فِيهَا إِحْدَى عَشَرَةَ آيَةٍ
ﰡ
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْلِهِ الطَّعَامَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَلَكًا، وَعَيَّرُوهُ بِالْمَشْيِ فِي السُّوقِ، فَأَجَابَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ من الْمُرْسَلِينَ إلَّا إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ ؛ فَلَا تَرْتَبْ بِذَلِكَ وَلَا تَغْتَمَّ بِهِ، فَإِنَّهَا شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا، وَحُجَّةٌ قَاهِرٌ لَك خَارُهَا.
وَهَذَا إنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ عِنَادُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ الْمُعْجِزَةُ، وَوَضَحَتْ فِي صِدْقِهِ الدَّلَالَةُ لَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى سَأَلُوهُ آيَاتٍ أُخَرَ سِوَاهَا وَأَلْفُ آيَةٍ كَآيَةٍ عِنْدَ الْمُكَذِّبِ بِهَا ؛ وَأَوْقَعَهُمْ أَيْضًا فِي ذَلِكَ جَهْلُهُمْ حِينَ رَأَوْا الْأَكَاسِرَةَ وَالْقَيَاصِرَةَ وَالْمُلُوكَ الْجَبَابِرَةَ يَتَرَفَّعُونَ عَنْ الْأَسْوَاقِ أَنْكَرُوا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَاعْتَقَدُوهُ مَلِكًا يَتَصَرَّفُ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ، وَجَهِلُوا أَنَّهُ نَبِيٌّ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى النَّهْيِ وَالْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي سُوقِ عُكَاظٍ وَمَجَنَّةِ الْعَامَّةِ، وَكَانَ أَيْضًا يَدْخُلُ الْخَلَصَةَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ قَالُوا : هَذَا مَلِكٌ يَطْلُبُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْنَا، فَمَا لَهُ يُخَالِفُ سِيرَةَ الْمُلُوكِ فِي دُخُولِ الْأَسْوَاقِ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ يَدْخُلُهَا لِحَاجَتِهِ، أَوْ لِتَذْكِرَةِ الْخَلْقِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَدَعْوَتِهِ، وَيَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي مُجْتَمَعِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُرْجِعَ إلَى الْحَقِّ بِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَمَّا كَثُرَ الْبَاطِلُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَظَهَرَتْ فِيهَا الْمَنَاكِرُ، كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا دُخُولَهَا لِأَرْبَابِ الْفَضْلِ، وَالْمُهْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ، تَنْزِيهًا لَهُمْ عَنْ الْبِقَاعِ الَّتِي يُعْصَى اللَّهُ فِيهَا.
وَفِي الْآثَارِ :" مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ " إنْبَاءً بِأَنَّهُ وَحْدَهُ عِنْدَ صَخَبِ الْخَلْقِ وَرَغْبِهِمْ فِي الْمَالِ، أَقْبَلَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، لَمْ يَقْصِدْ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ سِوَاهُ، لِيَعْمُرَهَا بِالطَّاعَةِ إنْ غُمِرَتْ بِالْمَعْصِيَةِ، وَلِيُحَلِّيَهَا بِالذِّكْرِ إنْ عُطِّلَتْ بِالْغَفْلَةِ، وَلِيُعَلِّمَ الْجَهَلَةَ، وَيُذَكِّرَ النَّاسِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمَّا أَكْلُ الطَّعَامِ فَضَرُورَةُ الْخَلْقِ، لَا عَارَ وَلَا دَرَكَ فِيهَا. وَأَمَّا الْأَسْوَاقُ فَسَمِعْت مَشْيَخَةَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ : لَا يَدْخُلُ إلَّا سُوقَ الْكُتُبِ وَالسِّلَاحِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَدْخُلُ كُلَّ سُوقٍ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَا يَأْكُلُ فِيهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلْمُرُوءَةِ وَهَدْمٌ لِلْحِشْمَةِ.
وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الْأَكْلُ فِي السُّوقِ دَنَاءَةٌ ). وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، لَكِنْ رَوَيْنَاهُ من غَيْرِ طَرِيقٍ ؛ وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ وَلَا وَصْفَ.
يَعْنِي سَتْرًا لِلْخَلْقِ، يَقُومُ مَقَامَ اللِّبَاسِ فِي سَتْرِ الْبَدَنِ، وَيُرْبَى عَلَيْهِ بِعُمُومِهِ وَسَعَتِهِ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْغَفَلَةِ أَنَّ مَنْ صَلَّى عُرْيَانًا فِي الظَّلَّامِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لِبَاسٌ ؛ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا فِي بَيْتِهِ إذَا أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ. وَالسِّتْرُ فِي الصَّلَاةِ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا ؛ لَيْسَتْ لِأَجْلِ نَظَرِ النَّاسِ ؛ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِطْنَابِ فِي هَذَا.
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا قَوْلَهُ :﴿ وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً ﴾ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ ﴿ مَاءً طَهُورًا ﴾ فَوَصَفَ الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِمَعْنَى مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ ؛ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ سِوَاهُمَا. وَالثَّانِي : أَنَّهُ بِمَعْنَى طَاهِرٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَتَعَلَّقَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴾ يَعْنِي طَاهِرًا ؛ إذَا لَا تَكْلِيفَ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ :
خَلِيلَيَّ هَلْ فِي نَظْرَةٍ بَعْدَ تَوْبَةٍ | أُدَاوِي بِهَا قَلْبِي عَلَيَّ فُجُورُ |
إلَى رَجَحِ الْأَكْفَالِ هِيفٍ خُصُورُهَا | عِذَابِ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ |
وَتَقُولُ الْعَرَبُ : رَجُلٌ نَؤُومٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُنِيمٌ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ﴾. وَقَالَ :﴿ لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ﴾، فَبَيَّنَ أَنَّ وَصْفَ ﴿ طَهُورًا ﴾ يُفِيدُ التَّطْهِيرَ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ). وَأَرَادُوا مُطَهَّرَةً بِالتَّيَمُّمِ، وَلَمْ يُرِدْ طَاهِرَةً بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ طَاهِرَةً. وَقَالَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ :( هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ )، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى الطَّهُورِ الْمُطَهَّرَ لَمَا كَانَ جَوَابًا لِسُؤَالِهِمْ.
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ لُغَةً وَشَرِيعَةً عَلَى أَنَّ وَصْفَ " طَهُورٍ " مُخْتَصٌّ بِالْمَاءِ، وَلَا يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ ؛ فَكَانَ اقْتِصَارُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ أَدَلَّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمُطَهَّرُ.
فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِوَصْفِ اللَّهِ لِشَرَابِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ، وَالْجَنَّةُ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي الصِّفَةِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ التَّطْهِيرُ.
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ وَصْفَ شَرَابِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يُفِيدُ التَّطْهِيرَ عَنْ أَوْضَارِ الذُّنُوبِ، وَعَنْ خَسَائِسِ الصِّفَاتِ، كَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ ؛ فَإِذَا شَرِبُوا هَذَا الشَّرَابَ طَهَّرَهُمْ اللَّهُ بِهِ من رَحْضِ الذُّنُوبِ، وَأَوْضَارِ الِاعْتِقَادَاتِ الذَّمِيمَةِ ؛ فَجَاءُوا اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ بِصِفَةِ التَّسْلِيمِ. وَقِيلَ لَهُمْ حِينَئِذٍ :﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾، كَمَا حَكَمَ فِي الدُّنْيَا بِزَوَالِ حُكْمِ الْحَدَثِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَهَذِهِ حِكْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا، وَتِلْكَ حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ فِي الْأُخْرَى. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ :
* رِيقُهُنَّ طَهُورُ *
فَوَصَفَ الرِّيقَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ، وَهُوَ لَا يُطَهِّرُ، فَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِ الرِّيقِ بِالطَّهُورِيَّةِ، أَرَادَ أَنَّهُ لِعُذُوبَتِهِ، وَتَعَلُّقِهِ بِالْقُلُوبِ، وَطِيبِهِ فِي النُّفُوسِ، وَسُكُونِ غَلِيلِ الْحُبِّ بِرَشْفِهِ، كَأَنَّهُ الْمَاءُ الطَّهُورُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالْمَجَازَاتِ الشِّعْرِيَّةِ ؛ فَإِنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَجَاوَزُونَ فِي الِاسْتِغْرَاقِ حَدَّ الصِّدْقِ إلَى الْكَذِبِ، وَيَسْتَرْسِلُونَ فِي الْقَوْلِ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ ذَلِكَ إلَى الْبِدْعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَرُبَّمَا وَقَعُوا فِي الْكُفْرِ من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ :
لَوْ لَمْ تُلَامِسْ صَفْحَةُ الْأَرْضِ رِجْلَهَا | لَمَا كُنْت أَدْرِي عِلَّةً لِلتَّيَمُّمِ |
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا مُنْتَهَى لُبَابِ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ بَالِغٌ فِي فَنِّهِ، إلَّا أَنِّي تَأَمَّلْتُهُ من طَرِيقِ الْعَرَبِيَّةِ فَوَجَدْتُ فِيهَا مَطْلَعًا شَرِيفًا، وَهُوَ أَنَّ بِنَاءَ " فَعُولٍ " لِلْمُبَالَغَةِ، إلَّا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
* ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا *
وَقَدْ تَكُونُ فِي الْفِعْلِ الْقَاصِرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
* نَئُومُ الضُّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ *
فَوَصَفَهُ الْأَوَّلُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الضَّرْبِ، وَهُوَ فِعْلٌ يَتَعَدَّى، وَوَصَفَهَا الثَّانِي بِالْمُبَالَغَةِ فِي النَّوْمِ، وَهُوَ فِعْلٌ لَا يَتَعَدَّى، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ طَهُورِيَّةُ الْمَاءِ لِغَيْرِهِ من الْحُسْنِ نَظَافَةً، وَمِنْ الشَّرْعِ طَهَارَةً، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ ).
وَقَدْ يَأْتِي بِنَاءُ " فَعُولٍ " لِوَجْهٍ آخَرَ، لَيْسَ من هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ الْعِبَارَةُ بِهِ عَنْ آلَةِ الْفِعْلِ لَا عَنْ الْفِعْلِ، كَقَوْلِنَا : وَقُودٌ وَسَحُورٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ " فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَطَبِ وَعَنْ الطَّعَامِ الْمُتَسَحَّرِ بِهِ، وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْمَاءِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يَكُونُ بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْضًا خَبَرًا عَنْ الْآلَةِ الَّتِي يُتَطَهَّرُ بِهَا.
فَإِذْ ضَمَمْت الْفَاءَ فِي الْوُقُودِ وَالسُّحُورِ وَالطُّهُورِ عَادَ إلَى الْفِعْلِ، وَكَانَ خَبَرًا عَنْهُ ؛ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ اسْمَ الْفَعُولِ - بِفَتْحِ الْفَاءِ - يَكُونُ بِنَاءً لِلْمُبَالَغَةِ، وَيَكُونُ خَبَرًا عَنْ الْآلَةِ، وَهَذَا الَّذِي خَطَرَ بِبَالِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنْ قَصُرَتْ أَشْدَاقُهَا عَنْ لَوْكِهِ، وَبَعْدَ هَذَا يَقِفُ الْبَيَانُ بِهِ عَنْ الْمُبَالَغَةِ، أَوْ عَنْ الْآلَةِ عَلَى الدَّلِيلِ، مِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ﴾. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ). وَيُحْتَمَلُ الْعِبَارَةُ بِهِ عَنْ الْآلَةِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِعُلَمَائِنَا.
لَكِنْ يَبْقَى قَوْلُهُ ﴿ لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾ نَصًّا فِي أَنَّ فِعْلَهُ مُتَعَدٍّ إلَى غَيْرِهِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إنَّمَا أَوْجَبَ الْخِلَافَ فِيهَا مَا صَارَ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : حِينَ قَالُوا : إنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ الَّذِي كَانَ فِي الْأَعْضَاءِ انْتَقَلَ إلَى الْمَاءِ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا حِينَئِذٍ : إنَّ وَصْفَ الْمَاءِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ عَلَى رَسْمِ بِنَاءِ الْمُبَالَغَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
وَإِنَّمَا تَنْبَنِي مَسْأَلَةُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْآلَةَ إذَا أُدِّيَ بِهَا فَرْضٌ، هَلْ يُؤَدَّى بِهَا فَرْضٌ آخَرُ أَمْ لَا ؟ فَمَنَعَ ذَلِكَ الْمُخَالِفَ قِيَاسًا عَلَى الرَّقَبَةِ ؛ إنَّهُ إذَا أُدِّيَ بِهَا فَرْضُ عِتْقٍ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِي أَدَاءِ فَرْضٍ آخَرَ ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ من الْقَوْلِ ؛ فَإِنَّ الْعِتْقَ إذَا أَتَى عَلَى الرِّقِّ أَتْلَفَهُ، فَلَا يَبْقَى مَحَلٌّ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ بِعِتْقٍ آخَرَ.
وَنَظِيرُهُ من الْمَاءِ مَا تَلِفَ عَلَى الْأَعْضَاءِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَدَّى بِهِ فَرْضٌ آخَرُ لِتَلَفِ عَيْنِهِ حِسًّا، كَمَا تَلِفَ الرِّقُّ فِي الرَّقَبَةِ بِالْعِتْقِ الْأَوَّلِ حُكْمًا، وَهَذَا نَفِيسٌ فَتَأَمَّلُوهُ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ، فَتَوَضَّأَ فَصَبَّ عَلَيَّ من وُضُوئِهِ، فَأَفَقْت. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْفَاضِلَ عَنْ الْوُضُوءِ وَالْجَنَابَةِ طَاهِرٌ، لَا عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، كَمَا تَوَهَّمَهُ عُلَمَاؤُنَا، وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ فَتَأَمَّلُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ :﴿ وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ﴾ وَكَانَ الْمَاءُ مَعْلُومًا بِصِفَةِ طَعْمِهِ وَرِيحِهِ وَلَوْنِهِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا خِلَافَ فِي طَهُورِيَّتِهِ، فَإِذَا انْتَقَلَ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ إلَى غَيْرِهِ بِتَغَيُّرِ وَصْفٍ من هَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ وَصْفُ الطَّهُورِيَّةِ.
وَالْمُخَالِطُ لِلْمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ :
ضَرْبٌ يُوَافِقُهُ فِي صِفَتَيْهِ جَمِيعًا : وَهِيَ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ ؛ فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيْرُهُ لَمْ يَسْلُبْهُ وَصْفًا مِنْهُمَا، لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ فِيهِمَا، وَهُوَ التُّرَابُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي يُوَافِقُ الْمَاءَ فِي إحْدَى صِفَتَيْهِ، وَهِيَ الطَّهَارَةُ، وَلَا يُوَافِقُهُ فِي صِفَتِهِ الْأُخْرَى، وَهِيَ التَّطْهِيرُ، فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيْرُهُ سَلَبَهُ مَا خَالَفَهُ فِيهِ، وَهُوَ التَّطْهِيرُ، دُونَ مَا وَاف
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي النَّسَبِ : وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَرْجِ الْمَاءِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ ؛ فَإِنْ كَانَ بِمَعْصِيَةٍ كَانَ خَلْقًا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَكُنْ نَسَبًا مُحَقَّقًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِ :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ﴾ بِنْتُهُ مِنَ الزِّنَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِنْتٍ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِعُلَمَائِنَا، وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الدِّينِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَصِهْرًا ﴾ :
أَمَّا النَّسَبُ فَهُوَ مَا بَيْنَ الْوَطْأَيْنِ مَوْجُودًا، وَأَمَّا الصِّهْرُ فَهُوَ مَا بَيْنَ وَشَائِجِ الْوَاطِئَيْنِ مَعًا، الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهُم الْأَحْمَاءُ وَالْأَخْتَانُ. وَالصِّهْرُ يَجْمَعُهُمَا لَفْظًا وَاشْتِقَاقًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَسَبٌ شَرْعًا فَلَا صِهْرَ شَرْعًا، فَلَا يُحَرِّمُ الزِّنَا بِبِنْتٍ أُمًّا، وَلَا بِأُمٍّ بِنْتًا، وَمَا يُحَرَّمُ من الْحَلَالِ لَا يُحَرَّمُ من الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ عَلَى عِبَادِهِ، وَرَفَعَ قَدْرَهُمَا، وَعَلَّقَ الْأَحْكَامَ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ عَلَيْهِمَا ؛ فَلَا يَلْحَقُ الْبَاطِلُ بِهِمَا وَلَا يُسَاوِيهِمَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الزِّنَا يُحَرِّمُ الْمُصَاهَرَةَ، وَهَذَا كِتَابُهُ الْمُوَطَّأُ الَّذِي كَتَبَهُ بِخَطِّهِ، وَأَمْلَاهُ عَلَى طَلَبَتِهِ، وَقَرَأَهُ من صَبْوَتِهِ إلَى مَشْيَخَتِهِ لَمْ يُغَيِّرْ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَا قَالَ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ. وَاكْتُبُوا عَنِّي هَكَذَا. وَابْنُ الْقَاسِمِ الَّذِي يُحَرِّمُ الْمُصَاهَرَةَ بِالزِّنَا قُرِئَ ضِدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْمُوَطَّأِ، فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ لِلْبَاطِنِ، وَلَا الْقَوْلُ الْمَرْوِيُّ من أَلْفٍ لِلْمَرْوِيِّ من وَاحِدٍ، وَآحَادٍ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي التَّوَكُّلِ : وَهُوَ تَفَعُّلٌ من الْوَكَالَةِ، أَيْ اتَّخِذْهُ وَكِيلًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ، وَهُوَ إظْهَارُ الْعَجْزِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْغَيْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَصْلُ هَذَا عِلْمُ الْعَبْدِ بِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا من اللَّهِ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِيجَادِ سِوَاهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مُرَادٌ، وَعَلِمَ أَنَّهُ بِيَدِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا مَا أَرَادَ، جَعَلَ لَهُ أَصْلَ التَّوَكُّلِ، وَهَذَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَبِهِ يَصِحُّ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ التَّوَكُّلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : يَتَرَكَّبُ عَلَى هَذَا من سُكُونِ الْقَلْبِ، وَزَوَالِ الِانْزِعَاجِ وَالِاضْطِرَابِ، أَحْوَالٌ تَلْحَقُ بِالتَّوَكُّلِ فِي كَمَالِهِ ؛ وَلِهَذِهِ الْأَحْوَالِ أَقْسَامٌ، وَلِكُلِّ قِسْمٍ اسْمٌ :
الْحَالَةُ الْأُولَى : أَنْ يَكْتَفِيَ بِمَا فِي يَدِهِ، لَا يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ ؛ وَاسْمُهُ الْقَنَاعَةُ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكْتَسِبَ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي يَدِهِ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ التَّوَكُّلَ عِنْدَنَا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ، كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا ).
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْك ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ لَا تَزِيدُ عَلَى مَا فِي الْيَدِ وَلَا تَدَّخِرُ لِغَدٍ.
قُلْنَا : إنَّمَا الِاحْتِجَاجُ بِالْغُدُوِّ، وَالرَّوَاحُ الِاعْتِمَالُ فِي الطَّلَبِ.
فَإِنْ قِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : تَغْدُو فِي الطَّاعَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَك بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُك رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُك وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾.
قُلْنَا : إنَّمَا أَرَادَ بِالْغُدُوِّ الِاغْتِدَاءَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، فَأَمَّا الْإِقْبَالُ عَلَى الْعِبَادَةِ - وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ، وَهُوَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَيَتْرُكَ طَلَبَ الْعَادَةِ - فَإِنَّ اللَّهَ يَفْتَحُ لَهُ. وَعَلَى هَذَا كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ، وَهَذَا حَالَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْخَلْقِ، وَبَعْدَ هَذَا مَقَامَاتٌ فِي التَّفْوِيضِ وَالِاسْتِسْلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ الْخِلْفَةِ :
وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ جَعَلَ أَحَدَهُمَا مُخَالِفًا لِلْآخَرِ، يَتَضَادَّانِ، وَيَتَعَارَضَانِ وَضْعًا وَوَقْتًا، وَبِذَلِكَ نُمَيِّزُ.
الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا مَضَى وَاحِدٌ جَاءَ آخَرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ :
بِهَا الْعِيسُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً | وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ من كُلِّ مَجْثَمٍ |
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :( مَا من امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، فَيُصَلِّي مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ ).
سَمِعْت ذَا الشَّهِيدَ الْأَكْبَرَ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَبْدَ حَيًّا، وَبِذَلِكَ كَمَالُهُ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ آفَةَ النَّوْمِ، وَضَرُورَةَ الْحَدَثِ، وَنُقْصَانَ الْخِلْقَةِ ؛ إذْ الْكَمَالُ لِلْأَوَّلِ الْخَالِقِ، فَمَا أَمْكَنَ الرَّجُلُ من دَفْعِ النَّوْمِ بِقِلَّةِ الْأَكْلِ وَالسَّهَرِ فِي الطَّاعَةِ فَلْيَفْعَلْ. وَمِنْ الْغَبْنِ الْعَظِيمِ أَنْ يَعِيشَ الرَّجُلُ سِتِّينَ سَنَةً يَنَامُ لَيْلَهَا، فَيَذْهَبُ النِّصْفُ من عُمْرِهِ لَغْوًا، وَيَنَامُ نَحْوَ سُدُسِ النَّهَارِ رَاحَةً، فَيَذْهَبُ ثُلُثَاهُ، وَيَبْقَى لَهُ من الْعُمْرِ عِشْرُونَ سَنَةً.
وَمِنْ الْجَهَالَةِ وَالسَّفَاهَةِ أَنْ يُتْلِفَ الرَّجُلُ ثُلُثَيْ عُمْرِهِ فِي لَذَّةٍ فَانِيَةٍ، وَلَا يُتْلِفُ عُمْرَهُ بِسَهَرِهِ فِي لَذَّةٍ بَاقِيَةٍ عِنْدَ الْغَنِيِّ الْوَفِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِعَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ : فَيَعْمَلُ وَيَشْكُرُ قَدْرَ النِّعْمَةِ فِي دَلَالَةِ التَّضَادِّ عَلَى الَّذِي لَا ضِدَّ لَهُ، وَفِي دَلَالَةِ الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الَّذِي يُعْدَمُ فَيَعْقُبُهُ غَيْرُهُ، وَعَلَى الْفُسْحَةِ فِي قَضَاءِ الْفَائِتِ من الْعَمَلِ لِتَحْصِيلِ الْمَوْعُودِ من الثَّوَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَتَفَاضَلُ بِأَنْفُسِهَا ؛ فَإِنَّ الْجَوَاهِرَ وَالْأَعْرَاضَ من حَيْثُ الْوُجُودِ مُتَمَاثِلَةٌ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ بِالصِّفَاتِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ أَيُّ الْوَقْتَيْنِ أَفْضَلُ، اللَّيْلُ أَمْ النَّهَارُ ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ فَضِيلَةَ النَّهَارِ عَلَيْهِ، وَفِي الصَّوْمِ غُنْيَةً فِي الدَّلَالَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ هَوْنًا ﴾
الْهَوْنُ : هُوَ الرِّفْقُ وَالسُّكُونُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالتَّوَاضُعِ، لَا بِالْمَرِحِ وَالْكِبْرِ، وَالرِّيَاءِ وَالْمَكْرِ، وَفِي مَعْنَاهُ قُلْت :
تَوَاضَعْت فِي الْعَلْيَاءِ وَالْأَصْلُ كَابِرٌ *** وَحُزْت نِصَابَ السَّبْقِ بِالْهَوْنِ فِي الْأَمْرِ سُكُونٌ فَلَا خُبْثَ السَّرِيرَةِ أَصْلُهُ *** وَجُلُّ سُكُونِ النَّاسِ من عِظَمِ الْمَكْرِ
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِي الْإِيضَاعِ ).
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُسْرِعُ جِبِلَّةً لَا تَكَلُّفًا. وَالْقَصْدُ وَالتُّؤَدَةُ وَحُسْنُ الصَّمْتِ من أَخْلَاقِ النُّبُوَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي قَبَسِ الْمُوَطَّأِ. وَقَدْ قِيلَ : مَعْنَاهُ يَمْشُونَ رِفْقًا من ضَعْفِ الْبَدَنِ، قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ، وَأَنْحَلَتْهُمْ الْخَشْيَةُ، حَتَّى صَارُوا كَأَنَّهُمْ الْفِرَاخُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾
اُخْتُلِفَ فِي الْجَاهِلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ الْكُفَّارُ.
الثَّانِي : أَنَّهُمْ السُّفَهَاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ سَلَامًا ﴾
فِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِمَعْنَى حَسَنٍ وَسَدَادٍ.
الثَّانِي : أَنَّهُ قَوْلُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ : لَمْ يُؤْمَرْ الْمُسْلِمُونَ يَوْمئِذٍ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ : تَسَلُّمُنَا مِنْكُمْ وَلَا خَيْرَ بَيْنَنَا وَلَا شَرَّ.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ أُمِرُوا بِالصَّفْحِ وَالْهَجْرِ الْجَمِيلِ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ من الْأُمَمِ فِي دِينِهِمْ التَّسْلِيمُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ.
وَفِي الإسرائليات : إنَّ عِيسَى مَرَّ بِهِ خِنْزِيرٌ فَقَالَ لَهُ : اذْهَبْ بِسَلَامٍ حِينَ لَمْ يَقُلْ - وَهُوَ لَا يَعْقِلُ - السَّلَامُ. فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَتَلِينُ جَوَانِبُهُمْ بِهِ ؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِفُ عَلَى أَنْدِيَتِهِمْ وَيُحَيِّيهِمْ وَيُدَانِيهِمْ وَلَا يُدَاهِنُهُمْ. فَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ :﴿ قَالُوا سَلَامًا ﴾ الْمَصْدَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحِيَّةَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ من الْمُؤْمِنِينَ إذَا جَفَاك يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك. وَهَلْ وُضِعَ السَّلَامُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إلَّا عَلَى مَعْنَى السَّلَامَةِ وَالتَّوَادِّ ؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ : سَلِمْت مِنِّي، فَأَسْلَمُ مِنْك.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ :﴿ لَمْ يُسْرِفُوا ﴾
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : لَمْ يُنْفِقُوا فِي مَعْصِيَةٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي : لَمْ يُنْفِقُوا كَثِيرًا ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ.
الثَّالِثُ : لَمْ يَتَمَتَّعُوا لِلنَّعِيمِ ؛ إذَا أَكَلُوا لِلْقُوَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلَبِسُوا لِلسُّتْرَةِ الْوَاجِبَةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ قَالَهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ صِحَاحٌ ؛ فَالنَّفَقَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ ؛ فَالْأَكْلُ وَاللُّبْسُ لِلَّذَّةِ جَائِزٌ، وَلِلتَّقْوَى وَالسَّتْرِ أَفْضَلُ ؛ فَمَدَحَ اللَّهُ مَنْ أَتَى الْأَفْضَلَ، وَإِنْ كَانَ مَا تَحْتَهُ مُبَاحًا. وَإِذَا أَكْثَرَ رُبَّمَا افْتَقَرَ ؛ فَالتَّمَسُّكُ بِبَعْضِ الْمَالِ أَوْلَى، كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لُبَابَةَ وَلِكَعْبٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَمْ يَقْتُرُوا ﴾
فِيهِ قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : لَمْ يَمْنَعُوا وَاجِبًا.
الثَّانِي : لَمْ يَمْنَعُوا عَنْ طَاعَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قَوَامًا ﴾ يَعْنِي عَدْلًا ؛ وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَ الْوَاجِبَ، وَيَتَّسِعَ فِي الْحَلَالِ فِي غَيْرِ دَوَامٍ عَلَى اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ فِي كُلِّ وَقْتٍ من كُلِّ طَرِيقٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ يَشْهَدُونَ الزُّورَ ﴾
فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : الشِّرْكُ.
الثَّانِي : الْكَذِبُ.
الثَّالِثُ : أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
الرَّابِعُ : الْغِنَاءُ.
الْخَامِسُ : لَعِبٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى بِالزُّورِ ؛ قَالَ عِكْرِمَةُ.
السَّادِسُ : أَنَّهُ الْمَجْلِسُ الَّذِي يُشْتَمُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَجْلِسٌ يُشْتَمُ فِيهِ النَّبِيُّ فَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ الشِّرْكُ ؛ لِأَنَّ شَتْمَ النَّبِيِّ شِرْكٌ، وَالْجُلُوسُ مَعَ مَنْ يَشْتُمُهُ من غَيْرِ تَغْيِيرٍ وَلَا قَتْلٍ لَهُ شِرْكٌ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْكَذِبُ فَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إلَى الْكَذِبِ يَرْجِعُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّ فِصْحَ النَّصَارَى وَسَبْتَ الْيَهُودِ يُذْكَرُ فِيهِ الْكُفْرُ ؛ فَمُشَاهَدَتُهُ كُفْرٌ، إلَّا لِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ من الْمَعَانِي الدِّينِيَّةِ، أَوْ عَلَى جَهْلٍ من الْمُشَاهِدِ لَهُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْغِنَاءُ فَلَيْسَ يَنْتَهِي إلَى هَذَا الْحَدِّ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَمْرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقُلْنَا : إنَّ مِنْهُ مُبَاحًا وَمِنْهُ مَحْظُورًا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَعِبٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِ قِمَارٌ أَوْ جَهَالَةٌ أَوْ أَمْرٌ يَعُودُ إلَى الْكُفْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾
قَدْ بَيَّنَّا اللَّغْوَ، وَأَنَّهُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ من قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ؛ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَضَرَّةٌ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا فَقَدْ تَأَكَّدَ أَمْرُهُ فِي التَّحْرِيمِ ؛ وَذَلِكَ بِحَسْبِ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ فِي اعْتِقَادٍ أَوْ فِعْلٍ. وَيَتَرَكَّبُ اللَّغْوُ عَلَى الزُّورِ ؛ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنَى زَائِدٌ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ :﴿ وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ﴾ فَهَذَا مُحَرَّمٌ بِلَا كَلَامٍ.
ثُمَّ قَالَ :﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ ﴾ يَعْنِي الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَكَرَّمُوا عَنْهُ، حَتَّى قَالَ قَوْمٌ من أَهْلِ التَّفْسِيرِ : إنَّهُ ذِكْرُ الرَّفَثِ، وَيَكُونُ لَغْوًا مُجَرَّدًا إذَا كَانَ فِي الْحَلَالِ، وَيَكُونُ زُورًا مُحَرَّمًا إذَا كَانَ فِي الْحَرَامِ، وَإِنْ احْتَاجَ أَحَدٌ إلَى ذِكْرِ الْفَرْجِ أَوْ النِّكَاحِ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ جَازَ ذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِي اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِالزِّنَا :( نِكْتَهَا ) ؟ لَا تَكْنِي، لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِ الْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَعْنِي الَّذِينَ إذَا قَرَءُوا الْقُرْآنَ قَرَءُوهُ بِقُلُوبِهِمْ قِرَاءَةَ فَهْمٍ وَتَثَبُّتٍ، وَلَمْ يَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ ؛ فَإِنَّ الْمُرُورَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا تَثَبُّتٍ صَمَمٌ وَعَمًى عَنْ مُعَايَنَةِ وَعِيدِهِ وَوَعْدِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ مَنْ سَمِعَ رَجُلًا وَهُوَ يُصَلِّي يَقْرَأُ سَجْدَةً فَسَجَدَ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَلْيَسْجُدْ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ إلَّا لِلْقَارِئِ وَحْدَهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ذَكَرَهَا مَالِكٌ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَلَا الْقُرْآنَ، وَقَرَأَ السَّجْدَةَ ؛ فَإِنْ كَانَ الَّذِي جَلَسَ مَعَهُ جَلَسَ إلَيْهِ لِيَسْمَعَهُ فَلْيَسْجُدْ مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ السَّمَاعَ مَعَهُ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إذَا كَانَ فِي صَلَاةٍ فَقَرَأَ السَّجْدَةَ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ الَّذِي لَا يُصَلِّي مَعَهُ. وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْهُ.
وَقِيلَ : مَعْنَى الْآيَةِ فِي الَّذِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ اعْتِبَارَ الْإِيمَانِ، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ، إلَّا أَنَّهُ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾
مَعْنَاهُ أَنَّ النُّفُوسَ تَتَمَنَّى، وَالْعُيُونَ تَمْتَدُّ إلَى مَا تَرَى من الْأَزْوَاجِ وَالذُّرِّيَّةِ، حَتَّى إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ اجْتَمَعَتْ لَهُ فِيهَا أَمَانِيُّهُ من جَمَالٍ وَعِفَّةٍ وَنَظَرٍ وَحَوْطَةٍ، أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ ذُرِّيَّتُهُ مُحَافِظِينَ عَلَى الطَّاعَةِ، مُعَاوِنِينَ لَهُ عَلَى وَظَائِفِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى زَوْجِ أَحَدٍ، وَلَا إلَى وَلَدِهِ، فَتَسْكُنُ عَيْنُهُ عَنْ الْمُلَاحَظَةِ، وَتَزُولُ نَفْسُهُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِهَا ؛ فَذَلِكَ حِينَ قُرَّةِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ النَّفْسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا ﴾ مَعْنَاهُ قُدْوَةٌ.
كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ :" اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا من أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ ".
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ :" إنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ ". وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ اقْتَدُوا بِمَنْ قَبْلَهُمْ فَاقْتَدَى بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ.
وَكَانَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ يَقُولُ : الْإِمَامَةُ بِالدُّعَاءِ، لَا بِالدَّعْوَى يَعْنِي بِتَوْفِيقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَيْسِيرِهِ وَهِبَتِهِ، لَا بِمَا يَدَّعِيهِ كُلُّ أَحَدٍ لِنَفْسِهِ، وَيَرَى فِيهَا مَا لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ.