ﰡ
كلها مَكِّيَّة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (٣)قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَبَارَكَ): قال أهل التأويل: تبارك من التفاعل، وهو من تعالى؛ لأن البركة هي اسم كل رفعة وفضيلة وشرف، فكان تأويله: تعالى من التعالي والارتفاع.
وقال أهل الأدب: تبارك: هو من البركة، والبركة هي: اسم كل فضل وبر وخير، أي: به نيل كل فضل وشرف وبر.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (تَبَارَكَ) هو تنزيه؛ مثل قولك: تعالى.
وقال الكسائي والْقُتَبِيّ: هو من البركة؛ وهو ما ذكرنا.
وقوله: (نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ): سماه؛ فرقانا؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، وبين ما يؤتى وما يتقى؛ وعلى هذا جائز أن يسمى جميع كتب اللَّه التي أنزلها على رسله فرقانًا؛ لأنها كانت تفرق بين الحق والباطل، وبين ما يحل وما يحرم، وبين ما يؤتى وما يتقى؛ ولذلك سمى التوراة: فرقانًا بقوله: (وَلَقَدْ آتَينا مُوسَى وَهَارُونَ الفُرقَانَ).
وأما القرآن: هو من قرن بعضه إلى بعض؛ يقال: قرنت الشيء إلى الشيء إذا ضممته إليه، قرن يقرن قرنا.
وقوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا): جائز أن يكون قوله: (لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، أي: القرآن الذي أنزله على عبده يكون نذيرًا لمن ذكر.
ويحتمل قوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) أي: ليكون مُحَمَّد بالقرآن الذي أنزل عليه نذيرًا؛ كقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)؛ وكقوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)، أي: من بلغه القرآن من الخلق فرسول اللَّه نذيره.
ثم قوله: (لِلْعَالَمِينَ) جائز أن يراد به الإنس والجن.
ثم ذكر النذارة فيه ولم يذكر البشارة، فإن كان على هذا فهو حجة لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - أن ليس للجن ثواب إذا أسلموا سوى النجاة من العقاب، ولهم عقاب بالإجرام؛ لأن اللَّه - تعالى - لم يذكر لهم الثواب في الكتاب، وذكر لهم العقاب بالعصيان؛ حيث قال: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ...) الآية، جعل ثوابهم نجاتهم من عذاب أليم.
وجائز أن يكون في النذارة بشارة -أيضًا- ما كان وما يكون إلى يوم القيامة؛ لأنهم إذا اتقوا مخالفة اللَّه ومعاصيه كانت لهم العاقبة، فلهم بشارة في ذلك ونذارة؛ كقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا).
وقوله: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (٢) جائز أن يكون قوله: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وصلة قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْفَانَ)، ووجهه - واللَّه أعلم - أي: تعالى عن أن يكون النذير الذي بعثه فيهم، إنما بعثه لحاجة نفسه لجر منفعة إليه، أو لدفع مضرة عنه على بعث ملوك الأرض من الرسل لحوائج أنفسهم: لجر النفع إليهم، أو لدفع مضرة عنهم، ولكن إنما يبعث النذير والبشير إلى الخلق لمنافع أنفسهم؛ إذ لا يحتمل أن يكون من له ملك السماوات والأرض أن يبعث النذير والبشير لمنافع نفسه ولحاجته؛ لغناه، وأما ملوك الأرض لا يملكون ذلك؛ فلذلك ما يرسلون ويبعثون من الرسل إنما يبعثون ويرسلون لمنافع أنفسهم وحوائجهم؛ لدفع مضرة أو جر منفعة.
وجائز أن يكون قوله: (تَبَارَكَ) أي: تعالى عن أن يتخذ ولدا أو شريكًا في الملك على ما نسبوا إليه من الولد والشريك، فقال: تعالى عن أن يكون له الولد أو الشريك؛ إذ له ملك السماوات والأرض، فالولد في الشاهد إنما يتخذ لإحدى خلال ثلاث؛ وقد ذكرناها.
وقوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ): فيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه أخبر أنه خلق كل شيء، وعلى قولهم أكثر الأشياء لم يخلقها من الحركات والسكون والاجتماع والتفرق وجميع الأعراض؛ لأنهم يقولون: إنها ليست بمخلوقة لله ولا صنع له فيها.
وقوله: (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا): جائز أن يكون قوله: (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) لحكمة أو (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) لوحدانية اللَّه وألوهيته، أو (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) أي: جعل له حدًّا لو اجتمع الخلائق على ذلك ما عرفوا قدره ولا حده من صلاح وغيره ما لو لم يقدر ذلك لفسد.
وقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً... (٣) أي: معبودا.
ثم تسميته إياها -أعني: الأصنام التي عبدوها-: آلهة على ما عندهم وفي زعمهم: أنها آلهة؛ والإله عند العرب المعبود، يسمون كل معبود إلها؛ وكذلك قوله: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، عندهم وفي زعمهم، وقول موسى: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا)، في زعمهم وعندهم أن كل معبود إله، وإلا قد عابهم بتسميتهم الأصنام: آلهة.
ثم بين سفههم وقلة فهمهم في عبادتهم الأصنام وتسميتهم إياها: آلهة؛ حيث قال: (لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، أي: يتركون عبادة من يعلمون أنه خالق كل شيء، ويعبدون من يعلمون أنهم لا يخلقون وهم يخلقون، ويتركون عبادة من يعلمون أنه يملك النفع والضر لأنفسهم أيضًا، وهو قوله: (وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا) لغيرهم؛ فعلى هذا الظاهر يجيء أن يكونوا هم سموا أنفسهم: آلهة لا الأصنام؛ لأنهم يملكون ضرر الأصنام ونفعها، والأصنام لا تملك ذلك لهم ولا لأنفسها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا) أي: الموت الذي كان قبل أن يخلق الناس، كقول اللَّه تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا).
وأما قوله: (وَلَا حَيَاةً) يقول: لا يملكون أن يزيدوا في هذا الأجل المؤجل، (وَلَا نُشُورًا) أي: بعثًا بعد الموت.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يملكون أن يميتوا حيًّا قبل أجله، (وَلَا حَيَاةً): ولا يحيون ميتًّا إذا جاء أجله، (وَلَا نُشُورًا)، أي: بعثا، على ما ذكرنا، وباللَّه العصمة.
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ) يعنون هذا القرآن الذي أنزل على رسوله، وكان يقرؤه عليهم، يقولون: ما هذا إلا إفك -أي: كذب- افتراه من تلقاء نفسه ويخترعه من نفسه.
إن أهل الشرك كانوا يكذبون الأنباء والأخبار من غير أن كانت لهم أسباب التي بها ما يوصل إلى معرفة صدق الأخبار وكذبها، وذلك كانت عادتهم وهِمَّتهم، والأسباب التي يعرف بها صدق الأخبار وكذبها هي الكتب السماوية والرسل التي نطقوا عن وحي السماء، فكفار مكة لم يكن لهم واحد من هذين، فكيف ادعوا على رسول اللَّه اختلاق هذا القرآن واختراعه من نفسه، وأنه مفترى، على غير كون أسباب معرفة الكذب والصدق لهم في الأخبار، مع ما ظهرت لهم آيات رسالته وأعلام صدقه في الأخبار؛ حيث لم يؤخذ عليه كذب قط، ولا رأوه اختلف إلى أحد من أهل الكتاب، ولا كان يحسن أن يخط بيده كتابًا، وما قرع أسماعهم من أول الأمر إلى أَخر الأبد قوله: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) وقوله: (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ)، فدل عجزهم وترك تكلفهم ذلك على أنهم عرفوا أنه من عند اللَّه، وأنهم كذبة في قولهم: إنه إفك مفترى.
وقوله: (وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ)، وقالوا: إنه إفك مفترى، وأعانه على ذلك قوم آخرون في افترائه واختراعه، وهم قوم من أهل الكتاب أسلموا، وقد كانوا يجدون في التوراة والإنجيل نعته وصفته، وما كان أنبأهم رسول اللَّه ويخبرهم من الأنباء المتقدمة والأخبار الماضية، فأخبروهم بذلك حين سألهم أُولَئِكَ المشركون عما يخبرهم رسول اللَّه، وقالوا: إنه كما يقول، وإنه صادق في ذلك كله، وإنا نجد ذلك في كتابنا، فلما سمعوا ذلك من أهل الكتاب ما سمعوا من تصديقهم إياه - عند ذلك قالوا: ((وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ).
ثم أخبر أنهم (فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا)، أما قوله: (ظُلْمًا) لأنهم كذبوه، وقالوا: إنه مفترى من غير أن كان لهم أسباب الكذب والصدق، فهو ظلم؛ حيث وضعوا ذلك في غير موضعه. وأما قوله: (وَزُورًا) لأنهم قالوا: إنه مختلق، وإنه سحر، وإنه (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ
فإذا عرف تلك الأنباء والأحاديث التي كانت من قبل -ولا شك أنها لم تكن بلسانه، وإنما كانت بلسان أُولَئِكَ- دل إخباره عما في كتبهم بلسانه أنما عرف ذلك باللَّه تعالى.
وقوله: (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) وقال أهل التأويل: غدوًّا وعشيًّا، فلو كان على ذلك لكان يحضرونه في البكرة والعشي، فيسمعون ويشاهدون ما يملى عليه؛ إذ الوقت وقت الحضور، ولكن -عندنا- كأنهم أرادوا بالبكرة والعشيّ: أول الليل وآخره، الأوقات التي هي ليست بأوقات الحضور والجلوس، يقولون: يأتونه سرًّا فتملى عليه ويعلمه، فلو كان ذلك أيضًا لكانوا يراقبونه ويحافظونه سرًّا؛ ليعرفوا ذلك ويشاهدوه، فإذا لم يفعلوا ذلك دل أنهم كانوا يعرفون صدقه، وأنهم كذبة في زعمهم، لكنهم كابروه وعاندوه في ذلك.
ثم أخبر أنه إنما أنزل عليه الذي يعلم السر في السماوات والأرض؛ حيث قال: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٦) ليس بمختلق منه ولا مفترى، ثم قوله: (يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: يعلم الأعمال الخفية والسرية من أهل السماوات والأرض، أي: يعلم الكوائن التي في السماوات والأرض وخفياتها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) أي: قل لهم يا مُحَمَّد: أنزله - أي: هذا القرآن - الذي يعلم السر؛ وذلك أنهم قالوا بمكة سرًّا: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)، فإنه بشر مثلكم، بل هو ساحر (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)، ففي ذلك دلالة إثبات رسالته؛ لأنهم قالوا سرًّا فيما بينهم ثم أخبرهم بذلك، دل أنه باللَّه عرف ذلك.
وقوله: (إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) في تأخير العذاب عنهم، (رَحِيمًا) حين لا يعجل عليهم بالعقوبة إذا تابوا ورجعوا عن التكذيب إلى التصديق على ما ذكرنا. وقوله: (إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) في تأخير العذاب، يحتمل قوله: (غَفُورًا رَحِيمًا) إذا تابوا عن ذلك وآمنوا به ورجعوا إلى الحق، أو غفور رحيم لا يعجل بالعقوبة أي: برحمته وفضله لا يعجل بعقوبتهم؛ لعلهم يتوبون.
ثم قوله :]يعلم السر في السموات والأرض[ أي يعلم الأعمال الخفية والسرية من أهل السموات والأرض، أي يعلم الكوامن التي في السموات والأرض وخفياتها.
وقال بعضهم : قوله :]قل أنزله الذي يعلم السر[ أي قل لهم يا محمد : أنزله أي هذا القرآن الذي يعلم السر.
وذلك لأنهم٢ قالوا بمكة سرا :]هل هذا إلا بشر مثلكم[ بل هو ساحر ]أفتأتون السحر وأنتم تبصرون[ ( الأنبياء : ٣ ).
ففي ذلك دلالة إثبات رسالته لأنهم قالوا سرا في ما بينهم، ثم أخبرهم بذلك. دل أنه بالله عرف ذلك.
وقوله تعالى :]إنه كان غفورا رحيما[ في تأخير العذاب. يحتمل قوله :]غفورا رحيما[ إذا تابوا عن ذلك، وآمنوا به، ورجعوا إلى الحق أو ]غفورا رحيما[ لا يعجل بالعقوبة، أي برحمته لا يعجل بالعقوبة، لعلهم يتوبون.
وقال القتبي :]تبارك[ مشتق من البركة. وكذلك قال الكسائي، وقد ذكرنا ذلك. وقال أبو عوسجة : تنزيه مثل قولك : تعالى على ما ذكرنا، وقال :]الفرقان[ هو الحق، فرق بين الحق والباطل، والقرآن، هو من قرن بعضا إلى بعض، والزبور، هو اسم كتاب، والزبر جميع، وزبرت كتبت، والزبر قطع الحديد كقوله :]آتوني زبر الحديد[ ( الكهف : ٩٦ ) الواحدة٣ زبرة. والتوراة اسم كتاب لا أظنه بالعربية٤. وقال أبو معاذ : الأساطير الأحاديث، واحدتها٥ أسطورة كأرجوزة وأراجيز وأحدوثة وأحاديث وأعجوبة وأعاجيب. وفي حرف حفصة : و هي تمل عليه، وهما لغتان٦. وفي سورة البقرة :]أن يميل هو فليملل وليه بالعدل[ ( البقرة : ٢٨٢ ).
٢ في الأصل وم: أنهم..
٣ في الأصل وم: الواحد..
٤ دليل ظنه ما قال في تفسير قوله تعالى: ﴿وأنزل التوراة والإنجيل﴾ (آل عمران: ٣): وقيل سمي إنجيلا لما يجلي، وهو من الإظهار في اللغة وقيل: سمي التوراة توراة أوريت الزند: وهو كذلك، والله أعلم.
.
٥ في الأصل وم: واحدها..
٦ الأولى: أملى من مادة: م ل ي، والثانية: أمل من مادة: م ل ل، انظر اللسان، ثم انظر معجم القراءات القرآنية ج١/٢٢١ وج ٤/٢٧٤..
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: تنزيه، مثل قولك: " تعالى "، على ما ذكرنا، وقال: الفرقان هو الحق؛ فرق بين الحق والباطل، والقرآن: هو من قَرْنِ بعض إلى بعض، والزبور: هو اسم كتاب، والزُّبُر: جميع، وزبرت: كتبت، والزبَر: قطع الحديد، كقوله: ((آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ)، الواحد: زبْرة، والتوراة: اسم كتاب لا أظنه بالعربية.
قال أبو معاذ: الأساطير: الأحاديث، واحدها: أسطورة، كأرجوزة وأراجيز، وأحدوثة وأحاديث، وأعجوبة وأعاجيب.
وفي حرف حفصة: (فهي تُمَلُّ عليه)، وهما لغتان، وفي سورة البقرة: (أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ).
وقوله: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) كان الكفرة يطعنون رسول اللَّه بشيئين:
أحدهما: أنه من البشر؛ بقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)، و (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)، كانوا لا يرون أن يكون من البشر رسول كقوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) الآية، وقو لهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)، ونحو ذلك.
والثاني: كانوا يطعنون بالفقر والحاجة وصفارة اليد؛ حيث قالوا: (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ)، وحيث قالوا: (يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) كأنهم ينكرون الرسالة في الفقراء وذوي الحاجة، ويرونها في ذوي الملك والأموال؛ ولذلك قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، فعلى ذلك قولهم: (يَأْكُلُ الطَّعَامَ) كما يأكل الفقراء، (وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) وفي حوائجه كما يمشي الفقراء، ولو كان رسولًا لكان ملكًا غنيًّا يأكل طعام الملوك، لا يقع له الحاجة إلى أن يمشي في الأسواق في حوائجه.
فأجاب لهم في طعنهم فيه أنه بشر مثلهم، وإنكارهم الرسالة في البشر بوجوه:
أحدها: قول: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ)، قال: (وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ) الآية، معناه - واللَّه أعلم -: أنه لا ينزل الملك إلا بالعذاب، فلو أنزل لأنزل بالعذاب فأهلكوا.
والثاني: ما قال: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا)، تأويله - واللَّه أعلم -: أنه لم يجعل في وسع البشر رؤية الملك على صورته وعلى ما هو عليه؛ إذ جنس هذا غير جنس أُولَئِكَ، وجوهرهم غير جوهر أُولَئِكَ، ولو جعلناه هكذا كنا لبسنا ما كان
والثالث: ما قال: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ...) الآية، أي: لو كان أهل الأرض ملائكة لكنا أنزلنا عليهم الرسول ملكا من جنسهم وجوهرهم؛ لأنهم أعرف به وأظهر صدقًا عندهم ممن هو من غير جوهرهم وجنسهم، فإذا كان أهل الأرض بشرًا فالرسول إذا كان منهم، فهم أعرف به وصدقه أظهر عندهم، وقلوبهم إليه أميل لا إلى من هو من غير جنسهم.
وأجاب لطعنهم في أكله ومشيه في الأسواق حيث قال: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ)، في حوائجهم، أي: غيره من الرسل الذين تؤمنون أنتم بهم كانوا فقراء، يأكلون الطعام ويمشون في حوائج أنفسهم، ثم لم يمنع ذلك عن أن يكونوا موضعًا لرسالته؛ فعلى ذلك مُحَمَّد، والفقير وذو الحاجة أحق أن يكون موضعًا لرسالته من الغني الثري؛ لأن الناس يتبعون الغني ومن له الملك والثروة، فلو كان الرسول غنيًّا مثريًّا لكان لا يظهر متبع الحق من غيره، وإذا كان فقيرًا محتاجًا لظهر ذلك، اللهم إلا أن يكون ملكًا هو آية الرسالة نحو ملك سليمان وداود، وذلك لنفسه آية لرسالته على ما قال: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)، واللَّه أعلم.
وقوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا): كأنهم قالوا ذلك لما نزل قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، قالوا عند ذلك: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ)، وقالوا: (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا (٨) عند سماع قوله: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أي: قالوا: لو كان مُحَمَّد رسول اللَّه من له ملك السماوات والأرض ونذيرًا للعالمين على ما يقول، لكان أنزل معه ملك نذيرًا، ولكان أعطي هو كنزًا أي: مالا أو تكون له جنة يأكل منها على ما يكون لرسل ملوك الأرض.
لكن الجواب لهم ما ذكرة (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ...) الآية، أي: لو شاء أعطاك خيرًا مما يقولون من البنيان والقصور على ما أعطى غيرك، لكن ليس فيما يمنع منقصة لك، ولا فيما أعطاهم فضيلة.
وقوله: (وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي: ما تتبعون، (إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا): لا تزال عادتهم بنسبة الرسول إلى السحر والجنون والكذب.
وقوله: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٩) فتأويله - واللَّه أعلم - أي: انظر إلى
فيقول، والله أعلم : انظر إلى سفههم أن ﴿ كيف ضربوا لك الأمثال ﴾ ونسبوك إلى ما ذكروا، وعلى علم منهم أنك لست كذلك، ولا على ذلك، وإنك على الحق، وهم على باطل وكذب، أو يكون قوله :﴿ انظر كيف ضربوا لك الأمثال ﴾ ؟ ما قالوا :﴿ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ﴾ ﴿ أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ﴾ وأمثال ما سألوا، وقالوا٢ : لو كان يقول : إنه رسول لكان ذلك له أعلام الرسالة وأمارات صدقه، فيخبر أن الأعلام والآيات ليست تأتي على شهوات سؤال المعاندين وأمانيهم.
ولكن إنما تجيء على ما توجبه الحكمة ما يدل على صدق ما ادعى، ويظهر كذب من عاند، وتولى. وقد أتاهم بحمد الله بحجج وبراهين ما أظهر لهم صدق ما ادعى من الرسالة والنبوة، ولكنهم عاندوها، وكابروا، فلم يقروا بها خوفا أن تذهب عنهم رئاستهم.
وقوله تعالى :﴿ فضلوا ﴾ لا شك أنهم قد ضلوا عن الهدى، أي عدلوا بضربهم الأمثال له ونسبهم إياه إلى ما نسبوه إليه ﴿ فلا يستطيعون سبيلا ﴾ إلى الهدى أو إلى ما سألوا من الأشياء.
وفي حرف حفصة : فلا يهتدون سبيلا. وقال بعضهم : فلا يستطيعون مخرجا من الأمثال التي ضربوها لك، والله أعلم.
٢ - في الأصل وم: فيقولون..
أو أن يكون قوله: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ) وما قالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) وأمثال ما سألوا، فيقولون: لو كان ما يقول إنه رسول، لكان ذلك له أعلام الرسالة وأمارات صدقه، فيخبر أن الأعلام والآيات ليست تأتي على شهوات سؤال المعاندين وأمانيهم، ولكن إنما تجيء على ما توجبه الحكمة، مما يدل على صدق ما ادعى ويظهر كذب من عاند وتولى، وقد أتاهم مُحَمَّد صلوات اللَّه عليه وسلامه بحجج وبراهين ما أظهر لهم صدق ما ادعى من الرسالة والنبوة، لكنهم عاندوها وكابروا، فلم يقروا بها خوفًا أن يذهب عنهم رياستهم.
وقوله: (فَضَلُّوا) لا شك أنهم قد ضلوا عن الهدى، أي: عدلوا بضربهم الأمثال له، ونسبتهم إياه إلى ما نسبوه إليه؛ فلا يستطيعون سبيلا إلى الهدى أو إلى ما سألوا من الأشياء.
وفي حرف حفصة: (فلا يهتدون سبيلا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فلا يستطيعون مخرجًا من الأمثال التي ضربوها لك، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (١١) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (١٢) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (١٣) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (١٤)
وقوله: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ) قد ذكرنا أنه خرج جواب ما سألوه من الأشياء: من الملك والكنز والجنة وأنواع الطعن الذي طعنوه، أي: لو شاء لأعطاك
ثم أخبر أن الذي حملهم على ذلك السؤال وأنواع الطعن فيه هو تكذيبهم بالساعة؛ حيث قال: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ... (١١) هو حيث لم يروا لأمورهم عاقبة ينتهون إليها؛ يثابون عليها أو يعاقبون.
ثم أخبر ما أعدّ لهم بتكذيبهم الساعة فقال: (وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا).
ثم وصف ذلك السعير فقال: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (١٢)
وقوله: (رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ): يحتمل وجهين: أحدهما: يجعل لها أسبابًا تراهم كما يرونها. والثاني إذا صاروا في مكان بحيث يرونها كأنها رأتهم.
وقوله: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (١٣) قيل: إن النار ترفع ويعلو لهبها، وترد من كان في أعلاها إلى أسفلها، ويرد من كان في أسفلها إلى أعلاها، فيجمعهم جميعًا فيضيق عليهم المكان ويشتد بهم العذاب، كلما ضاق عليهم المكان كان العذاب لهم أشد.
وقوله: (مُقَرَّنِينَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: مقيدين بعضهم ببعض.
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: الشيطان يقرن، وَيقَتدُ كل بشيطانه الذي دعاه إلى دعائه واتبعه؛ كقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يقرن العابد والمعبود من دون اللَّه، وهو الأصنام التي عبدوها؛ كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا...) الآية.
وقوله: (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) أي: هلاكا، والثبور: الهلاك؛ كقوله: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) أي: هالكًا.
والثبور والويل: هما حرفان يدعو بهما كل من كان في الهلكة والشدة، فقال: (لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (١٤) أي: لا تدعوا هلاكًا واحدًا؛ كما يكون في الدنيا أن من هلك مرة لا يهلك ثانيًا، وأما في النار فإن لأهلها هلكات لا تحصى؛ كقوله: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) أي: أسباب الموت تأتيهم من كل مكان وما هو بميت؛ وكقوله: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ...) الآية.
وإنما يسألون ويدعون بالهلاك لما يرجون من الهلاك النجاة من ذلك العذاب؛ وهكذا كل من ابتلي ببلاء شديد يتمنى الهلاك والموت.
وقوله تعالى :﴿ إذا رأتهم من مكان بعيد ﴾ يحتمل وجهين :
[ أحدهما ]١ : يجعل لها أسبابا : تراهم بها كما يرونها [ بتلك الأسباب.
والثاني : إذا صار الكفرة ]٢ في مكان بحيث يرونها كأنها رأتهم.
٢ - في الأصل وم، وإذا صار ما..
وقوله تعالى :﴿ مقرنين ﴾ قال بعضهم : مقيدين بعضهم ببعض.
ثم قال بعضهم : الشيطان يقرن، ويقيد : كل بشيطانه الذي دعاه إلى ما دعاه، وأتبعه، كقوله :﴿ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له، شيطانا ﴾ [ الزخرف : ٣٦ ].
وقال بعضهم : يقرن العابد والمعبود من دون الله، وهو الأصنام التي عبدوها كقوله :﴿ احشروا الذين ظلموا ﴾ الآية [ الصافات : ٢٢ ].
وقوله تعالى :﴿ دعوا هنالك ثبورا ﴾ أي هلاكا. والثبور الهلاك كقوله :﴿ وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ﴾ [ الإسراء : ١٠٢ ] أي هالكا. والثبور والويل، هما حرفان، يدعو بهما كل من كان في الهلكة والشدة.
.
وإنما يسألون، ويدعون بالهلاك لما يرجون من الهلاك النجاة من ذلك العذاب. وهكذا كل من ابتلي ببلاء شديد يتمنى الهلاك والموت.
٢ - في الأصل وم: يأتيهم..
وقوله: (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ): يشبه أن يكون قال هذا لقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا، فيقول: أذلك الذي سألتموه أنتم خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون؟! أو يكون قال ذلك لهم لما رأوا لأنفسهم الفضل والمنزلة في الدنيا؛ لما وسع عليهم الدنيا وأعطوا من حطامها، فقال: أذلك الذي أعطيتم في الدنيا من السعة خير، أم جنة الخلد التي أعطي المتقون؟! واللَّه أعلم. وقوله: (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (١٦) يحتمل قوله: (وَعْدًا مَسْئُولًا) مما سألته لهم الملائكة؛ كقوله: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ...) الآية، وسؤال الرسل؛ كقوله: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ..) الآية، أو وعدًا مسئولا مما سألوا ربهم، فوعد لهم ذلك؛ فهذا يدل أنهم إنما يدخلون الجنة بالسؤال والتشفع لهم والتضرع، لا أنهم يستوجبون ذلك بأعمالهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ): في السلاسل وذلك أنهم إذا ألقوا فيها تضايق عليهم كتضايق الزج في الرمح، فالأسفلون يرفعهم اللهب، والأعلون يخفضهم اللهب، فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة فضايق عليهم، فعند ذلك يدعون بالثبور؛ يقولون: يا ثبوراه ويا ويلاه.
وروي مثله عن عبد اللَّه بن عمر، وكان يقول: إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج في الرمح.
وقوله: (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) يقول: ويلا وهلاكا، قال اللَّه تعالى: (لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا): ثم قيل: (أَذَلِكَ خَيْرٌ) يعني: الذي ذكر، (أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً) لأعمالهم، (وَمَصِيرًا) هو أي: منزلا.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: التغيظ: من الغيظ، والزفير: الشهيق يكون في الحلق، وشهق يشهق شهيقًا وشهقا، وهو نفس في الحلق شديد له صوت.
وقال: (ثُبُورًا) أي: إهلاكا، وصرفه: ثبر يثبر ثبرا وثبورا، فهو ثبور.
فهذا يدل أهم إنما يدخلون الجنة بالسؤال والتشفع لهم والتضرع، لا أنهم يستوجبون بأعمالهم.
وقال يدل أنهم إنما يدخلون الجنة بالسؤال والتشفع لهم والتضرع، لا أنهم يستوجبون ذلك بأعمالهم.
وقال بعضهم في قوله :﴿ وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ﴾في السلاسل ؛ ذلك أنهم إذا ألقوا فيها تضايقت عليهم كتضايق الزج في الرمح، فالأسفلون، يرفعهم اللهب، والأعلون، يخفضهم اللهب، فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة، فتضيق٢ عليهم. فعند ذلك يدعون بالثبور ؛ يقولون : يا ثبوراه، ويا ويلاه.
وروي مثله عن عبد الله بن عمر ؛ وكان يقول : إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج في الرمح، وقوله :﴿ دعوا هنالك ثبورا ﴾ يقولون٣ : ويلا، وهلاكا، ويقول٤ الله تعالى :﴿ لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ﴾ ثم يقول :﴿ قل أذلك خير ﴾ يعني الذي ذكر ﴿ أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا ﴾ أي منزلا.
قال أبو عوسجة : التغيظ من الغيظ، والزفير [ والشهيق، يكونان ]٥ في الحلق، وشهق يشهق شهيقا وشهقا، وهو نفس في الحلق شديد، له صوت. وقال :﴿ ثبورا ﴾ أي هلاكا، وصرفه : ثبر يثبر ثبرا، فهو مثبور. وقال القتبي ﴿ تغيظا وزفيرا ﴾ أي تغيظا عليهم. كذلك قال المفسرون.
وقال بعضهم : بل يسمعون فيها تغيظ المعذبين وزفيرهم، واعتبروا ذلك بقول الله تعالى :﴿ لهم فيها زفير وشهيق ﴾ [ هود : ١٠٦ ]. واعتبروه الأولون بقوله :﴿ تكاد تميز من الغيظ ﴾ [ الملك : ٨ ]. وهذا أشبه التفسيرين، إن شاء الله، ولأنه قال :﴿ سمعوا لها ﴾ ولم يقل : سمعوا فيها، ولا : منها.
وقال :﴿ ثبورا ﴾ أي يا للهلكة كما يقول القائل : واهلاكاه، والله أعلم/٣٧٦-أ/.
٢ - في الأصل وم: تضايق..
٣ - في الأصل وم: يقول..
٤ - في الأصل وم: قال..
٥ - في الأصل وم: الشهيق يكون..
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بل يسمعون فيها تغيظ المعذبين وزفيرهم واعتبروا ذلك بقول اللَّه تعالى: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ)، واعتبره الأولون بقوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) هذا أشبه التفسيرين إن شاء اللَّه؛ لأنه قال: (سَمِعُوا لَهَا)، ولم يقل: سمعوا فيها، ولا منها. وقال: (ثُبُورًا) أي: بالهلكة؛ كما يقول القائل: واهلاكاه، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (١٩) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (٢٠)
وقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: نحشر أُولَئِكَ الذين عبدوا دون اللَّه والمعبودين وهم الملائكة؛ لأن من العرب من قد عبدوا الملائكة؛ كقوله في آية أخرى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو عيسى يحشر بينه وبين من عبدوه؛ لأنه قد عبد دون اللَّه فيقول له ما ذكر؛ كقوله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحشر الأصنام ومن عبدها، ثم يأذن لها في الكلام فيقول: (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ)؛ كقوله: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ) إلى قوله: (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ)، ولو كان عيسى - عليه السلام - أو الملائكة لكانوا عالمين بعبادتهم إياهم غير غافلين؛ دل ذلك أنها الأصنام التي عبدوها دون اللَّه وإياها يسألون.
وكل ذلك محتمل؛ إذ قد كان منهم ذلك كله، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ): واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -
ثم نزهوه عن جميع ما لا يليق به، وبرءوا أنفسهم عن أن يكون منهم أمر أو شيء مما نسبه أُولَئِكَ إليهم، وهو أعلم بهم فقالوا: (سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (١٨) قال أهل التأويل: (أَوْلِيَاءَ) أي: أربابًا، وهم لم يتخذوا أربابا من دونه، لكنه عندنا يخرج على وجهين:
أحدهما: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونه أولياء هم المؤمنون.
الثاني: أو أن يكون: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دون ولايتك ولاية سواك.
وفي بعض القراءات: (أن نُتَّخَذَ من دونك أولياء) برفع النون، لكن أهل الأدب يقولون: هو خطأ.
وقوله: (وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ): هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن آباءهم قد أمهلوا ومتعوا في هذه الدنيا، حتى ماتوا على ذلك من غير أن أصابهم شيء مما أوعدوا في كتابهم، ومما أوعدهم الرسل من العذاب والهلاك على ما اختاروا من الدِّين وصنيعهم، فظنوا أنهم على حق من ذلك؛ حيث لم يصبهم من المواعيد المذكورة في كتابهم، أو ما أوعدهم رسلهم بشيء؛ فعلى هذا التأويل الذكر: الذي نسوه هو كتابهم، أو ما أوعدهم رسلهم، واللَّه أعلم.
فإن كان على هذا فالآية في أهل الكتاب منهم.
ويحتمل أن تكون الآية في الفراعنة، والقادة من هَؤُلَاءِ الكفرة متعوا في هذه الدنيا بأحوال ورياسة، ووسع عليهم المعيشة، حتى دعوا الناس وأتباعهم إلى ما هم عليه من التكذيب برسوله وما أنزل عليه، فأجيبوا بالأموال عندهم، فنسوا ما في القرآن من الوعيد.
(وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) والبور: قَالَ بَعْضُهُمْ: الهلاك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: البور: الفساد.
وقوله: (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (١٩) أي: فقد كذبكم أُولَئِكَ، (بِمَا تَقُولُونَ): أنهم أمرونا بذلك، وكانوا عندهم صدقة.
أحدها: أي: ما يستطيع أُولَئِكَ الكفرة صرف قول من عبدوهم وتكذيبهم حين كذبوهم في قولهم.
(وَلَا نَصْرًا) أي: ولا استطاعوا الانتصار منهم حين كذبوهم؛ وعلى ذلك يخرج قراءة من قرأه بالتاء: (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا).
والثاني: يحتمل: (فما يستطعون) أُولَئِكَ المعبودون صرف عذاب اللَّه ونقمته عنكم، ولا كانوا لهم نصراء؛ لأنهم قالوا: (هَؤلَآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّه)، و (مَا نعبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
والثالث: (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا) أي: فداء، (وَلَا نَصْرًا) أي: لا يقبل منهم الفداء، ولا كان لهم ناصر ينصرهم في دفع العذاب عنهم؛ كقوله: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ).
وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الصرف: النافلة، سميت صرفًا لأنها زيادة على الواجب، والعدل: الفريضة. وقد روي في الخبر: " من طلب صرف الحديث ليبتغي به إقبال وجوه الناس، لم يرح رائحة الجنة " أي: من طلب تحسينه بالزيادة فيه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصرف: الدية، والعدل: رجل مثله؛ كأنه يريد: لا يقبل منه أن يفتدي برجل مثله وعدله، ولا يصرف عن نفسه بديته، ومنه قيل: صارفي، وصرف الدرهم بالدنانير؛ لأنك تصرف هذا إلى هذا، وأصله ما ذكرنا.
قَالَ الْقُتَبِيُّ وأبو عبيدة: (قَوْمًا بُورًا)، أي: هلكى، وهو من بار يبور؛ إذا هلك وبطل؛ يقال: بار الطعام، إذا كسد، وبارت الأيم؛ إذا لم يرغب فيها، وفي الخبر: " كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يتعوذ من بوار الأيم ".
قال أبو عبيدة: يقال: رجل بور وقوم بور لا يثنى ولا يجمع.
وقوله تعالى :﴿ فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ﴾ هذا يحتمل وجوها :
أحدهما : أي ما يستطيع أولئك الكفرة صرف قول من عبدوهم١ وتكذيبهم حين كذبوهم قولهم ﴿ ولا نصرا ﴾ أي ولا استطاعوا الانتصار منهم حين كذبوهم. وعلى ذلك تخرج قراءة قرأ بالتاء٢ ﴿ فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ﴾.
[ والثاني ]٣ : يحتمل : فما يستطيع٤ أولئك المعبودون صرف عذاب الله ونقمته عنكم، ولا كانوا لهم نصراء، لأنهم قالوا :﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ [ يونس : ١٨ ] وقالوا٥ :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ].
والثالث :﴿ فما تستطيعون صرفا ﴾ أي فداء ﴿ ولا نصرا ﴾ أي لا يقبل منهم الفداء، ولا كان لهم ناصر، ينصرهم في دفع العذاب عنهم كقوله :﴿ ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ﴾ [ البقرة : ١٢٣ ].
وقال القتبي وأبو عوسجة :[ قال بعضهم : الصرف الحيلة من قولهم لينصرف، و ]٦ قال بعضهم : الصرف النافلة، سميت صرفا لأنها زيادة على الواجب والعدل : الفريضة.
وقد روي في الخبر : " من طلب صرف الحديث ليبتغي به إقبال وجوه الناس لم يرح رائحة الجنة " [ بنحوه الترمذي ٢٦٥٤ ]. أي من طلب تحسينه بالزيادة فيه.
وقال بعضهم : الصرف [ والعدل : الفدية ]٧ : رجل مثله [ كأنه يريد، لا يقبل منه أن يفتدى برجل مثله ]٨ وعدله، و لا يصرف عن نفسه بديته. ومنه قيل :[ صراف : صرف ]٩ الدراهم بالدنانير لأنه١٠ يصرف هذا [ إلى هذا ] ١١. وأصله من ذكرنا.
قال القتبي وأبو عبيدة :﴿ قوما بورا ﴾ أي هلكى، وهو من بار يبور إذا هلك، وبطل، يقال : بار الطعام، إذا كسد، وبارت الأيم إذا لم يرغب فيها. وفي الخبر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من بوار الأيم.
قال أبو عبيدة : يقال : رجل بور، وقوم بور ؛ لا يثنى، ولا يجمع. وقال أبو عوسجة ﴿ قوما بورا ﴾ لا خير فيهم، ورجل بائر. وكذلك قال أبو زيد :﴿ قوما بورا ﴾ ليس فيهم من الخير شيء. وقال قتادة :﴿ قوما بورا ﴾ فاسدين بلغة أهل عمان، وقال : ما نسي قوم ذكر الله قط إلا باروا، وفسدوا.
وقوله تعالى :﴿ ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا ﴾ أما على قول الخوارج، كل ظلم ارتكبه [ امرؤ ]١٢ فهو في ذلك الوعيد على أصل مذهبهم، وعلى قول المعتزلة : كل صاحب كبيرة في ذلك الوعيد. وأما على قول المسلمين : فلذلك الوعيد لمرتكبي الظلم : ظلم [ الكفر والشرك ] ١٣، وأما دون ذلك فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه.
٢ - انظر معجم القراءات القرآنية ج ٤/٢٨٠..
٣ - في الأصل وم: و..
٤ - في الأصل وم: يستطيعون..
٥ - في الأصل وم: و..
٦ - ساقطة من م..
٧ - في الأصل وم: الدية والعدل..
٨ - من م، ساقطة من الأصل..
٩ - في الأصل وم: صار في صرف..
١٠ - في الأصل وم: لأنك..
١١ - من م، ساقطة من الأصل..
١٢ - ساقطة من الأصل وم..
١٣ - في الأصل وم: كفر وشرك..
وقال قتادة: بورا: فاسدين، بلغة أهل عمان، وقال: " ما نسي قوم ذكر اللَّه قط إلا باروا وفسدوا ".
وقوله: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا): أما على قول بعض الخوارج: كل ظلم ارتكبه فهو في ذلك الوعيد على أصل مذهبهم.
وعلى قول المعتزلة: كل صاحب كبيرة في ذلك الوعيد.
وأما على قول المسلمين: فذلك الوعيد لمرتكبي الظلم: ظلم كفر وشرك، وأمَّا ما دون ذلك فهو في مشيئة اللَّه: إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه.
وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (٢٠) قد ذكرنا فيما تقدم أن هذا إنما أخرج جوابًا لقول أُولَئِكَ: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ)، فأخبر أن الرسل الذين كانوا من قبل مُحَمَّد كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق على ما يأكل هو ويمشي.
ثم من الناس من كره الركوب في الأسواق بهذا، وقال: إنه أخبر عن الأنبياء والرسل جملة أنهم كانوا يمشون في الأسواق، لم يذكر منهم الركوب؛ فدل ذلك منهم أنه مكروه منهي عنه؛ فيشبه أن يكون ما قال هَؤُلَاءِ، وأنه يكون مكروهًا؛ لأنه يخرج الركوب في الأسواق مخرج التعزز والمباهاة؛ فالواجب على كل مسلم أن يكون تعززه بالإسلام وبدينه الذي اختاره اللَّه تعالى، وخاصة على العلماء يجب أن يكون تعززهم ومباهاتهم بالعلم الذي أعطاه اللَّه لهم وأكرمهم؛ فإنه عز لا يُعْقِبُهُ ذلاًّ: ولا يورثه صغارا ولا قهرا، وأمَّا كل عز كان سوى ما ذكرنا فهو إلى ذل ما يصير سريعًا، كأنه ليس بعز في الحقيقة، ولو تأصَّل، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً): الفتنة كأنها هي المحنة التي فيها شدة وبلاء.
ثم قال أهل التأويل: إنه لما أسلم عبد اللَّه وأبو ذر وعمار وبلال وصهيب وأمثال هَؤُلَاءِ، قال الفراعنة من قريش نحو أبي جهل والوليد وأمثالهما: انظروا إلى هَؤُلَاءِ الذين اتبعوا محمدا، اتبعوه من موالينا وأعرابنا رذالة كل قوم، فازدروهم وآذوهم واستهزءوا
وقال الحسن: قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) جعل أهل البلوى فتنة لغيرهم وغير أهل البلوى؛ يقول الأعمى: لو شاء اللَّه لجعلني بصيرا مثل فلان، ويقول الفقير؛ لو شاء اللَّه لجعلني غنيًّا مثل فلان؛ وكذلك يقول السقيم: لو شاء اللَّه لجعلني صحيحًا مثل فلان، لكنه أعطى لأهل البلوى البلوى وأمرهم بالصبر عليها، وأعطى لأهل النعمة النعمة وأمرهم بالشكر عليها ".
وجائز أن يكون غير هذا، وهو قريب من هذا، وذلك أنه أعطى بعضا النعمة والسعة، وجعل بعضهم أهل ضيق وشدة، ثم جعل كل فريق محتاجًا إلى الفريق الآخر؛ جعل الغني والمثري محتاجًا إلى الفقير في بعض أموره، والفقير محتاجًا إلى الغني لغناه، وجعل لبعض على بعض مؤنة ما لولا فقر الفقير لا يعرف الغني قدر غناه، ولا الفقير قدر فقره، ولا قام بعض بكفاية مؤنة بعض، ثم أمر كلا بالصبر على تحمل مؤنة الآخر بقوله: (أَتَصْبِرُونَ) أي: اصبروا على الأمر يخرج، وإن كان ظاهره استفهامًا وسؤالا، والله أعلم.
وقوله: (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) أي: على بصر وعلم؛ جعل بعضا فتنة لبعض ليس على سهو وغفلة.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (٢٢) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (٢٧) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (٢٩)
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا): قال أهل التأويل: (لَا يَرْجُونَ) أي: لا يخافون ولا يخشون لقاءنا، أي: البعث بعد الموت.
وقوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا): جائز أن يكون قولهم: لولا أنزل علينا الملائكة رسلا دون أن أنزل البشر رسلا إلينا؛ لإنكارهم البشر رسولا؛ كقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).
ويحتمل قولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ): بالوحي والرسالة لنا دونك، ونحن الرؤساء والملوك والقادة دونك؛ يقولون: لو كان ما تقول حقًّا وصدقًا أنك رسول، وأنه ينزل عليك الوحي والملك فنحن أولى بالرسالة منك؛ إذ نحن الملوك والرؤساء؛ كقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) وأمثال هذه الأفكار.
ثم الرسالة لمن هو دونهم في الدنياوية.
أو أن يكون ذلك؛ كقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) أي: رسول أو نرى ربنا عيانا ونكلمه ونسأله عن ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ): الاستكبار: هو ألا يرى غيره مثلا له، ولا عدلا ولا شكلا في نفسه وأمره، فإن كان هذا فهو ما لم يروا رسول اللَّه أهلا للرسالة وموضعًا لها؛ لفقر ذات يده وحاجته، ورأوا أنفسهم أهلا لها، فاستكبارهم هو ما لم يروا غيرهم مثلا ولا شكلاً لأنفسهم؛ فاستكبروا ولم يخضعوا لرسول اللَّه، ولم يطيعوه، ولم يتبعوه أنفا منه، بعد علمهم أنه محق في ذلك وأنه رسول إليهم.
وقوله: (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: العتو: هو الجرأة، وهو أشدّ من الاستكبار.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: العتو: هو الغلو في القول غلوا شديدًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من التكبر.
وقوله: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (٢٢) قال الحسن: حِجْرًا مَحْجُورًا: كلمة من كلام العرب؛ إذا كره أحدهم الشيء قال: حجرًا حرام هذا، فإذا رأوا الملائكة كرهتهم، وقال: حِجْرًا مَحْجُورًا، فعلى هذا القول الكفرة هم يقولون:
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الملائكة يتلقون المؤمنين بالبشرى على أبواب الجنة، ويقولون للكفرة: لا بشرى لكم، ويقولون: حِجْرًا مَحْجُورًا، أي: تقول الملائكة: حرام البشرى للمجرمين، أو حرام عليهم الجنة أن يدخلوها، والحجر على هذا القول هو الحرام.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحجر هاهنا هو المنع والحظر، يقولون: إنهم يمنعون ويحظرون عما طمعوا وقصدوا بعبادتهم الملائكة والأصنام التي عبدوها، حيث قالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، فيقول: يمنع عنهم ما قصدوا وطمعوا بعبادتهم.
أو يكون المنع: ثواب الخيرات التي عملوها في هذه الدنيا من صلة الأرحام والصدقات ونحوها، مما هي في الظاهر خيرات منعوا ثوابها في الآخرة؛ كقوله: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)، وقوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى)، ونحو ذلك كله، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣) هو ما ذكرنا من الأعمال عملوها في هذه الدنيا رجاء أن يصلوا إليها في الآخرة، فجعلناها هباء منثورا.
قال أهل التأويل: (وَقَدِمْنَا) أي: عمدنا وقصدنا إلى ما عملوا من عمل.
لكن عندنا: جعلنا أعمالهم تلك في الأصل هباء منثورا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: منبثا وهو رهج الدواب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الهباء المنثور: هو غبار الثياب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الغبار الذي يكون في شعاع الشمس، وهو الذي يسمى: الذر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (حِجْرًا مَحْجُورًا) أي: عوذا معاذا، يقول: المجرمون يستعيذون من الملائكة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الشدة واليبس؛ كقوله: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي: يابسا.
وقال: (حِجْرًا مَحْجُورًا) أي؛ حراما محرمًا، وحجرت عليه ماله، أي: منعته من ماله أحجر حجرا. ويقال: حجرت عينه، أي: لطخت أجفانها بشيء من الدواء.
وقوله: (هَبَاءً مَنْثُورًا) أي: لا شيء، والهباء: هباء النار، أي: رمادًا يكون على أعلى النار إذا خمدت ويقال: هبت النار تهبو هبوا إذا خمدت والجمرة على حالها، إلا أنه قد غطاه ذلك الهباء، وكل شيء ليس لشيء فهو هباء، وتقول: هذا هباء، أي: لا شيء، ومنثور: قد نثر.
وقوله: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (٢٤) وصف عَزَّ وَجَلَّ أعمال الكفرة مرة بالهباء المنثور، ومرة بالرماد، ومرة بالسراب، ومرة بالتراب الذي يكون على الصفوان، وهو الحجر الأملس إذا أصابه الوابل. ووصف أعمال المؤمنين بالثبات والقرار ونحوه.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة ثم قرأ: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا). وكذلك ذكر في حرفه في سورة الصافات: (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) قرأ هو: (إن مقيلهم لإلى الجحيم) أي: إلى الجحيم.
ويشبه أن يكون ذكر هذا لقولهم: (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) أي: لنا أموال وجنات، وليس له من ذلك شيء، فقال جوابا لهم: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا).
وقوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (٢٥) وصف السماء لهول ذلك اليوم بأوصاف وذكر لها أحوالا، فقال في آية أخرى: (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ)، و (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، و (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)، وقال: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ)، و (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ)، ونحو ذلك، وذلك في اختلاف الأوقات، يكون في كل وقت على الحال التي وصف؛ وكذلك ما
وذلك في اختلاف الأوقات، يكون في كل وقت على الحال التي وصف، وكذلك ما وصف [ الجبال ] ٤ مرة بالهباء المنثور [ بقوله :﴿ فكانت هَباءً منبثّاً ﴾ [ الواقعة : ٦ ] وشبهها مرة بالعِهْن ﴿ المنفوش ﴾ [ القارعة : ٥ ] ] ٥ ومرة [ قال ]٦ :﴿ كَِثيباً مَهِيلاً ﴾ [ المزمل : ١٤ ] ومرة قال :﴿ وترى الجبالَ تحسبها جامدةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السّحاب ﴾ الآية [ النمل : ٨٨ ] ونحوه من الأوصاف التي وصفها، وذلك في أوقات مختلفة ؛ تكون في كل وقت على حال ووصف.
فعلى ذلك السماء لشدة هول ذلك اليوم وفزعه.
وقوله تعالى :﴿ ويوم تشقق السماء بالغمام ﴾ أي تنشق عن الغمام، فتبقى بلا غمام كقوله :﴿ إذا السماء انشقت ﴾ [ الانشقاق : ١ ].
وجائز أن يكون قوله :﴿ بالغمام ﴾ أي يبقى الغمام فوق رؤوس الخلائق يظلهم. وهذا يدل على أن قوله ﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ﴾ [ البقرة : ٢١٠ ] إنما معناه : بظلل من الغمام.
فإن كان على هذا فيرتفع الاشتباه، والله أعلم.
٢ - في الأصل وم: و..
٣ - في الأصل وم: و..
٤ - ساقطة من الأصل وم..
٥ - من م، ساقطة من الأصل..
٦ - من م، ساقطة من الأصل..
وقوله: (تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) أي: تنشق عن الغمام فتبقى بلا غمام؛ كقوله: (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ).
وجائز أن يكون قوله: (تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) أي: يبقى الغمام فوق رءوس الخلائق يظلهم، وهذا يدل أن قوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) إنما معناه: بظلل من الغمام؛ فإن كان على هذا فيرتفع الاشتباه، واللَّه أعلم.
وقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (٢٦) يحتمل إضافة ملك ذلك اليوم إليه، وإن كان الملك له في جميع الأيام في الدنيا والآخرة - وجوهًا:
أحدها: لما أن ملك الآحنرة ملك دائم باق بلا فناء له، وملك الدنيا جعله فانيا لا دوام ولا بقاء له.
والثاني: لما يقر له جميع الخلائق بالملك له في ذلك اليوم، وإن لم يقر له البعض بملك الدنيا.
والثالث: لما لا ينازعه أحد في ملك ذلك اليوم، وإن كان له منازع في الدنيا.
أو أن يكون المقصود بخلق هذا العالم في ذلك اليوم يظهر للخلق، ويومئذ يعلم كل أن خلقهم في الدنيا لذلك اليوم كان، لا للدنيا خاصة.
وقوله: (لِلرَّحْمَنِ): ذكر هنا الرحمن، وقال في آية أخرى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)؛ لتعلم العرب أن الرحمن المذكور في هذه الآية هو اللَّه الذي لا إله إلا هو ذكر في تلك الآية؛ لأن العرب تسمي وتعرف كل معبود: إلها، ولا تعرف الرحمن معبودا ولا تسميه الرحمن، فعرفهم أن اللَّه والرحمن اللذين ذكرهما واحد.
وقوله: (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا): ظاهر لا شك فيه فكذلك يكون.
وقوله: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (٢٧) قال بعض أهل التأويل: نزلت الآية في عقبة بن أبي معيط؛ كان يؤاخي رسول الله ويواده، وكان رسول اللَّه يجيبه إذا دعاه إلى طعامه، فدعا يوما رسول اللَّه إلى طعامه
ولكن الآية في كل ظالم وكل كافر يكون على ما ذكر. ثم يحتمل قوله :﴿ يعض الظالم على يديه ﴾ على التمثيل والكناية عن الندامة والحسرة، لأن من اشتدت به الندامة والحسرة والغيظ على شيء، يكاد يعض يديه غيظا منه على ذلك، كما كنى بغلّ اليد عن ترك الإنفاق، وبالبسط عن كثيرة الإنفاق والمجاوزة فيه، وكما كنى بالنبذ وراء الظهر عن ترك الانتفاع وقلة النظر فيه والاكتراث إليه كقوله :﴿ نكص على عقبيه ﴾ [ الأنفال : ٤٨ ] عن الرجوع ونحوه وقوله :﴿ يرُدُّوكمْ على أعْقابكم ﴾ [ آل عمران : ١٤٩ ] وقوله :﴿ فنَزِلَّ قََدَم بعْد ثُُبُوتها ﴾ [ النحل : ٩٤ ] وأمثال هذا على التمثيل والكناية عن الرجوع والثبات والأخذ والترك.
فعلى ذلك جائز أن يكون عض الأيدي كناية عن شدة الندامة والغيظ على ما حل به.
ويشبه أن يكون على التحقيق تحقيق عض اليد [ إذ ]٣ يجعل الله عقوبته بعضٍّ اليد كما جعل عقوبة أنفسهم بأنفسهم حين٤ جعل أنفسهم حطبا للنار، يعذبون، ويعاقبون، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ﴾ السبيل الذي دعاه الرسول إليه.
٢ - من م، في الأصل: فعير..
٣ - ساقطة من الأصل وم..
٤ - في الأصل وم: حيث..
وذكر أن عقبة وأبي بن خلف قتلا: أحدهما يوم بدر، والآخر يوم أحد، ولكن الآية في كل ظالم وكل كافر يكون على ما ذكر.
ثبم يحتمل قوله: (يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) وعلى التمثيل، والكناية عن الندامة والحسرة؛ لأن من اشتد به الندامة والحسرة والغيظ على شيء كاد أن يعض يديه غيظًا منه على ذلك؛ كما كنى بغل اليد عن ترك الإنفاق، وبالبسط عن كثرة الإنفاق والمجاوزة فيه؛ وكما كنى بالنبذ وراء الظهر عن ترك الانتفاع وقلة النظر فيه والاكتراث إليه؛ كقوله: (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ)، عن الرجوع ونحوه، وقوله: (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، وقوله (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)، وأمثال هذا على التمثيل والكناية عن الرجوع والثبات والأخذ والترك؛ فعلى ذلك جائز أن يكون عض الأيدي كناية عن شدة الندامة والغيظ على ما حك به.
ويشبه أن يكون على التحقيق: تحقيق عض اليد، يجعل اللَّه عقوبته بعض اليد؛ كما جعل عقوبة أنفسهم بأنفسهم؛ حيث جعل أنفسهم حطبا للنار يعذبون ويعاقبون، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا): السبيل الذي دعاه الرسول إليه.
(يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (٢٨) يحتمل الإنسان، ويحتمل الشيطان، أي: لم أتخذ الشيطان خليلا، ولم أطعه فيما دعا، أو الإنسان الذي قلده فيما قلده.
وقوله: (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (٢٩) يحتمل قوله: (عَنِ الذكْرِ) أي: الشرف الذي يذكر به المرء، أضلني عن ذلك الشرف، أو أضلني عما يذكرني هذا، أو أضلني عن الذكر، أي: عن القرآن: وما فيه من الذكرى، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) أي: تاركا له متبرئًا منه، يقول كما قال في آية أخرى حكاية عنه: (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ)، ويقول كما قال: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ...) الآية، أو أن يكون كما ذكر: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ...) الآية.
أو أن يكون ذلك الخذلان منه له في الدنيا يمنيه بأماني ويزين له أشياء، ثم لا يوصله إليها.
وقوله تعالى :﴿ وكان الشيطان للإنسان خذولا ﴾ أي تاركا له متبرئا منه ؛ يقول كما قال في آية أخرى حكاية عنه :﴿ إني بريء منك ﴾ [ الحشر : ١٦ ] ويقول كما قال :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ] أو يكون كما ذكر :﴿ ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ﴾ الآية [ العنكبوت : ٢٥ ] أو يكون ذلك الخذلان [ منه له ]١ في الدنيا [ إذ ]٢ يمنيه بأمان [ ويزين له ]٣ أشياء، ثم لا يوصله إليها.
٢ - ساقطة من الأصل وم.
٣ - في الأصل وم: ويزينه..
وقوله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: المهجور: هو الذي لا ينتفع ولا يعمل به وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: مهجورًا أي: تركوه مهجورا، أي: متروكا، ويقال: مهجورا أي: كالهذيان، والهجر الاسم يقال: فلان يهجر في منامه، أي: يهذي، وهو بالفارسية " بلايه كفتى ".
وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (٣١) أي: مثل الذي جعلنا لك من العدو من الكفرة جعلنا لكل نبي من قبلك عدوًّا.
ثم العداوة تكون في الدِّين مرة، ومرة في الأنفس وأحوالها.
فإن كان العدو عدوا في الدِّين، فجميع الكفرة له أعداء لخلافهم له في الدِّين، ويكون حرف (مِن) صلة، أي: جعلنا لكل نبي المجرمين أعداء.
وإن كان على تحقيق (مِن) وإثباتها فالعداوة عداوة في الدِّين والإخوان، وذلك راجع إلى الفراعنة وأضداد الرسل، ما من رسول إلا وله فراعنة وأضداد ينازعونه ويقاتلونه ويهمون قتله.
ثم بشر رسوله بالحفظ له والنصر والظفر على أعدائه، وهو قوله: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا).
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (٣٢) ذكر أهل التأويل أن أهل مكة كانوا يأتون رسول اللَّه فيتبعونه ويسألونه ويقولون: يا مُحَمَّد، أتزعم أنك رسول من عند اللَّه، أفلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة؛ كما أنزلت التوراة جملة واحدة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود فقال: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ
ثم العداوة، تكون في الدين مرة، ومرة في الأنفس وأحوالها. فإن كان العدو عدوا في الدين فجميع١ الكفرة له أعداء لخلافهم له في الدين، ويكون حرف : من صلة، أي جعلنا لكل نبي المجرمين أعداء.
وإن كان على تحقيق من وإثباتها فالعداوة عداوة في [ الأنفس وأحوالها ]٢ وذلك راجع على الفراعنة وأضداد الرسل : ما من رسول [ إلا ]٣ وله فراعنته، وأضداده، ينازعونه، ويقاتونه [ ويهمون بقتله ]٤.
ثم بشر رسوله بالحفظ له والنصر والظفر على أعدائه، وهو قوله :﴿ وكفى بربك هاديا ونصيرا ﴾.
٢ - في الأصل وم: الدين والأحوال..
٣ - ساقطة من الأصل وم..
٤ - في الأصل وم: ويهمونه قتله..
فقال تعالى :﴿ كذلك لنثبت/ ٣٧٧- ب/ به فؤادك ورتلناه ترتيلا ﴾ أي بمثل الذين نثبت به فؤادك. ثم يحتمل قوله تعالى :﴿ لنثبت به فؤادك ﴾ وجهين :
أحدهما : أنزلناه متقربا لنثبته في فؤادك، فتحفظه١، وتذكره، لأن حفظ الشيء إذا كان سماعه بالتفاريق، كان حفظه أهون وأيسر من حفظه إذا سمع جملة واحدة وخاصة إذا كان الكلام من أجناس وأنواع.
والثاني :﴿ لنثبت به فؤادك ﴾ أي لنثبت بما في القرآن من الحكمة والمعاني فؤادك.
ثم يحتمل قوله :﴿ فؤادك ﴾ أنه يراد به فؤاد من يستمع إليه، ويسمعه. فإن كان هذا فهو كقوله :﴿ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ﴾ الآية [ الإسراء : ١٠٦ ] على ما ذكرنا أنه يكون أسرع حفظا وأهون ثباتا من سماعه جملة. [ به ]٢ فؤاده كقوله :﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به ﴾ ﴿ إن علينا جمعه وقرآنه ﴾ [ القيامة : ١٦- و١٧ ] وقوله :﴿ سنقرئك فلا تنسى ﴾ ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ الآية [ الأعلى : ٦ و٧ ] كان يعجل بحفظه إذا قرئ عليه خوفا أن يذهب، فأخبره أنه يثبت فؤاده٣، وينزله بالتفاريق لكي يحفظه ويذكره.
ثم إن كان المراد تثبيته في الفوائد، هو ما فيه من الحكمة والمعاني وقراءته على الناس على مكث كذلك، فهو، والله أعلم، ينزله على قدر النوازل والحوائج ليكونوا أحفظ لتلك المعاني وأعرف بمواضعها وتقدير غيرها من النوازل به من أن ينزل جملة في دفعة واحدة، والله أعلم.
٢ - ساقطة من الأصل وم..
٣ - من م، في الأصل: فؤادك..
أي: بمثل الذي نثبت به فؤادك.
ثم يحتمل قوله: (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) وجهين:
أحدهما: أنزلناه متفرقًا لنثبته في فؤادك تحفظه وتذكره؛ لأن حفظ الشيء إذا كان سماعه بالتفاريق كان حفظه أهون، وأيسر من حفظه إذا سمع جملة واحدة، وخاصة إذا كان الكلام من أجناس وأنواع.
والثاني: (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) أي: لنثبت بما في القرآن من الحكمة والمعاني فؤادك.
ثم يحتمل قوله: (فُؤَادَكَ) أنه يراد به: فؤاد من يسمع إليه ويسمعه، فإن كان هذا فهو كقوله: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ...) الآية، على ما ذكرنا أنه يكون أسرع حفظًا وأهون ثباتًا من سماعه جملة.
وجائز أن يكون أراد فؤاده؛ كقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧). وقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) كان يعجل بحفظه إذا قرئ عليه؛ خوفًا أن يذهب، فأخبره أنه يثبت فؤاده وينزله بالتفاريق؛ لكي يحفظه ويذكره.
ثم إن كان المراد تثبيته في الفؤاد: هو ما فيه من الحكمة والمعاني وقراءته على الناس على مكث كذلك فهو - واللَّه أعلم - ينزله على قدر النوازل والحوائج؛ ليكونوا أحفظ لتلك المعاني وأعرف بمواضعها، وتقدير غيرها من النوازل بها من أن نزل جملة في دفعة واحدة، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (٣٣) أي: بصفة يشبهون بها على الخلق إلا جئناك بصفة هي أحق مما أتوا بها هم، فترفع تلك الشبهة عنهم، أعني: عن الخلق.
أو أن يقال: ولا يأتونك بصفة هي باطل إلا جئناك بحق - أي: بصفة هي حق - فتبطل تلك وتضمحل.
(وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) أي: بيانًا من الأول؛ على التأويل الأول، وعلى التأويل الثاني ظاهر لا شك أنه أحسن وأحق.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) أي: أنزلنا بعضه بعد بعض، وعلى أثر بعض، لم ننزله في مرة واحدة؛ وكذلك قال في قوله: (وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)، قال: لا يخاصمونك بشيء ولا يجادلونك إلا جئناك بالحق -يعني: القرآن- (وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)، يقول: جئناك بالقرآن بأحسن مما جاءوا به تفسيرا، وهو قريب مما ذكرنا بدءًا.
وفي حرف حفصة: (إلا جئناك بأحق منه وأحسن تفسيرا)، وهو شبيه ببعض التأويلات التي ذكرناها.
وقوله: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا) يشبه أن يكون ذكر هذا على مقابلة سبقت، وإلا على الابتداء لا يستقيم ذكره؛ فجائز أن يكون ذكره على مقابلة قوله: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا...) الآية، هذا ذكر مقام أهل الجنة، فذكر مقابل ذلك مكان أهل النار، فقال: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي: شر مكانا في الآخرة، وأضل سبيلا في الدنيا، ويكون مقابل قوله: (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)، فقال (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا)، من الذين آمنوا، بل مقامهم الجنة -أعني: المؤمنين- ومقام الكفرة النار، فهم شر مكانًا منهم.
وفي بعض الأخبار: أن رجلا قال: يا نبي اللَّه، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: " إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه ".
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٣٧) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (٣٨) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (٤٠)
وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) أي: التوراة، (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا): ذكر هاهنا أنه كان وزيرا له، وذكر في آية أخرى: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ)، وفي آية أخرى: أنه كان نبيًّا حيث قال: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا)، فكان ما ذكر ذلك كله نبيًّا ورسولا، وكان له وزيرا، والوزير هو العون والعضد، فإنه قال: (وَجَعَلْنَا مَعَهُ
فكان [ في ]٢ ما ذكر ذلك كله نبيا ورسولا. وكان له وزيرا، والوزير هو العون والعضد، كأنه قال : وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا عونا وعضدا كقوله :﴿ واجعل لي وزيرا من أهلي ﴾ ﴿ هارون أخي ﴾ ﴿ اشدد به أزري ﴾ ﴿ وأشركه في أمري ﴾ [ طه : ٢٩ و٣٢ ] سأل ربه المعونة له والإشراك في أمره.
وقال :﴿ فأرسله معي ردءا يصدقني ﴾ [ القصص : ٣٤ ].
وقال الزجاج : الوزير هو الذي يلتجأ إليه في النوائب، ويعتصم بأمره، وهو واحد.
٢ - ساقطة من الأصل و م..
وقال الزجاج: الوزير هو الذي يلجأ إليه في النوائب ويعتصم بأمره؛ وهو واحد.
وقوله: (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (٣٦) أي: أهلكناهم إهلاكا.
وقوله: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ... (٣٧) جائز أن يكون قوله: (لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) نوحًا خاصة؛ لأنه ذكر قوم نوح، فإن كان ذلك، ففيه دلالة جواز تسمية الواحد باسم الجماعة.
وجائز أن يكون نوح دعاهم إلى الإيمان وتصديق الرسل، فكذبوه وكذبوا الرسل جميعًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَغْرَقْنَاهُمْ): لم يغرقهم على أثر تكذيبهم إياه، ولكن إنما أغرقهم بعدما دعاهم ألف سنة إلا خمسين عامًا.
وقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً): يحتمل قوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أي: آية للمكذبين والمصدقين، لما بين حكمه في المكذبين منهم: الإهلاك والاستئصال، وفي المصدقين منهم: النجاة والخلاص منه، فذلك آية لكل مكذب ومصدق؛ لما إليه يئول عاقبة أمرهم: عاقبة المكذبين: الإهلاك، وعاقبة المصدقين: النجاة.
فَإِنْ قِيلَ: إنهم جميعًا قد هلكوا المصدقون منهم والمكذبون، قيل: أهلك المكذبون منهم إهلاك عقوبة وتعذيب، والمصدقون هلاكهم بانقضاء آجالهم لا هلاك عقوبة.
ثم ذكر: (وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) فمعنى جعل أنفسهم آية ما ذكرنا.
وقال في آية أخرى: (وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) أي: السفينة.
قَالَ بَعْضُهُمْ: جعل السفينة آية؛ لأن من طبع السفن أنها إذا امتدت الأوقات وطال الزمان أنها تفسد وتتلاشى، وهي بعد باقية كما هي -أعني: سفينة نوح- لكن ذلك لا يعلم أنه كما ذكر أو لا، فالوجه فيه ما ذكرنا.
وقوله: (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا): هكذا جزاء كل ظالم -ظلم كفر وشرك- أن يعد له العذاب الأليم.
وقوله تعالى :﴿ أغرقناهم ﴾ لم يغرقهم على إثر تكذيبهم إياه، ولكن إنما أغرقهم بعد ما دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما.
وقوله :﴿ وجعلناهم للناس آية ﴾ يحتمل قوله :﴿ وجعلناهم للناس آية ﴾ أي آية للمكذبين والمصدقين ] لما بين حكمه : في المكذبين ]٣ منهم الإهلاك والاستئصال، وفي المصدقين منهم النجاة [ والخلاص. فذلك آية لكل مكذب ومصدق لما إليه تؤول عاقبة أمرهم : عاقبة المكذبين الإهلاك، وعاقبة المصدقين النجاة ]٤.
فإن قيل : إنهم جميعا، قد هلكوا : المصدقون منهم والمكذبون قيل : أهلك المكذبون منهم إهلاك عقوبة وتعذيب [ وهلاك المصدقين ]٥ بانقضاء آجالهم لا هلاك عقوبة.
ثم ذكر ﴿ وجعلناهم للناس آية ﴾ فمعنى جعل أنفسهم آية ما ذكرنا. وقال آية أخرى ﴿ وجعلناها آية للعالمين ﴾ [ العنكبوت : ١٥ ] أي السفينة.
قال بعضهم : جعل السفينة آية لأن من طبع السفن أنها إذا امتدت الأوقات، وطال الزمان، تفسد٦، وتتلاشى، وهي بعد باقية كما هي ؛ أعني سفينة نوح. لكن ذلك لا يعلم أنه كما ذكر أو : لا. فالوجه فيه ما ذكرنا.
وقوله تعالى :﴿ وأعتدنا للظالمين عذابا أليما ﴾ هكذا جزاء كل ظالم ظلم كفر وشرك أن يعد له العذاب الأليم.
٢ - ساقطة من الأصل وم..
٣ - من م، ساقطة من الأصل..
٤ - من م، ساقطة من الأصل..
٥ - في الأصل م: والمصدقين..
٦ - أدرج قبلها في الأصل وم: أنها..
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرس: هو اسم لبئر كانوا نزولا عليها، فبعث إليها شعيبًا فكذبوه، فسموا بذلك ونسبوا إلى تلك البئر.
وعن ابن عَبَّاسٍ: أنه سأل كعبًا عن أصحاب الرس فقال: إنكم معاشر العرب تدعون البئر: رسا، والقبر: رسا، وتدعون الخد: رسا، فخدوا خدودًا في الأرض فأوقدوا فيها النيران للرسولين اللذين ذكر اللَّه في يس: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (٣٩) أي: ذكرنا لأهل مكة أمثال من تقدم منهم من الأمم من المكذبين والمصدقين، وما حل بهم وما إليه آل عاقبة أمورهم بالتكذيب، حيث قال: (وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) أي: أهلكنا إهلاكا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (تَبَّرْنَا) أي: كسرنا بالنبطية، يقول أحدهم للشيء إذا أراد أن يكسره: أتبره.
وقوله: (وَلَقَدْ أَتَوْا... (٤٠) يعني واللَّه أعلم: أهل مكة، (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ): وهي الحجارة، يعني - واللَّه أعلم -: قريات لوط، أي: يمر عليهم أهل مكة في تجارتهم ويأتونها؛ وهو كما قال في الصافات: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ...).
(أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا): ما حلَّ بهم بالتكذيب فيعتبروا، (بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا) أي: بعثًا بعد الموت وإحياء، أي: إنما كذبوا الرسل؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث ولا يخافون نشورا.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (٤١) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ
٢ - في الأصل وم: للشيء..
[ وقوله تعالى ]٢ :﴿ أفلم يكونوا يرونها ﴾ ما حل بهم بالتكذيب فيعتبروا، ﴿ بل كانوا لا يرجون نشورا ﴾، أي بعثا بعد الموت وإحياء. إنما كذبوا الرسل لأنهم لا يؤمنون بالبعث، ولا يخافون نشورا.
٢ - ساقطة من الأصل وم..
وقوله: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (٤١) كانوا إذا رأوه هزئوا به، إذا خلا بعضهم إلى بعض يقولون فيما بينهم: أبعث اللَّه بشرًا رسولا، هكذا كانت عادة الكفرة يهزءون به إذا حضروه، وإذا غابوا عنه قالوا ما ذكر.
وقوله: (إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٢) في قوله: (إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا) دلالة أنه إنما أراد أن يضلهم عن عبادتهم الأصنام بالحجج والآيات؛ إذ ليس في وسع النبي صرفهم ومنعهم عن ذلك إلا من وجه لزوم الآيات والحجج، إلا أنهم رفضوا تلك الآيات والحجج، وكابروها وثبتوا على عبادة الأصنام والأوثان، وإلا علموا -من جهة الآيات والحجج التي أقامها عليهم- أنه على الحق، وأنهم على باطل.
ثم قوله: (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) أي: يعلمون حين لا يقدرون على الجحود والإنكار إذا أنزل بهم العذاب، ووقع: من أضل سبيلا هم أو المؤمنون؟ لأنهم وإن علموا بالآيات والحجج أنه على الحق، وأنهم على باطل، وعلموا الموعود من العذاب فأخبر أنهم يعلمون عند وقوعه بهم علما لا يقدرون على جحوده ولا إنكاره؛ كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) وهذه الآية، وقوله: (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، وقوله: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا)، وأمثال ذلك إذا عاينوا الموعود في الدنيا يقرون به لا يقدرون على الجحود؛ فكذلك قوله: (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) علما لا يقدرون على الإنكار والجحود (حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا).
وقوله: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (٤٣) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا يعبدون أشياء حجرًا أو غيره، فإذا رأوا أحسن منه في رأي العين والمنظر، تركوا عبادة ذاك، وعبدوا ما هو أحسن منه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كلما هوت أنفسهم شيئًا عبدوه، وكلما اشتهوا شيئًا أتوه، لا يحجزهم عن ذلك ورع ولا تقوى لله.
ويحتمل وجهين آخرين سوى ما ذكر هَؤُلَاءِ:
أحدهما: تركوا عبادة الإله الذي قامت الحجج والآيات بألوهيته وربوبيته، ولزموا
[ وفي ]٢ قوله تعالى :﴿ إن كاد ليضلنا عن ﴾ عبادة ﴿ آلهتنا ﴾ دلالة أنه إنما أراد أن يضلهم عن عبادتهم الأصنام بالحجج والآيات ؛ إذ ليس في وسع النبي صرفهم ومنعهم عن ذلك إلا من وجه لزوم الآيات والحجج [ إلا أنهم عاندوا تلك الآيات والحجج ]٣ وكابروها، وثبتوا على عبادة الأصنام والأوثان. وإلا علموا من جهة الآيات والحجج التي أقامها عليهم أنه على الحق وأنهم على باطل.
ثم قوله تعالى :﴿ وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ﴾ أي يعلمون حين لا يقدرون على الجحود والإنكار إذا نزل بهم العذاب، ووقع ﴿ من أضل سبيلا ﴾ هم أو المؤمنون لأنهم٤ علموا بالآيات والحجج أنه على حق وأنهم على باطل وعلموا الموعود من العذاب.
فأخبر أنهم يعلمون عند وقوعه بهم علما، لا يقدرون على جحوده ولا إنكاره كقوله :﴿ فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ﴾ [ غافر : ٨٤ ] وهذه الآية وقوله :﴿ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ﴾ [ السجدة : ١٢ ] وأمثال ذلك إذا عاينوا الموعود في الدنيا يقرون به، لا يقدرون على الجحود ؛ فكذلك قوله :﴿ وسوف يعلمون ﴾ [ علما ]٥ لا يقدرون على الإنكار والجحود ﴿ حين يرون العذاب من أضل سبيلا ﴾.
٢ - في الأصل وم: و..
٣ - من م، ساقطة من الأصل..
٤ - أدرج بعدها في الأصل وم: وإن..
٥ - من، ساقطة من الأصل..
وقال بعضهم : كلما هوت أنفسهم شيئا عبدوه، وكلما اشتهوا شيئا أتوه، لا يحجرهم عن ذلك ورع ولا تقوى الله.
ويحتمل وجهين آخرين سوى [ ما ]١ ذكر هؤلاء :
أحدهما : تركوا عبادة الإله الذي قامت الحجج والبراهين بألوهيته وربوبيته، ولزموا عبادة من لم تقم له الآيات والحجج بذلك بهواهم.
والثاني : أنهم عبدوا [ ما عبدوا ]٢ من الأصنام بلا أمر كان لهم بالعبادة [ إذ ]٣ لابد من أمر [ يأتمرون به ]٤ بل عبدوا بهواهم أو كلام نحو هذا.
وقوله تعالى :﴿ أفأنت تكون عليه وكيلا ﴾ أي لستَ أنت بوكيل ومسلَّط عليهم، ولا حافظ، أي لا تسأل أنت عن أعمالهم، ولا تحاسَبُ عليها، بل هم المسؤولون عنها، وهم مُحاسبون عليها كقوله :﴿ ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء ﴾ [ الأنعام : ٥٢ ] وكقوله :﴿ فإن تولوا فإنما عليه ما حمل ﴾ الآية [ النور : ٥٤ ] والله أعلم.
٢ - من م، ساقطة من الأصل..
٣ - ساقطة من الأصل وم..
٤ - في الأصل وم: يؤتمر به..
والثاني: أنهم عبدوا ما عبدوا من الأصنام بلا أمر كان لهم بالعبادة؛ لا بد من أمر يؤتمر بها، بل عبدوا بهواهم، أو كلام نحو هذا.
وقوله: (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) أي: لست أنت بوكيل ولا مسلط عليهم ولا حافظ، أي: لا تسأل أنت عن أعمالهم ولا تحاسب عليها، بل هم المسئولون عنها، وهم محاسبون عليها؛ كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)؛ وكقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ...) الآية، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٤) قوله: (أَمْ تَحْسَبُ) إن كان في الظاهر استفهامًا، فهو في الحقيقة على الإيجاب، وهكذا كل استفهام من اللَّه يخرج على الإيجاب أو على النهي؛ كأنه قال: قد حسبت أكثرهم يسمعون أو يعقلون، أي: لا ينتفعون بما يعقلون.
(إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: كالأنعام لأن همتهم ليست إلا كهمة الأنعام، وهو الأكل والشرب، ليست لهم همة سواه، ليس للأنعام همة العاقبة، فعلى ذلك الكفرة فهم كالأنعام من هذه الجهة.
وقوله: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ): قال قائلون: قوله: (أَضَلُّ) لأن الأنعام تعرف ربها وخالقها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه.
أو هم أضل لأنهم ينسبون إلى اللَّه ما لا يليق به من الولد والشريك، ويشركون غيره في العبادةِ والأنعامُ لا، فهم أضل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم أضل؛ لأن الأنعام إذا هديت الطريق اهتدت، وهم يهدون ويدعون إلى الطريق فلا يهتدون ولا يجيبون فهم أضل.
أو أن يقال: هم أضل لأنهم يَضلون وُيضلون غيرهم ويمنعونهم عن الهدى، والأنعام لا، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (٤٥) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (٤٩)
وقوله: (أَلَمْ تَرَ): قد ذكرنا في غير موضع أن حرف (أَلَمْ تَرَ) هو حرف تعجب واستفهام، لكن في الحقيفة على الإيجاب، أي: قد رأيت.
وقوله تعالى :﴿ ألم تر إلى ربك ﴾ أي إلى تدبير ربك ولطفه٢ :﴿ كيف مد الظل ﴾ وهو لا يؤذي، ولا يضر، ولا يمس ولا يشعر به أحد، ولا يخف، ولا يستر، ولا يكشف عن وجود الأشياء.
[ إنما النور ]٣ هو الكاشف عن وجوه الأشياء، والظلمة هي الساترة لذلك.
ونحو ذلك مما يكثر ذكره مما يحيط بالخلائق كلها ليعمل أن [ من ]٤ المحسوسات التي تقع عليها الحواس ما لا تدرك حقيقته : من نحو الظل الذي ذكرنا. هو ما [ لا ]٥ تدرك حقيقته، ومن نحو السمع والبصر والعقل والنطق ليعلم أن الذي سبيل معرفته الاستدلال، وهو منشئ هذه الأشياء، أحق ألا يدرك، ولا يحاط بتدبيره ولطفه، ليعلم أن من بلغ تدبيره ولطفه هذا المبلغ، لا يحتمل أن يعجزه شيء، أو يخفى عليه شيء ؛ يخبر عن قدرته و تدبيره ولطفه ليعلم أنه قادر ومدبر [ ولطيف بذاته ]٦.
وقوله تعالى :﴿ ولو شاء لجعله ساكنا ﴾ أي دائما٧، لا يذهب أبدا، ولا تصيبه الشمس، ولا يزول.
وقال بعضهم :﴿ ساكنا ﴾ أي مستقرا دائما، لا تنسخه الشمس كظل الجنة.
وقوله تعالى :﴿ ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ﴾ [ قال بعضهم : أي تليه، وتتبعه، حتى تأتي على كله. وقال بعضهم : قوله :﴿ ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ﴾ ]٨ يقول : حيثما [ تكن الشمس يكن ]٩ الظل.
وأصله : أنه بالشمس يعرف الظل أن ظل، ولولا الشمس ما عرف الظل. فهي دليل معرفته وكونه أنه ظل.
٢ - أدرج بعدها في الأصل وم: أن..
٣ - من م، ف يالأصل: والظلمة..
٤ - من م، ساقطة من الأصل..
٥ - من م، ساقطة من الأصل..
٦ - في الأصل وم: بذاته لطيف..
٧ - في الأصل وم: دائبا..
٨ - من م، ساقطة من الأصل..
٩ - في الأصل: يكون، في م: تكون الشمس يكون..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا) أي: دائبًا لا يذهب أبدًا، ولا تصيبه الشمس ولا يزول.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (سَاكِنًا) أي: مستقرا دائمًا لا تنسخه الشمس كظل الجنة.
وقوله: (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: تتلوه وتتبعه حتى تأتي على كله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) يقول: حيثما تكون الشمس يكون الظل، وأصله: أنه بالشمس يعرف الظل أنه ظل، ولولا الشمس ما عرف الظل، فهو دليل معرفته وكونه أنه ظل.
وقوله: (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (٤٦) قَالَ بَعْضُهُمْ: هَيِّنًا خفِيًّا، وأصله: أنه يقبض بالشمس الظل وينسخه شيئًا فشيئًا، حتى تأتي على كله.
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا... (٤٧) قيل: سكنا يسكن فيه الخلائق.
وقيل: لباسا، أي: سترًا.
(وَالنَّوْمَ سُبَاتًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: راحة، يقال: سبت الرجل يسبت سباتا فهو مسبوت.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أصل السبت: التمدد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سبت الرجل إذا نعس. وقيل: رجل مسبوت: لا يعقل كأنه مسبت.
فمن جعل السبات النوم جعل قوله :﴿ النهار نشورا ﴾ أي حياة يحيون فيه، ومن يقول : السبات راحة يجعل قوله ﴿ النهار نشورا ﴾ ينتشر فيه للمعاش والكسب وابتغاء الرزق.
وقال بعضهم : يذكر نعمه ومننه على عباده ليستأدي شكره.
وقال أبو معاذ : قال مقاتل : ؟ ﴿ مد الظل ﴾ يعني الفيء من أول وقت صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، وأخطأ ؛ ولا يسمى ذلك الظل فيئا.
وقال الكسائي : العرب، تقول : الظل من حين يصبح إلى انتصاف النهار، فإذا زالت الشمس من كبد السماء، فما خرج من ظل فذلك الفيء، ويقال : الفيء الظل، ولا يقال : الظل الفيء قبل الزوال.
ومن يقول: السبات: راحة، يجعل النهار نشورا: ينشر فيه للمعاش والكسب وابتغاء الرزق.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يذكر نعمه ومننه على عباده؛ لتأدي شكره.
وقال أبو معاذ: قال مقاتل: (مَدَّ الظِلَّ) يعني: الفيء من أول وقت صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. وأخطأ؛ لا يسمى ذلك الظل: فيئًا.
وقال الكسائي: العرب تقول: الظل من حين تصبح إلى انتصاف النهار، فإذا زالت الشمس عن كبد السماء فما خرج من ظل فذلك الفيء ويقال للفيء: الظل، ولا يقال للظل: فيء قبل الزوال.
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ نُشْرًا (١)... (٤٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: (نُشْرًا) أي: حياة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (نُشْرًا) للسحاب: تنشره، أي: تبسطه.
وعلى التأويل الأول ننشرها، أي: نحييها.
وقوله: (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي: بين يدي المطر، سمي المطر: رحمة؛ لما برحمته يكون؛ وكذلك ما سمى الجنة: رحمة؛ لأنها برحمة ما يدخل من دخل فيها.
وقوله: (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ): هذا يدل أنه لا يفهم باليد: اليد المعروفة التي هي الجارحة، حيث ذكر للمطر ذلك ولا يعرف -أعني: اليد- ليعلم أنه لا يفهم من قوله: بيد اللَّه، بين يدي اللَّه - ذلك، وباللَّه العصمة.
وقرأ بعضهم: (بُشْرًا) بالباء، وهو من البشارة؛ كقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ)، أي: تبشرهم بالرحمة والسعة، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) أي: ما يطهر به الأنجاس والأقذار الظاهر منها والباطن؛ وكذا الطهور أنه يطهر حيثما أصابه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (٤٩) قَالَ بَعْضُهُمْ: الأناسي: جمع إنسي.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي جمع إنسان، وأصله بالنون (أناسين)، لكن أبدلت النون ياء.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: أَنَاسِيَّ مشددة، يعني: أناس، وأناسي جماعة الإنسان على
وأمَّا «بُشْراً» فقرأه في هذه السورة وحيث ورد في غيرها من السور نافع وأبو عمرو وابن كثير بضم النون والشين، وهي قراءةُ الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء بخلافٍ عنهم وشيبة بن نصاح والأعرج وعيسى بن عمر وأبي يحيى وأبي نوفل الأعرابيين.
وقرأ ابنُ عامر بضمِّ النون وسكون الشين وهي قراءةُ ابن عَبَّاسٍ وزر ابن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي وابن مصرف والأعمش ومسروق.
وقرأ الأخَوان: «نَشْراً» بفتح النون وسكون الشين.
وقرأ عاصم: «بُشْراً» بالباء الموحدة مضمومةً وسكونِ الشين، وهو جمعُ بشيرة كنذيرة ونُذُر. اهـ باختصار (الدر المصون للسمين ٥/ ٣٤٦ - ٣٤٩). (مصحح النسخة الإلكترونية).
وقوله٤ تعالى :﴿ وأناسي كثيرا ﴾ قال بعضهم : الأناسي جمع إنسي، وقال بعضهم : هو جمع إنسان ؛ وأصله بالنون : أناسين، لكن أبدلت النون ياء.
وقال أبو عوسجة والقتبي ﴿ وأناسي ﴾ مشددة ؛ يعني آناسا٥. وأناسي جماعة الإنسان على ما ذكرنا. ثم يحتمل قوله :﴿ ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ﴾ أي نسقيه من الماء الطهور المنزل من السماء كثيرا من الأنعام وكثيرا من الآناس وكثيرا مما يسقى من المياه المنزعة من الأرض.
٢ - في الأصل: وسقيته..
٣ - ساقطة من م..
٤ - الواو ساقطة من م..
٥ - في الأصل وم: أناسي..
ويحتمل قوله: (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا)، أي: نسقيه من الماء الطّهور والمنزل من السماء كثيرًا من الأنعام، وكثيرًا من الإناس، وكثيرا ما يسقى من المياه المنتزعة من الأرض.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (٥٠) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (٥١) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (٥٢)
وقوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا)، أي: صرفنا المطر والسحاب بينهم يمطر في مكان، ويسوق السحاب إلى مكان ولا يسوق إلى مكان آخر؛ كقوله: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ...) الآية؛ وكقوله: (فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ) الآية.
يذكرهم في هذه الآيات من قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) إلى قوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ) ليذكروا تدبيره وقدرته وحكمته ونعمه؛ أما تدبيره: حيث ترى السحاب في موضع ولا تراه في موضع، وتراه منبسطًا في الآفاق ثم يمطر في موضع آخر، ولا يرسل في مكان ويرسل في مكان آخر؛ ليعلم أنه عن تدبير كان هكذا لا بالطبع؛ لأنه لو كان بالطبع كان ذلك لكان لا جائز أن يمطر في مكان ويترك في مكان آخر، دل أنه بالتدبير كان ما كان وبالأمر.
وأما قدرته: فما ذكر من إحياء الأرض الميتة بعد موتها، وإماتتها بعد حياتها مما يعلم كل أحد حياتها وموتها، ويقر بذلك، فمن قدر على هذا قادر على إحياء الموتى بعد الموت، ولا يعجزه شيء.
وأما حكمته: أن ما خلق مما ذكر وأنشأه لم ينشئه عبثًا، يمهلهم لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يمتحنهم بشيء، ولا يجعل لهم عاقبة يثابون ويعاقبون، ولا يستأدي بهم شكر ما أنعم عليهم من أنواع النعم مما يعجز عقولهم عن إدراكه، ويقصر أفهامهم عن تقدير مثله؛ ليعلم أنه قادر بذاته لا يعجزه شيء.
ثم قال: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) قال الكسائي: الكُفور برفع الكاف: الكفر، والكَفور -بفتح الكاف-: الكافر، والشُّكور -بضم الشين-: الشكر، والشَّكور -بفتح الشين-: الشاكر وهو المؤمن؛ فيكون تأويله: فأبي أكثر الناس إلا كفرا باللَّه وتكذيبا لنعمه؛ بصرفهم العبادة إلى غيره ولتفاؤلهم وتطيرهم أن هذا من نوء كذا، واللَّه أعلم.
أحدهما: لو شئنا لرفعنا عنك، يعني: ما حملنا عليك من المؤن من مؤنة التبليغ والقيام بذلك، وحملنا غيرك؛ فيكون عليك أيسر وأهون من القيام بالكل.
والثاني: لو شئنا لجعلنا غيرك -أيضًا- أهلا للرسالة وموضعًا لها في زمانك وحينك، فبعثناه في بعض القرى والمدن، لكنا لم نجعل غيرك أهلا لها، وخصصناك لها من بين غيرك من الناس؛ فهو على الامتنان يخرج والاختصاص له.
ثم لا يخلو ذلك من أن يكون فيهم من يصلح للرسالة، ويصلح أن يكون أهلا لها وموضعًا، فلم يرسل، أو كان لم يكن فيهم من يصلح لذلك؛ فيكون تأويله: لو شئنا لجعلنا فيه من يصلح للرسالة، ويصلح أن يكون أهلا لها وموضعًا، فأي الوجهين كان، فهو ينقض على المعتزلة قولهم؛ لأنه إن كان فيهم من يصلح لها وأرسل كان أصلح له فلم يرسل، فقد ترك ما هو أصلح له وأخير، أو أن يكون لا يصلح فيهم أحد لذلك، لكنه يملك أن يصلحه ويجعله أهلا لها، فهو أصلح له وأخير ثم لم يفعل؛ دل أن له ألا يفعل الأصلح والأخير في الدِّين.
وقوله: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (٥٢) فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز للرسل النبذ والامتناع عن التبليغ إليهم والقيام بمجاهدتهم، وإن خافوا على أنفسهم الهلاك؛ حيث قال: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)، ولم يكن معهم يومئذ إلا قليل ممن اتبعه؛ إذ كان ذلك بمكة؛ لأن سورة الفرقان فيها نزلت.
والثاني: فيه دلالة إثبات رسالته؛ لأنه أمر بالخلاف لهم، والقيام بمجاهدتهم بالحجج والآيات، وهم يعلمون ألا يكون في وسع واحد القيام لذلك لأمثالهم، وكانت همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم؛ فعلموا أنه إنما قام لذلك باللَّه لا بنفسه؛ إذ لا يملك واحد القيام لذلك، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (٥٥) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٥٦) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (٥٩) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا
أحدهما : أنه لا يجوز للرسل التقية والامتناع عن التبليغ إليهم والقيام بمجاهدتهم، وإن خافوا على أنفسهم الهلاك، حين١ قال :﴿ تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ﴾ ولم يكن معه٢ يومئذ إلا قليل ممن اتبعه، إذ كان ذلك بمكة لأن سورة الفرقان فيها نزلت.
والثاني : فيه دلالة إثبات لرسالته لأنه أمر بالخلاف لهم والقيام بمجاهدتهم بالحجج والآيات، وهم يعلمون ألا يكون في وسع واحد القيام لذلك لأمثالهم، وكانت همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم، فعلموا أنه إنما قام لذلك بالله لا بنفسه، إذ لا يملك واحد القيام لذلك، والله أعلم.
٢ - في الأصل وم: معهم..
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ (٥٣)
قَالَ بَعْضُهُمْ: مرج، أي: خلع ماء المالح على ماء العذب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَرَجَ): أرسل البحرين أحدهما عذب والآخر أجاج.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَرَجَ) أي: أفاض أحدهما على الآخر.
قال أبو معاذ: العرب تقول: مرجت الدابة إذا خلعتها وتركتها تذهب حيث شاءت، ومرج الوالي الناس من السجون إذا أرسلهم، فإذا رعيت دابة في المروج، قلت: أمرجت دابتي أمرجها إمراجًا، وإنما سمي المرج: مرجًا؛ لأنه متروك للسباع غير معمور، والممرج الذي يرعى دابته في المرج والدابة الممروجة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: مرج البحرين مرجهما، أي: خلطهما فهو مارج، وقال: (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي: مختلط، ويقال: مرجت عن كل شيء إذا خلطت، واللَّه أعلم.
ثم اختلف في البحرين؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: أحدهما بحر الأرض، والآخر بحر السماء، وجعل بينهما برزخًا، أي: حاجزًا عن أن يختلط أحدهما بالآخر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أحدهما بحر السماء، والآخر بحر تحت الأرض، وجعل بينهما برزخًا وهو الأرض.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بحران على وجه الأرض: أحدهما بحر الروم والآخر بحر الهند.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أحدهما بحر الشام، والآخر بحر العراق: أحدهما مالح أجاج، والآخر عذب، وكان الأجاج هو الذي بلغ في الملوحة غايته، والفرات هو الذي بلغ في العذوبة غايته؛ ذكر منَّتَه وفضله ولطفه؛ حيث لم يخلط أحدهما بالآخر، بل حفظ كلًّا على ما هو عليه إلى أن تقوم الساعة، فعند ذلك يصير الكل واحدا؛ كقوله: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ).
ثم إن كان أحدهما بحر السماء والآخر بحر الأرض، وإن كانا بحرين في الهواء، فالحاجز بينهما ليس إلا اللطف؛ وكذلك إن كان الثالث ليعلم أن من قدر على حفظ هذا من هذا بلا حجاب ولا حاجز باللطف، لقادر على إحياء الموتى وبعثهم، ولا يعجزه
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: ماء أجاج: شديد الملوحة، ويقال: أجّ الماء يؤجّ أجّا فهو أجاج، ويقال: عاج، أي: ماء روي به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (٥٤) أي: من النطفة؛ يخبر عن فضله ومنَّته وقدرته ولطفه.
أما لطفه وقدرته: فحيث خلق البشر من النطفة، ولو اجتمع جميع حكماء البشر على أن يعرفوا أو يدركوا البشر من النطفة أو يدركوا كيفيته - لم يقدروا على ذلك؛ دل أنه قادر بذاته لطيف لا يعجزه شيء.
وأمَّا فضله ومنَّته: فما أخبر أنه جعل لهم نسبًا وصهرا؛ أمّا النسب فيه يتعارفون ويتواصلون ما لولا ذلك ما تعارفوا ولا تواصلوا، وأما الصهر فلما به يتزاوجون ولوادون ويتوالدون؛ كقوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً)، وقال: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، يذكر فضله ومنته؛ ليتأدى به شكره؛ ليعلم أن خلق مثل هذا لا يخرج عبثًا باطلا بلا محنة ولا عاقبة، وكأن النسب: ما لا يجري بينهم التناكح والتزاوج، والصهر: ما يحل ويجري بينهم التناكح والتزاوج.
وفي حرف حفصة: (وهو الذي خلق من الماء نسبا وصهرا). قال أبو معاذ: الصهر الفتى وآله، والختن: أبو المرأة، والختنة: أم المرأة، والأختان: آل المرأة وأهلها، والأصهار، آل الفتى وأهله.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَصِهْرًا) من المصاهرة، وكلهم أصهار من الجانبين جميعًا، والمعروف عندنا: أنه إنما يسمى قرابة الزوج: أختانًا، وقرابة المرأة أصهارًا، وذلك لسان فهو على ما تعارفوه بينهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (٥٥) أي: يعبدون من دون اللَّه ما يعلمون أنه لا ينفعهم في الآخرة إن عبدوه، ولا يضرهم في الدنيا إن تركوا عبادته؛ يذكر سفههم بعبادتهم من يعلمون أنه لا ينفع ولا يضر، وتركهم العبادة لمن ينفعهم إن عبدوه ويضرهم إن تركوا عبادته؛ وهو كما ذكر: (هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ..) الآية، وأمثال ما ذكر في غير آي من القرآن سفه أُولَئِكَ بعبادتهم للأصنام، وتركهم عبادة اللَّه تعالَى.
وقوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) أي: تأويله - واللَّه أعلم -: وكان الكافر للكافر ولوليه ظهيرا على من أطاع ربه، يكون بعضهم ببعض عونًا وظهيرًا على أولياء اللَّه، وإلا لا يكون الكافر على اللَّه ظهيرًا، ولكن على أوليائه، ويكون ذكر الرب على إرادة وليه ومن
وقوله تعالى :﴿ وكان الكافر على ربه ظهيرا ﴾ أي تأويله، والله أعلم. وكان الكافر للكافر ووليه١ ظهيرا على من أطاع ربه ؛ يكون بعهم لبعض عونا وظهيرا على أولياء الله، وإلا لا يكون الكافر على الله ظهيرا، ولكن على أوليائه. ويكون ذكر الذي على إرادة وليه ومن أطاعه كقوله :﴿ إن تنصروا الله ينصركم ﴾ [ محمد : ٧ ] وكقوله :﴿ يخادعون الله ﴾ [ البقرة : ٩ ] ونحو ذلك مما يراد به أولياؤه لا نفسه.
وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٥٦) مبشرًا لمن أطاعه، ونذيرًا لمن عصاه.
والبشارة: هي الإعلام لما يلحق من السرور والفرح في العاقبة بالأعمال الصالحة.
والنذارة: هي الإعلام لما يلحق من المكروه والمحذور في العاقبة بالأعمال السيئة القبيحة.
وقوله: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٥٧) أي: ما أسألكم على الدِّين الذي أدعوكم إليه من أجر؛ كقوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)، أي: لا أسألكم أجرًا على ذلك حتى يمنعكم ثقل الغرم عن إجابتي؛ فعلى ذلك قوله: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) كان فيه إضمار، أي: لا أسالكم عليه أجرًا إلا من شاء، ولكن إنما أسألكم أن تتخذوا إلى ربه سبيلا.
أو أن يقول: قوله: (إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي: ولكن من أراد أن يتخذ إلى ربه سبيلا أطاعني وأجابني.
ويحتمل قوله: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ) على تبليغ الرسالة إليكم، وما أدعوكم إليه (مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) فيبرني.
أو أن يكون قوله: (إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) فيوادني؛ كقوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).
وقوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (٥٨) أي: توكل على اللَّه، والتوكل: هو الاعتماد عليه بكل أمر.
وقوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي: نزه ربك وبرئه عن الآفات كلها والعيوب، بثناء تثني عليه وهو التسبيح بحمده.
وقال أهل التأويل: أي صل بأمر ربك، لكن التأويل ما ذكرنا.
وقوله: (وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا) أي: كفى به علما بذنوب عباده، أي: لا أحد أعلم بها منه.
وقوله: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا... (٥٩) قد ذكرنا هذا.
وقوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا): قال قائلون: قوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) لما يسأل عنه مُحَمَّد، وذلك أن بعض كفار مكة قالوا: يا مُحَمَّد، إن كنت تعلم الشعر فنحن لك، فقال النبي: " أفشعر هذا؟! إن هذا كلام الرحمن "، فقالوا: أجل لعمر اللَّه إنه لكلام الرحمن
فعلى ذلك قوله :﴿ قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ﴾ : كأن فيه إضمارا، أي لا أسألكم عليه أجرا إلا من شاء، ولكن إنما أسألكم أن تتخذوا إلى ربه سبيلا، أو١ يقول : قوله :﴿ إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ﴾ أي ولكن من أراد أن يتخذ إلى ربه سبيلا أطاعني، وأجابني.
ويحتمل قوله :﴿ قل ما أسألكم ﴾ على تبليغ الرسالة إليكم وما أدعوكم إليه ﴿ من أجر إلا من شاء أن يتخذ على ربه سبيلا ﴾ فيبرني، أو يكون قوله :﴿ إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ﴾ فََيَوَدُّنِي كقوله :﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ].
وقوله تعالى :﴿ وسبح بحمده ﴾ أي نزه ربك، وبرئه من الآفات كلها والعيوب بثناء، تثني عليه، وهو التسبيح بحمده. وقال أهل التأويل : أي صل بأمر ربك. لكن التأويل عندنا ما ذكرنا.
وقوله تعالى :﴿ وكفى به بذنوب عباده خبيرا ﴾ أي كفى به علما بذنوب عباده، أي لا أحد أعلم بها منه.
وقوله تعالى :﴿ فسأل به خبيرا ﴾ قال قائلون : فاسأل بالله خبيرا لما تسأل عنه [ يا محمد ]١ وذلك أن بعض كفار مكة، قالوا : يا محمد إن كنت تتعلم الشعر فنحن لك، فقال النبي : أشعر٢ هذا ؟ إن هذا كلام الرحمن، فقالوا : أجل لعمر الله إنه لكلام الرحمن الذي باليمامة، هو يعلمك، فقال النبي : الرحمن، هو الله ﴿ الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ﴾ من عنده يأتيني ذلك، فقالوا : أيزعم أن الله واحد، وهو يقول : الله يعلمني، والرحمن يعلمني، ألستم تعلمون أن هذين٣ إلهان، أو كلام نحو هذا.
وجائز أن يكون قولهم :﴿ وما الرحمن ﴾ لما لا يعرفون الرحمن، وعرفوا الله، فأنكروا ذلك لما لم يكونوا يسمعون ذلك، فعرفهم بقوله :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ﴾ الآية [ الإسراء : ١١٠ ].
أو أن يكونوا يعرفون كل معبود إلها، وكذلك يسمون الأصنام التي عبدوها آلهة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى عبادة الرحمن، فظنوا أنه غير، فقالوا : فلئن جاز أن يعبد غير الله فنحن نعبد الأصنام، فلم تمنعنا عن ذلك ؟ فأخبر [ أن ]٤ الرحمن والإله واحد، ليس وهو غيرا حين قال :﴿ تبارك الذي جعل في السماء بروجا فيها سراجا وقمرا منيرا ﴾ على آخر ما ذكر [ الفرقان : ٦١. . . ] يقول الله تعالى : لا٥ يكون الرحمان غير الإله، بل الرحمن هو ﴿ ولقد جعلنا في السماء بروجا ﴾ وقد كانوا يعلمون أن الذي جعل في السماء البروج، وهي النجوم، وجعل فيها السُّرُجَ، وهي الشمس والقمر، هو الله. فأخبر أن الرحمن هو ذلك، لا غير.
وفي قول بعضهم : إن قوله :﴿ الذي خلق السماوات والأرض ﴾ الآية دلالة أنه ليس من المكتوم، ولكنه مما يعلم، ويفسر حين٦ قال :﴿ فسأل به خبيرا ﴾ ولو كان مما لا يعلم لكان لا يأمره أن يسأل به خبيرا، أو لو٧ أمره بالسؤال لكان لا يحتمل ألا يخبره. دل ذلك أنه ليس من المكتوم، ولكنه مما يعلم، لكن لا يعلمه إلا الخبير، والخبير هو العالم.
ثم يحتمل الله أو جبريل أو من يعلمه الله، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فسأل به خبيرا ﴾ قال بعضهم : بالله، وقال بعضهم : بالذي سبق ذكره من قوله :﴿ ثم استوى على العرش ﴾.
٢ - في الأصل وم: الشعر..
٣ - في الأصل وم: هذا..
٤ - ساقطة من الأصل وم..
٥ - في الأصل وم: أن..
٦ - في الأصل وم: حيث..
٧ - في الأصل وم: أن..
وجائز أن يكون قولهم: (وَمَا الرَّحْمَنُ) لما لا يعرفون الرحمن وعرفوا اللَّه فأنكروا ذلك لما لم يكونوا يسمعون ذلك، فعرفهم بقوله: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ...) الآية.
أو أن يكونوا يعرفون كل معبود: إلها؛ وكذلك يسمون الأصنام التي عبدوها: آلهة، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعاهم إلى عبادة الرحمن؛ فظنوا أنه غيره، فقالوا: فلئن جاز أن يعبد غير اللَّه، فنحن نعبد الأصنام فلِمَ تمنعنا عن ذلك؟! فأخبر: أن الرحمن والإله واحد ليس هو غير؛ حيث قال: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا...) إلى آخر ما ذكر، يقول اللَّه: محال أن يكون الرحمن غير الإله، بل الرحمن هو الذي جعل في السماء بروجًا، وقد كانوا يعلمون أن الذي جعل في السماء البروج وهي النجوم، وجعل فيها السراج وهي الشمس والقمر - هو اللَّه، فأخبر أن الرحمن هو ذلك لا غير.
وفي قول بعضهم: إن قوله: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ...) الآية من المكتوم، وفي الآية دلالة أنه ليس من المكتوم، ولكنه مما يعلم ويفسر؛ حيث قال: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)، ولو كان مما لا يعلم لكان لا يأمره أن يسأل به خبيرًا، أو إن أمره بالسؤال لكان لا يحتمل ألا يخبره؛ دل ذلك أنه ليس من المكتوم، ولكنه مما يعلم، لكن لا يعلمه إلا الخبير، وهو العالم.
ثم يحتمل: اللَّه أو جبريل أو من يعلمه، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَاسْأَلْ بِهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: باللَّه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بالذي سبق ذكره من قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).
وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ... (٦٠) قد ذكرناه.
(أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا) بالياء والتاء جميعًا.
وقوله تعالى: (وَزَادَهُمْ نُفُورًا) أي: زادهم دعاؤه إلى عبادة الرحمن نفورا عن رسول اللَّه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) يقول: ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك لا شك فيه، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: من التعالي.
قوله تعالى: (جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا): هو ما ذكرنا أنه خرج جوابًا لقولهم: (وَمَا الرَّحْمَنُ)؛ وكذلك قوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً (٦٢) أي: جعل أحدهما خلف الآخر، إذا ذهب هذا جاء هذا.
(لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) أي: يذكر الليل والنهار لمن أراد أن يتذكر لمواعظه أو يشكر لنعمه؛ لأنهما يذكران قدرته وسلطانه، حيث يقهران الجبابرة والفراعنة ويغلبانهم حيث يظلانهم ويأتيانهم شاءوا، أو كرهوا لا يقدرون دفعهما عن أنفسهم.
وفيهما دلالة الإحياء والبعث بعد الفناء والهلاك؛ حيث ذهب بهذا أتى بآخر بعد أن لم يبق من أثره شيء، فمن قدر على هذا قدر على البعث والإحياء بعد الموت وذهاب أثره.
ويذكران أيضًا نعمه وآلاءه؛ لأنه جعل النهار متقلبًا لمعاشهم ومطلبًا لرزقهم، وما به قوام أنفسهم، وجعل الليل مستراحًا لأبدانهم وسكونهم لا قوام للأبدان بأحد دون الآخر؛ ألا ترى أنه كيف ذكر نعمه فيهما؛ حيث قال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) الآية، وقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) الآية، يذكرهم عظيم نعمه فيهما أعني في الليل والنهار؛ ليتأدى بذلك شكره؛ فعلى ذلك هذا ما ذكرنا قوله: (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) النعمة التي جعل لهم.
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) أي يكون كل واحد منهما خلفا للآخر فيما يفوت فيه من التذكر والتشكر، أي: ما فات في أحدهما من التذكر والتشكر يقضي في الآخر.
وقال الحسن قريبا مما ذكرنا، وقال: من فاته شيء بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته شيء بالنهار أدركه بالليل.
وعلى مثل ذلك روي عن عمر: أن رجلا قال له: يا أمير المؤمنين، إني لم أدرك الصلاة الليلة، فقال عمر: " أدرك ما فاتك من ليلك في نهارك، وما فاتك من نهارك في ليلك "، ثم قرأ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً).
وقَالَ بَعْضُهُمْ (خِلْفَةً) من الاختلاف، أي: يخالف أحدهما الآخر.
ثم يحتمل الاختلاف وجهين:
وفيهما دلالة الإحياء والبعث بعد الفناء والهلاك [ حين يذهب بهذا، ويأتي ]٣ بآخر بعد / ٣٧٩- ب/ أن لم يبق من أثره شيء. فمن قدر على هذا قدر على هذا قدر على البعث والإحياء بعد الموت وذهاب أثره.
ويذكران أيضا نعمه وآلاءه لأنه جعل النهار منقلبا لمعاشهم ومطلبا لرزقهم وما به قوام أنفسهم، وجعل الليل مستراحا لأبدانهم [ وسكونا ؛ إذ ]٤ لا قوام للأبدان لأحد دون الآخر.
ألا ترى أنه كيف ذكر نعمه فيهما حين قال :﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة ﴾ الآية [ القصص : ٧١ ] وقال :﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه ﴾ الآية [ القصص : ٧٢ ] يذكرهم عظيم نعمه فيهما ؟ أعني في الليل والنهار ليستأدي به شكره. فعلى ذلك هذا ما ذكرنا [ في ]٥ قوله :﴿ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ﴾ النعمة التي جعل فيهما.
وقال بعضهم : قوله :﴿ خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ﴾ أي يكون كل واحد منهما خلفا للآخر في ما يفوت من التذكر والتشكر ؛ يقضى في الآخر.
وقال الحسن قريبا مما ذكرنا، وقال : من فاته شيء بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته شيء بالنهار أدركه بالليل، وعلى مثل ذلك روي عن عمر أن رجلا، قال له : يا أمير المؤمنين إنني فاتتني الصلاة الليلة، فقال عمر : أدرك ما فاتك من ليلك في نهارك الآخر.
ثم يحتمل الاختلاف وجهين :
أحدهما : مجيء هذا وذهاب الآخر على ما ذكرنا كقوله :﴿ واختلاف الليل والنهار ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ].
والثاني : هو اختلاف اللون من السواد والبياض ؛ أحدهما أسود، والآخر أبيض، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ تبارك الذي جعل في السماء بروجا ﴾ قال بعضهم : البروج، هي النجوم العظام، والواحد برج، وهو قول أبي عوسجة إلى الأعرابي. وقال بعضهم : البروج القصور في السماء، فيها تنزل الشمس في كل ليلة.
وروي مثل قول عمر عن سلمان أن رجلا أتاه، فقال : إني لا أستطيع قيام الليل، قال : إن كنت لا تستطيع قيام الليل فلا [ تعجز عنه ]٦ بالنهار.
وذكر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :( أصيبوا من الليل ولو ركعتين ولو أربعا ) وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :( والذي نفسي بيده إن في كل ليلة ساعة، لا يوافقها رجل مسلم يسأل فيها خيرا إلا أعطي له في هذا الليل والنهار، فإنهما مطيتان، تحملان الناس إلى آجالهم ؛ تقربان كل بعيد، وتبليان كل جديد، وتجيئان بكل موعود، حتى يؤدى٧ ذلك إلى ﴿ يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ﴾ [ المعارج : ٤ ] يصير الناس بأعمالهم إلى الجنة وإلى النار ﴿ ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ﴾ [ إبراهيم : ٥١ ] )٨ [ بنحوه مسلم : ٧٥٧ ].
٢ - في الأصل وم: ويغلبانهم..
٣ - في الأصل وم: حيث ذهب بهذا أتي..
٤ - في الأصل وم: وسكونهم..
٥ - ساقطة من الأصل وم..
٦ - في الأصل وم: تعجزه..
٧ - من م، في الأصل: يرد..
٨ - أدرج هذا الحديث في صحيح مسلم في كتاب الجمعة بلفظ آخر..
والثاني: هو اختلاف اللون من [السواد] والبياض: أحدهما أسود، والآخر أبيض، والله أعلم.
وقوله: (جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: البروج هي النجوم العظام، والواحد: برج، وهو قول ابن الأعرابي.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: البروج: القصور في السماء، فيها تنزل الشمس في كل ليلة، وروي مثل قول عمر عن سلمان أن رجلا قال له: إني لا أستطيع قيام الليل. قال: " إن كنت لا تستطيع قيام الليل، فلا تعجزه بالنهار ".
وذكر لنا أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " أصيبوا من الليل ولو ركعتين ولو أربعا ".
وذكر لنا أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " والذي نفسي بيده، إن في كل ليلة ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللَّه فيها خيرًا إلا أعطي له في هذا الليل والنهار؛ فإنهما مطيتان تقحمان الناس إلى آجالهم، تقربان كل بعيد، وتبليان كل جديد، وتجيئان كل موعود، حتى يؤدي ذلك إلى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يكون مصيرهم إلى الجنة وإلى النار؛ لتجزى كل نفس بما كسبت ".
* * *
قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (٦٥) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٦٦) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (٦٧) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (٦٩) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٠) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (٧١) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (٧٢) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (٧٤) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (٧٥) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٧٦) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (٧٧)
وقوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) وصف - عَزَّ وَجَلَّ - هَؤُلَاءِ
وصف أهل الصفوة منهم والإخلاص والتقى.
وقوله: (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا):
قَالَ بَعْضُهُمْ: حلماء أنقياء بغير مرح ولا بطر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (هَوْنًا) أي: متواضعين، لا خيلاء، ولا كبرياء، ولا مرحًا.
وعن الحسن قال: هم المؤمنون قوم ذلل، ذلت - واللَّه الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى، واللَّه ما بالقوم من مرض، وإنهم لأصحة القلوب، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم.
وفي بعض الأخبار مرفوعًا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " المؤمنون هينون لينون كالجمل الدنف؛ إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ ".
وأصله: أنهم يمشون هونًا من غير أن يتأذى بهم أحد، أو يُلْحِقَ بأحد منهم ضررٌ، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا):
قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا خاطبهم الجاهلون، وشافههم السفهاء، لا يجاهلون أهل الجهل والسفه، ولكن قالوا: السلام عليكم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وإذا سمعوا الشتم والأذى قالوا: سلامًا، أي سدادًا وصوابًا من القول، وردًّا مصروفًا أعرضوا عن سفههم وجهلهم بهم، ولم يكافئوهم؛ كقوله: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ...) الآية، يخبر - عز وجل - عن صحبتهم أهل السفه والجهل وحسن معاشرتهم إياهم، ورفقهم، فكيف يعاملون أهل الخير والعقل منهم ويصاحبون، فهذه معاملتهم الخلائق على الوصف الذي وصفه، ثم أخبر عن صنيعهم لله وركونهم إليه، فقال (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (٦٤).
عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رحم اللَّه الذين يبيتون الليل وأيديهم على ركبهم "، ثم قال: " من صلى ركعتين بعد العشاء، فقد بات لله تعالى ساجدًا قائمًا ".
وقال الحسن: كانوا يبيتون لله على أقدامهم ويفترشون وجوههم سجدًا لربهم تجيء دموعهم على خدودهم، فرقا من ربهم، وقال: لأمر ما سهر ليلهم، ولأمر ما خشع له
وقوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (٦٥) يحتمل أن يكون هذا إخبارًا من اللَّه تعالى عما في ضميرهم، ليس على حقيقة القول والدعاء؛ لأن من بلغ في العبادة والورع المبلغ الذي وصفهم لا يشغلون أنفسهم بالسؤال عن دفع المضار أو جر النفع.
ويحتمل: على الدعاء والقول على ما أخبر، واللَّه أعلم.
ثم أخبر عن عذابها فقال: (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا).
قال الحسن: الغرام: اللازم الذي لا يفارق صاحبه، وكل غريم يفارق غريمه غير عذاب جهنم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغرام: الهلاك وقال: (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٦٦) أي: جهنم بئس المستقر وبئس المقام لأهلها، هو مقابل ما ذكر لأهل الطاعة الجنة حيث قال: (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: غراما: غرموا في الآخرة ما نعموا في الدنيا.
وفي حرف ابن مسعود: كان غراما إنما أنبئنا (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا).
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (هَوْنًا) من الرفق يقال: وإن يهون هونًا، فهو هائن.
وقولهم: (وإذا عز أخوك فهن) أي: إذا اشتد، فارفق به.
والغرام: الهلاك.
وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: غراما، أي: هلكة.
وقال: مشيًا هونًا: رويدًا، سلامًا، أي: سدادًا من القول لا رفث فيه ولا هجر.
وقوله: (إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا (٦٧)
قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يسرفوا في غير حق، كسبوا طيبا وأنفقوا قصدًا وأعطوا فضلا وجادوا، واستبشروا (وَلَمْ يَقْتُرُوا) أي: ولم يتمسكوا عن الحق.
وقوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) أي: بين الإسراف والتقتير مقصدًا؛ وهو تأويل مقاتل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإسراف هو الإنفاق في معصية اللَّه، (وَلَمْ يَقْتُرُوا) أي: لم يمنعوا عن طاعته، (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) أي: عدلا، لا يمسك عن حق ولا ينفق في باطل، ولكن نفقة في طاعة اللَّه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإسراف في النفقة: هو الإنفاق فيما لا ينتفع به؛ من نحو: البحيرة
وقال بعضهم :﴿ غراما ﴾ غرموا في الآخرة مانعوا في الدنيا. وفي حرف ابن مسعود ﴿ كان غراما ﴾ إنا أنبئنا أنها ﴿ ساءت مستقرا ومقاما ﴾.
وقال أبو عوسجة :﴿ هونا ﴾ هو من الرفق، يقال : هان يهون هونا، فهو هائن [ ومنه يقال :]٣ إذا عز أخوك فهن : أي إذا اشتد فارفق به، والغرام الهلاك. وكذلك قال القتبي ﴿ غراما ﴾ أي هلكة، وقال : مشيا ﴿ هونا ﴾ رويدا ﴿ سلاما ﴾ أي سدادا من القول ؛ لا رفث فيه، ولا هجر.
٢ - في الأصل وم: حيث..
٣ - في الأصل وم: وقوله..
وقوله تعالى :﴿ وكان بين ذلك قوما ﴾ أي بين الإسراف والتقتير مقصدا، وهو تأويل مقاتل.
وقال بعضهم : الإسراف هو الإنفاق في المعصية الله، ﴿ ولم يقتروا ﴾ أي لم يمنعوا عن طاعة ﴿ وكان بين ذلك قواما ﴾أي عدلا ؛ لا يمسك عن حق، ولا ينفق٢ في باطل، ولكن نفقة في طاعة الله.
وقال بعضهم : الإسراف في النفقة، هو الإنفاق في ما لا ينتفع [ به ]٣ من نحو البحيرة والسائبة والوصيلة التي كانوا يتركونها سدى، ولا ينتفعون بها. والإقتار، هو الإمساك عن الإنفاق فيما ينتفع/ ٣٨٠- أ/ به.
وقال بعضهم : الإسراف، هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له في الإنفاق، في الإكثار. والإقتار هو المنع عن الحد الذي جعل له ﴿ وكان بين ذلك قواما ﴾ أي وسطا كقوله :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ] ولكن بين ذلك.
وأصله :﴿ لم يسرفوا ﴾ أي لم ينفقوا، ولم يضعوا إلا في ما أمروا أن يضعوا فيه [ أموالهم ]٤ ﴿ وكان بين ذلك قوما ﴾ أي قائما في ذلك.
أخبر أنهم ما يفعلون [ ما يفعلون ]٥ إلا بأمر.
٢ - في الأصل وم: ينفقون..
٣ - ساقطة من الأصل وم..
٤ - ساقطة من الأصل وم..
٥ - ساقطة من الأصل وم..
والإقتار: هو الإمساك عن الإنفاق فيما ينتفع به.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإسراف: هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له في الإنفاق: في الإكثار، والإقتار: هو المنع عن الحد الذي جعل له.
(وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) أي: وسطا؛ كقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) ولكن بين ذلك.
وأصل (لَمْ يُسْرِفُوا)، أي: لم ينفقوا ولم يضعوا إلا فيما أمروا أن يضعوا فيه.
(وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) أي: قائمًا في ذلك، أخبر أن ما يفعلونه لا يفعلونه إلا بأمر، وأخبر أنهم لا يدعون مع اللَّه إلها آخر.
ثم يحتمل هذا وجهين: (لَا يَدعُونَ (٦٨) أي: لا يعبدون دون اللَّه غيره، أو: لا يسمون غير اللَّه.
(وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ): أخبر في الآية الأولى في قوله (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) عن معاملتهم الخلق، وصنيعهم بينهم وبين العباد؛ حيث أخبر أنهم يمشون هونًا ولا يؤذون أحدًا ولا يضرونه، وإذا أذاهم أهل الجهل والسفه لم يكافئوهم لأذاهم، ولكن احتملوا ذلك عنهم وتجاوزوا، وقالوا لهم قولا سديدًا؛ هذه معاملتهم فيما بينهم وبين الخلق بالنهار، وأخبر عن معاملتهم ودعائهم ربهم بالليل حيث قال: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ) الآية.
ثم أخبر عن صنيعهم في أموالهم التي في أيديهم أنهم لا يضعونها إلا فيما أمروا بالوضع فيها.
وأخبر عن صفتهم وإخلاصهم لله في العبادة وكفهم عن محارم اللَّه حيث قال: (إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا)، وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ)، وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) موصول بهذا أيضًا، ومقدم عن قوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا)؛ كأنه قال: ولا يزنون ولا يشهدون الزور، ومن يفعل ذلك - أي: ما ذكر من قتل النفس المحرمة، والزنا، وشهادة الزور، والشرك - يلق أثامًا.
قيل : يحتمل [ وجوها :
أحدهما :]٢ أنه يضاعف العذاب للذين تقدم ذكرهم : إذا كفروا بالله بعد ما بلغوا المبلغ الذي وصفهم والرتبة التي ذكر، وهو قوله :﴿ وعباد الرحمن ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ] أن واحدا منهم، إذا كفر ﴿ يضاعف له العذاب ﴾ يتضاعف عذابه على قدر منزلته ومرتبته عند الله وعلى قدر نعم الله عليه إذا كان منه عصيان وكفران لذلك ؛ وهو كما قال لرسوله٣ صلى الله عليه وسلم :﴿ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ﴾ ﴿ إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ﴾ [ الإسراء : ٧٤ و٧٥ ] أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، وما ذكر لأزواجه حين٤ قال :﴿ يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبنية يضاعف لها العذاب ضعفين ﴾ [ الأحزاب : ٣٠ ].
كل من كان أعظم قدرا وأكثر نعما عليه فعقوبته إذا عصى ربه أكثر وأشد من الذي لم يبلغ ذلك ولا تلك الرتبة٥، فتكون ضعف غيره وجزاء مثله.
والثاني : أن يكون ذلك للأئمة ؛ أعني الكفرة والرؤساء دون الأتباع لأنهم عملوا هم بأنفسهم، ودعوا غيرهم إلى ذلك كقوله :﴿ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ].
والثالث٦ : أن يكن ذلك [ للعناد ]٧ الذي كان منهم والمكابرة.
٢ - في الأصل وم: وجهين أحدهما..
٣ - في الأصل وم: لرسول الله..
٤ - في الأصل وم: حيث..
٥ - في الأصل وم: الزينة..
٦ - في الأصل وم: أو..
٧ - في الأصل وم: لهم المعتاد..
[ فإن كانت الآية ]١ في الذين قال :﴿ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ] فكأن٢ فيه دلالة قبول توبة المرتد إذا تاب، ورجع إلى الإسلام حين٣ استثنى وتاب منهم.
وقوله تعالى :﴿ فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ﴾ هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : يوفهم٤ الله إذا تابوا، وندموا على ما فعلوا من السيئات في الدنيا حتى يعملوا مكان [ كل ]٥ سيئة عملوها [ حسنة ]٦ فذلك معنى تبديل الله [ سيئاتهم ]٧ حسنات، أي يوفقهم على ذلك.
والثاني :﴿ يبدل الله سيئاتهم حسنات ﴾ في الآخرة لما كان منهم الندامة والحسرة على كل سيئة كانت منهم في الدنيا.
وعلى ذلك روي عن أبي هريرة رضي الله عنه [ أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ]٨ :( ليأتين أقوام يوم القيامة/ ٣٨٠-ب/ ودوا أنهم استكثروا من السيئات، فقيل له :[ ومن هم يا رسول الله ]٩ ؟ قال : هم الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات ) [ السيوطي في الدر المنثور ٦/ ٢٨١ ] وكأنه روي مثله عن عبد الله بن مسعود.
٢ - من م، في الأصل: فكأنه..
٣ - في الأصل وم: حيث..
٤ - في الأصل وم: يوفق..
٥ - ساقطة من الأصل وم..
٦ - ساقطة من الأصل وم..
٧ - ساقطة من الأصل وم..
٨ - ساقطة من الأصل وم: قال..
٩ - في الأصل: يا أبا هريرة ومن هم..
أحدهما : أن يكون على الأمر ؛ كأنه قال : ومن تاب فليتب إلى الله متابا، لا يرجع عنه ]١ أبدا. وعلى ذلك يخرج قوله :﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبون مائتين ﴾ [ الأنفال : ٦٥ ] أي إن يكن منكم عشرون، فيثبتوا، يغلبوا مائتين على الأمر ؛ دليله قوله حين٢ قال :﴿ الآن خفف الله عنكم ﴾ الآية [ الأنفال : ٦٦ ].
والثاني : أن يكون ذلك لقوم خاص، علم الله أنهم إذا تابوا توبة لا يرجعون عنها أبدا. وإلا ليس كل من تاب يكون على توبته أبدا.
٢ - في الأصل وم: حيث.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أثامًا: عذابًا في النار.
وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (٧٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يشهدون مكان الزور، وهو الغِناء، أي: لا يشهدون المكان الذي يتغنى فيه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يشهدون بشهادة الزور، وهو الكذب.
وقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا): مرور الكرام، أي: إن قدروا على تغيير ما عاينوا من اللغو والمنكر غيروه، ومضوا على وجههم من غير أن دخل في ذلك فساد، وإن لم يقدروا مضوا، ولم يعبئوا به، ولا اشتغلوا به؛ كقوله: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ).
وفي قوله: (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) دلالة نقض قول الخوارج؛ بتكفيرهم أصحاب الكبائر؛ لأنه أخبر أنها محرمة بعد ارتكابها الزنا والقتل كما هي قبل ارتكابها إلا بالحق؛ حيث قال: (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) دل أنها محرمة بعد غير كافرة.
(إِلَّا بِالْحَقِّ): إما بحق القصاص، وإما بحق الزنا، واما بحق الارتداد؛ على ما ذكر في الخبر: " لا يحل قتل امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال: زنا بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس بغير حق " ولو كانت كافرة بارتكاب ما ذكر لكانت غير محرمة؛
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإسراف: الفساد، والتقتير: التضييق، (وَلَمْ يَقْتُرُوا) أي: لم ينفقوا قليلا لا يكفي عيالهم.
قال: والقوام: الوسط. ويقال: لا قوام لي في هذا الأمر، أي: لا طاقة لي فيه، ولا أقاوم هذا الأمر، أي: لا أطيقه، والقوام: القصد.
قال أبو معاذ: في قوله: (وَلَمْ يَقْتُرُوا) لغات أربع: (ولم يُقْتِروا): برفع الياء وبخفض التاء غير مثقل، و (يَقْتِروا) بنصب الياء، وخفض التاء، و (يَقْتُرُوا) برفع التاء، والمعنى كله واحد. وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (٧٣) قَالَ بَعْضُهُمْ: يقول: إذا ذكروا بآيات ربهم لم يصموا عن الحق ولم يعموا؛ قال: هم - واللَّه أعلم - قوم عقلوا عن اللَّه، وانتفعوا بما سمعوا من كتاب اللَّه.
وقال الحسن: من يقرؤها بلسانه يخر عليها أصم وأعمى؛ كأنه يخبر أن أُولَئِكَ - أعني: أهل صفوة اللَّه وإخلاصه - لم يخروا على تلك الآيات صُمًّا ولا عميانا كالكفرة العندة، ولكن خروا عليها متذكرين ومتفقهين متيقظين، عالمين بما فيها، عاملين؛ كقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...) الآية.
وقوله: (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا): فَإِنْ قِيلَ: أخبر هاهنا أنه يضاعف له العذاب، وقال في آية أخرى: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)، فما معنى الضعف هاهنا؟
قيل: يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: أنه يضاعف العذاب للذين تقدم ذكرهم إذا كفروا باللَّه بعدما بلغوا المبلغ
والثاني: أن يكون ذلك للأئمة -أعني: الكفرة والرؤساء- دون الأتباع؛ لأنهم عملوا هم بأنفسهم ودعوا غيرهم إلى ذلك؛ كقوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ).
أو أن يكون ذلك لهم العناد الذي كان منهم والمكابرة.
ثم استثنى من تاب منهم، فقال: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا...) الآية، في الذين قال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)، فكان فيه دلالة قبول توبة المرتد إذا تاب ورجع إلى الإسلام؛ حيث استثنى من تاب منهم.
وقوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ): هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: يوفقهم اللَّه إذا تابوا وندموا على ما فعلوا من السيئات في الدنيا؛ حتى يعملوا مكان كل سيئة عملوها حسنة؛ فذلك معنى تبديل اللَّه سيئاتهم حسنات، أي: يوفقهم على ذلك.
والثاني: يبدل اللَّه سيئاتهم حسنات في الآخرة؛ لما كان منهم الندامة والحسرة على كل سيئة كانت منهم في الدنيا، وعلى ذلك روي عن أبي هريرة قال: " ليأتين أقوام يوم القيامة ودوا أنهم استكثروا من السيئات، فقيل له: يا أبا هريرة، ومن هم؟ قال: هم الذين يبدل اللَّه سيئاتهم حسنات "؛ وكأنه روي مثله عن عبد اللَّه بن مسعود.
وقوله: (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (٧١) لا يرجع عنها أبدًا، وعلى ذلك يخرج قوله: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)، على الأمر؛ دليله قوله حيث قال: (خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) الآية.
والثاني: أن يكون ذلك لقوم خاص، علم اللَّه أنهم إذا تابوا توبة لا يرجعون عنها أبدًا،
وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ): قد ذكرناه، (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا): قد ذكرناه أيضًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا أوذوا صفحوا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح أو غيره كنوا عنه.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (يَلْقَ أَثَامًا) أي: عقوبة، الآثام: العقوبة.
وقوله: (مَرُّوا كِرَامًا) أي: لم يخوضوا فيه، وأكرموا أنفسهم عنهم.
(صُمًّا وَعُمْيَانًا) أي: لم يتغافلوا عنها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم إذا وعظوا بالقرآن لم يخروا عليها صُمًّا وعميانًا عند تلاوة القرآن، فلا يسمعون ولا يبصرون، ولكن يخرون عليها سمعًا وبصرًا؛ وهو واحد.
وقوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (٧٤) قد نعتهم - عَزَّ وَجَلَّ - في معاملتهم أن كيف عاملوا ربهم بالليل والنهار ونعتهم أيضًا في معاملتهم عباده أن كيف عاملوا عباده، ثم نعتهم في معاملتهم أهليهم ودعائهم لهم، فقال: يقولون: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ)، فهو - واللَّه أعلم - لما أمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم النار بقوله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا...) الآية؛ فعند ذلك دعوا ربهم، وسألوه أن يهب لهم من أزواجهم وقرباتهم ما تقر به أعينهم في الدنيا والآخرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: اجعلهم صالحين مطيعين؛ فإن ذلك يقر أعيننا.
قال الحسن: واللَّه ما شيء أَحبَّ إلى العبد المسلم من أن يرى ولده أو حميمه يطيع اللَّه، ودال: نراهم يعملون بطاعة اللَّه، فتقر بذلك أعيننا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: اجعلنا أئمة هدى وتقوى يقتدى بنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: واجعلنا بحال يقتدي بنا المتقون.
وأصله - واللَّه أعلم - أنهم سألوا ربهم أن يجعلهم بحال من اقتدى بهم صار متقيًا، لا من اقتدى صار ضالا فاسقًا، هذا - واللَّه أعلم - تأويله، وإلا سؤالهم: أن اجعلنا إمامًا
ثم أخبر عن جزائهم في الآخرة لعملهم في الدنيا وصبرهم على ما أمروا، فقال: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (٧٥) والغرفة: هي أعلى المنازل وأشرفها؛ أخبر أنهم يجزون ذلك ويكونون فيها.
وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا)، فجائز أن يكون الغرفة المذكورة في الآية كناية عن الجنة؛ يدل له حرف ابن مسعود.
وجائز أن يراد به نفس الغرفة؛ وهو لارتفاعها وعلوها على غيرها من المنازل، وذلك مما يختار الكون فيها في بعض الأوقات في الدنيا، والناس يرغبون فيها لإشرافها وارتفاعها على غيرها؛ فرغبهم بذلك في الآخرة.
وقوله: (وَيُلَقَّوْنَ) فيها بالتخفيف والتشديد، (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) أي: يلقاهم الملائكة بالتحية والسلام؛ كقوله: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ)، وقوله: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ).
أو يلقى بعضهم بعضا بالتحية والسلام، ويحيي بعضهم بعضا، ويسلم بعضهم على بعض.
وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا... (٧٦) دائمين.
(حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا): تأويله - واللَّه أعلم - أي: حسنت لهم الجنة مستقرا ومقاما؛ حتى لا يملوا فيها ولا يسأموا، ولا تأخذهم الوحشة والكآبة؛ كنعيم الدنيا يمل ويسأم عند الكثرة وطول المقام.
وقوله: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ (٧٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ) أي: ما يعتد بكم ربي لولا دعاؤه إياكم إلى التوحيد لتوحدوه وتطيعوه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا يَعْبَأُ) أي: ما يصنع بكم ربي.
وتأويله - واللَّه أعلم - أي: ما يصنع ربي بعذابكم إن شكرتم وآمنتم.
وقوله: (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا): اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ:
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي) أي: ما يصنع، يقال: عبأ يعبأ عبئا؛ فهو عابئ إذا احتاج إليكم، ويقال: " ما أعبأ بهذا الأمر " أي: ما أصنع به، ويقال: عبأت بفلان، أي: احتجت إليه؛ وكذلك قول الْقُتَبِيّ، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله تعالى :﴿ فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ﴾ اختلف فيه : قال بعضهم : هو عذاب يوم بدر، يعني ألزم بعضهم بعضا، وكذلك قال ابن مسعود، قال : مضت آية الدخان والبطشة٢، واللزام يوم بدر، وقال :﴿ لزاما ﴾ أي عذابا ملازما غير مفارق، وهو عذاب الآخرة.
وقال أبو عوسجة :﴿ ما يعبأ بكم ربي ﴾ أي ما يصنع ؛ يقال : عبأ يعبأ عبئا، فهو عابئ، إذا احتاج إليكم، ويقال : ما أعبأ بهذا الأمر، أي ما أصنع، ويقال : عبأت بفلان أي احتجت إليه. وكذلك قول القتبي. والله أعلم بالصواب.
٢ - وهي قوله تعالى: ﴿فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين﴾ وقوله تعالى: ﴿يوم نبطش الكبرى إنا منتقمون﴾ [الدخان: ١٠ و١٦].