بسم الله اسم عزيز عرفت بفعله قدرته، اسم كريم شهدت بفضله نصرته.
بسم الله اسم عزيز عرفه العقلاء بدلالات أفعاله، وعرفه الأصفياء باستحقاقه لجلاله وجماله ؛ فبلطف جماله عرفوا جوده، وبكشف جلاله عرفوا وجوده.
بسم الله اسم عزيز من دعاه لباه، ومن توكل عليه كفاه، ومن توسل خوله وأعطاه.
ﰡ
يقال بِرَكَ الطيرُ على الماء إذا ما دام وقوفُه على ظهر الماء. ومَبَارِكُ الإبلِ مَواضِعُ إقامتها بالليل. وتبارك على وزن تَفَاعَل تفيد دوامَ بقائه، واستحقاقَه لِقِدَمِ ثوبته وبقاء وجوده لا عن استفتاح ولا إلى انقطاع.
في التفاسير ﴿ تَبَارَكَ ﴾ أي تعظَّمَ وتَكبَّر. وعند قوم أنه من البركة وهي الزيادة والنفع، فداومه وجودُه، وتكبره استحقاق ذاته لصفاته العلية، والبركة أو الزيادة تشير إلى فَضْلِه وإحسانه ولُطْفِه.
فوجوهُ الثناء عليه تنحصر بهذه الأوجه الثلاثة : ثناء عليه بذكر ذاته وحقِّه، وثناء بذكر وصفه وعِزِّه، وثناء بذكر إحسانه وفضله ؛ ﴿ تَبَارَكَ ﴾ مجمعُ الثناء عليه - سبحانه.
﴿ الذي نَزَّلَ الفُرْقَانَ ﴾، وهو القرآن ﴿ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ : فأكرمه بأن نَبَّاه وفَضَّلَه، وإلى الخَلْق أرسله، وبَيَّنَ مَعْجِزَتَه وأمارةً صِدْقه بالقرآن الذي عليه أنزله، وجعله بشيراً ونذيراً، وسراجاً منيراً.
ثم قال : يا محمد، إن هذا الكتاب - الذي أنزله الذي يعلم السِّرَّ في السموات والأرض - لا يَقْدِر أحد على الإتيان بمثله ولو تشاغلوا من الوقت الذي أتى به أعداء الدينِ، وهم على كثرتهم مجتهدون في معارضته بما يوجب مساواته ؛ فادَّعوا تكذيبه وانقطعت الأعصار وانقضت الأعمال، ولم يأتِ أحدٌ بسورة مثله. فانتفى الرَّيْبُ عن صِدْقهِ، ووَجَبَ الإقرارُ بحقِّه.
قوله :﴿ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ﴾ : دليلٌ على جواز التكليف بما لا يقدر عليه العبدُ في الحالِ ؛ لأنه أخبر أنهم لا يستطيعون سبيلاً، وهم معاتبُون مُكلَّفُون.
﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ﴾.
فَضَّلَ بعضاً على بعض، وأمر المفضولَ بالصبر والرضاء، والفاضلَ بالشكر على العطاء وخصَّ قوماً بالبلاء وجعلهم فتنة لأهل البلاء، وخصَّ قوماً بالعوافي، وآخرين بالأسقام والآلام، فلا لِمَن نَعَّمَه مناقب، ولا لِمَنْ امتحنه معايب. . . فبحُكمِه لا يِجُرْمهم، وبفضله لا بفعلهم، وبإرادته لا بعبادتهم، وباختياره لا بأوضارهم، وبأقذاره لا بأوزارهم، وبه لا يهم.
قوله :﴿ أَتَصْبِرُونَ ؟ ﴾ استفهام في معنى الأمر، فَمَنْ ساعَدَه التوفيقُ صبر وشكر ومن قارنه الخذلان أبي وكفر.
فالذين لم يؤمنوا قالوه على جهة رؤية المقام لأنفسهم، وأنه مُسَلَّمٌ لهم ما اقترحوه من نزول الملائكة عليهم ورؤية ربهم. وذلك وإن كان في القدرة جائزاً - إلا أنه لم يكن واجباً بعد إزاحة عُذْرِهم بظهور معجزات الرسول عليه السلام، فلم يكن اقتراح ما قالواه جائزاً لهم.
﴿ حِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ : أي حراماً ممنوعاً يعني رؤية الله عنهم، فهذا يعود إلى ما جرى ذكره، وحَمْلُه على ذلك أَوْلى من حَمْلِه على الجنة، ولم يجر لها هنا ذكْرٌ. ثم فيه بشارة للمؤمنين بالرؤية لأنهم يرون الملائكة ويبشرونهم بالجنة، قال تعالى :
﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ ﴾ [ فصلت : ٣٠ ] فكما لا تكون للكفار بشارة ٌ بالجنة وتكون للمؤمنين لا تكون الرؤيةُ للكفار وتكون للمؤمنين.
﴿ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً ﴾ [ الكهف : ١٠٤ ].
وأما أصحاب الحقائق وأرباب التوحيد فيلوح لقلوبهم من سماع هذه الآية ما يحصل به كمال رَوْحِهم، وتتأدَّى إلى قلوبِهم من الراحات ما يضيق عن وصفه شرحهُم، ويتقاصر عن ثنائه نُطْقُهم، حيث يسمعون قوله :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ ولقد ظهرت قيمة أعمالهم حيث قال الحقُّ لأجله ﴿ وَقَّدِمْنَا إلى. . . ﴾ فَهُم إذا سمعوا وَجَبَ لهم من الأريحية ما يشغلهم عن الاهتمام لقوله :﴿ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ ويقولون : يا ليت لنا أعمال أهل الدارين ثم لا تُقْبَلُ منها ذرةٌ وهو يقول بسببها :﴿ وَقَدِمْنَآ إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ. . . ﴾ ! لأنهم إذا تخلصوا من مواضع الخلل وموجبات الخجل من أعمالهم عدُّواً ذلك من أجلِّ ما ينالون من الإحسان إليهم، وفي معناه أنشدوا :
سأرجع من حجِّ عامِيَ مُخْجِلاً | لأنَّ الذي قد كان لا يُتَقَبَّلُ |
ويقال تنقطع دواعي الأغيار، وتنتفي أوهامُ الخلْق فلا يتجدَّدُ له - سبحانه - وصفٌ ولكن تتلاشى للخلْق أوصاف، وذلك يومٌ على الكافرين عسير، ودليل الخطاب يقتضي أنَّ ذلك اليوم على المؤمنين يسيرٌ وإلا بطل الفرقُ ؛ فيجب ألا يكون مؤمن إلاَّ وذلك اليوم يكون عليه هيناً.
ثم إنه أخبر أنه لم يُخْلِ نبياً من أنبيائه صلوات الله عليهم إلا سلَّطَ عليه عَدُّواً في وقته، إلا أنَّه لم يغادِرْ من أعدائِهم أحداً، وأذاقهم وبالَ ما استوجبوه على كفرهم وغَيَّهم
كفى بربك اليوم هادياً إلى معرفته، وغداً نصيراً على رؤيته.
ويقال آخر فتنة للمؤمنين ما ورد في الخبر :" أن كل أمة ترى في القيامة الصنم الذي عبدوه يتبعونه فيحشرون إلى النار، فيُلْقَوْن فيها ويبقى المؤمنون، فيقال لهم : ما وقفكم ؟ فيقولون : إنهم رأوا معبودهم فتبعوه ونحن لم نرَ معبودنا ! فيقال لهم : ولو رأيتموه. . . فهل تعرفونه ؟ فيقولون : نعم. فيقال لهم : بِمَ تعرفونه ؟ فيقولون : بيننا وبينه علامة. فيريهم شيئاً في صورة شخص فيقول لهم : أنا معبودكم. فيقولون : معاذ الله. . . نعوذ بالله منك ! ما عبدناك. فيتجلَّى الحقُّ لهم فَيَسجدون له ".
أي فَذَهبا فَجَحَدَ القومُ فدمرناهم تدميراً، أي أهلكناهم إهلاكاً، وفي ذلك تسليةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما كان يقاسيه من قومه من فنون البلاء، ووَعْدٌ له بالجميل في أنه سَيُهْلك أعداءَه كُلَّهم.
يودُّ بأن يمشي سقيماً لَعَلَّها | إذا سمعت منه بشكوى تراسله |
ويهتزُّ للمعروفِ في طَلَبِ العلَى | لتُذْكَرَ يوماً عند سلمى شمائلُه |
[ الأعراف : ١٩٨ ].
وقيل إن الله في ابتداء النهار قبل طلوع الشمس يجعل الأرضَ كلَّها ظلاً، ثم إذا طلعت الشمسُ وانبسط على وجه الأرض شعاعُها فكلُّ شخصٍ يُبْسَطُ له ظِلُّ، ولا يُصيب ذلك الموضعَ شعاعُ الشمس، ثم يتناقض إلى وقت الزوال، ثم يأخذ في الزيادة وقت الزوال. وذلك من أماراتِ قدرة الله تعالى ؛ لأنه أجرى العادة بخلق الظلِّ والضوء والفيء.
قوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ﴾ : أي دائماً :﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ﴾ ؛ أي حال ارتفاعِ الشْمسِ ونُقصانِ الظِّلِّ.
ويقال : ألم تر إلى ربك كيف مدَّ ظل العناية على أحوال أوليائه ؛ فقومٌ هم في ظل الحماية، وآخرون في ظل الرعاية، وآخرون في ظل العناية، والفقراء في ظل الكفاية، والأغنياء في ظل الراحة من الشكاية.
ظلٌ هو ظل العصمة، وظل هو ظل الرحمة ؛ فالعصمة للأنبياء عليهم السلام ثم للأولياء، والرحمة للمؤمنين، ثم في الدنيا لكافة الخلائق أجمعين. ويقال قوله للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ ثم قوله ﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ ستراً لما كان كاشفه به أولاً، إجراءً للسُّنَّةِ في إخفاء الحال عن الرقيب. قال لموسى عليه السلام :
﴿ لَن تَرَانِى ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ] وقال لنبينا عليه السلام :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ وشتان ماهما !
ويقال أحيا قلبه بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ إلى أن قال :﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ فجعل استقلاله بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ إلى أن سمع ذكر الظل. ويقا أحياه بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ ثم أفناه بقوله :﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ وكذا سُنَّتُه مع عباده ؛ يُردِّدُهم بين إِفناءٍ وإبقاء.
وقيل إن الله في ابتداء النهار قبل طلوع الشمس يجعل الأرضَ كلَّها ظلاً، ثم إذا طلعت الشمسُ وانبسط على وجه الأرض شعاعُها فكلُّ شخصٍ يُبْسَطُ له ظِلُّ، ولا يُصيب ذلك الموضعَ شعاعُ الشمس، ثم يتناقض إلى وقت الزوال، ثم يأخذ في الزيادة وقت الزوال. وذلك من أماراتِ قدرة الله تعالى ؛ لأنه أجرى العادة بخلق الظلِّ والضوء والفيء.
قوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ﴾ : أي دائماً :﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ﴾ ؛ أي حال ارتفاعِ الشْمسِ ونُقصانِ الظِّلِّ.
ويقال : ألم تر إلى ربك كيف مدَّ ظل العناية على أحوال أوليائه ؛ فقومٌ هم في ظل الحماية، وآخرون في ظل الرعاية، وآخرون في ظل العناية، والفقراء في ظل الكفاية، والأغنياء في ظل الراحة من الشكاية.
ظلٌ هو ظل العصمة، وظل هو ظل الرحمة ؛ فالعصمة للأنبياء عليهم السلام ثم للأولياء، والرحمة للمؤمنين، ثم في الدنيا لكافة الخلائق أجمعين. ويقال قوله للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ ثم قوله ﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ ستراً لما كان كاشفه به أولاً، إجراءً للسُّنَّةِ في إخفاء الحال عن الرقيب. قال لموسى عليه السلام :
﴿ لَن تَرَانِى ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ] وقال لنبينا عليه السلام :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ وشتان ماهما !
ويقال أحيا قلبه بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ إلى أن قال :﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ فجعل استقلاله بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ إلى أن سمع ذكر الظل. ويقا أحياه بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ ثم أفناه بقوله :﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ وكذا سُنَّتُه مع عباده ؛ يُردِّدُهم بين إِفناءٍ وإبقاء.
وإني لأَستغفي وما بي نَعْسَةٌ | لعلَّ خيالاً منك يلقى خياليا |
رأيتُ سرورَ قلبي في منامي | فأحببتُ التَّنَعُّسَ والمناما |
ويقال إذا تَنَسَّمَ القلبُ نسيمَ القُرْبِ هَامَ في ملكوت الجلال، وامتحى عن كل مرسوم ومعهود.
قوله جل ذكره :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحِْىَ بِهِ بَلَدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ﴾.
أنزل من السماء ماء المطرِ فأحيا به الغياضَ والرياضَ، وأنبت به الأزهار والأنوار، وأنزل من السماء ماء الرحمةِ فغَسَلَ العصاةُ ما تلطخوا به من الأوضار، وما تدنَّسوا به من الأوزار.
و ﴿ الطَّهُور ﴾ هو الطاهرُ المُطَهِّرُ، وماءُ الحياء يُطِهرُ قلوبَ العارفين عن الجنوح إلى المساكنات وما يتداخلها في بعض الأحيان من الغفلات. وماء الرعاية يُحْيِي به قلوبَ المشتاقين بما يتداركها من أنوار التجلِّي حتى يزول عنها عَطَشُ الاشتياق ويحصل فيها من سكينة الاستقلال، ويحيي به نفوساً ميتةً باتباع الشهوات فيردها إلى القيام بالعبادات.
ويقال إذا تَنَسَّمَ القلبُ نسيمَ القُرْبِ هَامَ في ملكوت الجلال، وامتحى عن كل مرسوم ومعهود.
قوله جل ذكره :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحِْىَ بِهِ بَلَدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ﴾.
أنزل من السماء ماء المطرِ فأحيا به الغياضَ والرياضَ، وأنبت به الأزهار والأنوار، وأنزل من السماء ماء الرحمةِ فغَسَلَ العصاةُ ما تلطخوا به من الأوضار، وما تدنَّسوا به من الأوزار.
و ﴿ الطَّهُور ﴾ هو الطاهرُ المُطَهِّرُ، وماءُ الحياء يُطِهرُ قلوبَ العارفين عن الجنوح إلى المساكنات وما يتداخلها في بعض الأحيان من الغفلات. وماء الرعاية يُحْيِي به قلوبَ المشتاقين بما يتداركها من أنوار التجلِّي حتى يزول عنها عَطَشُ الاشتياق ويحصل فيها من سكينة الاستقلال، ويحيي به نفوساً ميتةً باتباع الشهوات فيردها إلى القيام بالعبادات.
ويقال إذا تَنَسَّمَ القلبُ نسيمَ القُرْبِ هَامَ في ملكوت الجلال، وامتحى عن كل مرسوم ومعهود.
قوله جل ذكره :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحِْىَ بِهِ بَلَدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ﴾.
أنزل من السماء ماء المطرِ فأحيا به الغياضَ والرياضَ، وأنبت به الأزهار والأنوار، وأنزل من السماء ماء الرحمةِ فغَسَلَ العصاةُ ما تلطخوا به من الأوضار، وما تدنَّسوا به من الأوزار.
و ﴿ الطَّهُور ﴾ هو الطاهرُ المُطَهِّرُ، وماءُ الحياء يُطِهرُ قلوبَ العارفين عن الجنوح إلى المساكنات وما يتداخلها في بعض الأحيان من الغفلات. وماء الرعاية يُحْيِي به قلوبَ المشتاقين بما يتداركها من أنوار التجلِّي حتى يزول عنها عَطَشُ الاشتياق ويحصل فيها من سكينة الاستقلال، ويحيي به نفوساً ميتةً باتباع الشهوات فيردها إلى القيام بالعبادات.
وَقَصْدُ الحقِّ أن يكون خواصُّ عباده أبداً معصومين عن شواهدهم.
وفي القصة أن موسى عليه السلام تَبَرَّمَ وقتاً بكثرة ما كان يُسْأل، فأوحى الله في ليلة واحدة إلى ألف نبي من بني إسرائيل فأصبحوا رُسلاً، وتفرَّقَ الناسُ عن موسى عليه السلام إليهم عليهم السلام، فضاق قلبُ موسى وقال : يا رب، إني لا أطيق ذلك ! فقبض اللَهُ أرواحهم في ذلك اليوم.
ويقال أثبت في قلوب المؤمنين الخوف والرجاء، فلا الخوف يغلب الرجاء ولا الرجاء يغلب الخوف.
ويقال خَلَقَ القلوبَ على وصفين : قلبَ المؤمن مضيئاً مشرقاً وقلبَ الكافر أسود مظلماً، هذا بنور الإيمان مُزَيَّن، وهذا بظلمة الجحود مُعَلَّم.
ويقال قلوبُ العوام في أسْرِ المطالب ورغائب الحظوظ، وقلوبُ الخواصِّ مُعْتَقَةٌ عن المطالب، مُجَرَّدَةٌ عن رِقِّ الحظوظ.
وبينهما للناس مناهل ومشارب ؛ فواحِدٌ يكون كما قال :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا ﴾.
أما المؤمنُ فإنَّ من صفاته أنّه لا يلتفت إلى العرش - وإن علا، ولا ينقاد بقلبه لمخلوقٍ - وإن اتصف بمناقب لا تُحْصَى.
فإذا عَرَفَ هذا فهو فيما يحتاج إليه - إذا عَلِمَ أن مرادَهُ لا يرتفع إلا مِنْ قِبَلِ الله - حصل له أصل التوكل. وهذا القَدْرُ فَرْضٌ، وهو من شرائط الإيمان، فإن الله تعالى يقول :﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ المائدة : ٢٣ ] وما زاد على هذا القَدْرِ - وهو سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطرار - فهي أحوال تلحق بالتوكل على وجه كماله.
فإن تقرَّرَ هذا فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام، ولكلِّ درجةٍ من هذه الأقسام اسم : إمَّا من حيث الاشتقاق، أو من حيث الاصطلاح.
فأول رتبة فيه أن يكتفي بما فيه يده، ولا يطلب زيادة عليه، ويستريح قلبه من طلب الزيادة. . وتسمى هذه الحالة القناعة، وفيها يقف صاحبها حيث وقف، ويقنع بالحاصل له فلا يستزيد ثم اكتفاءُ كلِّ أحدٍ يختلف في القلة والكثرة، وراحة قلوب هؤلاء في التخلص من الْحِرصِ وإرادة الزيادة.
ثم بعد هذا سكونُ القلب في حالة عَدَمِ وجود الأسباب، فيكون مجرداً عن الشيء، ويكون في إرادته متوكلاً على الله. وهؤلاء متباينون في الرتبة، فواحد يكتفي بوعده لأنه صَدَقَه في ضمانه، فيسكن - عند فقد الأسباب - بقلبه ثقةً منه بوعد ربه. . ويسمى هذا توكلاً، ويقال على هذا : إن التوكل سكون القلب بضمان الربِّ، أو سكون الجاش في طلب المعاش، أو الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه، أو الاكتفاء بالوعد عند فقد النقد.
وألطف من هذا أن يكتفي بِعِلْمِ أنه يعلم حاله فيشتغل بما أمره الله ؛ ويعمل على طاعته ؛ ولا يراعي إنجاز ما وَعَدَهَ ؛ بَل يِكلُ أمرَه إلى الله. . وهذا هو التسليم.
وفوق هذا التفويض، وهو أنْ يَكِلَ أمرَه إلى الله. ولا يقترح على مولاه بحالٍ، ولا يختار ؛ ويستوي عند وجودُ الأسباب وعَدَمُها ؛ فيشتغل بأداء ما ألزمه الله ؛ ولا يفكر في حال نَفْسِه ؛ ويعلم أنه مملوكٌ لمولاه ؛ والسيِّدُ أوْلَ بِعَبْدِهِ من العبد بنفسه.
فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ راحةً في المَنْع ؛ واستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ. . . وتلك هي مرتبة الرضا ؛ ويصلح له في هذه الحالة من فوائد الرضا ولطائفه ما لا يحصل لِمَنْ دونَه من الحلاوة في وجود المقصود.
وبعد هذا الموافقة ؛ وهي ألا يجد الراحة في المَنْعِ، بل يجد بَدَلَ هذا عند نسيم القربِ زوائد الأُنْس بنسيان كلِّ أرَبٍ، ونيسان وجود سبب أو عدو وجود سبب ؛ فكما أنَ حلاوة الطاعة تتصاغر عند بَرْدِ الرضا - وأصحاب الرضا يعدون ذلك حجاباً - فكذلك أهل الأُنْسِ بالله. بنسيانِ كلِّ فَقْدٍ ووَجْدٍ، وبالتغافل عن أحوالهم في الوجود والعدم يعدون النزول إلى استلذاذ المنع، والاستقلال بلطائف نقصاناً في الحال.
ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة فيؤخذ العبد عن جملته بالكلية، والعبارة عن هذه الحالة أنه يحدث الخمود والاستهلاك والوجود والاصطلام والفناء. . وأمثال هذا، وذلك هو عين التوحيد، فعند ذلك لا أُنْسَ ولا هيبة، ولا لذة ولا راحة، ولا وحشة ولا آفة.
هذا بيان ترتيبهم فأمّا دون ذلك فالخبر عن أحوال المتوكلين - على تباين شِرْبِهم. - يختلف على على حسب اختلاف محالِّهم.
فيقال شرط التوكل أن يكون كالطفل في المهد ؛ لا شيء مِنْ قِبَلِه إلا أن يرضعه مَنْ هو في حضانته.
ويقال التوكل زوال الاستشراف، وسقوط الطمع، وفراغ القلب من تعب الانتظار.
ويقال التوكل السكون عند مجاري الأقدار على اختلافها.
ويقال إذا وثق القلب بجريان القسمة لا يضره الكسب، ولا يقدح في توكله.
ويقال عوام المتوكلين إذا أُعْطُوا شكروا، وإذا مُنعُوا صبروا. وخواصُّهم إذا أَعْطُوا آثروا، وإذا مٌنِعُوا شكروا.
ويقال الحقُّ يجود على الأولياء - إذا توكلوا - بتيسير السبب من حيث يُحْتَسَبُ ولا يُحْتَسَبُ، ويجود على الأصفياء بسقوط الأرب. . . وإذا لم يكن الأرَبُ فمتى يكون الطلب ؟
ويقال التوكل في الأسباب الدنيوية إلى حدَّ، فأمَّا التوكل على الله في إصلاحه - سبحانه - أمورَ آخرِة العبد فهذا أشدُّ غموضاً، وأكثرُ خفاءً. فالواجبُ في الأسباب الدنيوية أن يكون السكونُ عن طلبها غالباً، والحركةُ تكون ضرورةً. فأمَّا في أمور الآخرة وما يتعلَّقُ بالطاعةِ فالواجبُ البِدارُ والجِدُّ والانكماشُ، والخروجُ عن أوطان الكسل والجنوح إلى الفشل.
والذي يتَّصِفُ بالتواني في العبادات، ويتباطؤ في تلافي ما ضيَّعَه من أرضاء الخصوم والقيام بحقِّ الواجبات، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله وأنه - سبحانه - يعفو عنه فهو مُتَّهَمٌ معلولُ الحالِ، ممكورٌ مُسْتَدْرَجٌ، بل يجب أن يبذل جهده، ويستفرغ وسعه. ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته، ولا يستنِدُ إلى سكونه وحركته، ويتبرأُ بِسِرِّه من حَوْلِهِ وقوَّتِه. ثم يكون حَسَنَ الظنِّ بربِّه، ومع حُسْنِ ظنه بربه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب ؛ فإن ذلك - إذا حَصَلَ - فالوقتُ غالِبٌ، وهو أحد ما قيل في معاني قولهم : الوقت سيف.
وكما أثبت في السماء بروجاً أثبت في سماء قلوب أوليائه وأصفيائه بروجاً ؛ فبروجُ السماء معدودة وبروج القلب مشهودة.
وبروجُ السماء بيوتُ شمسها وقمرها ونجومها، وبروجُ القلب مطالعُ أنوارها ومشارِقُ شموسها ونجومها. وتلك النجوم هي نجوم القلوب كالعقل والفهم والبصيرة والعلم، وقمرُ القلوبِ المعرفةُ.
قمرُ السماء له نقصان ومحاق، وفي بعض الأحايين هو بَدْرٌ بوصف الكمال، وقمر المعرفة أبداً له إشراق وليس له نقصان أو محاق، ولذا قال قائلهم :
دع الأقمارَ تخبو أو تنير | لها بَدْرٌ تذلُّ له البدور |
إن شمسَ النهارِ تغرب بالليل | وشمسُ القلوب ليست تغيب |
ومعنى ﴿ هَوْناً ﴾ متواضعين متخاشعين.
ويقال شرْطُ التواضع وحَدُّه ألا يستَحْسِنَ شيئاً من أحواله، حتى قالوا : إذا نَظَرَ إلى رِجْلِه لا يستحسن شِسْعَ نَعْلِهِ، وعلى هذا القياس لا يُساكِنُ أعماله، ولا يلاحظ أحواله.
قوله :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمَاً ﴾ : قيل سداد المنطق ؛ ويقال مَنْ خاطَبَهم بالقَدْح فهم يجاوبونه بالمدح له.
ويقال إذا خاطبهم الجاهلون بأحوالهم، والطاعنون فيهم، العائبون لهم قابلوا ذلك بالرِّفق، وحُسْنِ الخُلقِ، والقولِ الحَسَنِ والكلام الطيب.
ويقال يخبرون مَنْ جفاهم أنهم في أمانٍ من المجافاة.
ويقال متصفين بالسجود قياماً بآداب الوجود.
وما رُمْتُ الدخولَ عليه حتى | حَلَلْتُ محلة العبد الذليل. |
وما رُمْتُ الدخولَ عليه حتى | حَلَلْتُ محلة العبد الذليل. |
وكما تتصف بهذا النفوسُ والأبْشارُ فكذلك توَهَّمُ المبارِّ ولا مضارِّ من الأغيار شِرْكٌ.
﴿ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ﴾ من النفوس المُحَرَّم قَتْلُها على العبد نَفْسه المسكينةُ، قال تعالى :
﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٩ ]، وقَتْلُ النّفس من غير حقِّ تمكينُك لها من اتباع ما فيه هلاكُها في الآخرة ؛ فإنَّ العبدَ إذا لم يُنْهَ مأمورُ.
ثم دليل الخطاب أن تقتلها بالحقِّ، وذلك بِذَبْحِها بسكين المخالفات، فما فَلاحُكَ إلا بقتل نَفْسِكَ التي بين جنبيك.
قوله جل ذكره :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ﴾.
يضاعَفُ لهم العذابُ يومَ القيامة بحسرات الفرقة وزفرات الحرقة. وآخرونَ يضاعف لهم العذابُ اليومَ بتراكم الخذلان ووشك الهجران ودوام الحرمان. بل مَنْ كان مضاعَفَ العذاب في عقباه فهو الذي يكون مضاعَفَ العذاب في دنياه ؛ جاء في الخبر :" مَن كان بحالةٍ لقي الله بها ".
ويقال :﴿ وَءَامَنَ ﴾ أن نجاته بفضل الله لا بتوبته، ﴿ وَعَمَلَ صَالِحاً ﴾ لا ينقض توبتُهُ.
ويقال إن نقَضَ توبته عَمِلَ صالحاً أي جَدَّدَ توبتَه ؛ ﴿ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيْئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ ويخلق لهم التوفيق بدلاً من الخذلان.
ويقال يبدل الله سيئاتهم حسنات فيغفر لهم ويثيبهم على توبتهم.
ويقال يمحو ذِلَّة زَلاَّتِهِم، ويثبت بَدَلَها الخيرات والحسنات، وفي معناه أنشدوا :
ولما رضوا بالعفو عن ذي زلةٍ | حتى أنالوا كفَّه وأفادوا |
ويقال نزلت الآية في أقوام مرُّوا - لمَّا دخلوا مكة بأبواب البيوت التي كانوا يعبدون فيها الأصنام مرةً - متكرمين دون أن يلاحظوها أو يلتفتوا إليها فَشَكَرَ اللَّهُ لهم ذلك.
ثم قال في صفتهم :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِئَايَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ﴾ بل قابلوها بالتفكير والتأمل، واستعمال النظر.
ويقال نزلت الآية في أقوام مرُّوا - لمَّا دخلوا مكة بأبواب البيوت التي كانوا يعبدون فيها الأصنام مرةً - متكرمين دون أن يلاحظوها أو يلتفتوا إليها فَشَكَرَ اللَّهُ لهم ذلك.
ثم قال في صفتهم :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِئَايَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ﴾ بل قابلوها بالتفكير والتأمل، واستعمال النظر.
ويقال قرة العين من كان لطاعة ربه معانقاً، ولمخالفة أمره مفارقاً.
﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾ الإمام مَنْ يُقْتَدى به ولا يَبْتَدِع.
ويقال إن الله مدح أقواماً ذكروا رتبة الإمامة فسألوها بنوع تضرع، ولم يدَّعوا فيها اختيارهم ؛ فالإمامةُ بالدعاء لا بالدعوى، فقالوا :﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾.
لَيَرْوه من غير تكلف نقل، ولا تحمل قطع مسافة.
ويقال :﴿ هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ﴾ [ الرحمن : ٦٠ ] : اليومَ يحضر العبدُ بيتَه لأداء العبادة، وينقل أقدامه إلى المساجد، وغداً يجازيهم بأن يكفيهم قطعَ المسافة، فهم على أرائكهم - في مستقرِّ عِزِّهم - يسمعون كلام الله، وينظرون إلى الله.
قوله :﴿ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ أي صبروا عمَّا نهوا عنه، وصبروا على الأحكام التي أجراها عليهم بِتَرْكِ اختيارهم، وحُسْن الرضا بتقديره.
ويقال لولا تضرعكم ودعاؤكم بوصف الابتهال لأدام بكم البلاء، ولكن لما أخذْتُم في الاستكانةِ والدعاء، وتضَرَّعتُم رحِمَكم وكَشَفَ الضرَّ عنكم.