تفسير سورة الفرقان

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
الفرقان
هذه السورة مكية في قول الجمهور.
وقال ابن عباس وقتادة : إلاّ ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي ﴿ والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ﴾ إلى قوله ﴿ وكان الله غفوراً رحيماً ﴾ وقال الضحاك مدنية إلا من أولها إلى قوله ﴿ ولا نشوراً ﴾ فهو مكي.
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما ذكر وجوب مبايعة المؤمنين للرسول وأنهم إذا كانوا معه في أمر مهم توقف انفصال واحد منهم على إذنه وحذر من يخالف أمره وذكر أن له ملك السموات والأرض وأنه تعالى عالم بما هم عليه ومجازيهم على ذلك، فكان ذلك غاية في التحذير والإنذار ناسب أن يفتتح هذه السورة بأنه تعالى منزه في صفاته عن النقائص كثير الخير، ومن خيره أنه ﴿ نزل الفرقان ﴾ على رسوله منذراً لهم فكان في ذلك اطماع في خيره وتحذير من عقابه.

سورة الفرقان
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١ الى ١٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤)
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩)
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)
78
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «١» وَقَالَ الضَّحَّاكُ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ وَلا نُشُوراً «٢» فَهُوَ مَكِّيٌّ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ وُجُوبَ مُبَايَعَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلرَّسُولِ وَأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مَعَهُ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ تَوَقَّفَ انْفِصَالُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى إِذْنِهِ وَحَذَّرَ مَنْ يُخَالِفُ أَمْرَهُ وَذَكَرَ أَنَّ لَهُ مُلْكَ السموات وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ وَمُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ غَايَةً فِي التَّحْذِيرِ وَالْإِنْذَارِ نَاسَبَ أَنْ يَفْتَتِحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ فِي صِفَاتِهِ عَنِ النَّقَائِصِ كَثِيرُ الْخَيْرِ، وَمِنْ خَيْرِهِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلَى رَسُولِهِ مُنْذِرًا لَهُمْ فَكَانَ فِي ذَلِكَ إِطْمَاعٌ فِي خيره وتحذير من عقابه. وتَبارَكَ تَفَاعَلَ مُطَاوِعُ بَارَكَ وَهُوَ فِعْلٌ لَا يَتَصَرَّفُ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى فَلَا يَجِيءُ مِنْهُ مُضَارِعٌ وَلَا اسْمُ فَاعِلٍ وَلَا مَصْدَرٌ. وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ:
تَبَارَكْتَ لَا مُعْطٍ لِشَيْءٍ مَنَعْتَهُ وَلَيْسَ لِمَا أَعْطَيْتَ يَا رَبِّ مَانِعُ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزُولُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: تَمَجَّدَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَعَظَّمَ. وَحَكَى الأصمعي تبارك عَلَيْكُمْ مِنْ قَوْلِ عَرَبِيٍّ صَعِدَ رَابِيَةً فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ ذَلِكَ، أَيْ تَعَالَيْتُ وَارْتَفَعْتُ. فَفِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ صِفَةُ ذَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: هو من البركة وهي التَّزَايُدُ فِي الْخَيْرِ مِنْ قِبَلِهِ، فَالْمَعْنَى زَادَ خَيْرُهُ وَعَطَاؤُهُ وَكَثُرَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ وَجَاءَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى الَّذِي وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إِعْجَازِهِ فَصَارَتِ الصِّلَةُ مَعْلُومَةً بِحَسَبِ الدَّلِيلِ، وَإِنْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ لِمَ سُمِّيَ الْقُرْآنُ فُرْقَانًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلى عَبْدِهِ وَهُوَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى عِبَادِهِ أَيِ الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ كَمَا قَالَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ «٣» وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا «٤» وَيَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِالْقُرْآنِ
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٦٨- ٧٠.
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ٣.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٠. [.....]
(٤) سورة البقرة: ٢/ ١٣٦.
79
الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ، وَبِعَبْدِهِ مَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ فَيَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ كَقَوْلِهِ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها «١» وَالضَّمِيرُ فِي لِيَكُونَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَائِدٌ عَلَى عَبْدِهِ وَيَتَرَجَّحُ بِأَنَّهُ الْعُمْدَةُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ وَهُوَ مِنْ وَصْفِهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ «٢». وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَذِيراً بِمَعْنَى مُنْذِرٍ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى لإنذار كَالنَّكِيرِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَمِنْهُ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ «٣». ولِلْعالَمِينَ عَامٌّ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، مِمَّنْ عَاصَرَهُ أَوْ جَاءَ بَعْدَهُ وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ وَظَوَاهِرِ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِلْعالَمِينَ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلْعالَمِينَ.
وَلَمَّا سَبَقَ فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا في السموات وَالْأَرْضِ فَكَانَ إِخْبَارًا بِأَنَّ مَا فِيهِمَا مِلْكٌ لَهُ، أَخْبَرَ هُنَا أَنَّهُ لَهُ مُلْكُهُمَا أَيْ قَهْرُهُمَا وَقَهْرُ مَا فِيهِمَا، فَاجْتَمَعَ لَهُ الْمِلْكُ وَالْمُلْكُ لَهُمَا. وَلِمَا فيهما، والذي مَقْطُوعٌ لِلْمَدْحِ رَفْعًا أَوْ نَصْبًا أَوْ نَعْتٌ أَوْ بد مِنَ الَّذِي نَزَّلَ وَمَا بَعْدَ نَزَّلَ مِنْ تَمَامِ الصِّلَةِ وَمُتَعَلِّقٌ بِهِ فَلَا يُعَدُّ فَاصِلًا بَيْنَ النَّعْتِ أَوِ الْبَدَلِ وَمَتْبُوعِهِ.
وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الظَّاهِرُ نُفْيُ الِاتِّخَاذِ أَيْ لَمْ يُنْزِلْ أَحَدًا مَنْزِلَةَ الْوَلَدِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ بِمَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يَلِدْ لِأَنَّ التَّوَالُدَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَعَلَى النَّصَارَى وَالْيَهُودِ النَّاسِبِينَ لِلَّهِ الْوَلَدَ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَرَدٌّ عَلَى مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا.
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ عَامٌّ فِي خَلْقِ الذَّوَاتِ وَأَفْعَالِهَا. قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا يَصِحُّ خَلْقُهُ لِتَخْرُجَ عَنْهُ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ الْقَدِيمَةُ انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ لِأَنَّ مَنْ قَالَ: أَكْرَمْتُ كُلَّ رَجُلٍ لَا يَدْخُلُ هُوَ فِي الْعُمُومِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمُومِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ذَاتُهُ تَعَالَى وَلَا صِفَاتُهُ الْقَدِيمَةُ. فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً إِنْ كَانَ الْخَلْقُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، فَكَيْفَ جَاءَ فَقَدَّرَهُ إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى وَقَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ يُقَدِّرُهُ تَقْدِيراً.
فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ أَحْدَثَ كُلَّ شَيْءٍ إِحْدَاثًا مُرَاعًى فِيهِ التَّقْدِيرُ وَالتَّسْوِيَةُ فَقَدَّرَهُ وَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ، أَوْ سُمِّيَ إِحْدَاثُ اللَّهِ خَلْقًا لِأَنَّهُ لَا يُحْدِثُ شَيْئًا لِحِكْمَتِهِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيرِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ. فَإِذَا قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ كَذَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إِحْدَاثِ اللَّهِ وَأَوْجَدَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى وَجْهِ الِاشْتِقَاقِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَوْجَدَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ فِي إِيجَادِهِ مُتَفَاوِتًا. وَقِيلَ: فَجَعَلَ له
(١) سورة إبراهيم: ١٤/ ٣٤.
(٢) سورة الدخان: ٤٤/ ٣.
(٣) سورة القمر: ٥٤/ ١٦.
80
غَايَةً وَمُنْتَهًى، وَمَعْنَاهُ فَقَدَّرَهُ لِلْبَقَاءِ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُ الْأَشْيَاءِ هُوَ حَدُّهَا بِالْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمَانِ وَالْمَقَادِيرِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْإِتْقَانِ انْتَهَى.
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً الضَّمِيرُ فِي وَاتَّخَذُوا عَائِدٌ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُنْفَ إِلَّا وَقَدْ قِيلَ بِهِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْوَاوُ ضَمِيرٌ لِلْكُفَّارِ وَهُمْ مُنْدَرِجُونَ فِي قَوْلِهِ لِلْعالَمِينَ. وَقِيلَ:
لَفْظُ نَذِيراً يُنْبِئُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمُ الْمُنْذَرُونَ وَيَنْدَرِجُ فِي وَاتَّخَذُوا كُلُّ مَنِ ادَّعَى إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِعُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَعُبَّادِ الْكَوَاكِبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً عَلَى الْجَمْعِ. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ لِأَنَّ لِعُبَّادِهَا كَثْرَةً انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ لِأَنَّ وَاتَّخَذُوا جمع وآلِهَةً جَمْعٌ، وَإِذَا قُوبِلَ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ تَقَابَلَ الْفَرْدُ بِالْفَرْدِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُقَابَلَ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ فَيَنْدَرِجُ مَعْبُودُ النَّصَارَى فِي لَفْظِ آلِهَةً.
ثُمَّ وَصَفَ الْآلِهَةَ بِانْتِفَاءِ إِنْشَائِهِمْ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ إِشَارَةً إِلَى انْتِفَاءِ الْقُدْرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ ذَاتًا أَوْ مَصْنُوعُونَ بِالنَّحْتِ وَالتَّصْوِيرِ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْخَسَاسَةِ وَنِسْبَةُ الْخَلْقِ لِلْبَشَرِ تَجُوزُ. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٌ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْخَلْقُ بِمَعْنَى الِافْتِعَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً «١» وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ آثَرُوا عَلَى عِبَادَتِهِ عِبَادَةَ آلِهَةٍ لَا عَجْزَ أَبْيَنُ مِنْ عَجْزِهِمْ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ وَلَا أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَيْثُ لَا يَفْتَعِلُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُفْتَعَلُونَ لِأَنَّ عَبَدَتَهُمْ يَصْنَعُونَهُمْ بِالنَّحْتِ وَالتَّصْوِيرِ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ دَفْعَ ضَرَرٍ عَنْهَا وَلَا جَلْبَ نَفْعٍ إِلَيْهَا، وَهُمْ يَسْتَطِيعُونَ وَإِذَا عَجَزُوا عَنِ الِافْتِعَالِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ وَجَلْبِ النَّفْعِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ كَانُوا عَنِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَالنُّشُورِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ أَعْجَزَ.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَتْبَاعُهُ، والإفك أسوأ لكذب. وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ أَلْقَوْا أَخْبَارَ الْأُمَمِ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: عَدَّاسٌ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَيَسَارٌ مَوْلَى الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَجَبْرٌ مَوْلَى عَامِرٍ وكانوا كتابيين يقرؤون التَّوْرَاةَ أَسْلَمُوا وَكَانَ الرَّسُولُ يَتَعَهَّدُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ١٧.
81
أَشَارُوا إِلَى قَوْمٍ عَبِيدٍ كَانُوا لِلْعَرَبِ مِنَ الْفُرْسِ أَبُو فُكَيْهَةَ مَوْلَى الْحَضْرَمِيِّينَ. وَجَبْرٌ وَيَسَارٌ وَعَدَّاسٌ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنَوْا أَبَا فُكَيْهَةَ الرُّومِيَّ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: عَنَوْا بِقَوْمٍ آخَرِينَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ آخَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ لَا يَلْزَمُ لِلِاشْتِرَاكِ فِي جِنْسِ الْإِنْسَانِ، وَلَا يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْوَصْفِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ «١» فَقَدِ اشْتَرَكَتَا فِي مُطْلَقِ الْفِئَةِ، وَاخْتَلَفَتَا فِي الْوَصْفِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَقَدْ جاؤُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَرَدُوا ظُلْمًا كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ الْمَكَانَ فَيَكُونُ جَاءَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ الْجَارُّ أَيْ بِظُلْمٍ وَزُورٍ وَيَصِلَ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِذَا جَاءَ يُسْتَعْمَلُ بِهَذَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ وَظُلْمُهُمْ أَنْ جَعَلُوا الْعَرَبِيَّ يَتَلَقَّنُ مِنَ الْعَجَمِيِّ كَلَامًا عَرَبِيًّا أَعْجَزَ بِفَصَاحَتِهِ جَمِيعَ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَالزُّورُ أَنْ بَهَتُوهُ بِنِسْبَةِ مَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَقالُوا لِلْكُفَّارِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها أَيْ جَمَعَهَا مِنْ قَوْلِهِمْ كَتَبَ الشَّيْءَ أَيْ جَمَعَهُ أَوْ مِنَ الْكِتَابَةِ أَيْ كَتَبَهَا بِيَدِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ كَذِبِهِمْ عَلَيْهِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ وَيَكُونُ كَاسْتَكَبَّ الْمَاءَ وَاصْطَبَّهُ أَيْ سَكَبَهُ وَصَبَّهُ. وَيَكُونُ لَفْظُ افْتَعَلَ مُشْعِرًا بِالتَّكَلُّفِ وَالِاعْتِمَالِ أَوْ بِمَعْنَى أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ كَقَوْلِهِمُ احْتَجَمَ وَافْتَصَدَ إِذَا أَمَرَ بِذَلِكَ. فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أَيْ تُلْقَى عَلَيْهِ لِيَحْفَظَهَا لِأَنَّ صُورَةَ الْإِلْقَاءِ عَلَى الْمُتَحَفِّظِ كَصُورَةِ الْإِمْلَاءِ عَلَى الكاتب.
وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ أَوْ هَذِهِ أَساطِيرُ واكْتَتَبَها خَبَرٌ ثَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون أَساطِيرُ مبتدأ واكْتَتَبَها الْخَبَرَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ اكْتَتَبَها مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقِرَاءَةُ طَلْحَةَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْمَعْنَى اكْتَتَبَها كَاتِبٌ لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ بِيَدِهِ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ إِعْجَازِهِ، ثُمَّ حُذِفَتِ اللَّامُ فَأَفْضَى الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ فَصَارَ اكْتَتَبَها إِيَّاهُ كَاتِبٌ كَقَوْلِهِ وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «٢» ثُمَّ بُنِيَ الْفِعْلُ لِلضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ إِيَّاهُ فَانْقَلَبَ مَرْفُوعًا مُسْتَتِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ بَارِزًا مَنْصُوبًا وَبَقِيَ ضَمِيرُ الْأَسَاطِيرِ عَلَى حَالِهِ، فَصَارَ اكْتَتَبَها كَمَا تَرَى انْتَهَى. وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ اكْتَتَبَها لَهُ كَاتِبٌ وُصِلَ فِيهِ اكْتَتَبَ لِمَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسَرَّحٌ وَهُوَ ضَمِيرُ الْأَسَاطِيرِ، وَالْآخَرُ مُقَيَّدٌ وَهُوَ ضَمِيرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ اتُّسِعَ فِي الْفِعْلِ فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَصَارَ اكْتَتَبَها إِيَّاهُ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٣.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٥.
82
كَاتِبٌ فَإِذَا بُنِيَ هَذَا الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ إِنَّمَا يَنُوبُ عَنِ الْفَاعِلِ الْمَفْعُولُ الْمُسَرَّحُ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا لَا الْمُسَرَّحُ لَفْظًا الْمُقَيَّدُ تَقْدِيرًا، فَعَلَى هَذَا كَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ اكْتَتَبَتْهُ لَا اكْتَتَبَها وَعَلَى هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ جَاءَ السَّمَاعُ عَنِ الْعَرَبِ فِي هَذَا النَّوْعِ الَّذِي أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ فِيهِ مُسَرَّحٌ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا وَالْآخَرُ مُسَرَّحٌ لَفْظًا لَا تَقْدِيرًا. قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ الْفَرَزْدَقُ:
وَمِنَّا الَّذِي اخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً وَجُودًا إِذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزُّعَازِعُ
وَلَوْ جَاءَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَجَاءَ التَّرْكِيبُ وَمِنَّا الَّذِي اخُتِيرَهُ الرِّجَالَ لِأَنَّ اخْتَارَ تَعَدَّى إِلَى الرِّجَالِ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ إِذْ تَقْدِيرُهُ اخْتِيرَ مِنَ الرِّجَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا مِنْ تَمَامِ قَوْلِ الْكُفَّارِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ سبحانه بكذبهم وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ فَتَحْتَ الْهَمْزَةَ فِي اكْتَتَبَها لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ نَحْوَ قَوْلِهِ:
أَفْرَحُ إِنْ أُرْزَأَ الْكِرَامُ وَأَنْ آخُذَ ذَوْدًا شَصَايِصًا نَبَلَا
وَحُقَّ لِلْحَسَنِ أَنْ يَقِفَ عَلَى الأولين. والظهر تَقْيِيدُ الْإِمْلَاءِ بِوَقْتِ انْتِشَارِ النَّاسِ وَحِينِ الْإِيوَاءِ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ وَهُمَا الْبُكْرَةُ وَالْأَصِيلُ، أَوْ يَكُونَانِ عِبَارَةً عَنِ الدَّيْمُومَةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَعِيسَى فَهِيَ تُتْلَى بِالتَّاءِ بَدَلَ الْمِيمِ.
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أَيْ كُلَّ سِرٍّ خَفِيٍّ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا وَهُوَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ لِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَمْ يَكُنْ لِيَصْدُرَ إِلَّا مِنْ عَلَّامٍ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ لِمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ إِعْجَازِ التَّرْكِيبِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ صُدُورُهُ مِنْ أَحَدٍ، وَلَوِ اسْتَعَانَ بِالْعَالَمِ كُلِّهِمْ وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَصَالِحِ الْعَالَمِ وَعَلَى أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَاكْتَفَى بِعِلْمِ السِّرِّ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ أَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ عِلْمُهُ بِهِ، أَوْ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ مِنَ الْكَيْدِ لِرَسُولِهِ مَعَ عِلْمِكُمْ بِبُطْلِ مَا تَقُولُونَ فَهُوَ مُجَازِيكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً إِطْمَاعٌ فِي أَنَّهُمْ إِذَا تَابُوا غَفَرَ لَهُمْ مَا فرط من كفرهم ورخمهم. أَوْ غَفُوراً رَحِيماً فِي كَوْنِهِ أَمْهَلَكُمْ وَلَمْ يُعَاجِلْكُمْ عَلَى مَا اسْتَوْجَبْتُمُوهُ مِنَ الْعِقَابِ بِسَبَبِ مُكَابَرَتِكُمْ، أَوْ لَمَّا تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِقَابِ أَعْقَبَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَاقِبَ.
وَقالُوا الضَّمِيرُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا قَدْ جَمَعَهُمْ وَالرَّسُولَ مَجْلِسٌ مَشْهُورٌ
ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيَرِ فَقَالَ عُتْبَةُ وَغَيْرُهُ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ الرِّئَاسَةَ وَلَّيْنَاكَ عَلَيْنَا أَوِ الْمَالَ جَمَعْنَا لَكَ، فَلَمَّا أَبَى عَلَيْهِمُ اجْتَمَعُوا عليه فقالوا: مالك وَأَنْتَ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ تَأْكُلُ الطَّعَامَ وَتَقِفُ
83
بِالْأَسْوَاقِ لِالْتِمَاسِ الرِّزْقِ سَلْ رَبَّكَ أَنْ يُنْزِلَ مَعَكَ مَلَكًا يُنْذِرُ مَعَكَ، أَوْ يُلْقِيَ إِلَيْكَ كَنْزًا تُنْفِقُ مِنْهُ، أَوْ يَرُدَّ لَكَ جِبَالَ مَكَّةَ ذَهَبًا وَتُزَالَ الْجِبَالُ، وَيَكُونَ مَكَانَهَا جَنَّاتٌ تَطَّرِدُ فِيهَا الْمِيَاهُ وَأَشَاعُوا هَذِهِ الْمُحَاجَّةَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ لَامُ الجر مفصولة من لِهذَا ولِهذَا اسْتِفْهَامٌ يَصْحَبُهُ اسْتِهْزَاءٌ أَيْ ما لِهذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولٌ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ مَا هُوَ عَادَةٌ لِلرُّسُلِ كَمَا قَالَ وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ «١» أَيْ حَالُهُ كَحَالِنَا أَيْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْأَكْلِ وَالتَّعَيُّشِ، ثُمَّ قَالُوا: وَهَبْ أَنَّهُ بَشَرٌ فَهَلَّا أُرْفِدَ بِمَلَكٍ يُنْذِرُ مَعَهُ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ مِنَ السَّمَاءِ يَسْتَظْهِرُ بِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعَاشِ. ثُمَّ اقْتَنَعُوا بِأَنْ يَكُونَ لَهُ بُسْتَانٌ يَأْكُلُ مِنْهُ وَيَرْتَزِقُ كَالْمَيَاسِيرِ.
وَقُرِئَ فَتَكُونُ بِالرَّفْعِ حَكَاهُ أَبُو مُعَاذٍ عَطْفًا عَلَى أُنْزِلَ لِأَنَّ أُنْزِلَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَهُوَ مَاضٍ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمُضَارِعِ، أَيْ هَلَّا يَنْزِلُ إِلَيْهِ مَلَكٌ أَوْ هُوَ جَوَابُ التَّحْضِيضِ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ، أَيْ فَهُوَ يَكُونُ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ التخضيض. وَقَوْلُهُ أَوْ يُلْقى أَوْ يَكُونُ عُطِفَ عَلَى أُنْزِلَ أَيْ لَوْلَا يَنْزِلُ فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ أَحَدَ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ مَجْمُوعَهَا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْقَائِلِينَ، وَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ فِي أَوْ يُلْقى وَلَا فِي أَوْ تَكُونُ عَطْفًا عَلَى فَيَكُونَ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الْمَطْلُوبِ بِالتَّحْضِيضِ لَا فِي حُكْمِ الْجَوَابِ لِقَوْلِهِ لَوْلا أُنْزِلَ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ: أَوْ يَكُونُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ. وَقَرَأَ يَأْكُلُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ أَيِ الرَّسُولُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ بِنُونِ الْجَمْعِ أَيْ يَأْكُلُونَ هُمْ مِنْ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي دُنْيَاهُمْ وَمَعَاشِهِمْ.
وَقالَ الظَّالِمُونَ أَيْ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَرَادَ بِالظَّالِمِينَ إِيَّاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وضع الظاهر موضع المضمر لِيُسَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ فِيمَا قَالُوهُ انْتَهَى. وَتَرْكِيبُهُ وَأَرَادَ بِالظَّالِمِينَ إِيَّاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ لَيْسَ تَرْكِيبًا سَائِغًا بَلِ التَّرْكِيبُ الْعَرَبِيُّ أَنْ يَقُولَ: وَأَرَادَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ بِالظَّالِمِينَ مَسْحُوراً غَلَبَ عَلَى عَقْلِهِ السِّحْرُ وَهَذَا أَظْهَرُ، أَوْ ذَا سَحْرٍ وَهُوَ الرِّئَةُ، أَوْ يُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ أَيْ يُغَذَّى، أَوْ أُصِيبَ سَحْرُهُ كَمَا تَقُولُ رَأَسْتُهُ أَصَبْتُ رَأْسَهُ. وَقِيلَ مَسْحُوراً سَاحِرًا عَنَوْا بِهِ أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ لَا مَلَكٌ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْإِسْرَاءِ وَبِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ قِيلَ: وَالْقَائِلُونَ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُمْ.
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٢٠.
84
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أَيْ قَالُوا فِيكَ تِلْكَ الْأَقْوَالَ وَاخْتَرَعُوا لَكَ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالَ النَّادِرَةَ مِنْ نُبُوَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ إِنْسَانٍ وَمَلَكٍ وَإِلْقَاءِ كَنْزٍ عَلَيْكَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَبَقُوا مُتَحَيِّرِينَ ضُلَّالًا لَا يَجِدُونَ قَوْلًا يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ، أَيْ فَضَلُّوا عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَجِدُونَ طَرِيقًا لَهُ.
وَقِيلَ: ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بِالْمَسْحُورِ وَالْكَاهِنِ وَالشَّاعِرِ وَغَيْرِهِ فَضَلُّوا أخطؤوا الطَّرِيقَ فَلَا يَجِدُونَ سَبِيلَ هِدَايَةٍ وَلَا يُطِيقُونَهُ لِالْتِبَاسِهِمْ بِضِدِّهِ مِنَ الضَّلَالِ. وَقِيلَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إِلَى حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ عَلَى مَا يَقُولُونَ، فَمَرَّةً يَقُولُونَ هُوَ بَلِيغٌ فَصِيحٌ يَتَقَوَّلُ الْقُرْآنَ مِنْ نَفْسِهِ وَيَفْتَرِيهِ وَمَرَّةً مَجْنُونٌ وَمَرَّةً سَاحِرٌ وَمَرَّةً مَسْحُورٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَبَّهَ لَكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْأَشْبَاهَ بِقَوْلِهِمْ هُوَ مَسْحُورٌ فَضَلُّوا بِذَلِكَ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، فَلَا يَجِدُونَ طَرِيقًا إِلَى الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَكَ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَجِدُونَ مَخْرَجًا يُخْرِجُهُمْ عَنِ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبُوا لَكَ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا لَكَ هَذِهِ لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى تَكْذِيبِكَ فَضَلُّوا عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَعَنْ بُلُوغِ مَا أَرَادُوا.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ انْظُرْ كَيْفَ اشْتَغَلَ الْقَوْمُ بِضَرْبِ هَذِهِ الْأَمْثَالِ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا لِأَجْلِ أَنَّهُمْ لَمَّا ضَلُّوا وَأَرَادُوا الْقَدْحَ فِي نُبُوَّتِكَ، لَمْ يَجِدُوا إِلَى القدح سبيلا إذا لطعن عَلَيْهِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَقْدَحُ فِي الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ادَّعَاهَا لَا بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْقَوْلِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَسْتَطِيعُونَ فِي أَمْرِكَ حِيلَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ سَبِيلًا إِلَى الطَّعْنِ.
وَلَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ مَا قَالُوا قِيلَ: فِيمَا يُرْوَى إِنْ شِئْتَ أَنْ نُعْطِيَكَ خَزَائِنَ الدُّنْيَا وَمَفَاتِيحَهَا، وَلَمْ يُعْطَ ذَلِكَ أَحَدٌ قَبْلَكَ وَلَا يُعْطَاهُ أَحَدٌ بَعْدَكَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَاقِصِكَ فِي الْآخِرَةِ شَيْئًا، وَإِنْ شِئْتَ جَمَعْنَاهُ لَكَ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: يُجْمَعُ لِي ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَنَزَلَ تَبارَكَ الَّذِي.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: عَرَضَ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا فَقُلْتُ: بَلْ شُبْعَةٌ وَثَلَاثُ جَوْعَاتٍ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ لِذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَبارَكَ أَيْ تَكَاثَرَ خَيْرًا الَّذِي إِنْ شاءَ وَهَبَ لَكَ فِي الدُّنْيَا خَيْراً مِمَّا قَالُوا وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ مثل ما وعدك في الْآخِرَةِ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْقُصُورِ انتهى. والإشارة بذلك الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْجَنَّةِ وَالْكَنْزِ فِي الدُّنْيَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَيَبْعُدُ تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَكْلِهِ الطَّعَامَ وَمَشْيِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْجَعْلَ كَانَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا لَوْ شَاءَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: فِي الْآخِرَةِ وَدَخَلَتْ إِنْ عَلَى الْمَشِيئَةِ تَنْبِيهًا أَنَّهُ لَا يُنَالُ ذَلِكَ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ وَأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى مَحْضِ مَشِيئَتِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي تَبْكِيتِ الْكُفَّارِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ كَذَّبُوا
85
بِالسَّاعَةِ
انْتَهَى. وَلَا يَرُدُّهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى بِهِ مُتَمَكِّنٌ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْهُمْ يَقُولُ: بَلْ أَتَى بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ تَكْذِيبُهُمْ بِالسَّاعَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيَجْعَلْ بِالْجَزْمِ قَالُوا عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ جَعَلَ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إِنْ يَشَأْ يَجْعَلْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أُدْغِمَتْ لَامُهُ فِي لَامِ لَكَ لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ مَذْهَبِ أَبِي عَمْرٍو وَالَّذِي قَرَأَ بِالْجَزْمِ مِنَ السَّبْعَةِ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو، وَلَيْسَ مِنْ مَذْهَبِ الثَّلَاثَةِ إِدْغَامُ الْمِثْلَيْنِ إِذَا تَحَرَّكَ أَوَّلُهُمَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي عمر وكما ذَكَرْنَا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِالرَّفْعِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالِاسْتِئْنَافُ وَوَجْهُهُ الْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ جَعَلَ لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ هُوَ مَوْضِعُ اسْتِئْنَافٍ. ألا ترى أن الجمل مِنَ الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ قَدْ تَقَعُ مَوْقِعَ جَوَابِ الشَّرْطِ؟ وقال الحوفي من رفع جَعَلَهُ مُسْتَأْنَفًا مَنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ وَيَجْعَلْ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جَعَلَ لِأَنَّ الشَّرْطَ إِذَا وَقَعَ مَاضِيًا جَازَ فِي جَوَابِهِ الْجَزْمُ وَالرَّفْعُ كَقَوْلِهِ:
وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرَمُ
انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا جَازَ فِي جَوَابِهِ الرَّفْعُ لَيْسَ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ، إِذْ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ وَأَنَّ هَذَا الْمُضَارِعَ الْمَرْفُوعَ النِّيَّةُ بِهِ التَّقْدِيمُ، وَلِكَوْنِ الْجَوَابِ مَحْذُوفًا لَا يَكُونُ فِعْلُ الشَّرْطِ إِلَّا بِصِيغَةِ الْمَاضِي.
وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ وَالْمُبَرِّدُ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْجَوَابُ وَأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ، وَذَهَبَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْجَوَابُ وَلَيْسَ عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ وَلَا عَلَى التَّقْدِيمِ، وَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ تَأْثِيرٌ فِي فِعْلِ الشَّرْطِ لِكَوْنِهِ مَاضِيَ اللَّفْظِ ضَعُفَ عَنِ الْعَمَلِ فِي فِعْلِ الْجَوَابِ فَلَمْ تَعْمَلْ فِيهِ، وَبَقِيَ مَرْفُوعًا وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ فَصِيحٌ وَأَنَّهُ جَائِزٌ فِي الْكَلَامِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ ضَرُورَةٌ إِذْ لَمْ يَجِئْ إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْفَاءِ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَيَجْعَلْ بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ أَنْ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ هِيَ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ بِالْوَاوِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ انْتَهَى. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ رَبِيعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ
وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ أَجِبِّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
يروى بجرم نَأْخُذُ وَرَفْعِهِ وَنَصْبِهِ. بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْمَعْنَى مَا مَنَعَهُمْ مِنَ
86
الْإِيمَانِ أَكْلُكَ الطَّعَامَ وَلَا مَشْيُكَ فِي السُّوقِ، بَلْ مَنَعَهُمْ تَكْذِيبُهُمْ بِالسَّاعَةِ. وَقِيلَ: لَيْسَ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ شُبْهَةً بَلِ الْحَامِلُ عَلَى تَكْذِيبِكَ تَكْذِيبُهُمْ بِالسَّاعَةِ اسْتِثْقَالًا لِلِاسْتِعْدَادِ لَهَا. وَقِيلَ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِمَا يَلِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ فَكَيْفَ يَلْتَفِتُونَ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ، وَكَيْفَ يُصَدِّقُونَ بِتَعْجِيلِ مِثْلِ مَا وَعَدَكَ فِي الْآخِرَةِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ انْتَهَى.
وَبَلْ لِتَرْكِ اللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ لِمَعْنَاهُ. وَأَخْذٍ فِي لَفْظٍ آخَرَ وَأَعْتَدْنا جَعَلْنَاهُ مُعَدًّا. سَعِيراً نَارًا كَبِيرَةَ الْإِيقَادِ. وَعَنِ الحسن: اسم من أسماء جَهَنَّمَ. إِذا رَأَتْهُمْ قِيلَ هُوَ حَقِيقَةٌ وَإِنَّ لِجَهَنَّمَ عَيْنَيْنِ وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ فَإِنْ صَحَّ كَانَ هُوَ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ. وَإِلَّا كَانَ مَجَازًا، أَيْ صَارَتْ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا يَرَى الرَّائِي مِنَ الْبُعْدِ كَقَوْلِهِمْ: دُورُهُمْ تَتَرَاءَى أَيْ تَتَنَاظَرُ وَتَتَقَابَلُ، وَمِنْهُ: لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا. وَقَالَ قَوْمٌ: النَّارُ اسْمٌ لِحَيَوَانٍ نَارِيٍّ يَتَكَلَّمُ وَيَرَى وَيَسْمَعُ وَيَتَغَيَّرُ وَيَزْفِرُ حَكَاهُ الْكَرْمَانِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ رَأَتْهُمْ خَزَنَتُهَا مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، قِيلَ: مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَقِيلَ: مِائَةُ سَنَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةٌ سَمِعُوا لَها صَوْتَ تَغَيُّظٍ لِأَنَّ التَّغَيُّظَ لَا يُسْمَعُ، وَإِذَا كَانَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كَانَ الْمَعْنَى تَغَيَّظُوا وَزَفَرُوا غَضَبًا عَلَى الْكُفَّارِ وَشَهْوَةً لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. وَقِيلَ سَمِعُوا صَوْتَ لَهِيبِهَا وَاشْتِعَالِهَا وَقِيلَ هُوَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَيَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
وَهَذَا مُخَرَّجٌ عَلَى تَخْرِيجَيْنِ أَحَدُهُمَا الْحَذْفُ أَيْ وَمُعْتَقِلًا رُمْحًا. وَالثَّانِي تَضْمِينٌ ضَمَّنَ مُتَقَلِّدًا مَعْنَى مُتَسَلِّحًا فَكَذَلِكَ الْآيَةُ أَيْ سَمِعُوا لَها وَرَأَوْا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَعَادَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ. أَوْ ضَمَّنَ سَمِعُوا مَعْنَى أَدْرَكُوا فَيَشْمَلُ التَّغَيُّظَ وَالزَّفِيرَ. وَانْتَصَبَ مَكاناً عَلَى الظَّرْفِ أَيْ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَضِيقُ عَلَيْهِمْ ضِيقَ الزَّجِّ فِي الرُّمْحِ مُقَرَّنِينَ قُرِنَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ بِالسَّلَاسِلِ. وَقِيلَ: يُقْرَنُ مَعَ كُلِّ كَافِرٍ شَيْطَانُهُ فِي سِلْسِلَةٍ وَفِي أَرْجُلِهِمُ الْأَصْفَادُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعُبَيْدٌ عَنْ أَبِي عمر وضيقا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَقَرَأَ أَبُو شَيْبَةَ صَاحِبُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مُقَرَّنُونَ بِالْوَاوِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وَالْوَجْهُ قِرَاءَةُ النَّاسِ وَنَسَبَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَوَجْهُهَا أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ضَمِيرِ أُلْقُوا بَدَلَ نَكِرَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ وَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ دُعَاءُ الثُّبُورِ وَهِيَ الهلاك فيقولون: وا ثبوراه أَيْ يُقَالُ يَا ثُبُورُ فَهَذَا أَوَانُكَ. وَقِيلَ: الْمَدْعُوُّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ دَعَوْا مَنْ لَا يُجِيبُهُمْ قَائِلِينَ ثُبِرْنَا ثُبُورًا. وَالثُّبُورُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْوَيْلُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْهَلَاكُ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الزِّبَعْرَى:
87
إِذْ يُجَارِي الشَّيْطَانَ فِي سَنَنِ الْغَيِّ وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ يُقَالُ لَهُمْ لَا تَدْعُوا أَوْ هُمْ أَحَقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَوْلٌ، أَيْ لَا تَقْتَصِرُوا عَلَى حُزْنٍ وَاحِدٍ بَلِ احْزَنُوا حُزْنًا كَثِيرًا وَكَثْرَتُهُ إِمَّا لِدَيْمُومَةِ الْعَذَابِ فَهُوَ متجددا دَائِمًا، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَنْوَاعٌ وَكُلُّ نَوْعٍ يَكُونُ مِنْهُ ثُبُورٌ لِشِدَّتِهِ وَفَظَاعَتِهِ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ ثُبُوراً بِفَتْحِ الثَّاءِ فِي ثَلَاثَتِهَا وفعول بفتح الواو فِي الْمَصَادِرِ قَلِيلٌ نَحْوُ الْبَتُولِ.
وَحَكَى عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: مَا ثَبَرَكَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَيْ مَا صَرَفَكَ. كَأَنَّهُمْ دَعَوْا بِمَا فَعَلُوا فَقَالُوا:
وَاصَرْفَاهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ: ووا ندامتاه.
رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُنَادِي بِذَلِكَ إِبْلِيسُ يَقُولُ:
وا ثبوراه حَتَّى يُكْسَى حُلَّةً مِنْ جَهَنَّمَ يَضَعُهَا عَلَى جَبِينِهِ وَيَسْحَبُهَا مِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ يَتْبَعُهُ فِي الْقَوْلِ أَتْبَاعُهُ فَيَقُولُ لَهُمْ خُزَّانُ جَهَنَّمَ لَا تَدْعُوا الْآيَةِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ خَطَلٍ وَأَصْحَابِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ إِلَى النَّارِ وَأَحْوَالِ أَهْلِهَا. وَقِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْكَنْزِ فِي قَوْلِهِمْ. وَقِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْقُصُورِ الْمَجْعُولَةِ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَقْدِيرِ المشيئة وخَيْرٌ هُنَا لَيْسَتْ تَدُلُّ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ بَلْ هِيَ عَلَى مَا جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي بَيَانِ فَضْلِ الشَّيْءِ وَخُصُوصِيَّتِهِ بِالْفَضْلِ دُونَ مُقَابِلِهِ كَقَوْلِهِ:
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: الشَّقَاءُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ السَّعَادَةُ. وَكَقَوْلِهِ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ «١» وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْقِيفِ وَالتَّوْبِيخِ.
قال ابن عطية: ومن حَيْثُ كَانَ الْكَلَامُ اسْتِفْهَامًا جَازَ فِيهِ مَجِيءُ لَفْظِهِ لِلتَّفْضِيلِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي الْخَيْرِ لِأَنَّ الْمُوقِفَ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يُوقِفَ مُحَاوِرَهُ عَلَى مَا شَاءَ لِيَرَى هَلْ يُجِيبُهُ بِالصَّوَابِ أَوْ بِالْخَطَأِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنَ التَّفْضِيلِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ خَبَرًا لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَ اسْتِفْهَامًا فَذَلِكَ سَائِغٌ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ يُخَالِفُهُ قَوْلِهِ:
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وَقَوْلُهُ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلِهِمْ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ إِلَّا إِنْ تَقَيَّدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ وَاضِحًا الْحُكْمُ فِيهِ لِلسَّامِعِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِجُ فِي ذِهْنِهِ وَلَا يَتَرَدَّدُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ. وَضَمِيرُ الَّتِي مَحْذُوفٌ أَيْ وعدها وضمير ما يَشاؤُنَ كذلك أي ما يشاؤونه وفي قوله ما يشاؤونه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْمُرَادَاتِ بِأَسْرِهَا لَا تَكُونُ إِلَّا فِي
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٣٣.
88
الْجَنَّةِ. وَشَمَلَ قَوْلُهُ جَزاءً وَمَصِيراً الثَّوَابَ وَمَحَلَّهُ كَمَا قَالَ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً «١» وَفِي ضِدِّهِ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً «٢» لِأَنَّهُ بِطِيبِ الْمَكَانِ يَتَضَاعَفُ النَّعِيمُ، كَمَا أَنَّهُ بِرَدَاءَتِهِ يَتَضَاعَفُ الْعَذَابُ وَعْداً أَيْ مَوْعُودًا مَسْؤُلًا سَأَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فِي قَوْلِهِمْ رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ «٣» قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالنَّاسُ فِي قَوْلِهِمْ رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «٤» رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً «٥» وَقَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَعْداً مَسْؤُلًا أَيْ وَاجِبًا يُقَالُ لَأُعْطِيَنَّكَ ألفا وعدا مسؤولا أَيْ وَاجِبًا، وَإِنْ لَمْ يُسْأَلْ. قِيلَ: وَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ مُحَالٌ انْتَهَى. وَلَيْسَ مُحَالًا إِذْ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسْأَلَ هَذَا الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدْتَهُ أَوْ بِصَدَدِ أَنْ يُسْأَلَ أَيْ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يكون مسؤولا.
وعَلى رَبِّكَ أَيْ بِسَبَبِ الْوَعْدِ صَارَ لَا بُدَّ مْنِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ ذَلِكَ مَوْعُودًا وَاجِبًا عَلَى رَبِّكَ إِنْجَازُهُ حَقِيقًا أَنْ يُسْأَلَ. وَيُطْلَبَ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ وَأَجْرٌ مُسْتَحَقٌّ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٧ الى ٢٤]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٣١.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٢٩.
(٣) سورة غافر: ٤٠/ ٨.
(٤) سورة آل عمران: ٣/ ١٩٤.
(٥) سورة البقرة: ٢/ ٢٠١. [.....]
89
قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ يَحْشُرُهُمْ وفَيَقُولُ بِالْيَاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنُّونِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ فِي نَحْشُرُهُمْ بِالنُّونِ وَفِي فَيَقُولُ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ يَحْشُرُهُمْ بِكَسْرِ الشِّينِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ الثُّلَاثِيَّةِ لِأَنَّ يَفْعُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ قَدْ يَكُونُ مِنَ اللَّازِمِ الَّذِي هُوَ فَعُلَ بِضَمِّهَا فِي الْمَاضِي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قَلِيلَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ قَوِيَّةٌ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّ يفعل بكسر العين الْمُتَعَدِّي أَقْيَسُ مِنْ يَفْعُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذكر ابل فَعُلَ الْمُتَعَدِّي الصَّحِيحُ جَمِيعُ حُرُوفِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَا حَلْقِيَّ عَيْنٍ وَلَا لَامٍ فَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى يَفْعَلُ وَيَفْعُلُ كَثِيرًا، فَإِنْ شُهِرَ أَحَدُ الِاسْتِعْمَالَيْنِ اتُّبِعَ وَإِلَّا فَالْخِيَارُ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا خَيَّرَ فِيهِمَا سَمِعَا لِلْكَلِمَةِ أَوْ لَمْ يَسْمَعَا.
وَما يَعْبُدُونَ قَالَ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ: الْأَصْنَامُ الَّتِي لَا تَعْقِلُ يُقْدِرُهَا اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِنَ الْجَوَابِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يُحْيِي اللَّهُ الْأَصْنَامَ يَوْمَئِذٍ لِتَكْذِيبِ عَابِدِيهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَنْ عُبِدَ مِمَّنْ يَعْقِلُ مِمَّنْ لَمْ يَأْمُرْ بِعِبَادَتِهِ كَالْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى وَعُزَيْرٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ كَقَوْلِهِ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا أَنَّهَا لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَجَاءَ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مَنْصُوصًا فِي قَوْلِهِ ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ «١» أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «٢» وَسُؤَالُهُ تَعَالَى وَهُوَ عَالِمٌ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ لِيُجِيبُوا بِمَا أَجَابُوا بِهِ فَيُبَكِّتَ عَبَدَتَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ فَيَزِيدَ حَسْرَتَهُمْ وَيُسَرُّ الْمُؤْمِنُونَ بِحَالِهِمْ وَنَجَاتِهِمْ مِنْ فَضِيحَةِ أُولَئِكَ، وَلِيَكُونَ حِكَايَةُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ لُطْفًا لِلْمُكَلَّفِينَ. وَجَاءَ الِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّمًا فِيهِ الِاسْمُ عَلَى الْفِعْلِ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ أَأَضْلَلْتُمْ وَلَا أَضَلُّوا لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِضْلَالِ وَالضَّلَالِ وَاقِعٌ وَالسُّؤَالُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ فَاعِلِهِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ «٣» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ كَسْرٌ بَيِّنٌ لِقَوْلِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ عِبَادَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَيْثُ يَقُولُ لِلْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِهِ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ أم ضلوا
(١) سورة سبأ: ٣٤/ ٤٠.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ١١٦.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٦٢.
90
بأنفسهم فيتبرؤون مِنْ ضَلَالِهِمْ وَيَسْتَعِيذُونَ بِهِ أَنْ يَكُونُوا مُضِلِّينَ وَيَقُولُونَ: بَلْ أَنْتَ تَفَضَّلْتَ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةٍ عَلَى هَؤُلَاءِ وَآبَائِهِمْ تَفَضُّلَ جَوَادٍ كَرِيمٍ، فَجَعَلُوا الرَّحْمَةَ الَّتِي حَقُّهَا أَنْ تَكُونَ سَبَبَ الشُّكْرِ سَبَبَ الْكُفْرِ وَنِسْيَانِ الذِّكْرِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ فَإِذَا تَبَرَّأَتِ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّسُلُ أَنْفُسُهُمْ مِنْ نِسْبَةِ الضَّلَالِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الشَّيَاطِينِ إِلَيْهِمْ وَاسْتَعَاذُوا مِنْهُمْ فَهُمْ لِرَبِّهِمِ الْغِنِيِّ الْعَدْلِ أَشَدُّ تَبْرِئَةً وَتَنْزِيهًا مِنْهُ، وَلَقَدْ نَزَّهُوهُ حِينَ أَضَافُوا إِلَيْهِ التَّفَضُّلَ بِالنِّعْمَةِ وَالتَّمْتِيعَ بِهَا. وَأَسْنَدُوا نِسْيَانَ الذِّكْرِ وَالتَّسَبُّبَ بِهِ لِلْبَوَارِ إِلَى الْكَفَرَةِ فشرحا الْإِضْلَالَ الْمَجَازِيَّ الَّذِي أَسْنَدَهُ اللَّهُ إِلَى ذَاتِهِ فِي قَوْلِهِ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ «١» وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُضِلَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكَانَ الْجَوَابُ الْعَتِيدُ أَنْ يَقُولُوا بَلْ أنت أضللتم انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَالْمَعْنَى أَأَنْتُمْ أَوْقَعْتُمْ هَؤُلَاءِ وَنُسِبْتُمْ لَهُمْ فِي إِضْلَالِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، أَمْ ضَلُّوا بأنفسهم عنه. ضل أَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِعَنْ كَقَوْلِهِ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ «٢» ثُمَّ اتُّسِعَ فَحُذِفَ، وَأَضَلَّهُ عَنِ السَّبِيلِ كَمَا أَنَّ هَدَى يَتَعَدَّى بِإِلَى ثُمَّ يُحْذَفُ وَيَضِلُّ مُطَاوِعُ أَضَلَّ كَمَا تَقُولُ:
أَقْعَدْتُهُ فقعد. وسُبْحانَكَ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ أَحَدٌ أَوْ يُفْرَدَ بِعِبَادَةٍ فَأَنَّى لَهُمْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ إِضْلَالُ أَحَدٍ وَهُمُ الْمُنَزَّهُونَ الْمُقَدَّسُونَ، أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْهُمْ نِدًّا وَهُوَ الْمُنَزَّهُ عَنِ النِّدِّ وَالنَّظِيرِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُبْحانَكَ تَعَجُّبٌ مِنْهُمْ مِمَّا قِيلَ لِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فَمَا أَبْعَدَهُمْ عَنِ الْإِضْلَالِ الَّذِي هُوَ مُخْتَصٌّ بِإِبْلِيسَ وَحِزْبِهِ انْتَهَى.
وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ مَا يَنْبَغِي بِسُقُوطِ كَانَ وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِثُبُوتِهَا أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ حَالٍ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا وَوَقْتُ الْإِخْبَارِ لَا عَمَلَ فِيهِ. وَقَرَأَ أَبُو عِيسَى الْأَسْوَدُ الْقَارِيُّ يَنْبَغِي لَنا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ يُنْبَغَى لُغَةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ نَتَّخِذَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ ومِنْ أَوْلِياءَ مَفْعُولٌ عَلَى زِيَادَةِ مِنْ وَحَسَّنَ زِيَادَتَهَا انْسِحَابُ النَّفْيِ عَلَى نَتَّخِذَ لِأَنَّهُ معمول لينبغي. وَإِذَا انْتَفَى الِابْتِغَاءُ لَزِمَ مِنْهُ انْتِفَاءُ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ اتِّخَاذُ وَلِيٍّ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَنَظِيرُهُ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ «٣» أَيْ خَيْرٌ وَالْمَعْنَى مَا كَانَ يَصِحُّ لَنَا وَلَا يَسْتَقِيمُ وَنَحْنُ مَعْصُومُونَ أَنْ نَتَوَلَّى أَحَدًا دُونَكَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ لَنَا أَنْ نَحْمِلَ غَيْرَنَا عَلَى أَنْ يَتَوَلَّوْنَا دُونَكَ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَكُونَ أَمْثَالَ الشَّيَاطِينِ نريد الكفر فنتولى
(١) سورة الرعد: ١٢/ ٢٧ وغيرها.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١١٧.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٠٥.
91
الْكُفَّارَ قَالَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ «١».
وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَنَصْرُ بْنُ عَلْقَمَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَخُوهُ الْبَاقِرُ وَمَكْحُولٌ وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَحَفْصُ بْنُ عُبَيْدٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالسُّلَمِيُّ وَشَيْبَةُ وَأَبُو بِشْرٍ وَالزَّعْفَرَانِيُّ أَنْ يُتَّخَذَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ
وَاتَّخَذَ مِمَّا يَتَعَدَّى تَارَةً لِوَاحِدٍ كَقَوْلِهِ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ «٢» وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ وَتَارَةً إِلَى اثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «٣» فَقِيلَ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ مِنْهُ فَالْأَوَّلُ الضَّمِيرُ فِي نَتَّخِذَ وَالثَّانِي مِنْ أَوْلِياءَ ومِنْ لِلتَّبْعِيضِ أَيْ لَا يُتَّخَذُ بَعْضُ أَوْلِيَاءَ وَهَذَا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُضْعِفُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ دُخُولُ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَوْلِياءَ اعْتَرَضَ بِذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ مِنْ أَوْلِياءَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَدَخَلَتْ مِنْ زِيَادَةً لِمَكَانِ النَّفْيِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا تَقُولُ: مَا اتَّخَذْتُ زَيْدًا مِنْ وَكِيلٍ. وَقِيلَ مِنْ أَوْلِياءَ هُوَ الثَّانِي عَلَى زِيَادَةِ مِنْ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ إِنَّمَا يَجُوزُ دُخُولُهَا زَائِدَةً عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ بِشَرْطِهِ. وَقَرَأَ الْحَجَّاجُ أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ فَبَلَغَ عَاصِمًا فَقَالَ: مقت المخدّج أو ما عَلِمَ أَنَّ فِيهَا مِنْ وَلَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُمْ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ أَنَّا لَمْ نُضِلُّهُمْ وَلَمْ نَحْمِلْهُمْ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْإِيمَانِ صَلُحَ أَنْ يَسْتَدْرِكَ بَلَكِنْ، وَالْمَعْنَى لَكِنْ أَكْثَرْتَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمُ النِّعَمَ وَأَطَلْتَ أَعْمَارَهُمْ وَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ شُكْرُهَا وَالْإِيمَانُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قِيلَ: وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ كَالرَّمْزِ إِلَى مَا صَرَّحَ بِهِ مُوسَى مِنْ قَوْلِهِ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ «٤» أَيْ أَنْتَ الَّذِي أَعْطَيْتَهُمْ مَطَالِبَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى صَارُوا غَرْقَى فِي بَحْرِ الشَّهَوَاتِ فَكَانَ صَارِفًا لَهُمْ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى طَاعَتِكَ وَالِاشْتِغَالِ بِخِدْمَتِكَ والذِّكْرَ مَا ذُكِّرَ بِهِ النَّاسُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ أَوِ الْقُرْآنِ. وَالْبُورُ: قِيلَ مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. وَقِيلَ: جَمْعُ بَائِرٍ كَعَائِذٍ وَعُوذٍ.
قِيلَ: مَعْنَاهُ هَلْكَى. وَقِيلَ: فَسْدَى وَهِيَ لُغَةُ الْأَزْدِ يَقُولُونَ: أَمْرٌ بَائِرٌ أَيْ فَاسِدٌ، وَبَارَتِ الْبِضَاعَةُ: فَسَدَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا خَيْرَ فِيهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ أَرْضٌ بُورٌ أَيْ مُعَطَّلَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا. وَقِيلَ بُوراً عُمْيًا عَنِ الْحَقِّ.
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ بِلَا خِلَافٍ وَهِيَ مُفَاجَأَةٌ، فَالِاحْتِجَاجُ وَالْإِلْزَامُ حسنة
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٧.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢١.
(٣) سورة الفرقان: ٢٥/ ٤٣.
(٤) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٥.
92
رَابِعَةٌ وَخَاصَّةٌ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا الِالْتِفَاتُ وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ يَا أَهْلَ الْكِتابِ- إِلَى قَوْلِهِ- فَقَدْ جاءَكُمْ «١» أَيْ فَقُلْنَا قَدْ جَاءَكُمْ. وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
أَيْ فَقُلْنَا قَدْ جِئْنَا وَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ فَقُلْنَا قَدْ كَذَّبُوكُمْ، فَإِنْ كَانَ الْمُجِيبُ الْأَصْنَامَ فَالْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ أَيْ قَدْ كَذَّبَتْكُمْ مَعْبُودَاتُكُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ بِقَوْلِهِمْ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمَعْبُودِينَ مِنَ الْعُقَلَاءِ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةِ وَعُزَيْرٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لَتَنَاسَقَ الْخِطَابُ مَعَ قَوْلِهِ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ أَيْ كَذَّبَكُمُ الْمَعْبُودُونَ بِما تَقُولُونَ أَيْ بِقَوْلِهِمْ إِنَّكُمْ أَضْلَلْتُمُوهُمْ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَمَنْ قَرَأَ بِما تَقُولُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ فَالْمَعْنَى فِيمَا تَقُولُونَ أَيْ سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ. وَقِيلَ:
الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ الْعَابِدِينَ أَيْ كَذَّبَكُمُ الْمَعْبُودُونَ بِمَا تَقُولُونَ مِنَ الْجَوَابِ. سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَوْ فِيمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِمْ خُوطِبُوا عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ.
وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا أَيْ قَدْ كَذَّبَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْكُفَّارُ فِي الدُّنْيَا فِيمَا تَقُولُونَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالشَّرْعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِما تَقُولُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ. وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ الصَّلْتِ عَنْ قُنْبُلٍ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ.
وَقَرَأَ حَفْصٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ فَما تَسْتَطِيعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي كَذَّبُوكُمْ لِلْكُفَّارِ الْعَابِدِينَ. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي بَكْرٍ أَنَّهُمَا قَرَآ بِمَا يَقُولُونَ فَمَا يَسْتَطِيعُونَ بِالْيَاءِ فِيهِمَا أَيْ هُمْ. صَرْفاً أَيْ صَرْفَ الْعَذَابِ أَوْ تَوْبَةً أَوْ حِيلَةً مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَيَتَصَرَّفُ أَيْ يَحْتَالُ، هَذَا إِنْ كَانَ الخطاب في كَذَّبُوكُمْ للكفار فَالتَّاءُ جَارِيَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَالْيَاءُ الْتِفَاتٌ وَإِنْ كَانَ لِلْمَعْبُودِينَ فَالتَّاءُ الْتِفَاتٌ. وَالْيَاءُ جَارِيَةٌ عَلَى ضَمِيرِ كَذَّبُوكُمْ الْمَرْفُوعِ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ أُمَّةِ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ فالمعنى أنهم شديد والشكيمة فِي التَّكْذِيبِ فَما تَسْتَطِيعُونَ أَنْتُمْ صَرْفَهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَبِالْيَاءِ فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً لِأَنْفُسِهِمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ. أَوْ مَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفَكُمْ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَلا نَصْراً لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي اسْتَوْجَبُوهُ بِتَكْذِيبِهِمْ.
وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ. وَقِيلَ: خِطَابٌ للمؤمنين. وقيل: خطاب
(١) سورة المائدة: ٥/ ١٥.
93
لِلْكَافِرِينَ. وَالظُّلْمُ هُنَا الشِّرْكُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَيُحْتَمَلُ دُخُولُ الْمَعَاصِي غَيْرِ الشِّرْكِ فِي الظُّلْمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَذَابُ الْكَبِيرُ لَاحِقٌ لِكُلِّ مَنْ ظَلَمَ وَالْكَافِرُ ظَالِمٌ لِقَوْلِهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «١» وَالْفَاسِقُ ظَالِمٌ لِقَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «٢» انْتَهَى وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقُرِئَ: يُذِقْهُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ أَيِ اللَّهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: هُوَ أَيِ الظُّلْمُ وَهُوَ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ يَظْلِمْ أَيْ يُذِقْهُ الظُّلْمُ.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ الطَّعْنُ عَلَى الرَّسُولِ بِأَكْلِ الطَّعَامِ وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهَا عَادَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فِي كُلِّ رِسَالَةٍ وَمَفْعُولُ أَرْسَلْنا عِنْدَ الزَّجَّاجِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُمَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَحَدًا. وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ رِجَالًا أَوْ رُسُلًا. وَعَادَ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ «٣» أَيْ وَمَا مِنَّا أَحَدٌ وَالْجُمْلَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ صِفَةٌ أَعْنِي قَوْلَهُ إِلَّا إِنَّهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ إِلَّا آكِلِينَ وَمَاشِينَ. وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ مَوْصُولٌ مُقَدَّرٌ بَعْدَ إِلَّا أَيْ إِلَّا مَنْ. إِنَّهُمْ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مِنَ عَلَى مَعْنَاهَا فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَبْلَهُ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ أَيْ إِلَّا قِيلَ إِنَّهُمْ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَرْجُوحَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: التَّقْدِيرُ إِلَّا وَإِنَّهُمْ يَعْنِي أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةٌ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. قد رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ أَنَّ مَا بَعْدَ إِلَّا قَدْ يَجِيءُ صِفَةً وَأَمَّا حَذْفُ الْمَوْصُولِ فَضَعِيفٌ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى حِكَايَةِ الْحَالِ أَيْضًا أَبُو الْبَقَاءِ قَالَ: وَقِيلَ لَوْ لَمْ تَكُنِ اللَّامُ لَكُسِرَتْ لَأَنَّ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةٌ إِذِ الْمَعْنَى إِلَّا وَهُمْ يَأْكُلُونَ. وَقُرِئَ أَنَّهُمْ بِالْفَتْحِ عَلَى زِيَادَةِ اللَّامِ وَأَنَّ مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ إِلَّا أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ أَيْ مَا جَعَلْنَاهُمْ رُسُلًا إِلَى النَّاسِ إِلَّا لِكَوْنِهِمْ مِثْلَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَيَمْشُونَ مُضَارِعُ مَشَى خَفِيفًا.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَمْشُونَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ
، أَيْ يُمَشِّيهِمْ حَوَائِجُهُمْ وَالنَّاسُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ قُرِئَ يَمْشُونَ لَكَانَ أَوْجَهَ لَوْلَا الرِّوَايَةُ انْتَهَى. وَقَدْ قَرَأَ كَذَلِكَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ مشدد مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَهِيَ بِمَعْنَى يَمْشُونَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَشَى بِأَعْطَانِ الْمَبَاءَةِ وَابْتَغَى قَلَائِصَ مِنْهَا صَعْبَةٌ وَرَكُوبُ
وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَالصَّحِيحُ فِتْنَةٌ لِلْمَرِيضِ، وَالْغَنِيُّ فِتْنَةٌ لِلْفَقِيرِ، وَالْفَقِيرُ الشَّاكِرُ فِتْنَةٌ لِلْغَنِيِّ، وَالرَّسُولُ الْمَخْصُوصُ بِكَرَامَةِ النُّبُوَّةِ فِتْنَةٌ لِأَشْرَافِ النَّاسِ الْكُفَّارِ فِي عَصْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَحُكَّامُ الْعَدْلِ. وَقَدْ تَلَا ابن القاسم هذه
(١) سورة لقمان: ٣١/ ١٣.
(٢) سورة الحجرات: ٤٩/ ١١.
(٣) سورة الصافات: ٣٧/ ١٦٤. [.....]
94
الْآيَةَ حِينَ رَأَى أَشْهَبَ انْتَهَى. وَرُوِيَ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالتَّوْقِيفُ بِأَتَصْبِرُونَ خَاصٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُحِقِّينَ فَهُوَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّهُ جَعَلَ إِمْهَالَ الْكُفَّارِ فِتْنَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أَيِ اخْتِبَارًا ثُمَّ وَقَّفَهُمْ. هَلْ تَصْبِرُونَ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أَعْرَبَ قَوْلَهُ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً عَنِ الْوَعْدِ لِلصَّابِرِينَ وَالْوَعِيدِ لِلْعَاصِينَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِتْنَةً أَيْ مِحْنَةً وَبَلَاءً،
وَهَذَا تَصَبُّرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالُوهُ وَاسْتَبْعَدُوهُ مِنْ أَكْلِهِ الطَّعَامَ وَمَشْيِهِ فِي الأسواق بعد ما احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِسَائِرِ الرُّسُلِ يَقُولُ: جَرَتْ عَادَتِي وَمُوجَبُ حِكْمَتِي عَلَى ابْتِلَاءِ بَعْضِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِبَعْضٍ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ ابْتَلَى الْمُرْسَلِينَ بِالْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ وَمُنَاصَبَتِهِمْ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَأَقَاوِيلِهِمُ الْخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ الْإِنْصَافِ وَأَنْوَاعِ أَذَاهُمْ، وَطَلَبَ مِنْهُمُ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ وَنَحْوُهُ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً «١» الْآيَةَ وَمَوْقِعُ أَتَصْبِرُونَ بَعْدَ ذِكْرِ الْفِتْنَةِ مَوْقِعُ أَيُّكُمْ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ فِي قَوْلِهِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «٢».
بَصِيراً عَالِمًا بِالصَّوَابِ فِيمَا يَبْتِلِي بِهِ وَبِغَيْرِهِ فَلَا يَضِيقَنَّ صَدْرُكَ وَلَا تَسْتَخِفَّنَّكَ أَقَاوِيلُهُمْ فَإِنَّ فِي صَبْرِكَ عَلَيْهِمْ سَعَادَةً، وَفَوْزَكَ فِي الدَّارَيْنِ. وَقِيلَ: هُوَ تَسْلِيَةٌ عَمَّا عَيَّرُوهُ بِهِ مِنَ الْفَقْرِ حِينَ قَالُوا أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ «٣» وَأَنَّهُ جَعَلَ الْأَغْنِيَاءَ فِتْنَةً لِلْفُقَرَاءِ لِيَنْظُرَ هَلْ تَصْبِرُونَ وَأَنَّهَا حِكْمَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ وَيُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ. وقيل: جعلنا فِتْنَةً لَهُمْ لِأَنَّكَ لَوْ كُنْتَ غَنِيًّا صَاحِبَ كُنُوزٍ وَجَنَّاتٍ لَكَانَ مَيْلُهُمْ إِلَيْكَ وَطَاعَتُهُمْ لَكَ لِلدُّنْيَا أَوْ مَمْزُوجَةً بِالدُّنْيَا، وَإِنَّمَا بَعَثْنَاكَ فَقِيرًا لِتَكُونَ طَاعَةُ مَنْ يُطِيعُكَ مِنْهُمْ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ طَمَعٍ دُنْيَوِيٍّ. وَقِيلَ: كَانَ أَبُو جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِمْ يَقُولُونَ إِنْ أَسْلَمْنَا وَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَنَا عَمَّارٌ وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعُوا عَلَيْنَا إِدْلَالًا بِالسَّابِقَةِ فَهُوَ افْتِتَانُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ انْتَهَى. وَفِيهِ تَكْثِيرٌ وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ. وَالْأَوْلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً يَشْمَلُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا لِأَنَّ بَيْنَ الْجَمِيعِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ أَتَصْبِرُونَ إِنَّهُ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيِ اصْبِرُوا، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الرَّجَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ وَالْمَعْنَى لَا يَأْمُلُونَ لِقَاءَنَا بِالْخَيْرِ وَثَوَابَنَا عَلَى الطَّاعَةِ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ لِكُفْرِهِمْ بِمَا جِئْتُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقَوْمٌ: مَعْنَاهُ لَا يَخَافُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَرْجُونَ نُشُورًا لَا يَخَافُونَ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تِهَامِيَّةٌ وهي أيضا من
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٨٦.
(٢) سورة هود: ١١/ ٧.
(٣) سورة الفرقان: ٢٥/ ٨.
95
لُغَةِ هُذَيْلٍ إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجَاءِ جَحْدٌ ذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَعْنَى الْخَوْفِ. فَتَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَرْجُو رَبَّهُ يُرِيدُونَ لَا يَخَافُ رَبَّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «١» أَيْ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً وَإِذَا قَالُوا: فُلَانٌ يَرْجُو رَبَّهُ فَهَذَا مَعْنَى الرَّجَاءِ لَا عَلَى الْخَوْفِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا وَحَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلِ
وَقَالَ آخَرُ:
لا ترجى حين تلاقي الذائذا أَسَبْعَةً لَاقَتْ مَعًا أَمْ وَاحِدَا
انْتَهَى. وَمِنْ لَازِمِ الرَّجَاءِ لِلثَّوَابِ الْخَوْفُ مِنَ الْعِقَابِ، وَمَنْ كَانَ مُكَذِّبًا بِالْبَعْثِ لَا يَرْجُو ثَوَابًا وَلَا يَخَافُ عِقَابًا وَمَنْ تَأَوَّلَ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا عَلَى مَعْنَى لَمْ يَرْجُ دَفْعَهَا وَلَا الِانْفِكَاكَ عَنْهَا. فَهُوَ لِذَلِكَ يُوَطَّنُ عَلَى الصَّبْرِ وَيُجِدُّ فِي شُغْلِهِ فَتَأْوِيلُهُ مُمْكِنٌ لَكِنَّ الْفَرَّاءَ وَغَيْرَهُ نَقَلُوا ذَلِكَ لُغَةً لِهُذَيْلٍ فِي النَّفْيِ وَالشَّاعِرُ هُذَلِيٌّ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَكَلَّفَ لِلتَّأْوِيلِ وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى لُغَتِهِ.
لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فَتُخْبِرَنَا أَنَّكَ رَسُولٌ حَقًّا أَوْ نَرى رَبَّنا فَيُخْبِرَنَا بِذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ. وَهَذِهِ كَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «٢» وَكَقَوْلِهِمْ أَعْنِي الْمُشْرِكِينَ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «٣» وَهَذَا كُلُّهُ فِي سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَإِلَّا فَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ كَافٍ لَوْ وُفِّقُوا. لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا أَيْ تَكَبَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ عَظَّمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُؤَالِ رُؤْيَةِ اللَّهِ، وَهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لَهَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ سُؤَالَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِمَا أَضْمَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الِاسْتِكْبَارِ عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْعِنَادُ الْكَامِنُ فِي قُلُوبِهِمُ الظَّاهِرُ عَنْهُ مَا لَا يَقَعُ لَهُمْ كَمَا قَالَ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ «٤» وَاللَّامُ فِي لَقَدِ جَوَابُ قسم محذوف وعَتَوْا تَجَاوَزُوا الْحَدَّ فِي الظُّلْمِ وَوَصَفَهُ بِكَبِيرٍ مُبَالَغَةً فِي إِفْرَاطِهِ أَيْ لَمْ يَجْسُرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعَظِيمِ إِلَّا لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا غَايَةَ الِاسْتِكْبَارِ وَأَقْصَى الْعُتُوِّ. وَجَاءَ هُنَا عَتَوْا عَلَى الْأَصْلِ وَفِي مَرْيَمَ عِتِيًّا «٥» عَلَى اسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ وَالْقَلْبِ لِمُنَاسَبَةِ الْفَوَاصِلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَتَوْا كَفَرُوا أَشَدَّ الْكُفْرِ وَأَفْحَشُوا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَجَبَّرُوا. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: عَصَوْا. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: أَسْرَفُوا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُسْنِ اسْتِيفَائِهَا غَايَةٌ فِي أُسْلُوبِهَا. وَنَحْوُهُ قول القائل:
(١) سورة نوح: ٧١/ ١٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٥٥.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٢.
(٤) سورة غافر: ٤٠/ ٥٦.
(٥) سورة مريم: ١٩/ ٨.
96
وَجَارَةِ جَسَّاسٍ أَبَأْنَا بِنَابِهَا كُلَيْبًا غَلَتْ نَابٌ كُلَيْبٌ بَوَاؤُهَا
فِي نَحْوِ هَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ تَعَجُّبٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى مَا أَشَدَّ اسْتِكْبَارَهُمْ وَمَا أَكْثَرَ عُتُوَّهُمْ وَمَا أَغْلَى نَابًا بَوَاؤُهَا كُلَيْبٌ.
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ يَوْمَ مَنْصُوبٌ باذكر وَهُوَ أَقْرَبُ أَوْ بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا بُشْرى أَيْ يَمْنَعُونَ الْبُشْرَى وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ لَا بُشْرى لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَلِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ بِلَا الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا، وَكَذَا الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَسْمَاءِ عَامِلَةٌ عَمَلَ لَيْسَ، وَدُخُولُ لَا عَلَى بُشْرى لِانْتِفَاءِ أَنْوَاعِ الْبُشْرَى وَهَذَا الْيَوْمُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ بَعْدُ وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَعْرِفُونَ مَا يَكُونُ لَهُمْ إِذَا رَأَوْهُمْ مِنَ الشَّرِّ وَانْتِفَاءِ الْبِشَارَةِ وَحُصُولِ الْخَسَارِ وَالْمَكْرُوهِ. وَاحْتَمَلَ بُشْرى أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا مَعَ لَا وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي نِيَّةِ التَّنْوِينِ مَنْصُوبَ اللَّفْظِ، وَمُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ اللَّازِمِ فَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا مَعَ لَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ يَوْمَئِذٍ ولِلْمُجْرِمِينَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ نَعْتٌ لِبُشْرَى، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَبَرُ، وَأَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ صِفَةً لِبُشْرَى، وَالْخَبَرُ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَجِيءُ خِلَافُ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ هَلِ الْخَبَرُ لِنَفْسِ لَا أَوِ الْخَبَرُ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ لا وما بني مَعَهَا؟
وَإِنْ كَانَ فِي نِيَّةِ التَّنْوِينِ وَهُوَ مُعْرَبٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ مَعْمُولًا لِبُشْرَى، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً، وَالْخَبَرُ مِنَ الْخَبَرِ. وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ ولِلْمُجْرِمِينَ خَبَرٌ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ خبرا ولِلْمُجْرِمِينَ صِفَةً، وَالْخَبَرُ إِذَا كَانَ الِاسْمَ لَيْسَ مَبْنِيًّا لِنَفْسِ لَا بِإِجْمَاعٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَوْمَئِذٍ لِلتَّكْرِيرِ وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ التَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ أَمْ أُرِيدَ به البلد، لِأَنَّ يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَنِ اذْكُرْ أَوْ مِنْ يَعْدَمُونَ الْبُشْرَى وَمَا بَعْدَ لَا الْعَامِلَةِ فِي الِاسْمِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهَا وَعَلَى تَقْدِيرِهِ يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ مَا قَبْلَ إِلَّا وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْمُجْرِمِينَ فَيَنْدَرِجُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ فِيهِمْ. قِيلَ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَيَقُولُونَ عَائِدٌ عَلَى الْقَائِلِينَ لِأَنَّ الْمُحَدَّثَ عَنْهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ إِذَا رَأَوْهُمْ كَرِهُوا لِقَاءَهُمْ وَفَزِعُوا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَهُمْ إِلَّا بِمَا يَكْرَهُونَ فَقَالُوا عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَنُزُولِ الشِّدَّةِ وَقَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ قَالَ حِجْراً عَوَاذًا يَسْتَعِيذُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا كَرِهَتْ شَيْئًا قَالُوا حِجْرًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَاتَانِ
97
اللَّفْظَتَانِ عُوذَةٌ لِلْعَرَبِ يَقُولُهُمَا مَنْ خَافَ آخَرَ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ إِذَا لَقِيَهُ وَبَيْنَهُمَا تِرَةٌ انْتَهَى. وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ:
حَنَّتْ إِلَى النَّخْلَةِ الْقُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا حِجْرٌ حَرَامٌ أَلَا تِلْكَ الدَّهَالِيسُ
أَيْ هَذَا الَّذِي حَنَنْتِ إِلَيْهِ هُوَ مَمْنُوعٌ، وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ حِجْراً فِي الْمَصَادِرِ الْمَنْصُوبَةِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الرُّجَّازِ:
قَالَتْ وَفِيهَا حَيْرَةٌ وَذُعْرُ عَوَذٌ يُرَى مِنْكُمْ وَحِجْرُ
وَأَنَّهُ وَاجِبٌ إِضْمَارُ نَاصِبِهَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ أَتَفْعَلُ كَذَا؟ فَيَقُولُ حِجْرًا وَهِيَ مِنْ حَجَرَهُ إِذَا مَنَعَهُ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيذَ طَالِبٌ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَمْنَعَ الْمَكْرُوهَ لَا يَلْحَقَهُ.
وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ حِجْراً بِضَمِّ الْحَاءِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَيَقُولُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَيْ تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُجْرِمِينَ حِجْراً مَحْجُوراً عَلَيْكُمُ البشرى ومَحْجُوراً صفة يؤكد مَعْنَى حِجْراً كَمَا قَالُوا: مَوْتٌ مَائِتٌ، وَذَيْلٌ ذَائِلٌ، وَالْقُدُومُ الْحَقِيقِيُّ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حُكْمِهِ بِذَلِكَ وَإِنْفَاذِهِ.
قِيلَ: أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ قَدِمَتْ مَلَائِكَتُنَا وَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ عَنْ أَمْرِهِ، وَحَسُنَتْ لَفْظَةُ قَدِمْنا لِأَنَّ الْقَادِمَ عَلَى شَيْءٍ مَكْرُوهٍ لَمْ يُقَرِّرْهُ وَلَا أَمَرَ بِهِ مُغَيِّرٌ لَهُ وَمُذْهِبٌ، فَمَثَّلَتْ حَالَ هَؤُلَاءِ وَأَعْمَالَهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي كُفْرِهِمْ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ وَإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ وَقِرَى ضَيْفٍ، وَمَنٍّ عَلَى أَسِيرٍ. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِهِمْ بِحَالِ قَوْمٍ خَالَفُوا سُلْطَانَهُمْ فَقَصَدَ إِلَى مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ فَمَزَّقَهَا بِحَيْثُ لَمْ يَتْرُكْ لَهَا أَثَرًا، وَفِي أَمْثَالِهِمْ أَقَلُّ مِنَ الهباء ومَنْثُوراً صِفَةٌ لِلْهَبَاءِ شَبَّهَهُ بِالْهَبَاءِ لِقِلَّتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِمَنْثُورًا لِأَنَّ الْهَبَاءَ تَرَاهُ مُنْتَظِمًا مَعَ الضَّوْءِ فَإِذَا حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ رَأَيْتَهُ قَدْ تَنَاثَرَ وَذَهَبَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ جَعَلَهُ يَعْنِي مَنْثُوراً مَفْعُولًا ثَالِثًا لِجَعَلْنَاهُ أَيْ فَجَعَلْناهُ جَامِعًا لِحَقَارَةِ الْهَبَاءِ وَالتَّنَاثُرِ. كَقَوْلِهِ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «١» أَيِ جَامِعِينَ لِلْمَسْخِ وَالْخَسْءِ انْتَهَى. وَخَالَفَ ابْنُ دُرُسْتُوَيْهِ فَخَالَفَ النَّحْوِيِّينَ فِي مَنْعِهِ أَنْ يَكُونَ لِكَانَ خَبَرَانِ وَأَزْيَدُ. وَقِيَاسُ قَوْلِهِ فِي جَعَلَ أَنْ يُمْنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهَا خَبَرٌ ثَالِثٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهَبَاءُ الْمَنْثُورُ مَا تَسْفِي بِهِ الرِّيَاحُ وَتَبُثُّهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الْهَبَاءُ الْمَاءُ الْمُهْرَاقُ وَالْمُسْتَقَرُّ مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ. وَالْمَقِيلُ الْمَكَانُ الَّذِي يأوون إليه في
(١) سورة البقرة: ٢/ ٦٥.
98
الِاسْتِرْوَاحِ إِلَى الْأَزْوَاجِ وَالتَّمَتُّعِ، وَلَا نَوْمَ فِي الْجَنَّةِ فَسُمِّيَ مَكَانُ اسْتِرْوَاحِهِمْ إِلَى الْحُورِ مَقِيلًا عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ إِذِ الْمَكَانُ الْمُتَخَيَّرُ لِلْقَيْلُولَةِ يَكُونُ أَطْيَبَ الْمَوَاضِعِ. وَفِي لَفْظِ أَحْسَنُ رَمْزٌ إِلَى مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ مُقِيلُهُمْ مِنْ حُسْنِ الْوُجُوهِ وَمَلَاحَةِ الصُّوَرِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التحاسين. وخَيْرٌ قِيلَ: لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا مِنَ اسْتِعْمَالِهَا دَلَالَةً عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خَيْرٌ فِي مُسْتَقَرِّ أَهْلِ النَّارِ، وَيُمْكِنُ إِبْقَاؤُهَا عَلَى بَابِهَا وَيَكُونُ التَّفْضِيلُ وَقَعَ بَيْنَ الْمُسْتَقِرِّينَ وَالْمُقِيلِينَ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ الْوَاقِعِ ذَلِكَ فِيهِ. فَالْمَعْنَى خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُتْرَفِينَ فِي الدُّنْيَا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا فِي الْآخِرَةِ مِنْ أُولَئِكَ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ:
خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا مِنْهُمْ لَوْ كَانَ لَهُمْ مُسْتَقَرٌّ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وُجُودُ مُسْتَقَرٍّ لَهُمْ فِيهِ خَيْرٌ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٍ: إِنَّ الْحِسَابَ يَكْمُلُ فِي مِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَيُقِيلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٥ الى ٣٤]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)
قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ تَشَقَّقُ بِإِدْغَامِ التَّاءِ مِنْ تَتَشَقَّقُ فِي الشِّينِ هُنَا. وَفِي ق وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِحَذْفِ تِلْكَ التَّاءِ وَيَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «١». وقرأ
(١) سورة المزمل: ٧٣/ ١٨.
99
الْجُمْهُورُ: وَنُزِّلَ مَاضِيًا مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَنُزِّلَ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَعَنْهُ أَيْضًا وَأَنْزَلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَجَاءَ مَصْدَرُهُ تَنْزِيلًا وَقِيَاسُهُ إِنْزَالًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْنَى أَنْزَلَ وَنَزَّلَ وَاحِدًا جَازَ مَجِيءُ مَصْدَرِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الْخِصْبِ كَأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى انْطَوَيْتُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي نَقْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَأُنْزِلَ مَاضِيًا رُبَاعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُضَارِعُهُ يُنَزَّلُ. وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ وَالْخَفَّافِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَنُزِّلَ ثُلَاثِيًّا مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَتُنَزَّلُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ مُضَارِعَ نَزَّلَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَأَبُو مُعَاذٍ وَخَارِجَةُ عن أبي عمرو وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَشَدِّ الزَّايِ، أَسْقَطَ النُّونَ مِنْ وَنُنَزِّلُ وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ وَنُنَزِّلُ بِالنُّونِ مُضَارِعَ نَزَّلَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَنَسَبَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ لِابْنِ كَثِيرٍ وَحْدَهُ قَالَ: وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَعَنْ أُبَيٍّ أيضا وتنزلت. وقرأ أبيّ ونزلت مَاضِيًا مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ.
وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنِ الْخَفَّافِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَنُزِّلَ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الْمَلائِكَةُ رَفْعًا، فَإِنْ صَحَّتِ الْقِرَاءَةُ فَإِنَّهُ حُذِفَ مِنْهَا الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامَهُ وَتَقْدِيرُهُ: وَنَزَلَ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ فَحُذِفَ النُّزُولُ وَنُقِلَ إِعْرَابُهُ إِلَى الْمَلائِكَةُ بمعنى نزول نَازِلُ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاسْمِ، وَهَذَا مِمَّا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي تَرْتِيبِ اللَّازِمِ لِلْمَفْعُولِ بِهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى مَصْدَرِهِ انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِأَنَّ نُزِّلَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ فَيُبْنَى هُنَا لِلْمَلَائِكَةِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ زُكِمَ الرَّجُلُ وَجُنَّ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ إِلَّا أَزْكَمَهُ اللَّهُ وَأَجَنَّهُ. وَهَذَا بَابُ سَمَاعٍ لَا قِيَاسٍ انْتَهَى. فَهَذِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ قِرَاءَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَمَامَ هُوَ السَّحَابُ الْمَعْهُودُ. وَقِيلَ هُوَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ «١». وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْغَمَامُ الَّذِي يَأْتِي اللَّهُ فِيهِ فِي الْجَنَّةِ زَعَمُوا. وَقَالَ الْحَسَنُ: سُتْرَةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ فِيهِ تَنْسَخُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ لِيُحَاسَبُوا. وَقِيلَ: غَمَامٌ أَبْيَضُ رَقِيقٌ مِثْلُ الضَّبَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تِيهِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّماءُ هِيَ الْمُظِلَّةُ لَنَا. وَقِيلَ: تَتَشَقَّقُ سَمَاءً سَمَاءً قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَالْبَاءُ بَاءُ الْحَالِ أَيْ مُتَغَيِّمَةً أَوْ بَاءُ السَّبَبِ أَيْ بِسَبَبِ طُلُوعِ الْغَمَامِ مِنْهُ كَأَنَّهُ الَّذِي تَتَشَقَّقُ بِهِ السَّمَاءُ كَمَا تَقُولُ: شُقَّ السَّنَامُ بِالشَّفْرَةِ وَانْشَقَّ بِهَا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١٠.
100
أَوْ بِمَعْنَى عَنْ أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَعَنْ أَنَّ انْشَقَّ عَنْ كَذَا تَفَتَّحَ عَنْهُ وَانْشَقَّ بِكَذَا أَنَّهُ هُوَ الشَّاقُّ لَهُ.
وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ أَيْ إِلَى الْأَرْضِ لِوُقُوعِ الجزاء والحساب. والْحَقُّ صِفَةٌ لِلْمُلْكِ أَيِ الثَّابِتُ لِأَنَّ كُلَّ مُلْكٍ يَوْمَئِذٍ يَبْطُلُ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا مُلْكُهُ تَعَالَى وَخَبَرُ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ.
ولِلرَّحْمنِ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَقِّ أَوْ لِلْبَيَانِ أَعْنِي لِلرَّحْمنِ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ لِلرَّحْمنِ ويَوْمَئِذٍ مَعْمُولٌ لِلْمُلْكِ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ الْحَقُّ ولِلرَّحْمنِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَوْ لِلْبَيَانِ، وَعَسُرَ ذَلِكَ الْيَوْمُ عَلَى الْكَافِرِينَ بِدُخُولِهِمُ النَّارَ وَمَا فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْمَخَاوِفِ. وَدَلَّ قَوْلُهُ عَلَى الْكافِرِينَ عَلَى تَيْسِيرِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُهَوَّنُ حَتَّى يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ صَلَّاهَا فِي الدُّنْيَا
وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الظَّالِمِ إِذِ اللَّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَالَا: فُلَانٌ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّيْطَانِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ: الظَّالِمُ هُنَا عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ إِذْ كَانَ جَنَحَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ هُوَ الْمَكْنِيُّ عَنْهُ بِفُلَانٍ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مُخَالَّةٌ فَنَهَاهُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَبِلَ مِنْهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. عَكْسُ هَذَا الْقَوْلِ. قِيلَ وَسَبَبُ نُزُولِهَا هُوَ عُقْبَةُ وَأُبَيٌّ. وَقِيلَ: كَانَ عُقْبَةُ خَلِيلًا لِأُمَيَّةَ فَأَسْلَمَ عُقْبَةُ فَقَالَ أُمَيَّةُ: وَجْهِي مِنْ وَجْهِكَ حَرَامٌ إِنْ بَايَعْتَ مُحَمَّدًا فَكَفَرَ وَارْتَدَّ لِرِضَا أُمَيَّةَ فَنَزَلَتْ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ.
وَذَكَرَ مِنْ إِسَاءَةِ عُقْبَةَ عَلَى الرَّسُولِ مَا كَانَ سَبَبَ أَنْ قَالَ لَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا أَلْقَاكَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ إِلَّا عَلَوْتُ رَأْسَكَ بِالسَّيْفِ». فَقُتِلَ عُقْبَةُ يَوْمِ بَدْرٍ صَبْرًا أَمَرَ عَلِيًّا فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَقُتِلَ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْمُبَارَزَةِ.
وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِتَنَدُّمِ الظَّالِمِ وَتَمَنِّيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَطَاعَ خَلِيلَهُ الَّذِي كَانَ يَأْمُرُهُ بِالظُّلْمِ وَمَا مِنْ ظَالِمٍ إِلَّا وَلَهُ فِي الْغَالِبِ خَلِيلٌ خَاصٌّ بِهِ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِفُلَانٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الظَّالِمَ يَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ فِعْلَ النَّادِمِ الْمُتَفَجِّعِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَأْكُلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ تَنْبُتُ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ كُلَّمَا أَكَلَهَا نَبَتَتْ. وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ عُبِّرَ بِهِ عَنِ التَّحَيُّرِ وَالْغَمِّ وَالنَّدَمِ وَالتَّفَجُّعِ وَنَقَلَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ أَنَّ الْمُتَأَسِّفَ الْمُتَحَزِّنَ الْمُتَنَدِّمَ يَعَضُّ عَلَى إِبْهَامِهِ نَدَمًا وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَطَمَتْ خَدَّهَا بِحُمْرٍ لِطَافٍ نِلْنَ مِنْهَا عَذَابَ بِيضٍ عِذَابِ
فَتَشَكَّى الْعُنَّابُ نَوْرَ أَقَاحٍ وَاشْتَكَى الْوَرْدُ نَاضِرَ الْعُنَّابِ
وَفِي الْمَثَلِ: يَأْكُلُ يَدَيْهِ نَدَمًا وَيُسِيلُ دَمْعَهُ دَمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَضُّ الْأَنَامِلِ وَالْيَدَيْنِ وَالسُّقُوطُ فِي الْيَدِ وَأَكْلُ الْبَنَانِ وَحَرْقُ الْأَسْنَانِ وَالْأَرَمُ وَفُرُوعُهَا كِنَايَاتٌ عَنِ الْغَيْظِ وَالْحَسْرَةِ لِأَنَّهَا مِنْ رَوَادِفِهَا فَتُذْكَرُ الرَّادِفَةُ. وَيُدَلُّ بِهَا عَلَى الْمَرْدُوفِ فَيَرْتَفِعُ الْكَلَامُ بِهِ فِي طَبَقَةِ
101
الْفَصَاحَةِ، وَيَجِدُ السَّامِعُ عِنْدَهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الرَّوْعَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ مَا لَا يَجِدُ عِنْدَ لَفْظِ الْمُكَنَّى عَنْهُ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي حَرْقِ النَّابِ:
أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابَهُ عَلَيْهِ فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهْ
يَقُولُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ قَائِلًا يَا لَيْتَنِي فَإِنْ كَانَتِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَمَنَّى عُقْبَةُ أَنْ لَوْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَكَ طَرِيقَ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَتِ اللَّامُ لِلْجِنْسِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَمَنَّى سُلُوكَ طَرِيقِ الرَّسُولِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ لِلْجِنْسِ لِأَنَّ كُلَّ ظَالِمٍ قَدْ كُلِّفَ اتِّبَاعَ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ مِنَ اللَّهِ إِلَى أَنْ جَاءَتِ الْمِلَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ فَنَسَخَتْ جَمِيعَ الْمِلَلِ، فَلَا يُقْبَلُ بَعْدَ مَجِيئِهِ دِينٌ غَيْرُ الَّذِي جَاءَ بِهِ. ثُمَّ يُنَادِي بِالْوَيْلِ وَالْحَسْرَةِ يَقُولُ يَا وَيْلَتى أَيْ يَا هَلَكَاهُ كَقَوْلِهِ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «١». وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ قطيب يا لَيْتَنِي بِكَسْرِ التَّاءِ وَالْيَاءُ يَاءُ الْإِضَافَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُنَادِي وَيْلَتَهُ وَهِيَ هَلَكَتُهُ يَقُولُ لَهَا تَعَالَيْ فَهَذَا أَوَانُكِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِالْإِمَالَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَتَرْكُ الْإِمَالَةِ أَحْسَنُ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ الْيَاءُ فَبُدِّلَتِ الْكَسْرَةُ فَتْحَةً وَالْيَاءُ أَلِفًا فِرَارًا مِنَ الْيَاءِ فَمَنْ أَمَالَ رَجَعَ إِلَى الَّذِي عَنْهُ فَرَّ أَوَّلًا. وَفُلَانٌ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَلَمِ وَهُوَ متصرف. وقل كِنَايَةٌ عَنْ نَكِرَةِ الْإِنْسَانِ نَحْوُ: يَا رَجُلُ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالنِّدَاءِ، وَفُلَةُ بِمَعْنَى يَا امْرَأَةُ كَذَلِكَ وَلَامُ قل يَاءٌ أَوْ وَاوٌ وَلَيْسَ مُرَخَّمًا مِنْ فُلَانٍ خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ. وَوَهَمَ ابْنُ عُصْفُورٍ وَابْنُ مَالِكٍ وَصَاحِبُ الْبَسِيطِ فِي قَوْلِهِمْ فُلُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَلَمِ كَفُلَانٍ. وَفِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ مَا قُلْنَاهُ بِالنَّقْلِ عَنِ الْعَرَبِ.
والذِّكْرِ ذِكْرُ اللَّهِ أَوِ الْقُرْآنِ أَوِ الْمَوْعِظَةُ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الشَّيْطَانِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَسْوَسَ إِلَيْهِ فِي مُخَالَّةِ مَنْ أَضَلَّهُ سَمَّاهُ شَيْطَانًا لِأَنَّهُ يُضِلُّ كَمَا يُضِلُّ الشَّيْطَانُ ثُمَّ خَذَلَهُ وَلَمْ يَنْفَعْهُ فِي الْعَاقِبَةِ. وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الظَّالِمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ إِخْبَارًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى جِهَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى وَجْهِ ضَلَالِهِمْ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الشَّيْطَانِ الَّذِي بَلَّغَهُمْ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ تَمْثِيلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ بِالْمِسْكِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ بِنَافِخِ الْكِيرِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ دُعَاءَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ وَإِخْبَارَهُ بِهَجْرِ قَوْمِهِ قُرَيْشٍ الْقُرْآنَ هُوَ مِمَّا جَرَى لَهُ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ مُسَلِّيًا مُؤَانِسًا بِقَوْلِهِ وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَأَنَّهُ هُوَ الْكَافِي فِي هِدَايَتِهِ وَنَصْرِهِ فَهُوَ وَعْدٌ مِنْهُ بِالنَّصْرِ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ الرَّسُولِ وَشِكَايَتُهُ فِيهِ تَخْوِيفٌ لِقَوْمِهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ أَبُو مُسْلِمٍ إِنَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
(١) سُورَةِ الزمر: ٣٩/ ٥٦.
102
الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «١» وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَهْجُوراً بِمَعْنَى مَتْرُوكًا مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ مُبْعَدًا مَقْصِيًّا مِنَ الْهَجْرِ بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَأَتْبَاعُهُ. وَقِيلَ: مِنَ الْهُجْرِ وَالتَّقْدِيرُ مَهْجُوراً فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ بَاطِلٌ.
وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوهُ هَجَرُوا فِيهِ كَقَوْلِهِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «٢».
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْجُورُ بِمَعْنَى الْهَجْرِ كَالْمَلْحُودِ وَالْمَعْقُولِ، وَالْمَعْنَى اتَّخَذُوهُ هَجْرًا وَالْعَدُوُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَجَمْعًا انْتَهَى.
وَانْتَصَبَ هادِياً ونَصِيراً عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَقَالُوا أَيِ الْكُفَّارُ عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِرَاحِ وَالِاعْتِرَاضِ الدَّالِّ عَلَى نُفُورِهِمْ عَنِ الْحَقِّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُزِّلَ هَاهُنَا بِمَعْنَى أُنْزِلَ لَا غَيْرُ كَخُبِّرَ بِمَعْنَى أُخْبِرَ وَإِلَّا كَانَ مُتَدَافِعًا انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ إِنَّ نُزِّلَ بِمَعْنَى أُنْزِلَ لِأَنَّ نُزِّلَ عِنْدَهُ أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِلتَّفْرِيقِ، فَلَوْ أَقَرَّهُ عَلَى أَصْلِهِ عِنْدَهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّفْرِيقِ تَدَافَعَ هُوَ. وَقَوْلُهُ جُمْلَةً واحِدَةً وَقَدْ قررنا أنا نُزِّلَ لَا تَقْتَضِي التَّفْرِيقَ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ فِيهِ عِنْدَنَا مُرَادِفٌ لِلْهَمْزَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ وَقَائِلُ ذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَنَزَلَ جُمْلَةً كَمَا نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَقِيلَ: قَائِلُو ذَلِكَ الْيَهُودُ وَهَذَا قَوْلٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ لِأَنَّ أَمْرَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالْإِعْجَازِ لَا يَخْتَلِفُ بِنُزُولِهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً أَوْ مُفَرَّقًا بَلِ الْإِعْجَازُ فِي نُزُولِهِ مُفَرَّقًا أَظْهَرُ إِذْ يُطَالَبُونَ بِمُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنْهُ، فَلَوْ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَطُولِبُوا بِمُعَارَضَتِهِ مِثْلَ مَا نَزَلْ لَكَانُوا أَعْجَزَ مِنْهُمْ حِينَ طُولِبُوا بِمُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنْهُ فَعَجَزُوا وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ غَيْرُ مَذْكُورٍ. فَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ وَأَشَارُوا إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَيْ تَنْزِيلًا مِثْلَ تَنْزِيلِ تِلْكَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَيَبْقَى لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ تَعْلِيلًا لِمَحْذُوفٍ أَيْ فَرَّقْنَاهُ فِي أَوْقَاتٍ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَمَّا تَضَمَّنَ كَلَامُهُمْ مَعْنَى لِمَ أُنْزِلَ مُفَرَّقًا أُشِيرَ بِقَوْلِهِ كَذَلِكَ إِلَى التَّفْرِيقِ أَيْ كَذلِكَ أُنْزِلَ مُفَرَّقًا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ نُقَوِّيَ بِتَفْرِيقِهِ فُؤَادَكَ حَتَّى تَعِيَهُ وَتَحْفَظَهُ لِأَنَّ الْمُتَلَقِّنَ إِنَّمَا يَقْوَى قَلْبُهُ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ شيئا بعد شيء، وجزأ عَقِيبَ جُزْءٍ، وَلَوْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً لَكَانَ يَعْيَا فِي حِفْظِهِ وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَارَقَتْ حَالُهُ حَالَ دَاوُدَ وَمُوسَى وَعِيسَى
(١) سورة النساء: ٤/ ٤١.
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٢٦. [.....]
103
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ حَيْثُ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ وَهُمْ كَانُوا قَارِئِينَ كَاتِبِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ التَّلَقُّنِ وَالتَّحَفُّظِ فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ مُنَجَّمًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَيْضًا فَكَانَ يَنْزِلُ عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ وَجَوَابِ السَّائِلِينَ، وَلِأَنَّ بَعْضَهُ مَنْسُوخٌ وَبَعْضَهُ نَاسِخٌ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا أُنْزِلَ مُفَرَّقًا انْتَهَى.
وَاللَّامُ فِي لِنُثَبِّتَ بِهِ لَامُ الْعِلَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ لَامُ الْقَسَمِ وَالتَّقْدِيرُ وَاللَّهِ لَيُثَبِّتَنَّ فَحُذِفَتِ النُّونُ وَكُسِرَتِ اللَّامُ انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَكَانَ يَنْحُو إِلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ يُتَلَقَّى بِلَامِ كَيْ وَجُعِلَ مِنْهُ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ لِيُثَبِّتَ بِالْيَاءِ أَيْ لِيُثَبِّتَ اللَّهُ وَرَتَّلْناهُ أَيْ فَصَّلْنَاهُ. وَقِيلَ: بَيَّنَّاهُ.
وَقِيلَ: فَسَّرْنَاهُ.
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ يَضْرِبُونَهُ عَلَى جِهَةِ الْمُعَارَضَةِ مِنْهُمْ كَتَمْثِيلِهِمْ فِي هَذِهِ بالتوراة والإنجيل الإحاء الْقُرْآنُ بِالْحَقِّ فِي ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ أَوْضَحُ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ بِسُؤَالٍ عَجِيبٍ مِنْ سُؤَالَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ كَأَنَّهُ مَثَلٌ فِي الْبُطْلَانِ إِلَّا أَتَيْنَاكَ نَحْنُ بِالْجَوَابِ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَبِمَا هُوَ أَحْسَنُ مَعْنًى وَمُؤَدًّى مِنْ سُؤَالِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ التَّفْسِيرُ هُوَ الْكَشْفَ عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وُضِعَ مَوْضِعَ مَعْنَاهُ فَقَالُوا: تَفْسِيرُ هَذَا الْكَلَامِ كَيْتَ وَكَيْتَ، كَمَا قِيلَ مَعْنَاهُ كَذَا أَوْ وَلا يَأْتُونَكَ بِحَالٍ وَصِفَةٍ عَجِيبَةٍ يَقُولُونَ هَلَّا كَانَتْ هَذِهِ صَفَتَكَ وَحَالَكَ نَحْوَ أَنْ يُقْرَنَ بِكَ مَلَكٌ يُنْذِرُ مَعَكَ أَوْ يُلْقَى إِلَيْكَ كَنْزٌ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ أَوْ يَنْزِلُ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً إِلَّا أَعْطَيْنَاكَ مَا يَحِقُّ لَكَ فِي حِكْمَتِنَا وَمَشِيئَتِنَا أَنْ تُعْطَاهُ وَمَا هُوَ أَحْسَنُ تَكْشِيفًا لِمَا بُعِثْتَ عَلَيْهِ وَدَلَالَةً عَلَى صِحَّتِهِ انْتَهَى. وَقِيلَ: وَلا يَأْتُونَكَ بِشُبْهَةٍ فِي إِبْطَالِ أَمْرِكَ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ الَّذِي يَدْحَضُ شُبْهَةَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَيُبْطِلُ كَلَامَ أَهْلِ الزَّيْغِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ أَيْ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً مِنْ مَثَلِهِمْ وَمَثَلُهُمْ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً.
والَّذِينَ يُحْشَرُونَ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ الْآيَةَ.
قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَرَضُوا فِي حَدِيثِ الْقُرْآنِ وَإِنْزَالِهِ مُفَرَّقًا كَانَ فِي ضِمْنِ كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ ذَوُو رُشْدٍ وَخَيْرٍ، وَأَنَّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ وَلِذَلِكَ اعْتَرَضُوا فَأَخْبَرَ تعالى بحالهم وما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِكَوْنِهِمْ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ بِأَنْ يُسْحَبَ عَلَى وَجْهِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ أَنْ
104
يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ».
وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ لِلذِّلَّةِ الْمُفْرِطَةِ وَالْهَوَانِ وَالْخِزْيِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ مَرَّ فُلَانٌ عَلَى وَجْهِهِ إِذَا لَمْ يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَ. وَيُقَالُ: مَضَى عَلَى وَجْهِهِ إِذَا أسرع متوجها لقصده وشَرٌّ وأَضَلُّ ليسيا عَلَى بَابِهِمَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّفْضِيلِ. وَقَوْلُهُ شَرٌّ مَكاناً أَيْ مُسْتَقَرًّا وَهُوَ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَكَانِ الْمَكَانَةُ وَالشَّرَفُ لَا الْمُسْتَقَرُّ.
وَأَعْرَبُوا الَّذِينَ مُبْتَدَأً وَالْجُمْلَةَ مِنْ أُوْلئِكَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكَافِرِينَ وَمَا قَالُوا قَالَ إِبْعَادًا لَهُمْ وَتَسْمِيعًا بِمَا يؤول إِلَيْهِ حَالُهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ إِخْبَارًا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فَقَالَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٥ الى ٤٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
لَمَّا تَقَدَّمَ تَكْذِيبُ قُرَيْشٍ وَالْكَفَّارِ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ تَعَالَى مَا فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ وَإِرْهَابٌ لِلْمُكَذِّبِينَ وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ مِنْ هَلَاكِ الِاسْتِئْصَالِ لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، فَنَاسَبَ أَنْ ذَكَرَ أَوَّلًا مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ كِتَابُهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَمَعَ ذَلِكَ
105
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِهِ فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ لَوْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ دُفْعَةً لَكَذَّبُوا وَكَفَرُوا كَمَا كَذَّبَ قَوْمُ مُوسَى.
والْكِتابَ هنا التوراة وهارُونَ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِجَعَلْنَا. وَأَنْ يَكُونَ وَزِيراً وَالْوِزَارَةُ لَا تُنَافِي النُّبُوَّةَ فَقَدْ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ أَنْبِيَاءُ يوازر بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْمَذْهُوبُ إِلَيْهِمُ الْقِبْطُ وَفِرْعَوْنُ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ فَذَهَبَا وَأَدَّيَا الرِّسَالَةَ فَكَذَّبُوهُمَا فَدَمَّرْناهُمْ وَالتَّدْمِيرُ أَشَدُّ الْإِهْلَاكِ وَأَصْلُهُ كَسْرُ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ إِصْلَاحُهُ. وَقِصَّةُ مُوسَى وَمَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ذُكِرَتْ مُنْتَهِيَةً فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ وَهُنَا اخْتُصِرَتْ فَأَوْجَزَ بِذِكْرِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يُلْزِمُ الْحُجَّةَ بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ وَاسْتِحْقَاقَ التَّدْمِيرِ بِتَكْذِيبِهِمْ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ: فَدَمِّرَاهُمْ عَلَى الْأَمْرِ لِمُوسَى وَهَارُونَ
وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الشَّدِيدَةِ.
وَعَنْهُ أَيْضًا فَدَمِّرَا أَمْرًا لَهُمَا بِهِمْ بِبَاءِ الْجَرِّ،
وَمَعْنَى الْأَمْرِ كُونَا سَبَبَ تَدْمِيرِهِمْ.
وَانْتَصَبَ وَقَوْمَ نُوحٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ وَكَانَ النَّصْبُ أَرْجَحَ لِتَقَدُّمِ الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ لَمَّا فِي هَذَا الْإِعْرَابِ ظَرْفًا عَلَى مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حَرْفَ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ أَغْرَقْناهُمْ جَوَابُ لَمَّا فَلَا يُفَسَّرُ ناصبا لقوم فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَفْعُولِ فِي فَدَمَّرْناهُمْ أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ. وَقَدْ جَوَّزَ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ الْحَوْفِيُّ.
لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ كَذَّبُوا نُوحًا وَمَنْ قَبْلَهُ أَوْ جَعَلَ تَكْذِيبَهُمْ لِنُوحٍ تَكْذِيبًا لِلْجَمِيعِ، أَوْ لَمْ يَرَوْا بَعْثَةَ الرُّسُلِ كَالْبَرَاهِمَةِ وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَعاداً عَلَى وقَوْمَ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ:
يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا على لِلظَّالِمِينَ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ وَعَدْنَا الظَّالِمِينَ بِالْعَذَابِ وَوَعَدْنَا عَادًا وَثَمُودَ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَعَمْرِو بْنُ مَيْمُونٍ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى وَثَمُودَ غَيْرَ مَصْرُوفٍ. وَأَصْحابَ الرَّسِّ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قَوْمٌ ثَمُودَ وَيُبَعِّدُهُ عَطْفُهُ عَلَى ثَمُودَ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَهْلُ قَرْيَةٍ مِنَ الْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهَا الرَّسُّ وَالْفَلَجُ. قِيلَ: قَتَلُوا نَبِيَّهُمْ فَهَلَكُوا وَهُمْ بَقِيَّةُ ثَمُودَ وَقَوْمِ صَالِحٍ. وَقَالَ كَعْبٌ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ بِئْرٌ بِأَنْطَاكِيَةِ الشَّامِ قُتِلَ فِيهَا صَاحِبُ يَاسِينَ وَهُوَ حَبِيبٌ النَّجَّارُ. وَقِيلَ: قَتَلُوا نَبِيَّهُمْ وَرَسُّوهُ فِي بِئْرٍ أَيْ دَسُّوهُ فِيهِ.
106
وَقَالَ وَهْبٌ وَالْكَلْبِيُّ أَصْحابَ الرَّسِّ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ قَوْمَانِ أُرْسِلَ إِلَيْهِمَا شُعَيْبٌ أُرْسِلَ إِلَى أَصْحَابِ الرَّسِّ وَكَانُوا قَوْمًا مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَأَصْحَابَ آبَارٍ وَمَوَاشٍ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَمَادَوْا فِي طُغْيَانِهِمْ وَفِي إِيذَائِهِ فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَ الرَّسِّ وَهِيَ الْبِئْرُ غَيْرُ الْمَطْوِيَّةِ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ انْهَارَتْ بِهِمْ فَخُسِفَ بِهِمْ وَبِدَارِهِمْ.
وَقَالَ عَلِيٌّ فِيمَا نَقَلَهُ الثَّعْلَبِيُّ: قَوْمٌ عَبَدُوا شَجَرَةَ صَنَوْبَرٍ يُقَالُ لَهَا شَاهْ دَرَخْتَ رَسُّوا نَبِيَّهُمْ فِي بِئْرٍ حَفَرُوهُ لَهُ
فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَقِيلَ:
هُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم حنظلة بن صفوان كَانُوا مُبْتَلَيْنَ بِالْعَنْقَاءِ وَهِيَ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الطَّيْرِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِطُولِ عُنُقِهَا وَكَانَتْ تَسْكُنُ جَبَلَهُمُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فَجٌّ وَهِيَ تَنْقَضُّ عَلَى صِبْيَانِهِمْ فَتَخْطِفُهُمْ إِنْ أَعْوَزَهَا الصَّيْدُ فَدَعَا عَلَيْهَا حَنْظَلَةُ فَأَصَابَتْهَا الصَّاعِقَةُ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَتَلُوا حَنْظَلَةَ فَأُهْلِكُوا. وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَالرَّسُّ هُوَ الْأُخْدُودُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّسُّ بِئْرُ أَذْرَبِيجَانَ. وَقِيلَ: الرَّسُّ مَا بَيْنَ نَجْرَانَ إِلَى الْيَمَنِ إِلَى حَضْرَمَوْتَ. وَقِيلَ: قَوْمٌ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ فَقَتَلُوهُمْ وَرَسُّوا عِظَامَهُمْ فِي بِئْرٍ. وَقِيلَ: قَوْمٌ بُعِثَ إِلَيْهِمْ نَبِيٌّ فَأَكَلُوهُ. وَقِيلَ: قَوْمٌ نِسَاؤُهُمْ سَوَاحِقُ. وَقِيلَ: الرَّسُّ مَاءٌ وَنَخْلٌ لِبَنِي أَسَدٍ. وَقِيلَ: الرَّسُّ نَهْرٌ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا مِنْ أَوْلَادِ يَهُوذَا بن يَعْقُوبَ فَكَذَّبُوهُ فَلَبِثَ فِيهِمْ زَمَانًا فَشَكَا إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ فَحَفَرُوا لَهُ بِئْرًا وَأَرْسَلُوهُ فِيهَا، وَقَالُوا: نَرْجُو أَنْ يَرْضَى عَنَّا إِلَهُنَا فَكَانُوا عَامَّةَ يَوْمِهِمْ يَسْمَعُونَ أَنِينَ نَبِيِّهِمْ، فَدَعَا بِتَعْجِيلِ قبض روحه فمات وأضلتهم سَحَابَةٌ سَوْدَاءُ أَذَابَتْهُمْ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ أَهْلَ الرَّسِّ أَخَذُوا نَبِيَّهُمْ فَرَسُّوهُ فِي بِئْرٍ وَأَطْبَقُوا عَلَيْهِ صَخْرَةً فَكَانَ عَبْدٌ أَسْوَدُ آمَنَ بِهِ يَجِيءُ بِطَعَامٍ إِلَى تِلْكَ الْبِئْرِ فَيُعِينُهُ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الصَّخْرَةِ فيقلها فَيُعْطِيهِ مَا يُغَذِّيهِ بِهِ. ثُمَّ يَرُدُّ الصَّخْرَةَ، إِلَى أَنْ ضَرَبَ اللَّهُ يَوْمًا عَلَى أُذُنِ ذَلِكَ الْأَسْوَدِ بِالنَّوْمِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَخْرَجَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ نَبِيَّهُمْ فَآمَنُوا بِهِ».
فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَيُمْكِنُ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَذَكَرَهُمُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَكَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْحَابِ الرَّسِّ، فَلَوْ صَحَّ مَا نَقَلَهُ عِكْرِمَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ كَانَ هُوَ الْقَوْلَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ خِلَافُهُ وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِتَكْذِيبِ مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ.
وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ هَذَا إِبْهَامٌ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ ذلك إلّا الله وذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِي الذِّكْرِ فَلِذَلِكَ حَسُنَ دُخُولُ بَيْنَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَأَنَّهُ قِيلَ بَيْنَ الْمَذْكُورِينَ وَقَدْ يَذْكُرُ الذَّاكِرُ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً. ثُمَّ يُشِيرُ إِلَيْهَا. وَانْتَصَبَ كُلًّا الْأَوَّلُ عَلَى الِاشْتِغَالِ أَيْ وَأَنْذَرْنَا كُلًّا أَوْ حَذَّرْنَا كُلًّا وَالثَّانِي عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِتَبَّرْنَا لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مَفْعُولًا
107
وَهَذَا مِنْ وَاضِحِ الْإِعْرَابِ. وَمَعْنَى ضَرَبَ الْأَمْثَالَ أَيْ بَيَّنَ لَهُمُ الْقِصَصَ الْعَجِيبَةَ مِنْ قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَوَصَفْنَا لَهُمْ مَا أَدَّى إِلَيْهِ تَكْذِيبُهُمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَتَدْمِيرِهِ إِيَّاهُمْ لِيَهْتَدُوا بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ فَلَمْ يَهْتَدُوا وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي لَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالْمَعْنَى وَكُلَّ الْأَمْثَالِ ضَرَبْنَا لِلرَّسُولِ وَعَلَى هَذَا وكُلًّا منصوب بضربنا والْأَمْثالَ بَدَلٌ مِنْ كُلًّا. وَالضَّمِيرُ فِي وَلَقَدْ أَتَوْا لِقُرَيْشٍ كَانُوا يَمُرُّونَ عَلَى سَدُومَ مِنْ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ فِي مَتَاجِرِهِمْ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَتْ قُرًى خَمْسَةً أَهْلَكَ اللَّهُ مِنْهَا أَرْبَعًا وَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ وَهِيَ زُغَرُ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهَا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ الْعَمَلَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ومَطَرَ السَّوْءِ الْحِجَارَةُ الَّتِي أُمْطِرَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ فَهَلَكُوا.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنَادِي نَصِيحَةً لَكُمْ: يَا سَدُومُ يَوْمٌ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْهَاكُمْ أَنْ تَتَعَرَّضُوا لِلْعُقُوبَةِ مِنَ اللَّهِ
، وَمَعْنَى أَتَوْا مَرُّوا فَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِعَلَى. وَأَفْرَدَ لَفْظَ الْقَرْيَةِ وَإِنْ كَانَتْ قُرًى لِأَنَّ سَدُومَ هِيَ أُمُّ تِلْكَ الْقُرَى وَأَعْظَمُهَا.
وَقَالَ مَكِّيٌّ: الضَّمِيرُ فِي أَتَوْا عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا انْتَهَى. وَهُمْ قُرَيْشٌ وَانْتَصَبَ مَطَرَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَأُمْطِرَتْ عَلَى مَعْنَى أُولِيَتْ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مَحْذُوفُ الزَّوَائِدِ أَيْ إِمْطَارَ السَّوْءِ. أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا حَلَّ بِهَا مِنَ النِّقَمِ كَمَا قَالَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ
«١». وَقَالَ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ «٢» وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِرُؤْيَتِهَا أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ، بَلْ كَانُوا كَفَرَةً لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَلَمْ يَتَوَقَّعُوا عَذَابَ الْآخِرَةِ وَضَعَ الرَّجَاءَ مَوْضِعَ التوقع لأنه إنما بتوقع الْعَاقِبَةَ مَنْ يُؤْمِنُ، فَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَنْظُرُوا وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وَمَرُّوا بِهَا كَمَا مَرَّتْ رِكَابُهُمْ، أَوْ لَا يَأْمُلُونَ نُشُوراً كَمَا يَأْمُلُهُ الْمُؤْمِنُونَ لِطَمَعِهِمْ إِلَى ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ أَوْ لَا يَخَافُونَ عَلَى اللُّغَةِ التِّهَامِيَّةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ مصرت ثلاثي مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَمَطَرَ مُتَعَدٍّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَمَنْ بَوَادِيهِ بَعْدَ الْمَحْلِ مَمْطُورِ وَقَرَأَ أَبُو السِّمَاكِ مَطَرَ السَّوْءِ بِضَمِّ السِّينِ.
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً لَمْ يَقْتَصِرِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِ، بَلْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَالِاحْتِقَارِ. حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا وإِنْ نَافِيَةٌ جَوَابُ إِذا وَانْفَرَدَتْ إِذا
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ١٣٧.
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٧٩.
108
بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ جَوَابُهَا مَنْفِيًّا بِمَا أَوْ بِلَا لَا تَدْخُلُهُ الْفَاءُ بِخِلَافِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ غَيْرِهَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَاءِ مَعَ مَا وَمَعَ لَا إِذَا ارْتَفَعَ الْمُضَارِعُ، فَلَوْ وَقَعَتْ إِنِ النَّافِيَةُ فِي جَوَابِ غَيْرِ إِذَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَاءِ كَمَا النَّافِيَةِ ومعنى هُزُواً مَوْضِعَ هُزْءٍ أَوْ مَهْزُوًّا بِهِ أَهذَا قَبْلَهُ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ أَيْ يَقُولُونَ وَقَالَ: جَوَابُ إِذا مَا أُضْمِرُ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ وَإِذا رَأَوْكَ قَالُوا أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا وإِنْ يَتَّخِذُونَكَ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ إِذا وَجَوَابِهَا.
قِيلَ: وَنَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ كَانَ إِذَا رَأَى الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟
وَأَخْبَرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لِقُبْحِ صُنْعِهِ أَوْ لِكَوْنِ جَمَاعَةٍ مَعَهُ قَالُوا ذَلِكَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ اسْتِصْغَارٌ وَاحْتِقَارٌ مِنْهُمْ أَخْرَجُوهُ بِقَوْلِهِمْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا فِي مَعْرِضِ التَّسْلِيمِ وَالْإِقْرَارِ وَهُمْ عَلَى غَايَةِ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ سُخْرِيَةً وَاسْتِهْزَاءً، وَلَوْ لَمْ يَسْتَهْزِئُوا لَقَالُوا هَذَا زَعَمَ أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ مَبْعُوثٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ رَسُولًا.
وَقَوْلُهُمْ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا دَلِيلٌ عَلَى فَرْطِ مُجَاهَدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَتِهِمْ، وَبَذْلِهِ قُصَارَى الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ فِي اسْتِعْطَافِهِمْ مَعَ عَرْضِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ حَتَّى شَارَفُوا بِزَعْمِهِمْ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَهُمْ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ لَوْلَا فَرْطُ لَجَاجِهِمْ وَاسْتِمْسَاكِهِمْ بعبادة آلهتهم. ولَوْلا فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ جَارٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا من حيث اللفظ مَجْرَى التَّقْيِيدِ لِلْحُكْمِ الْمُطْلَقِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الِاسْتِهْزَاءُ إِمَّا بِالصُّورَةِ فَكَانَ أَحْسَنَ مِنْهُمْ خِلْقَةً أَوْ بِالصِّفَةِ فَلَا يُمْكِنُ لِأَنَّ الصِّفَةَ الَّتِي تَمَيَّزَ بِهَا عَنْهُمْ ظُهُورُ الْمُعْجِزِ عَلَيْهِ دُونَهُمْ، وَمَا قَدَرُوا عَلَى الْقَدْحِ فِي حُجَّتِهِ فَفِي الْحَقِيقَةِ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يُهْزَأَ بِهِمْ ثُمَّ لِوَقَاحَتِهِمْ قلبوا القصة واستهزؤوا بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَهَى. قِيلَ: وَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُمْ صَارُوا فِي ظُهُورِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ كَالْمَجَانِينِ اسْتَهْزَءُوا بِهِ أَوَّلًا ثُمَّ إِنَّهُمْ وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ مَذْهَبِنَا لَوْلا أَنَّا قَابَلْنَاهُ بِالْجُمُودِ وَالْإِصْرَارِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَلَّمُوا لَهُ قُوَّةَ الْحُجَّةِ وَكَمَالَ الْعَقْلِ، فَكَوْنُهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الاستهزاء به وَبَيْنَ هَذِهِ الْكَيْدُودَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَالْمُتَحَيِّرِينَ فِي أَمْرِهِ تَارَةً يَسْتَهْزِئُونَ مِنْهُ وَتَارَةً يَصِفُونَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْعَالِمِ الْكَامِلِ.
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَعِيدٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَفُوتُونَهُ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ الْإِمْهَالِ فَلَا بُدَّ لِلْوَعِيدِ أَنْ يَلْحَقَهُمْ فَلَا يَغُرَّنَّهُمُ التَّأْخِيرُ، وَلَمَّا قَالُوا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا جَاءَ قَوْلُهُ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أَيْ سَيَظْهَرُ لَهُمْ مَنِ الْمُضِلُّ وَمَنِ الضَّالُّ بِمُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ الَّذِي لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ استفهامية وأضل خبره والجملة في موضع مَفْعُولِ يَعْلَمُونَ إِنْ كَانَتْ
109
مُتَعَدِّيَةً إِلَى وَاحِدٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْنِ إِنْ كَانَتْ تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْ موصولة مفعولة بيعلمون وأَضَلُّ خبر مبتدأ محذوف أي هُوَ أَضَلُّ، وَصَارَ حَذْفُ هَذَا الْمُضْمَرِ لِلِاسْتِطَالَةِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ مَا أَنَا بِالَّذِي قَائِلٌ لَكَ سَوَاءٌ.
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ هَذَا يَأْسٌ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَإِشَارَةٌ إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ لَا يَتَأَسَّفَ عَلَيْهِمْ، وَإِعْلَامٌ أَنَّهُمْ فِي الْجَهْلِ بِالْمَنَافِعِ وَقِلَّةِ النَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ مِثْلُ الْبَهَائِمِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ مِنْ حَيْثُ لَهُمْ فَهْمٌ وَتَرَكُوا اسْتِعْمَالَهُ فِيمَا يُخَلِّصُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَالْأَنْعَامُ لَا سَبِيلَ لَهَا إلى فهم المصالح. وأَ رَأَيْتَ اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ مِنْ جَهْلِ من هذه حاله وإِلهَهُ المفعول الأول لاتخذ، وهَواهُ الثَّانِي أَيْ أَقَامَ مُقَامَ الْإِلَهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ هَوَاهُ فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا يَكُونُ فِي هَواهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ إِلَهًا إِلَّا هَوَاهُ وَادِّعَاءُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ إِذْ يُقَدِّرُهُ مَنِ اتَّخَذَ هَوَاهُ إِلَهَهُ وَالْبَيْتُ مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ وَنَادِرِ الْكَلَامِ فَيُنَزَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَنْهُ كَانَ الرَّجُلُ يَعْبُدُ الصَّنَمَ فَإِذَا رَأَى أَحْسَنَ مِنْهُ رَمَاهُ وَأَخَذَ الْأَحْسَنَ.
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ، كَانَ إِذَا هَوِيَ شَيْئًا عَبَدَهُ، وَالْهَوَى مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ أَفَأَنْتَ تُجْبِرُهُ عَلَى تَرْكِ هَوَاهُ، أَوْ أَفَأَنْتَ تَحْفَظُهُ مِنْ عَظِيمِ جَهْلِهِ. وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنِ اتَّخَذَ آلِهَةً مُنَوَّنَةً عَلَى الْجَمْعِ، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ جَعَلَ هَوَاهُ أَنْوَاعًا أَسْمَاءً لِأَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ فَجَعَلَ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ هَوَاهُ إِلَهًا آخَرَ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: إِلَاهَةً عَلَى وَزْنِ فِعَالَةٍ وَفِيهِ أَيْضًا تَقْدِيمٌ أَيْ هَوَاهُ إِلَاهَةً بِمَعْنَى مَعْبُودٍ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمَأْلُوهَةِ. فَالْهَاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ فَلِذَلِكَ صُرِفَتْ. وَقِيلَ: بَلِ الْإِلَاهَةُ الشَّمْسُ وَيُقَالُ لَهَا أُلَاهَةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهِيَ غَيْرُ مَصْرُوفَةٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مِمَّا يَدْخُلُهَا لَامُ الْمَعْرِفَةِ فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ فِيهِ اللَّامُ ثُمَّ نُزِعَتْ فَلِذَلِكَ صُرِفَتْ وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ النُّعُوتِ فَتَنَكَّرَتْ قَالَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ. وَمَفْعُولُ أَرَأَيْتَ الْأَوَّلُ هُوَ مَنِ وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَرَأَيْتَ فِي أَوَائِلِ الْأَنْعَامِ وَمَعْنَى وَكِيلًا أَيْ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْعُوَ إِلَى الْهُدَى فَتَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَتُجْبِرَهُ على الإسلام. وأَمْ منقطعة تَتَقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ أَتَحْسَبُ كَأَنَّ هَذِهِ الْمَذَمَّةَ أَشَدُّ مِنَ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا حَتَّى حُفَّتْ بِالْإِضْرَابِ عَنْهَا إِلَيْهَا وَهُوَ كَوْنُهُمْ مَسْلُوبِي الْأَسْمَاعِ وَالْعُقُولِ لِأَنَّهُمْ لَا يُلْقُونَ إِلَى استماع الحق أذنا إِلَى تَدَبُّرِهِ عَقْلًا، وَمُشَبَّهِينَ بِالْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ مَثَلٌ فِي الْغَفْلَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَنُفِيَ ذَلِكَ عَنْ أَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ فَأَسْلَمَ، وَجُعِلُوا أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهَا تَنْقَادُ لِأَرْبَابِهَا وَتَعْرِفُ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهَا مِمَّنْ يُسِيءُ إِلَيْهَا وَتَطْلُبُ مَنْفَعَتَهَا وَتَتَجَنَّبُ مَضَرَّتَهَا وَتَهْتَدِي إِلَى
110
مَرَاعِيهَا وَمَشَارِبِهَا، وَهُمْ لَا يَنْقَادُونَ لِرَبِّهِمْ وَلَا يَعْرِفُونَ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَرْغَبُونَ فِي الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَنَافِعِ وَلَا يَتَّقُونَ الْعِقَابَ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ الْمَضَارِّ وَلَا يَهْتَدُونَ لِلْحَقِّ
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٥ الى ٦٠]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى جَهْلَ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَى دَلَائِلِ الصَّانِعِ وَفَسَادِ طَرِيقَتِهِمْ ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ لَعَلَّهُمْ يَتَدَبَّرُونَهَا وَيُؤْمِنُونَ بِمَنْ هَذِهِ قُدْرَتُهُ وَتَصَرُّفُهُ فِي عَالَمِهِ، فَبَدَأَ بِحَالِ الظِّلِّ فِي زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ وَتَغَيُّرِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَأَنَّ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى مَشِيئَتِهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَلَمْ تَرَ فِي الْبَقَرَةِ فِي قِصَّةِ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ.
وَالْمَعْنَى أَلَمْ تَرَ إِلى صنع رَبِّكَ وقدرته. وكَيْفَ سُؤَالٌ عَنْ حَالٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
111
بِمَدَّ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مُتَعَلِّقِ أَلَمْ تَرَ لِأَنَّ تَرَ مُعَلِّقَةٌ وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ الَّتِي هِيَ مُعَلَّقٌ عَنْهَا فعل القلب ليس باقي عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ. فَالْمَعْنَى أَلَمْ تَرَ إِلَى مَدِّ رَبِّكَ الظِّلَّ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الظِّلَّ هُنَا مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِثْلُ ظِلِّ الْجَنَّةِ ظِلٌّ مَمْدُودٌ لَا شَمْسَ فِيهِ وَلَا ظُلْمَةَ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ فِي غَيْرِ النَّهَارِ بَلْ فِي بَقَايَا اللَّيْلِ وَلَا يُسَمَّى ظِلًّا. وَقِيلَ: الظِّلَّ اللَّيْلُ لَا ظِلُّ الْأَرْضِ وَهُوَ يَغْمُرُ الدُّنْيَا كُلَّهَا. وَقِيلَ: مِنْ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِهَا وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي قَبْلَهُ وَلَكِنْ أَوْرَدَهُ كَذَا. وَقِيلَ: ظِلَالُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا كَقَوْلِهِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ «١». وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الظِّلَّ بِالْغَدَاةِ وَالْفَيْءُ بِالْعَشِيِّ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الظِّلَّ مَا نَسَخَتْهُ الشَّمْسُ وَالْفَيْءُ مَا نَسَخَ الشَّمْسَ. وَقِيلَ: مَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ظِلٌّ وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ فَزَالَتْ فَيْءٌ.
وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: كَظِلِّ الْجَنَّةِ الَّذِي لَا شَمْسَ تُذْهِبُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُصِيبُهُ الشَّمْسُ وَلَا تَزُولُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَوْ شاءَ لَتَرَكَهُ ظِلًّا كَمَا هُوَ. وَقِيلَ: لَأَدَامَهُ أَبَدًا بِمَنْعِ طُلُوعِ الشَّمْسِ بَعْدَ غَيْبُوبَتِهَا، فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَلَّتْ عَلَى زَوَالِ الظِّلِّ وَبَدَا فِيهِ النُّقْصَانُ فَبِطُلُوعِ الشَّمْسِ يَبْدُو النُّقْصَانُ فِي الظِّلِّ، وَبِغُرُوبِهَا تَبْدُو الزِّيَادَةُ فِي الظِّلِّ فَبِالشَّمْسِ اسْتَدَلَّ أَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى الظِّلِّ وَزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ، وَكُلَّمَا عَلَتِ الشَّمْسُ نَقَصَ الظِّلُّ، وَكُلَّمَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ زَادَ وَهُوَ قَوْلُهُ ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً «٢» يَعْنِي فِي وَقْتِ عُلُوِّ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ يَنْقُصُ الظِّلُّ نُقْصَانًا يَسِيرًا بَعْدَ يَسِيرٍ وَكَذَلِكَ زِيَادَتُهُ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ يَزِيدُ يَسِيرًا بَعْدَ يَسِيرٍ حَتَّى يَعُمَّ الْأَرْضَ. كُلَّهَا فَأَمَّا زَوَالُ الظِّلِّ كُلِّهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْبُلْدَانِ الْمُتَوَسِّطَةِ فِي وَقْتٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى مَدَّ الظِّلَّ أَنْ جَعَلَهُ يَمْتَدُّ وَيَنْبَسِطُ فَيَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ. وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أَيْ لَاصِقًا بِأَصْلِ كُلِّ مُظِلٍّ مِنْ جَبَلٍ وَبِنَاءٍ وَشَجَرٍ وَغَيْرَ مُنْبَسِطٍ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ، سُمِّيَ انْبِسَاطُ الظل وامتداده تحركا منه وَعَدَمُ ذَلِكَ سُكُونًا وَمَعْنَى كَوْنِ الشَّمْسِ دَلِيلًا أَنَّ النَّاسَ يَسْتَدِلُّونَ بِالشَّمْسِ وَبِأَحْوَالِهَا فِي مَسِيرِهَا عَلَى أَحْوَالِ الظِّلِّ مِنْ كَوْنِهِ ثَابِتًا فِي مَكَانٍ وَزَائِلًا وَمُتَّسِعًا وَمُتَقَلِّصًا فَيَبْنُونَ حَاجَتَهُمْ إِلَى الظِّلِّ وَاسْتِغْنَاءَهُمْ عَنْهُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ.
وَقَبْضُهُ إِلَيْهِ أَنْ يَنْسَخَهُ بِظِلِّ الشَّمْسِ يَسِيراً أَيْ عَلَى مَهَلٍ وَفِي هَذَا الْقَبْضِ الْيَسِيرِ شيئا
(١) سورة النحل: ١٦/ ٤٨.
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ٤٦.
112
بَعْدَ شَيْءٍ مِنَ الْمَنَافِعِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، وَلَوْ قُبِضَ دُفْعَةً لَتَعَطَّلَتْ أَكْثَرُ مَرَافِقِ النَّاسِ بِالظِّلِّ وَالشَّمْسِ جَمِيعًا فَإِنْ قُلْتَ: ثُمَّ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ كَيْفَ مَوْقِعُهَا؟ قُلْتُ: موقعها البيان تَفَاضُلِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ كَأَنَّ الثَّانِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثَ أَعْظَمُ مِنَ الثَّانِي تَشْبِيهًا لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْفَضْلِ بِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَ الْحَوَادِثِ فِي الْوَقْتِ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ بَنَى الظِّلَّ حِينَ بَنَى السَّمَاءَ كَالْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ وَدَحَا الْأَرْضَ تَحْتَهَا فَأَلْقَتِ الْقُبَّةُ ظِلَّهَا عَلَى الْأَرْضِ لِعَدَمِ النَّيِّرِ.
وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً مُسْتَقِرًّا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ثُمَّ خَلَقَ الشَّمْسَ وَجَعَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الظِّلِّ سَلَّطَهَا عَلَيْهِ وَجَعَلَهَا دَلِيلًا مَتْبُوعًا لَهُمْ كَمَا يُتْبَعُ الدَّلِيلُ فِي الطَّرِيقِ فَهُوَ يَزِيدُ بِهَا وَيَنْقُصُ وَيَمْتَدُّ وَيَقْلِصُ، ثُمَّ نَسَخَهُ بِهَا قَبَضَهُ قَبْضًا سَهْلًا يَسِيرًا غَيْرَ عَسِيرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ قَبْضَهُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ بِقَبْضِ أَسْبَابِهِ وَهِيَ الْأَجْرَامُ الَّتِي تُلْقِي الظِّلَّ فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ إِعْدَامَهُ بِإِعْدَامِ أَسْبَابِهِ، كَمَا ذَكَرَ إِنْشَاءَهُ بِإِنْشَاءِ أَسْبَابِهِ وَقَوْلُهُ قَبَضْناهُ إِلَيْنا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ يَسِيراً كَمَا قَالَ ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ «١» انْتَهَى وَقَوْلُهُ: سَمَّى انبساط الظل وامتداده تحركا مِنْهُ لَمْ يُسَمِّ اللَّهُ ذَلِكَ إِنَّمَا قَالَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَقَوْلُهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ قَبْضَهُ عِنْدَ قيامه السَّاعَةِ فَهَذَا يَبْعُدُ احْتِمَالُهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ آثَارَ صَنْعَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِتُشَاهَدَ ثُمَّ قَالَ مَدَّ الظِّلَّ وَعَطَفَ عَلَيْهِ مَاضِيًا مِثْلَهُ فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ثُمَّ قبضه عند قيام الساعة مَعَ ظُهُورِ كَوْنِهِ مَاضِيًا مُسْتَدَامًا أَمْثَالُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أَيْ ثَابِتًا غَيْرَ مُتَحَرِّكٍ وَلَا مَنْسُوخٍ، لَكِنَّهُ جَعَلَ الشَّمْسَ وَنَسْخَهَا إِيَّاهُ بِطَرْدِهَا لَهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ دَلِيلًا عَلَيْهِ مُبَيِّنًا لِوُجُودِهِ وَلِوَجْهِ الْعِبْرَةِ فِيهِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: أَنَّهُ لَوْلَا الشَّمْسُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الظِّلَّ شَيْءٌ إِذِ الْأَشْيَاءُ إِنَّمَا تُعْرَفُ بِأَضْدَادِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسِيراً مُعَجَّلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَطِيفًا أَيْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ سَهْلًا قَرِيبَ التَّنَاوُلِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَكْثَرَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَيُرْفَعُ الْكَلَامُ فِيهَا إِلَى وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الظِّلَّ لَا ضَوْءٌ خَالِصٌ وَلَا ظُلْمَةٌ خَالِصَةٌ، وَهُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَذَلِكَ الْكَيْفِيَّاتُ الْحَاصِلَةُ دَاخِلَ السَّقْفِ وَأَبْنِيَةِ الْجِدَارَاتِ، وَهِيَ أَطْيَبُ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ الْخَالِصَةَ يَكْرَهُهَا الطَّبْعُ وَيَنْفِرُ عَنْهَا الْحِسُّ وَالضَّوْءَ الْخَالِصَ يُحَيِّرُ الْحِسَّ البصري
(١) سورة ق: ٥٠/ ٤٤.
113
وَيُحْدِثُ السُّخُونَةَ الْقَوِيَّةَ وَهِيَ مُؤْذِيَةٌ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي الْجَنَّةِ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «١» وَالنَّاظِرُ إِلَى الْجِسْمِ الْمُلَوَّنِ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُ بِالظِّلِّ شَيْئًا سِوَى الْجِسْمِ وَسِوَى اللَّوْنِ وَالظِّلُّ لَيْسَ أَمْرًا ثَالِثًا وَلَا معرفة به إلّا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَوَقَعَ ضَوْءُهَا عَلَى الْجِسْمِ ثُمَّ مَالَ عُرِفَ لِلظِّلِّ وُجُودٌ وَمَاهِيَّةٌ، وَلَوْلَاهَا مَا عُرِفَ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُدْرَكُ بِأَضْدَادِهَا، فَظَهَرَ لِلْعَقْلِ أَنَّ الظِّلَّ كَيْفِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْجِسْمِ وَاللَّوْنِ وَلِذَلِكَ قَالَ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أَيْ جَعَلْنَا الظِّلَّ أَوَّلًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ، ثُمَّ هَدَيْنَا الْعُقُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ وَجُودِهِ بِأَنْ أَطْلَعْنَا الشَّمْسَ فَكَانَتْ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الظِّلِّ. ثُمَّ قَبَضْناهُ أَيْ أَزَلْنَاهُ لَا دُفْعَةً بَلْ يَسِيراً يَسِيرًا كُلَّمَا ازْدَادَ ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ ازْدَادَ نُقْصَانُ الظِّلِّ مِنْ جَانِبِ الْمَغْرِبِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَرَكَاتُ الْمَكَانِيَّةُ لَا تُوجَدُ دُفْعَةً بَلْ يَسِيرًا يَسِيرًا كَانَ زَوَالُ الْأَظْلَالِ كَذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ السماء والأرض وقع السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ فَجَعَلَ الشَّمْسَ دَلِيلًا لِأَنَّهُ بِحَسَبِ حَرَكَاتِ الْأَضْوَاءِ تَتَحَرَّكُ الْأَظْلَالُ فَهُمَا مُتَعَاقِبَانِ مُتَلَازِمَانِ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، فَبِمِقْدَارِ مَا يَزْدَادُ أَحَدُهُمَا يَنْقُصُ الْآخَرُ، فَكَمَا أَنَّ الْمُهْتَدِيَ يَقْتَدِي بِالْهَادِي وَالدَّلِيلِ وَيُلَازِمُهُ فَكَذَلِكَ الْأَظْلَالُ مُلَازِمَةٌ لِلْأَضْوَاءِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ الشَّمْسَ دَلِيلًا عَلَيْهِ انْتَهَى. مُلَخَّصًا وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَمُحَسَّنٌ بَعْضَ تَحْسِينٍ. وَالْآيَةُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّكْثِيرِ.
وَقَالَ أَيْضًا: الظِّلَّ لَيْسَ عَدَمًا مَحْضًا بَلْ هُوَ أَضْوَاءٌ مَخْلُوطَةٌ بِظَلَامٍ، فَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ وَفِي تَحْقِيقِهِ دَقِيقٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ انْتَهَى. وَالْآيَةُ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّكْثِيرِ وَقَدْ تَرَكْتُ أَشْيَاءَ مِنْ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ مِمَّا لَا تَمَسُّ إليه الحاجة.
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً تَشْبِيهًا بِالثَّوْبِ الَّذِي يُغَطِّي الْبَدَنَ وَيَسْتُرُهُ مِنْ حَيْثُ اللَّيْلُ يَسْتُرُ الْأَشْيَاءَ.
وَالسُّبَاتُ: ضَرْبٌ مِنَ الْإِغْمَاءِ يَعْتَرِي الْيَقْظَانَ مَرَضًا فَشَبَّهَ النَّوْمَ بِهِ، وَالسَّبْتُ الْإِقَامَةُ فِي الْمَكَانِ فَكَانَ السُّبَاتُ سُكُونًا تَامًّا وَالنُّشُورُ هُنَا الْإِحْيَاءُ شَبَّهَ الْيَقَظَةَ بِهِ لِيَتَطَابَقَ الْإِحْيَاءُ مَعَ الْإِمَاتَةِ اللَّذَيْنِ يَتَضَمَّنُهُمَا النَّوْمُ وَالسُّبَاتُ انْتَهَى. ومن كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَقَالَ غَيْرُهُ: السُّبَاتُ الرَّاحَةُ جُعِلَ النَّوْمَ سُباتاً أَيْ سَبَبَ رَاحَةٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: السُّبَاتُ الْمَوْتُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «٢» فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا فَسَّرْتَهُ بِالرَّاحَةِ؟ قُلْتُ: النُّشُورُ فِي مُقَابَلَتِهِ يَأْبَاهُ انْتَهَى. وَلَا يَأْبَاهُ إِلَّا لَوْ تَعَيَّنَ تَفْسِيرُ
(١) سورة الواقعة: ٥٦/ ٣٠.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٦٠.
114
النُّشُورِ بِالْحَيَاةِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ نُشُوراً هُوَ بِمَعْنَى الِانْتِشَارِ وَالْحَرَكَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَيُحْتَمَلُ أن يريد بِالنُّشُورِ وَقْتَ انْتِشَارٍ وَتَفَرُّقٍ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ وَابْتِغَاءِ فَضْلِ الله. والنَّهارَ نُشُوراً وَمَا قَبْلَهُ مِنْ بَابِ لَيْلٌ نَائِمٌ وَنَهَارٌ صَائِمٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعَ دَلَالَتِهَا عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ فِيهَا إِظْهَارٌ لِنِعْمَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، لِأَنَّ الِاحْتِجَابَ بِسِتْرِ اللَّيْلِ كَمْ فِيهِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَوَائِدُ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِنْ يَدٍ تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ
وَالنَّوْمُ وَالْيَقَظَةُ وَشَبَّهَهُمَا بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ أَيْ عِبْرَةٌ فِيهِمَا لِمَنِ اعْتَبَرَ. وَعَنْ لُقْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ كَمَا تَنَامُ فَتُوقَظُ فَكَذَلِكَ تَمُوتُ فَتُنْشَرُ.
وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ الرِّيحِ بِالْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ فِي الْبَقَرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِرَاءَةُ الْجَمْعِ أَوْجَهُ لِأَنَّ عُرْفَ الرِّيحِ مَتَى وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ مُفْرَدَةً فَإِنَّمَا هِيَ لِلْعَذَابِ، وَمَتَّى كَانَتْ لِلْمَطَرِ وَالرَّحْمَةِ فَإِنَّمَا هِيَ رِيَاحٌ لِأَنَّ رِيحَ الْمَطَرِ تَتَشَعَّبُ وَتَتَدَاءَبُ وَتَتَفَرَّقُ وَتَأْتِي لَيِّنَةً وَمِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَشَيْئًا إِثْرَ شَيْءٍ، وَرِيحَ الْعَذَابِ خَرَجَتْ لَا تَتَدَاءَبُ وَإِنَّمَا تَأْتِي جَسَدًا وَاحِدًا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُحَطِّمُ مَا تَجِدُ وَتَهْدِمُهُ. قَالَ الرُّمَّانِيُّ: جُمِعَتْ رِيَاحُ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهَا ثَلَاثَةُ لَوَاقِحَ: الْجَنُوبُ، وَالصَّبَا، وَالشَّمَالُ. وَأُفْرِدَتْ رِيحُ الْعَذَابِ لِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ لَا تُلْقِحُ وَهِيَ الدَّبُورُ. قَالَ- أَيِ ابْنُ عَطِيَّةَ-: يَرُدُّ هَذَا
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا»
انْتَهَى. وَلَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ كُلًّا مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَوَاتِرٌ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الرِّيحِ لِلْجِنْسِ فَتَعُمُّ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ قَوْلَ الرُّمَّانِيِّ يَرُدُّهُ الْحَدِيثُ فَلَا يَظْهَرُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رِيَاحًا». الثَّلَاثَةَ اللَّوَاقِحَ
وَبِقَوْلِهِ «وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا»
الدَّبُورَ. فَيَكُونُ مَا قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ مُطَابِقًا لِلْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ.
وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ نَشْراً وَفِي مَدْلُولِهِ فِي الْأَعْرَافِ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ اسْتِعَارَةٌ حَسَنَةٌ أَيْ قُدَّامَ الْمَطَرِ لِأَنَّهُ يَجِيءُ مُعْلَمًا بِهِ. وَالطَّهُورُ فَعُولٌ إما للمبالغة كنؤوم فَهُوَ مَعْدُولٌ عَنْ طَاهِرٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِمَا يُتَطَهَّرُ بِهِ كَالسَّحُورِ وَالْفَطُورِ، وَإِمَّا مَصْدَرٌ لِتَطَهَّرَ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْمَصْدَرِ حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ مَاءً طَهُوراً أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي طَهَارَتِهِ وَجِهَةُ الْمُبَالَغَةِ كَوْنُهُ لَمْ يَشُبْهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا نَبَعَ مِنَ الْأَرْضِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ تَشُوبُهُ أَجْزَاءٌ أَرْضِيَّةٌ مِنْ مَقَرِّهِ أَوْ مَمَرِّهِ أَوْ مِمَّا يُطْرَحُ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالِاسْمِ وَبِالْمَصْدَرِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مَا قَالَهُ شَرْحًا لِمُبَالَغَتِهِ فِي الطَّهَارَةِ
115
كَانَ سَدِيدًا وَيُعَضِّدُهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «١» وَإِلَّا فَفَعُولٌ لَا يَكُونُ بِمَعْنَى مُفَعِّلٍ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ طَهُورٍ لِلْمُبَالَغَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «٢».
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِلَى رُجَّحِ الْأَكْفَالِ غِيدٍ مِنَ الظِّبَا عِذَابِ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ
وَقَرَأَ عِيسَى وَأَبُو جَعْفَرٍ مَيْتاً بِالتَّشْدِيدِ وَوَصَفَ بَلَدَةً بِصِفَةِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّ الْبَلْدَةَ تَكُونُ فِي مَعْنَى الْبَلَدِ فِي قَوْلِهِ فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ «٣» وَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ التَّخْفِيفَ لِأَنَّهُ يُمَاثِلُ فَعْلًا مِنَ الْمَصَادِرِ، فَكَمَا وُصِفَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ بِالْمَصْدَرِ فَكَذَلِكَ بِمَا أَشْبَهَهُ بِخِلَافِ الْمُشَدَّدِ فَإِنَّهُ يُمَاثِلُ فَاعِلًا مِنْ حَيْثُ قَبُولُهُ لِلثَّاءِ إِلَّا فِيمَا خَصَّ الْمُؤَنَّثَ نَحْوَ طَامِثٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا وَنُسْقِيَهُ بِفَتْحِ النُّونِ وَرُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ وَأَناسِيَّ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ.
وَرُوِيَتْ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَأَناسِيَّ جَمْعُ إِنْسَانٍ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَجَمْعُ إِنْسِيٍّ فِي مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ وَالْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ، وَالْقِيَاسُ أَنَاسِيَةٌ كَمَا قَالُوا فِي مُهَلَّبِيٍّ مَهَالِبَةٌ. وَحُكِيَ أَنَاسِينُ فِي جَمْعِ إِنْسَانٍ كَسِرْحَانٍ وَسَرَاحِينَ، وَوَصَفَ الْمَاءَ بِالطَّهَارَةِ وَعَلَّلَ إِنْزَالَهُ بِالْإِحْيَاءِ وَالسَّقْيِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَنَاسِيُّ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُنْزِلَ لَهُ الْمَاءُ وُصِفَ بِالطَّهُورِ وَإِكْرَامًا لَهُ وَتَتْمِيمًا لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِ، وَالتَّعْلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: حَمَلَنِي الْأَمِيرُ عَلَى فَرَسٍ جَوَادٍ لِأَصِيدَ عَلَيْهِ الْوَحْشَ. وَقَدَّمَ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ وَسَقْيَ الْأَنْعَامِ عَلَى سَقْيِ الْأَنَاسِيِّ لِأَنَّ حَيَاتَهُمْ بِحَيَاةِ أَرْضِهِمْ وَحَيَاةِ أَنْعَامِهِمْ، فَقَدَّمَ مَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّهُمْ إِذَا وَجَدُوا مَا يَسْقِي أَرْضَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَجَدُوا سُقْيَاهُمْ. وَنُكِّرَ الْأَنْعَامُ وَالْأَنَاسِيُّ وَوُصِفَا بِالْكَثْرَةِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ لَا يُعَيِّشُهُمْ إِلَّا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْمَطَرِ، وَكَذَلِكَ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً يُرِيدُ بَعْضَ بِلَادِ هَؤُلَاءِ الْمُتَبَاعِدِينَ عَنْ مَظَانِّ الْمَاءِ بِخِلَافِ سُكَّانِ الْمُدُنِ فَإِنَّهُمْ قَرِيبُونَ مِنَ الْأَوْدِيَةِ وَالْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فَهُمْ غَنِيُّونَ غَالِبًا عَنْ سَقْيِ مَاءِ الْمَطَرِ، وَخَصَّ الْأَنْعَامَ مِنْ بَيْنِ مَا خَلَقَ مِنَ الْحَيَوَانِ الشَّارِبِ لِأَنَّ الطُّيُورَ وَالْوَحْشَ تَبْعُدُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ فَلَا يُعْوِزُهَا الشُّرْبُ بِخِلَافِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّهَا قِنْيَةُ الْأَنَاسِيِّ وَمَنَافِعُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا فَكَانَ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِسَقْيِ أَنْعَامِهِمْ كَالْإِنْعَامِ بِسِقْيِهِمْ.
وَالضَّمِيرُ فِي صَرَّفْناهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَاءِ الْمُنَزَّلِ مِنَ السَّمَاءِ، أَيْ جَعَلْنَا إِنْزَالَ الْمَاءِ تَذْكِرَةً بِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ بَعْضِ الْمَوَاضِعِ إِلَى بَعْضٍ وَهُوَ فِي كُلِّ عَامٍ بِمِقْدَارٍ واحد قاله الجمهور
(١) سورة الأنفال: ٨/ ١١.
(٢) سورة الإنسان: ٧٦/ ٢١.
(٣) سورة فاطر: ٣٥/ ٩.
116
مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إِلَّا كُفُوراً هُوَ قَوْلُهُمْ بِالْأَنْوَاءِ وَالْكَوَاكِبِ قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقِيلَ كُفُوراً عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمَّا تَرَكُوا التَّذَكُّرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ لِوُضُوحِ الْأَمْرِ وَيُعَضِّدُهُ وَجاهِدْهُمْ بِهِ «١» لِتَوَافُقِ الضَّمَائِرِ، وَعَلَى أَنَّهُ لِلْمَطَرِ يَكُونُ بِهِ لِلْقُرْآنِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: رَاجِعٌ إِلَى الْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَسَائِرِ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَرَّفْنَا هَذَا الْقَوْلَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي سَائِرِ الْكُتُبِ وَالصُّحُفِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى الرُّسُلِ، وَهُوَ ذِكْرُ إِنْشَاءِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ لِيَتَفَكَّرُوا وَيَعْتَبِرُوا وَيَعْرِفُوا حَقَّ النِّعْمَةِ فِيهِ وَيَشْكُرُوا، فَأَبَى أَكْثَرُهُمْ إِلَّا كُفْرَانَ النِّعْمَةِ وَجُحُودَهَا وَقِلَّةَ الِاكْتِرَاثِ بِهَا. وَقِيلَ: صَرَّفْنَا الْمَطَرَ بَيْنَهُمْ فِي الْبُلْدَانِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَوْقَاتِ الْمُتَغَايِرَةِ وَعَلَى الصِّفَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ مِنْ وَابِلٍ وَطَلٍّ وَجُودٍ وَرَذَاذٍ وَدِيمَةٍ وَرِهَامٍ فَأَبَوْا إِلَّا الْكُفُورَ. وَأَنْ يَقُولُوا مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَلَا يَذْكُرُوا رَحْمَتَهُ وَصَنْعَتَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا مِنْ عَامٍ أَقَلُّ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ ذَلِكَ بَيْنَ عِبَادِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
وَيُرْوَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَعْرِفُونَ عَدَدَ الْمَطَرِ وَمِقْدَارَهُ فِي كُلِّ عَامٍ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ، وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ فِي الْبِلَادِ
وَيُنْتَزَعُ مِنْ هَاهُنَا جَوَابٌ فِي تَنْكِيرِ الْبَلْدَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ كَأَنَّهُ قَالَ: لِيُحْيِيَ بِهِ بَعْضَ الْبِلَادِ الْمَيِّتَةِ، وَنُسْقِيَهُ بَعْضَ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ وَذَلِكَ الْبَعْضُ كَثِيرٌ انْتَهَى. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ صَرَّفْناهُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ.
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً لَمَّا عَلِمَ تَعَالَى مَا كَابَدَهُ الرَّسُولُ مِنْ أَذَى قَوْمِهِ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ لَبَعَثَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَيُخَفِّفَ عَنْكَ الْأَمْرَ وَلَكِنَّهُ أَعْظَمَ أَجْرَكَ وَأَجَلَّكَ إِذْ جَعَلَ إِنْذَارَكَ عَامًّا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَخَصَّكَ بِذَلِكَ لِيَكْثُرَ ثَوَابُكَ لِأَنَّهُ عَلَى كَثْرَةِ الْمُجَاهَدَةِ يَكُونُ الثَّوَابُ، وَلِيَجْمَعَ لَكَ حَسَنَاتِ مَنْ آمَنَ بِكَ إِذْ أَنْتَ مُؤَسِّسُهَا. فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا اسْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَرَغِبُوا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ وَيُمَلِّكُونَهُ عَلَيْهِمْ وَيَجْمَعُونَ لَهُ مَالًا عَظِيمًا فَنَهَاهُ تَعَالَى عَنْ طَاعَتِهِمْ حَتَّى يُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنَّ رَغْبَتَهُ فِي الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَجاهِدْهُمْ بِهِ أَيِ الْقُرْآنِ أَوْ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالسَّيْفِ أو بترك طاعتهم وجِهاداً مصدر وصف بكبيرا لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُجَاهَدَةُ جَمِيعِ الْعَالَمِ فَهُوَ جهاد كبير.
ومَرَجَ خَلَطَ بَيْنَهُمَا أَوْ أَفَاضَ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ أَوْ أَجْرَاهُمَا أَقْوَالٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ الْمَاءُ الْكَثِيرُ الْعَذْبُ وَالْمَاءُ الْكَثِيرُ الْمِلْحُ. وَقِيلَ: بَحْرَانِ مُعَيَّنَانِ. فَقِيلَ: بحر
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٥٢.
117
فَارِسَ، وَبَحْرُ الرُّومِ. وَقِيلَ: بَحْرُ السَّمَاءِ وَبَحْرُ الْأَرْضِ يَلْتَقِيَانِ فِي كُلِّ عَامٌّ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِيَاهُ الْأَنْهَارِ الْوَاقِعَةُ فِي الْبَحْرِ الْأُجَاجِ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَقْصِدُ بِالْآيَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِتْقَانِ خَلْقِهِ لِلْأَشْيَاءِ فِي أَنْ بَثَّ فِي الْأَرْضِ مِيَاهًا عَذْبَةً كَثِيرَةً مِنَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَجَعَلَهَا خِلَالَ الْأُجَاجِ، وَجَعَلَ الْأُجَاجَ خِلَالَهَا فَتَرَى الْبَحْرَ قَدِ اكْتَنَفَتْهُ الْمِيَاهُ الْعَذْبَةُ فِي ضَفَّتَيْهِ وَيُلْقَى الْمَاءُ الْبَحْرُ فِي الْجَزَائِرِ وَنَحْوِهَا قَدِ اكْتَنَفَهُ الْمَاءُ الْأُجَاجُ، وَالْبَرْزَخُ وَالْحِجْرُ مَا حَجَزَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَرْضِ وَالسَّدِّ قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَيَتَمَشَّى هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ مَرَجَ بِمَعْنَى أَجْرَى. وَقِيلَ: الْبَرْزَخُ الْبِلَادُ وَالْقِفَارُ فَلَا يَخْتَلِفَانِ إِلَّا بِزَوَالِ الْحَاجِزِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْحَاجِزُ مَانِعٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَهُمَا مُخْتَلِطَانِ فِي مَرَائِي الْعَيْنِ مُنْفَصِلَانِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، وَسَوَادُ الْبَصْرَةِ يَنْحَدِرُ الْمَاءُ الْعَذْبُ مِنْهُ فِي دِجْلَةَ نَحْوَ الْبَحْرِ، وَيَأْتِي الْمَدُّ مِنَ الْبَحْرِ فَيَلْتَقِيَانِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَاطٍ فَمَاءُ الْبَحْرِ إِلَى الْخُضْرَةِ الشَّدِيدَةِ، وَمَاءُ دِجْلَةَ إِلَى الْحُمْرَةِ، فَالْمُسْتَقِي يَغْرِفُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ عِنْدَنَا لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ وَنِيلُ مِصْرَ فِي فَيْضِهِ يَشُقُّ الْبَحْرَ الْمَالِحَ شَقًّا بِحَيْثُ يَبْقَى نَهْرًا جَارِيًا أَحْمَرَ فِي وَسَطِ الْمَالِحِ لِيَسْتَقِيَ النَّاسُ مِنْهُ، وَتُرَى الْمِيَاهُ قِطَعًا فِي وَسَطِ الْبَحْرِ الْمَالِحِ فَيَقُولُونَ: هَذَا مَاءٌ ثَلِجٌ فَيَسْقُونَ مِنْهُ مِنْ وَسَطِ الْبَحْرِ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَقُتَيْبَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ مِلْحٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَكَذَا فِي فَاطِرٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَهَذَا مُنْكَرٌ فِي الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ أَرَادَ مَالِحًا وَحَذَفَ الْأَلِفَ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ بَرَدٍ أَيْ بَارِدٌ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ: هِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ قَلِيلَةٌ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَالِحٌ فَقَصَرَهُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ فَالْمَالِحُ جَائِزٌ فِي صِفَةِ الْمَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ يُوجَدُ فِي الضِّفْيَانِ بِأَنْ يَكُونَ مَمْلُوحًا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَمَالِحًا لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَتِهِ أَنْ يُقَالَ: مَاءٌ مِلْحٌ مَوْصُوفٌ بِالْمَصْدَرِ أَيْ مَاءٌ ذُو مِلْحٍ، فَالْوَصْفُ بِذَلِكَ مِثْلُ حِلْفٍ وَنِضْوٍ مِنَ الصِّفَاتِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: حِجْراً مَحْجُوراً مَا مَعْنَاهُ؟ قُلْتُ: هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي يَقُولُهَا الْمُتَعَوِّذُ وَقَدْ فَسَّرْنَاهَا وَهِيَ هَاهُنَا وَاقِعَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ مُتَعَوِّذٌ مِنْ صَاحِبِهِ وَيَقُولُ لَهُ حِجْراً مَحْجُوراً كَمَا قَالَ لَا يَبْغِيانِ «١» أَيْ لَا ينبغي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْمُمَازَجَةِ، فَانْتِفَاءُ الْبَغْيِ ثَمَّ كَالتَّعَوُّذِ هَاهُنَا جَعَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صُورَةِ الْبَاغِي عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُ وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِعَارَاتِ وَأَشْهَدِهَا عَلَى الْبَلَاغَةِ انتهى.
(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ٢٠.
118
وَالظَّاهِرُ أَنَّ حِجْراً مَحْجُوراً مَعْطُوفٌ عَلَى بَرْزَخاً عَطْفَ الْمَفْعُولِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَكَذَا أَعْرَبَهُ الْحَوْفِيُّ، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ الْمَجَازِيِّ أَيْ، وَيَقُولَانِ أَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ حِجْراً مَحْجُوراً.
وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْبَشَرِ وَهُمْ بَنُو آدَمَ وَالْبَشَرُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّسَبِ آدَمُ وَبِالصِّهْرِ حَوَّاءُ. وَقِيلَ: النَّسَبُ البنون والصهر البنات ومِنَ الْماءِ إِمَّا النُّطْفَةُ، وَإِمَّا أَنَّهُ أَصْلُ خِلْقَةِ كُلِّ حَيٍّ، وَالنَّسَبُ وَالصِّهْرُ يَعُمَّانِ كُلَّ قُرْبَى بَيْنَ آدَمِيَّيْنِ، فَالنَّسَبُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ آخَرَ فِي أَبٍ وَأُمٍّ قَرُبَ ذَلِكَ أَوْ بَعُدَ، وَالصِّهْرُ هُوَ نَوَاشِجُ الْمُنَاكَحَةِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ النَّسَبُ مَا لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَالصِّهْرُ قَرَابَةُ الرَّضَاعِ.
وَعَنْ طَاوُسٍ: الرَّضَاعَةُ مِنَ الصِّهْرِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ: الصِّهْرُ مَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَالنَّسَبُ مَا لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
الصِّهْرُ قَرَابَةُ الرَّضَاعِ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٍّ لِأَنَّهُ جَمَعَهُ مَعَهُ نَسَبٌ وَصِهْرٌ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَاجْتِمَاعُهُمَا وَكَادَةُ حُرْمَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً حَيْثُ خَلَقَ مِنَ النُّطْفَةِ الْوَاحِدَةِ بَشَرًا نَوْعَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى.
وَلَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ قُدْرَتِهِ وَمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ غَرَائِبِ مَصْنُوعَاتِهِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لِنَفْعِهِ وَضُرِّهِ بَيْنَ فَسَادِ عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكافِرُ اسْمُ جِنْسٍ فَيَعُمُّ. وَقِيلَ: هُوَ أَبُو جَهْلٍ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ الْكافِرُ هَنَا إِبْلِيسُ وَالظَّهِيرُ وَالْمَظَاهِرُ كَالْمُعِينِ وَالْمُعَاوِنِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ كَثِيرٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكافِرُ يُعَاوِنُ الشَّيْطَانَ عَلَى رَبِّهِ بِالْعَدَاوَةِ وَالشَّرِيكِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَكَانَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ وَهُوَ عِبَادَةُ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ عَلَى رَبِّهِ هَيِّنًا مَهِينًا مِنْ قَوْلِهِمْ: ظَهَرْتُ بِهِ إِذَا خَلَّفْتَهُ خَلْفَ ظَهْرِكَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِهِ أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ «١» الْآيَةَ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: عَلى رَبِّهِ أَيْ مُعِينًا عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. وَقِيلَ:
مُعِينًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ لَا يُوَحَّدَ اللَّهُ.
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً سَلَّى نَبِيَّهُ بِذَلِكَ أَيْ لَا تَهْتَمَّ بِهِمْ وَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، وَإِنَّمَا أَنْتَ رَسُولٌ تُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ وَتُنْذِرُ الْكَفَرَةَ بِالنَّارِ، وَلَسْتَ بِمَطْلُوبٍ بِإِيمَانِهِمْ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ مُزِيلًا لِوُجُوهِ التُّهَمِ بِقَوْلِهِ قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أَيْ لَا أَطْلُبُ مَالًا وَلَا نَفْعًا يَخْتَصُّ بِي. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٧٧.
119
عَلَى التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ، أَوْ عَلَى الْقُرْآنِ، أَوْ عَلَى إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ أَقْوَالٌ. وَالظَّاهِرُ فِي إِلَّا مَنْ شاءَ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَقَالَهُ الْجُمْهُورُ. فَعَلَى هَذَا قِيلَ بِعِبَادِهِ لَكِنْ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا فَلْيَفْعَلْ. وَقِيلَ: لَكِنْ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمُجَاهَدَةِ أَعْدَائِهِ فَهُوَ مسؤولي.
وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: إِلَّا أَجْرَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا أَيْ إِلَّا أَجْرَ مَنْ آمَنَ أَيِ الْأَجْرَ الْحَاصِلَ لِي عَلَى دُعَائِهِ إِلَى الْإِيمَانِ وَقَبُولِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى يَأْجُرُنِي عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِلَّا أَجْرَ من آمن من يعني بالأجرة الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ لَا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا إِلَّا الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَجَعَلَ الْإِنْفَاقَ أَجْرًا.
وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ فَطَمَ نَفْسَهُ عَنْ سُؤَالِهِمْ شَيْئًا أَمَرَهُ تَعَالَى تَفْوِيضَ أَمْرِهِ إِلَيْهِ وَثِقَتَهُ بِهِ وَاعْتِمَادَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِنَصْرِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ. وَوَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّوَكُّلَ فِي قَوْلِهِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى دُونَ كُلِّ حَيٍّ كَمَا قَالَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «١». وَقَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ لِذِي عَقْلٍ أَنْ يَثِقَ بَعْدَهَا بِمَخْلُوقٍ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِتَنْزِيهِهِ وَتَمْجِيدِهِ مَقْرُونًا بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّنْزِيهَ مَحَلُّهُ اعْتِقَادُ الْقَلْبِ وَالْمَدْحَ مَحَلُّهُ اللِّسَانُ الْمُوَافِقُ لِلِاعْتِقَادِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ. وَهِيَ الْكَلِمَتَانِ الْخَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ الثَّقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ».
وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ عِبَادِهِ شَيْءٌ آمَنُوا أَمْ كَفَرُوا، وَأَنَّهُ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ كَافٍ فِي جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ وَوَعِيدٌ لِلْكَافِرِ. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ كَفَى بِكَ ظَفَرًا أَنْ يَكُونَ عَدُوُّكَ عَاصِيًا وَهِيَ كَلِمَةٌ يُرَادُ بِهَا الْمُبَالَغَةُ تَقُولُ: كَفَى بِالْعِلْمِ جَمَالًا. وَكَفَى بِالْأَدَبِ مَالًا، أَيْ حَسْبُكَ لَا تَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ قَادِرٌ عَلَى مُكَافَأَتِهِمْ.
وَلَمَّا أَمَرَهُ بِالتَّوَكُّلِ وَالتَّسْبِيحِ وَذَكَرَ صِفَةَ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَهُوَ إِيجَادُ هَذَا الْعَالَمِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِ هَذَا الْكَلَامِ وَاحْتَمَلَ الَّذِي أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ الرَّحْمنُ بِالْجَرِّ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ الرَّحْمنُ بِالرَّفْعِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي صِفَةً للحي والرَّحْمنُ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي مُبْتَدَأً والرَّحْمنُ خَبَرَهُ. وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٨٨. [.....]
120
خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والرَّحْمنُ صِفَةً لَهُ. أَوْ يَكُونَ الَّذِي مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي وَيَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ أَنَّ يَكُونَ الرَّحْمنُ مبتدأ. وفَسْئَلْ خَبَرَهُ تَخْرِيجُهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَقَائِلَةٍ خَوْلَانُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ وَجَوَّزُوا أَيْضًا فِي الرَّحْمنُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي اسْتَوى. وَالظَّاهِرُ تَعَلَّقَ به بقوله فَسْئَلْ وَبَقَاءُ الْبَاءِ غَيْرَ مُضَمَّنَةٍ معنى عن. وخَبِيراً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ: لَقِيتُ بِزَيْدٍ أَسَدًا وَلَقِيتُ بِزَيْدٍ الْبَحْرَ، تُرِيدُ أَنَّهُ هُوَ الْأَسَدُ شَجَاعَةً، وَالْبَحْرُ كَرَمًا.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى اللَّطِيفُ الْعَالِمُ الْخَبِيرُ والمعنى فَسْئَلْ اللَّهَ الْخَبِيرَ بِالْأَشْيَاءِ الْعَالِمَ بِحَقَائِقِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وخَبِيراً عَلَى هَذَا مَنْصُوبٌ إِمَّا بِوُقُوعِ السُّؤَالِ، وَإِمَّا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ. كَمَا قَالَ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «١» وَلَيْسَتْ هذه الحال منتقلة إذا الصِّفَةُ الْعَلِيَّةُ لَا تَتَغَيَّرُ انْتَهَى. وَبُنِيَ هَذَا الْإِعْرَابُ عَلَى أَنَّهُ كَمَا تَقُولُ: لَوْ لَقِيتَ فُلَانًا لَلَقِيتَ بِهِ الْبَحْرَ كَرَمًا أَيْ لقيت منه. والمعنى فسئل اللَّهَ عَنْ كُلِّ أَمْرِ وَكَوْنُهُ مَنْصُوبًا على الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرَ لَا يَصِحُّ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بمعنى عن، أي فَسْئَلْ عَنْهُ خَبِيراً كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ. وَيَكُونَ خَبِيراً لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ هُنَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: اسْأَلْ عَنِ الرَّحْمَنِ الْخُبَرَاءَ جِبْرِيلَ وَالْعُلَمَاءَ وَأَهْلَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَإِنْ جَعَلْتَ بِهِ مُتَعَلِّقًا بِخَبِيرًا كان المعنى فَسْئَلْ عَنِ اللَّهِ الْخُبَرَاءَ بِهِ. وقال الكلبي معناه فَسْئَلْ خبيرا به وبِهِ يَعُودُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَذَلِكَ الْخَبِيرُ هُوَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْعَقْلِ عَلَى كَيْفِيَّةِ خَلْقِ ذَلِكَ فَلَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
الْخَبِيرُ جِبْرِيلُ وَقُدِّمَ لرؤوس الْآيِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْبَاءُ فِي بِهِ صِلَةُ سَلْ كَقَوْلِهِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ «٢» كَمَا يَكُونُ عَنْ صِلَتَهُ في نحو ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ «٣» أَوْ صِلَةُ خَبِيراً بِهِ فَتَجْعَلُ خَبِيراً مَفْعُولًا أَيْ، فَسَلْ عَنْهُ رَجُلًا عَارِفًا يُخْبِرْكَ بِرَحْمَتِهِ، أَوْ فَسَلْ رَجُلًا خبيرا به
(١) سورة البقرة: ٢/ ٩١.
(٢) سورة المعارج: ٧٠/ ١.
(٣) سورة التكاثر: ١٠٢/ ٨.
121
وَبِرَحْمَتِهِ، أَوْ فَسَلْ بِسُؤَالِهِ خَبِيرًا. كَقَوْلِكَ، رَأَيْتُ بِهِ أَسَدًا أَيْ رَأَيْتُ بِرُؤْيَتِهِ، وَالْمَعْنَى إِنْ سَأَلْتَهُ وَجَدْتَهُ خَبِيرًا بِجَعْلِهِ حَالًا عَنْ بِهِ تُرِيدُ فَسَلْ عَنْهُ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ.
وَقِيلَ: الرَّحْمنُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ مَذْكُورٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ. فَقِيلَ: فَسَلْ بِهَذَا الِاسْمِ مَنْ يُخْبِرُكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْرَفَ مَنْ يُنْكِرُهُ وَمِنْ ثَمَّ كَانُوا يَقُولُونَ: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا الَّذِي فِي الْيَمَامَةِ يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ رَحْمَنُ الْيَمَامَةِ انْتَهَى.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَعْرِفُ هَذَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ غَالَطَتْ قُرَيْشٌ بِذَلِكَ فَقَالَتْ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُنَا بِعِبَادَةِ رَحْمَنِ الْيَمَامَةِ نَزَلَتْ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ومَا سُؤَالٌ عَنِ الْمَجْهُولِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا عَنِ الْمُسَمَّى بِهِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا عَنِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي كَلَامِهِمْ كَمَا يُسْتَعْمَلُ الرَّحِيمُ وَالرَّحُومُ وَالرَّاحِمُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا إِطْلَاقَهُ عَلَى اللَّهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ لَمَّا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ فَذُكِرَتِ الصِّفَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْكَلِمَةُ عَرَبِيَّةٌ لَا يُنْكَرُ وَضْعُهَا، أَظْهَرُوا التَّجَاهُلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي لِلَّهِ مُغَالَطَةً مِنْهُمْ وَوَقَاحَةً فَقَالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ وَهُمْ عَارِفُونَ بِهِ وَبِصِفَتِهِ الرَّحْمَانِيَّةِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ «١» حِينَ قَالَ لَهُ مُوسَى: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ «٢» عَلَى سَبِيلِ الْمُنَاكَرَةِ وَهُوَ عَالِمٌ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. كَمَا قَالَ مُوسَى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ «٣» فَكَذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ اسْتَفْهَمُوا عَنِ الرَّحْمنُ اسْتِفْهَامَ مَنْ يَجْهَلُهُ وَهُمْ عَالِمُونَ بِهِ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الرَّحْمنُ إِلَّا مُسَيْلِمَةَ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَنْ لَا يَعْرِفُونَ الرَّحْمَنَ إِلَّا مُسَيْلِمَةَ. فَالْمَعْنَى أَنَسْجَدُ لِمُسَيْلِمَةَ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ:
لَا يَعْرِفُونَ الرَّحْمنُ بِالْكُلِّيَّةِ فَالْمَعْنَى أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِبَيَانِهِ. وَالْقَائِلُ اسْجُدُوا الرَّسُولُ أَوِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَأْمُرُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ أَيْ يَأْمُرُنَا مُحَمَّدٌ، وَالْكِنَايَةُ عَنْهُ أَوِ الْمُسَمَّى الرَّحْمنُ وَلَا نَعْرِفُهُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلرَّسُولِ. وَمَفْعُولُ تَأْمُرُنا الثَّانِي مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ يَأْمُرُنَا سُجُودَهُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أمرتك الخير.
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٢٣.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٠٤.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ١٠٢.
122
وَزادَهُمْ أَيْ هَذَا الْقَوْلُ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ لِلرَّحْمَنِ زادَهُمْ ضَلَالًا يَخْتَصُّ بِهِ مَعَ ضَلَالِهِمُ السَّابِقِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا على فعلي السُّجُودِ وَالْقَبُولِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: سَجَدَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعُثْمَانُ بْنُ مظعون وعمرو بن غَلَسَةَ، فَرَآهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَخَذُوا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ يَسْتَهْزِئُونَ، فَهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَزادَهُمْ نُفُوراً وَمَعْنَى نُفُوراً فِرَارًا
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦١ الى ٧٧]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥)
إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥)
خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
123
لَمَّا جَعَلَتْ قُرَيْشٌ سُؤَالَهَا عَنِ اسْمِهِ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ سُؤَالًا عَنْ مَجْهُولٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُصَرِّحَةً بِصِفَاتِهِ الَّتِي تُعَرِّفُ بِهِ وَتُوجِبُ الْإِقْرَارَ بِأُلُوهِيَّتِهِ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالرَّحْمَنِ، وَسَأَلُوا هُمْ فِيهِ عَمَّا وَضَعَ فِي السَّمَاءِ مِنَ النَّيِّرَاتِ وَمَا صَرَّفَ مِنْ حَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَبَادَرُوا بِالسُّجُودِ وَالْعِبَادَةِ لِلرَّحْمَنِ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا لَهُمْ بِهِ اعْتِنَاءٌ تَامٌّ مِنْ رَصْدِ الْكَوَاكِبِ وَأَحْوَالِهَا وَوَضْعِ أَسْمَاءٍ لَهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُرُوجِ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهِيَ مَنَازِلُ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ وَهِيَ الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِشَبَهِهَا بِمَا شُبِّهَتْ بِهِ. وَسُمِّيَتْ بِالْبُرُوجِ الَّتِي هِيَ الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ لِأَنَّهَا لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ كَالْمَنَازِلِ لِسُكَّانِهَا وَاشْتِقَاقُ الْبُرْجِ مِنَ التَّبَرُّجِ لِظُهُورِهِ.
وَقِيلَ: الْبُرُوجُ هُنَا الْقُصُورُ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ الْأَعْمَشُ. وَكَانَ أَصْحَابُ عبد الله يقرؤونها فِي السَّماءِ قُصُورًا. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْبُرُوجُ هُنَا الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا قُصُورٌ فِي الْجَنَّةِ تَحُطُّ مِنْ غَرَضِ الْآيَةِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى أَشْيَاءَ مُدْرَكَاتٍ تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ عَلَى كُلِّ مُنْكِرٍ لِلَّهِ أَوْ جَاهِلٍ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيها الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى السَّماءِ.
وَقِيلَ: عَلَى الْبُرُوجِ، فَالْمَعْنَى وَجَعَلَ فِي جُمْلَتِهَا سِراجاً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سِراجاً عَلَى الْإِفْرَادِ وَهُوَ الشَّمْسُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَعْمَشُ وَالْأَخَوَانِ سُرُجًا بِالْجَمْعِ مَضْمُومَ الرَّاءِ وَهُوَ يَجْمَعُ الْأَنْوَارَ، فَيَكُونُ خَصَّ الْقَمَرَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ كَذَلِكَ بِسُكُونِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَالنَّخَعِيُّ وَعِصْمَةُ عَنْ عاصم وَقَمَراً بضم إلقاء وَسُكُونِ الْمِيمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لُغَةٌ فِي الْقَمَرِ كَالرُّشْدِ وَالرَّشَدِ وَالْعُرْبِ وَالْعَرَبِ. وَقِيلَ: جَمَعُ قَمْرَاءَ أَيْ لَيْلَةٌ قَمْرَاءُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَذَا قَمَرٍ مُنِيرٍ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ تَكُونُ قَمْرَاءَ بِالْقَمَرِ، فَأَضَافَهُ إِلَيْهَا وَنَظِيرُهُ فِي بَقَاءِ حُكْمِ الْمُضَافِ بَعْدَ سُقُوطِهِ وَقِيَامِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ قَوْلُ حَسَّانَ:
بَرَدَى يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ يُرِيدُ مَاءَ بَرَدَى. فَمُنِيرًا وَصْفٌ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ كَمَا قَالَ يُصَفِّقُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَلَوْ لَمْ يُرَاعِ الْمُضَافَ لَقَالَ: تُصَفِّقُ بِالتَّاءِ وَقَالَ مُنِيراً أَيْ مُضِيئًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ سِراجاً كَالشَّمْسِ لِأَنَّهُ لَا تَوَقُّدَ لَهُ.
وَانْتَصَبَ خِلْفَةً عَلَى الْحَالِ. فَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرُ خَلَفَ خِلْفَةً. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ هَيْئَةٍ
124
كَالرِّكْبَةِ وَوَقَعَ حَالًا اسْمُ الْهَيْئَةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِمَاءٍ قَعْدَةَ رَجُلٍ، وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَخْلُفُ عَلَيْهَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ. وَالْمَعْنَى جَعَلَهُمَا ذَوَيْ خِلْفَةٍ أَيْ ذَوَيْ عُقْبَةٍ يَعْقُبُ هَذَا ذَاكَ وَذَاكَ هَذَا، وَيُقَالُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَخْتَلِفَانِ كَمَا يُقَالُ يَعْتَقِبَانِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «١» وَيُقَالُ: بِفُلَانٍ خِلْفَةٌ وَاخْتِلَافٌ إِذَا اخْتَلَفَ كَثِيرًا إِلَى مُتَبَرَّزِهِ وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ زُهَيْرٍ:
بِهَا الْعِيسُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً وَقَوْلُ الْآخَرِ:
يَصِفُ امْرَأَةً تَنْتَقِلُ مِنْ مَنْزِلٍ فِي الشِّتَاءِ إِلَى مَنْزِلٍ فِي الصَّيْفِ دَأَبًا:
وَلَهَا بالماطرون طرون إِذَا أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا
خِلْفَةٌ حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتْ سَكَنَتْ مِنْ جِلِّقٍ بِيَعَا
فِي بُيُوتٍ وَسْطَ دَسْكَرَةٍ حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا
وَقِيلَ خِلْفَةً فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْكِسَائِيُّ: هَذَا أَسْوَدُ وَهَذَا أَبْيَضُ وَهَذَا طَوِيلٌ وَهَذَا قَصِيرٌ. لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ. قَالَ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: مَعْنَاهُ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ مَا فَاتَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ فِي أَحَدِهِمَا فَيَسْتَدْرِكَهُ فِي الَّذِي يَلِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: أَيْ يَعْتَبِرَ بِالْمَصْنُوعَاتِ وَيَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَالْفَهْمِ. وقال الزمخشري: وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ يَتَذَكَّرُ وَالْمَعْنَى. لِيَنْظُرَ فِي اخْتِلَافِهِمَا النَّاظِرُ فَيَعْلَمَ أَنْ لَا بُدَّ لِانْتِقَالِهِمَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وتغيرهما من نافل وَمُغَيِّرٍ، وَيَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى عِظَمِ قُدْرَتِهِ وَيَشْكُرَ الشَّاكِرُ عَلَى النِّعْمَةِ مِنَ السُّكُونِ بِاللَّيْلِ وَالتَّصَرُّفِ بِالنَّهَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ «٢» وَلِيَكُونَا وَقْتَيْنِ لِلْمُتَذَكِّرِ وَالشَّاكِرِ مَنْ فَاتَهُ فِي أَحَدِهِمَا وِرْدُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ أَتَى بِهِ فِي الْآخَرِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَطَلْحَةُ وَحَمْزَةُ تَذْكُرَ مُضَارِعُ ذَكَرَ خَفِيفًا.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكُفَّارِ وَذَمُّهُمْ جَاءَ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَذَكِّرِينَ الشَّاكِرِينَ فَقَالَ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ وَهَذِهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَفَضُّلٍ، وَهُوَ جَمْعُ عَبْدٍ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: جَمْعُ عَابِدٍ كَصَاحِبٍ وَصِحَابٍ، وَتَاجِرٍ وَتِجَارٍ، وَرَاجِلٍ وَرِجَالٍ، أَيِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَعِبادُ مبتدأ والَّذِينَ يَمْشُونَ الخبر.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٦٤ وغيرها.
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ٧٣.
125
وقيل: أولئك الخبر والَّذِينَ صِفَةٌ، وَقَوْمٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ يُسَمَّوْنَ الْعِبَادَ لِأَنَّ كِسْرَى مَلَكَهُمْ دُونَ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ تَأَلَّهُوا مَعَ نَصَارَى الْحِيرَةِ فَصَارُوا عِبَادَ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: وَعُبَّادُ جَمْعَ عَابِدٍ كَضَارِبٍ وَضُرَّابٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَعُبُدُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْبَاءِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْيَمَانِيُّ يَمْشُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا. وَالْهَوْنُ: الرِّفْقُ وَاللِّينُ. وَانْتَصَبَ هَوْناً عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ محذوف أي مَشْيًا هَوْنًا أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ يَمْشُونَ هَيِّنِينَ فِي تُؤَدَةٍ وَسَكِينَةٍ وَحُسْنِ سَمْتٍ لَا يَضْرِبُونَ بِأَقْدَامِهِمْ وَلَا يَخْفُقُونَ بِنِعَالِهِمْ أَشَرًا وَبَطَرًا، وَلِذَلِكَ كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الرُّكُوبَ فِي الْأَسْوَاقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْحِلْمِ وَالْوَقَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالطَّاعَةِ وَالْعَفَافِ وَالتَّوَاضُعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حُلَمَاءُ إِنْ جُهِلَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجْهَلُوا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَوْناً عِبَارَةٌ عَنْ عَيْشِهِمْ وَمُدَّةِ حَيَاتِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ، فَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ الْمُعْظَمَ لَا سِيَّمَا وَفِي الِانْتِقَالِ فِي الْأَرْضِ هِيَ مُعَاشَرَةُ النَّاسِ وَخِلْطَتُهُمْ ثُمَّ قَالَ هَوْناً بمعنى أمره هَوْنٌ أَيْ لَيْسَ بِخَشِنٍ، وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إِلَى أَنَّ هَوْناً مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ أَيْ أَنَّ الْمَشْيَ هُوَ الْهَوْنُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَتَأَوَّلَ هَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخْلَاقُ ذَلِكَ الْمَاشِي هَوْناً مُنَاسِبَةً لِمَشْيِهِ فَيَرْجِعَ الْقَوْلُ إِلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صِفَةَ الْمَشْيِ وَحْدَهُ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ رُبَّ مَاشٍ هَوْناً رُوَيْدًا وَهُوَ ذَنَبُ أَطْلَسَ.
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَفَّأُ فِي مَشْيِهِ كَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ.
وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الصَّدْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ مَشَى مِنْكُمْ فِي طَمَعٍ فَلْيَمْشِ رُوَيْدًا».
أَرَادَ فِي عمر نَفْسِهِ وَلَمْ يُرِدِ الْمَشْيَ وَحْدَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ المبطلين المتحلين بِالدِّينِ تَمَسَّكُوا بِصُورَةِ الْمَشْيِ فَقَطْ حَتَّى قَالَ فِيهِمُ الشَّاعِرُ:
كُلُّهُمْ يَمْشِي رُوَيْدَا كُلُّهُمْ يَطْلُبُ صَيْدَا
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سُرْعَةُ الْمَشْيِ تَذْهَبُ بِبَهَاءِ الْوَجْهِ، يُرِيدُ الْإِسْرَاعَ الْخَفِيفَ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْوَقَارِ وَالْخَيْرُ فِي التَّوَسُّطِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّهُ رَأَى فِي النَّوْمِ مَنْ فَسَّرَ لَهُ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً
بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ.
وَقَالَ عِيَاضُ بْنُ مُوسَى: كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرْفَعُ فِي مَشْيِهِ رِجْلَيْهِ بِسُرْعَةٍ وَعَدْوُ خَطْوِهِ خِلَافُ مِشْيَةِ الْمُخْتَالِ، وَيُقْصَدُ سَمْتُهُ وَكُلُّ ذَلِكَ بِرِفْقٍ وَتَثَبُّتٍ دُونَ عَجَلَةٍ كَمَا قَالَ: «إِنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ».
وَكَانَ عُمَرُ يُسْرِعُ جِبِلَّةً لَا تَكَلُّفًا.
وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ أَيْ مِمَّا لَا يَسُوغُ الْخِطَابُ بِهِ قالُوا سَلاماً أَيْ سَلَامَ تَوْدِيعٍ لَا تَحِيَّةٍ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ سَلامٌ عَلَيْكَ «١» قَالَهُ الأصم. وقال
(١) سورة مريم: ١٩/ ٤٧.
126
مُجَاهِدٌ: قَوْلًا سَدِيدًا فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِقَالُوا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ سَلَّمْنَا سَلاماً فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْجُمْلَةِ الْمَحْكِيَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي أَقُولُهُ إِنَّ قالُوا هُوَ الْعَامِلُ فِي سَلاماً لِأَنَّ الْمَعْنَى قَالُوا هَذَا اللَّفْظَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَسَلُّمًا مِنْكُمْ فَأُقِيمَ السَّلَامُ مُقَامَ التَّسْلِيمِ. وَقِيلَ: قَالُوا سَدَادًا مِنَ الْقَوْلِ يَسْلَمُونَ فِيهِ مِنَ الْأَذَى وَالْإِثْمِ وَالْمُرَادُ بِالْجَهْلِ السَّفَهُ وَقِلَّةُ الْأَدَبِ وَسُوءُ الرَّغْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
انْتَهَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ قَبْلَ آيَةِ السَّيْفِ فَنُسِخَ مِنْهَا مَا يَخُصُّ الْكَفَرَةَ وَبَقِيَ حُكْمُهَا فِي الْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِهِ وَمَا تَكَلَّمَ عَلَى نَسْخٍ سواه. ورجح به أنه الْمُرَادَ السَّلَامَةُ لَا التَّسْلِيمُ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُؤْمَرُوا قَطُّ بِالسَّلَامِ عَلَى الْكَفَرَةِ، وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ فَنَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ. وَفِي التَّارِيخِ مَا مَعْنَاهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب فَرَآهُ فِي النَّوْمِ قَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَى عُبُورِ قَنْطَرَةٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا تَدَّعِي هَذَا الْأَمْرَ بِامْرَأَةٍ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْكَ، وَكَانَ حَكَى ذَلِكَ لِلْمَأْمُونِ قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ لَهُ بَلَاغَةً فِي الْجَوَابِ كَمَا يُذْكَرُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: فَمَا أَجَابَكَ بِهِ؟ قَالَ: كَانَ يَقُولُ لِي سَلَامًا سَلَامًا، فَنَبَّهَهُ الْمَأْمُونُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ: يَا عَمِّ قَدْ أَجَابَكَ بِأَبْلَغِ جَوَابٍ. فَخُزِيَ إِبْرَاهِيمُ وَاسْتَحْيَا، وَكَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَحْفَظِ الْآيَةَ أَوْ ذَهَبَ عَنْهُ حَالَةَ الْحِكَايَةِ.
وَالْبَيْتُوتَةُ هُوَ أن يدرك اللَّيْلُ نِمْتَ أَوْ لَمْ تَنَمْ، وَهُوَ خِلَافُ الظُّلُولِ وَبَجِيلَةُ وَأَزْدُ السَّرَاةِ يَقُولُونَ: بَيَاتٌ وَسَائِرُ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: يَبِيتُ، وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ بِالنَّهَارِ بِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ أَحْسَنَ تَصَرُّفٍ ذَكَرَ حَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي إِحْيَاءَ اللَّيْلِ بِالصَّلَاةِ أَوْ أَكْثَرِهِ. وَقِيلَ: مَنْ قَرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ فِي صَلَاةٍ فَقَدْ بَاتَ سَاجِدًا وَقَائِمًا. وَقِيلَ: هُمَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَالرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَشَاءِ. وَقِيلَ: مَنْ شَفَعَ وَأَوْتَرَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ حَضٌّ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدَّمَ السُّجُودَ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الْفِعْلِ لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ، وَلِفَضْلِ السُّجُودِ فَإِنَّهَا حَالَةٌ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهَا مِنَ اللَّهِ. وَقَرَأَ أَبُو الْبَرَهْسَمِ: سُجُودًا عَلَى وَزْنِ قُعُودًا. وَمَدَحَهُمْ تَعَالَى بِدُعَائِهِ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُمْ عَذَابَ جَهَنَّمَ وَفِيهِ تَحْقِيقُ إِيمَانِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَراماً فَظِيعًا وَجِيعًا. وَقَالَ الْخُدْرِيُّ: لَازِمًا مُلِحًّا دَائِمًا. قَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ غَرِيمٍ يُفَارِقُ غَرِيمَهُ إِلَّا غَرِيمَ جَهَنَّمَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: شَدِيدًا. وَأَنْشَدُوا عَلَى أَنَّ غَراماً لازما قوله الشَّاعِرِ وَهُوَ بِشْرُ بْنُ أبي حاتم:
127
وَيَوْمُ الْيَسَارِ وَيَوْمُ الْجِفَارِ كَانَا عَذَابًا وَكَانَا غَرَامَا
وَقَالَ الْأَعْشَى:
إِنْ يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ يُعْطِ جَزِيلًا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي
وَصَفَهُمْ بِإِحْيَاءِ اللَّيْلِ سَاجِدِينَ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ دُعَائِهِمْ هَذَا إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ مَعَ اجْتِهَادِهِمْ خَائِفُونَ يَبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّهِ فِي صَرْفِ الْعَذَابِ عنهم. وساءَتْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى بِئْسَتْ.
وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ وَفِي ساءَتْ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً تمييز. وَالتَّقْدِيرُ ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً هِيَ وَهَذَا الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ هُوَ رَابِطُ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا لِأَنَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ساءَتْ بِمَعْنَى أَحْزَنَتْ فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا أَيْ سَاءَتْهُمْ. وَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ جَهَنَّمَ وَجَازَ فِي مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أَنْ يَكُونَا تَمْيِيزَيْنِ وَأَنْ يَكُونَا حَالَيْنِ قَدْ عُطِفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنِ التَّعْلِيلَيْنِ غَيْرُ مُتَرَادِفَيْنِ ذَكَرَ أَوَّلًا لُزُومَ عَذَابِهَا، وَثَانِيًا مَسَاءَةَ مَكَانِهَا وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْ لُزُومِ الْعَذَابِ فِي مكان دم ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَقِيلَ: هُمَا مُتَرَادِفَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الدَّاعِينَ وَحِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ. وَقِيلَ:
هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَمُقاماً مَعْطُوفٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَارَ وَالْإِقَامَةَ كَأَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ. وَقِيلَ: الْمُسْتَقَرُّ لِلْعُصَاةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَقِرُّونَ فِيهَا وَلَا يُقِيمُونَ، وَالْإِقَامَةُ لِلْكُفَّارِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ وَمُقاماً بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ مَكَانَ قِيَامٍ، وَالْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ أَيْ مَكَانَ إِقَامَةٍ.
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجِيلِيُّ: الْإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ إِسْرَافٌ، وَالْإِمْسَاكُ عَنْ طَاعَةٍ إِقْتَارٌ. وَقَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَسَمِعَ رَجُلٌ رَجُلًا يَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي الْإِسْرَافِ فَقَالَ: لَا إِسْرَافَ فِي الْخَيْرِ. وَقَالَ عَوْنُ بن عبد الله بن عُتْبَةَ: الْإِسْرَافُ أَنْ تُنْفِقَ مَالَ غَيْرِكَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا يُجِيعُ وَلَا يُعَرِّي وَلَا يُنْفِقُ نَفَقَةً يَقُولُ: النَّاسُ قَدْ أَسْرَفَ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ لِلْجَمَالِ وَلَا يَأْكُلُونَ طَعَامًا لِلَّذَّةِ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ: مَا نَفَقَتُكَ؟ قَالَ لَهُ عُمَرُ: الْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ. ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ. وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي النَّفَقَةِ وَالْقَتْرُ التَّضْيِيقُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْإِسْرَافِ.
وَعَنْ أَنَسٍ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ مَا اشْتَهَيْتَهُ».
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
128
وَقَالَ آخَرُ:
وَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ
إِذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّمَا اشْتَهَتْ وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إِلَى كُلِّ بَاطِلِ
وَسَاقَتْ إِلَيْهِ الْإِثْمَ وَالْعَارَ بِالَّذِي دَعَتْهُ إِلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ
وَقَالَ حَاتِمٌ:
إِذَا أَنْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ وفرج نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ أَجْمَعَا
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ: يَقْتُرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ التَّاءِ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ مُشَدَّدَةً وَكُلُّهَا لُغَاتٌ فِي التَّضْيِيقِ. وَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِمٍ لُغَةَ أَقْتَرَ رُبَاعِيًّا هُنَا. وَقَالَ أَقْتَرَ إِذَا افْتَقَرَ.
وَمِنْهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ «١» وَغَابَ عَنْهُ مَا حَكَاهُ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ: مِنْ أَقْتَرَ بِمَعْنَى ضَيَّقَ، وَالْقَوَامُ الِاعْتِدَالُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ. وَقَرَأَ حَسَّانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَواماً بِالْكَسْرِ. فَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ مَا يُقَامُ بِهِ الشَّيْءُ يُقَالُ: أَنْتَ قِوَامُنَا بِمَعْنَى مَا تُقَامُ بِهِ الْحَاجَةُ لَا يَفْضُلُ عَنْهَا وَلَا يَنْقُصُ. وَقِيلَ: قَواماً بِالْكَسْرِ مَبْلَغًا وَسَدَادًا وَمِلَاكَ حَالٍ، وبَيْنَ ذلِكَ وقَواماً يَصِحُّ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ خَبَرِ كانَ وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَ هو الخبر وقَواماً حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ قَواماً خبرا وبَيْنَ ذلِكَ إِمَّا مَعْمُولٌ لِكَانَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ كَانَ النَّاقِصَةَ تَعْمَلُ فِي الظَّرْفِ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ قَواماً لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنَّ يَكُونَ بَيْنَ ذلِكَ اسْمَ كانَ وَبُنِيَ لِإِضَافَتِهِ إِلَى مَبْنِيٍّ كَقَوْلِهِ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ «٢» فِي قِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ الميم وقَواماً الْخَبَرَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ قَوَامٌ لَا مَحَالَةَ فَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ مُعْتَمَدُ الْفَائِدَةِ فَائِدَةٌ انْتَهَى.
وَصَفَهُمْ تَعَالَى بِالْقَصْدِ الَّذِي هُوَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَبِمِثْلِهِ خُوطِبَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً «٣» الْآيَةَ. وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ الْآيَةَ
سَأَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ:
«أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ». فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ
الْآيَةَ.
وَقِيلَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِكُونَ قَدْ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، فَقَالُوا: إن الذين تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، أو تخبرنا أن لما علمنا
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥١.
(٢) سورة هود: ١١/ ٦٦.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ٢٩.
129
كَفَّارَةً فَنَزَلَتْ إِلَى غَفُوراً رَحِيماً.
وقيل: نُزُولِهَا قِصَّةُ وَحْشِيٍّ فِي إِسْلَامِهِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَفَى هَذِهِ التَّقْبِيحَاتِ الْعِظَامَ عَنِ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الْخِلَالِ الْعَظِيمَةِ فِي الدِّينِ لِلتَّعْرِيضِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَعْدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالَّذِينَ بَرَّأَهُمُ اللَّهُ وَطَهَّرَهُمْ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِخْرَاجٌ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ صِفَاتِ الْكَفَرَةِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ وَقَتْلِهِمُ النَّفْسَ بِوَأْدِ الْبَنَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاغْتِيَالِ وَالْغَارَاتِ وَبِالزِّنَا الَّذِي كَانَ عِنْدَهُمْ مُبَاحًا انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ «١» فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَقُرِئَ يَلْقَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَالْقَافِ مُشَدَّدَةً وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو رَجَاءٍ يَلْقَى بِأَلِفٍ، كَأَنْ نَوَى حَذْفَ الضَّمَّةِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى الْأَلِفِ فَأَقَرَّ الْأَلِفَ. وَالْأَثَامُ فِي اللُّغَةِ الْعِقَابُ وَهُوَ جَزَاءُ الْإِثْمِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
جَزَى اللَّهُ ابْنَ عروة حيث أمسى عقوق وَالْعُقُوقُ لَهُ أَثَامُ
أَيْ حَدٌّ وَعُقُوبَةٌ وَبِهِ فَسَّرَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَثَامٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ هَذَا اسْمُهُ جَعَلَهُ اللَّهُ عِقَابًا لِلْكَفَرَةِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْأَثَامُ الْإِثْمُ، وَمَعْنَاهُ يَلْقَ جَزَاءَ أَثَامٍ، فَأَطْلَقَ اسْمَ الشَّيْءِ عَلَى جَزَائِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَثَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: بِئْرٌ فِيهَا. وَقِيلَ: جَبَلٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَلْقَ أَيَّامًا جَمْعَ يَوْمٍ يَعْنِي شَدَائِدَ. يُقَالُ: يَوْمٌ ذُو أَيَّامٍ لِلْيَوْمِ الْعَصِيبِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَظْهَرُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ دُعَاءِ إِلَهٍ وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالزِّنَا، فَيَكُونُ التَّضْعِيفُ مُرَتَّبًا عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الْمَعَاصِي، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ التَّضْعِيفُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ جَرَائِمِهِمْ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَبِأَلِفٍ وَيَخْلُدْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ شَدَّدُوا الْعَيْنَ وَطَرَحُوا الْأَلِفَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا وَشَيْبَةُ وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ نُضَعِّفْ بِالنُّونِ مَضْمُومَةً وَكَسْرِ الْعَيْنِ مُشَدَّدَةً الْعَذابُ نَصْبٌ. وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ يُضاعَفْ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ الْعَذابُ نصبا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَتَخْلُدُ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مَرْفُوعًا أَيْ وَتَخْلُدُ أَيُّهَا الْكَافِرُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَيَخْلُدْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدَ اللَّامِ مَجْزُومًا. وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَنْهُ كَذَلِكَ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يُضاعَفْ وَيَخْلُدْ بالرفع
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٥١.
130
عَنْهُمَا وَكَذَا ابْنُ عَامِرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ يُضاعَفْ وَيَخْلُدْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مَرْفُوعًا مُخَفَّفًا. وَالْأَعْمَشُ بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مَرْفُوعًا مُخَفَّفًا. وَالْأَعْمَشُ بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا مَرْفُوعًا فَالرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَوِ الْحَالِ وَالْجَزْمُ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ يَلْقَ.
كَمَا قَالَ الشَّاعِرِ:
مَتَّى تَأْتِنَا تُلَمِّمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا
وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْعَذَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَوْبَةَ الْمُسْلِمِ الْقَاتِلِ النَّفْسَ بِغَيْرِ حَقٍّ مَقْبُولَةٌ خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ وَتَبْدِيلُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ هُوَ جَعْلُ أَعْمَالِهِمْ بَدَلَ مَعَاصِيهِمُ الْأُوَلِ طَاعَةً وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ رَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَرَدُّوا عَلَى مَنْ قَالَ هُوَ فِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
السَّيِّئَةُ بِعَيْنِهَا لَا تَصِيرُ حَسَنَةً، وَلَكِنَّ السَّيِّئَةَ تُمْحَى بِالتَّوْبَةِ وَتُكْتَبُ الْحَسَنَةُ مَعَ التَّوْبَةِ، وَالْكَافِرُ يُحْبَطُ عَمَلُهُ وَتُثْبَتُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ. وَتَأَوَّلَ ابْنُ مُسَيَّبٍ وَمَكْحُولٌ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ بِمَعْنَى كَرَمِ الْعَفْوِ.
وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ إِنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ يُرِيدُ الْمَغْفِرَةَ لَهُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ بَدَلَ سَيِّئَاتٍ حَسَنَاتٍ.
وَقَالَا تُمْحَى السَّيِّئَةُ وَيُثْبَتُ بَدَلَهَا حَسَنَةٌ. وَقَالَ الْقَفَّالُ وَالْقَاضِي: يُبَدَّلُ الْعِقَابُ بِالثَّوَابِ فَذَكَرَهُمَا وَأَرَادَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِمَا.
إِلَّا مَنْ تابَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنَ الْجِنْسِ، وَلَا يَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَلَا يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ. وَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ التَّضْعِيفِ انْتِفَاءُ الْعَذَابِ غَيْرِ الْمُضَعَّفِ فَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا أَيْ لَكِنْ مَنْ تَابَ وآمن عمل صَالِحًا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَلْقَى عَذَابًا البتة وسَيِّئاتِهِمْ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَهُوَ أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِحَرْفِ الْجَرِّ أَيْ بِسَيِّئَاتِهِمْ. وحَسَناتٍ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَهُوَ المسرح كَمَا قَالَ تَعَالَى وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ «١». وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَضْحَكُ مِنِّي أُخْتُ ذَاتِ النحيين أبدلك لله بِلَوْنٍ لَوْنَيْنِ
سَوَادَ وَجْهٍ وَبَيَاضَ عَيْنَيْنِ الظَّاهِرُ أَنَّ وَمَنْ تابَ أَيْ أَنْشَأَ التوبة فإنه يتوب إلى اللَّهِ أَيْ يَرْجِعُ إِلَى ثَوَابِهِ وَإِحْسَانِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَنْ تابَ فَإِنَّهُ قَدْ تَمَسَّكَ بِأَمْرٍ وَثِيقٍ. كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُسْتَحْسَنُ قوله في أمر:
(١) سورة سبأ: ٣٤/ ١٦. [.....]
131
لَقَدْ قُلْتَ يَا فُلَانُ قَوْلًا فَكَذَلِكَ الْآيَةُ مَعْنَاهَا مَدْحُ الْمَتَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّهُ يَجِدُ الْفَرَجَ وَالْمَغْفِرَةَ عَظِيمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ يَتْرُكِ الْمَعَاصِيَ وَيَنْدَمْ عَلَيْهَا وَيَدْخُلْ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّهُ بِذَلِكَ تَائِبٌ إِلَى اللَّهِ الَّذِي يَعْرِفُ حَقَّ التَّائِبِينَ، وَيَفْعَلُ بِهِمْ مَا يَسْتَوْجِبُونَ، وَاللَّهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. وَقِيلَ: مَنْ عَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فَلْيُبَادِرْ إِلَيْهَا وَيَتَوَجَّهْ بِهَا إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ مَنْ تابَ مِنْ ذُنُوبِهِ فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى مَنْ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ. وَقِيلَ: وَمَنْ تابَ اسْتَقَامَ عَلَى التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ أَيْ فَهُوَ التَّائِبُ حَقًّا عِنْدَ اللَّهِ.
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ عَادَ إِلَى ذِكْرِ أَوْصَافِ عِبادُ الرَّحْمنِ وَالظَّاهِرُ
أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَشْهَدُونَ بِالزُّورِ أَوْ شَهَادَةِ الزُّورِ، قَالَهُ عَلِيٌّ وَالْبَاقِرُ
فَهُوَ مِنَ الشَّهَادَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَحْضُرُونَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ وَالزُّورُ الشِّرْكُ وَالصَّنَمُ أَوِ الْكَذِبُ أَوْ آلَةُ الْغِنَاءِ أَوْ أَعْيَادُ النَّصَارَى.
أَوْ لُعْبَةٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ النَّوْحُ أَوْ مَجَالِسُ يُعَابُ فِيهَا الصَّالِحُونَ، أَقْوَالٌ. فَالشِّرْكُ قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَالْغِنَاءُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْكَذِبُ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَفِي الْكَشَّافِ عَنْ قَتَادَةَ مَجَالِسُ الْبَاطِلِ. وَعَن ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ: اللَّهْوُ وَالْغِنَاءُ. وَعَنْ مجاهد: أعياد المشركين وبِاللَّغْوِ كُلُّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْغَى وَيُطْرَحَ. وَالْمَعْنَى وَإِذا مَرُّوا بِأَهْلِ اللَّغْوِ مَرُّوا مُعْرِضِينَ عَنْهُمْ مُكَرِّمِينَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ التَّوَقُّفِ عَلَيْهِمْ. وَالْخَوْضِ مَعَهُمْ لِقَوْلِهِ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ «١» انْتَهَى.
بِآياتِ رَبِّهِمْ هِيَ الْقُرْآنُ. لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً النَّفْيُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقَيْدِ الَّذِي هُوَ صُمٌّ وَعُمْيَانٌ لَا لِلْخُرُورِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ النَّفْيَ يَتَسَلَّطُ عَلَى الْقَيْدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا أَكَبُّوا عَلَيْهَا حِرْصًا عَلَى اسْتِمَاعِهَا، وَأَقْبَلُوا عَلَى الْمُذَكِّرِ بِهَا بِآذَانٍ وَاعِيَةٍ وَأَعْيُنٍ رَاعِيَةٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَشْبَاهِهِمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا كَانُوا مُكِبِّينَ عَلَيْهَا مُقْبِلِينَ عَلَى مَنْ يُذَكِّرُ بِهَا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَكَانُوا صُمًّا وَعُمْياناً حَيْثُ لَا يَعُونَهَا وَلَا يَتَبَصَّرُونَ مَا فِيهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَلْ يَكُونُ خُرُورُهُمْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا كَمَا تَقُولُ: لَمْ يَخْرُجْ زَيْدٌ إِلَى الْحَرْبِ جَزِعًا أَيْ إِنَّمَا خَرَجَ جَرِيئًا مُعْدِمًا، وَكَانَ الْمَسْمَعُ الْمُذَكَّرُ قَائِمَ الْقَنَاةِ قَوِيمَ الْأَمْرِ فَإِذَا أَعْرَضَ كَانَ ذَلِكَ خُرُورًا وَهُوَ السُّقُوطُ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ وَتَرْتِيبٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْبَهَ الَّذِي يَخِرُّ سَاجِدًا لَكِنَّ أَصْلَهُ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبٍ انْتَهَى.
وَقَالَ السُّدِّيُّ لَمْ يَخِرُّوا صُمًّا وَعُمْياناً هِيَ صِفَةٌ لِلْكُفَّارِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إعراضهم
(١) سورة القصص: ٢٨/ ١٥.
132
وَجَهْدِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَرَنَ ذَلِكَ بِقَوْلِكَ: قَعَدَ فُلَانٌ يَتَمَنَّى، وَقَامَ فُلَانٌ يَبْكِي، وَأَنْتَ لَمْ تَقْصِدِ الْإِخْبَارَ بِقُعُودٍ وَلَا قِيَامٍ وَإِنَّمَا هِيَ تَوْطِئَاتٌ فِي الْكَلَامِ وَالْعِبَارَةِ.
قُرَّةَ أَعْيُنٍ كِنَايَةٌ عَنِ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ. يُقَالُ: دَمْعُ السُّرُورِ بَارِدٌ، وَدَمْعُ الْحُزْنِ سُخْنٌ، وَيُقَالُ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ، وَأَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَ الْعَدُوِّ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
فَأَمَّا عُيُونُ الْعَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتِ
وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَرَارِ أَيْ يَقَرُّ النَّظَرُ بِهِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَقُرَّةُ الْعَيْنِ النَّوْمُ أَيْ آمِنَّا لِأَنَّ الْأَمْنَ لَا يَأْتِي مَعَ الْخَوْفِ حَكَاهُ الْقَفَّالُ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ فِيمَنْ ذَكَرُوا رُؤْيَتَهُمْ مُطِيعِينَ لِلَّهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَحَضْرَمِيٌّ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَهْتَدِي الْأَبُ وَالِابْنُ كَافِرٌ وَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ كَافِرَةٌ، وَكَانَتْ قُرَّةُ عُيُونِهِمْ فِي إِيمَانِ أَحْبَابِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُرَّةُ عين الولدان تَرَاهُ يَكْتُبُ الْفِقْهَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ دَعَوْا بِذَلِكَ لِيُجَابُوا فِي الدُّنْيَا فَيُسَرُّوا بِهِمْ. وَقِيلَ:
سَأَلُوا أَنْ يُلْحِقَ اللَّهُ بِهِمْ أُولَئِكَ فِي الْجَنَّةِ لِيَتِمَّ لَهُمْ سُرُورُهُمْ انْتَهَى. وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ ذَلِكَ نَتِيجَةُ إِيمَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ هَبْ لَنا مِنْ جهتهم ما تقربه عُيُونَنَا مِنْ طَاعَةٍ وَصَلَاحٍ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ لِلْبَيَانِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: كَأَنَّهُ قِيلَ هَبْ لَنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ثُمَّ بُيِّنَتِ الْقُرَّةُ وَفُسِّرَتْ بِقَوْلِهِ مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا وَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ لَهُمْ قُرَّةَ أَعْيُنٍ مِنْ قَوْلِكَ: رَأَيْتُ مِنْكَ أَسَدًا أَيْ أَنْتَ أَسَدٌ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ مِنْ الَّتِي لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا بُدَّ أَنْ تَتَقَدَّمَ الْمُبَيَّنَ. ثُمَّ يَأْتِيَ بِمِنَ الْبَيَانِيَّةِ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَثْبَتَ أَنَّهَا تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِثَابِتٍ لِمِنْ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْحَرَمِيَّانِ وَحَفْصٌ وَذُرِّيَّاتِنَا عَلَى الْجَمْعِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَطَلْحَةُ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ قُرَّاتِ عَلَى الْجَمْعِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْإِفْرَادِ.
وَنُكِّرَتِ الْقُرَّةُ لِتَنْكِيرِ الْأَعْيُنِ كَأَنَّهُ قَالَ هَبْ لَنَا مِنْهُمْ سُرُورًا وَفَرَحًا وَجَاءَ أَعْيُنٍ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ دُونَ عُيُونٍ الَّذِي هُوَ صِيغَةُ جَمْعِ الْكَثْرَةِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَعْيُنُ الْمُتَّقِينَ وَهِيَ قَلِيلَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عُيُونِ غَيْرِهِمْ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ أَعْيُنٍ تَنْطَلِقُ عَلَى الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهُ مِنَ الْجَمْعِ، وَالْمُتَّقُونَ لَيْسَتْ أَعْيُنُهُمْ عَشَرَةً بَلْ هِيَ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَإِنْ كَانَتْ عُيُونُهُمْ قَلِيلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُيُونِ غَيْرِهِمْ فَهِيَ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ تَفُوتُ الْعَدَّ. وَأَفْرَدَ إِماماً إِمَّا اكْتِفَاءً بِالْوَاحِدِ عَنِ الْجَمْعِ، وَحَسَّنَهُ كَوْنُهُ فَاصِلَةً وَيَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ وَلَا لَبْسَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمَعْنَى
133
وَاجْعَلْ كُلَّ وَاحِدٍ إِماماً وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ آمٍّ كَحَالٍّ وَحِلَالٍ، وَإِمَّا لِاتِّحَادِهِمْ وَاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ قَالُوا: وَاجْعَلْنَا إِمَامًا وَاحِدًا دَعَوُا اللَّهَ أَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً فِي الدِّينِ وَلَمْ يَطْلُبُوا الرِّئَاسَةَ قَالَهُ النَّخَعِيُّ. وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّئَاسَةَ فِي الدِّينِ يَجِبُ أَنْ تُطْلَبَ. وَنَزَلَتْ فِي الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ.
أُوْلئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَشَرَةِ. والْغُرْفَةَ اسْمٌ مُعَرَّفٌ بِأَلْ فَيَعُمُّ أَيِ الْغُرَفَ كَمَا جَاءَ وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ «١» وَهِيَ الْعَلَالِيُّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَهِيَ بُيُوتٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَدُرٍّ وَيَاقُوتٍ. وَقِيلَ الْغُرْفَةَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: السَّمَاءُ السَّابِعَةُ غُرْفَةٌ. وَقِيلَ: هِيَ أَعْلَى مَنَازِلِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْعُلُوُّ فِي الدَّرَجَاتِ وَالْبَاءُ فِي بِما صَبَرُوا لِلسَّبَبِ. وَقِيلَ: لِلْبَدَلِ أَيْ بَدَلَ صَبْرِهِمْ كَمَا قَالَ:
فَلَيْتَ لِي بِهِمْ قَوْمًا إِذَا رَكِبُوا أَيْ فَلَيْتَ لِي بَدَلَهُمْ قَوْمًا وَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الصَّبْرِ مُخَصَّصًا لِيَعُمَّ جَمِيعَ مُتَعَلِّقَاتِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ وَيُلَقَّوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَالْقَافِ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَمُحَمَّدٌ الْيَمَانِيُّ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ. وَالتَّحِيَّةُ دُعَاءٌ بِالتَّعْمِيرِ وَالسَّلَامُ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ، أَيْ تُحَيِّيهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: يُحَيَّوْنَ بِالتُّحَفِ جَمَعَ لَهُمْ بينهم الْمَنَافِعِ وَالتَّعْظِيمِ. حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ فِي جَهَنَّمَ ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً.
وَلَمَّا وَصَفَ عِبَادَهُ الْعُبَّادَ وَعَدَّدَ مَا لَهُمْ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَرِّحَ لِلنَّاسِ بِأَنْ لَا اكْتِرَاثَ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّمَا هُوَ الْعِبَادَةُ وَالدُّعَاءُ فِي قَوْلِهِ لَوْلا دُعاؤُكُمْ هُوَ الْعِبَادَةُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَفْيٌ أَيْ ليس يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً فِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ أَيْ، أَيُّ عِبْءٍ يَعْبَأُ بِكُمْ، ودُعاؤُكُمْ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ لَوْلَا عِبَادَتُكُمْ إِيَّاهُ أَيْ لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ وَتَضَرُّعُكُمْ إِلَيْهِ أَوْ مَا يَعْبَأُ بِتَعْذِيبِكُمْ لَوْلَا دُعَاؤُكُمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً. وَقِيلَ: أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ خِطَابٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ الْقَائِلِينَ نَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا أَيْ لَا يَحْفِلُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا تَضَرُّعُكُمْ إِلَيْهِ وَاسْتِغَاثَتُكُمْ إِيَّاهُ فِي الشَّدَائِدِ.
فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ فَسَوْفَ يَكُونُ العقاب
(١) سورة سبأ: ٣٤/ ٣٧.
134
وَهُوَ مَا أَنْتَجَهُ تَكْذِيبُكُمْ وَنَفَّسَ لَهُمْ فِي حُلُولِهِ بِلَفْظَةِ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أَيْ لَازِمًا لَهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ مِنْهُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَا قُرْآنٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ اللِّزَامَ هُنَا هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ.
وَقِيلَ: عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْمَوْتُ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمَوْتِ الْمُعْتَادِ بَلِ الْقَتْلِ بِبَدْرٍ. وَقِيلَ:
التَّقْدِيرُ فَسَوْفَ يَكُونُ هُوَ أَيِ الْعَذَابُ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ مَنْ قَرَأَ فَسَوْفَ يَكُونُ الْعَذَابُ لِزاماً وَالْوَجْهُ أَنْ يُتْرَكَ اسْمُ كَانَ غَيْرَ مَنْطُوقٍ به بعد ما عُلِمَ أَنَّهُ مِمَّا تُوُعِّدَ بِهِ لِأَجْلِ الْإِبْهَامِ وَتَنَاوُلِ مَا لَا يَكْتَنِهُهُ الْوَصْفُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَوْفَ يَكُونُ هُوَ أَيِ التَّكْذِيبُ لِزاماً أَيْ لَازِمًا لَكُمْ لَا تُعْطَوْنَ تَوْبَةً ذَكَرَهُ الزَّهْرَاوِيُّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْخِطَابُ إِلَى النَّاسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ عَابِدُونَ وَمُكَذِّبُونَ عَاصُونَ، فَخُوطِبُوا بِمَا وُجِدَ فِي جِنْسِهِمْ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالتَّكْذِيبِ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ يَقُولُ إِذَا أَعْلَمْتُكُمْ أَنَّ حُكْمِي أَنِّي لَا أَعْتَدُّ إِلَّا بِعِبَادَتِهِمْ، فَقَدْ خَالَفْتُمْ بِتَكْذِيبِكُمْ حُكْمِي فَسَوْفَ يَلْزَمُكُمْ أَثَرُ تَكْذِيبِكُمْ حَتَّى يَكُبَّكُمْ فِي النَّارِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ الْمَلِكُ لِمَنْ عَصَى عَلَيْهِ: إِنَّ مِنْ عَادَتِي أَنْ أُحْسِنَ إِلَى مَنْ يُطِيعُنِي وَيَتَّبِعُ أَمْرِي، فَقَدْ عَصَيْتَ فَسَوْفَ تَرَى مَا أُحِلُّ بِكَ بِسَبَبِ عِصْيَانِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَسَوْفَ تَكُونُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ أَيْ فَسَوْفَ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِزاماً بِكَسْرِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْمِنْهَالُ وَأَبَانُ بن ثعلب وأبو السماك بِفَتْحِهَا مَصْدَرٌ يَقُولُ لَزِمَ لُزُومًا وَلِزَامًا، مِثْلُ ثَبَتَ ثُبُوتًا وَثَبَاتًا. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى كَسْرِ اللَّامِ لصخر الغي:
فأما ينج مِنْ حَتْفِ أَرْضٍ فَقَدْ لَقِيَا حُتُوفَهُمَا لِزَامَا
وَنَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنِ أَبِي السَّمَّاكِ أَنَّهُ قَرَأَ لَزَامِ عَلَى وَزْنِ حَذَامِ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مَعْدُولًا عَنِ اللَّزَمَةِ كَفُجَّارٍ مَعْدُولٍ عَنِ الْفَجَرَةِ.
135
Icon