سبع وسبعون آية
وهي مكية كلها في قول الجمهور. نزلت قبل الهجرة وبه قال ابن الزبير وقال القرطبي وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات منها. فإنها نزلت بالمدينة وهي ﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ﴾ الآيات.
وأخرج البخاري ومسلم ومالك والشافعي وابن حبان والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب. قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاستمعت لقراءته. فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكدت أساوره في الصلاة. فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه. فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أقرأنيها علي غير ما قرأت : فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أرسله. اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كذلك أنزلت، ثم قال : اقرأ يا عمر : فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤا ما تيسر منه ) ١.
ﰡ
قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة، والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت، ومنه برك الجمل، أي دام وثبت، واعترض ما قاله الفراء بأن التقديس إنما هو من الطهارة، وليس من ذا في شيء. قال العلماء: هذه اللفظة لا تستعمل إلا لله سبحانه، ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي. والمعنى تعالى الله عما سواه في ذاته وصفاته، وأفعاله التي من جملتها تنزيل القرآن الكريم المعجز الناطق بعلو شأنه تعالى، وسمو صفاته، وابتناء أفعاله على أساس الحكم والمصالح، وخلوها عن شائبة الخلل بالكلية، والفرقان القرآن وسمي فرقاناً لأنه يفرق بين الحق والباطل بأحكامه أو بين المحقِّ والمبطل.
(على عبده) محمد - ﷺ - ثم علل التنزيل بقوله، (ليكون للعالمين نذيراً) فإن النذارة هي الغرض المقصود من الإنزال والمراد بالعالمين هنا الإنس والجن لأن النبي - ﷺ - مرسل إليهما، قال المحلي: دون الملائكة، ولم يكن غيره من الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام مرسلاً إلى الثقلين.
والنذير المنذر أي ليكون محمد - ﷺ - منذراً أي وبشيراً أو ليكون إنزال القرآن منذراً أو ليكون إنزاله إنذاراً أو ليكون محمد - ﷺ - إنذاراً وجعل الضمير للنبي - ﷺ - أولى، لأن صدور الإنذار منه حقيقة ومن القرآن مجاز.
والحمل على الحقيقة أولى، أو لكونه أقرب مذكور قال قتادة: بعث الله محمداً - ﷺ - نذيراً من الله لينذر الناس بأس الله، ووقائعه بمن خلا قبلكم.
وقيل إِنّ رجوع الضمير إلى الفرقان أولى لقوله تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم. ويصح رجوعه للمنزِّل وهو الله وقوله (للعالمين) متعلق بـ (نذيراً) قدم عليه لرعاية الفاصلة. ثم إنه سبحانه وصف ذاته الكريمة بصفات أربع.
الأولى:
(و) الصفة الثانية: (لم يتخذ ولداً) فيه رد على اليهود والنصارى.
(و): (لم يكن له شريك في الملك) فيه رد على طوائف
(وخلق كل شيء) من الموجودات مما تطلق عليه صفة المخلوق، وهي الصفة الرابعة: (فقدره تقديراً) أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته، على ما أراده وهيأه لما يصلح له، وسواه تسوية لا اعوجاج فيه، ولا زيادة على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ولا نقصاً عن ذلك في بأبي الدنيا والدين. وقيل: أحلله إحداثاً مراعى فيه التقدير حسب إرادته، كخلقه الإنسان من مواد مخصوصة وصور وأشكال معينة، فقدره وهيأه لما أراد منه، من الخصائص والأفعال أو فقدره للبقاء إلى أجل مسمى.
قال قتادة: بيّن الله لكل شيء من خلقه صلاحه وجعل ذلك بقدر معلوم. قال الواحدي: قال المفسرون: قدر له تقديراً من الأجل والرزق فجرت المقادير على ما خلق، وقيل أريد بالخلق هنا مجرد الإحداث والإيجاد مجازاً من غير ملاحظة معنى التقدير، وإن لم يخل عنه في نفس الأمر، فيكون المعنى أوجد كل شيء فقدره، لئلا يلزم التكرار هذا أوضح دليل على المعتزلة في خلق أفعال العباد، ثم صرح سبحانه في تزييف مذاهب عبدة الأوثان فقال:
(وهم يخلقون) أي يخلقهم الله سبحانه قال قتادة: أي هو الله الخالق
(ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً) أي لا يقدرون على أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً ولا يدفعوا عنها ضرراً، وقدم ذكر الضر لأن دفعه أهم من جلب النفع، وإذا كانوا بحيث لا يقدرون على الدفع والنفع فيما يتعلق بأنفسهم فكيف يملكون ذلك لمن يعبدهم وهذا يدل على غاية عجزهم، ونهاية ضعفهم، ثم زاد في بيان عجزهم فنص على هذه الأمور فقال:
(ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً) أي لا يقدرون على إماتة الأحياء، ولا إحياء الموتى، ولا بعثهم من القبور، لأن النشور هو الإحياء بعد الموت، يقال: أنشر الله الموتى، فنشروا. وقدم الموت لمناسبته للضر المتقدم ولما فرغ سبحانه من بيان التوحيد وتزييف مذاهب المشركين، شرع في ذكر شبه منكري النبوة، فالشبهة الأولى ما حكاه عنه بقوله:
(فقد جاؤوا ظلماً وزوراً) أي فقد قالوا ظلماً هائلاً عظيماً وكذباً ظاهراً، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنهما أمران متغايران حقيقة
وقيل هو جعل الكلام المعجز إفكاً مختلقاً متلفقاً من اليهود، وأما كون ذلك منهم زوراً فظاهر لأنهم قد كذبوا في هذه المقالة، ثم ذكر الشبهه الثانية فقال:
(فهي تملى عليه) أي تلقى عليه تلك الأساطير بعد ما اكتتبها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب. لكونه أمياً لا يقدر على أن يقرأها من ذلك المكتوب بنفسه. أو المعنى أراد اكتتابها فهي تملي عليه لأنه يقال أمليت عليه فهو يكتب (بكرة وأصيلاً) أي غدوة وعشياً، كأنهم قالوا: إن هؤلاء يعلمون محمداً - ﷺ -، طرفي النهار، وقيل معنى بكرة وأصيلاً دائماً في جميع الأوقات فأجاب الله سبحانه عن هذه الشبهة بقوله:
(إنه كان غفوراً رحيماً) تعليل لتأخير العقوبة أي: إنكم، وإن كنتم مستحقين لتعجيل العقوبة بما تفعلونه من الكذب على رسول الله - ﷺ -، والظلم له فإنه لا يعجل عليكم بذلك لأنه كثير المغفرة والرحمة، ثم لما فرغ سبحانه من ذكر ما طعنوا به على القرآن، ذكر ما طعنوا به على الرسول - ﷺ - فقال:
(أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً) طلبوا أن يكون النبي مصحوباً بملك. يعضده ويساعده، تنزلوا عن اقتراح كون الرسول ملكاً، مستغنياً عن الأكل والكسب، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدقه، ويشهد له بالرسالة
(أو تكون له جنة يأكل منها) قرأ الجمهور بالفوقية، وقرئ بالتحتية لأن تأنيث الجنة غير حقيقي، وقرئ نأكل بالنون، أي: بستان نأكل نحن من ثماره، وبالتحتية، أي: يأكل هو وحده منه، ليكون له بذلك مزية علينا، حيث يكون أكله من جنته: قال النحاس: والقراءتان حسنتان، وإن كانت القراءة بالياء أبين، لأنه قد تقدم ذكر النبي - ﷺ - وحده، فعود الضمير إليه أبين.
عن ابن عباس قال: إن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب، والنضر ابن الحرث، وأبا البختري والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ومنبه بن الحجاج، اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه، وخاصموه، حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه، إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك.
قال: فجاءهم رسول الله - ﷺ - فقالوا: يا محمد، إنا بعثنا إليك لنعذر
فقال لهم رسول الله - ﷺ -: " ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً " فأنزل الله في ذلك هذه الآية أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر.
(وقال الظالمون) المراد بهم هنا هم القائلون بالمقالات الأول، وإنما وضع الظاهر موضع المضمر مع الوصف بالظلم للتسجيل عليهم به: (إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً) أي مخدوعاً مغلوباً على عقله بالسحر، وقيل ذا سحر، وهي الرئة، أي: بشراً له رئة لا ملكاً، فالمراد بالسحر هنا لازمه، وهو اختلال العقل وقد تقدم بيان مثل هذا في سبحان.
(فضلوا) عن الصواب، فلا يجدون طريقاً إليه، ولا وصلوا إلى شيء منه، بل جاؤوا بهذه المقالات الزائفة، التي لا تصدر عن أدنى العقلاء، وأقلهم تمييزاً، ولهذا قال (فلا يستطيعون سبيلاً) يعني لا يجدون إلى القدح في نبوة هذا النبي طريقاً من الطرق.
عن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن شئت أعطيناك من خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك، ولا نعطيها أحداً بعدك، ولا ينقصك ذلك مما لك عند الله شيئاً وإن شئت جمعتها لك في الآخرة، فقال: " اجمعوها لي في الآخرة " فأنزل الله سبحانه هذه الآية أخرجه الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهم. ثم أضرب الله سبحانه عن توبيخهم بما حكاه عنهم من الكلام الذي لا يصدر عن العقلاء فقال:
لهذه الآية، كما أن الجنة كذلك لقوله تعالى (أعدت للمتقين) ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع وإعداد السعير لهم وإن لم يكن لخصوص تكذيبهم بالساعة بل لأي تكذيب بشيء من الشريعة، لكن الساعة لما كانت هي العلة القريبة لدخولهم السعير، اقتصر على ترتيب الإعداد على التكذيب بها.
وعن ابن عباس قال: من مسيرة مائة عام، وذلك إذا أتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، يشد بكل زمام سبعون ألف ملك لو تركت لأتت على كل بر وفاجر، فترى تزفر زفرة لا تبقى قطرة من دمع إلا بدت، ثم تزفر الثانية فتقطع القلوب من أماكنها، وتبلغ القلوب الحناجر.
وعن رجل من الصحابة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " من يقل عليّ ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه أو انتمى إلى غير مواليه فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً "، قيل: يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال: " نعم أما سمعتم الله يقول: (إذا رأتهم من مكان بعيد)؟ " أخرجه عبد بن حميد
وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران، وأذنان تسمعان ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاث بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر. وبالمصورين " (١) وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب صحيح.
(سمعوا لها تغيظاً) أي: غلياناً كالغضبان إذا غلى صدره من الغضب، يعني: إن لها صوتاً يدل على التغيظ على الكفار أو لغليانها صوتاً يشبه صوت المغتاط. (وزفيراً) الصوت، أي سمعوا لها صوتاً يشبه صوت المتغيظ وقال قطرب: أراد علموا لها تغيظاً، وسمعوا لها زمراً، وقيل المعنى فيها تغيظاً، وزفيراً للمعذبين، كما قال لهم فيها زفير وشهيق، وفي واللام، متقاربان بأن تقول هذا الله وفي الله
_________
(١) الترمذي كتاب جهنم باب ١ - الإمام أحمد ٢/ ٣٣٦ - ٣/ ٤٠.
وعن يحيى بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما سئل عن هذه الآية قال: " والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار، كما يستكره الوتد في الحائط " وعن ابن عباس " أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح "
(مقرنين) أي حال كونهم قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع مصفدين بالحديد. وقيل: مكتفين. وقيل قرنوا مع الشياطين، أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة إبراهيم (دعوا هنالك) أي في ذلك المكان الضيق (ثبوراً) أي هلاكاً، كما قال الزجاج، وقال ابن عباس: ثبوراً، أي ويلاً. وقيل ثبرنا ثبوراً وقيل مفعول
وقيل إن المعنى أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً، بل هو ثبور كثير لأن العذاب أنواع كثيرة، كل نوع منها ثبور لشدته أو لأنه يتجدد لقوله تعالى (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب) أو لأنه ينقطع فهو في كل وقت ثبور، والأولى أن المراد بهذا الجواب عليهم الدلالة على خلود عذابهم وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك المنجي لهم مما هم فيه.
أخرج أحمد، والبزار والبيهقي، وغيرهم قال السيوطي بسند صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن أول ما يكسى حلته من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من بعده، وهو ينادي يا ثبوراه، ويقولون: يا ثبورهم. حتى يقف على الناس، فيقول: يا ثبوراه ويقولون: يا ثبورهم، فيقال لهم لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً، وادعوا ثبوراً كثيراً (١) " ثم وبخهم الله سبحانه توبيخاً بالغاً، على لسان رسوله فقال:
_________
(١) الإمام أحمد ٣/ ١٥٢ - ٣/ ١٥٣ - ٣/ ٢٤٩.
(التي وعد) أي وعدها (المتقون) فالراجع إلى الموصول محذوف ثم قال سبحانه (كانت) أي تلك الجنة (لهم) أي للمتقين (جزاء) على أعمالهم (ومصيراً) يصيرون إليه وهذا في علم الله، أو في اللوح المحفوظ قبل خلقهم بأزمنة متطاولة، أو قال ذلك لأن ما وعد الله به فهو في تحققه كأنه قد كان.
(كان) أي ما يشاؤونه، وقيل كان الخلود وقيل الوعد المدلول عليه وبقوله (وعد المتقون) (على ربك وعداً مسؤولاً) أي الوعد الحقيقي بأن يسئل وبطلب كما في قوله (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك)، وقيل إن الملائكة تسأل لهم الجنة كقوله (وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم) وقيل المراد به الوعد الواجب وإن لم يسأل، وقال ابن عباس: يقول تعالى سلوا الذي وعدتكم تنجزوه.
(فيقول) الله تعالى إثباتاً للحجة على العابدين؛ وتقريعاً وتبكيتاً لهم (أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء) الاستفهام للتوبيخ والتقريع، والمعنى أن كان ضلالهم بسببكم؛ وبدعوتكم لهم إلى عبادتكم (أم هم ضلوا السبيل) أي طريق الحق بأنفسهم لعدم التفكر فيما يستدل به على الحق والتدبّر فيما يتوصل به إلى الصواب
(ما كان ينبغي) وقرئ مبنياً للمفعول قال ابن خالويه: زعم سيبويه أنها لغة، أي ما صح ولا استقام (لنا أن نتخذ من دونك) أي متجاوزين إياك (من أولياء) فنعبدهم فكيف ندعو عبادك إلى عبادتنا نحن مع كوننا لا نعبد غيرك، والولي يطلق على التابع كما يطلق على المتبوع، هذا معنى الآية على قراءة الجمهور (نتخذ) مبيناً للفاعل وقرئ مبنياً للمفعول. والمعنى أن يتخذنا المشركون أولياء من دونك، وقال أبو عبيدة: لا تجوز هذه القراءة وبه قال أبو عمرو بن العلاء، وعيس بن عمر؛ لأنه سبحانه ذكر (من) مرتين، ولو كانت صحيحة لقال أن نتخذ من دونك أولياء أي لحذفت من الثانية، وقيل إنها زائدة، ثم حكى عنهم سبحانه بأنهم بعد هذا الجواب ذكروا سبب ترك المشركين للإيمان فقال:
(ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر) وفي هذا ما يدل على أنهم هم الذين ضلوا السبيل، ولم يضلهم غيرهم، والمعنى ما أضللناهم؛ ولكنك يا رب متعتهم ومتعت آباءهم بالنعم، ووسعت عليهم الرزق، وأطلت لهم العمر، حتى غفلوا عن ذكرك، ونسوا موعظتك، والتدبر لكتابك والنظر في عجائب صنعك، وغرائب مخلوقاتك؛ وجعلوا ذلك ذريعة إلى ضلالهم؛ عكس القضية؛ وقيل المراد بنسيان الذكر هاهنا، هو ترك الشكر.
(وكانوا) هؤلاء الذين أشركوا بك، وعبدوا غيرك في قضائك الأزلي (قوماً بوراً) أي هلكى، قاله ابن عباس مأخوذ من البوار، وهو الهلاك يقال رجل بائر. وقوم بور؛ يستوي فيه الواحد والجماعة. لأنه مصدر يطلق على القليل والكثير، أو جمع بائر، وقيل البوار الفساد، يقال: بارت بضاعته أي فسدت، وأمر بائر، أي فاسد، وهي لغة الأزد. وقيل المعنى الأخير فيهم مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها من الزرع، فلا يكون فيها خير، وقيل إن
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا | ثم القفول فقد جئنا خراسانا |
(فما تستطيعون) أيها الكفار (صرفاً) أي دفعاً للعذاب عنكم بوجه من الوجوه وقيل حيلة (ولا نصراً) أي نصركم، وقرئ بالتحتية فالمعنى فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو ينصروكم، وقيل المعنى فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون صرفاً للعذاب الذي عذبهم الله به ولا نصراً من الله وقال أبو عبيد: المعنى فما يستطيعون لكم صرفاً عن الحق الذي هداكم الله إليه ولا نصراً لأنفسهم بما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم (ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً) هذا وعيد لكل ظالم ويدخل تحتهم الذين فيهم السياق دخولاً أولياً، والعذاب الكبير عذاب النار، وفسر الخلود فيها، وهو يليق بالمشرك دون الفاسق إلا على قول المعتزلة والخوارج.
وقرئ يذقه بالتحتية وهذه الآية وأمثالها مقيدة بعدم التوبة، وعن الحسن قال: الظلم هو الشرك، وقال ابن جريج: يظلم يشرك ثم يرجع سبحانه إلى
(وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) هذا الخطاب عام للناس، وفيه تسلية له - ﷺ - أيضاً، فإنه أشرف الأشراف، وقد ابتلى بأخس الأخساء، وقد جعل سبحانه بعض عبيده فتنة لبعض، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، وقيل المراد بالبعض الأول كفار الأمم، وبالبعض الثاني الرسل، ومعنى الفتنة الابتلاء، والمحنة. والأول أولى، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به فالمريض يقول لِمَ لم أجعل كالصحيح؟ وكذا صاحب كل آفة، والصحيح مبتلى بالمريض، فلا يضجر منه ولا يحقره، والغني مبتلى بالفقير يواسيه، والفقير مبتلى بالغنى يحسده، ونحوه هذا مثله.
وقيل المراد بالآية أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم، ورأى الوضيع قد أسلم قبله، أنف وقال: لا أسلم بعده فيكون له على السابقة والفضل! فيقيم على كفره. فذلك افتتان بعضهم ببعض، واختار هذا الفراء والزجاج ولا وجه لقصر الآية على هذا، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول فالاعتبار بعموم
وعن أبي الدرداء أنه سمع النبي - ﷺ - يقول: " ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم، وويل للمالك من المملوك، وويل للمملوك من المالك، وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان بعضكم لبعض فتنة، وهو قوله تعالى (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) (١) " أسنده الثعلبي ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض فتنة للبعض:
(أتصبرون) هذا الاستفهام للتقرير والتقدير: أتصبرون على ما ترون من هذه الحالة الشديدة والابتلاء العظيم فتؤجروا أم لا تصبرون فيزداد غمكم، وعليه جرى الأكثرون وقيل: معنى أتصبرون اصبروا مثل قوله (فهل أنتم منتهون) أي انتهوا، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: " انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم (٢) " ثم وعد الله الصابرين بقوله:
(وكان ربك بصيراً) أي بكل من يصبر ومن لا يصبر فيجازي كُلاًّ منهما بما يستحقه (وقال الذين لا يرجون لقاءنا) هذه المقالة من جملة شبههم التي قدحوا بها في النبوة أي وقال: المشركون الذين لا يبالون بلقاء الله وقيل المعنى لا يخافون لقاء ربهم بالشر، وهي لغة تهامة، وأصل اللقاء الوصول إلى الشيء ومنه الرؤية فإنها وصول إلى المرئي، والمراد به الوصول إلى جزائه، ويمكن أن يراد به الرؤية على الأول، قال الفراء: وضع الرجاء موضع الخوف. وقيل: لا يأملون لقاءنا بالخير لكفرهم بالبعث والحمل على المعنى الحقيقي أولى
_________
(١) الأحاديث الضعيفة ٦١٥٤ - ٦١٥٥، من حديثين حتى ويل للمملوك من المالك.
(٢) مسلم ٢٩٦٣ - البخاري ٢٤٣٤.
(لولا) هَلاَّ (أنزل علينا الملائكة) فيخبروننا أن محمداً - ﷺ - صادق، أو هَلاّ أنزلوا علينا رسلاً يرسلهم الله (أو نرى ربنا)؟ عياناً فيخبرنا بأن محمداً - ﷺ - رسول، ثم أجاب الله سبحانه عن شبهتهم هذه فقال:
(لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً) أي أضمروا الاستكبار عن الحق والعناد في قلوبهم كما في قوله تعالى (إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) والعتو مجاوزة الحد في الطغيان والبلوغ إلى أقصى غاياته قال ابن عباس: عتوا أي شدة الكفر، ووصفه بالكبر لكون التكلم بما تكلموا به من هذه المقالة الشنيعة في غاية الكبر والعظم، فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى طلبوا إرسال الملائكة إليهم بل جاوزوا ذلك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه ورؤيته في الدنيا من دون أن يكون بينهم وبينه ترجمان، ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغاً، هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله أو تعد من المستعدين له، وهكذا من جهل قدر نفسه ولم يقف عند حده ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى.
(لا بشرى يومئذ للمجرمين) أي يمنعون البشرى يوم يرون، أو لا توجد لهم بشرى فيه، فأعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة وهو وقت الموت أو يوم القيامة قد حرمهم الله البشرى، بخلاف المؤمنين فلهم البشرى بالجنة، قال الزجاج: المجرمون في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله، وهو ظاهر في موضع مضمر، أو عام يتناولهم بعمومه، وهم الذين اجترموا الذنوب والمراد: الكفار، لأن مطلق الأسماء يتناول أكمل المسميات.
(ويقولون) عند مشاهدتهم للملائكة: (حجراً) حراماً (محجوراً) هذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو، وهجوم نازلة هائلة، يضعونها موضع الاستعاذة يقال للرجل: أتفعل كذا؟ فيقول: حجراً محجوراً أي حراماً عليك التعرض لي.
والمعنى يطلبون من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقهم أي: يسأله أن يمنع ذلك منعاً، ويحجره حجراً. وقيل إن هذا من الملائكة أي يقولون للكفار: حراماً محرماً أن يدخل أحد منكم الجنة. وأن تكون البشرى اليوم إلا للمؤمنين وقال أبو سعيد الخدري: حراماً محرماً أن نبشركم مما نبشر به المتقين، وعن الحسن. وقتادة قالا: هي كلمة كانت العرب تقولها عند الشدائد، وقال مجاهد: أي عوذاً معاذ الملائكة تقوله والحجر مصدر بمعنى الاستعاذة، والكسر والفتح لغتان وقرئ بهما، وقرئ الضم وهو لغة فيه وهو من حجره إذا منعه وقد ذكر سيبويه في باب المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها، هذه الكلمة، وجعلها من جملتها، وبه قال السمين، والبيضاوي. والحجر: العقل، لأنه يمنع صاحبه، ومحجوراً صفة مؤكدة للمعنى، كقولهم ذيل ذائل وموت مائت.
قال الواحدي: معنى قدمنا عمدنا، وقصدنا، يقال: قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده، أو عمده، وقيل هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى والقصد في حق الله يرجع لمعنى الإرادة.
(فجعلناه هباء منثوراً) أي باطلاً، لا ثواب له، لأنهم لم يعملوا لله عز وجل ومنه الحديث الصحيح " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " (١) والهباء واحده هباءة، والجمع أهباء. قال النضر بن شميل: الهباء التراب الذي تطيره الريح، كأنه دخان. وقال الزجاج: هو ما يدخل من الكوة مع ضوء الشمس شبه الغبار. وكذا قال الخليل، والأزهري. وقال ابن عرفة: الهباء، والهبوة التراب الدقيق. وقيل هو ما يسطع من حوافر الدواب، عند السير من الغبار، وعن علي قال: الهباء شعاع الشمس، الذي يخرج من الكوة، وعنه الهباء وهج الغبار، يسطع، ثم يذهب، فلا يبقى منه شيء.
وعن ابن عباس قال: الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منها الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئاًً، وعنه قال: هو ما تسفي الريح، وتبثه من
_________
(١) مسلم ١٧١٨ - البخاري ١٣٠٣.
وقال ابن عباس: الحساب في ذلك اليوم في أوله، ويروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى الغروب. والآية أشارت إلى أن كُلاًّ من أهل الجنة وأهل النار قد قالوا، أي: استقروا في وقت القيلولة، وإن كان استقرار المؤمنين في راحة، واستقرار الكافرين في عذاب فيكون الحساب لجميع الخلق قد انقضى في هذا الوقت.
(ونزل الملائكة تنزيلاً) وقيل: الباء للسببية يعني بسبب طلوع الغمام منها، كأنه الذي يتشقق به السماء، وقيل: أي متلبسة بالغمام، وقرئ ننزل مخففاً من الإنزال، مضارع أنزل، وقرئ نزل مشدداً ماضياً مبنياً للمفعول، وقرئ مبنياً للفاعل، وفاعله الله سبحانه، والملائكة منصوبة على المفعولية. وقرئ أنزل، وقرئ تنزلت الملائكة، وتأكيد هذا الفعل بقوله تنزيلاً، يدل على أن هذا التنزيل على نوع غريب، ونمط عجيب. قال أهل العلم: هذا تنزيل رضا ورحمة، لا تنزيل سخط وعذاب.
وعن ابن عباس (١) قال في الآية: يجمع الله الخلق يوم القيامة، في صعيد واحد، الجن والإنس والبهائم والسباع والطير، وجميع الخلق فتنشق السماء الدنيا، فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض، من الجن والإنس، وجميع الخلق، فيحيطون بالإنس والجن وجميع الخلق. فيقول أهل الأرض أفيكم ربنا؟ فيقولون لا، ثم تنشق السماء الثانية، وذكر مثل ذلك، ثم كذلك في كل سماء، إلى السماء السابعة، وفي كل سماء أكثر من السماء التي قبلها، ثم ينزل ربنا في ظل من الغمام وحوله الكروبيون، وهم أكثر من أهل السماوات السبع والإنس والجن، وجميع الخلق، لهم قرون ككعوب القثاء، وهم تحت العرش، لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله تعالى، ما بين أخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن ركبته إلى فخذه مسيرة خمسمائة عام، ومن فخذه إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام، وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام. أخرجه الحاكم وابن أبي الدنيا وابن جرير وغيرهم.
_________
(١) حديث موقوف على ابن عباس ولا يعد حجة في مشاهد القيامة، وفي الأسانيد التي رواها ابن جرير وغيره مجاهيل وكذابون
" المطيعي ".
(وكان يوماً على الكافرين عسيراً) أي وكان هذا اليوم مع كون الملك فيه لله وحده، شديداً على الكفار لما يصابون به فيه وينالهم من العقاب، بعد تحقيق الحساب. وأما على المؤمنين فهو يسير غير عسير لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى العظيمة. وجاء في الحديث " أنه يهون يوم القيامة على المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا ".
(يقول يا) قوم (ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً) أي طريقاً. وهو طريق الحق ومشيت فيه، حتى أخلص من هذه الأمور المضلة. والمراد اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به، يعني ليتني اتبعت محمداً صلى الله
عليه وآله وسلم واتخذت في الدنيا معه طريقاً. إلى الهداية
(ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً) دعا على نفسه بالويل والثبور وعلى مخاللة الكافر، الذي أضلّه في الدنيا، وفلان كناية عن الأعلام. قال النيسابوري: زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية. لا يقال جاءني فلان، ولكن يقال: قال زيد جاءني فلان، لأنه اسم اللفظ الذي هو علم الاسم، وكذلك جاء في كلام الله وقيل فلان كناية عن علم ذكور من يعقل، وفلانة عن علم إناثهم، وهو منصرف.
وقيل كناية عن نكرة من يعقل من المذكور، وفلانة عمن يعقل من الإناث، وأما الفلان، والفلانة بالألف واللام فكناية عن غير العقلاء. وفل يختص بالنداء إلا في ضرورة الشعر، وليس فل مرخماً من فلان خلافاً للفراء، وزعم أبو حيان أن ابن عصفور وابن مالك، وهما في جعل فلان كناية علم من يعقل، وفي لامه وجهان؛ أحدهما: أنها واو. والثاني: أنها ياء، وحكم الآية عام في كل خليلين ومتحابين، اجتمعا على معصية الله عز وجل.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
_________
(١) الترمذي كتاب الزهد باب ٢٥.
(٢) الإمام أحمد ٣/ ٣٨ - الدارمي كتاب الأطعمة باب ٢٣.
(٣) مسلم ٢٦٢٨ - البخاري ١٠٦٤.
(بعد إذ جاءني) وتمكنت منه، وقدرت عليه بأن ردني عن الإيمان به (وكان الشيطان للإنسان خذولاً) بأن يتركه، ويتبرأ منه عند البلاء، والخذل: ترك الإغاثة، ومنه خذلان إبليس للمشركين، حيث يوالونه، ثم يتركهم عند استغاثتهم به، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، أو من تمام كلام الظالم، وأنه سمى خليله شيطاناً بعد أن جعله مضلاً، أو أراد بالشيطان إبليس، لكونه الذي حمله على مخاللة المضلين.
وأساطير الأولين.
(كذلك) إشارة إلى ما يفهم من كلامهم أي مثل ذلك التنزيل المفرّق، الذي قدحوا فيه واقترحوا خلافه نزلناه (لنثبت) لنقوي (به) أي بهذا التنزيل على هذه الصفة (فؤادك) فإن إنزاله مفرقاً منجماً، على حسب الحوادث، أقرب إلى حفظك له وفهمك لمعانيه، وذلك من أعظم أسباب التثبيت، وقرأ ليثبت بالتحتية أي الله سبحانه.
وقيل قوله: (كذلك) هي من تمام كلام المشركين، والمعنى كذلك أي كالتوراة والإنجيل والزبور فيوقف على قوله: (كذلك) ثم يبتدأ بقوله: (لنثبت به فؤادك) على معنى أنزلناه عليك متفرقاً لهذا الغرض. قال ابن الأنباري: وهذا أجود وأحسن قال النحاس: وكان ذلك أي إنزال القرآن منجماً من إعلام النبوة لأنهم لا يسألونه عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتاً لفؤاده وأفئدتهم. قال ابن عباس: أي لنشدد به فؤادك، ونربط على قلبك، والمعنى أنزلناه مفرقاً لتعيه وتحفظه. فإن الكتب المتقدمة نزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، وأنزل القرآن على نبي إمي لا يكتب ولا يقرأ، ولأن من القرآن الناسخ والنسوخ، ومنه ما هو جواب سؤال عن أمور تحدث في الأوقات المختلفة، ففرقناه ليكون أدعى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأيسر على العامل به.
(ورتلناه ترتيلاً) بديعاً، لا يقادر قدره ومعنى الترتيل أن تكون آية بعد آية، قاله النخعي والحسن وقتادة. وقيل إن المعنى بيناه تبييناً، وقال السدي: فصلناه تفصيلاً، وقال ابن عباس: رسلناه ترسيلاً يقول شيئاًً بعد شيء وقال مجاهد: بعضه في إثر بعض قال ابن الأعرابي: ما أعلم الترتيل إلا التحقيق والتبيين، وقيل قرأناه عليك بلسان جبريل شيئاًً بعد شيء في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة على تؤدة وتمهل لتيسر فهمه وحفظه، ثم ذكر سبحانه أنهم محجوجون في كل أوان مدفوع قولهم بكل وجه وعلى كل حالة فقال:
(وأحسن تفسيراً) أي جئناك بأحسن تفسير بياناً وتفصيلاً. وبما هو معنى ومؤدى من مثلهم، أي من سؤالهم، وإنما حذف من مثلهم لأن في الكلام دليلاً عليه، ثم أوعد هؤلاء الجهلة وذمهم فقال
(إلى جهنم أولئك شر مكاناً) أي منزلاً، ومصيراً، ومسكناً وهو جهنم (وأضل سبيلاً) وأخطأ طريقاً من غيرهم، وهو كفرهم، وذلك لأنهم قد صلوا في النار. وهو من الإسناد المجازي. وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سوره سبحان، وقد قيل: إن هذا متصل بقوله أصحاب الجنة يومئذ خيراً مستقراً وأحسن مقيلاً.
(فدمرناهم تدميراً) في الكلام حذف، أي فذهبا إليهم فكذبوهما فأهلكناهم إثر ذلك التكذيب إهلاكاً عظيماً، فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود منها، وهو إلزام الحجة ببعثة الرسل. واستحقاق التدمير بتكذيبهم، وقيل إن المراد هنا الحكم به، لأنه لم يحصل عقب بعث موسى وهارون إليهم، بل بعده بمدة.
(أغرقناهم) بالطوفان، كما تقدم في هود (وجعلناهم) أي جعلنا إغراقهم، أو قصتهم (للناس) كلهم بعدهم (آية) أي عبرة يتعظ بها كل مشاهد لها، وسامع لخبرها (واعتدنا) في الآخرة (للظالمين) الكافرين أي قوم نوح خاصة، فيكون وضعاً للظاهر موضع الضمير تسجيلاً عليهم بوصف الظلم: ويجوز أن يكون المراد كل من سلك مسلكهم في التكذيب (عذاباً أليماً) هو عذاب الآخرة، سوى ما حل بهم من عاجل العذاب في الدنيا.
وقيل كانوا يعبدون الشجر وقيل كانوا يعبدون الأصنام فأرسل الله إليهم شعيباً عليه السلام فكذبوه وآذوه، وقيل بئر بفلج اليمامة قرية عظيمة بناحية اليمن. أو موضع باليمن من مساكن عاد، وهم قوم أرسل الله إليهم نبياً فقتلوه وقيل هم أصحاب الأخدود؛ وقيل إن الرس هي البئر المعطلة التي تقدم ذكرها أو
وقيل الرس نهر بالشرق وقيل هم قوم كذبوا نبيهم ورسوه أي دسوه في بئر فبينما هم حول الرس -وهي البئر غير المطوية- فانهارت فخسف بهم وبمنازلهم وديارهم، وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان وهم الذين ابتلاهم الله بالطائر المعروف العنقاء قال ابن عباس: الرس قرية من ثمود وعنه بئر بأذربيجان وعنه أنه سأل كعباً عن أصحاب الرس قال: صاحب يس، وورد عن محمد بن كعب القرظي في صاحب الرس خبر طويل مرفوع فيه نكارة وغرابة ولعل فيه إدراجاً كما قال ابن كثير في تفسيره والحديث أيضاً مرسل.
(وقروناً بين ذلك كثيراً) القرون جمع قرن أي أهل قرون يعني واذكر أقواماً، والقرن مائة سنة، قاله قتادة وقيل مائة وعشرون سنة قاله زرارة بن أوفى وقيل أربعون سنة وقيل سبعون سنة قاله قتادة أيضاً وقد روي مرفوعاً إلى النبي - ﷺ - أنه قال " القرن مائة سنة " وقال القرن خمسون سنة وقال القرن أربعون سنة، وما أظنه يصح شيء من ذلك وقد سمي الجماعة من الناس قرناً كما في الحديث الصحيح " خير القرون قرني " (١) وأخرج الحاكم في الكني عن ابن عباس قال: كان رسول الله - ﷺ - إذا انتهى إلى معد بن عدنان أمسك ثم يقول: " كذب النسابون، قال الله وقروناً بين ذلك كثيراً والإشارة بقوله (بين ذلك) إلى ما تقدم ذكره من الأمم أي بين عاد وأصحاب الرس. وهم جماعات فلذلك حسن دخول (بين) عليه وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك، ويحسب الحاسب أعداداً متكاثرة ثم يقول: فذلك كيت وكيت أي ذلك المحسوب، أو المعدود.
_________
(١) الترمذي كتاب الفتن باب ٤٥ - البخاري كتاب الشهادات باب ٩.
(التي أمطرت مطر السوء) وهو الحجارة، قاله ابن عباس، والأمطار معناه الرمي، أي: هلكت بالحجارة، التي أمطروا بها، ورميت رمي الحجارة، والمعنى أعطيتها وأوليتها، مطر السوء، أي أمطاراً مثل مطر السوء وقد تقدم، تفسير السوء في براءة (أفلم يكونوا يرونها) الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي يرون القرية
(بل كانوا لا يرجون) أي: لا يأملون (نشوراً) أي بعثاً أضرب سبحانه عما سبق، من عدم رؤيتهم لتلك الآثار، إلى عدم رجاء البعث منهم، المستلزم لعدم رجائهم للجزاء، أو معنى يرجون يخافون، على اللغة التهامية
(لولا أن صبرنا عليها) أي حبسنا أنفسنا على عبادتها ثم إنه سبحانه أجاب عليهم بقوله: (وسوف يعلمون حين يرون العذاب) عياناً، أي عذاب يوم القيامة الذي يستحقونه، ويستوجبونه، لسبب كفرهم (من أضل سبيلاً) أي أبعد طريقاً عن الحق والهدى، أهم؟ أم المؤمنون؟ ثم بين لهم سبحانه أنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد، وإتباع الهوى، فقال معجباً لرسوله:
(أفأنت تكون عليه وكيلاً)؟ أي حفيظاً، وكفيلاً، حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من الكفر وتحفظه من اتباع الهوى، وعبادة ما يهواه من دون الله، والاستفهام للإنكار والاستبعاد، فالمعنى لست تقدر على ذلك، ولا تطيقه، فليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئتك، وإنما عليك البلاغ، وقد قيل أن هذه الآية منسوخة بآية القتال. قاله الكلبي، ثم انتقل سبحانه من الإنكار الأول إلى إنكار آخر فقال:
(إن هم) أي ما هم في الانتفاع بما يسمعون (إلا كالأنعام) التي هي
(بل هم أضل) من الأنعام (سبيلاً) أي طريقاً قال مقاتل: البهائم تعرف ربها، وتهتدي إلى مراعيها ومشاربها، وتنقاد لأربابها، وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم؛ الذي خلقهم؛ ورزقهم، والمعنى أنها تنقاد لمن يتعهدها وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها، وتجتنب ما يضرها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ولأن جهالتها لا تضر بأحد وجهالة هؤلاء تؤدي إلى تهييج الفتن، وصد الناس عن الحق، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال، فلا تقصير منها، ولا ذم عليها، وهؤلاء مقصرون، ومستحقون أعظم العقاب على تقصيرهم.
وقيل إنما كانوا أضل من الأنعام لأنه لا حساب عليها ولا عقاب لها، وقيل إنما كانوا أضل لأن البهائم إذا لم تعقل صحة التوحيد والنبوة، لم تعتقد بطلان ذلك، بخلاف هؤلاء، فإنهم اعتقدوا البطلان عناداً ومكابرة، وتعصباً. وغمطاً للحق. وقيل إن الأنعام تسجد وتسبح، والكفار لا يفعلون ذلك، وقيل الملائكة روح، وعقل، والبهائم نفس، وهوى، والآدمي مجمع الكل ابتلاء، فإن غلبته النفس والهوى، فضلته الأنعام، وإن غلبته الروح وضلالتهم، أتبعه بذكر طرف من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الإنعام، وحاصل ما ذكر منها خمسة، فأولها الاستدلال بأحوال الظل فقال:
قال أبو عبيدة: الظل بالغداة، والفيء بالعشي، لأنه يرجع بعد زوال الشمس، سمي فيئاً لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب، وقال ابن السكيت: الظل ما نسخته الشمس، والفيء ما نسخ الشمس، وعن رؤبة. قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء، وظل، وما لم تكن
(وظل ممدود) قال أبو السعود، وأما ما قيل من أن المراد بالظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس فغير سديد، إذ لا ريب في أن المراد تنبيه الناس على عظم قدرة الله عز وجل، وبالغ حكمته فيما يشاهدونه، فلا بد أن يراد بالظل ما يتعارفونه من حالة مخصوصة يشاهدونها، في موضع يحول بينه وبين الشمس جسم كثيف، مخالفة لما في جوانبه من مواقع ضح الشمس وما ذكر؛ وإن كان في الحقيقة ظلاً للأفق الشرقي، لكنهم لا يعدونه ظلاً، ولا يصفونه بأوصافه المعهودة، انتهى.
وعن ابن عباس قال: كيف مد الظل أي: بعد الفجر، قبل أن تطلع
الشمس، وعنه قال: ألم تر أنك إذا صليت الفجر، كان ما بين مطلع
الشمس إلى مغربها ظلاً؟ ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً فقبض الظل.
وعنه قال: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبه قال الجمهور، واعترض عليه بأنه لا يسمى ظلاً لأنه من بقايا الليل واقع في غير النهار، ومعنى الآية كيف أنشأ ظلاً لأي مظل كان من جبل أو بناء أو شجر عند ابتداء طلوع الشمس ممتداً، وأنه تعالى مده، بعد أن لم يكن كذلك، كما بعد نصف النهار إلى غروبها، فإن ذلك مع خلوه عن التصريح يكون نفسه بإنشائه تعالى وإحداثه يأباه سياق النظم الكريم.
(ولو شاء) سكونه (لجعله ساكناً) ثابتاً دائماً لا يزول، ومستقراً لا تنسخه الشمس، ولا يذهب عن وجه الأرض، وقيل: المعنى ولو شاء لمنع
وقال قوم: قبضه بغروب الشمس لأنها إذا لم تغرب فالظل فيه بقية، وإنما يتم زواله لمجيء الليل ودخول الظلمة عليه وقيل: إن هذا القبض وقع بالشمس لأنها إذا طلعت أخذ الظل في الذهاب شيئاًً فشيئاًً قاله مالك وإبراهيم
(قبضاً يسيراً) أي: قليلاً قليلاً على تدريج بقدر ارتفاع الشمس، لتنتظم بذلك مصالح الكون ويتحصل به ما لا يحصى من منافع الخلق، وقيل: يسيراً أي سريعاً، قاله الضحاك، وقيل: المعنى يسيراً علينا، ليس بعسير. وقال قتادة: أي خفيفاً، كلما قبض جزء منه جعل مكانه جزء من الظلمة، وليس يزول دفعة واحدة، وهو قول مجاهد.
وقال الخليل: السبات نوم ثقيل، أي جعلنا نومكم ثقيلاً ليكمل الإجمام، والراحة، وقيل السبات الموت، والمسبوت الميت، لأنه مقطوع الحياة، هو كقوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل) ويعضده ذكر النشور في مقابلته، ذكره الزمخشري، والنسفي (وجعل النهار نشوراً) أي: ذا نشور وانتشار ينتشر فيه الناس للمعاش، أي جعله زمان بعث من ذلك السبات شبه اليقظة بالحياة، كما شبه النوم بالسبات الشبيه بالممات، وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه، لأن في الاحتجاب بستر
(وأنزلنا من السماء ماء طهوراً) وصف الماء به إشعاراً بالنعمة وتتميماً للمنة بما بعده. فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته. وفيه تنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها، فبواطنهم أولى بذلك، قال الأزهري: الطهور في اللغة المطهر، قال: وفعول في كلام العرب لِمَعانٍ منها فعول لما يفعل به، مثل الطهور لما يتطهر به، والوضوء لما يتوضأ به قال ابن الأنباري: الطَهور بفتح الطاء الاسم وكذلك الوضوء والوقود، وبالضم المصدر، هذا هو المعروف في اللغة، وقد ذهب الجمهور إلى أن الطهور هو الطاهر المطهر، ويؤيد ذلك كونه بناء مبالغة، ويدل له ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. (١)
_________
(١) أبو داوود كتاب الطهارة باب ٤١.
الترمذي كتاب الطهارة ٥٢.
النسائي كتاب الطهارة باب ٤٦.
_________
(١) أبو داوود كتاب الطهارة باب ٣٤ - الإمام أحمد ٣/ ٣١ - ٤/ ١٧.
(وأناسي كثيراً) جمع إنسان على ما ذهب إليه سيبويه، وهو الراجح وقال المبرد، والفراء والزجاج: إنه جمع إنسي أي بياء النسب وفيه أن ما هي فيه لا يجمع على فعاليَّ، وللفراء قول آخر، أنه جمع إنسان والأصل على الأول أناسين مثل سرحان وسراحين، وبستان وبساتين، فجعلوا الياء عوضاً من النون.
وقيل: الضمير راجع إلى القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة حيث قال (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) وقوله (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني) وقوله: (اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) والمعنى ولقد كررنا هذا القرآن بإنزال آياته بين الناس، ليذكروا به، ويعتبروا بما فيه، وقيل هو راجع إلى الريح، وعلى رجوع الضمير إلى المطر. فقد اختلف في معناه فقيل ما ذكرناه وقيل تصريفه تنويع الانتفاع به، في الشرب والسقي. والزراعات، والطهارات عن ابن عباس قال: ما من عام بأقل مطراً من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء ثم قرأ هذه الآية.
(فأبى أكثر الناس إلا كفوراً) أي كفران النعمة وجحودها وقلة
(هذا عذب فرات) هو البليغ العذوبة، المائلة إلى الحلاوة. والجملة مستأنفة كأنه قيل: كيف مرجهما؟ فقيل: هذا عذب الخ، أو حال بتقدير مقولاً فيهما. قيل سمى الماء الحلو فراتاً، لأنه يفرت العطش، أي يقطعه، ويشقه ويكسره ولا يجمع إلا نادراً على فرتان كغربان (وهذا ملح أجاج) أي بليغ الملوحة، وقيل البليغ في الحرارة وقيل البليغ في المرارة. وقرئ ملح بفتح الميم وكسر اللام. قال ابن عباس: خلع أحدهما على الآخر، فليس يفسد العذب المالح، وليس يفسد المالح العذب، وهذا من أحسن المقابلة، حيث قال: عذب فرات، وملح أجاج.
(وجعل بينهما برزخاً) هو الحاجز والحائل، الذي جعله الله بينهما من قدرته، يفصل بينهما ويمنعهما التمازج ولا يحس (وحجراً محجوراً) أي ستراً مستوراً، يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر فلا يبغي أحدهما على الآخر، ولا
وقيل معناه ما تقدم من أنها كلمة يقولها المتعوذ، كان كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له هذا القول، وهو استعارة تمثيلية. وقيل حداً محدوداً، وقيل المراد من البحر العذب، الأنهار العظام كالنيل والفرات وجيحون، ومن البحر الأجاج، البحار المشهورة، والبرزخ بينهما الحائل من الأرض. وقيل معناه حراماً محرماً أن يعذب هذا المالح بالعذب أو يملح هذا العذب المالح. ومثل هذه الآية قوله سبحانه في سورة الرحمن (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان) وعن ابن عباس قال: حجر أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه، ثم ذكر سبحانه حالة من أحوال خلق الإنسان من الماء فقال:
(فجعله نسباً وصهراً) أي جعله ذا نسب وصهر، قيل المراد بالنسب هو الذي لا يحل نكاحه، والصهر ما يحل نكاحه قاله الفراء والزجاج. واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته وسميت المناكح صهراً لاختلاط الناس بها وقيل الصهر قرابة النكاح فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء، والأصهار تعمهما. قاله الأصمعي.
وفي القاموس الصهر بالكسر؛ القرابة والخنن وجمعه أصهار. وفي المصباح قال الخليل: الصهر أهل بيت المرأة قال: ومن العرب من يجعل الأحماء والأختان جميعاً أصهاراً. وقال الأزهري: الصهر يشتمل على قرابات النساء، ذوي الحارم وذوات المحارم كالأبوين، والإخوة وأولادهم والأعمام
وقال ابن السكيت: كل من كان من قبل الزوج من أبيه أو أخيه أو عمه، فهم الأحماء ومن كان من قبل المرأة فهم الأختان ويجمع الصنفين الأصهار وصاهرت لهم وإليهم وفيهم صهرت لهم صهراً انتهى. وفي القرطبي: النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين، قال الواحدي: قال المفسرون: النسب سبعة أصناف من القرابة يجمعها قوله (حرمت عليكم أمهاتكم) إلى قوله (وأمهات نسائكم) ومن هنا إلى قوله (وأن تجمعوا بين الأختين) تحريم بالصهر وهو الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرّم للنكاح، وقد حرم الله سبعة أصناف من النسب وسبعة من جهة الصهر أي السبب، قد اشتملت الآية المذكورة على ستة منها والسابعة قوله (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) وقد جعل ابن عطية والزجاج وغيرهما الرضاع من جملة النسب ويؤيده قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " (١).
أراد سبحانه تقسيم البشر قسمين ذوي النسب أي ذكورا ينسب إليهم، فيقال فلان بن فلان وفلانة بنت فلان وذوات صهر أي إناثاً يصاهر بهن، كقوله تعالى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى. وسئل عمر بن الخطاب عن نسب وصهر فقال: ما أراكم إلا وقد عرفتم النسب وأما الصهر فالأختان، والصحابة.
(وكان ربك قديراً) أي بليغ القدرة عظيمها، ومن جملة قدرته الباهرة خلق الإنسان من النطفة الواحدة وتقسيمه إلى القسمين المذكورين. ولما ذكر سبحانه دلائل التوحيد عاد إلى ذكر قبائح الكفار وفضائح سيرتهم فقال:
_________
(١) مسلم ١٤٤٥ - البخاري ١٢٨٣.
ويجوز أن يكون الظهير جمعاً كقوله: (والملائكة بعد ذلك ظهير) أو المعنى أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على رسول الله - ﷺ -، أو دين الله والمراد بالكفر هنا الجنس ولا ينافيه كون سبب النزول هو كافراً معيناً، كما قيل إنه أبو جهل. وقال ابن عباس: يعني أبا الحكم الذي سمّاه رسول الله - ﷺ - أبا جهل بن هشام فالأصح أنه عام في كل كافر.
وقيل هو متصل والمعنى إلا من شاء أن يتقرب إليه سبحانه بالطاعة، وصور ذلك بصورة الأجر من حيث إنه مقصود الحصول، ولما بين سبحانه أنّ الكفار متظاهرون على رسول الله - ﷺ - وأمره أنْ لا يطلب منهم أجراً ألبتة، أمره أن يتوكل عليه في دفع المضار وجلب المنافع فقال:
(وسبِّح) أي نزهه عن صفات النقصان مقترناً (بحمده) وقيل معنى سبح صل، والصلاة تسمى تسبيحاً (وكفى به بذنوب عباده خبيراً) أي حسبك وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك: كفى بالله رباً والخبير المطلع على الأمور بحيث لا يخفى عليه منها شيء فلا لوم عليك إن آمنوا وكفروا، وقيل معناه أنه لا يحتاج معه إلى غيره لأنه خبير عالم قدير على مكافأتهم، وفيه وعيد شديد، كأنه قال: إذا قدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة، ثم زاد في المبالغة فقال:
فإن قيل يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السماوات والأرض، كما يفيده قوله: (ثم استوى على العرش) فيقال: إن كلمة (ثم) تدخل على خلق العرش بل على علوه على السماوات والأرض، والعرش في اللغة سرير الملك، والمراد هنا الجسم العظيم المحيط بالعالم الكائن فوق السماوات السبع، والاستواء صفة لله سبحانه معناها مباينته عن الخلق وكونه على الذات وفوق العالم، وقد تقدم الكلام عليها في سورة الأعراف وأخواتها.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى: أعلم أن الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله وتشعبت أطرافه، وتباينت فيه المذاهب وتفاوتت فيه الطرائق، وتخالفت النحل، وسبب هذا عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله، ودخولهم في أبواب لم يأذن الله لهم بدخولها، ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه، حتى تفرقوا فرقاً وتشعبوا شعباً وصاروا أحزاباً كانوا في البداية، ومحاولة الوصول إلى ما يتصورونه من العامة مختلفي المقاصد متبايني المطالب فطائفة -وهي أخف هذه الطوائف المتكلفة، علم ما لم يكلفها الله سبحانه بعلمه إثماً، وأقلها عقوبة وجرماً- وهي التي أرادت الوصول إلى الحق والوقوف على الصواب لكن سلكت في طلبه طريقة متوعرة، وصعدت في الكشف عنه إلى عقب: كؤود، لا يرجع من سلكها سالماً فضلاً عن أن يظفر فيها بمطلوب صحيح، ومع هذا أصّلوا أصولاً ظنوها حقاً، فدفعوا بها آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة نبوية واعتلوا في ذلك الدفع بشبهة واهية وحالات مختلفة.
وطائفة توسطت، ورامت الجمع بين الضب والنون، وظنت أنها قد وقفت بمكان بين الإفراط والتفريط، ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل، وتناضل، وتحقق، وتدقق في زعمها، وتجول عمل الأخرى وتصول، بما ظفرت به، مما يوافق ما ذهبت إليه، وكل حزب بما لديهم فرحون، وعند الله تلتقي الخصوم.
ومع هذا فهم متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ظفروا به، من هذه الأعلمية -بطريق الخلف- أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز وقالوا: هنيئاً للعامة. فتدبر هذه الأعلمية التي كان حاصلها أن يهنأ من ظفر لأهل الجهل البسيط، ويتمنى أنه في عدادهم وممن تدين بدينهم ويمشي على طريقتهم، فإن هذا ينادي بأعلى صوت ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمية التي طلبوها؛ الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه ويتمنى عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته؛ أن يكون جاهلاً به عاطلاً عنه - ففي هذا عبرة للمعتبرين وآية بينة للناظرين، فهلاَّ
أرى الأمر يفضي إلى آخر... فصيّر آخره أولاً
وربحوا الخلوص من هذا التمني، والسلامة من هذه التهنئة للعامة؛ فإن العاقل لا يتمنى رتبة مثل رتبته أو دونها، ولا يهنىء لمن هو مثله أو دونه، بل لا يكون ذلك إلا لمن رتبته، أرفع من رتبته، ومكانه أعلى من مكانه، فيالله العجب، من علم يكون الجهل البسيط أعلى رتبة منه، وأفضل مقداراً بالنسبة إليه.
وهل سمع السامعون بمثل هذه الغريبة، ونقل الناقلون ما يماثلها أو يشابهها، وإذا كان هذا حال هذه الطائفة التي قد عرفناك أنها أخف الطوائف تكلفاً، وأقلها تبعة فما ظنك بما عداها من الطوائف، التي قد ظهر فساد مقاصدها، وتبين بطلان مواردها ومصادرها، كالطوائف التي أرادت بالمظاهر، التي تظاهرت به، كيْد الإسلام وأهله، والسعي في التشكيك فيه بإيراد الشبه، وتقرير الأمور المفضية إلى القدح في الدين، وتنفير أهله عنه.
وعند هذا تعلم أن:
خير الأمور والسالفات على الهدى.. وشر الأمور المحدثات البدائع
وأن الحق الذي لا شك فيه، ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وقد كانوا رحمهم الله تعالى وأرشدنا إلى الاقتداء بهم، والاهتداء بهديهم، يمرون آيات الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون، ولا يحرفون ولا يؤولون، وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذهبهم، لا يشك فيه شاك ولا ينكره منكر ولا يجادل فيه مجادل. وإن نزغ من بينهم نازغ أو نجم في عصرهم ناجم أوضحوا للناس أمره وبينوا لهم أنه على ضلالة، وصرحوا بذلك في المجامع والمحافل: وحذروا الناس من بدعته، كما كان منهم لما ظهر معبد الجهني
وهكذا كان من بعدهم، يوضح للناس بطلان أقوال أهل الضلال، ويحذرهم منها، كما فعل التابعون رحمهم الله بالجعد بن درهم، ومن قال بقوله، وانتحل نحلته الباطلة، ثم ما زالوا هكذا لا يستطيع المبتدع في الصفات أن يتظاهر ببدعته، بل يتكتمون بها كما يتكتم الزنادقة بكفرهم، وهكذا سائر المبتدعين في الدين، على اختلاف البدع، وتفاوت المقالات الباطلة.
ولكنا نقتصر هاهنا على الكلام في هذه المسألة، التي ورد السؤال عنها، وهي مسألة الصفات، وما كان من المتكلمين فيها بغير الحق المتكلفين علم ما لم يأذن الله، بأن يعلموه، وبيان أن إمرار آيات الصفات على ظاهرها، هو مذهب السلف الصالح، من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، وأن كل من أراد من نزاغ المتكلفين، وشذاذ المحرفين، والمتأولين، أن يظهر ما يخالف المرور على ذلك الظاهر، قاموا عليه، وحذروا الناس منه، وبينوا لهم أنه على خلاف ما عليه أهل الإسلام، فصار المبتدعون في الصفات، القائلون بأقوال تخالف ما عليه السواد الأعظم من الصحابة والتابعين وتابعيهم، في خبايا وزوايا لا يتصل بهم إلا مغرور.
ولا ينخدع بزخارف أقوالهم إلا مخدوع، وهم مع ذلك على تخوف من أهل الإسلام وترقب لنزول مكروه بهم من حماة الدين من العلماء الهادين والرؤساء والسلاطين، حتى نجم ناجم المحنة وبرق بارق الشر من جهة الدولة ومن لهم في الأمر والنهي والإصدار والإيراد الأعظم صولة، وذلك في الدولة المأمونية بسبب قاضيها أحمد بن أبي دؤاد.
فعند ذلك أطلع المنكمشون في تلك الزوايا رؤوسهم، وانطلق ما كان قد خرس من ألسنتهم، وأعلنوا مذاهبهم الزائغة، وبدعهم المضلة، ودعوا
ولما كان الله سبحانه، قد تكفل بإظهار دينه على الدين كله، وحفظه عن التحريف، والتغيير، والتبديل، أوجد من علماء الكتاب والسنّة في كل عصر من العصور. من يبين للناس دينهم، وينكر على أهل البدع بدعهم، فكان لهم -ولله الحمد- المقامات المحمودة، والمواقف المشهورة في نصر الدين، وهتك المبتدعين، وبهذا الكلام القليل الذي ذكرناه، تعرف أن مذهب السلف من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، هو إمرار أدلة الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف، لشيء منها، ولا جبر، ولا تشبيه، ولا تعطيل، يفضي إليه كثير من التأويل وكانوا إذا سأل سائل عن شيء من الصفات؛ تلوا عليه الدليل، وأمسكوا عن القال والقيل، وقالوا: قال الله هكذا ولا ندري بما سوى ذلك.
ولا نتكلف ولا نتكلم بما لم نعلمه ولا أذن الله لنا بمجاوزته فإن أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه ونهوه عن طلب ما لا يمكن الوصول إليه بالوقوع في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه وما حفظوه عن رسول الله - ﷺ - وحفظه التابعون عن الصحابة، وحفظه من بعد التابعين عن التابعين.
وكان في هذه القرون الفاضلة الكلمة في الصفات متحدة والطريقة لهم جميعاً متفقة، وكان اشتغالهم بما أمرهم الله بالاشتغال به، وكلفهم القيام بفرائضه من الإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وإنفاق الأموال، في أنواع البر وطلب العلم النافع وإرشاد الناس إلى الخير على اختلاف أنواعه والمحافظة على موجبات الفوز بالجنة والنجاة من النار، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة وبما تبلغ إليه القدرة ولم يشتغلوا بغير ذلك مما لم يكلفهم الله بعلمه ولا تعبدهم بالوقوف على حقيقته.
يعلم ذلك كل من له علم، ويعرفه كل عارف، فاشدد يديك على هذا واعلم أنه مذهب خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ودع عنك ما حدث من تلك التمذهبات في الصفات، وأرح نفسك من تلك العبارات التي جاء بها المتكلمون واصطلحوا عليها وجعلوها أصلاً يرد إليه كتاب الله وسنة رسوله - ﷺ -، فإن وافقاها فقد وافقا الأصول المقررة في زعمهم، وإن خالفاها فقد خالفا الأصول المقررة في زعمهم، ويجعلون المرافق لها من قسم المقبول والمحكم والمخالف لها من قسم المردود والمتشابه، ولو جئت بألف آية واضحة الدلالة ظاهرة المعنى أو ألف حديث مما ثبت في الصحيح لم يبالوا به ولا رفعوا إليه رؤوسهم ولا عدوه شيئاًً.
ومن كان منكراً لهذا فعليه بكتب هذه الطوائف المصنفة في علم الكلام، فأنه سيقف على الحقيقة، ويسلم هذه الجملة، ولا يتردد فيها، ومن العجب العجيب والنبأ الغريب أن تلك العبارات الصادرة عن جماعة من أهل الكلام التي جعلها من بعدهم أصولاً لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل والفرية على الفطرة، وكل فرد من أفرادها تنازعت فيه عقولهم وتخالفت فيه إدراكاتهم، فهذا يقول حكم العقل في هذا كذا، وهذا يقول حكم العقل في هذا كذا، ثم يأتي بعدهم من يجعل ذلك الذي يعقله من يقلده ويقتدي به أصلاً يرجع إليه، ومعيار الكلام كلام الله وكلام رسوله يقبل منهما ما وافقه ويرد ما خالفه فيالله! ويا للمسلمين! ويا لطماء الدين من هذه الفواقر الموحشة التي لم يصب الإسلام وأهله بمثلها!.
وآخر من حكى ذلك عنه صاحب شرح القلائد، يقول: والله لا يعلم الله من نفسه إلا ما يعلم هو. فخذ هذا التصريح، حيث لم يكتف بذلك التلويح، وانظر هذه الجرأة على الله التي ليس بعدها جرأة، فيالأم أبي على الويل؟ أينهق بمثل هذا النهيق؟ ويدخل نفسه في هذا المضيق؟ وهل سمع
فقد خاب وخسر من أثبت لنفسه من العلم ما لا يعلمه إلا الله سبحانه من عباده، فما ظنك بمن جاوز هذا وتعداه؟ وأقسم بالله أن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو؟ ولا يصح لنا أن نحمله على اختلاف العقل، فلو كان مجنوناً لم يكن رأساً يقتدى بقوله جماعات من أهل عصره، ومن جاء بعده، وينقلون كلامه في الدفاتر، ويحكون عنه في مقامات الاختلاف.
ولعل أتباع هذا ومن يقتدي بمذهبه، لو قال لهم قائل، وأورد عليهم مورد، قول الله عز وجل: (ولا يحيطون به علماً) وقوله: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) وقال لهم هذا، يرد ما قاله صاحبهم، ويدل على أن يمينه هذه فاجرة مفتراة، لقالوا هذا ونحوه مما يدل دلالته ويفيد مفاده من المتشابه الوارد على خلاف دليل العقل المدفوع بالأصول المقررة.
وبالجملة فإطالة ذيول الكلام في مثل هذا المقام إضاعة للأوقات،
فإن قلت: وماذا تريد بالتعطيل في مثل هذه العبارات التي تكررها؟ فإن أهل المذاهب الإسلامية يتنزهون عن ذلك ويتحاشون عنه، ولا يصدق معناه، ويوجد مدلوله إلا في طائفة من طوائف الكفار. وهم المنكرون للصانع.
قلت يا هذا إن كنت ممن له إلمام بعلم الكلام الذي اصطلح عليه طوائف من أهل الإسلام. فإنه لا محالة قد رأيت ما يقوله كثير منهم، ويذكرونه في مؤلفاتهم ويحكونه عن أكابرهم، أن الله سبحانه وتعالى وتقدس، لا هو جسم ولا جوهر ولا عرض ولا داخل العالم ولا خارجه، فأنشدك الله، أي عبارة تبلغ مبلغ هذه العبارة في النفي؟ وأي مبالغة في الدلالة على هذا النفي، تقوم مقام هذه المبالغة؟ فكان هؤلاء في فرارهم من شبهة التشبيه إلى هذا التعطيل كما قال القائل:
فكنت كالساعي إلى مثعب | موائلا من سبل الراعد |
فمن زعم أن ذاته كذا أو صفته كذا فلا شك أن صحة ذلك متوقفة على الإحاطة وقد نفيت عن كل فرد لأن هذه القضية هي في قوة لا يحيط به فرد من الأفراد علماً فكل قول من أقوال المتكلفين صادر عن جهل إما من كل وجه أو من بعض الوجوه وما صدر عن جهل فهو مضاف إلى جهل ولا سيما إذا كان في ذات الله وصفاته فإن ذلك من المخاطرة بالدين، ما لم يكن في غيره من المسائل. وهذا يعلمه كل ذي علم ويعرفه كل عارف.
ولم يحظ بفائدة هذه الآية ويقف عندها ويقتطف من ثمراتها إلا الممرون للصفات على ظاهرها المريحون أنفسهم عن التكلفات والتعسفات والتأويلات والتحريفات وهم السلف الصالح كما عرفت فهم الذين اعترفوا بعدم الإحاطة وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها الله وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته وماهية صفاته بل العلم كله له وقالوا كما قال من قال ممن اشتغل بطلب هذا المحال فلم يظفر بغير القيل والقال:
العلم للرحمن جل جلاله | وسواه في جهلاته يتغمغم |
ما للتراب وللعلوم وإنما | يسعى ليعلم أنه لا يعلم |
وقد طفت في تلك المعاهد كلها | وسرحت طرفي بين تلك المعالم |
فلم أر إلا واضعاً كف حائر | على ذقن أو قارعا سن نادم |
وكان ذلك من الأسباب التي حببت إلي مذهب السلف على أني كنت من قبل ذلك عليه ولكن أردت أن ازداد منه بصيرة وبه شغفاً وقلت عند النظر في تلك المذاهب:
وغاية ما حصلته من مباحثي | ومن نظري من بعد طول التدبر |
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة | فما علم من لم يلق غير التحير |
على أنني قد خضت منه غماره | وما قنعت نفسي بدون التبحر |
ومن جملة الصفات التي أمرها السلف على ظاهرها وأجروها على ما جاء به القرآن والسنة من دون تكلف ولا تأويل، صفة الاستواء التي ذكرها السائل، فإنهم يقولون نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه من استوائه على عرشه على هيئة لا يعلمها إلا هو، وفي كيفية لا يدري بها سواء، ولا نكلف أنفسنا غير هذا فليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا يحبط عباده به علماً. وهكذا يقولون في مسألة الجهة التي ذكرها السائل وأشار إلى بعض ما فيه، دليل عليها. والأدلة في ذلك طويلة كثيرة، في الكتاب والسنة. وقد جمع أهل
والمسألة أوضح من أن تلتبس على عارف، وأبين من أن يحتاج فيها إلى التطويل، ولكنها لما وقعت فيها تلك القلاقل، والزلازل الكائنة بين بعض الطوائف الإسلامية، كثر الكلام فيها، وفي مسئلة الاستواء، وطال خصوصاً بين الحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب، فلهم في ذلك تلك الفتن الكبرى، والملاحم العظمى، وما زالوا هكذا في عصر بعد عصر، والحق هو ما عرفناك من مذهب السلف الصالح، فالاستواء على العرش، والكون في تلك الجهة، قد صرح به القرآن الكريم في مواطن يكثر حصرها، ويطول نشرها، وكذلك صرح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير حديث، بل هذا مما يجده كل فرد من أفراد المسلمين في نفسه، ويحسه في فطرته، وتجذبه إليه طبيعته كما تراه في كل من استغاث بالله سبحانه. والتجأ إليه.
ووجه أدعيته إلى جنابه الرفيع وعزه المنيع، فإنه يشير عند ذلك بكفه أو يرمي إلى السماء بطرفه، ويستوي في ذلك عند عروض أسباب الدعاء وحدوث بواعث الاستغاثة ووجود مقتضيات الانزعاج، وظهور دواعي الالتجاء عالم الناس وجاهلهم والماشي على طريقة السلف والمقتدي بأهل التأويل القائلين بأن الاستواء هو الاستيلاء، كما قاله جمهور المتأولين أو الإقبال كما قاله أحمد بن يحيى ثعلب، والزجاج، والفراء وغيرهم، أو كناية عن الملك والسلطان كما قاله آخرون. فالسلامة والنجاة في إمرار ذلك على الظاهر، والإذعان بالاستواء والكون على ما نطق به الكتاب والسنة من دون تكييف ولا تكلف، ولا قيل ولا قال، ولا فضول في شيء من المقال.
فمن جاوز هذا المقدار بإفراط أو تفريط فهو غير مقتد بالسلف، ولا
وإذا انتهيت إلى السلا | مة في مداك فلا تجاوز |
وهذا الحق ليس به خفاء | فدعني من بينات الطريق |
ولا يهلك على الله إلا هالك | وعلى نفسها براقش تجني |
(الرحمن) خبر مبتدأ محذوف أي هو الرحمن، أو بدل من الضمير في استوى وقرئ بالجر على أنه نعت للحي، أو للموصول، وقيل أو مبتدأ وخبره (فاسأل به خبيراً) على رأى الأخفش. والضمير المجرور يعود إلى ما ذكر من خلق السماوات والأرض، والاستواء على العرش والمعنى فاسأل بتفاصيل ما ذكر إجمالاً من هذه الأمور عليماً.
وقال الزجاج والأخفش: الباء بمعنى عن، أي فاسأل عنه كقوله: (سأل سائل بعذاب واقع) والمراد بالخبير الله سبحانه لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو، وقيل جبريل عليه السلام: والأول أولى وما قيل: إن التقدير إن
وقال ابن جرير: المعنى فاسأله حال كونه خبيراً وعلى هذا الباء في به زائدة وقيل قوله (به) يجري مجرى القسم كقوله: (واتقوا الله الذي تساءلون به) والوجه الأول أقرب هذه الوجوه، ثم أخبر سبحانه عنهم بأنهم جهلوا معنى الرحمن فقال:
(وزادهم) الأمر بالسجود (نفوراً) عن الدين وبعداً عنه. وقيل: زادهم ذكر الرحمن تباعداً من الإيمان، كذا قال مقاتل. والأول أولى، ثم ذكر سبحانه ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن، فقال:
حمل الثور جوزة السرطان | ورعى الليث سنبل الميزان |
ورمى عقرب بقوس لجدي | نزح الدلو بركة الحيتان |
زحل شرى مريخه من شمسه | فتزاهرت لعطارد الأقمار |
_________
(١) لقد ثبت علمياً بالحس المفيد للقطع بواسطة المجاهر والمقاييس والآلات الرياضية أن المريخ أقرب الكواكب إلى الأرض وهو بنص القرآن في سماء الدنيا وهذه الكواكب التي ذكرها المصنف كلها في سماء الدنيا كما قال الله تعالى: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) ولا يعارض القرآن العلم فالعلم مؤيد للقرآن ومثبت لإعجازه والله أعلم. المطيعي.
(وجعل فيها سراجاً) أي شمساً ومثله قوله (وجعل الشمس سراجاً) وقرئ سُرُجاً بالجمع أي النجوم العظام الوقادة ورجح الأولى أبو عبيدة وقال الزجاج في تأويل الثانية: أراد الشمس والكواكب (وقمراً منيراً) أي ينير الأرض إذا طلع، وقرئ قُمْراً بضم القاف وإسكان الميم، وهي قراءة ضعيفة شاذة وخص القمر بالذكر لنوع فضيلة عند العرب لأنها تبني السنة على الشهور القمرية.
والمعنى أن المتذكر المعتبر إذا نظر في اختلاف الليل والنهار علم أنه لا بد في انقالهما من حال إلى حال من ناقل. وقيل: المعنى يتذكر، فيعلم أن الله لم يجعلهما كذلك عبثاً فيعتبر في مصنوعات الله ويشكره سبحانه على نعمه عليه في العقل، والفكر والفهم. قال الفراء: يذكر ويتذكر يأتيان بمعنى واحد قال الله تعالى: (واذكروا ما فيه) وفي حرف عبد الله: ويذكروا ما فيه (أو أراد شكوراً أي: أراد أن يشكر الله على ما أودعه في الليل والنهار، من النعم العظيمة والألطاف الكثيرة و (أو) للتقسيم والتنويع وهي مانعة خلو فتجوز الجمع.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتكفَّأ في مشيه كأنما يمشي في صبب، قال ابن عباس في الآية: هم المؤمنون الذين يمشون على الأرض
(وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) ذكر سبحانه أنهم يتحملون ما يرد عليهم من أذى أهل الجهل والسفه، فلا يجهلون من يجهل، ولا يشافهون أهل السفه. قال النحاس: ليس هذا السلام من التسليم إنما هو من التسلم، تقول العرب: سلاماً، أي تسلماً منك، أي: براءة منك، يعني قالوا: سلمنا سلاماً، وهذا على قول سيبويه، أو مفعول به، أي قالوا: هذا اللفظ ورجحه ابن عطية، وقال مجاهد معنى: سلاماً سداداً، أي يقولون للجاهل، كلاماً يدفعه به برفق ولين، قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين، لكنه على معنى قوله: تسلماً منكم ومتاركة، لا خير ولا شر. بيننا وبينكم، قال المبرد: كان ينبغي أن يقال لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم، ثم أمروا بحربهم.
وقال محمد بن يزيد المبرد: أخطأ سيبويه في هذا، وأساء العبارة. قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاماً في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية، لأنه قال في آخر كلامه: فنسختها آية السيف: وأقول هكذا يكون كلام الرجل إذا تكلم في غير علمه، ومشى في غير طريقته، ولم يؤمر المسلمون بالسلام على المشركين، ولا نهوا عنه، بل أمروا بالصفح، والهجر الجميل، فلا حاجة إلى دعوى النسخ، وفي الخطيب عن أبي العالية نسختها آية القتال. ولا حاجة إلى إدعاء النسخ بها ولا غيرها، لأن الإغضاء عن السفهاء، وترك المقابلة، مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة، وأسلم للعرض والورع.
وقال يزيد بن حبيب: أولئك أصحاب محمد، كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوباً للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع، ويقويهم على عبادة الله، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويقيهم الحر والبرد. وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف، ولم يبخلوا،
(وكان بين ذلك قواماً) بفتح القاف وقرئ بكسرها فقيل هما بمعني، وقيل القوام بالكسر ما يدوم عليه الشيء، ويستقر بالفتح العدل والاستقامة، قاله ثعلب، قيل بالفتح بين الشيئين، وبالكسر ما يقال به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص. وقيل: بالكسر السداد، والمبلغ واسم كان مقدر فيها، وخبرها قواماً قاله الفراء، أي كان إنفاقهم قصداً وسطاً بين الإسراف والإقتار، وحسنة بين السيئتين، وروي عن الفراء قول آخر، وهو أن اسم كان (بين ذلك) وتبنى (بين) على الفتح لأنها من الظروف المفتوحة وقال النحاس: ما أدرى ما وجه هذا لأن (بين) إذا كانت في موضع رفع رفعت.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي: الذنب أكبر؟ قال: " أن تجعل لله نداً وهو خلقك " قلت: ثم أي قال: " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قلت: ثم أي قال: " أن تزاني بحليلة جارك " فأنزل الله تصديق ذلك والذين لا يدعون مع الله الآية (١).
وأخرج الشيخان وغيرهما أيضاً عن ابن عباس، أن ناساً من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً - ﷺ -، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة، فنزلت: (والذين لا يدعون) الآية ونزلت: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) الآية (٢).
_________
(١) مسلم ٨٦ - البخاري ١٩٦٢.
(٢) مسلم ١٢٢ - البخاري ٢٠٣٧.
(ومن يفعل ذلك) أي شيئاًً مما ذكر (يلق أثاماً) هو في كلام العرب العقاب، قال الفراء: آثمه الله يوثمه آثاماً وأثاماً، أي جازاه جزاء الإثم فهو مأثوم، أي مجزى جزاء الإثم. وقال عبد الله بن عمر وعكرمة ومجاهد: إن أثاماً واد في جهنم جعله الله عقاباً للكفرة وقال السدي: جبل فيها. وقرئ يلق بضم الياء وتشديد القاف، قال أبو مسلم: الأثام والإثم واحد. والمراد هنا جزاء الآثام. فأطلق اسم الشيء على جزائه، وقرأ الحسن أياماً جمع يوم يعني شدائد، والعرب تعبر عن ذلك بالأيام، وما أظن هذه القراءة تصح عنه.
(له العذاب يوم القيامة) سبب المضاعفة أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك، يضاعف له العذاب على شركه ومعصيته (ويخلد) وقرئ بالفوقية، خطاباً للكافر، وقرئ يُخَلَّد بضم الياء وفتح اللام، قال أبو علي الفارسي: وهي غلط من جهة الرواية وضمير (فيه) راجع إلى العذاب المضاعف، وقرئ فيها بالإشباع مبالغة في الوعيد، والعرب تمد للمبالغة، مع أن الأصل في هاء الكناية الإشباع، (مهاناً) ذليلاً حقيراً جامعاً للعذاب الجسماني والروحاني. قال ابن عباس: قرأناها على عهد رسول الله - ﷺ - سنين ثم نزلت.
والإشارة بقوله (فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسنات) إلى المذكورين سابقاً، ومعنى تبديلها حسنات أنه يمحو عنهم سوابق المعاصي بالتوبة، ويثبت لهم مكانها لأحق الطاعات. قال النحاس: من أحسن ما قيل في ذلك أنه يكتب موضع كافر مؤمن وموضع عاص مطيع. قال الحسن: قوم يقولون هذا التبديل في الآخرة وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا، يبدل الله لهم إيماناً مكان الشرك، وإخلاصاً مكان الشك، وإحصاناً مكان الفجور، وقتل المشرك مكان المؤمن. قال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة، وقيل إن السيئات تبدل الحسنات، وبه قال جماعة من الصحابة، ومن بعدهم.
وقيل تبدل ملكة المعصية ودواعيها في النفس، بملكة الطاعة بأن يزيل الأولى ويأتي بالثانية مكانها. وقيل التبديل عبارة عن الغفران، أي يغفر الله لهم تلك السيئات، لا أنه يبدلها حسنات. قلت ولا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد، أن يضع مكان كل سيئة حسنة، وقد قال - ﷺ - لمعاذ: " وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن " (١) وقال ابن
_________
(١) الترمذي كتاب البر باب ٥٥ - الإمام أحمد ٥/ ١٥٣ - ٥/ ١٥٨.
وأخرج أحمد وهناد والترمذي وابن جرير والبيهقي عن أبي ذر قال: قال رسول الله - ﷺ - " يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيعرض عليه صغارها، وينحى عنه كبارها، فيقال: عملت كذا وكذا وهو يقر ليس ينكر، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء فيقال اعطوه بكل سيئة عملها حسنة " (١) والأحاديث في تكفير السيئات وتبديلها بالحسنات كثيرة. (وكان الله غفوراً رحيماً) مقررة لما قبلها من التبديل، وتكفير السيئات بالحسنات، أي لم يزل متصفاً بذلك.
_________
(١) الإمام أحمد ٥/ ١٥٧ - مسلم ١٩٠ بلفظ آخر.
وقيل أي من تاب بلسانه ولم يحقق التوبة بفعله، فليست تلك التوبة نافعة بل من تاب وعمل صالحاً فحقق توبته بالأعمال الصالحة فهو الذي تاب إلى الله متاباً، أي تاب حق التوبة، وهي النصوح، ولذلك أكد بالمصدر ومعنى الآية من أراد التوبة وعزم عليها فليتب إلى الله فالخبر في معنى الأمر كذا، قيل: لئلا يتحد الشرط والجزاء، فإنه لا يقال من تاب فإنه يتوب، وقيل: المعنى من تاب من الشرك وأدى الفرائض، ممن لم يقتل ولم يزن فإنه يعود إلى
ثم وصف سبحانه هؤلاء التائبين العاملين للصالحات فقال:
وقال ابن جريح: الكذب، وعن مجاهد أيضاً. وقيل ينفرون عن محاضر الكذابين، ومجالس الخطائين، فلا يقربونها تنزهاً عن مخالطة الشر، وأهله، وقيل أعياد المشركين، وقيل النوح، والأولى عدم التخصيص بنوع دون نوع من أنواع الزور بل المراد الذين لا يحضرون ما يصدق عليه اسم الزور كائناً ما كان، وعن ابن عباس قال: إن الزور كان صنماً بالمدينة يلعبون حوله كل سبعة أيام.
(وإذا مروا باللغو) على سبيل الاتفاق من غير قصد (مروا كراماً) أي معرضين عنه، غير ملتفتين إليه، مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه، والخوض فيه. ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش، والصفح عن الذنوب، والكناية عما يستهجن التصريح به قال ابن عباس: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه آله وسلم إذا مروا به، يعني الصنم المذكور، مروا كراماً، لا ينظرون إليه، كقوله (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه).
وقال الباقر: إذا ذكروا الفروج كنوا عنها. وقيل الشتم، والأذى
واللغو، كل ساقط، من قول أو فعل. قال الحسن: اللغو المعاصي كلها، وقيل المراد مروا بذوي اللغو، يقال فلان يكرم عما يشينه، أي بتنزه، ويكرم نفسه، عن الدخول في اللغو، والاختلاط بأهله.
(قرة أعين) يقال: قرت عينه قرة. قال الزجاج: يقال أقر الله عينك أي صادف فؤادك ما تحبه وقال المفضل: في قرة العين ثلاثة أقوال، أحدها برد دمعها لأنه دليل السرور والضحك، كما أن حره دليل الحزن والغم، والثاني نومها، لأنه يكون مع فراغ الخاطر وذهاب الحزن، والثالث حصول الرضا قال ابن عباس: يعنون من يعمل بالطاعة فتقر به أعيننا في الدنيا والآخرة فإنه ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله عز وجل، فيطمع أن يحلّوا معه في الجنة، فيتم سروره، وتقر عينه بذلك.
(واجعلنا للمتقين إماماً) أي قدوة يقتدي بنا في الخير وإقامة مراسم الدين بإفاضة العلم والتوفيق للعمل الصالح. وإنما قال إماماً ولم يقل أئمة لأنه أريد الجنس، كقوله (ثم يخرجكم طفلاً) قال الفراء: قال إماماً، ولم يقل أئمة كما للاثنين (إنا رسول رب العالمين) يعني أنه من الواحد الذي أريد به الجمع وقال الأخفش: الإمام جمع أم من أم يؤم جمع على فعال نحو صاحب وصحاب وقائم وقيام، وقيل إن إماماً مصدر، يقال أم فلان فلاناً إماماً مثل الصيام والقيام، وقيل أرادوا اجعل كل واحد منا إماماً، وقيل أرادوا اجعلنا إماماً واحداً، لاتحاد كلمتنا واتفاق طريقتنا وقيل: إنه من الكلام المقلوب وأن المعنى واجعل المتقين لنا إماماً. وبه قال مجاهد.
وقيل: إن هذا الدعاء صادر عنهم بطريق الانفراد وإن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء واجعلني للمتقين إماماً ولكنها حكيت عبارات القوم بصيغة المتكلم، مع الغير لقصد الإيجاز، كقوله: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً)، وفي هذا إبقاء إماماً على حاله قال القفال: وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل اجعلنا حجة للمتقين. ومثله البينة، يقال هؤلاء بينة فلان، قال الحفناوي: ولفظ إمام يستوي فيه الجمع وغيره، فالمطابقة حاصلة.
وعن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الغرفة من ياقوته حمراء وزبرجدة خضراء ودرة بيضاء ليس فيها فصم ولا وصم (١) " أخرجه الحكيم الترمذي (بما صبروا) أي بسبب صبرهم على مشاق التكليفات والطاعات ورفض الأهواء والشهوات وتحمل المجاهدات.
(ويُلَقَّوْن فيها تحية وسلاماً) بضم الياء مشدداً، واختاره أبو عبيد، أي: يعطون، لقوله: (ولقاهم نضرة وسروراً) وقرئ يَلقَوْن بفتح الياء مخففاً، واختاره الفراء، ومعناه يجدون، ويصادفون، قال: لأن العرب تقول فلان يلقى بالسلام والتحية، والخير، وقلما يقولون يلقي، والمعنى أنه يحيي بعضهم بعضاً، ويرسل إليهم الرب سبحانه بالسلام وقيل التحية البقاء الدائم، والملك العظيم وقيل هي بمعنى السلام، وقيل إن الملائكة تحييهم،
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٣٩٢٩.
قال الزجاج: ما يعبأ بكم ربي، يريد أي وزن يكون لكم عنده، أو ما يصنع بكم، أو بعذابكم والعبء الثقل و (ما) استفهامية أو نافية، وصرح الفراء بإنها استفهامية قال ابن الشجري: وحقيقة القول عندي أن موضع (ما) نصب، والتقدير: أي عبء يعبأ بكم؟ أي أيُّ مبالاة يبالي بكم؟ وأيُّ اعتداد يعتد بكم؟.
(لولا دعاؤكم) أي لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه، وعلى هذا فالمصدر الذي هو الدعاء مضاف إلى مفعوله، وهو اختيار الفراء، وفاعله محذوف، وجواب لولا محذوف تقديره لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم ويؤيد هذا قوله (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) والخطاب لجميع الناس وعن ابن عباس في الآية قال، يقول لولا إيمانكم فأخبر الله سبحانه أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كانت له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين وقيل إن المصدر مضاف إلى الفاعل أي لولا استغاثتكم إليه في الشدائد.
ثم خصّ الكفار منهم فقال (فقد كذّبتم) وقرأ ابن الزبير فقد كذب الكافرون وبه قرأ ابن عباس وابن مسعود كما حكاه ابن جني وفي هذه القراءة دليل بين على أن الخطاب لجميع الناس ويكون معنى فقد كذبتم على الأول فقد كذبتم ما دعيتم إليه وعلى الوجه الثاني فقد كذبتم بالتوحيد، ثم قال سبحانه (فسوف يكون لزاماً) أي يكون جزاء التكليف لازماً لكم، وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا ما لزم المشركين يوم بدر، وبه قال ابن مسعود وقالت طائفة هو عذاب الآخرة، قال أبو عبيد: لزاماً فيصلاً بينكم وبين المؤمنين، وقال الزجاج: يكون تكذيبكم لزاماً يلزمكم فلا تعطون التوبة، وجمهور القراء على كسرة اللام من لزاماً قال ابن جرير: لزاماً عذاباً دائماً وهلاكاً مفنياً يلحق بعضكم بعضاً، وقرأ أبو السماك لزاماً بفتح اللام قال أبو جعفر: يكون مصدر لزم والكسر أولى قال ابن عباس: لزاماً موتاً وقيل وبالاً.
وفي الصحيحين عنه قال: " قد مضين " أي خمس علامات دالات (١) على قيام الساعة الدخان والقمر والروم والبطشة واللزام.
_________
(١) مسلم ٢٧٩٨ - البخاري ٥٧٠.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشعراء(مائتان وسبع وعشرون آية ومكيّة عند الجمهور) وبه قال ابن الزبير، وقال ابن عباس: سوى خمس آيات من آخرها نزلت بالمدينة وهي: والشعراء يتبعهم الغاوون إلى آخرها.
وأخرج القرطبي في تفسيره عن البراء أن النبي - ﷺ - قال: " إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل، ما قرأهن نبي قبلي ".
وأخرج أيضاً عن ابن عباس: قال رسول الله - ﷺ -: " أعطيت المفصل نافلة " قال ابن كثير: ووقع في تفسير مالك تسميتها بسورة الجمعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (٤) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)