ﰡ
والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتتجنبه، وما ينفعها فتؤثره والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا تعقل بها، ولا ألسنة تنطق بها، وأعطى ذلك لهؤلاء، ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار. فهم أضل من البهائم. فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق مع الدليل إليه أضل وأسوأ حالا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه.
ثم أخبر أنه قبضه بعد بسطه قبضا يسيرا، وهو شيء بعد شيء، لم يقبضه جملة فهذا من أعظم آياته الدالة على عظيم قدرته وكمال حكمته.
فندب الرب سبحانه عباده إلى رؤية صنعته وقدرته وحكمته في هذا الفرد من مخلوقاته. ولو شاء لجعله لاصقا بأصل ما هو ظل له، من جبل وبناء وشجر وغيره، فلم ينتفع به أهله، فإن كان الانتفاع به تابع لمده وبسطه وتحوله من مكان إلى مكان.
وفي مده وبسطه، ثم قبضه شيئا فشيئا : من المصالح والمنافع ما لا يخفى ولا يحصى. فلو كان ساكنا دائما، أو قبض دفعة واحدة، لتعطلت مرافق العالم ومصالحه به وبالشمس، فمد الظل وقبضه شيئا فشيئا لازم لحركة الشمس على ما قدرت عليه من مصالح العالم.
وفي دلالة الشمس على الظلال : ما تعرف به أوقات الصلوات، وما مضى من اليوم، وما بقي منه.
وفي تحركه وانتقاله : ما يبرد به ما أصابه من حر الشمس، وينفع الحيوانات والشجر والنبات، فهو من الآيات الدالة عليه.
وفي الآية وجه آخر : وهو أنه سبحانه مدَّ الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة، ودحا الأرض تحتها، فألقت القبة ظلها عليها. فلو شاء سبحانه لجعله ساكنا مستقرا في تلك الحال. ثم خلق الشمس ونصبها دليلا على ذلك الظل، فهو يتبعها في حركتها، يزيد بها، وينقص، ويمتد ويتقلص. فهو تابع لها تبعية المدلول لدليله.
وفيها وجه آخر : وهو أن يكون المراد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه، وهي الأجرام التي تلقي الظلال، فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه.
وقوله :( قبضا يسيرا ) يشبه قوله :﴿ ذلك حشر علينا يسير ﴾ [ ق : ٤٤ ].
وقوله :( قبضناه ) بصيغة الماضي لا ينافي ذلك، كقوله تعالى :﴿ أتى أمر الله ﴾ [ النحل : ١ ] والوجه في الآية : هو الأول.
والكافر مع شيطانه ونفسه وهواه على ربه.
وعبارات السلف علي هذه تدور. ذكر بن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال : عونا للشيطان علي ربه بالعداوة والشرك.
وقال ليث ومجاهد : يظاهر الشيطان على معصية الله، يعينه عليها.
وقال زيد بن سلم :﴿ ظهيرا ﴾ أي : مواليا.
والمعنى : أنه يوالي عدوه على معصيته والشرك به، فيكون مع عدوه معينا له على مساخط ربه فالمعية الخاصة التي للمؤمن مع ربه وإلهه قد صارت لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان، ومع نفسه وهواه وملذاته.
ولهذا صدر الآية بقوله :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ﴾ وهذه العبادة : هي الموالاة والمحبة والرضا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة لهم فظاهر أعداء الله على معاداته ومخالفته، ومساخطه، بخلاف وليه سبحانه. فإنه معه على نفسه وشيطانه وهواه.
وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله. وبالله التوفيق.
وقال ابن عباس رضي الله عنه : لم يكونوا عليها صما وعميانا، بل كانوا خائفين خاشعين.
وقال الكلبي : يخرون عليها سمعا وبصرا.
وقال الفراء : وإذا تلى عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم الأولى، كأنهم لم يسمعوه. فذلك الخرور، وسمعت العرب تقول : قعد يشتمني، كقولك : قام يشتمني وأقبل يشتمني.
والمعنى على ما ذكر : لم يصيروا عندها صما وعميانا.
وقال الزجاج : المعنى إذا تليت عليهم آيات ربهم خروا سجدا وبكيا سامعين، مبصرين، كما أمروا به.
وقال ابن قتيبة : أي لم يتغافلوا عنها، كأنهم صم لم يسمعوها، وعمى لم يروها.
قلت : هاهنا أمران : ذكر الخرور، وتسليط النفي عليه. وهل هو خرور القلب أو خرور البدن للسجود ؟ وهل المعنى : لم كن خرورهم عن صمم وعمه. فلهم عليها خرور بالقلب خضوعا، أو بالبدن سجودا أو ليس هناك خرور، وعبر به عن القعود ؟