّه إذا حل بهم بتكذيبهم الرسل؛ فأنتم يا أهل مكة دونهم في القسوة والبطش والحواشي والأتباع، فكيف يتهيأ لكم الانتصار والامتناع من عذاب اللَّه إذا كذبتم الرسول، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وجائز أن يكون على التقديم والتأخير، (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى) مقدمًا على قوله: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ) يقول: ما حل بهم من العذاب وعذبوا في هذه الدنيا بتكذيبهم، لم يظلمهم اللَّه، ولكن ظلموا أنفسهم بما أساءوا.
ويحتمل أن يكون قوله: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ) في تعذيبهم في الدنيا (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ثم يكون قوله: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى) في الدنيا (السُّوأَى) في الآخرة في النار، فيكون في الدنيا ما عذبوا في الدنيا عذاب عناد ومكابرة، وما يعذبون في الآخرة تعذيب كفر وتكذيب، وهو ما قال: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَثَارُوا الْأَرْضَ) أي: كربوا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها
وقَالَ بَعْضُهُمْ: عاشوا يعمرون الأرض أكثر مما عمرها أهل مكة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: عمروها: عملوا بها أكثر مما عمل هَؤُلَاءِ.
وبعضه قريب من بعض.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَأَثَارُوا الْأَرْضَ) أي: حرثوها.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أثاروا: أي: قلبوها للزراعة، ويقال للبقرة: المثيرة، وقال اللَّه - تعالى -: (لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ).
وقوله: (أَسَاءُوا السُّوأَى) أي: جهنم. وكذلك قال الكسائي: (السُّوأَى): هي النار؛ كقوله: (وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) أي: كان عاقبتهم النار بما كذبوا بآيات الله واستهزءوا بها.
وقوله: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ (١٠) يحتمل قوله: أساءوا إلى الرسل بالتكذيب وأنواع الأذى.
ويحتمل: أساءوا إلى أنفسهم؛ حيث أهلكوها وأوقعوها في النار.
و (السُّوأَى): اسم من أسماء النار: كالعسرى، والهاوية، ونحوهما، واليسرى والحسنى اسمان من أسماء الجنة.
وقوله: (أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) يذكر أهل مكة ويخوفهم أن ما حل بأُولَئِكَ القرون الماضية من الإهلاك والاستئصال إنما كان بتكذيب الآيات والاسثهزا - بها في هذه الدنيا، فأنتم يا أهل مكة إذا كذبتم الآيات والحجج واستهزأتم بها يصيبكم ما أصاب أُولَئِكَ بالتكذيب.
والآيات: يحتمل: حجج التوحيد وحجج الرسل في إثبات الرسالة أو آيات البعث.
وقوله: (وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ) يحتمل بالآيات التي ذكرنا، أو ما أوعدهم الرسل من العذاب والإهلاك، فاستهزءوا بذلك.
وقوله: (اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) هذا في الظاهر دعوى، لكنه قد بين فيما تقدم من الآيات ما يلزمهم الإعادة والإحياء من (١)
وفي قوله تعالى :﴿ أو لم يسيروا في الأرض ﴾ وغيره( ٣ ) من الآيات ما ألزمهم من الآيات أنه لو لم يكن له إعادة وبعث كان خلقهم عبثا باطلا خارجا عن الحكمة. والقدرة في ابتداء الإنشاء، إن لم تكن أكثر فلا تكون دون الإعادة. فمن ملك، وقدر على الابتداء كان على الإعادة أقدر ؛ إذ إعادة الشيء عندكم أهون وأيسر من ابتداء الإنشاء على ما ذكر( ٤ ) في قوله :﴿ وهو أهون عليه ﴾ [ الروم : ٢٧ ].
وقوله تعالى :﴿ ثم إليه ترجعون ﴾ ذكر الإعادة والإحياء بعد الموت والرجوع إليه لما ذكرنا أن المقصود في خلقهم في هذه الدنيا الإعادة والإحياء. لذلك سمى الإعادة الرجوع إليه والمصير والبروز له، وإن كانوا في جميع الأحوال صائرين إليه راجعين بارزين له خارجين.
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ في الأصل وم: وغيرها..
٤ من م، في الأصل: ذكرتم..
وفي قوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) وغيرها من الآيات ما ألزمهم من الآيات أنه لو لم يكن له إعادة وبعث كان خلقهم عبثًا باطلا، خارجًا عن الحكمة، والقدرة في ابتداء الإنشاء، إن لم تكن أكثر لا تكون دون الإعادة، فمن ملك وقدر على الابتداء كان على الإعادة أقدر؛ إذ إعادة الشيء عندكم أهون وأيسر من ابتداء إنشائه، على ما ذكر في قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).
وقوله: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ذكر الإعادة والإحياء بعد الموت والرجوع إليه؛ لما ذكرنا أن المقصود في خلقهم في هذه الدنيا الإعادة والإحياء؛ لذلك سمى الإعادة: الرجوع إليه والمصير والبروز له، وإن كانوا في جميع الأحوال صائرين إليه، راجعين، بارزين له، خارجين.
وقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: الإبلاس: هو الإياس.
مبلسون: أي: يائسون في الآخرة عما كانوا يطمعون بعبادتهم تلك الأصنام والأوئان في هذه الدنيا؛ حيمث قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤنَا عَندَ اللَّهِ) ونحوه؛ يقول: يائسون في الآخرة عما طمعوا بعبادتهم في الدنيا حين شهدوا عليهم، وكفروا بهم، وجعلوا يلعنون عليهم، ويتبرءون منهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يائسون من كل خير.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإبلاس: هو الفضيحة أي: يفتضحون بما عملوا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المبلس: كل منقطع رجاؤه ساكت كالمتحير في أمره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أن مبلس: كل آيس حزين.
وقوله - تعالى -: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ... (١٣) هو ما ذكرنا: أن الأصنام التي عبدوها وسموها: آلهة لا تشفع لهم (وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ) يحتمل هذا وجهين: أي: الأصنام بهم كافرون.
أو هم يكفرون بالأصنام إذا لم يشفعوا لهم وصاروا شهداء عليهم.
أو كل يكفر بصاحبه؛ كقوله: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ
أحدها ] ( ١ ) : أي الأصنام بهم كافرون.
[ والثاني ]( ٢ ) : هم يكفرون بالأصنام إذا لم يشفعوا لهم، وصاروا شهداء عليهم.
[ والثالث ]( ٣ ) : كل يكفر بصاحبه كقوله :﴿ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ] والله أعلم.
٢ في الأصل وم: و..
٣ في الأصل وم: أو..
وقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) سمى اللَّه - تعالى - ذلك اليوم: يوم الجمع بقوله: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ)، وسمي: يوم الافتراق، فهو يوم الجمع في أول ما يبعثون ويحشرون، ثم يفرق بينهم تفريقًا لا اجتماع بينهم أبدًا؛ كقوله: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، فهو يوم الجمع في حال ووقت، ويوم الافتراق في حال ووقت آخر، وبعض أهل التأويل يقولون: قوله: (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) العابد والمعبود، والتابع والمتبوع، بعدما كانوا مجتمعين في الدنيا، وهو ما ذكر في آية أخرى: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ...) الآية؛ فهذا تفرقهم على قول بعضهم، والوجه فيه ما ذكرنا بدءًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) آمنوا بكل ما أمروا أن يؤمنوا به، وعملوا بكل ما أمروا أن يعملوا (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) والروضة كأنها اسم من أسماء الجنان.
وقوله: (يُحْبَرُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: يكرمون.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحبرون: يسرون، والحبرة: السرور، ومنه يقال: " كل حبرة يتبعها عبرة ".
والزجاج يقول: يحبرون: يتنعمون، والحبرة: النعمة الحسنة، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (١٦) أي: جحدوا توحيد اللَّه وأنكروه (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) يحتمل: (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): آيات التوحيد، وآيات الرسالة، وآيات البعث (فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) أي: يحضر الأتباع والمتبوع جميعًا في النار ويجمع بينهم، كقوله: قوله تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا...) الآية، وقوله: (فَبِئْسَ الْقَرِينُ)، و (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ).
* * *
قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ
وقوله تعالى :﴿ يحبرون ﴾ قال بعضهم : يكرمون، وقال بعضهم :﴿ يحبرون ﴾ يسرّون. والحبرة السرور، ومنه يقال : كل حبرة يتبعها عبرة.
والزجاج يقول :﴿ يحبرون ﴾ يتنعمون، والحبرة النعمة الحسنة، والله أعلم بذلك.
وقوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) قوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ) فهمت الأمة من قوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ): الصلاة؛ أي: صلوا لله، ولو كانت أفهام أهل زماننا هذا لكانوا لا يفهمون سوى التسبيح المذكور.
ثم يحتمل ثسميتهم التسبيح: صلاة، وفهمهم منه ذلك لوجهين:
أحدهما: لما في الصلاة تسبيح، فسموها بذلك؛ لما فيها ذلك.
أو لما أن التسبيح تنزيه، والصلاة من أولها إلى آخرها تنزيه الربّ؛ لأن فيها إظهار الحاجات إليه والعجز والضعف، وفيها تعظيم الرب وإجلاله، ووصفه بالجلال والرفعة، فقهموا من التسيح الصلاة؛ لما ذكرنا؛ لما هي تنزيه للرب من أولها إلى آخرها.
ثم منهم من قال: إن الصلوات الخمس ذكرت في هذه الآية بقوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ): صلوات المغرب والعشاء الآخرة (وَحِينَ تُصْبِحُونَ): صلاة الفجر (وَعَشِيًّا) صلاة العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر.
ومنهم من يقول: لا؛ بل ذكرت فيها أربع صدوات: حِينَ تُمْسُونَ): المغرب (وَحِينَ تُصْبِحُونَ): الفجر (وَعَشِيًّا): العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ): الظهر، وأمَّا العشاء الآخرة ففي قوله: (وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يحتمل قوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ) على التقديم والتأخير يقول: سُبْحَانَ اللَّهِ وله الحمد؛ فيكون الحمد كناية عن الصلاة كالتسبيح.
أو لما فيها من التحميد.
أو يقول له يحمد أهل السماوات والأرض، واللَّه أعلم.
وقوله: (حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أي: إذا دخلوا في المساء والعشاء والصبح والظهر.
وقوله: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) يخبر عن قدرته في إنشاء الأشياء مبتدئًا، لا من أصل؛ لأنه قال: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) والميت ليس فيه الحياة، وكذلك
ثم اختلف فيه أهل التأويل : قال بعضهم : يخرج الناس والدواب والطير من النطف ﴿ ويخرج الميت ﴾ يعني النطف ﴿ من الحي ﴾ من الناس والدواب والطير.
وقال بعضهم :﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ أي المسلم من الكافر ﴿ ويخرج الميت من الحي ﴾ أي الكافر من المسلم.
ولكن يجيء على هذا أن يقول : يخرج من المسلم ما لا يكون كافرا ومن الكافر ما لم يصر مسلما، لأن ما يخرج لا يوصف بالإسلام ولا بالكفر، ولا ينسب إلى واحد منهما وقت الخروج حتى يبلغ، فيكون منه فعل الكفر أو فعل الإسلام. وقد ذكرنا هذا في ما تقدم.
وفي الآيات التي تقدم ذكرها من نحو قوله :﴿ أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ﴾ الآية وقوله :﴿ أو لم يسيروا في الأرض ﴾ الآية [ الروم : ٨ و ٩ ] وأمثال ذلك ما يذكر، ويخبر أولئك الكفرة عن قدرته وسلطانه، وألزمهم ذلك.
وفي الآية نقض قول المعتزلة لأنهم لا يجعلون القدرة على فعل بعوضة، فلا يكون لهم الاحتجاج على أولئك الكفرة في القدرة على الإعادة والإنشاء بعد ما صاروا رمادا، أو كلام نحو هذا.
وقوله تعالى :﴿ وكذلك تخرجون ﴾ أي كذلك تبعثون، وتحيون، كما أخرج الحي من الميت والميت من الحي من غير أن كانت الحياة في الميت والموت في الحي، والله أعلم.
ثم اختلف فيه أهل التأويل:
قَالَ بَعْضُهُمْ: يخرج الناس والدواب والطير من النطف، (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ) يعني: النطف (مِنَ الْحَيِّ) من الناس والدواب والطير.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي: المسلم من الكافر (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي: الكافر من المسلم.
ولكن يجيء على هذا أن يقول: يخرج من المسلم ما يكون كافرًا، ومن الكافر ما يصير مسلمًا؛ لأن ما يخرج لا يوصف بالإسلام، ولا بالكفر، ولا ينسب إلى واحد منهما وقت الخروج حتى يبلغ فيكون منه فعل الكفر أو فعل الإسلام، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وفي الآيات التي تقدم ذكرها؛ من نحو قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ...) الآية، وقوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ...) الآية، وأمثال ذلك مما يذكر ويخبر أُولَئِكَ الكفرة عن قدرته وسلطانه، وألزمهم ذلك.
وفي الآية نقض قول المعتزلة؛ لأنهم لا يملكون القدرة على فعل بعوضة، فلا يكون لهم الاحتجاج على أُولَئِكَ الكفرة في القدرة على الإعادة والإنشاء بعد ما صاروا رمادًا، أو كلام نحو هذا.
وقوله: (وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) أي: كذلك تبعثون وتحيون، كما أخرج الحيّ من الميت والميت من الحيّ، من غير أن كانت الحياة في الميت والموت في الحي، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) يحتمل: آيات وحدانيته وربوبيته وحججه، وآيات بعثه وإحيائه، وآيات رسالة الرسل، ونحوه.
وقوله: (أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) ويخرخ على وجوه:
أحدها: نسب خلقنا إلى التراب؛ لأنا إنما خلقنا من أصل، خلق ذلك الأصل من التراب، وهو آدم، وإن لم تكن أنفسنا مخلوقة من تراب حقيقة، كما نسب خلقنا إلى النطفة وإن لم يخلق أنفسنا كما هي من النطفة، لكنه أضاف ذلك ونسب إلى النطفة؛ لما هي أصل ما خلقنا منها.
والثاني: نسبنا إلى التراب؛ لما جعل أغذيتنا وما به قوام أنفسنا وأبداننا في الخارج من
والثالث: نسب خلقنا إلى التراب، وهو آدم؛ على ما ذكرنا، إلا أن قوله: (خَلَقَكُمْ) أي: قدركم من ذلك الأصل، والتخليق: هو التقدير في اللغة، وذلك جائز في اللغة، وإنما قدرنا على تقدير ذلك الأصل، وذلك جائز نسبتنا وإضافتنا إلى التراب، إن صح ما ذكر في بعض الأخبار ذكر: " أن ملكًا يأتي بكف من تراب، فيذره في تلك النطفة في رحم المرأة، فيخلق منه حينئذ الولد "، فإن صح هذا فيكون خلق جميع الناس وأصلهم من تراب.
وقوله: (ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي: ثم إذا أنتم ذريته من بعده بشر تنبسطون؛ كقوله: (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ)، أي: يبسط.
أو (تَنْتَشِرُونَ)، أي: تتفرقون في حوائجكم، وفي طلب أغذيتكم، وما به قوام أنفسكم، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) أي: من أجناسكم وأشكالكم (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) يقول: إنما جعل ما تسكنون إليه وتتألفون من جنسكم وشكلكم ما تعرفون، لم يجعل في غير جنسكم وشكلكم ما تعرفون؛ كقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)، أي: من جنسكم وشكلكم من تعرفون صدقه وثقته وأمانته ما لو كان من غير جنسكم وشكلكم لا تعرفونه؛ فعلى ذلك جائز قوله: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) أي: من جنسكم ما تسكنون إليها، وتستأنسون بها ما لو كانوا من غير جنسهم لا يكون ذلك؛ إذ يستأنس كل ذي شكل بشكله وجنسه.
والثاني: ما ذكرنا أنه أراد آدم وحواء؛ أي: خلق زوجته حؤاء من نفسه، فجعلها له سكنًا يسكن إليها، وششأنس بها، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) أي: بينكم وبين الأزواج (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) يحتمل قوله: (مَوَدَّةً) وجهين:
أحدهما: يودها؛ لما جعل له موضعًا لقضاء شهوته وحاجته، وكذلك هي توده
والثاني: يود بعضهم بعضًا ويرحم بالطبع والخلقة؛ إذ كل ذي طبع يود شكله وجنسه إذا كان في حال السعة والرخاء والسرور، ويرحمه إذا نزل به البلاء والشدة؛ هذا معروف عند الناس أن يتراحم بعضهم على بعض في حال نزول البلاء والشدة، وتوادهم في حال السعة والسرور.
وقال الحسن: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً) أي: الجماع (وَرَحْمَةً) أي: الولد.
فكيفما كان فهو يخبر عن لطفه ومنته؛ حيث جعل بين الزوج والزوجة المودة والرحمة على عدم القرابة والرحم، وبعد ما بينهما؛ فصارا لما ذكرنا في المودة والرحمة كالقريبين وذَوَي الرحمين وأقرب القريب، وذلك على المعتزلة؛ لأنه أخبر أنه (جَعَلَ): بينهم مودة ورحمة، وذلك فعل الزوجين في الظاهر، ثم أضاف ذلك إلى نفسه، وأخبر أنه (جَعَلَ) دل أن له صنعًا في ذلك؛ فيبطل قولهم: إن ليس لله صنع في فعل العباد، ويبطل اللطف الذي ذكر أنه جعل بينهم.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ) لما ذكرنا من آيات وحدانيته وربوبيته، وآيات البعث والنشور، أو آيات الرسالة والنبوة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لقوم ينتفعون، وهم المؤمنون، أو (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ويتدبرون ويعتبرون، فيعرفون، فأما من لا يتفكر ولا يتدبر فلا ينتفع به، فهو ليس بآيات له، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (٢٢) آيات وحداتيته وربوبيته وألوهيته، وآيات بعثه.
وقوله: (خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) في خلق السماوات ورفعها في الهواء وإقرارها فيه آية؛ لأنه غير موهوم مثله من فعل الخلق وقدرتهم، وهكذا خلق الأرض وبسطها وإقرارها على الماء، أو على الريح خارج عن فعل الخلق ومن قدرتهم، غير موهوم ذلك في أوهامهم وعقولهم من غير الواحد العالم القادر بذاته، فإذا كان ما ذكر غير موهوم في أوهامهم وعقولهم من غير اللَّه فهم إنما أنكروا البعث لما لم يعاينوا ذلك ولا شاهدوا في أوهامهم، فكيف أنكروا البعث وإن كان غير موهوم ذلك في أوهامهم، بعد أن كان ذلك موهومًا من اللَّه، مشاهدًا، معاينا لمثل هذا؟! واللَّه أعلم بذكر هذا.
وهذا على المعتزلة؛ لقولهم: إن أقوال العباد غير مخلوقة، لا صنع لله فيها، فلو لم يكن له فيما يتكلمون وينطقون على اختلاف ذلك صنع؛ فلا آية تكون له في ذلك، فدل أنه صار آية له؛ لما له صنع في ذلك، وكذلك فيما تختلف الألوان بفعل يكون من الخلق وتتغير عند الغضب والسرور والفرح، ثم أخبر أن ذلك آياته دل أنه خالق لأفعالهم وأقوالهم حتى كان آية له واللَّه أعلم.
وأهل التأويل يقولون: (وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ): عربي، وعجميّ، ونبطي، وتركي، ونحوه (وَأَلْوَانِكُمْ): أبيض، وأحمر، وأسود، ونحوه، وأصله ما ذكرنا أن في ذلك لآيات للْعَالِمِينَ؛ جائز أن يكون آيات لمن انتفع به من الْعَالِمِينَ، أو آية لمن تفكر وتدبر من الْعَالِمِينَ؛ لأنه إذا تفكر وتدبر عرف وجه الآية في ذلك.
وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) لأن النوم يأخذهم من غير أن يعرفوا أنه من أين مأتاه ومأخذه، ثم يأخذ منهم جميع منافع الأحياء: من السمع، والنطق، والفهم، والرؤية، وجميع ما تنتفع به قبل ذلك، ثم يرد ذلك إليهم من غير أن عرفوا بذلك فيعودون إلى ما كانوا من المنافع والأكساب؛ ليعلم أن من قدر على مثل هذا يقدر على أخذ الروح ونفسه ورده إليه، فهو أخو الموت؛ قال اللَّه - تعالى -: (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)، سمى النوم: الوفاة، وهو مثله؛ لما ذكرنا أن جميع منافع الأحياء ترتفع وتزول بالنوم ثم ترد إليهم من غير أن يشعروا بذلك، فمن قدر على هذا يقدر على الإحياء بعد الموت.
وقوله: (وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) جهة الآية فيما ينتفعون من فضله هو خلقه تلك المكاسب والتجارات والحرف التي يبتغون بها الرزق؛ أخبر أنه خلق ذلك منهم؛ ففيه دلالة خلق أفعال العباد؛ فهو على المعتزلة؛ لإنكارهم خلق أفعالهم.
أو أن تكون جهة الآية فيه ما عرفهم تلك المكاسب والتجارات والحرف، وعلمهم إياها وأحوجهم إليها؛ ليصلوا إلى منافعهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) يحتمل قوله: (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي: ينتفعون بسمعهم، أو لقوم يجيبون.
أو أن يكون قوله: (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي: يعقلون، ويجوز العبارة به عنه؛ كقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي: يعقلون، ويقال: (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) المواعظ فيقبلونها فينتفعون بها.
وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤)
قيل فيه بوجهين:
أحدهما: يريكم البرق للخوف والطمع: تخافون سلطانه وقدرته أن يصيبكم ذلك البرق فيذهب بأبصاركم، وطمعًا ترجون رحمته بصرفه عنكم.
والثاني: (خَوْفًا وَطَمَعًا) أي: يريكم البرق فتخافون وتطمعون؛ يخاف المسافر قطع مسيره ومنعه عنه، وتطمعون، أي: يكلمع المقيم رحمته ما يكثر به أنزاله ومعاشه.
والثاني: تخافون الصواعق، وتطمعون المطر، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) هو ظاهر، قد ذكرناه (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) هو يحتمل ما ذكرنا (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ): ينتفعون بعقولهم، أو (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لو تدبروا وتفكروا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) هو ما ذكرنا أنه قامتا على شيء غير موهوم ذلك في أوهام الخلق قيام شيء من أفعالهم على مثله، وهو الهواء والماء والريح، فكيف حمدهم خروج شيء من أوهامهم على إنكاره وتكذيبه، وهو البعث والإحياء بعد الموت، فمن قدر على أحدهما قدر على الآخر.
وقوله: (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير، أي: ثم إذا دعاكم دعوة إذا أنتم تخرجون من الأرض، والدعوة هو النفخة الآخرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما ذكر: الدعوة تكون من الأرض من صخرة بيت المقدس، من هنالك يسمعون الذعوة.
ثم اختلف في الدعوة، والصيحة، والنفخة، والصور، ونحو ما ذكر:
فمنهم من يقول: على حقيقة الدعوة، والصيحة، والنفخة، والصور، على ما ذكر.
وفي قوله؛ (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) دلالة وإخبار أنه قادر على الإنشاء والإحياء بلا سبب؛ لأنه أخبر أنه دعاكم دعوة ثم تخرجون، والدعوة ليست هي سببا للإحياء والإنشاء بل أخبر أنه يخرجهم إخراجًا ثبت أنه ما ذكرنا، وقد ذكرنا في اختلاف الألسن لو لم يكن ما يسمع منهم وما ينطقون يخلق في الحقيقة فإذن آياته عبث؛ لأن الحروف شهد خلقه، ولا جسمه، ولا سمعه، وبما احتج، فيكون بمعنى من يقول: لله آيات في الكلام احتج بها على عبادة الذين لم يطلعهم عليه، ولا سبيل لهم إلى التطلع عليها، وذلك بعيد من العقول، فثبت أن اللَّه قد خلق كل نطق على ما عليه يعرفه المتفكر بما يرى من عجز المتفوه به على التفوه به على التقطيع الذي يقدره في نفسه، وعلى الحد الذي يجب أن يكون عليه دون أن يقع في ذلك تفاوت واختلاف فيعلم أن ذلك كان الآية على ما كان عليه؛ بل باللَّه جل وعلا، ولا قوة إلا باللَّه.
وما ذكر من اختلاف فإنا نجده يتغير بالعباد؛ نحو ما يظهر عند شدة الشرور بالشيء غير الذي يظهر عند شدة الغضب متولدًا عن فعلهم وبه قول المعتزلة أو عامتهم أن المتولد هو فعل الخلق، فعلى ذلك القول يكون اللون فعلا لهم بتخليق اللَّه، وأمَّا النوم في اللون فوضع، فالاعتبار إنما هو بابتغائهم من فضله؛ أي: ذلك بما ركب فيهم من الحاجة وأنشأ لهم من الفاقة فيما ذكر من الأغذية بأن ابتغاءها فعلا للخلق، وقد احتج اللَّه - سبحانه وتعالى - على العباد، فأخبر أنه من آياته، ومحال أن يكون حجته ما يخلق غيره دون الذي يخلقه بل يدل خلق كل على منشئه من طريق الخلقة والتدبير، فثبت أن الابتغاء مخلوق يخلقه، واللَّه الموفق.
* * *
قوله تعالى: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
وقوله تعالى :﴿ ثم أذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ﴾ اختلف فيه : قال بعضهم : على التقديم، أي ثم إذا دعاكم دعوة إذا أنتم تخرجون من الأرض. والدعوة : هي النفخة الآخرة. وقال بعضهم : هو ما ذكر : الدعوة تكون من الأرض من صخرة بيت المقدس. من هنالك تسمعون الدعوة.
ثم اختلف في الدعوة والصيحة والنفخة والصور ونحو ما ذكر : فمنهم من يقول على حقيقة الدعوة والصيحة والنفخة والصور على ما ذكر. وقال بعضهم : لا، ولكن ذلك إخبار عن سرعة نفاذ الأمر وعبارة عن خفة ذلك وهوله كقوله :﴿ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب ﴾ [ النحل : ٧٧ ] وقوله :﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾ [ النحل : ٤٠ ]. ليس أن كان منه كاف ونون.
لكنه ذكر بأخف حروف يفهم منه المعنى. فعلى ذلك ذكر الصيحة والنفخة والدعوة والصور، والله أعلم.
وفي قوله :﴿ ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ﴾ دلالة وإخبار أنه قادر على الإنشاء والإحياء بلا سبب لأنه أخبر إذا دعاكم دعوة تخرجون. والدعوة ليست هي بسبب للإحياء والإنشاء. بل أخبر أنه يخرجهم إخراجا. ثبت أنه ما ذكرنا. وقد ذكرنا في اختلاف الألسن لو لم يكن ما يسمع منهم وما ينطقون يخلق في الحقيقة، فإذن آياته عبث، لأن الحروف [ لا ]( ٢ ) تشهد خلقه ولا جسمه ولا سمعه ولا ما( ٣ ) احتج، فيكون بمعنى من يقول : لله آيات في الكلام، واحتج بها على عباده الذين لم يطلعهم عليه/٤١١-ب/ ولا سبيل لهم إلى لاطلاع عليها، وذلك بعيد عن العقول، فثبت أن الله قد خلق كل نطق على ما عليه، يعرفه المتفكر بما يرى من عجز المتفوه على التفوه به على التقطيع الذي يقدره في نفسه وعلى الحد الذي يجب أن يكون عليه دون أن يقع في ذلك تفاوت واختلاف، فيعلم أن ذلك كان الآية على ما كان عليه، بل بالله، جل، وعلا، ولا قوة إلا بالله.
وما ذكر من اختلاف فإنا قد نجده يتغير بالعباد نحو ما يظهر عند شدة السرور بالشيء غير الذي يظهر عند شدة الغضب متولدا عن فعلهم.
ومن قول المعتزلة أو عامتهم أن المتولد هو فعل الخلق. فعلى ذلك القول يكون اللون فعلا بتخليق الله.
وأما النوم فموضع الاعتبار فيه ما في اللون، وإلا فالاعتبار إنما هو بابتغائهم من فضله، أي ذلك بما ركب فيهم من الحاجة وإنشائهم من الفاقة إلى ما ذكر من الأغذية بأن ابتغاءها [ كان ]( ٤ ) فعلا للخلق. وقد احتج الله سبحانه وتعالى على العباد، فأخبر أنه من آياته. ومحال أن تكون حجته ما يخلقه غيره دون الله يخلقه، بل يدل خلق كل منشئه من طريق الخلقة والتدبير. فثبت أن الابتغاء مخلوق بخلقة الله، وإن كان فعلا للخلق، والله الموفق.
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: بما..
٤ ساقطة من الأصل وم..
وقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (٢٦) حرف " من " إنما يتكلم به ويعبر عمن له الملك والتدبير والتمييز، وحرف " ما " عن ملك الأشياء نفسها، فإذا كان من له الملك في الشيء والتدبير والأمر له فالأملاك أحق أن تكون له.
يخبر - واللَّه أعلم - عن غناه وسلطانه وقدرته، أي: من له ما ذكر في السماوات والأرض لا يحتمل أن يمتحنهم ويأمرهم بأنواع العبادات والطاعة لحاجة نفسه؛ إذ هو غني عن ذلك، ولكنه إنما يمتحن ويأمرهم بأنواع العبادة وأنواع المحن لمنافع أنفسهم وحاجاتهم ومصالحهم، فإذا كان له ما ذكر من الملك لا يحتمل أن يعجزه شيء أيضًا.
وقوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: القنوت: القيام، والقانت: القائم، فإن كان هذا فتأويله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) أي: قائم بتدبيره وأمره في الوجود والعدم، والابتداء والإعادة، وفي كل حال: إن أوجد وجد، وإن أعدم صار معدومًا، وإن أحياه حيي، ونحوه، في كل حال يقوم بتدبيره وأمره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) أي: مطيعون، فإن كان على هذا ونحوه فهو في كل حال يقوم بتدبيره وأمره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) أي: مطيعون، فإن كان على هذا فهو على طاعة الخلقة له، والشهادة لله بالوحدانية والربوبية، والتدبير له، والعلم في ذلك؛ لأن اللَّه جعل في خلقة كل أحد، وكل شيء، وفي صورته ما يشهد له بالوحدانية والربوبية، ويدل على تدبيره وعلمه وحكمته، فكل له قانت ومطيع بالخلقة والصنعة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) أي: خاضعون، فهو يرجع إلى حال دون حال، وهو حال الخوف والضرورة، يخضع له كل كافر ومشرك في تلك الحال، وهو ما أخبر عنهم من الخضوع له إذا ركبوا الفلك؛ حيث قال: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، وقولهم: (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، ونحو ذلك من الأحوال التي كانوا يخضعون له ويطيعون، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... (٢٧) لا يحتمل أن يخلقهم وينشئهم لحاجة نفسه، أو لمصلحته؛ لأنه غني بذاته، أو يمتحنهم لمنفعة نفسه، أو يأمره لذلك، ولكن
أو يخبر أن من قدر على ابتداء الشيء يملك إعادته.
(وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) اختلف فيه:
قيل: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) و (هَيِّنٌ) ابتداؤه وإعادته؛ كقوله: (وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، وقوله: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، ويجوز العبارة بأفعل عن فعيل؛ نحو ما يقال: الله أكبر؛ أي: كبير، وأعظم بمعنى: عظيم، ونحوه كثير؛ فعلى ذلك قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي: عليه هَيِّنٌ؛ إذ ليس شيء أصعب على اللَّه من شيء، أو شيء أهون عليه من شيء؛ بل الأشياء كلها بمحل واحد داخل تحت قوله: (كُنْ) وإنما يقال: أهون وأيسر، لمن كان فعله بسبب، فيهون عليه إذا كثرت الأسباب، ويصعب عليه ذلك إذا قلت وضعفت، فأمّا اللَّه - سبحانه وتعالى - فهو الفاعل للأشياء، وصانعها، والقادر عليها بسبب وبلا سبب، فلا جائز أن يقال شيء أهون من شيء، وإنما يجوز ذلك فيمن كان فعله لا يكون إلا بسبب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) في عقولكم، وتدبيركم، وتقديركم؛ أي: إعادة الشيء في عقولكم وتدبيركم أهون من ابتدائه؛ لأن الخلق لا يملكون تصوير ما لم يسبق له المثال والتصور ابتداء، وقد يملكون تصوير الأشياء وتمثيلها إذا سبق لهم مثال رأوه وشاهدوه؛ فثبت أن إعادة الشيء في عقولكم وتدبيركم أهون من ابتدائه، فإذا عاينتم وأقررتم: أنه قادر على ابتدائه فهو على إعادته أملك وأقدر، ولا قوة إلا باللَّه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) يعني: على ذلك الشيء؛ أي: إعادة ذلك الشيء أهون على ذلك الشيء من ابتدائه؛ لأنه في الابتداء ينقله ويحوّله من حال النطفة إلى حال العلقة، ثم من حال العلقة إلى حال المضغة، ثم من حال المضغة إلى حال التصوير والنسمة إلى ما ينتهي إليه، حتى يصير خلقًا وصورة، فيخبر أن إعادته ليس على هذا التقدير والتحويل من حال إلى حال، ولكن كما ذكر: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، وقوله: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) وقوله: (إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً)، ونفخة ودعوة وما ذكر، فالإعادة لذلك الشيء أهون على ذلك الشيء من الابتداء.
وقوله: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: له الصفات العالية، ثم هو يخرج على وجوه:
والثانى: له الصفة العالية مما يخالف صفات الخلق وشبههم كقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ): لا تشبه صفاته صفات المخلوقين، ولا اشتبهت صفات الخلق صفاته، وهو ما قاله بعض أهل التأويل: الذي لا مثل له ولا شبه، لا إله إلا هو، واحد لا شريك له.
والثالث: وله الصفات العالية مما لا يضاد بعضها بعضًا: عالم لا جهل فيه، قادر لا عجز فيه، عزيز لا ذل فيه، وأمثال ذلك مما لا يدخل في ذلك نقصان أو عيب بوجه من الوجوه، ليس كالخلق أنهم يوصفون بالعلم بجهة وبشيء وبالجهل بجهة أخرى وبشيء آخر وبالقدرة بجهة أخرى وبشيء آخر، وبالعجز بجهة أخرى وبشيء آخر، وبالعز بجهة أخرى وبشيء آخر، وبالذل بجهة أخرى وبشيء آخر.
فاللَّه - سبحانه وتعالى - موصوف بصفات لا يضاد بعضها بعضًا ولا يدخل في ذلك نقصان بجهة من الجهات، وفي حال من الأحوال؛ لأنه بذاته موصوف بذلك لا بغيره ولا بسبب، وأما غيره فإنما يوصفون بذلك بأسباب وباعتبار يكون لهم؛ لذلك كان ما ذكر، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): الذي لا يلحقه الذل والضرر بمخالفة خلقه إياه وعصيانهم له، ليس كملوك الأرض إذا خالفهم أتباعهم وحواشيهم ورعيتهم يذلون ويلحقهم الضرر بإعراضهم عنهم؛ لأن عزهم كان بهم، فبإعراضهم عنهم ومخالفتهم إياهم يذلون، فأما اللَّه - سبحانه - فهو عزيز بذاته، لا يلحقه الضرر والذل بمخالفة الخلق إياه.
أو أن يكون قوله: (الْعَزِيزُ) المنتقم عمن يخالف أمره ويعصيه أو يشرك غيره في ألوهيته وربوبيته.
والحكيم: هوالذي لا يلحقه الخطأ في التدبير.
يخبر - واللَّه أعلم -: أني وإن خلقتهم وأنشأتهم على علم مني أنهم يخالفونني ويعصونني، وأعنتهم بكل أنواع المعونة، على علم مني بذلك منهم؛ فإن فعله ليس بخارج عن الحكمة كما يكون في الشاهد أن من أعان عدوه بأنواع المعونة، وهو يعلم أن معونته إياه تزيد له قوة في معاداته وعصيانه ومخالفته - هو موصوف بالسفه غير موصوف
[ وقوله تعالى ]( ٣ ) :﴿ وهو أهون عليه ﴾ قال [ بعضهم ]( ٤ ) :﴿ وهو أهون عليه ﴾ [ أي هو هين عليه ]( ٥ ) : ابتداؤه وإعادته كقوله :﴿ وذلك على الله يسير ﴾ [ التغابن : ٧ ] وقوله :﴿ هو علي هين ﴾ [ مريم : ٩ و٢١ ] وتجوز العبارة من فعل نحو ما يقال : الله أكبر، أي كبير، وأعظم بمعنى عظيم، ونحوه كثير. فعلى ذلك قوله :﴿ هو علي هين ﴾ أي عليه هين ؛ إذ ليس شيء أصعب على الله من شيء، أو شيء أهون عليه من شيء، بل الأشياء كلها بمحل واحد داخل تحت قوله :﴿ كن ﴾ [ البقرة : ١١٧و. . ].
وإنما يقال : أهون وأيسر لمن كان فعله بسبب، فيهون عليه إذا كثرت الأسباب، ويصعب عليه، إذا قلت، وضعفت.
فأما الله سبحانه وتعالى : فهو( ٦ ) الفاعل للأشياء، وصانعها، والقادر عليها بسبب وبلا سبب.
فلا جائز أن يقال [ في حقه ]( ٧ ) : شيء أهون عليه من شيء. وإنما يجوز ذلك [ في ]( ٨ ) من كان فعله لا يكون إلا بسبب.
وقال بعضهم : قوله :﴿ وهو أهون عليه ﴾ في عقولكم وتقديركم، أي إعادة الشيء في عقولكم وتدبيركم أهون من بدئه، لأن الخلق لا يملكون تصوير ما لم يسبق له المثال والتصور ابتداء.
وقد يكون تصوير الأشياء وتمثيلها إذا سبق لهم مثال رأوه، وشاهدوه. فثبت أن إعادة الشيء في عقولكم وتدبيركم أهون من ابتدائه. فإذا عاينتم، وأقررتم أنه قادر على بدئه فهو [ على ]٩ إعادته أملك وأقدر، ولا قوة إلا بالله.
وقال بعضهم : قوله :﴿ وهو أهون عليه ﴾ يعني على ذلك الشيء، إعادة ذلك الشيء أهون من بدئه، لأنه في الابتداء ينقله، ويحوله من حال النطفة إلى حال العلقة إلى حال المضغة، ثم من حال المضغة إلى حال التصوير والنسمة إلى ما ينتهي إليه حتى يصير خلقا وصورة. فيخبر أن إعادته ليست على التقدير والتحويل من حال إلى حال ولكن كما ذكر :﴿ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب ﴾ [ النحل : ٧٧ ] وقوله :﴿ وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ﴾ [ القمر : ٥٠ ] وقوله :﴿ صيحة واحدة ﴾ [ يس : ٥٣ و. . ] [ وقوله ]( ١٠ ) :﴿ نفخة واحدة ﴾ [ الحاقة : ١٣ ] [ وقوله ]( ١١ ) :﴿ دكة واحدة ﴾ [ الحاقة : ١٤ ] وما ذكر. فالإعادة لذلك الشيء أهون على ذلك الشيء من الابتداء.
وقوله تعالى :﴿ وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ﴾ أي له الصفات العالية. ثم يخرج على وجوه :
أحدها : أن كل موصوف بالعلو والرفعة من دونه، فهو الموصوف به في الحقيقة على ما ذكرنا أن كل من حمد دونه، فذلك الحمد له في الحقيقة، راجع إليه ذلك كقوله ﴿ وله الحمد ﴾ الآية [ الروم : ١٨ و. . ]
والثاني : له الصفة العالية مما تخالف صفات الخلق وشبههم كقوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ [ الشورى : ١١ ] لا تشبه صفاته صفات المخلوقين، ولا اشتبهت صفات الخلق صفاته، وهو ما قاله بعض أهل التأويل : الذي لا مثل له، ولا شبه ﴿ لا إله إلا هو ﴾ [ البقرة : ١٦٣ و. . ] واحد ﴿ لا شريك له ﴾ [ الأنعام : ١٦٣ ].
والثالث : وله الصفات العالية مما لا يضاد [ بعضها ]( ١٢ ) بعضا : عالم، لا جهل فيه، قادر، لا عجز فيه، عزيز، لا ذل فيه. وأمثال ذلك مما لا يدخل في ذلك نقصان أو عيب بوجه من الوجوه، ليس كالخلق أنهم يوصفون بالعلم بجهة وبشيء وبالجهل بجهة أخرى وبالقدرة بجهة أخرى وبشيء آخر وبالعجز بجهة أخرى وبشيء آخر وبالعز بجهة أخرى وبشيء آخر وبالذل بجهة أخرى وبشيء آخر.
فالله سبحانه وتعالى موصوف بصفات، لا يضاد بعضها بعضا، ولا يدخل في ذلك نقصان بجهة من الجهات وفي حال من الأحوال لأنه بذاته موصوف بذلك لا بغيره ولا بسبب.
وأما غيره فإنما يوصفون بذلك بأسباب وبأعيان( ١٣ )، تكون لهم. لذلك كان ما ذكر، ولا قوة إلا بالله.
وقوله تعالى :﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ الذي لا يلحقه/٤١٢-أ/ الذل والضرر بمخالفة خلقه إياه وعصيانهم له، ليس كملوك الأرض إذا خالفهم( ١٤ ) أتباعهم وحواشيهم ورعيتهم، يذلون، ويلحقهم الضرر بإعراضهم عنهم، لأن عزهم كان بهم. فبإعراضهم عنهم ومخالفتهم إياهم يذلون.
فأما الله سبحانه [ فهو ]( ١٥ ) عزيز بذاته، لا يلحقه الضرر والذل بمخالفة الخلق إياه.
[ ويحتمل ]( ١٦ ) أن يكون قوله :﴿ العزيز ﴾ المنتقم ممن يخالف أمره، ويعصيه، أو يشرك غيره في ألوهيته وعبادته( ١٧ ) و﴿ الحكيم ﴾ هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير.
يخبر، والله أعلم، أني، وإن خلقتهم وأنشأتهم على علم مني أنهم يخالفونني، ويعصونني، وأعنتهم بكل أنواع المعونة على علم مني بذلك منهم، فإن فعله ليس بخارج عن الحكمة كما يكون في الشاهد أن من أعان عدوه بأنواع المعونة، وهو يعلم أن معونته إياه تزيد له قوة في معاداته ومخالفته فهو( ١٨ ) موصوف [ بالسفه، غير موصوف ]( ١٩ ) بالحكمة لأنه يسعى( ٢٠ ) في إهلاك نفسه، ويعينه على ذلك بمعونته إياه. ومن سعى في إهلاك نفسه فهو غير حكيم.
فأما الله سبحانه حين( ٢١ ) خلقهم، وأنشأهم [ فقد ]( ٢٢ ) أعانهم بكل أنواع المعونة على علم منه بما يكون من الخلاف له والعصيان والعداوة، ولا قوة إلا بالله.
٢ في الأصل وم: يأمره..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ الفاء ساقطة من الأصل..
٧ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ من م، ساقطة من الأصل..
١٠ في الأصل وم: و..
١١ في الأصل وم: و..
١٢ ساقطة من الأصل وم..
١٣ من م، في الأصل: وباعتبار..
١٤ في الأصل وم: خالفوا..
١٥ ساقطة من الأصل وم..
١٦ في الأصل وم: أو..
١٧ في الأصل وم: وربوبيته..
١٨ الفاء ساقطة من الأصل وم..
١٩ من م، ساقطة من الأصل..
٢٠ في الأصل وم: يسبق..
٢١ في الأصل وم: حيث..
٢٢ ساقطة من الأصل وم..
فأما اللَّه - سبحانه - حيث خلقهم وأنشأهم وأعانهم بكل أنواع المعونة على علم منه بما يكون من الخلاف له والعصيان والمعاداة غير خارج فعله عن الحكمة؛ لما ذكرنا أنه لا يلحقه الضرر ولا النقصان بما علم ويكون منهم من الخلاف له والعصيان والمعاداة، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب لكم مثلًا.
من مثل خلقكم، يقول - واللَّه أعلم -: يبين لكم مثلا من أنفسكم: ما لو تفكرتم وتأملتم، لظهر لكم سفهكم بعبادتكم الأصنام دون اللَّه، أو تسميتكم الأصنام باللَّه.
ثم يخرج ضرب المثل بما ذكر على وجوه:
أحدها: قوله: (هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ)، أي: لم تسووا أنتم أنفسكم بالذي ملكت أيمانكم فيما رزقتم حتى تكونوا أنتم وهم سواء في ذلك؛ فكيف زعمتم أن اللَّه قد سوى نفسه وما ملك من خلقه في ملكه وألوهيته؟!
والثاني يقول: هل ترضون أن يكون ما ملكت أيمانكم شركاءكم فيما تملكون من الأموال؟! فإذا لم ترضوا به، فكيف زعمتم أن اللَّه يرضى أن يشرك مماليكه في ملكه وسلطانه؟!.
أو يقول: فإن لم ترضوا لأنفسكم إشراك ما ملكت أيمانكم في ملككم، ولم تسووا مماليككم بأنفسكم في - ذلك، فكيف رضيتم ذلك لله، وسويتم نفسه ومماليكه، وعدلتم به من دونه؟! واللَّه أعلم.
وقوله: (تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ).
أي: تخافون مماليككم كما تخافون أحرارا أمثالكم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: تخافون لائمتهم كما يخاف الرجل لائمة أبيه وأخيه وأقاربه.
وبعضهم يقولون: تخافون عبيدكم أن يرثوكم بعد الموت، كما تخافون أن يرثكم الأحرار من أوليائكم، وهو قول مقاتل لكن الميراث ليس من الآية في شيء، والأول أشبه.
وقوله: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
أي نبينها.
(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
أي: لقوم ينتفعون بعقولهم.
والثاني: قوله: (نُفَصِّلُ الْآيَاتِ)، أي: نفرق واحدة بعد واحدة، على ما ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع من قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ) كذا، (وَمِنْ آيَاتِهِ) كذا، والتفصيل يخرج على وجهين:
أحد هما: التبيين.
والثاني: التفريق في الذكر، فصلت آياته: بينت، وفصلت: فرقت واحدة بعد واحدة، فإن قال لنا قائل في هذه الآيات التي ذكرت: ما يدل على إيجاب البعث؟ قيل: في هذه الآيات، التي ذكرت دفع الشبه التي لها أنكروا البعث؛ لأنهم رأوا البعث ممتنعًا بالشبهة التي اعترضت لهم؛ ففي هذه الآيات دفع تلك الشبهة التي لها رأوا البعث ممتنعًا، حيث أراهم بدء خلقهم وقيام السماء والأرض بالذي ذكر.
ثم إيجاب البعث يكون بالأخبار الصادقة، وهي أخبار الرسل الذين ظهر صدقهم، أو بما ذكرنا: أن خلق الخلق بلا عاقبة تجعل لهم للفناء خاصة خارج عن الحكمة؛ لوجوه: أحدها: ما ذكرنا أن بناء البناء في الشاهد للنقض والإفناء خاصة بلا منفعة تتأمل في العاقبة سفه خارج عن الحكمة؛ فعلى ذلك خلق الخلق للفناء خاصة بلا عاقبة يكون خارجًا عن الحكمة.
والثاني: أنه لو لم يجعل البعث ودارًا أخرى؛ ليفرق بين العدو والولي مع ما قد سوى بينهما في هذه الدار، وفي الحكمة أن يفرق ولا يسوي بينهما؛ فلو لم يكن دار أخرى فيها
والثالث: في الحكمة أن يجزي المحسن لإحسانه والمسيء في إساءته، وقد يكونان في هذه الدنيا ويخرجان منها لا يصيب المحسن جزاء إحسانه، ولا المسيء جزاء إساءته؛ فلا بد من دار أخرى؛ ليجزى فيها كل بعمله، وفيما ذكرنا إيجاب البعث، واللَّه أعلم.
وقوله: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٩)
يحتمل قوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: ظلموا أنفسهم؛ حيث لم يستعملوها فيما أمروا بالاستعمال فيه؛ بل صرفوها إلى غير ما أمروا بالاستعمال فيه.
أو ظلموا حجج اللَّه وآياته وبراهينه؛ حيث لم يتبعوها ولم يضعوها موضعها حيث وضعت.
وقوله: (أَهْوَآءَهُم) في عبادتهم الأصنام، وصرفها عن اللَّه إلى من لا يستحق العبادة والشكر؛ وذلك لهواهم؛ لأنه ليس معهم حجة ولا برهان؛ كقوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) أي: حجة وبرهانا.
وقوله: (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ).
أي: أحد سوى اللَّه يهدي من أضله اللَّه؟ أي من يؤثر الضلال واختاره أضله اللَّه، لا يهديه سواه.
(وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ).
ينصرونهم في دفع عذاب اللَّه عن أنفسهم.
أو (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)، أي: من مانعين يمنعونهم عن عذاب اللَّه، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠)
قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا الخطاب لرسول اللَّه؛ لأنه ذكر الآيات فيما تقدم؛ حيث قال: (وَمِنْ آيَاتِهِ) كذا وكذا، ثم ذكر الذين اتبعوا أهواءهم بغير علم، ثم قال لرسول اللَّه: أقم وجهك أنت للدِّين حنيفًا.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وعندنا أن الخطاب به وبمثله لكل أحد؛ كقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)؛ كأنه يخاطب كل من انتهى إليه هذا أن قل: هو اللَّه أحد، و: يَا أَيُّهَا الكافرون؛ فعلى ذلك قوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) هو لكل أحد.
ثم الإقامة تحتمل وجهين:
أحدهما: أقم: أي: داوم جهدك وقصدك.
(فَأَقِمْ) ما ذكرنا (لِلدِّينِ حَنِيفًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: الحنيف: هو من حنف القوم وميله، ومعناه: كن مائلا إلى الدِّين في كل حال وكل وقت.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الإخلاص والإسلام له.
وقوله: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا).
ثم فسر ذلك فقال: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا): هذا يحتمل وجوهًا:
(فِطْرَتَ اللَّهِ)، أي: معرفة اللَّه التي جبل الناس عليها أن يكون اللَّه يجعل في كل صغير وطفل من المعرفة ما يعرف وحدانية ربه وربوبيته؛ على ما جعل لهم من أن معرفة ما فيه غذاؤهم وقوامهم من أخذ ثدي أمهاتهم في حال صغرهم وطفولتهم؛ ولذلك يخرج قوله: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه "؛ على ما جعل في الجبال من معرفة التسبيح لربها والتحميد، لكن أبواه يشبهان ذلك عليه، ويصرفانه.
والثاني: فطرهم وجبلهم ما لو تركوا وعقولهم لكانوا على ما جبلوا وفطروا؛ إذ فطر كل منهم وجعل في خلقة كل دلالة وحدانية اللَّه وربوبيته.
وكذلك قوله: " كل مولود يولد على الفطرة "، أي: على الخلقة التي تدل وتشهد على وحدانية اللَّه وربوبيته ما لو تركوا وخلي بينهم وبين عقولهم لأدركوا.
والثالث: فطرهم على ما يحتملون الامتحان.
وقوله: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ).
قال الشيخ، رحمه الله : وعندنا أي الخطاب به وبمثله لكل أحد كقوله :﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾ [ الكافرون : ١ ] [ وقوله ] ( ٢ ) :﴿ قل هو الله أحد ﴾ [ الإخلاص : ١ ] كأنه يخاطب كل من انتهى إليه هذا : أن ﴿ قل هو الله أحد ﴾ ﴿ وقل يا أيها الكافرون ﴾ فعلى هذا قوله :﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا ﴾ هو لكل أحد.
ثم الإقامة تحتمل وجهين :
أحدهما : أقم : أي داوم جهدك وقصدك.
والثاني : أقم : أتمم، وأقم ما ذكرنا.
[ وقوله تعالى ]( ٣ ) :﴿ للدين حنيفا ﴾ قال بعضهم : الحنيف من حَنَفِ القدم( ٤ ) وميله ؛ معناه : كن مائلا على الدين في كل حال وكل وقت. وقال بعضهم : هو من الإخلاص والإسلام له( ٥ ).
ثم فسر ذلك، فقال :[ ﴿ فطرة الله التي فطر الناس عليها ﴾ هذا يحتمل وجوها :
[ أحدها :] ( ٦ ) ]( ٧ ) ﴿ فطرة الله ﴾ أي معرفة الله التي جبل الناس عليها : أن يكون الله يجعل في كل صغير وطفل من المعرفة ما يعرف /٤١٢-ب/ وحدانية ربه وربوبيته على ما جعل لهم من المعرفة ما فيه غذاؤهم وقوامهم من أخذ ثدي أمهاتهم في حال [ صغرهم وطفوليتهم ]( ٨ ). ولذلك يخرج قوله [ صلى الله عليه وسلم ]( ٩ ) :( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه ) [ البخاري : ١٣٨٥ ] على ما جعل في الجبال من معرفة التسبيح لربها والتحميد، لكن أبويه يشبهان ذلك عليه، ويصرفانه.
والثاني : فطرهم، وجبلهم ما لو تركوا وعقولهم لكانوا على [ ما ]( ١٠ ) جبلوا، وفطروا، إذ فطر كل( ١١ ) منهم، وجعل في خلقة كل دلالة وحدانية الله وربوبيته. وكذلك قوله :( كل مولود يولد على الفطرة ) [ البخاري ١٣٨٥ ] أي على الخلقة التي تدل، وتشهد على وحدانية الله وربوبيته ما لو تركوا، وخلي بينهم وبين عقولهم لأدركوا.
والثالث : فطرهم على ما يحتملون الامتحان.
وقوله تعالى :﴿ لا تبديل لخلق الله ﴾ قال عامة أهل التأويل : لا تبديل لدين الله، سماه خلقا.
وعلى قول المعتزلة لأنهم يقولون بأن فعل العبد ليس بمخلوق، ويحتالون في قوله :﴿ لا تبديل لخلق الله ﴾ أي لا تبديل لما يقع به الدعاء إليه، أو كلام نحو هذا.
فيقال : إن الدين هو ما يدين [ به ]( ١٢ ) المرء، وهو فعله، مأخوذ من دان يدين. ثم أخبر أنه خلق الله. فدل أنه مخلوق. وجائز أن يكون قوله :﴿ لا تبديل لخلق الله ﴾ أي لما فيه دلالة وحدانية الله وشهادة ربوبيته كقوله :﴿ ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت ﴾ [ الملك : ٣ ] أي( ١٣ ) لا تفاوت في ما فيه دلالة الوحدانية والشهادة له، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ذلك الدين القيم ﴾ أخبر أن ذلك الدين القيم بالحجج والبراهين، ليس كدين أولئك الكفرة إتباع الهوى، أو أن يكون الدين القيم أي المستقيم على ما وصفه الله أنه الدين الحنيف.
٢ في الأصل وم: و..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: القوم..
٥ أدرج بعدها في الأصل وم: وقوله تعالى: ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها﴾..
٦ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من م..
٧ من م، ساقطة من الأصل..
٨ في الأصل وم: صغره وطفوليته..
٩ ساقطة من الأصل وم..
١٠ من م، ساقطة من الأصل..
١١ في الأصل وم: كلا..
١٢ ساقطة من الأصل وم..
١٣ في الأصل وم: أو..
وعلى قول المعتزلة: له تبديل؛ لأنهم يقولون بأن فعل العبد ليس بمخلوق، ويحتالون في قوله (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)، أي: لا تبديل لما به يقع الدعاء إليه، أو كلام نحو هذا.
فيقال: إن الدِّين هو ما يدين المرء وهو فعله، مأخوذ من دان، يدين، ثم أخبر أنه خلق اللَّه؛ فدل أنه مخلوق.
وجائز أن يكون قوله: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)، أي: لما فيه دلالة وحدانية اللَّه وشهادة ربوبيته؛ كقوله: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ).
أو لا تفاوت فيما فيه دلالة الوحدانية والشهادة له، واللَّه أعلم.
وقوله: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).
أخبر أن ذلك الدِّين القيم بالحجج والبراهين ليس كدين أُولَئِكَ الكفرة أتباع الهوى.
أو أن يكون الدِّين القيم، أي: المستقيم على ما وصفه اللَّه أنه الدِّين الحنيف.
وقوله: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) هو صلة قوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)، فهذا يدل على أن الخطاب بقوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) للكل؛ حيث قال: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)، أي: أقبلوا إليه وأنيبوا له.
ثم الإنابة تقع فيما يفع به الأمر، كأنه يقول - واللَّه أعلم -: أنيبوا إلى اللَّه بما يأمركم به.
(وَاتَّقُوهُ).
عما نهاكم عنه، والتقوى من الإنابة كهي من البر، كقوله - تعالى -: (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا)، بما يأمركم به، وتتقوه عما نهاكم عنه.
وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ).
هو يحتمل وجوهًا.
(أَقِيمُوا) أي: الزموا وداوموا فعلها إلى آخر ما تنتهون إليه، ليس على أن يقع الأمر بها مرة واحدة.
والثاني: (أَقِيمُوا) أي: أتموها بركوعها وسجودها والقراءة وغير ذلك.
والثالث: (أَقِيمُوا)، أي: وفوا إقامتها بأسبابها التي جعلت لها.
وفي الصلاة أحوال ثلاث:
والثاني: التمام والكمال.
والثالث: التزيين والتحسين.
ثم الجواز بحق الأركان، والتمام: بحق الشعوب، والتزيين بحق الحواشي.
ويجب على كل مصلٍّ خصال ثلاث: صدق النية، وحق الإخلاص له، وحق الخشوع.
وقوله: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
يحتمل: أي: لا تكونوا من المشركين غير اللَّه في الصلاة والعبادة، أي: لا تصلوا لغير اللَّه، ولا تعبدوا من دونه.
أو لا تكونوا من المشركين من دونه في تسمية الألوهية والإلهية؛ لأنهم كانوا يسمون الأصنام التي يعبدونها: آلهة.
أو أن يكون صلة قوله: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)، أي: كونوا منيبين إليه، موحدين، مقبلين على طاعته، مخلصين، ولا تكونوا من المشركين له غيره.
وقوله: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تكونوا من المشركين، ولا تكونوا من الذين فارقوا دينهم.
ثم قوله: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ)، وقرئ: (فارقوا)؛ فهو يحتمل وجهين:
أحدهما: فارقوا دينهم الذي جاءتهم الرسل.
أو فارقوا دينهم الذي فطروا عليه، وهو ما جعل فيهم من شهادة التوحيد له والربوبية.
وقوله: (وَكَانُوا شِيَعًا) يحتمل: صاروا شيعًا، أي: فرقا وأحزابًا بعدما كانوا على ما فطروا، أو على ما جاءتهم الرسل.
أو كانوا شيعًا ما يشيع ويتبع بعضهم بعضا؛ لأن الشيعة هم الذين يرجعون إلى أصل وإحد وأمر وأحد، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَرَّقُوا دِينَهُمْ)، أي: قطعوا دينهم، وجعلوه قطغا وفرقًا وأديانا، من نحو اليهودية، والمجوسية، والنصر انية وغيرها.
(كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
يقول - واللَّه أعلم -: كل أهل دين وملة بما عندهم من الدِّين راضون به، فرحون.
وجائز أن يكون قوله: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ): في الذي فطرتم عليه، وهو ما
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)
وقوله: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ).
قال قائلون: منيبين: مخلصين؛ كقوله: (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
وقال قائلون: مطيعين.
وقال قائلون: موحدين.
وأصل الإنابة: الرجوع، أي: راجعين إليه عما كانوا فيه من الشرك؛ فالإنابة هي التوحيد، وإن كان الإنابة الإخلاص، فهو رجوع عن الإشراك في العبادة، وإن كان عن العصيان فهو الطاعة، وأصله: الرجوع عما كانوا فيه؛ ففيه وجوه من الاحتجاج على أُولَئِكَ، وتنبيه وعظة للمؤمنين.
أما الاحتجاج عليهم: فإنه معلوم؛ لأنهم كانوا لا يركبون السفن والبحار مع المؤمنين، ولكن كانوا يركبون بأنفسهم، ثم أخبر عما أخلصوا له والدعاء له والتضرع، دل أنه بالله عرف ذلك؛ فذلك يدل على رسالته.
والثاني: فيه دلالة أنهم قد عرفوا وحدانية اللَّه وألوهيته؛ حيث فزعوا عند الشدائد والبلايا إلى اللَّه، وأخلصوا له الدِّين، ثبت أنهم قد عرفوا سفه أنفسهم في عبادتهم الأصنام وتركهم عبادة اللَّه، تعالى.
والثالث: تصديقًا لقوله (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)؛ لأنهم كانوا يسألون الرد إلى الدنيا ليؤمنوا به؛ كقولهم: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا) فأخبر أنهم يعودون إلى ما كانوا؛ كما عادوا إذا كشف عنهم الضر.
وأما العظة والتنبيه للمؤمنين: فهو أن يكونوا في الأحوال كلها على حال واحد في حال
وفيه دلالة: شدة سفه أُولَئِكَ الكفرة؛ حيث أنابوا إليه وأخلصوا له الدِّين عندما يصيبهم الشدة والبلاء، ويعرضون عنه ويشركون في ألوهيته عند السعة. وفي طباع الخلق في الشاهد خلاف ذلك: أن من ضيق على آخر أمره وشدده فهو يعرض عنه ويبغضه، ومن أنعم عليه من ملوك الأرض وأحسن - أطاعه وأحبه؛ فهم لشدة سفههم عكس طباعهم، وخالفوا طباع الناس جميعًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً).
أي: السعة والرخاء.
(إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ).
فَإِنْ قِيلَ: ما فائدة ذكر هذه الآيات وأمثالها، وهم كانوا لا يؤمنون بها، ولا ينظرون فيها.
قيل: قد يحتج عليهم بما لا يقرون ولا ينظرون فيه.
أو أن ينظر في ذلك فريق جمنهم ويعرفونه، واللَّه أعلم.
وقوله: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤)
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير؛ يقول: إذا أذاقهم منه رحمة؛ لئلا يكفروا، وإنما أذاقهم رحمة لئلا يكفروا، لكنهم كفروا، إلى هذا ذهب مقاتل.
وعندنا ما ذكرنا: هو أذاقهم منه رحمة؛ ليكون منهم ما قد علم أنهم يختارون، ويكون منهم، وهو الكفر، ولا جائز أن يذيقهم الرحمة؛ لئلا يكفروا، ويعلم منهم أنهم يختارون الكفر ويكون منهم ذلك؛ فدل أنه ما ذكرنا.
ثم في الآية دلالة نقض قول المعتزلة في قولهم: إن على اللَّه الأصلح للعباد لهم في الدِّين، وقولهم: إذا علم من أحد منهم الإيمان في وقت من الأوقات ليس له أن يخترمه؛ ولكن عليه أن يبقيه إلى ذلك الوقت؛ لأنه لو اخترمه قبل ذلك الوقت لكان هو المانع إيمانه.
فيقال: إن أُولَئِكَ الكفرة لما أخلصوا دينهم لله في حال الشدة وخوف الهلاك لم يبقهم اللَّه على ذلك الإخلاص والحال التي كانوا يخلصون الأمر له والدِّين، بل وسع عليهم، وحولهم من تلك الحال، حتى عادوا إلى ما كانوا؛ دل أن ليس على اللَّه حفظ الأصلح
وقوله: (فَتَمَتَّعُوا) وهو في الظاهر أمر، ولكنه يخرج على الوعيد؛ كقوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)، وقد ذكر في آية أخرلمحما: (وَلِيَتَمَتَّعُوا)؛ فهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)
قَالَ بَعْضُهُمْ: (أَمْ أَنْزَلْنَا): بل أنزلنا عليهم سلطانًا وحججًا، فهو يتكلم بما كانوا به يشركون، أي: يبين، ويعلمهم أن الذي هم عليه شرك ليس بتوحيد؛ لأنهم كانوا يقولون: إنا على التوحيد، وإنما نعبد هذه الأصنام (لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، و (هَؤُلَآءِ شُفَعَاؤنَا عِندَ اللَّهِ)، ونحوه؛ فيقول: بل أنزلنا عليهم ما يبين ويعلم أن ذلك شرك وليس بتوحيد.
ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن قوله: (أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا)، أي: ما أنزلنا عليهم سلطانًا فيأمرهم بما كانوا به يشركون أو يأذن لهم بذلك؛ كقوله: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى)؛ فعلى ذلك قوله: (أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا) أي: لم ننزل عليهم سلطانًا يأمرهم بما كانوا به يشركون، أو كانوا يدعون بذلك أمر اللَّه؛ كقولهم: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) ففيه وجهان على أُولَئِكَ الكفرة:
أحدهما: ما ذكرنا أنهم كانوا يدعون بذلك الأمر من اللَّه، فيخبر أنهم كذبة في قولهم بان اللَّه أمرهم بذلك؛ بل لم يأمرهم بذلك، ولا أنزل عليهم الكتاب أو السلطان في إباحة ذلك.
والثاني: يذكر سفههم في عبادتهم الأصنام؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويسمونها: آلهة، بلا سلطان ولا حجة كانوا يطلبون على ذلك، ثم كانوا يطلبون من الرسول آيات تقهرهم وتضطرهم على رسالته وما يوعدهم، بعدما آتاهم من الآية ما أعلمهم وأنباهم أنه رسول؛ فالعبادة أعظم وأكبر للمعبود من الرسالة؛ فإذا لم تطلبوا لأنفسكم الحجة والآية القاهرة في إباحة ما تعبدون من دون اللَّه فكيف تطلبون من الرسول الآية القاهرة في إثبات الرسالة؟!
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا): كتابًا فيه عذر لهم، فهو يشهد بما كانوا به يشركون.
وقوله: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ
إذا أريد أن يسوي بين هذه الآية والآية التي قبلها، وهو قوله: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ...) إلى آخره، ويجمع بينهما يكون قوله: (إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) من الأصنام التي يعبدونها؛ لأنه يقول في هذه الآية: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)، وفي الأولى يقول: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)؛ فوجه الجمع بينهما ما ذكرنا: أن يكون القنوط من الأصنام، واللَّه أعلم؛ كقوله: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ).
أو أن يكون قوله: (إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ): عندما امتد بهم الضر والشدة؛ حينئذ ييئسون من رحمة اللَّه، والأول في ابتداء ما أصابهم من الضر فزعوا إليه وأنابوا له.
أو أن يكون إحدى الآيتين في قوم، والأخرى في قوم آخرين؛ لأنهم كانوا فرقًا وأحزابًا في الكفر والشرك: منهم من كان يشرك في الأحوال كلها: في حال الضيق والسعة، ومنهم من كان يشرك في حال الضيق، ويؤمن في حال السعة، كقوله: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)، وكقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ).
ومنهم من كان يخلص الدِّين في حال الضر والشدة، ويعاند ويتمرد في حال السعة والرخاء؛ كقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)، ونحوه؛ فكانوا فرقا وأحزابا على ما ذكرنا؛ فجائز أن يكون إحدى الآيتين في فريق وقوم، والآية الأخرى في قوم آخرين.
أو ما ذكرنا من اختلاف الأحوال: يقنطون عندما امتد بهم الضر والشدة، وينيبون إليه عندما لم يمتد بهم ذلك ولم يتطاول.
أو ما ذكرنا من القنوط من الأصنام والإنابة إلى اللَّه؛ كقوله: (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ).
وإلا الآيتان في الظاهر متناقضتان، ولكن الوجه فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) يحتمل قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) على الكافرين؛ كقوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ).
ثم وجه الآيات لهم على كفار مكة من وجوه في إثبات الرسالة، وفي البعث، وفي
فأما الاحتجاج في إثبات الرسالة فهو من وجوه ثلاثة:
أحدها: أنهم كانوا ينكرون الرسالة؛ لأنه بشر، ولا يرون للبشر بعضهم على بعض فضلا؛ كقوله: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)؛ فيريهم الفضل لبعضهم على بعض في الرزق: موسعا على بعض مضيقا مقترا على بعض؛ فإن ثبت عندهم، وظهر الفضل لبعض على بعض فيما ذكرنا يجوز الفضل على بعض في الرسالة.
والثاني: ذكر مقابلا لقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)؛ يخبر أن الأمر ليس إليهم؛ إنما ذلك إلى اللَّه تعالى، يختار من يشاء لما يشاء من الرسالة والنبوة وغيرهما، كما يختار التوسيع على من يشاء والتضييق والتقتير على من يشاء، وإن كانوا جميعًا يتمنون السعة ويحبونها، ويهربون من الضيق والتقتير، ولكن الأمر في ذلك إلى اللَّه تعالى كله.
والثالث: وسع على بعض وضيق على بعض؛ فالجهة التي وسع على بعض غير الجهة التي ضيق على بعض؛ فلا بد من رسول يخبر عن ذلك، ويعلم ما على هذا وما على هذا، وما جهة التفريق بينهم والتفضيل في الرزق، واللَّه أعلم.
وأما الاحتجاج عليهم في البعث بها فمن وجوه أيضًا:
أحدها: أنه جمع في هذه الدنيا بين العدو والولي، وسوى بينهما في التوسيع والتضييق؛ إذ وسع على العدو والولي جميعًا، وضيق على الولي ووسع على العدو، وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما لا الجمع والتسوية، وقد سوى بينهما في هذه الدنيا وجمع؛ فلا بد من دار أخرى فيها يفرق بينهما؛ فيلزمهم البعث، واللَّه الموفق.
والثاني: أنه وسع الرزق على من هو في تقديرهم وعقولهم لا يوجب التوسيع عليه، وهو السفيه الجاهل الذي في تقدير كل ذي عقل ولب أن يكون محروما مضيقا، وضيق على من هو في تقدير كل أحد وعقله أن يكون موسعا عليه مرزوقا، وهو العاقل العارف بجميع أسباب السعة والغناء، وفي التقدير على خلاف هذا؛ فلا بد من مكان فيه يظهر التفضيل للعقول والمعارف، والرغبة فيها، والرغبة عن أضدادها، ومن هو أهل التوسيع ومن هو أهل الحرمان؛ إذ قد اشتركوا في هذه.
والثالث: أن يعتبروا وينظروا بأن من قدر على توسيع الرزق وبسطه وتضييق الرزق
يحتمل قوله :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾ [ أن يكون حجة ]( ١ ) على الكافرين كقوله :﴿ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ﴾ [ الأنعام : ٨٣ ].
ثم وجه الآيات لهم على كفار مكة من وجوه : في إثبات الرسالة، وفي البعث، وفي( ٢ ) إظهار سفههم في عبادة الأصنام وإشراكهم إياها في عبادة الله لأن أهل مكة كانوا ينكرون الرسالة والبعث، ويرون عبادة غير الله فالاحتجاج عليهم بهذه الآية على الوجوه التي ذكرنا.
فأما الاحتجاج في إثبات الرسالة فهو من وجوه ثلاثة :
أحدها : أنهم كانوا ينكرون الرسالة لأنهم بشر، ولا يرون للبشر بعضهم على بعض فضلا كقوله :﴿ ما هذا إلا بشر مثلكم ﴾ [ المؤمنون : ٢٤ و٣٣ ] فيريهم الفضل لبعضهم على بعض في الرزق موسعا على بعض مضيقا مقترا على بعض. فإن ثبت عندهم، وظهر الفضل لبعض على بعض في ما ذكرنا فيجوز الفضل على بعض في الرسالة.
والثاني : ذكره( ٣ ) مقابلا لقولهم :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾ [ الزخرف : ٣١ ] يخبر أن الأمر ليس إليهم إنما ذلك [ إلى الله ]( ٤ ) يختار من يشاء لما يشاء من الرسالة والنبوة وغيرهما كما يختار التوسيع على من يشاء والتضييق والتقتير على من يشاء، وإن كانوا جميعا يتمنون السعة، ويحبونها، ويرهبون من الضيق والتقتير. ولكن الأمر في ذلك إلى الله كله.
والثالث : وسع على بعض، وضيق على بعض ؛ فالجهة التي وسع على بعض غير الجهة التي ضيق على بعض، فلا بد من رسول يخبر عن ذلك، ويعلم ما على هذا وما على هذا، وما جهة التفريق بينهم والتفضيل في الرزق، والله أعلم.
وأما الاحتجاج عليهم في البعث بها فمن وجوه أيضا :
أحدها : أنه جمع في هذه الدنيا بين العدو والولي، وسع بينهما في التوسيع والتضييق ؛ إذ وسع على العدو والولي [ جميعا، وضيق على الولي ]( ٥ ) ووسع على العدو. وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما في هذه الدنيا [ لا الجمع والتسوية، وقد سوى بينهما في هذه الدنيا ]٦ وجمع. فلا بد من دار أخرى، فيها يفرق بينهما، فيلزمهم البعث، والله الموفق.
والثاني : أنه وسع الرزق على من هو في تقديرهم وعقولهم [ أنه لا يجب التوسيع ]( ٧ ) عليه ؛ وهو السفيه /٤١٣-ب/ الجاهل الذي في تقدير كل ذي عقل ولب أن يكون محروما مضيقا، وضيق على من هو في تقدير أحد وعقله أن يكون موسعا عليه مرزوقا، وهو العاقل العارف بجميع أسباب السعة والغنى، وفي التقدير على خلاف هذا، فلا بد من مكان فيه يظهر التفضيل للعقول والمعارف والرغبة فيها والرغبة عن أضدادها ومن هو أهل التوسيع ومن هو أهل الحرمان إذ قد اشتركوا في هذه.
والثالث : أن يعتبروا، وينظروا، بأن من قدر على توسيع الرزق وبسطه وتضيق الرزق وحرمانه بالأسباب الخارجة عن تقديرهم وتدبيرهم وبغير أسباب قادر على إحياء الأشياء الخارجة عن قدرتهم وتدبيرهم، والله أعلم.
وأما وجه الاحتجاج عليهم بعبادتهم غير الله ففي ذلك تناقض، وذلك بأنهم قالوا :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] وقالوا( ٨ ) :﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ [ يونس : ١٨ ] وكانت لا تشفع في الدنيا، ولا تقربهم الزلفى فيها في التوسيع والبسط ودفع الضيق، وفي الآخرة لا يحتمل [ ذلك ]( ٩ ) لأنهم كانوا لا يؤمنون. فهو تناقض وسفه وسرف في القول.
وهذه الآية وغيرها من الآيات تنقض على المعتزلة لأنهم لا يجعلون لله في مكاسب الخلق وحرفهم وتجاراتهم وجميع أسبابهم التي بها يرتزقون، ويتعيشون صنعا، وإنما يجعلون ذلك في الخارج من الأرض.
فالناس في ذلك [ في توسيع ]( ١٠ ) وتضيق إذا لم يكن له في تلك الأسباب والمكاسب صنع.
فدل أن لله في ذلك صنعا حين( ١١ ) يقع منه البسط والتوسيع والتضييق والتقتير، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ما ذكرنا : يكون للمؤمنين في ذلك آيات على الكفار.
والثاني : لقوم ينتفعون بإيمانهم، والمنتفعون هم المنتفعون بها. فأما من كفر فلا ينتفع.
وجائز أن يكون في ذلك العبرة من وجه آخر ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ وهو ألا يعلقوا قلوبهم في الرزق بالأسباب التي يكتسبون بها، ولكن يرون الرزق من الله ؛ أنه يرزق بأسباب وبغير أسباب، أو يذكر هذا لهم على أن من رفع الحاجة إلى آخر، فلم يقضها، فهو( ١٢ ) يرى حرمانها من الله لا من ذلك الرجل.
٢ الواو ساقطة من الأصل وم..
٣ الهاء ساقطة من الأصل وم..
٤ من م، في الأصل إليهم..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ في الأصل: لا يوجب التوسع، في م: لا يوجب التوسع..
٨ في الأصل وم: و..
٩ ساقطة من الأصل وم..
١٠ ساقطة من الأصل وم..
١١ في الأصل وم: حتى..
١٢ في الأصل وم: أي..
وأما وجه الاحتجاج عليهم بعبادتهم غير اللَّه، فهو أن في ذلك تناقض، وذلك أنهم قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، و (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، وكانت لا تشفع لهم في الدنيا، ولا تقربهم الزلفى فيها في التوسيع والبسط ودفع الضيق، وفي الآخرة لا يحتمل؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون، فهو متناقض وسفه وسرف في القول.
وهذه الآية وغيرها من الآيات تنقض على المعتزلة؛ لأنهم لا يجعلون لله في مكاسب الخلق وحرفهم وتجاراتهم وجميع أسبابهم التي بها يرتزقون ويتعيشون صنعا، وإنَّمَا يجعلون ذلك في الخارج من الأرض وغيرها، فالناس في ذلك، وتضيق إذا لم يكن له في تلك الأسباب والمكاسب صنع؛ فدل أن له في ذلك صنعًا حتى يقع منه البسط والتوسيع والتضييق والتقتير، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يحتمل وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا: يكون للمؤمنين في ذلك آيات على الكفار.
والثاني: لقوم ينتفعون بإيمانهم، والمؤمنون هم المنتفعون بها، فأما من كفر بها فلا ينتفع.
وجائز أن يكون في ذلك العبرة من وجه آخر لقوم يؤمنون، وهو ألا يعلقوا قلوبهم في الرزق بالأسباب التي يكتسبون بها ولكن يرون الرزق من اللَّه أنه يرزق بأسباب وبغير أسباب. أو يذكر هذا لهم على أن من رفع الحاجة إلى آخر، فلم يقضها: أن يرى حرمانها من اللَّه، لا من ذلك الرجل.
وقوله: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨)
يحتمل قوله: (حَقَّهُ) أي: حاجته، لا على حق كان له، كقوله: (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ)، أي: من حاجة؛ إذ معلوم أنه لم يكن لهم في بناته حق، ولكن أرادوا بالحق الحاجة، فعلى ذلك الأول، وكذلك قوله: (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ): أي: سد المسكين حاجته ومسكنته، وكذلك ابن السبيل.
ويحتمل قوله: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ): الحق الذي كان لهم، لكن لم يبين ذلك الحق
وقوله: (ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ).
يحتمل قوله: (ذَلِكَ خَيْرٌ)، أي: الإيتاء للأقربين والمساكين والفقراء خير من الأبعدين والأغنياء وغيرهم.
أو أن يكون قوله: (ذَلِكَ خَيْرٌ)، أي: ذلك الإيتاء إذا أريد به وجه اللَّه - خير مما لا يراد به.
وقوله: (وَابْنَ السَّبِيلِ).
اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو المنقطع عن ماله يعان حتى يصل إلى ماله.
وقيل: الضيف ينزل فيحسن إليه إلى أن يرجع ويرتحل.
وجائِز أن يكون قوله: (ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ)، أي: آت من ليست له عندك نعمة؛ فيكون ذلك ليس مكافأة لتلك النعمة، ولكن على إرادة وجه اللَّه، واللَّه أعلم.
(وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
قد ذكرنا أن الفلاح هو البقاء، وقيل: النجاة.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (القَيِّمُ) المستقيم، (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)، أي: تائبين، (يَقْنَطُونَ): ببنسون.
وقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)
قال عامة أهل التأويل: هذا في العطايا التي يعطي بعضهم بعضا ويهدون؛ ليصيبوا أكثر مما أعطوا وأهدوا مجازاة ومكافأة لذلك؛ كأنه يقول: وما آتيتم من عطية وهدية؛ ليربو في أموال الناس لتزدادوا من أموال الناس، ولتلتمسوا الفضل من أموالهم، يقولون: هذا ربا حلال لا وزر فيه ولا أجر؛ فهو مباح للناس عامة لا بأس به.
وأما قوله: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)، فهو للنبي خاصة، يقول: لا تعطه لتعطَى أكثر منه؛ ابتغاء الثواب في الدنيا، ولكن أعط ابتغاء ثواب الآخرة.
ويستدلون بإباحة ذلك بقوله: (فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ)، يقول: لا يزداد ولا يتضاعف ذلك
لكن لو قيل: إنها في الربا المحظور كان جائزا محتملا، ويكون قوله: (فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) كقوله: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ): إنها إذا لم تربح خسرت؛ ألا ترى أنه قال: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)؛ دل أنها إذا لم تربح خسرت؛ فعلى ذلك قوله: (فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ): إذا لم يرب عنده محقه وخسروا، فهو - واللَّه أعلم - لولا صرف أهل التأويل التأويل إلى الهدايا والعطايا التي يبتغى بها الثواب في الدنيا والمكافأة فيها أكثر مما أعطوا؛ وإلا جاز صرفه إلى الربا المعروف بين الناس في العقود وكذلك روي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الهدية يبتغى بها وجه الرسول، وقضاء الحاجة والصدقة يبتغى بها وجه اللَّه والدار الآخرة ".
ثم بين ما الذي يربو عند اللَّه، وهو ما قال.
(وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ).
ثم اختلف فيه: منهم من قال: هو ما يزكون من زكاة المال؛ يريدون به وجه اللَّه؛ فهو الذي يقبله اللَّه ويضاعف عليه.
ومنهم من قال: كل صدقة أعطاها؛ أراد وجه اللَّه، لم يرد بها الثواب في الدنيا - فهي التي تتضاعف وتزداد عند اللَّه.
(فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).
وكان يجيء أن يقال: فأُولَئِكَ هم المضعفون بنصب العين؛ لأنه هو يضاعف لهم، لكن الزجاج يقول: هو كما يقال: الموسر - هو الذي له يسار، والمقوي - هو الذي له القوة ونحوه؛ فعلى ذلك: المضعف هو الذي له الضعف.
وعندنا: هم المضعفون؛ لأنهم هم الذين جعلوا الآحاد عشرات والأضعاف المضاعفة، بتصدقهم ابتغاء وجه اللَّه؛ فهم المضعفون لأنفسهم ذلك.
ثم يجوز أن يستدل بهذه الآية على إباحة هذه المعاملات التي تجري فيما بين الناس؛
والثاني: أن أهل المعاملة يثشرطون قبل المعاملة الزيادة، وإن كانوا يشترطون في عقد المعاملة، ولا كذلك أهل العطايا والهدايا؛ بل يتعرضون تعريضًا؛ لذلك افترقا، والله أعلم.
* * *
قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٤٥)
وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ).
ولم تكونوا شيئًا، وأنتم تعلمون ذلك.
(ثُمَّ رَزَقَكُمْ).
وأنتم تعلمون ذلك أن لا يقدر الأرزاق لكم غيره.
(ثُمَّ يُمِيتُكُمْ).
وأنتم تعلمون ألا يملك أحد غيره ذلك؛ فعلى ذلك يملك إحياءكم ولا يملك أحد ممن تعبدون دونه من اللأصنام ذلك؛ فكيف تعبدون دونه.
وقوله: (هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ).
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: هَؤُلَاءِ الذين تعبدون شركاؤكم فيما ذكر من الخلق والرزق فكيف تعبدون وتتخذون آلهة دونه؟!
والثاني: هل من شركائكم الذين أشركتموها في عبادة اللَّه وألوهيته تملك ما ذكر،
(سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
لأن حرف (سُبْحَانَ) حرف تنزيه عن جميع العيوب، والتعالي: هو وصف وتبرئة عن أن يغلبه شيء أو يقهره؛ هو من العلو، متعال عن أن يغلبه شيء أو يقهره.
وقوله: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١)
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون قوله: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، وهو الشرك والكفر، (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) من الأمور التي كانوا يتعاطون من قطع الطريق، والسرق، والظلم، وأنواع أعمال السوء التي يتعاطونها، ذدك هو سبب شعركهم وكفرهم باللَّه، وبذلك كان شعركهم وكفرهم ذلك كان يغطي قلوبهم؛ حتى لا تتجلى قلوبهم للإيمان؛ كقوله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وكقوله: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ...) الآية، ونحوه؛ فإن كان هذا فهو على حقيقة تقديم الأيدي والكسب.
والثاني: أن يكون (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) هو القحط وقلة الأمطار والأنزال والضيق، وقوله: (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) هو شركهم وكفرهم وتعاطيهم ما لا يحل، أي: ذلك القحط والضيق وقلة الأنزال والشدائد لهم؛ لشركهم وكفرهم وأعمالهم التي اختاروها، ويكون ذكر كسب الأيدي على المجاز لا على الحقيقة؛ ولكن لما باليد يكتسب وباليد يقدم، ذكر اليد؛ كقوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ)، ولعله لم يقدم شيئًا، لكنه ذكر أنه ظهر الشرك والكفر بحقيقة كسب الأيدي من أعمال السوء التي ذكرنا، ذلك كان يينعهم عن الإيمان وكشف الغطاء عن قلوبهم.
وفي التأويل الآخر: الفساد الذي ظهر هو القحط وقلة الأمطار والأنزال والضيق؛ (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ): هو الشرْك والكفر وتعاطي ما لا يحل، لا على حقيقة كسب الأيدي؛ ولكن لما ذكرنا.
ثم اختلف في قوله: (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: البر: هو المفاوز التي لا ماء فيها، والبحر: القرى والأمصار.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: البر: قتل ابن آدم أخاه، والبحر: (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا).
وجائز أن يكون لا على حقيقة إرادة البر والبحر؛ ولكن على إرادة الأحوال نفسها، على ما ذكرنا من القحط والضيق وقلة الأنزال؛ بما كسبت أيدي الناس من الثرك والكفر.
(لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا).
وهو الشرك، هذا أشبه.
وعن الحسن قال: (أفسدهم اللَّه في بر الأرض وبحرها بأعمالهم الخبيثة؛ لعلهم يرجع من كان بعدهم ويتعظون بهم).
وقتادة يقول: لعل راجعًا يرجع، لعل تائبًا يتوب، لعل مستغيثًا يستغيث، وأصله: لكي يلزمهم الرجوع والتوبة عما عملوا، وينبههم عن ذلك كله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، أي: أجدب البر وانقطعت مادة البحر؛ بذنوب الناس.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الربا من الربو مثل ما يصنع أصحاب الربا، (لِيَرْبُوَ)، أي: ليزيد ويكثر؛ يقال: ربا ماله، أي: كثر.
والْقُتَبِيّ يقول: أي: يزيدكم من أموال الناس من زكاة وصدقة.
وقوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) قد ذكرنا في غير موضع: أنه ليس على حقيقة الأمر بالسير في الأرض؛ ولكن كأنه يقول: لو سرتم في الأرض ونظرتم لرأيتم عاقبة من كان قبلكم من المشركين، وهكذا في الرسل وما حل بهم؛ فينبهكم ويمنعكم عن تكذيب الرسل والشرك باللَّه.
أو أن يكون هو على الأمر بالفكر والنظر والاعتبار؛ كأنه يقول: تفكروا واعتبروا فيما سرتم في الأرض، وانظروا إلى ماذا صار عاقبة مكذبي الرسل من قبل؛ فينزل بكم بالتكذيب ما نزل بأُولَئِكَ؛ واللَّه أعلم.
وقوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣)
وقوله تعالى :﴿ من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ﴾ قال بعض أهل التأويل : لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم من الله، ثم يخرّج على وجهين :
أحدهما :﴿ لا مرد له من الله ﴾ أي لا يردّون من ذلك اليوم إلى ابتداء المحنة كقولهم :﴿ يا ليتنا نرد ﴾ الآية :[ الأنعام : ٢٧ ]. قولهم :﴿ ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ﴾ [ فاطر : ٣٧ ].
وقد أخبر عنهم، فقال :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ] فعلى ذلك جائز أن يكون قوله :﴿ لا مرد له من الله ﴾ أي لا يردون إلى ما يسألون الرد.
والثاني :﴿ لا مرد له من الله ﴾ أي لا إقامة لهم من الله، ولا عفو، ولا توبة، إذا أتاهم ذلك اليوم كقوله :﴿ لا ينفع نفسا إيمانها ﴾ الآية [ الأنعام : ١٥٨ ].
وقوله تعالى :﴿ يومئذ يصّدّعون ﴾ أي يتفرقون كقوله :﴿ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ﴾ [ الروم : ١٤ ] هو ﴿ يوم الجمع ﴾ [ الشورى : ٧ والتغابن : ٩ ] و﴿ يوم الفصل ﴾ [ الصافات : ٢١و. . . ] على اختلاف الأحوال والأوقات، والله أعلم.
وقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ).
قال بعض أهل التأويل: لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم من اللَّه.
ثم هو يخرج على وجهين:
أحدهما: لا مرد له من اللَّه، أي: لا يردون من ذلك اليوم إلى ابتداء المحنة؛ كقولهم: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ) الآية، وقولهم: (أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، ثم أخبر عنهم فقال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)، فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ)، أي: لا يردون إلى ما يسألون الرد.
والثاني: (لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ)، أي: لا إقالة لهم من اللَّه ولا عفو ولا توبة إذا أتاهم ذلك اليوم؛ كقوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا...) الآية.
وقوله: (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ).
أي: يتفرقون؛ كقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ)، هو يوم الافتراق، ويوم الجمع، ويوم الفصل على اختلاف الأحوال والأوقات، واللَّه أعلم.
وقوله: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤)
أي: من كفر فعليه كفره وعليه ضرر كفره، ومن آمن وعمل صالحًا، فله ثواب إيمانه، وله منفعة عمله؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - إنما امتحنهم بأنواع ما امتحن لمنافع أنفسهم ولحاجتهم، لا لحاجة أو لمنفعة له، وكذلك قوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)، وقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) الآية، وهو ما ذكرنا أنه إنما أمرهم ونهاهم وامتحنهم؛ لمنافع أنفسهم ولحاجتهم، لا لحاجة أو لمنفعة لنفسه؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَمْهَدُونَ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: يفترشون.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: فلأنفسهم يعملون ويوطئون، وهو من المهاد، والمهاد في الأصل: الفراش.
وقوله: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٤٥)
هذا يدل أن الثواب والجزاء سبيل وجوبه الفضل في الحكمة؛ لما سبق من اللَّه إليهم نعم ما لم يتهيأ لهم القيام بشكر واحدة منها، فضلا أن يقوموا للكل؛ فإذا كان كذلك صار
وأما العقوبات، فوجوبها الاستحقاق، إذ في الحكمة وجوبها. لذلك افترقا.
وجائز أن يكون قوله :﴿ ليجزي الذين آمنوا ﴾ يجزيهم في الآخرة بالخيرات التي عملوها في الدنيا، وذلك من فضله، به نالوا ذلك، والله أعلم.
٢ من نسخة الحرم المكي..
وجائز أن يكون قوله: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي: يجزيهم في الآخرة بالخيرات التي عملوها في الدنيا، وذلك من فضله به نالوا ذلك وبفضله، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤)
وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ).
إن في الرياح آيات في نفسها، وفيها بشارات.
أما الآيات: فهي آيات سلطانه وتدبيره من وجوه:
أنه أنشأ هذه الرياح في الهواء وفي الأرض وفي الجبال وفي السماء، تصيب الخلائق وتميتهم وتؤذيهم وتصرعهم وتضرهم، من غير أن يروها أو يقع عليها البصر، ومن غير أن يدركوها أو يدركوا كيفيتها، أو ما يتهيأ؛ ليعلم أن من الأجسام ما هي غير مدركة ولا أخذ البصر عليها.
وترى منها طيبة لينة، وخبيثة وشديدة كاسرة عاصفة، يعذب بها قوم، وينصر بها قوم؛ على ما ذكر في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " نُصِرتُ بالصَّبا، وأهِلكَ عادٌ بالدَّبور ".
وقوله: (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ).
هذا يدل أن هذه البشارة والمنافع التي جعل لهم كان من رحمته وفضلا، لا استيجابا ولا استحقاقا، وسمى ذلك كله: رحمة؛ لأنه برحمته يكون، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ).
قوله: (بِأَمْرِهِ) ويحتمل بتدبيره، أي: بتدبيره تجري السفن في البحار، على ما ذكرنا.
أو أن يريد بأمره: تكوينه، كقوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، وكقوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
وقوله: (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ).
هذا يدل على أن ما يصل إليهم من المنافع إنما يصل من فضله ورحمته، لا يصل إليهم بتلك الأسباب والمكاسب؛ لئلا يروا ذلك من تلك الأسباب، ولكن يرون ذلك من فضل اللَّه ورحمته.
وقوله: (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
أي: لكي يلزمهم الشكر لله على ذلك كله، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
في هذه الآية لي يصبر رسول اللَّه على أذى الكفرة؛ حيث قال: (أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ).
وفيه أيضًا بشارة للمؤمنين، ونذارة لأُولَئِكَ الكفرة.
أما النذارة لهم فقوله: (فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا)، أخبر أن أُولَئِكَ لما كذبوا الرسل، وعاملوهم بما تعاملون أنتم يا أهل مكة رسول اللَّه؛ فانتقمنا منهم جزاء معاملتهم؛ فعلى ذلك ينتقم منكم كما انتقم من أُولَئِكَ.
وأما البشارة للمؤمنين فقوله: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)، أخبر أن عاقبة الأمور تكون للمؤمنين.
وفيه: أنه قد أتى قومه بالبينات كما أتى أُولَئِكَ الرسل قومهم بالبينات.
وقوله: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
هو يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: كان حقّا علينا جعل العاقبة للمؤمنين، لا أن يكون عليه حقًا نصر المؤمنين في الدنيا؛ ولكن جعل العاقبة للمؤمنين حقًا؛ كقوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
والثاني: كان حقًّا علينا نصر المؤمنين بالحجج التي أعطاهم، أي: كان حقا إعطاء الحجج لهم والنصر والمعونة بالحجج، أي: إعطاء الحجج لهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: نصره إياهم: أنه أنجاهم مع الرسل، وأهلك أُولَئِكَ، واللَّه أعلم.
وقوله: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) كأنه يخبر عن قدرته وسلطانه؛ حيث أنشأ الرياح بحيث يجمع السحاب ويفرقه، ويبسطه ويجعله قطعًا: يمطر في مكان، ولا يمطر في مكان، يقول - واللَّه أعلم -: إن من قدر أن يسلط الرياح في جمع السحاب، وتفريقه - يملك تسليط الرياح على تعذيبكم، ويقول: إن المعبود المستحق للعبادة هو الذي يرسل الرياح لما ذكر والأمطار، لا الأصنام التي تعبدون؛ إذ تعلمون أنها لا تملك شيئًا مما ذكر.
أو يذكر نعمه التي عليهم؛ ليتأدى بها شكرها، أو يطمعهم إيمان بعض منهم بعدما كانوا آيسين عن إيمانهم، كما أطمعهم المطر والسعة بعد ما قحطوا وكانوا آيسين عنه؛ ألا ترى أنه قال: (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَتُثِيرُ سَحَابًا)، أي: ترفعه.
وقال أبو عبيدة: تجمعه؛ كما يستثير الرجل العلم فيجمعه.
وقوله: (وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: قطعًا قطعًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يضم بعضه إلى بعض، ويحمل بعضه على بعض.
وقوله: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ).
وقوله: (لَمُبْلِسِينَ (٤٩)
آيسين، والإبلاس: الإياس؛ ولذلك سمى إبليس: إبليس لأنه أُوِيس من رحمة اللَّه.
وقوله: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)
يحتمل أن يكون قوله: (إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ)، أي: المطر، أراد بالرحمة: المطر، سمى المطر: رحمة؛ لأنه يكون برحمته.
أو أن يكون الآثار هو المطر نفسه، جعله من آثار رحمته وأعلامه.
ثم الأمر بالنظر والاعتبار بآثار رحمته يحتمل وجوهًا:
أحدها: أمرهم بالنظر إلى ذلك؛ ليعلموا أنه رحيم؛ كي يرغبوا فيما رغبهم ويرجوا فيما أطمعهم ودعاهم إليه؛ إذ قد ظهر آثار رحمته؛ فكل رحيم يرغب فيما رغب وأطمع.
أو أن يكون الأمر بالنظر إلى آثار رحمته؛ إذ ذلك راجع إلى منافع أبدانهم وأنفسهم وما به قوامهم؛ ليتأدى بذلك شكره، وفي ذلك يقع الحاجة إلى من يعرفهم تلك النعم ويعرف شكرها؛ فيكون في ذلك الترغيب في قبول الرسالة وإثباتها.
أو أن يكون سمى المطر: رحمة؛ لما يرجع ذلك إلى منافع أبدانهم وما به قوام أنفسهم؛ ليعرفوا الرحمة هي راجعة إلى منافع دينهم وآخرتهم، وهو رسول اللَّه؛ إذ سماه في غير موضع: رحمة بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
أو أن يأمر بالنظر إلى ذلك المطر، وأنه كيف يحي هذه الأرضين الموات، وينبت فيها من ألوان النبات؟! وهذه الأشجار اليابسة كيف تخضر بعد يبوستها بهذه الأمطار؟! ليعرفوا أن من ملك هذا، وقدر على ذلك، وهو خارج عن وسعهم وتقديرهم لقادر على إحياء الموتى وبعثهم بعد الممات، وإن كان خارجًا عن تقديرهم ووسعهم، وهو على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.
وقوله: (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١)
يعني به: الزرع والنبات الذي أخرج من الأرض بالمطر.
قَالَ بَعْضُهُمْ: رأوه يابسًا إذا أصابته الريح الباردة.
(لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ).
ثم الأمر بالنظر والاعتبار بآثار رحمته يحتمل وجوها :
أحدها : أمرهم بالنظر إلى ذلك ليعلموا أنه رحيم كي يرغبوا في ما رغبهم، ويرجوا في ما أطمعهم، ودعاهم إليه، إذ قد ظهرت آثار رحمته، فكل رحيم يرغب في ما رغب، وأطمع.
[ والثاني ]( ٢ ) أن يكون الأمر بالنظر إلى آثار رحمته لأن( ٣ ) ذلك راجع إلى منافع أبدانهم وأنفسهم وما به قوامهم ليستأدي بذلك شكره. وفي ذلك تقع الحاجة إلى من يعرفهم تلك النعم، ويعرفهم شكرها، فيكون في ذلك الترغيب في قبول الرسالة [ وإثبات نبوة رسوله ]( ٤ ).
[ والثالث ]( ٥ ) : أن يكون سمي المطر رحمته لما يرجع ذلك إلى منافع أبدانهم وما به قوام أنفسهم ليعرفوا الرحمة، هي راجعة إلى منافع دينهم وآخرتهم، وهي( ٦ ) رسول الله، إذ سماه في غير موضع رحمة بقوله :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ }.
[ والرابع ]( ٧ ) : أن يأمر بالنظر إلى ذلك المطر ليري( ٨ ) كيف يحيي هذه الأرضين الموات، وينبت فيها من ألوان النبات ؟ وهذه الأشجار اليابسة كيف تخضرُّ بعد يبوستها بهذه الأمطار ؟ ليعرفوا إن من ملك هذا، وقدر على ذلك، وهو خارج عن وسعهم وتقديرهم لقادر على /٤١٥-أ/ إحياء الموتى وبعثهم بعد الممات، وإن كان خارجا عن تقديرهم ووسعهم ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾ لا يعجزه شيء.
٢ في الأصل وم: أو..
٣ في الأصل وم: إذ..
٤ في الأصل وم: وإثباته..
٥ في الأصل وم: أو..
٦ في الأصل وم: وهو..
٧ في الأصل وم: أو..
٨ في الأصل وم: وأنه..
وقوله: (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) جائز أن يكون (لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى)، يريد بالموتى: أنفسهم، (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ) الصم: أنفسهم أيضا، يقول: لا تسمع الكفار والضلال إذا ولوا مدبرين.
أو أن يكون قوله: (لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) كناية عن الكفار، وكذلك الصم والعمي، وقد سمى اللَّه الكفار: موتى وصما وعميا في غير موضع من القرآن.
ثم في قوله: (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) حكمة، وهو ألا يقدر أن يسمع الأصم الدعاء إذا ولى مدبرا، ولكن يقدر أن يفهم الأصم إذا أقبل، وأما إذا أدبر فلا يقدر أن يسمعه، وكذلك الحكمة في قوله:
(وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) أي: لا تقدر أن تهدي العمي عن ضلالتهم، وهو الذي يعمى عن ضلالته ويظن أنه على الهدى وغيره على الضلال، فأما من كان مقرّا بالضلال فإنك تقدر أن تهديه، يخبر عن شدة سفههم وتعنتهم وعماهم في ضلالتهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا).
أي: ما تسمع إلا من يؤمن بآياتنا، هذا يدل على أن قوله: (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ)، وقوله: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ) هي المواعظ لا نفس الهدى؛ حيث قال: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ).
ثم يحتمل قوله: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا) كقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي: إنما ينتفع بإنذارك من اتبع الهدى.
أو أن الذي يقبل النذارة من اتبع الهدى، فأما من لم يتبع الهدى فلا ينتفع؛ فعلى ذلك يحتمل قوله: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا)، أي: ما ينتفع أو لا يسمع المواعظ إلا من يؤمن بذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤)
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ)، أي: من النطفة، وهو ما قال في آية أخرى:
ثم قوله: (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً)، أي: إنسانًا يقوى على أمور وعلى أشياء.
(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) أي: شيخًا فانيًا؛ كقوله - تعالى -: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا).
وجائز أن يكون قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ)، أي: أطفالا على الخلقة التي أنتم عليها اليوم، ضعفاء لا تقوون على أشياء وأمور، ولا يقوى شيء منكم على شيء، ثم جعلكم من بعد ذلك الضعف أقوياء تقوون على أشياء وأمور، ثم يجعلكم من بعد تلك القوة والقدرة ضعفاء شيوخًا لا تقدرون على شيء، على ما يكون؛ يحتمل هذين الوجهين.
ثم فيه وجهان من الدلالة:
أحدهما: على البعث؛ والثاني: على القدرة على إنشاء الخلق والأشياء لا من أصول.
أما الدلالة على البعث؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث وإنشاء الشيء لا من أصل؛ لخروج ذلك عن قواهم وتقديرهم؛ فيخبر أن النطفة تصير علقة، وليس فيها من العلقة ولا من آثارها شيء، وكذلك العلقة تصير مضغة، وليس فيها من آثار المضغة شيء، وكذلك المضغة تصير إنسانا فيه عظم وجلد وشعر ولحم، وليس شيء من ذلك فيها؛ فمن قدر على ما ذكر لقادر على خلق الشيء لا من أصل، وقادر على البعث؛ إذ كل ما ذكر أقروا به، وهو خارج عن قواهم وعن تقديرهم؛ فلزمهم الإقرار بالبعث والإنشاء لا عن أصل وألا يقدروا قدرتهم وقواهم بقدرة اللَّه وقوته، على ما شاهدوا أشياء خارجة محن قواهم ومحن تقديرهم، بقوته وقدرته.
والثاني: أن ما ذكر من تحويل النطفة إلى العلقة، والعلقة إلى المضغة، والمضغة إلى الصورة والإنسان - لم يخلقهم ولم ينقلهم؛ ليكون كما ذكر بلا عاقبة تكون لهم ولا بعث؛ فلو لم يكن بعث لكان ما ذكر من تحويل حال إلى حال عبثًا باطلا، على ما ذكر، وكذلك فيما أحدث في الأطفال من القوة والقدرة، بعد ما كانوا ضعفاء لا يقوون ولا يقدرون على شيء أنه إنما أحدث ذلك فيهم؛ ليمتحنوا، ويجعل لهم ما يثابون ويعاقبون، إذ لو لم يكن بعث ولا عاقبة لكان فعل ذلك عبثًا باطلا.
وفيه القدرة على إنشاء الشيء وإحداثه لا من شيء؛ إذ كان التركيب موجودا على التمام ولا قوة بهم، ثم حدث القوة ولا أصل لها ولا أثر من آثارها؛ دل أن تقدير قوى الخلق وقدرتهم، بقوى اللَّه وقدرته محال، واللَّه الموفق.
وقوله: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ).
وقوله تعالى :﴿ إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا ﴾ أي ما يسمع إلا من يؤمن بآياتنا. هذا يدل على أن قوله :﴿ فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولّوا مدبرين ﴾ وقوله ﴿ وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم ﴾ هي المواعظ لا نفس الهدى لأنه( ٣ ) قال :﴿ إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ﴾.
ثم يحتمل قوله :﴿ إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا ﴾ [ أن يكون ]( ٤ ) كقوله :﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر ﴾ [ يس : ١١ ] أي إنما ينتفع بإنذارك من اتبع الهدى، أو إن الذي يقبل النذارة من اتبع الهدى. فأما من لم يتبع الهدى فلا ينتفع. فعلى ذلك يحتمل قوله :﴿ إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا ﴾ أي ما ينتفع أو لا يسمع المواعظ إلا من يؤمن بذلك، والله أعلم.
٢ في الأصل: فأما من كان، في م: فإنك تقدر..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ ساقطة من الأصل وم..
أحدهما : قوله :﴿ خلقكم من ضعف ﴾ أي من النطفة، وهو ما قال في آية أخرى ﴿ ألم نخلقكم من ماء مهين ﴾ [ المرسلات : ٢٠ ] أي ضعيف ثم قوله :﴿ ثم جعل من بعد ضعف قوة ﴾ أي إنسانا، يقوى على أمور وعلى أشياء ﴿ ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة ﴾ أي شيخا فانيا كقوله تعالى :﴿ ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا ﴾ [ النحل : ٧٠، الحج : ٥ ].
[ والثاني ]( ١ ) : أن يكون قوله :﴿ خلقكم من ضعف ﴾ أي أطفالا، لا( ٢ ) على الخلقة التي أنتم عليها اليوم، ضعفاء لا تقوون على أشياء وأمور، ولا يقوى شيء منكم على شيء ﴿ ثم جعل من بعد ضعف قوة ﴾ ثم جعلكم( ٣ ) من بعد ذلك الضعف أقوياء، تقوون على أشياء وأمور ﴿ ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة ﴾ ثم يجعلكم( ٤ ) من بعد تلك القوة والقدرة ضعفاء شيوخا، ولا تقدرون على شيء على ما يكون يحتمل هذين الوجهين.
ثم فيه وجهان من الدلالة :
أحدهما : على البعث.
والثاني : على القدرة على إنشاء الخلق والأشياء لا من أصول.
أما الدلالة على البعث فلأنهم كانوا ينكرون( ٥ ) البعث وإنشاء الشيء لا من أصل لخروج عن قواهم وتقديرهم ؛ يخبر أن النطفة، تصير علقة، وليس فيها من العلقة ولا من آثارها شيء. وكذلك العلقة، تصير مضغة، وليس فيها من آثار المضغة شيء، وكذلك المضغة، تصير إنسانا، فيه عظم وجلد وشعر ولحم، وليس شيء من ذلك فيها. فمن قدر على ما ذكر فيقدر على خلق الشيء لا من أصل، ويقدر على البعث، إذ كل ما ذكر أقرّوا به، وهو خارج عن قواهم وعن تقديرهم. فلزمهم الإقرار بالبعث والإنشاء لا عن أصل، وألا يقدروا قدرتهم بقردة الله وقوته على ما شاهدوا أشياء خارجة عن قواهم وعن تقديرهم بقوة الله وقدرته.
والثاني : أن ما ذكر من تحويل النطفة إلى العلقة والعلقة إلى المضغة والمضغة إلى الصورة والإنسان، لم يحولهم، ولم ينقلهم ليكون كما ذكر بلا عاقبة تكون لهم ولا بعث.
فلو لم يكن بعث لكان ما ذكر من تحويل حال إلى حال عبثا باطلا على ما ذكر.
وكذلك في ما أحدث من الأطفال من القوة والقدرة بعد ما كانوا ضعفاء، لا يقوون، ولا يقدرون على شيء. أنه إنما أحدث فيهم ليمتحنوا، ويجعل لهم [ عاقبة ]( ٦ ) يثابون، ويعاقبون، إذ لو لم يكن بعث ولا عاقبة لكان فعل ذلك عبثا باطلا.
[ وفيه القدرة ]( ٧ ) على إنشاء الشيء، وإحداثه لا من شيء، إذ كان التركيب موجودا على التمام، ولا قوة به( ٨ )، ثم أحدث القوة، ولا أصل لها، ولا أثر من آثارها. دل أن تقدير قوى الخلق بقوى الله محال، والله الموفق.
وقوله تعالى :﴿ يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ﴾ بأحوالهم، والقدير على إنشاء الأشياء لا من أشياء وعلى البعث بعد الموت، والله أعلم.
٢ ساقطة من م..
٣ في الأصل وم: جعل..
٤ في الأصل وم: يجعل..
٥ من م، في الأصل: يقدرون..
٦ ساقطة من الأصل وم..
٧ من م، ساقطة من الأصل..
٨ في الأصل وم: بهم..
* * *
قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (٦٠)
وقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ).
قال بعض أهل التأويل: يقسم المجرمون: إنهم لم يلبثوا في قبورهم غير ساعة، وكذلك يقولون: في قوله: (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ...) الآية.
لكن الأشبه أن يكون قوله: (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ): الدنيا في المحنة، لا في القبور، استقصروا مقامهم في الدنيا؛ تكذيبًا لما ادعى عليهم من الزلل والمعاصي أنواع الكفر؛ يقولون: إنا لبثنا في الدنيا وقتا لا يكون منا في مثل ذلك الوقت وتلك المدة الزلل والمعاصي؛ ألا ترى أنهم قد كذبوا في إنكارهم طول المقام فيها؛ حيث قال: (كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ)، أي: كذلك كانوا يكذبون في الدنيا أن لا بعث ولا حياة بعد الموت ولا حساب، ولولا هذا التكذيب لهم على أثر قولهم: (مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ)، وإلا كان الظاهر أنهم قد استقصروا المقام في الدنيا؛ لطول المقام في الآخرة وشدة العذاب في ذلك وهوله، لكنه - واللَّه أعلم - ما ذكرنا أنهم يقسمون: إنهم ما لبثوا غير ساعة في الدنيا؛ إنكارا وجحودًا لما ادعى عليهم من الزلل والمعاصي، يقولون: إنا لم نلبث في الدنيا إلا ساعة، فكيف عملنا فيها هذا الزلل وأنواع الشرك والكفر؛ فأخبر أنهم (كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ)، أي: كذلك كانوا يكذبون في الدنيا ويقسمون؛ حيث قال: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ)، فذلك القسم منهم أنهم ما لبثوا غير ساعة كذب وإنكار للمقام، كما كذبوا وأنكروا الشرك؛ حيث قالوا (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ).
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير؛ كأنه: قال الذين أوتوا العلم في كتاب اللَّه، أي: أوتوا العلم بكتاب اللَّه والإيمان به: لقد لبثتم إلى يوم البعث فهذا يوم البعث.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قال الذين أوتوا العلم والإيمان: لقد لبثتم في علم اللَّه في الدنيا إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث.
وبعضهم يقول: وقال الذين أوتوا العلم والإيمان: لقد لبثتم فيما كتب اللَّه لكم من الآجال إلى انقضاء آجالكم وفنائها.
وقوله: (فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي كنتم تنكرونه وتكذبونه.
(وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على حقيقة نفي العلم عنهم، لكنهم لا يعذرون لجهلهم بذلك؛ لما أعطوا أسباب العلم لو تفكروا وتأملوا لعلموا.
والثاني: على نفي الانتفاع بعلمهم؛ على ما نُفي عنهم حواس كانت لهم؛ لما لم ينتفعوا بها؛ فعلى ذلك جائز نفي العلم عنهم بذلك لما لم ينتفعوا بما علموا، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)
ليس على أن يكون لهم عذر فلا ينفعهم ذلك، ولكن لا عذر لهم ألبتَّة.
أو أن يكون معذرتهم ما ذكروا: (مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) فذلك معذرتهم؛ فلا ينفعهم ذلك؛ لأنهم كذبة في ذلك.
وقوله: (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ).
الاستعتاب: هو الاسترجاع عما كانوا فيه، فهم لا يطلب منهم. الرجوع عما كانوا عليه في ذلك الوقت، والعتاب في الشاهد: أن يعاتب؛ ليترك ما هو عليه ويرجع عما كان منه فيما مضى، وذلك لا ينفع للكفرة في ذلك اليوم، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا).
أي: رأوا ذلك الزرع والنبات مصفرا، أي: يابسًا؛ لما أصابه من الريح والبرد.
(لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ).
وقوله تعالى :﴿ ولا هم يستعتبون ﴾ الاستعتاب، هو الاسترجاع عما كانوا فيه، فهم لا يطلب منهم الرجوع عما كانوا عليه في ذلك الوقت. والعتاب في الشاهد أن يعاتب ليترك ما هو عليه، ويرجع عما كان منه في ما مضى، وذلك لا ينفع للكفرة في ذلك اليوم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا ﴾ [ الروم : ٥١ ] أي رأوا طلك الزرع والنبات مصفرا، أي يابسا لما أصابه من الريح والبرد ﴿ لظلوا من بعده يكفرون ﴾ قيل : لأقاموا، وقيل : لمالوا، وكله يرجع إلى معنى واحد، وهو ما تقدم ذكره من القنوط، أي يقنطون، وييأسون من رحمته، ويكفرون برب هذه النعم. وفي حرف ابن مسعود : إنك لا تسمع الموتى.
وفي حرف ابن مسعود: (إنك لا تسمع الموتى إنك لا تبعث الموتى).
وقوله: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (٥٨)
جائز أن يكون ما ذكر من ضرب المثل للكفار خاصة، يقول: قد بينا لهم ما يعظهم ويزجرهم عما هم فيه، ويدعوهم إلى الإيمان والتوحيد، لكنهم اعتقدوا العناد والمكابرة.
وقوله: (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ).
أي: لو جئتهم بالآية التي سألوك -أيضًا- فلا يصدقوك ولا يقبلوا الهدى، ويقولون ما ذكر:
(لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ).
ويشبه أن يكون ما ذكر من ضرب المثل للفريقين جميعًا للمؤمن والكافر، ويكون التأويل - واللَّه أعلم -: ولقد ضربنا وبينا للناس لأفعالهم وأحوالهم من القبيح والحسن مثلا وشبها ما يعرفون به قبح كل قبيح، وحسن كل حسن، وما بين لهم الحق من الباطل، والعدل من الجور؛ لأن أُولَئِكَ الكفرة لم يعتبروا ولم يتأملوا، ثم رجع إلى وصف أُولَئِكَ الكفرة، فقال: (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ)، أي: بزيادة في البيان والوضوح، (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٥٩)
قد ذكرنا في غير موضع أن قوله: (لَا يَعْلَمُونَ) يخرج على وجهين:
أحدهما: لم يعلموا؛ لما لم يتأملوا ولم ينظروا في أسباب العلم لكي يعلموا، ولا عذر لهم في جهلهم ذلك؛ لما أعطوا أسباب العلم، لكنهم لم يستعملوها فمنهم جاء ذلك؛ فلم يعذروا.
والثاني: نفى عنهم العلم على وجوده لهم وكونه؛ لما لم ينتفعوا بما علموا، على ما ذكرنا من نفي الحواس عنهم، مع وجود تلك الحواس وكونها لهم؛ لما لم ينتفعوا بها ولم يستعملوها فيما جعلت تلك وأنشئتا لها؛ فعلى ذلك العلم، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (٦٠)
قَالَ بَعْضُهُمْ: فاصبر على تكذيبهم إياك بالعذاب الذي وعدت لهم؛ إن وعد اللَّه حق
وجائز أن يكون قوله: (فَاصْبِرْ)، أي: اصبر على أذاهم الذي يؤذونك؛ إن وعد الله حق في النصر لك والمعونة.
وقوله: (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ).
كأنه يقول: لا يحملنك أذاهم إياك حتى تدعو عليهم بالعذاب والهلاك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ)، أي: لا يستفزوك، ويقول: لا يستجهلنك، وأصله ما ذكرنا: ألا يحملنك أُولَئِكَ الكفرة على الخفة والعجلة والجهل؛ حتى تدعو عليهم بإنزال العذاب والهلاك لهم، وهو - واللَّه أعلم - كأنه من الاستخفاف.
* * *
أحدهما : لم يعلموا لما لم يتأملوا، ولم ينظروا، في أسباب العلم لكي يعلموا، ولا عذر لهم في جهلهم. ذلك لما أعطوا أسباب العلم. لكنهم لم يستعملوها. فمنهم جاء ذلك فلم يعذروا.
والثاني : نفى عنهم العلم على وجود العلم لهم وكونه لما لم ينتفعوا بما علموا على ما ذكرنا من نفي الحواس عنهم مع وجودها وكونها لهم( ١ ) لما لم ينتفعوا بها، ولم يستعملوها في ما جعلت، وأنشئت لها. فعلى ذلك العلم، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله :﴿ فاصبر ﴾ أي اصبر على أذاهم الذي يؤذونك ﴿ إن وعد الله حق ﴾ في النصر لك والمعونة.
وقوله تعالى :﴿ ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ﴾ كأنه يقول : لا يحملنك أذاهم إياك حتى تدعو عليهم بالعذاب والهلاك.
وقال بعضهم :﴿ ولا يستخفنك ﴾ أي لا يستفزّنك ؛ ويقول : لا يستجهلنك. وأصله ما ذكرنا أي لا يحملنك أولئك الكفرة على الخفة والعجلة والجهل حتى تدعو عليهم بإنزال العذاب والهلاك لهم، وهو، والله أعلم، من الاستخفاف.