ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢)قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ).
ذكر تلك، وهي كلمة إشارة إلى شيء سبق ذكره، ولم يتقدم فيه ذكر شيء يشار إليه، وذكر آيات -أيضًا- وليس هنالك ذكر آيات أو شيء يكون آية في الظاهر، لكنه يشبه أن يكون قوله: (تِلْكَ) بمعنى: هذه آيات، ويجوز استعمال " تلك " مكان " هذه "، على ما يجوز ذكر " ذلك " مكان " هذا "؛ كقوله: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) أي: هذا الكتاب.
أو أن يكون قوله: (تِلْكَ) إشارة إلى ما في السماء، أي: الذي في السماء آيات الكتاب.
أو يقول: (تِلْكَ) إشارة إلى أما في اللوح المحفوظ أو إشارة إلى ما في الكتب المتقدمة، أي: تلك آيات الكتاب.
(الْمُبِينِ) يحتمل المبين أنها آيات الرسالة، أو بين أنها من عند اللَّه.
وقوله: (آيَاتُ الْكِتَابِ) هذا -أيضًا- يشبه أن يخرج على وجهين:
أحدهما: إشارة إلى الحروف المقطعة المعجمة فقال: تلك الحروف المقطعة إذا جمعت كانت آيات الكتاب.
أو أن يكون اللَّه أراد أمرًا لا نعلم ما أراد، فيقول: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ)، أي: ذلك الذي أراد هو آيات الكتاب، واللَّه أعلم بما أراد.
وقوله: (الْمُبِينِ).
قيل: (الْمُبِينِ)، أي: ليبين فيه الحلال والحرام، وما يُؤتَى وما يُتقَى؛ كقوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليبين بركته وهداه ورشده، أو بين فيه الحق من الباطل، والعدل من الجور.
والكتاب هو اسم ما يكتب، وسمي قرآنًا؛ لما يقرأ، وكتابًا؛ لما عن كتاب أخذ ورفع والقرآن لما قرئ عليه.
(قُرْآنًا عَرَبِيًّا) أنزله بلسان العرب، ولا ندري بأى لسان كان في اللوح المحفوظ، غير أنه أخبر أنه أنزله بلسان العرب، وهكذا كل كتاب أنزل إنما أنزل بلسان المنزل عليهم، لم ينزل بغيو لسانهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
ما لكم وما عليكم، وما تأتون وما تتقون، أو تعقلون أن هذه الأنباء التي يخبركم بها مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من اللَّه - تعالى - لأنها كانت في كتبهم بغير لسانه، فأخبر على ما كانت في كتبهم؛ دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه تعالى.
أو لعلكم تعقلون بأن فيه شرفكم؛ لأنكم تصيرون متبوعين لما يحتاج الناس إلى معرفة ما فيه، ولا يوصل ذلك إلا بكم فتكونون متبوعين والناس أتباع لكم؛ وهو كقوله: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)، قال أهل التأويل: أي: فيه شرفكم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (نَحْنُ نَقُصُّ)، أي: نبين عليك أحسن البيان (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (نَحْنُ نَقُصُّ) أي: نخبرك أحسن ما في كتبهم من القصص، وأحسن ما في كتبهم من الأنباء والأحاديث.
وقوله: (أَحْسَنَ الْقَصَصِ): أصدقه، وكذلك قوله (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا) وأحسن الحديث: أصدقه وأحسن القصص؛ أي: أصدقه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) أي: وقد كنتم من قبله (لَمِنَ الْغَافِلِينَ).
وقوله تعالى :( أحسن القصص ) أصدقه، وكذلك قوله[ في الأصل وم : قول ] ( الله أنزل أحسن الحديث كتابا )[ الزمر : ٢٣ ] وأحسن الحديث أصدقه ؛ هو أحسن القصص، أي أصدقه[ أدرج بعدها في الأصل وم : وأحسن الحديث أصدقه ].
وقوله تعالى :( وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ ) عن [ هؤلاء الأنبياء ][ في الأصل وم : الأنباء ] وعن قصصهم. فهذا يدل أن الإيمان إيمان[ أدرجت في الأصل وم بع : والرسل ] بجملة الأنبياء والرسل، وإن لم تعرف أنفس الأنبياء وأنفس الرسل وأساميهم لأنه أخبر أنه كان غافلا عن أنبائهم وعن قصصهم، ولا شكل أنه كان مؤمنا بالله مخلصا، وبالله العصمة.
وقال ابن عباس رضي الله عنه ( أحسن القصص ) كلام الرحمن، وقال مجاهد ( الله أنزل أحسن الحديث كتابا )[ الزمر : ٢٣ ] كلام رب العالمين.
وقوله تعالى :( تلك آيات الكتاب المبين ) يخرج على وجهين :
أحدهما : أن يكون الذي سألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف وصيرورة بين إسرائيل بمصر، وقد كانوا من قبل بالشام، فقال : تلك الأنباء والقصص يجعلها آيات هذه السورة التي هي من الكتاب المبين.
والثاني[ في الأصل وم : أو ] :( تلك آيات ) حجج وبراهين رسالة[ في الأصل وم : الرسالة ] محمد صلى الله عليه وسلم إذ هي من أنباء الغيب عنهم، يعلم الأنباء عنها بالله سبحانه وتعالى.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أحسن القصص: كلام الرحمن.
وقال مجاهد: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ): كلام ربّ العالمين.
وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) يخرج على وجهين:
أحدهما: أن يكون الذي سألوا عنه رسول اللَّه عن قصة يوسف صيرورة بني إسرائيل بمصر، وقد كانوا من قبل بالشام، فقال: تلك الأنباء والقصص نجعلها آيات هذه السورة التي هي من الكتاب المبين.
أو تلك آيات حجج وبراهين لرسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذ هي من أنباء الغيب عنهم، فعلم الأنباء عنها باللَّه سبحانه وتعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤) دل قوله: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا) إن إخوة يوسف كانوا علماء وعيون الأرض، نجومًا يقتدى بهم ويهتدى؛ إذ بالنجوم يقتدى في الأرض، وبها يهتدون الطرق والمسالك.
ودل قوله: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) حيث - خرج على أبويه - أنه كان بهما جميع منافع الخلق؛ إذ بهما صلاح جميع الأغذية في الأرض، ونضج جميع الفواكه والأنزال، وجميع المنافع التي بالناس حاجة إلى ذلك.
ودل قوله: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) أن الرؤيا تخرج على عين ما رأى، وتخرج على غيره بالمعنى الذي يتصل به؛ لأنه رأى الكواكب
وفيه جواز الاجتهاد وطلب المعنى في المخاطبات، وكذلك ما ظهر في الناس من تعبير الرؤيا على الاجتهاد، يدل على جواز العمل بالاجتهاد.
قال بعض أهل التأويل: إن يوسف لما قصَّ رؤياه على أبيه بين يدي إخوته قال له: هذه رؤيا النهار ليست بشيء.
وقال ليوسف في السر: إذا رأيت رؤيا بعد هذا، فلا تقصها على إخوتك.
لكن هذا كذب؛ فلا يجوز أن يكذب رسول اللَّه يعقوب يقول له: رؤيا النهار ليست بشيء، ثم يعبر له في السر، ولا يتوهم على نبي من أنبياء اللَّه الكذب، وهو كذب، فإن كان فهو بالأمر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥)
دل قوله: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ) على أن ما رأى يوسف من سجود الكواكب له، وسجود الشمس والقمر أنه إنما كان رأى ذلك في المنام، ويدل ما ذكر في آخره أيضًا على ذلك، وهو قوله: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ)، ودل قوله: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) أن يعقوب إنما عرف ذلك بالوحي؛ حيث قطع القول في قوله: (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا)، ولم يستثن في ذلك، وقد فعلوا به ما قال.
وفيه دلالة أن إخوته قد كانوا يعرفون تعبير الرؤيا، وكانوا علماء حكماء؛ حيث قال: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ)، لأنهم لو كانوا لا يعرفون تأويلها ولا علموا تعبيرها لم يكن لينهاه عن أن يقص على إخوته؛ لأنه لو قصها أو لم يقصها إذا لم يعلموا سواء، وفيه دلالة أن الأخ لا يتهم في أخيه، ويكون من الأخ الخيانة إلى أخيه، والأب والأم
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
ظاهر العداوة.
وقال موسى حين قتل ذلك الرجل: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) بدء كل شر يكون من الشيطان، يقذف في القلوب، ويخطر في الصدور، ثم تكون العزيمة على ذلك والفعل من العبد، وهو ما قال: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) وقال: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ..) الآية.
والطيف والنزغ: هو القذف والوسوسة، فإذا ذكر اللَّه ذهب.
وقيل: الكيد والمكر سواء، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الكيد: هو الاحتيال والاغتيال.
وقيل: الكيد: هو أن يطلب إيصال الشر به على غير علم منه؛ وكذلك المكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
تأويله - واللَّه أعلم - أي: كما اجتبى ربك أبويك بالرسالة والنبوة، واصطفاهم بأنواع الخيرات، وأتم نعمته عليهم، كذلك ليجتبيك ربك ويتم نعمته، عليك وعلى آل يعقوب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ)، قيل: تدبير الرؤيا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: علمه تأويل الصحف التي كانت لإبراهيم وغيره، وعلمه تأويل تلك الصحف والأحاديث.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق حين أراد ذبح ابنه، فجعل مكانه كبشا؛ فعلى ذلك يتم نعمته عليك، ويسجد لك إخوتك وأبويك.
ثم من الناس من استدل بهذا أن الذبيح كان إسحاق؛ لأنه ذكر إتمام نعمته على إبراهيم وإسحاق.
ودل قوله: (وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ) على أنه قد اجتباهم بالنبوة من بعد - أعني: أولاد يعقوب - لأن ولده من آله، وقد أخبر أنه يجتبيهم ويتم نعمته عليهم؛ كما فعل بأبويه: إبراهيم وإسحاق، وكذلك روي عن الحسن أنه قال في إخوة يوسف: نبئوا بعد ما صنعوا بيوسف ما صنعوا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: تأويل الأحاديث: العلم والكلام.
قال: وكان يوسف أعبر الناس، وهو ما قال اللَّه - تعالى -: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) بما صنع به إخوته، أو عليم بما ذكر من التمام، (حَكِيمٌ): وضع كل شيء موضعه، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (٩) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (١٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ).
ثم يحتمل قوله: (آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ): السائلين الذين سألوا؛ على ما ذكر في بعض القصة أن اليهود سألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن أمر يوسف ونبيه، فأخبرهم بالحق في ذلك على ما كان، فهو آية لهم إن ثبت ذلك.
ويحتمل قوله: (آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ): السائلين الذين يسألون من بعد إلى آخر الدهر عن نبأ يوسف، كل من سأل عن خبره ونبيه فهو آية لهم.
ثم وجه جعله آية يحتمل وجوهًا:
أحدها: أنه جعل قصة يوسف ونبأه سورة، وتلك السورة هي آيات الكتاب؛ على ما ذكر: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)؛ جعل قصة يوسف ونبأه، آيات من الكتاب.
ويحتمل -أيضًا- أنه جعل آية؛ أي: حجة لنبوة رسوله ورسالته؛ لأن قصته ونبأه كان في كتبهم بغير لسانه من غير ترجمة أحد منهم ولا تعليم، ثم أخبرهم على ما كان في كتبهم من غير زيادة ولا نقصان دل أنه أنما علمه باللَّه - تعالى - لا أنه أخذه من كتبهم، وهو ما ذكر في القصة أن اليهود سمعوا النبي يقرأ سورة يوسف، فقالوا: يا مُحَمَّد، من علمكها؟ قال: " اللَّه علمنيها " فعجبوا من قراءته إياها على ما كانت في كتبهم؛ دل أنه إنما عرفها باللَّه تعالى.
ثم يحتمل أن يكون آية لمن سأل عن حجة رسالته، أو هو آية لمن سأل عنها، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨)
في الآية دلالة أن لا بأس للرجل أن يخص بعض ولده بالعطف عليه والميل إليه، إذا كان فيه معنى ليس ذلك في غيره؛ ولهذا قال أصحابنا: إنه لا بأس للرجل أن يخص بعض ولده بالهبة له أو الصدقة عليه إذا لم يقصد بها الجور على غيرهم من الأولاد.
ثم يحتمل تخصيص يعقوب يوسف وأخاه بالحب لهما وجوهًا:
أو كان ذلك منه لهما لصغرهما، وهذا -أيضًا- معروف في الناس أن الصغار من الأولاد يكونون عندهم أحب، وقلوبهم إليهم أميل، وعليهم أعطف، ولهم أرحم من الكبار منهم.
أو خصهما بذلك لفضل خصوصية كانت لهما إما من جهة الدِّين، أو العلم، أو غيره، أمره اللَّه بذلك لذلك من دون غيرهما.
أو لما بشر يعقوب بنبوة يوسف، فكان يفضله على سائر أولاده، ويؤثره عليهم لذلك.
وإنَّمَا قالوا: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا) بآثار تظهر عندهم، وإلا حقيقة المحبة لا تعرف.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ).
قيل: العصبة: الجماعة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: العصبة من عشرة إلى أربعين، والعصبة: الجماعة، أي: نحن جماعة ولنا منعة؛ ولهذا قال أصحابنا: إن التسعة مع الإمام تكون منعة يستوجبون ما تستوجب السرية إذا دخلت دار الحرب، فغنمت غنائم يخمس منها.
وقوله: (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
لم يعنوا ضلال الدِّين؛ إنما قالوا ذلك - واللَّه أعلم - إنا جماعة تقدر على دفع من يروم الضرر به، ويقصد قصد الشر بنفسه وماله، ونحن أولو قوة، بنا يقوم معاشه وأسبابه، فكيف يؤثر هَؤُلَاءِ علينا؟! وكذلك قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)، لم يرد به ضلال الدِّين، ولكن وجهًا آخر، وقالوا ذلك؛ لما كانت له منافع من أنفسهم لم تكن تلك المنافع من يوسف وأخيه، وأبدًا إنما يؤثر المرء حب من له منافع من قبله، لا حبّ من لا منفعة له منه، فهو فيه في ضلال مبين؛ حيث يؤثر حب من لا منفعة له منه على حب من كانت له منه منافع وأمثاله، واللَّه أعلم.
وقولهم: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (٩)
لا يحتمل أن يكونوا عزموا على قتله، ولكن على المشاورة فيما بينهم: نفعل ذا أو ذا؛
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ).
أي: يقبل عليكم أبوكم بوجهه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: يفرغ لكم من الشغل بيوسف.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ).
يحتمل: (صَالِحِينَ)، أي: تائبين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: تكونوا صالحين عند أبيكم من بعده.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يصلح أمركم وحالكم عند أبيكم بعد ذهاب يوسف.
وجائز أن تكونوا قوفا صالحين في الآخرة، وقالوا: إنهم تابوا قبل أن يزلوا ويعصوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (١٠)
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يعني: في قعر البئر، والغيابة: ما يغيبه ويواريه، والجب: البئر، والجباب جمع.
وقال أبو عبيدة: الغيابة: كل شيء غيب عنك شيئًا فهو غيابة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ).
أي: يرفعه بعض السيارة؛ ولذلك يقال للطائر: يلتقط الحب، ويلقط؛ أي: يرفع.
(إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ): إن كنتم لا بد فاعلين أن تغيبوه عنه.
وأما قول أهل التأويل إن قوله: (لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) قاله فلان أو فلان، فذلك مما لا نعرفه، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، واللَّه أعلم.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: السيارة أصلها من السير، هو مثل المسافر، وهي القافلة؛ يعني: العير.
وقيل: الجب: الركية التي لم تطو بالحجارة، فإذا طويت فليس بجب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ).
دل قوله؛ (مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) على أنهم قد طلبوا إخراجه من أبيهم غير مرة؛ لأن مثل هذا الكلام لا يتكلم به مبتدأ على غير مسابقة شيء من أمثاله، فدل أنهم قد استأذنوه في إخراجه غير مرة.
(وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ).
الناصح: هو الدال على ما به نجاته، أو الدال على كل خير، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (١٢)
كأن يعقوب صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ خاف على نفسه - أعني: يوسف - الضيعة بتركهم حفظه، فأمنوه على ذلك بقولهم: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
وخاف عليه الضياع من جهة الجوع بتركهم حفظه أوقات الأكل فأمنوه على ذلك بقولهم: (يَرْتَعْ) أي: يأكل.
وخاف قلبه أن يكلفوه أمرًا يشق عليه ويشتد، فأمنوه أيضًا على ذلك، بقولهم (وَيَلْعَبْ) لأنه ليس في اللعب مشقة ولا شدة، فخاف عليه الضياع بالوجوه التي ذكرنا، فأمنوه على تلك الوجوه كلها حتى استنقذوه من يديه.
وقوله: (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: يرتع: يأكل، ويلعب: يلهو كأنه خرج جوابًا لقوله: (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ)، قالوا له: لا تحزن عليه فإنه برتع ويلعب؛ على التقديم والتأخير.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يرتع: ينشط، ويلعب: يتلهى.
وقوله تعالى :( يرتع ويلعب ) [ قال بعضهم :( يرتع ) يأكل ( يلعب ) يلهو ][ في الأصل يله، ساقطة من م ] كأنه خرج جوابا [ لقوله ][ ساقطة من الأصل وم ] ( قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ )[ يوسف : ١٣ ] قالوا له لا تحزن عليه فإنه يرتع، و يلعب، على التقديم والتأخير. وقال بعضهم :( يرتع ) ينبسط[ في م : ينشط ] ( ويلعب )[ يتله وقرئ بالنون ][ معجم القراءات القرآنية ج٣/١٥٢ ] ( نرتع ونلعب ) قال القتبي : نرتع أي نأكل ؛ يقال رتعت الإبل إذا رعت، وارتعتها إذا تركتها ترعى. ويقرأ نرتعِ بكسر العين والمراد منه أن نتحارس ويرعى بعضنا بعضا، أي نحفظه، ومنه يقال : رعاك الله أي حفظك الله، وقالوا ( ويلعب ) فيما يحل ويسع من نحو الاستباق وغيره، وهو ما ذكروا ( إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا )[ الآية : ١٧ ] واللعب في مثل هذا يحل.
وقد روي أيضا في الخبر أيضا أنه قال :«لا يحل اللعب إلا في ثلاث : معالجة الرجل فرسه، أو قوسه وملاعبة الرجل امرأته »[ بنحوه الترمذي١٦٣٧ ] أخبر أنه لا يحل إلا ثلاث.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: نرتع، أي: نأكل؛ يقال: رتعت الإبل: إذا رعت، وارتعتها: إذا تركتها ترعى، ويقرأ نرتع، بكسر العين، والمراد منه أن نتحارس ويرعى بعضنا بعضًا؛ أي: يحفظه، ومنه يقال: رعاك اللَّه؛ أي: حفظك اللَّه.
وقوله: (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) قالوا: يلعب فيما يحل ويسع من نحو الاستباق وغيره، وهو ما ذكروا: (إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَ)، واللعب في مثل هذا يحل، وقد روي -أيضًا- في الخبر أنه قال: " لا يحل اللعب إلا في ثلاث " وفيه: " معالجة الرجل فرسه أو قوسه، وملاعبة الرجل امرأته "، أخبر أنه لا يحل إلا ثلاث؛ واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (١٣)
قال: إني ليحزنني، عند الواقع به والغائب عنه من النعمة التي أنعمها عليه؛ لأنه كان نعمة عظيمة له فات النظر إليه، فذكر الحزن على ما فات عنه، وذكر الخوف لما خاف وقوعه في وقت يأتي وما سيقع؛ فهذا تفسير قوله: (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، لا يحزنون؛ لأنه موجود للحال، غير فائت (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)، أي: لا يخافون فوته؛ لأن خوف فوت النعمة [ينغص] على صاحبه النعمة، فآمنهم على ذلك، وهو ما ذكرنا أن الحزن يكون بالواقع للحال، والخوف على ما سيقع، واللَّه أعلم.
قال بعض أهل التأويل: كان يعقوب - عليه السلام - رأى في المنام أن يوسف أخذه الذئب، فمن ثمة قال: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)، لكن هذا لا يحتمل؛ لأنّ رؤيا الأنبياء أكثرها أصدق وحق، فلا يحتمل أن رأى ذلك ثم يقول: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) أو يدعه يذهب معهم، لكنه خاف عليه أكل الذئب على ما يخاف على الصبيان في المفاوز والبراري؛ إذ الخوف على الصبيان في المفاوز والبراري والضياع عليهم يكون بالذئب أكثر من أي وجه آخر؛ لأنه جائز أن يفترسه سبع من السباع عند مغافصته إخوته واشتغالهم بما ذكر من الاستباق، ولا يحتمل الضياع من الناس يأخذه واحد من بين نفر.
وقال بعض أهل التأويل: إن قوله: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) كناية عن بنيه؛ أي: أخاف أن تهلكوه وتضيعوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ... (١٤)
أولو قوة.
(إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ).
تأويله - واللَّه أعلم -: لئن أكله الذئب ونحن عصبة؛ أي: جماعة (إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ) أي: كأنا نحن سلمناه إلى الذئب، وعرضناه للضياع؛ هذا - واللَّه أعلم - معنى الخسران الذي ذكروا، وإلا لم يلحقهم الخسران إذا أكله الذئب؛ لأنه إذا كان بهم قوة المنع فلم يمنعوه فكأنهم ضيعوه.
* * *
قوله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (١٧) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ): غيابة الجب، قد ذكرناه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).
يحتمل قوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ): وحي نبوة، أو وحي بشارة النجاة من ذلك الجب، أو
وقوله تعالى :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يحتمل قوله :( وأوحينا إليه ) وحي نبوة أو وحي بشارة النجاة من ذلك الجب أو بشارة الملك له والعز.
ثم قوله تعالى :( لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) هو قول يوسف حين[ في الأصل وم : حيث ] قال لهم :( قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ) الآية[ الآية : ٨٩ ] ( قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي )[ يوسف : الآية ] هذا الذي نبأهم يوسف ( وهم لا يشعرون ) بذلك.
ويشبه أن يكون قوله :( وأوحينا إليه ) أي إلى يعقوب ( لتنبئنهم بأمره هذا وهم لا يشعرون ) هو ما قاله لهم :( يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ) الآية [ الآية : ٨٧ ] أمرهم أن يطلبوه ويتحسسوا من أمره ؛ كأنه علم أنه حي كقوله :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُون ) أنه حي.
ألا ترى أنه قال :( إني لأجد ريح يوسف ) ؟ [ الآية : ٩٤ ] ولهذا قال حين ألقي الثوب على وجهه، وارتد بصيرا :( وأعلم من الله ما لا تعلمون )[ الآية : ٨٦ ] وذلك تأويل قوله :( وهم لا يشعرون ) إن كانت الآية في يعقوب، وإن كانت في يوسف فهو ما ذكرناه والله أعلم.
ثم قوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو قول يوسف حيث قال لهم: (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ...) الآية، (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي)، هذا الذي نبأهم يوسف وهم لا يشعرون بذلك.
ويشبه أن يكون قوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ) أي: إلى يعقوب (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، ويكون قوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) هو ما قال لهم: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ...) الآية، أمرهم أن يطلبوه ويتحسسوا من أمره؛ كأنه علم أنه حي؛ كقوله: ، (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) أنه حي؛ ألا ترى أنه قال: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ)، ولهذا قال حين ألقى الثوب على وجهه فارتد بصيرًا: (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) وذلك تأويل قوله: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) إن كانت الآية في يعقوب، وإن كانت في يوسف فهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦)
في الآية دلائل:
أحدها: أن من ارتكب صغيرة فإنه يخاف عليه التعذيب، ولا يصير كافرًا، ومن ارتكب كبيرة لم يخرج من الإيمان؛ لأن إخوة يوسف هموا بقتل يوسف، أو طرحه في الجب، والتغييب عن وجه أبيه، وإخلائه عنه، وذلك لا يخلو منهم: إما أن تكون صغيرة أو كبيرة:
فإن كانت صغيرة فقد استغفروا عليها بقولهم: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا...) الآية؛ دل أنهم إنما استغفروا لما خافوا العذاب عليها.
وإِن كانت كبيرة فلم يخرجوا من الإيمان؛ حيث صاروا أنبياء من بعد وصاروا قومًا صالحين؛ حيث قالوا: (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ).
دل ما ذكرنا على نقض قول المعتزلة في صاحب الصغيرة أن لا تعذيب عليه، وصاحب الكبيرة أنه خرج من الإيمان، ونقض قول الخوارج في قولهم: إنه إذا ارتكب كبيرة أو صغيرة صار به كافرًا مشركًا.
فَإِنْ قِيلَ: روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ثلاث من علامات النفاق: من إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف، " فكيف يوفق بين الآية والخير؟! إذ هو لا يحتمل النسخ؛ لأنه خبر، والخبر لا يحتمل النسخ.
قيل يشبه أن يكون هذا في قوم خاص من الكفرة اؤتمنوا بما أودع في التوراة من نعت مُحَمَّد، فغيروه، ووعدوا أن يبينوه، فأخلفوا وكتموه، وحدثوا أنهم بينوه، فكذبوا، أو يصير منافقًا بما ذكر، إذا كان ذلك في أمر الدِّين، وأما في غيره: فإنه لا يصير به منافقًا، ولا يكون ذلك من أعلام المنافق، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (١٧)
هذا القول منهم له في الظاهر عظيم؛ لأنهم قالوا: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)، ولا يحتمل أن يكونوا عنده صدقة ثم يكذبهم، يكون نبي من الأنبياء يعلم صدق إنسان ثم لا يصدقه؛ هذا بعيد، لكن يحتمل قولهم: وما أنت بمؤمن لنا في هذا ولو كنا صادقين عندك من قبل في غير هذا.
أو يكون قوله: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا)، أي: تتهمنا ولا تصدقنا؛ لأنه اتهمهم؛ حيث قال: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) فاعترضت له التهمة، وليس في الاتهام تكذيب؛ إنما فيه الوقف؛ لأن من اشْمن آخر في شيء ثم اتهمه فيه، لا يكون في اتهامه إياه تكذيبه؛ فعلى ذلك قولهم: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا)، أي: تتهمنا لما سبقت من التهمة ولو كنا صادقين
فَإِنْ قِيلَ في قوله: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ): كيف خاف ذلك وقد قال له يعقوب: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ...) أنبأه أنه يجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث ويتم عليه نعمته، فكيف خاف عليه أكل الذئب والضياع، وذلك لا يحتمل أن يقول له إلا بعلم من الله والوحي إليه؟
قيل: يحتمل أن يكون ما ذكر على شرط الخوف أنه يخاف مما ذكر فيكون له ما قال من الاجتباء، وتعليم الأحاديث، وإتمام النعمة عليه.
أو خاف ذلك على ما خافوا جميعًا على ما هم عليه من الدِّين وإن عصموا عما خافوا جميعًا؛ حيث قال إبراهيم: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) ومعلوم أن إبراهيم لا يعبد الأصنام، وقال يوسف: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، وأمثاله، وهو ما ذكرنا في غير موضع أن العصمة لا تزيل الخوف، ولا تؤمن عن ارتكاب مضاداته؛ بل يزيد الخوف على ذلك الأخيار والأبرار؛ كان خوفهم وإشفاقهم على دينهم أكثر من غيرهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: نشتد إلى الصيد.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (نَسْتَبِقُ) هذا من السباق؛ أي: يعدون حتى ينظروا أيّهم يسبق؛ أي: يتقدم من صاحبه ويغلبه في العدو.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (نَسْتَبِقُ)، أي: ننتضل، يسابق بعضنا بعضا في الرمي؛ يقال: سابقته فسبقته، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١٨)
الدم لا يكون كذبًا، لكنه - واللَّه أعلم - جاءوا على قميصه بدم قد كذبوا فيه أنه دم يوسف وأن الذئب أكله، ولم يكن.
ثم قال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ).
أي: زينت لكم أنفسكم. والتسويل: هو التزيين في اللغة؛ وتأويله - واللَّه أعلم - أي: زينت لكم أنفسكم ودعتكم إلى أمر تفصلون وتفرقون به بيني وبين ابني.
لكنا لا نعلم ما ذلك الأمر الذي زينت أنفسهم لهم، ويشبه أن يكون ذلك قوله: (يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) يحتمل وجهين:
يحتمل: صبر لا جزع فيه، جميل نرضى بما ابتلينا به؛ لأن الصبر هو كف النفس عن الجزع.
والثاني: صبر جميل: كف النفس عن الجزع، وجميل: لا مكافأة فيه؛ لأنهم بما فعلوا بيوسف كانوا مستوجبين للمكافأة.
فقال: (فَصَبْرٌ) كف النفس عن الجزع بذلك، وجميل لا مكافأة فيه. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ...) الآية؛ أي: وباللَّه أستعين على الصبر بما تصفون.
أو يقول: إني به أستعين على ما تقولون من الكذب حين تزعمون أن الذئب أكله ونحوه.
* * *
قوله تعالى: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢١)
وقوله: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ).
السيارة: هي جماعة السائرين كالمسافرين.
الوارد: هو طالب الماء ومستقيه.
(فَأَدْلَى دَلْوَهُ).
أي: أرسل دلوه في البئر.
وقوله: (قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: بشرى هو اسم ذلك الرجل الذي كان مع المدلي الدلو، فقال له: (يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ)؛ كما يقال: يا فلان، هذا غلام.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من البشارة؛ كأنه قال له: أبشر بهذا الغلام.
وفي بعض القراءات: (يَا بُشْرَايَ) على الإضافة إلى نفسه؛ فكأنه بشر نفسه؛ أي: البشرى لي بهذا الغلام.
ويشبه أن يكون هذا كناية كلام كان هنالك، لكن لم يبين لنا ذلك، واللَّه أعلم بذلك؛ كقوله: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أخبر أنه أقسم؛ لكن لم أيبين لنا، ما ذلك القسم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً).
قَالَ بَعْضُهُمْ: الإسرار: هو اسم الإخفاء والإظهار جميعًا؛ كقوله: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ)، أي: أظهروا الندامة، فإن كان ما ذكر أنه اسم لهما جميعًا فكأنه قال: أظهروه بضاعة؛ فإنا كان على حقيقة الإخفاء والإسرار فهو على الإضمار؛ كأنه قال: وأسروا على ما كان وأظهروا بضاعة لئلا يطلب أصحابهم في ذلك شركة.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).
أي: عليم بما عمل إخوة يوسف بيوسف، أو عليم بما عمل السيارة من الإسرار والإظهار، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) أي: باعوه بثمن بخس (دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: البخس: هو النقصان؛ أي: باعوه بثمن لا يباع مثله بمثله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: البخس هو الظلم؛ باعوه ظلمًا، وأخذوا ثمنه ظلمًا؛ لأنهم
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ) أي: دراهم مبهرجة وزيف.
(وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)
أي: كانت السيارة في يوسف من الزاهدين؛ حيث باعوه بثمن الدون والنقصان بما لا يباع مثله بمثل ذلك الثمن؛ خشية أن يجيئهم طالب؛ لما علموا أن مثل هذا لو كان مملوكًا لا يترك هكذا لا يطلب، فباعوه بأدنى ثمن يكون لهم، لا كما يبيع الرجل ملكه على رغبة منه؛ خشية الطلب والاستنقاذ من أيديهم.
وقال عامة أهل التأويل: قوله: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ): إن إخوة يوسف هم الذين باعوه من السيارة (بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)، أي: لم يعرفوا منزلته ومكانه.
والأول أشبه.
وقوله: (وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ).
أي: كانوا في شرائه من الزاهدين؛ لما خافوا ذهاب الثمن إن كان مسروقًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ... (٢١)
أي: مقامه ومنزلته.
(عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا).
إن صدق التجار أنه بضاعة عندهم. (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا).
إن ظهر أنه مسروق، وأنه حر؛ لما وقع عندهم أن البضاعة لا تباع بمثل ذلك الثمن الذي باعوه.
وقوله: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) تأويله - واللَّه أعلم -: كما مكنا ليوسف عند العزيز وامرأته كذلك نمكنك عند أهل الأرض، ولكن ذكر (مَكَّنَّا) على الخبر؛ لأنه كان ممكنًا في ذلك اليوم عند العزيز والملك.
ويشبه أن يكون قوله: (مَكَّنَّا)، أي: كذلك جعلنا ليوسف مكانًا ومنزلة عند الناس، وفي قلوبهم مكان ما خذله إخوته، ولم يعرفوا مكانه ومنزلته وبعد ما كان شبه المملوك عند أُولَئِكَ، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ).
أي: لا مردَّ لقضائه إذا قضى أمرًا كان كقوله، (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) وقال أهل التأويل: إنه بيع بعشرين درهمًا أو بعشرين ونيف؛ فذلك مما لا يعلم إلا بخبر سوى أن فيه أنه بيع بثمن الدون والنقصان بقوله: (بَخْسٍ) والبخس هو النقصان؛ يقال: بخسته؛ أي: نقصته؛ كقوله: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) أي: لا تنقصوا، وهو ما قال: (وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ).
وقيل: البخس: الظلم والحرام، وقد ذكرناه، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (٢٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) الأشد: هو اشتداد كل شيء ونهاية كل نوع في الكمال يحتمل أشده: انتهاء بلوغه أو انتهاء شبابه، أو انتهاء عقله في التمام؛ لا يخلو من هذه الوجوه الثلاثة.
وقول أهل التأويل: من ثماني عشرة سنة إلى أربعين؛ لأنه به يتم ويكمل كل نوع من ذلك إلى ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا).
يحتمل قوله: حكمًا: الحكم بين الناس، والعلم: في الحكم.
أو أن يكون إذا أعطاه الحكم أعطاه العلم، وإذا أعطاه العلم أعطاه الحكم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
يحتمل: الإحسان في الأعمال؛ أي: عمل أعمالا حسنة صالحة.
ويحتمل: الإحسان إلى الناس؛ أي: أحسن إليهم، أو أحسن إلى نفسه؛ لا يخلو من هذه الأوجه الثلاثة.
أو أن يكون قوله: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي: كذلك نجزي من أحسن صحبة نعم اللَّه وإحسانه، وقام بشكر ذلك كذلك؛ أي: مثل الذي جزى يوسف لا يريد أنه يجزي غيره عين ما جزى يوسف، ولكن يجزيه جزاء الإحسان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
دل قوله: (فِي بَيْتِهَا) أن البيت قد يجوز أن يضاف إلى المرأة، وإن كان البيت في الحقيقة لزوجها؛ على ما أضاف بيت زوجها إليها.
وقوله: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ) المراودة: قيل: هي الدعوة والطلبة، راودته، أي: دعته إلى نفسها.
وقال أهل التأويل: (وَرَاوَدَتْهُ) أي: أرادته.
(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ).
قيل: إن هذه كلمة أخذت مرت الكتب المتقدمة، ليست بعربية، ونحن لا نعرف ما [أرادت] بها، لكن أهل التأويل قَالَ بَعْضُهُمْ: هلم لك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: تهيأت لك.
(قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ).
أي: أعوذ باللَّه وألجأ إليه.
(إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ).
قال أهل التأويل: (رَبِّي) أي: سيدي الذي اشتراه (أَحْسَنَ مَثْوَايَ) أي: أكرم مقامي ومكاني؛ دليله: قوله لزوجته: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ)، هذا يدل أن قوله: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) أي: أحسني مثواه، ولكن يشبه أن يكون أراد بقوله: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) ربه الذي خلقه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) بظلمهم وقت ظلمهم، والمثوى: الموضع الذي يثوى فيه، والثواء: المقام، والثاوى: المقيم، و (مَعَاذَ اللَّهِ) قيل: أعوذ باللَّه، وألجأ إليه، وأتحصن به.
أو: لا يفلح الظالمون: إذا ختموا بالظلم، وأما إذا انقلعوا عنه فقد أفلحوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)
أما ما قاله أهل التأويل إنها استلقت له (وَهَمَّ بِهَا) أي: حل سراويله، وأمثال هذا من الخرافات؛ فهذا كله مما لا يحل أن يقال فيه شيء من ذلك، والدلالة على فساد ذلك من وجوه:
والثاني: قوله: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ)، ولو كان شيء مما ذكروا من حل السراويل والجلوس بين رجليها، لم يكن السوء مصروفًا عنه.
والثالث: قوله: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)، ولو كان منه ما ذكروا لقد خانه بالغيب.
والرابع: قولها: (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ)، وقوله (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ).
هذا كله يدل أن ما قاله أهل التأويل فاسد، لا يحل أن يتكلم فيه بشيء من ذلك، وليس في ظاهر الآية شيء مما قالوا لا قليل ولا كثير؛ إذ ليس فيه سوى أن همت به وهم بها.
ثم تحتمل الآية وجوهًا عندنا:
أحدها: همت به: هم عزم، وهم بها هم خطر، ولا صنع للعبد فيما يخطر بالقلب، ولا مؤاخذة عليه، وهو قول الحسن.
والثاني: همت به همّ الإرادة والتمكن، وهم بها هم دفع، لكنه يدخل عليه قوله: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)، لو كان همه بها هم دفع لم يكن لقوله: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) معنى، لكنه يشبه أن يكون هم بها، أي: هم بقتلها، فإذا كان هم بقتلها فرأى برهان ربه فتركها لما لا يحل قتلها.
والثالث: كان يهم بها لولا أن رأى برهان ربه على الشرط؛ كان يهم بها لولا ما رأى من برهان ربه، وهو كقوله: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ)، لولا ما كان من تثبيتنا إياك، وكذلك يخرج قول إبراهيم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) أي: لو كان هو الذي ينطق لفعل هو.
ثم اختلف في قوله: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ): قال بعض أهل التأويل: رأى يعقوب عاضًّا على شفتيه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: رأى برهان ربه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: رأى آية من كتاب اللَّه: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً...).
هذا كله لا يدري.
وأصل البرهان: الحجة؛ أي: لولا ما رأى من حجة اللَّه، وإلا كان يهمّ بها، ولكن لا ندري ما تلك الحجّة، واللَّه أعلم بذلك.
والبرهان: هو الحجة والآية؛ لولا أن رأى حجة ربه، وبرهان ربه وآياته، أو الرسالة، ويشبه الحجة أي: النبوة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٥)
قَالَ بَعْضُهُمْ: استبقا الباب: استبقت هي لتغلق الأبواب، واستبق هو ليخرج ويفر.
لكن قوله: لتغلق الباب، لا يحتمل؛ لأن الأبواب كانت مغلقة بقوله: (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ)، ولكن استبقت هي لتحبسه وتمنعه، واستبق هو ليخرج ويهرب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ).
لما جرته لتحبسه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ).
أي: وجدا سيدها؛ هذا يدل أن قوله: (رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) لم يرد به العزيز الذي أشتراه، ولكن العزيز الذي خلقه؛ لأنه قال: (سَيِّدَهَا)، ولم يقل: سيدهما.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
هذا يدل أن الإرادة تكون مع الفعل؛ لأنها كانت لا تعلم إرادة ضميره، فإذا أخبرت عما عرفت من الميل وإظهار الفعل، وكذلك قول إخوة يوسف: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا)، وكانوا هم لا يعرفون ما في ضميره من الحبِّ سوى ما ظهر لهم منه من الميل
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦)
أي: دعتني، والمراودة قد ذكرنا أنها هي الدعوة؛ كقوله: (سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ) أي: سندعوه منه ونطلبه.
فَإِنْ قِيلَ: كيف هتك سترها بقوله: (رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي)؟
قيل: ليس فيه هتك الستر عليها؛ بل فيه نفي العيب والطعن عن نفسه، فالواجب على المرء أن ينفي العيب وما يشينه عن نفسه على ما فعل يوسف.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ) من كذا فهو كذا، وإن كان كذا فهو كذا من كذا.
قال بعض أهل التأويل: ذلك الشاهد هو ابن عم لها رجل حليم يقال كذا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: شق القميص من دبر هو الشاهد، وأمثاله؛ لكن هذا لا يعلم من كان ذلك الشاهد.
وقيل: صبي في المهد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
هذا لأن القميص إذا كان قد من قبل فهو إنما ينقد من دفعها إياه عن نفسها، وإذا كان القميص مقدودا من دبر فهو إنما ينقد من جرها إياه إلى نفسها، لا من دفعها إياه عن نفسها؛ هذا هو الظاهر في العرف؛ لذلك قال الشاهد: (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ) وكذا (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ...) الآية؛ استدل على أنه إنما تمزق من جرها إياه لا من دفعها عن نفسها، ففيه دلالة جواز العمل بالاجتهاد؛ لأن القميص في الغالب لا يتمزق من دبر إلا عن جر من وراء، ولا من قبل إلا عن دفع من قدام، لذلك دل على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وإن كان يجوز أن يكون في الحقيقة على غير ذلك، لكن نظر إلى الغالب.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ)، أي: شقت ومزقت، ومقدود: أي: مشقوق، من دبر: أي: من خلف، ومن قبل: أي: من قدام، وهو مأخوذ من القبل، من قبل المرأة.
وقوله: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ) ولم يقل: سيدهما؛ فهذا يدل على ما ذكرناه.
(لَدَا البَابا).
أي: عند الباب، وهو ظاهر؛ أي: وجدا سيدها عند الباب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨)
يشبه أن يكون كيدها أنها لما راودته عن نفسه وأمنته على إظهار ذلك وإفشائه عليه، فأفشت عليه ذلك؛ حيث أبى إجابتها، فقالت: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) ذلك القول منها من كيدهن، وأصل الكيد والمكر هو الأخذ على الأمن، واللَّه أعلم.
وفي الآية دلائل لقول أصحابنا في المتاع يختلف فيه الزوجان: فإن كان من متاع الرجال فهو في يد الرجل، وإن كان من متاع النساء فهو في يد المرأة في قول أبي يوسف ومُحَمَّد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (٢٩)
يحتمل قوله: (أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)، أي. عن قوله: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي).
ويشبه أن يكون قوله: (أَعْرِضْ عَنْ هَذَا): عن جميع ما كان بينهما؛ أي: استر عليها، ولا تهتك عليها سترها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ).
قال ليوسف ذلك القائل: (أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)، وقال للمرأة: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)، لما ظهر عنده أنها هي التي راودته ودعته إلى نفسها.
ثم اختلف في قائل هذا القول؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: هو زوجها؛ قال ليوسف: أعرض عن هذا، ولا تهتك عليها سترها، لكنهم قالوا: إنه كان قليل الغيرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك القائل هو رجل آخر هو ابن عم لها؛ وهذا أشبه.
وقوله: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: قال هذا لها؛ لأنهم وإن كانوا يعبدون الأصنام فإنما يعبدونها ليقربوهم
وقوله تعالى :( واستغفري لذنبك ) قال ليوسف ذلك القائل :( أعرض عن هذا ) وقال للمرأة ( اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ ) لما ظهر عنده أنها هي التي راودته ودعته إلى[ في الأصل وم : في ] نفسها.
ثم اختلف في تأويل هذا القول : قال بعضهم : هو زوجها، قال ليوسف :( أعرض عن هذا ) ولا تهتك عليها سترها، لكنهم قالوا إنه كان قليل الغيرة.
وقال بعضهم : ذلك القائل هو رجل آخر هو ابن عم لها، وهذا أشبه.
وقوله تعالى :( وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِك ) قال بعضهم قال هذا لها : لأنهم، وإن كانوا يعبدون الأصنام فإنما[ من م، في الأصل : كأنما ] يعبدونها لتقربهم [ في الأصل وم : ليقربوهم ] إلى الله زلفى حين[ في الأصل وم : حيث ] قال لها :( واستغفري لذنبك ) وقال بعضهم من بعض أهل التأويل : قال[ في الأصل وم : قوله ] :( استغفري لذنبك ) إلى زوجك لأنك[ في الأصل وم : حيث ] خنته.
فإن كان التأويل هذا يدل أن القائل ذلك[ في الأصل وم : لذلك ] رجل آخر لا زوجها. وإن كان التأويل هو الأول فإنه يحتمل كليهما، أيهما كان، والله أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: قوله: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) أي: إلى زوجك حيث خنتيه، فإن كان التأويل هذا فذلك يدل أن القائل لذلك رجل آخر، لا زوجها.
فإن كان التأويل هو الأول فإنه يحتمل كليهما أنهما كان، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ).
يشبه أن تكون استكتمت سرها عند نسوة في المدينة، فأفشين سرها عند أهل المدينة، ليبلغ ذلك الخبر الملك.
أو أن لم تكن أعلمت تلك النسوة، فلابدّ من أن يعلم ذلك بعض خدمها؛ فالخادم أعلمت سرها وأفشته عند نسوة في المدينة، فقلن عند ذلك: (تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ) أي: تدعو عبدها إلى نفسها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: الشغاف: هو حجاب القلب وغلافه، (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) أي: بلغ حبها إياه الشغاف، ومنه يقال: مشغوف.
والمشغوف: قيل: المجنون حبًّا، وهو من العشق.
قال الحسن: الشغف: أن يكون قد بطن لها حبه، والشغف: أن يكون مشغوفًا به.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (شَغَفَهَا حُبًّا) أي: دخل الحبُّ في شغاف القلب، وهو غطاؤه.
وقال: من قرأها (شَغَفَهَا) أي: ذهب بعقلها؛ أي: عشقها.
لكن هذا قول أُولَئِكَ النسوة، فلا ندري ما أردن بذلك، إنما ذلك خبر أخبر عن قول
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
حيث خانت زوجها.
أو (فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، أي: في حيرة من حبه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ... (٣١)
أي: بقولهن المكر: هو الأخذ في حال الأمن، وهو الخيانة فيما اؤتمن واستكتم؛ فهذه كأنها استكتمت سرّها وحبها ليوسف عن الناس، وأفشت ذلك لنسوة في المدينة، على أن يستكتمن عن الناس، فأفشين عليها ذلك؛ فذلك المكر الذي سمعت، والله أعلم.
إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل.
وأمكن أن تكون المرأة لم تفش سرها إليهن، لكن بعض خدمها التي اطلعت على ذلك هي التي أفشت إليهن، فأفشين هن ذلك، فلما سمعت ذلك منهن أرسلت إليهن: إما تنويشا ودعاء للضيافة، وإما استزارة يزرنها، وأما قول أهل التأويل: إن النسوة كانت امرأة الخباز والساقي؛ ولا أدري من ماذا، فذلك لا نعلمه، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) قال الحسن: متكأ: طعامًا وشرابًا وتكأة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأترج والترنج.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: متكأ: وسائد وما يتكأ عليه.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: متكأً: ممدودًا؛ يعني: هيئات المجلس وما يتكأ عليه.
وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ؛ قال: ويقال: البزماورد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا).
أي: أعطت كل واحدة منهن سكينًا؛ ظاهر.
(وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ).
هاهنا كلام أن كيف أطاع يوسف بالخروج على النساء بقولها إياه: (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) فذلك مما لا يحل، لكنه يخرج على وجوه:
أحدها: أنه إنما يكره الدخول عليهن، والخلوة بهن، وأما الخروج عليهن فهو ليس بمكروه؛ إذ فيه الخروج منهن؛ لأنه إذا خرج عليهن كان يقدر أن يخرج منهن؛ فكأنه لما أذنت له بالخروج عليهن خرج رغبة أن يخرج من عندهن؛ إذ لم يكن ليقدر، أن يخرج من البيت عليهن بغير إذن منها؛ فالأمر بالخروج عليهن أفاد له إذنًا بالخروج من البيت؛ إذ لا سبيل له إلى الخروج منه بلا إذن له منها، فخرج عليهن ثمت من عندهن إلى غيره من المكان، وذلك مما لا يكره إذا كان مما لا سبيل إلى ما سواه.
ويشبه أن يكون منها الأمر بالخروج حسب إذا خرج ولم تقل عليهن، ولم يعلم يوسف أنها إنما تأمره بالخروج على النساء فخرج، لكن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر عن مقصودها، وكان مقصودها من الأمر بالخروج خروجًا عليهن، فأخبر عن مقصودها بقوله:
وجائز أن يكون قوله: (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ)، أي: عنهن، وذلك جائز في اللغة: (على) مكان (عن) كقوله: (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) أي: عن الناس، وأمثاله كثير.
وفي هذه الآية دلالة أن مشتري يوسف كان يمنع يوسف عن أن يخرج إلى البلد والسوق، ومن أن تخالطه الناس: إما إشفاقًا على نفسه، أو لئلا يفتن به النساء، أو لئلا يطلع على نفس يوسف؛ لما وقع عنده أنه مسروق، فكيفما كان ففيه: أن على المرء أن يحفظ ولده أو عبده إشفاقًا عليه.
وقوله: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ).
أي: أكبرنه وأعظمنه من حسنه أن يكون مثل هذا بشرًا؛ ألا ترى أنهن قلن: (حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)
وقوله: (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)؛ قيل: حزًّا بالسكين.
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).
(حَشَ لِلََّهِ): قال أهل التأويل: أي: معاذ اللَّه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (حَاشَ لِلَّهِ): كلمة تنزيه من القبيح، ودل هذا القول منهن أنهن كن يؤمِنَّ باللَّه؛ حيث قلن: (حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).
قوله: (مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).
كان الملك وإن لم يرونه حَسنًا عندهم، ينسبون كل حسن إلى الملائكة، والشيطان - لعنه اللَّه - عندهم قبيح؛ فنسبوا كل قبيح إليه.
وقوله: (بَشَرًا).
قرأه بعضهم: (بشرًى) بالتنوين، أي: ما هذا بمشترى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ).
أي: دعوته إلى نفسي فاستعصم؛ قيل: امتنع؛ كقوله: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي: لا مانع، ويشبه قوله: استعصم باللَّه أو بدينه أو نبوته أو بعقله، هذا يدّل على أنه لم يكن منه ما قال أهل التأويل من حَلّ السراويل ونحوه؛ حيث قالت: (فَاسْتَعْصَمَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ).
قالت ذلك امرأة العزيز.
(لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ).
يشبه أن يكون قولها: ليسجنن وليكونن في السجن من الصاغرين، أو ليسجنن وليكونن من المذَلّين الصاغرين: هو: الذليل لأنه قال لامرأته: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ)، فكان مكرمًا عندها معظمًا؛ فلما أبي ما راودته فقالت: (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي: من الذليلين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣)
فيه دلالة أنه قد كان منهن من المراودة والدعاء ما كان من امرأة العزيز من المراودة والدعاء إلى نفسها؛ حيث قال: (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)؛ ألا ترى أنه قال في موضع آخر: (مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ)، وكذلك قالت امرأة العزيز: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي: كنتن لمتنني فيه أني راودته عن نفسه؛ وأنتن قد راودتنّه عن نفسه.
وقول يوسف: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ).
أي: ذلك الذل والصغار أَحَبُّ إِلَيَّ، أي: آثَر عندي وأخير في الدِّين مما يدعونني إليه؛ وإن كان ما يدعونه إليه تهواه نفسه وتميل إليه وتحبه؛ فأخبر أن السجن أحبّ إليه، أي: آثر وأخير في الدِّين، إذ النفس تكره السجن وتنفر عنه، ألا ترى أنه قال: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)؟! فهذا يدل على أن ما قال: (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا
وفي قوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) دلالة على أن عند اللَّه لطفًا لم يكن أعطى يوسف ذلك؛ إذ لو كان أعطاه لكان كيدهن وشرهن مصروفًا عنه؛ حيث قال: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ) ولو كان أعطي ذلك لم يكن لسؤاله ذلك معنى، فهذا ينقض على المعتزلة قولهم، حيث قالوا: إن اللَّه قد أعطى كلا قدرة كل طاعة وقوة كل خير والدفع عن كل شر، وقوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ) أي: لا أحد يملك صرف كيدهن عني لو لم تصرفه أنت، وكذلك قوله: (وَإلا تَغفِر لِي وَتَرْحَمْنِي) وهو أبلغ في الدعاء من قوله: اللهم اغفر لي وارحمني.
وقوله: (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أمل إليهن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قال: لو لم تصرف عني كيدهن لأتابعهن.
ويقال: الصبو: هو الخروج عن الأمر؛ يقال: كل مَنْ خرج عن دينه فقد صبا.
وبهذا كان المشركون يُسَمون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: صابئا، أي: خرج مما نحن عليه.
وقال أبو بكر الأصم: الأصب: هو الأمر المعجب.
وقوله: (وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
أي: يكون فِعْلي فعْل الجهَّال لا فِعل العلماء والحكماء، إن لم تصرف عنى كيدهن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)
هذا يدل على أن الدعاء كان في قوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ)، ليس في قوله: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، إنما هو خبر أخبره؛ حيث أخبر أنه أجاب له ربه فصرف عنه كيدهن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
السميع لكل قول وكلام؛ خَفِيًّا كان على الخلق أو ظاهرًا، العليم به؛ لا يخفى عليه شيء.
وفي قوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ)، (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ).
دلالة على أنهن كن يدعونه إلى ذلك من وجه كان يخفى عليه ولم يشعر به؛ فالتجأ إلى اللَّه في صرف ذلك عنه.
وقوله: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)
ذكر في بعض القصة أنها قالت لزوجها: ما زال يوسف يراودني عن نفسي فأبيت عليه فصدقها؛ فحبسه في السجن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ).
قال أهل التأويل: هو قَد القميص من دُبره وخمش الوجه وغيره، ولكنه يشبه أن يكون الآيات التي رأوها هي آيات نبوته ورسالته.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: حبسوه، لينفوا عن المرأة ما رميت به، ولينقطع ذلك عن الناس، ويموت ذلك الخبر ويذهب، فيه أنهم حبسوه بعد ما رأوا آيات عصمته وبراءته عما اتهموه، وأنهم ظلمة في حبسه. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)
قيل: عبدين للملك؛ غضب عليهما الملك.
(قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أرض يُدعى العنب بها خمرا، أو سمي خمرًا باسم سببه وباسم أصله، وجائز في اللغة تسمية الشيء باسم سببه وباسم أصله.
(وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا)
كان أحدهما خبازا للملك، والآخر ساقيه.
(نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
قَالَ بَعْضُهُمْ: إحسانه في السجن؛ لما كانوا رأوه يداوي المرضى، ويعزّي حزينهم، ويجتهد في نفسه في العبادة لربه. هذا يحتمل لعله كان يبرّ أهل السجن ويصلهم، ويجتهد في العبادة لله في الصلاة له والصوم، وأنواع العبادة التي تكون فيما بينه وبين ربه، فسمياه محسنًا لذلك.
ويشبه أن يكون قالوا: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) لما رأوا به سيما الخير وآثاره، أو يدعوهم إلى توحيد اللَّه والعبادة له، وخلعهم عن عبادة الأصنام والأوثان والانتزاع من ذلك، فسمياه محسنًا لذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ).
سمى التعبير: تأويلا؛ لأن التأويل: هو الإخبار عن العواقب؛ لذلك سموه تأويلا، ثم خرج تأويل الذي كان يعصر الخمر على العود إلى ما كان في أمره؛ من السقي للملك؛ وهو كان ساقيه؛ على ما ذكر، فلما رأى أنه دام على أمره، أول له بالعود إلى أمره الذي كان فيه. والآخر كان خبازًا؛ على ما ذكر، وهو إنما كان يخبز للناس، فلما رأى أنه حمل الخبز على رأسه، وأنه يأكل الطير - علم أنه يخرج من الأمر الذي كان فيه، وخروجه يكون بهلاكه؛ لأنه كان من قبل يخبز للناس، فصار يخبز لغيرهم؛ فاستدل بذلك على خروجه من أمره وعمله، لكنه أخبر أنه يصلب؛ لأنه كان قائمًا منتصبًا، فأول على ماى ن أمره. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧) هذا - واللَّه أعلم - كان يقول لهم ذلك؛ ليعرفهم أن عنده علم ذلك؛ علم ما لا يُحتاج إليه؛ فعلم ما يحتاج إليه أحرى أن يعلم ذلك، وهذا - واللَّه أعلم - منه احتيال؛ لينزعهم عما هم فيه من عبادة الأوثان، وعبادتهم غير اللَّه، وليرغبهم في توحيد اللَّه، وصرف العبادة إليه؛ ولهذا قال:
(ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)
هذا باللطف ما أضاف إليه أنه علمه، وإلا التعليم لا يكون إلا باختلاف الملائكة إليه، وذلك لطف من اللَّه تعالى للرسل عليهم السلام.
وقوله: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا).
تأويله - واللَّه أعلم - أي: لا يأتيكما طعام رأيتما آثار ذلك في المنام إلا نبأتكما بتأويل ذلك قبل أن يأتي ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).
أخبر أنه ترك: (مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...) الآية.
وقوله: (تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ليس أنه كان فيه ثم تركه، ولكن تركه ابتداء؛ ما لو لم يكن تركه كان آخذا بغيره؛ وهو كقوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ)، ليس أنها كانت موضوعة فرفعها، ولكن رفعها أول ما خلقها. وكذلك قوله: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا)
وكقوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، ليس أنهم كانوا فيها فأخرجهم، ولكن عصمهم حتى لم يدخلوا فيها. فعلى ذلك الأول. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ... (٣٨)
قال في الآية الأولى: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، وأخبر أنهم كافرون بالله واليوم الآخر، وفيه أن من لم يؤمن باللَّه واليوم الآخر، فهو كافر، فهذا ينقض على المعتزلة؛ حيث جعلوا بين الكفر والإيمان رتبة ثالثة، ويوسف يخبر أن من لم يؤمن بالله فهو كافر؛ وهم يقولون: صاحب الكبيرة غير مؤمن باللَّه، وهو ليس بكافر.
ثم أخبر أنه ترك ملة أُولَئِكَ الذين لا يؤمنون باللَّه، واتبع ملة آبائه إبراهيم ومن ذكر، ثم أخبر عن ملة آبائه وهو ما ذكر.
(مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)
عرفهم ملة آبائه ودينهم؛ وهو على ترك الإشراك باللَّه، وجعل الألوهية له، وصرف العبادة إليه. وفيه: أن الملة ليست إلا ملتين: ملة كفر، وملة إسلام. وأخبر أن من لم يكن في ملة الإسلام كان في ملة الكفر. ثم خص بذكر هَؤُلَاءِ: إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأن هَؤُلَاءِ كانوا مكرمين عند الناس كافة، كل أهل الدِّين يدعون أنهم على دين أُولَئِكَ؛ فأخبر أنهم على دين الإسلام.
والحنيف: المخلص، ليس على ما تزعمون أنتم؛ ولهذا قال: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وفي قوله: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) دلالة أن الكفر كله ملة واحدة؛ حيث أخبر أنه ترك ملة قوم لا يؤمنون على اخثلاف مذاهبهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ).
أي: ذلك الدِّين والملة التي أنا عليها وآبائي من فضل اللَّه علينا وعلى الناس؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - فطر الناس على فطرة؛ يعرفون وحدانية اللَّه وربوبيته بعقول ركبت فيهم؛ ولكن أكثر الناس لا يشكرون فضل اللَّه وما ركب فيهم من العقول، أو ذلك الدِّين والهداية الذي أعطاهم من فضل اللَّه؛ لكن أكثر الناس يتركون ذلك الدِّين وتلك الهداية، واللَّه أعلم.
والثاني: يخبر أن الواحد القهار يقهر غيره من الأرباب ومن تعبدون؛ فعبادة الواحد القهار خير من عبادة عدد مقهورين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٤٠)
من الأصنام والأوثان.
(إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا).
آلهة.
(أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ).
ولا يستحقون العبادة ولا التسمية بالألوهية؛ إنما المستحق لذلك: الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض.
(مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ).
أي: ما أنزل اللَّه على ما عبدتموهم وسميتم أنتم وآباؤكم آلهة من حجة ولا برهان.
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ).
أي: ما الحكم - في الألوهية والربوبية والعبادة - إلا لله ليس كما تقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، يقول: ما الحكم في العبادة والألوهية إلا لله.
أو يقول: ما الحكم في الخلق إلا لله؛ كقوله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)، أي: له الخلق وله الأمر في الخلق.
و (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).
حكمه هذا: أمر ألا تعبدوا إلا إياه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).
وقوله تعالى :][ في الأصل وم : ولا برهان ] ( عن الحكم إلا لله ) أي ما الحكم في الألوهية والربوبية والعبادة إلا لله.
أو يقول : ما الحكم في الخلق إلا لله كقوله :( ألا له الخلق والأمر )[ الأعراف : ٥٤ ] أي له الخلق، وله الأمر في الخلق. وأمر ألا تعبدوا إلا إياه. حكمه هذا أمر ألا تعبدوا إلا إياه.
وقوله تعالى :( ذلك الدين القيم ) أي عبادة الله وتوحيده هو الدين القيم ؛ لأنه دين قام عليه الحجة والبرهان. وأما سائر الأديان فليست بقيمة ؛ إذ لا حجة قامت عليها، ولا برهان. والقيم هو القائم الذي قام بحجة وبرهان. وقال أهل التأويل : القيم المستقيم.
وقوله تعالى :( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) يحتمل ( لا يعلمون ) لما [ لم ][ من م، ساقطة من الأصل ] يتفكروا فيه، ولم ينظروا، فلم يعلموا. ولو نظروا فيه وتفكروا، لعلموا. وهذا يدل أن العقوبة تلزم، وإن جهل، إن أمكن له العلم به، فلا عذر له في الجهل إذا[ في الأصل وم : إذ ] أمكن له العلم.
[ ويحتمل ][ في الأصل وم : أو ] : علموا، لكنهم لم ينتفعوا بعلمهم، فنفى عنهم العلم لذلك، والله أعلم.
والقيم: هو القائم الذي قام بحجة وبرهان، وقال أهل التأويل: القيم: المستقيم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
يحتمل: لا يعلمون؛ لما لم يتفكروا فيه ولم ينظروا؛ فلم يعلموا، ولو نظروا فيه وتفكروا لعلموا، وهذا يدل أن العقوبة تلزم - وإن جهل - إن أمكن له العلم به؛ فلا عذر له في الجهل إذا أمكن العلم به.
أو علموا لكنهم لم ينتفعوا بعلمهم؛ فنفى عنهم العلم لذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (٤١)
هو ما ذكرنا أنه تأول رؤيا الساقي، وعبرها على العود إلى ما كان يعمل من قبل؛ لما رأى أنه كان عمل على ما كان يعمل من قبل.
وعبر رؤيا الخبّاز بالهلاك؛ لما رأى أنه حمل الخبز على الرأس، والخبز إذا خبزه الخباز لا يحمله على رأسه؛ فرأى أنه قد انتهى أمره؛ إذ عمل على خلاف ما كان يعمل من قبل؛ فتأكل الطير من رأسه، فعبّر أنه يصلب وتأكل من رأسه لما رأى أنه حمل الخبز على رأسه؛ لما كان يخبز من قبل للعباد، فلما رأى أنه يخبز لغيره عبر أنه يهلك فتأكل الطير من رأسه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ).
قال بعض أهل التأويل: إنه لما عبر لهما رؤياهما، قال الذي عبر له الصلب والقتل: لم أر شيئًا؛ إنما كنا نلعب، فقال لهما يوسف: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) أي: فرغ وانتهى، لكن هذا لا يعلم: قالا ذلك أم لم يقولا، سوى أن فيه أنه عَبَّر رؤياهما، وكان ما عبَّر لهما، وقد علم ذلك بتعليم من اللَّه إياه؛ بقوله: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)
قَالَ بَعْضُهُمْ: ظن الذي صدق يوسف: أنه يسقي ربه، وأنه ناج.
ويحتمل على حقيقة الظن من يوسف؛ أي: وقال للذي ناج منهما ظن أنه يذكره عند ربه، وهو على التقديم والتأخير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ).
قال بعض أهل التأويل: إن يوسف لما فزع إلى غير اللَّه وطلب إخراجه من السجن من الملك أنساه اللَّه فيه سنين وأقره فيه عقوبة له حين رجا غير ربه لكن هذا بعيد لا يحتمل أن يكون يوسف يفزع إلى غير اللَّه؛ ويدفع قلبه عن اللَّه ويشغله بمن دونه، لكنه رأى - واللَّه أعلم - أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل سبب نجاته على يديه، وأنه بقي فيه منسيًّا؛ لما علم أنه لم يكن منه سبب يلزمهم الحبس في السجن، سوى الاعتذار إلى الناس، والاعتلال لهم على نفي ما اقترفت به زوجته، أو لينقطع ذلك الخبر عن ألسن الناس، ويبعد عن أوهامهم، فرأى أنه إذا ذكره؛ لعله أخرجه من ذلك لما رأى أنه جعل سبب نجاته على يديه؛ لا أنه رأى ذلك منه ورفع قلبه عن اللَّه.
وهكذا جعل اللَّه تعالى أمور الدنيا كلها بأسباب.
وعلى ذلك تعبّد عباده؛ باستعمال الأسباب مع اعتقاد القلب القدر من اللَّه؛ نحو: ما جعل الأنزال والزراعة بأسباب يكتسبونها، ونحو الأسلحة التي اتخذت للحرب والقتال بها مما يكثر عدد ذلك، وإنما يحاربون باللَّه، وبه يقاتلون، ومن عنده يُنصرون.
وقد أمر بذلك كله وبتلك الأسباب؛ فقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) وليس كل من فعل هذا كان فزع إلى غير اللَّه، أو رأى النصر والنجاة من ذلك الشيء والسبب؛ بل رأى ذلك كله من اللَّه ومن عنده؛ فعلى ذلك يوسف لا يجوز أن يتوهم أنه فزع إلى مخلوق مثله، ورأى نجاته من عند ذلك، ولكن للوجه الذي ذكرناه. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ).
والثاني: يقول: اذكرني بالذي رأيت مني وسمعت؛ لأنه دعاهما في السجن إلى التوحيد؛ حيث قال: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ).
قال بعض أهل التأويل: أنسى الشيطان يوسف دعاء ربه الذي أنشأه وخلقه؛ فلم يدع ربه الذي هو في الحقيقة ربّ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ) الذي قال له يوسف: اذكرني عند ربك ذكر ربه، وهذا أشبه، والأول بعيد؛ لأنه قال في آخره: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ)، أي: بعد حين (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) دل هذا أنه إنما أنسى الشيطان على ذلك الرجل فلم يذكره عنده حينًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم ينسه الشيطان، ولكن تركه عمدًا؛ لم يذكره عنده؛ لعله يتذكر ما تقدم من المقال فيزداد غضبًا عليه، فتركه عمدًا إلى أن جاء وقته - واللَّه أعلم - وأضاف الإنساء إلى الشيطان، وكذلك قال موسى: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ)، فهو - واللَّه أعلم - لأن بدء كل شر يكون من الشيطان؛ لأنه يخطر بباله ويقذف في قلبه ويوسوسه، ثم يكون من العبد العزيمة على ذلك والفعل، وفائدة النسيان - واللَّه أعلم - هو أن اللَّه تعالى أراد أن يظهر آية رسالته وحجة نبوته؛ بكونه في السجن ويظهر براءته في شأن تلك المرأة بشهادة أُولَئِكَ النسوان، وذلك علم الأحاديث التي ذكر والرؤيا التي عبرها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: خمس سنين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سبع سنين؛ ونحو ذلك.
قال بعض أهل التأويل : إن يوسف لما فرغ إلى غير الله، وطلب إخراجه من السجن من الملك، أنساه الله ذكره[ في الأصل وم : وفيه ] وأفتره فيه عقوبة له حين رجا غير ربه، لكن هذا لا يحتمل أن يكون يوسف يفرغ إلى غير الله ويدفع قلبه عن الله، ويشغله بمن دونه.
لكنه رأى، والله أعلم، أن الله عز وجل جعل سبب نجاته على يده، وأنه بقي فيه منسيا لما علم أنه لم يكن منه سبب يلزمه الحبس سوى الاعتذار إلى الناس والاعتلال لهم على نفي ما اقترفت زوجته، أو لينقطع ذلك الخبر عن ألسن الناس، ويبعد عن أوهامهم، فرأى أنه إذا ذكره لعله أخرجه من ذلك لما رأى أنه جعل سبب نجاته على يديه لأنه رأى ذلك منه، [ وفرغ قلبه إلى ][ في الأصل وم : ورفع قلبه عن ] الله.
وهكذا جعل الله تعالى أمور الدنيا كلها، وعلى ذلك تعبد عباده باستعمال الأسباب مع اعتقاد القلب القدر من الله نحو ما جعل الأنزال والزراعة بأسباب يكتسبونها ونحو الأسلحة التي اتخذوها[ في الأصل وم : اتخذت ] للحرب والقتال بها مما يكثر عدد ذلك.
وإنما يحاربون بالله و به يقاتلون، ومن عنده ينصرون، وقد أمر بذلك[ في الأصل وم : ذلك ] كله وبتلك الأسباب، فقال :( وأعدوا لهم ما استطعتم من القوة )[ الأنفال : ٦٠ ].
وليس كل من فعل هذا كان فرغ إلى غير الله، أو رأى النصر والنجاة من ذلك الشيء والسبب، بل رأى ذلك كله من الله ومن عنده. فعلى ذلك يوسف. لا يجوز أن يتوهم أنه فرغ إلى مخلوق مثله ورأى نجاته من عند ذلك، ولكن للوجه الذي ذكرنا، والله أعلم.
وقوله تعالى :( اذكرني عند ربك ) يحتمل وجهين :
أحدهما :( اذكرني عند ربك ) لعلي حبست بلا علم منه وبغير أمره، لأن تلك المرأة هي التي أوعدت له السجن، فوقع عنده أنها التي احتالت في حبسه، فقال لذلك ما قال.
والثاني يقول : اذكرني بالذي رأيت مني، وسمعت، لأنه دعاهما في السجن إلى التوحيد حين[ في الأصل وم : حيث ] قال :( أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ )[ الآية : ٣٩ ].
وقوله تعالى :( فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) قال بعض أهل التأويل : أنسى الشيطان يوسف دعاء ربه الذي أنشأه، وخلقه فلم يدع ربه الذي هو في الحقيقة رب.
وقال بعضهم : قوله :( فأنساه الشيطان ) [ أنسى الشيطان ][ ساقطة من الأصل وم ] الذي قال له يوسف ( اذكرني عند ربك ) ذكر ربه، وهذا أشبه. والأول بعيد لأنه قال في آخره :( واذكر بعد أمة ) أي بعد حين ( أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون )[ الآية : ٤٥ ] دل هذا أنه إنما أنسى الشيطان ذلك[ أدرج قبلها في الأصل وم : على ] الرجل، فلم يذكره عنده حينا.
وقال بعضهم : لم ينسه الشيطان ولكن تركه عمدا فلم يذكره عنده لعله يتذكر ما تقدم من المقال، فيزداد غضبا عليه، فتركه عمدا إلى أن جاء وقته، والله أعلم، لأن بدء كل شر يكون من الشيطان. وأضاف الإنسان إلى الشيطان. وكذلك قال موسى عليه السلام ( وما أنسانيه إلا الشيطان )[ الكهف : ٦٣ ] فهو، والله أعلم، لأن بدء كل شر يكون من الشيطان، لأنه يخطر بباله، ويقذف في قلبه، ويوسوسه، ثم يكون من العبد العزيمة على ذلك، والفعل.
وفائدة النسيان، والله أعلم، هي أن الله تعالى أراد أن يظهر آية رسالته وحجة نبوته بكونه[ في م : يكون ] في السجن، ويظهر براءته في شأن تلك المرأة بشهادة أولئك النسوان، وذلك علم الأحاديث التي ذكر والرؤيا التي عبرها.
وقوله تعالى :( فلبث في السجن بضع سنين ) قال بعضهم : خمس سنين، وقال بعضهم سبع سنين. ولكن لا نعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى أن فيه أنه لبث فيه حينا.
وقال أبو بكر الأصم : قوله : صاحبا[ أدرج قبلها في الأصل وم : يا ] السجن بالألف. فلما لم يقل هذا دل أنه أضاف إلى نفسه ؛ كأنه قال : يا صاحبي في السجن، لأنهما كانا معه في السجن.
وقوله تعالى :( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) قيل : فرغ، وقيل انتهى الأمر الذي فيه تستفتيان وأنهي [ الأمر ][ ساقطة من الأصل وم ] كقوله :( وقضينا إلى بني إسرائيل )الآية[ الإسراء : ٤ ] وقوله[ في الأصل وم : و ] :( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) كأنه بلغ إليهما وحيا إليه وأمرا[ في الأصل وم : وأمر ] به ؛ أي هو كائن من غير رجوع يكون[ في الأصل وم : كان ] منهما على ما يقوله أهل التأويل، والله أعلم.
وقال أبو بكر الأصم: قوله: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) سماهم: أصحاب السجن؛ لأنهم كانوا في السجن، كما يقال: أصحاب النار، وأصحاب الجنة، ونحوه، لكنه لو كان ما ذكر لقال: يا صاحبا السجن بالألف؛ فلما لم يقل هذا دل أنه أضافه إلى نفسه؛ كأنه قال: يا صاحبي في السجن؛ لأنهما كانا معه في السجن.
وقوله: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ).
قيل: فرغ.
وقيل: انتهى الأمر الذي فيه تستفتيان وأنهي؛ كقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ...) الآية.
وقوله: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) كأنه بلغ إليهما وحيًا أوحى إليه وأمر به أي: هو كائن من غير رجوع كان منهما؛ على ما يقوله أهل التأويل، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (٤٣) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (٤٤) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ).
ذكر أنه رأى، وليس فيه ذكر أنه رأى في المنام، ولكن ذكر في آخر الرؤيا؛ دل أنه رأى في المنام بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ).
وفيه: أن من الرؤيا ما هو حق ولها حقيقة، ومنها باطل لا حقيقة لها؛ لأنه قال: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) فكأن، الرؤيا هي حق، ولها حقيقة؛ بتأويل عواقبها، وأضغاث أحلام: لا حقيقة لها.
أما البقرات: هي السنون، والسمان: هي المخصبات الواسعات.
(يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ).
العجاف: هي المجدبات.
(وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ).
السنبلات: سنبلات، وخضر: عبارة عما يحصد.
(وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ).
عبارة عما لا يحصد أي: لا يكون فيه ما يحصد.
فيه دلالة أن في الرؤيا ما يكون مصرحًا مشارًا إليه يعلم بالبديهة، ومنها ما يكون كناية مبهمًا غير مفسر؛ لا يعلم إلا بالنظر فيها والتفكر والتأمل؛ لأنه قال: (أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ)، وسبع: هو سبع لا غير، وبقرات: هن كناية عن السنين، وسمان: كناية عن الخصب والسعة، يأكلهن على حقيقة الأكل لا غير.
وكذلك (سَبْعٌ عِجَافٌ) السبع: هو سبع، والعجاف: كناية عن الشدة والجدب، وسبع سنبلات: هن عَين السنبلات، وخضر: هن كناية عما يحصد، ويابسات: كناية عما لا يكون فيه ما يحصد.
ففيه: أن من الخطاب ما لا يكون مصرحًا مبينًا مشارًا إليه؛ يفهم المراد منه بالبديهة وقت قرع الخطاب السمع، ومنه ما يكون مبهمًا غير مفسر؛ فهو على وجهين:
منه ما يفهم بالنظر فيه والتفكر.
والثاني: لا يفهم بالبديهة ولا بالنظر فيه والتفكر، إلا ببيان يقرن به سوى ذلك، على هذا تخرج المخاطبات فيما بين اللَّه وبين الخلق واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ).
خاطب الأشراف من قومه والعلماء بقوله: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ) على ما ذكرنا فيما تقدم أن الملأ: هو اسم للأشراف منهم والرؤساء، وهكذا العادة في الملوك؛ أنهم إذا خاطبوا إنما يخاطبون أعقلهمِ وأعظمهم منزلة عندهم وأكرم مثواهم.
دلّ قوله: (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) أنه إنما رأى ذلك في المنام والله أعلم.
وقوله: (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (٤٤)
قَالَ بَعْضُهُمْ: أباطيل أحلام كاذبة وقَالَ بَعْضُهُمْ: أخلاط أحلام؛ مثل أضغاث النبات تجمع فيكون فيها ضروب مختلفة، وهو كما قيل في قوله: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ)، أي: جماعة من أغصان الشجر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ): الضغث، والأضغاث: ما لا يكوت له تأويل، ويقال لنوع من الكلأ: ضغث وهو الحلفا؛ يشبه البردي وغيره.
وقيل: إن الضغث والأحلام: هما اسمان لشيء لا معنى له، ولا تأويل، وهما واحد، وأصل الأحلام: كأن مخرجه من وجهين:
أحدهما: العقول؛ دليله: قوله: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا) أي: عقولهم (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ).
والثاني: من الاحتلام، وهو ما ذكرنا من الحلم؛ كقوله: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ...): الآية فيشبه أن يكون يخرج على هذا؛ لأن الصبي ما لم يعقل لا يلعب به الشيطان، ولا يحتلم؛ لأن الاحتلام هو من لعب الشيطان به، فسمى الرؤيا الباطلة الكاذبة أحلامًا؛ لأنها من لعب الشيطان به، كما سمى احتلام الصبي حلمًا؛ لأنه إذا بلغ العقل لعب به الشيطان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ).
يحتمل قوله تعالى: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) لما لا تأويل لها؛ كقوله: (وَلَا يشفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتضى)، وقوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي: لا شفيع لهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥)
من الهلاك، وهو الساقي الذي ذكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ).
أي: تذكر بعد أمة، قال الأُمَّة - هاهنا -: الحين، أي: ذكر بعد حين ووقت؛ كقوله تعالى: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ)، قيل: حين ووقت معدود، وقال الحسن: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي: بعد أمة من الناس.
ويقرأ (بعد أَمَهٍ) قال أبو عَوْسجة: الأمه: النسيان والسهو؛ أي: تذكر بعد نسيان وسهو؛ كقوله: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ)، يقال منه في الكلام: أمه يأمه أمها؛ فهو آمه، وأمه؛ أي: نسي.
والأمة: من الأمم والقرون التي مضت.
والأمة: النعمة، والأمم جمع.
والأمة أيضًا: الذين والسُّنة؛ كقوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أي: على دين.
فهو يحتمل هاهنا الوجهين اللذين ذكرناهما؛ أي: ذكر بعد حين ووقت، أو بعد نسيان؛ من درأه بالنصب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ).
معناه: أي أنا أنبئكم ببيان تأويلها لا أنه كان ينبئهم هو بنفسه؛ ألا ترى أنه قال: (فَأَرْسِلُونِ). (يوُسُفُ... (٤٦) فيه إضمار؛ كأنه قال: فأرسلوني إلى يوسف، وليس في تلاوة الآية أنه أرسل إليه، ولا إتيانه إليه، ولكن فيه دليل أنه أرسل إليه فأتاه؛ فلما أتاه قال له: (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ).
قيل: الصديق: هو كثير الصدق؛ كما يقال: شِرِّيب وفِسِّق وسِكِّير؛ إذا كثر ذلك منه، والصديق: هو الذي لم يؤخذ عليه كذب قط، أو سماه صديقًا لما عرف أنه رسول اللَّه، وهو ما قال في إبراهيم (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا).
أو يقول: (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أي: أنا أتعلم منه؛ فأنبئكم بتأويله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ).
فأفتاها له وعبرها عليه؛ وهو ما قال: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) إلى آخر ما ذكر.
وقوله: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ).
هذا تفسير رؤيا الملك للذي سأله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ).
هذا يحتمل وجوهًا:
يحتمل: يعلمون أن هذه الرؤيا حق ولها حقيقة؛ ليس كما قال أُولَئِكَ: أضغاث أحلام.
والثاني: يعلمون فضلك على غيرك من الناس، أو يعلمون أنك تصلح لحاجاتهم التي في حال يقظتهم؛ فرفعونها إليك؛ كما أصلحت ما كان لهم في حال نومهم، ثم علمهم الزراعة، وجمع الطعام والادخار أن كيف يذخر حتى يبقى إلى ذلك الوقت، فقال:
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: دائمًا؛ أي: تداومون الزراعة فيها. وقال أبو عَوْسَجَةَ: دأبا: من الدوب؛ من الجدّ والتعب.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: دأبا: أي: جدًّا في الزراعة ومتابعة. وكله واحد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ).
لا تنقوه؛ لأن ذلك أبقى له من إذا نقي وميز، إلا قليلا مما تأكلون؛ فتنقونه إن شئتم؛ أي: قدر ما تأكلون.
وقوله: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨)
قيل: مجدبات من الشدة.
(يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ).
أي: ما ادخرتم لهن.
(إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: تدخرون.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: تحرزون.
قال أيو عَوْسَجَةَ: أحصنته، أي: ادخرته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الغيث؛ وهو المطر؛ أي: يمطرون. وقيل: يغاثون بالمطر؛ من الإغاثة والغوث.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من عصر الأعناب والدهن والزيت وغيره؛ إنما هو إخبار عن
وقوله تعالى :( وفيه يعصرون ) قال بعضهم : هو من عصر الأعناب والدهن والزيت وغيره، إنما هو إخبار عن الخصب والسعة. وقال بعضهم : قوله :( يعصرون ) أي ينجون ؛ يقول : من العصر ؛ يعني الملجأ ؛ أي يلجؤون إلى الغيث، والعصرة المنجاة، وهو قل أبي عبيدة.
وأما قول غيره من أهل الأدب والتأويل فهو من العصر، ويعني عصر العنب وغيره، والله أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (يَعْصِرُونَ) أي: ينجون؛ يقول: من العصر يعني الملجأ: أي يلجئون إلى الغيث، والعصرة المنجاة؛ وهو قول أبي عبيدة. وأمَّا قول غيره من أهل الأدب والتأويل: فهو من العصر؛ يعني: عصر العنب وغيره واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (٥٢) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) يعني: يوسف فلما جاءه الرسول، قال: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُ): فيه دلالة أن قول يوسف، للرجل.
(اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ).
إنما طلب بذلك براءة نفسه فيما اتهم به، ليس كما قال أهل التأويل؛ لأنه لو كان غير ذلك لكان لا يرد الرسول إليه ولكنه خرج واللَّه أعلم.
وقوله: (فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُ).
يحتمل هذا من وجهين:
أحدهما: أَهُنَّ على كيدهن بعدُ، أم رجعن عن ذلك؟
والثاني: ليعلم الملك براءته مما قرف به واتهم. ليظهر عنده أنه كان بريئًا مما قرف به واتهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ).
إنهن كدن ثم قال لهن الملك: (مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ (٥١) هذا يدل أن
وقوله تعالى :( قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ) بدأ بهن حتى أقررن أنه كان بريئا مما قرف به، واتهم. ثم أقرت امرأة العزيز بعد ذلك لما أقر النسوة، فقالت :( الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ) قيل : الآن تبين الحق، وتحقق ( أنا راودته عن نفسه وإنه لمن صادقين ) في قوله ( هي راودتني عن نفسي )[ الآية : ٢٦ ].
وقوله تعالى :( ما خطبكن ) ما شأنكن وأمركن. والخطب الشأن ( إذ راودتن ) قد ذكرناه.
وقوله تعالى :( ما علمنا عليه من سوء ) قال أهل التأويل : الزنى. ولكن قوله :( ما علمنا عليه من سوء ) هو الذي ( قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا )[ الآية : ٢٥ ] هو ذلك السوء [ الذي ][ ساقطة من الأصل وم ] قالت : إنه أراد بها. قلن : ما علمنا منه ذلك.
وقوله تعالى :( الآن حصحص الحق ) قد ذكرنا أنه تبين الحق.
وفي قوله تعالى :( ما علمنا عليه من سوء ) دلالة أن لم يكن منه ما قاله أهل التأويل من حل السراويل وغيره ؛ لأنه لو كان منه ذلك لكان قد علمن منه السوء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).
بدأ بهن حتى أقررن أنه كان بريئًا ما قرف به واتهم، ثم أقرت امرأة الملك بعد ذلك لما أقر النسوة؛ فقالت:
(الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ).
قيل: الآن تبين الحق وتحقق.
(أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وفي قوله: (رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي).
وقوله: (مَا خَطْبُكُنَّ) ما شأنكن وأمركن، والخطب: الشأن، وراودتن: قد ذكرناه.
وقوله: (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ).
قيل: معاذ اللَّه، وقيل: هي كلمة تنزيه وتبرئة من القبيح.
وقوله: (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).
قال أهل التأويل: الزنا، ولكن قوله: (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) هو السوء الذي قالت، (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) هو ذلك السوء قالت إنه أراده بها قلن ما علمنا منه ذلك.
وقوله: (حَصْحَصَ الْحَقُّ).
قد ذكرناه أنه تبين وتحقق.
وفي قوله: (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).
دلالة أن لم يكن منه ما قاله أهل التأويل من حلّ السراويل وغيره؛ لأنه لو كان منه ذلك لَكُنَّ قد علمن منه السوء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (٥٢)
قوله: ذلك الرد الذي كان منه وترك الإجابة لرسول الملك؛ حيث قال: (ائْتُونِي بِهِ)
وقال بعض أهل التأويل: ذلك ليعلم اللَّه أني لم أخنه؛ يعني الزوج بالغيب، لكن هذا بعيد، إنه قد علم يوسف أن اللَّه قد علم أنه لم يخنه بالغيب.
وقول أهل التأويل لما قال يوسف: (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قال له الملَك: ولا حين هممت ما هممت؟ فقال: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ): هذا مما لا نعلمه.
وقد ذكرنا التأويل في قوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) ما يحل ويسع أن يتكلم به، وفساد تأويل أهل التأويل من الوجوه التي ذكرنا.
أي: عصم ربي. واللَّه أعلم.
إنه لما قال ذلك؛ (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)؛ لما عصمنى اللَّه عن ذلك، ولو لم يكن عصمنى لكنت أخونه (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) أي: ما عصم ربي؛ لأن النفس جبلت وطبعت على الميل إلى الشهوات واللذات، والهوى فيها والرغبة والتوقي عن المكروهات والشدائد؛ ألا ترى أنه قال: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (٤١). أثبت للنفس الهوى وإيثار الحياة الدنيا وشهواتها، هذا يدل أن قوله: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) هو محبة الاختيار والإيثار في الدِّين لا ما تختار النفس وتؤثر، النفس أبدًا تختار وتؤثر ما هو ألذ وأشهى، وتنفر عن الشدائد والمكروهات، على هذا طبعت وجبلت.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) أي: لا يجعل، فعل الكيد والخيانة هدى ورشدًا، إنما يجعل فعل الكيد والخيانة ضلالا وغواية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) أي: أجعله لنفسي خالصًا لحوائجي وأن يكون قوله: (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي):
أصدر لرأيه وأطيع أمره، في هذا يقع استخلاصه إياه؛ ولذلك قال: (مَكَّنَّا لِيوُسُفَ...) الآية لا أن يجعله لحاجة نفسه خالصًا دون الناس لا يشرك غيره فيه؛ دليله ما ذكر في حرف حَفْصَة (إنك اليوم لدينا مطاع أمين).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ).
ولم يذكر فيه أنه أتى به، ولكن قال: فلما كلمه؛ فهذا يدل أنه قد أتى به وإن لم يذكر أنه أتى به؛ حيث قال: (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) قيل: المكين: الوجيه، وقيل: المكين: الأمين المرضي عندنا والأمين على ما استأمناك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)
سأل هذا لما علم أنه ليس في وسعهم القيام بإصلاح ذلك الطعام، وعلم أنه لو ولي غيره الخزائن لم يعرف إنزال الناس منازلهم؛ في تقديم من يجب تقديمه، والقيام بحاجة الأحق من غيره. وعلم أنه إليه يرجع، ويقع حوائج أكثر الناس، وبه قوام أبدانهم؛ فسأله
وقوله تعالى :﴿ فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ﴾ أصدر لرأيه، ولكن قال :﴿ فلما كلمه ﴾ فهذا يدل أنه قد أتى به، وإن لم يذكر أنه أوتي به حين[ في الأصل وم : حيث ] قال :﴿ فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ﴾ قيل : المكين الوجيه، وقيل : المكين الأمين المرضي عندنا والأمين على ما استأمناك.
وكذلك قال :﴿ إني حفيظ عليم ﴾ قال بعضهم :﴿ حفيظ ﴾ بما وليت ﴿ عليم ﴾ بأمره. وقيل ﴿ حفيظ ﴾ لما في الأرض [ من ][ ساقطة من الأصل وم ] غلة ﴿ عليم ﴾ بها.
وعن ابن عباس رضي الله عنه ﴿ حفيظ ﴾ لما تحت يدي ﴿ عليم ﴾ بالناس. وقيل :﴿ حفيظ ﴾ بصير بتقديره ﴿ عليم ﴾ بساعات الجوع حين يقع ﴿ إني حفيظ ﴾ لما استحفظت ﴿ عليم ﴾ بحوائج الناس، أو ﴿ عليم ﴾ بتقديم الأحق.
ولذلك قال: (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: حفيظ لما وليت عليم بأمره.
وقيل: حفيظ أي: حاسب، عليم: أي بالألسن كلها. وقيل: حفيظ لما في الأرض من غلة؛ عالم بها. وعن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حفيظ لما تحت يدي، عليم بالناس.
وقيل: حفيظ بصير بتقديره عالم بساعات الجوع حين يقع، إني حفيظ لما استحفظت عليم بحوائج الناس، أو عليم بتقديم الأحق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
يقول - واللَّه أعلم -: كما برأنا يوسف مما قرف به، وأظهرنا براءته منه؛ مكناه في الأرض حتى احتاج أهل نواحي مصر وأهل الآفاق إليه.
أو أن يقال: كما حفظناه وأنجيناه؛ مما قصد به إخوته من الهلاك؛ نمكن له في الأرض. وجائز أن يكون قوله: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) جوابه: كما مكنا ليوسف في الأرض بعدما أخرج من عليه الإيواء والضم، كذلك نمكنك في الأرض ونؤوي؛ بعدما أخرجك من عليه إيواؤك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ).
أي: ينزل منها حيث يشاء، ويسكن منها حيث يشاء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ).
يحتمل قوله: (بِرَحْمَتِنَا) سعة الدنيا ونعيمها؛ كقوله: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا).
ويحتمل (بِرَحْمَتِنَا): أمر الدِّين من النبوة والعصمة، وهو على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: ليس لله أن يختص أحدًا برحمته ولا يصيب من رحمته إنسانًا دون إنسان، وعلى قولهم لم يكن من اللَّه إلى رسول من الرحمة إلا وكان إلى إبليس مثله.
وقوله تعالى :( آمنوا ) صدقوا ( وكانوا يتقون ) الشرك، أو ( آمنوا ) صدقوا ( وكانوا يتقون ) المعاصي والفواحش.
أي: لا نضيع أجر من أحسن صحبة اللَّه في الدنيا والآخرة؛ أي نجزيه جزاء إحسانه أو يقول: ولا نضيع أجر من أحسن صحبة نعم اللَّه وقبلها بالشكر له.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)
أي ثواب الآخرة وأجرها خير لهم من ثواب الدنيا وأجرها.
وقوله: (آمَنُوا).
صدقوا.
(وَكَانُوا يَتَّقُونَ) الشرك. (آمَنُوا) صدقوا؛ (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) المعاصي والفواحش.
* * *
قوله تعالى: (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (٦٠) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (٦١) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).
لما أراد اللَّه أن يبلغ أمر يوسف؛ فيما أراد أن يبلغ جعلهم بحيث لا يعرفونه؛ لذلك قال: (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي: لا يعرفونه؛ كقوله: (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي: غير معروفين عند إبراهيم، والمنكر: هو الذي لا يعرف في الشرع ولا في العقل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩)]
أي: أعطى لهم الطعام الذي طلبوا منه.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجهاز: المتاع. والجهاز -أيضًا-: متاع المرأة التي تجهز به، ولا يقال: جِهاز بخفض الجيم.
وقال أهل التأويل: إن يوسف - عليه السلام - قال لهم حين دخلوا عليه أنتم عيون؛ بعثكم ملككم تنظرون إلى أهل مصر ثم تأتونه بالخبر وتأتونه بكذا.
ذلك مما لا نعلمه أنه قد كان قال لهم ذلك أم لا، وغير ذلك من الكلمات التي قالوا: إنه قال لهم كذا وقالوا هم له كذا، نحن كذا كذا رجلا؛ فهلك منا كذا، ولنا أب كذا: مثل
قال أبو عوسجة : الجهاز المتاع، والجهاز أيضا متاع المرأة التي تجهز به، ولا يقال : جهاز بخفض الجيم.
وقال أهل التأويل : إن يوسف عليه السلام قال لهم حين دخلوا عليه : أنتم عيون، بعثكم ملككم تنظرون إلى أهل مصر، ثم تأتونه بالخبر، وتأتون بكذا، ذلك مما لا نعلمه أنه قد كان ؛ أقال[ الهمزة ساقطة من الأصل وم ] لهم ذلك أم لا ؟ وغير ذلك من الكلمات التي قالوا : إنه قال لهم كذا، وقالوا هم له :[ كنا كذا ][ في الأصل وم : كذا وكذا ] رجلا، فهلك منا كذا، ولنا أب كذا. مثل هذا لا يكون [ إلا ][ ساقطة من الأصل وم ] كلام بعض العوام الغوغاء، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ﴾ مثل هذا لا يحتمل أن يقوله يوسف ابتداء على غير سبب أو كلام، كان هنالك، لكنه لم يذكر الذين كان، ونحن لا نعرف ما الذي كان هنالك في ما بينهم، وكذلك قوله :﴿ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون ﴾[ الآية : ٦٠ ].
أما أهل التأويل فإنهم قالوا : قال لهم :﴿ ائتوني بأخ لكم من أبيكم ﴾ إلى آخر ما ذكر ؛ لأنه لما قال : إنكم جئتم عيونا لملككم، فأمر بحبسهم، فقالوا نحن بنو يعقوب النبي، وكنا اثني عشر رجلا، فهلك منا رجل في الغنم، ووجدنا على قميصه دما، فأتينا أبانا، فقلنا كذا، وقد خلفنا عند أبينا أخا له من أمه الذي هلك. فعند ذلك قال لهم :﴿ ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ﴾.
لكن هذا الذي ذكروا[ في م : ذكر ] لا يكون سببا لقوله، ولا جوابا. وقد ذكرنا/٢٥٤-ب/ أنه لا يصح هذا الكلام مبتدأ. لكنا نعلم بالتعقل أنه كان هنالك سبب ومعنى، أمر يوسف أن يقول لهم ذلك. وإلا لا يحتمل أن [ قال ][ ساقطة من الأصل وم ] لهم يوسف :﴿ فلا كيل لكم عندي ولا تقربون ﴾[ الآية : ٦٠ ] وهو كان يعلم أن أباه يعقوب يحتاج إلى طعام، ويعرف حاجتهم في ذلك. هذا لا يسع إلا بسبب، كان ثم، فأمر يوسف بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ).
مثل هذا لا يحتمل أن يقوله يوسف ابتداء؛ على غير سبب أو كلام كان هنالك، لكنه لم يذكر الذي كان؛ ونحن لا نعرف ما الذي كان جرى هنالك فيما بينهم.
وكذلك قوله: (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (٦٠)
أما أهل التأويل فإنهم قالوا: قال لهم ائتوني بأخ لكم من أبيكم إلى آخر ما ذكر؛ لأنه لما قال لهم: إنكم جئتم عيونًا لملككم؛ فأمر بحبسهم، فقالوا: نحن بنو يعقوب النبي، وكنا اثني عشر رجلا؛ فهلك منا رجل في الغنم، ووجدنا على قميصه دمًا؛ فأتينا أبانا فقلنا: كذا، وقد خلفنا عند أبينا أخًا له؛ من أم الذي هلك؛ فعند ذلك قال لهم: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِ) لكن هذا الذي ذكروا لا يكون سببًا ولا جوابًا له، وقد ذكرنا أنه لا يصح هذا الكلام مبتدأ، لكنا نعلم بالعقل أنه كان هنالك سبب، ومعنى أمر يوسف أن يقول لهم ذلك، وإلا لا يحتمل أن يقول لهم يوسف: (فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ) وهو كان يعلم أن أباه يعقوب يحتاج إلى طعام، ويعرف حاجتهم في ذلك - هذا لا يسع إلا بسبب كان؛ فأمر يوسف بذلك.
وقوله: (فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ) فيما يستقبل؛ أي: لا تأتوني. واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله: (أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) وجهين:
أحدهما: قال ذلك لهم؛ إنه يوفي لهم الكيل؛ لأن أهل ذلك المكان كانوا ينقصون ويخسرون الكيل في الضيق؛ فقال هو: ألا ترون أني أوفي الكيل ولا أبخس.
والثاني: ألا ترى أني أوفي الكيل على غير الحاجة؛ وكان يجعل لغيرهم الطعام على الحاجة؛ لضيق الطعام.
إني أوفي الكيل على قدر الحاجة وأنا خير المنزلين في الإحسان إليكم والتوسيع عليكم؛ لأن أهل ذلك المكان لا يحسنون إلى النازلين بهم، ولا يوسعون عليهم؛ لضيق الطعام. وكأن قوله: (أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) مؤخر عن قوله: (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ)؛ كأنه قال: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ)؛ فعند ذلك قال: (أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) واللَّه أعلم.
هذا الكلام في الظاهر ليس هو جواب قول يوسف؛ حيث قال: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) وجوابه أن يقولوا له: نأتي به أو لا نأتي، فأما أن يجعل قولهم: (سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) جوابا له؛ فلا يحتمل مع ما أن في قلوبهم سنراود عنه اضطراب؛ يملكون أو لا يملكون.
قولهم: (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ).
على القطع؛ لكن يشبه أن يخرج على وجهين:
أحدهما: على الإضمار؛ سنراود عنه أباه فإن أذن له وإنا لفاعلون ذلك.
أو على التقديم والتأخير يكون جواب قوله: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) في قولهم: (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) كأنه لما قال لهم يوسف: ائتوني بأخ لكم من أبيكم قالوا إنا لفاعلون، ثم قالوا فيما بينهم: سنراود عنه أباه.
على هذين الوجهين يشبه أن يخرج واللَّه أعلم.
وقوله: (سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ).
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المراودة: الممارسة، وهي شبه المخادعة، وهي المعالجة. وقيل: سنراود: أي سنجهد وسنطلب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)
لفتيته.
الفتية: الخدم؛ والفتيان: المما ليك.
(اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ).
قيل: اجعلوا دراهمهم في أوعيتهم، فيه دلالة أن الهبة قد تصح - وإن لم يصرح بها - إذا وقع في يدي الموهوب له وقبضه - وإن لم يعلم هو بذلك - وقتما جعل له؛ لأن يوسف جعل بضاعتهم في رحالهم؛ هبة لهم منه؛ وهم لم يعلموا بذلك، وهو وقتما جعل ذلك لهم، مِلك ليوسف؛ ولهذا قال أصحابنا: إن من وضع ماله في طريق من طرق المسلمين؛ ليكون ذلك ملكًا لمن رفعه كان ما فعل. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
أحدهما: يرجعون؛ مخافة أن يعرفوا بالسرقة لما عسى يقع عندهم أن واحدًا منا جعل هذا في متاعنا وأوعيتنا سرًّا منهم ففعل يوسف هذا؛ ليرجعوا؛ مخافة أن يعرفوا بالسرقة.
والثاني: ما قاله أهل التأويل: لما تخوف يوسف ألا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى فجعل دراهمهم في أوعيتهم؛ لكى يرجعوا إلينا؛ فلا يحبسهم عنا عدم الدراهم؛ لأنهم كانوا أهل ماشية.
* * *
قوله تعالى: (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٦٣) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي
ولهذا قال أصحابنا : إن من وضع [ ماله في طريق ][ من م، ساقطة من الأصل ] من طرق المسلمين ليكون ذلك ملكا لمن رفعه، كان ما فعل، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ هذا يحتمل على وجهين :
أحدهما : يرجعون مخافة أن يعرفوا بالسرقة.
والثاني : ما قاله أهل التأويل : لما تخوف يوسف ألا[ في الأصل وم : أن ] يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى، فجعل دراهمهم في أوعيتهم لكي يرجعوا إليه[ في الأصل وم : إلينا ]، فلا يحبسهم عنه[ في الأصل وم : عنا ] عدم الدراهم لأنهم كانوا أهل ما يشبه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ... (٦٣)
فيما يستقبل وششانف لقوله: (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ).
(فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ) بالنون؛ وبالياء: (يكتل)، وبالنون أقرب؛ لأنهم قالوا: منع الكيل منا فأرسل معنا أخانا نكتل؛ نحن، يشبه: ويكتل هو إن أرسلته.
(وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
لا يحتمل أن يقولوا له هذا من غير سبب كان هنالك: من خوف خاف عليه أبوهم من ناحيتهم، وقد اتهمهم؛ لأنه كان أخوهم من أبيهم، خاف عليه أن يضيعوه أو إن استقبله أمر لا يعينونه أو أمر كان لم يذكر، ولسنا ندري ما ذلك المعنى واللَّه أعلم بذلك.
(قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤)
وفي حرف ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (هل تحفظونه إلا كما حفظتم أخاه يوسف من قبل).
في هذا دلالة أن من ظهرت منه تهمة أو خيانة في أمر، يجوز أن يتهم فيما لم يظهر منه
وقوله تعالى :﴿ فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ﴾ أي إن أرسله فإنما أعتمد على حفظ الله، وإليه أكل حفظه[ أدرج قبلها في الأصل وم : في ]، لست أعتمد على حفظكم ﴿ وهو أرحم الراحمين ﴾ أي بكل مكروب وملهوف أرحم من كل راحم. لأن كل من يرحم إنما يرحم[ في الأصل وم : يرحمه ] برحمة نالها منه، والله أعلم.
وقوله: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
أي: إن أرسلته فإنما أعتمد على حفظ اللَّه، وإليه أكل في حفظه؛ لست أعتمد على حفظكم.
(وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
أي: هو بكل مكروب وملهوف أرحم من كل راحم؛ لأن كل من يرحم إنما يرحمه برحمة نالها منه. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥)
هذا قد ذكرناه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا نَبْغِي) هذا يحتمل: ما نبغي سوى الثمن؛ فقد رد إلينا دراهمنا أو يكون قوله: (مَا نَبْغِي) وراء هذا كبير شيء؛ إنما نبغي ثمن بعير واحد وثمن بعير واحد يسير؛ لأنه قد ردت بضاعتنا؛ وهو ثمن عشرة أبعرة.
(وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ).
لأنه ذكر أن يوسف كان لا يعطي كل رجل إلا حِمْل بعير واحد، ولا يعطي أكثر من ذلك؛ فقالوا: ونزداد كيل بعير به؛ ومن أجله.
(ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي: سريع لا حبس فيه: وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي: ييسر علينا الكيل، ولا يحبس عنا الطعام، ولا يثقل عليه ذلك؛ بقوله: (أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ). فإن لم نأته به فلا كيل لنا؛ وقد حبسنا عنه. واللَّه أعلم.
ويشبه أن يكون فيه وجه آخر أقرب مما قالوا وهو: أن قوله: (ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي: طلب ثمن كيل بعير يسير؛ لأنه قد ردت إليهم بضاعتهم؛ وهو ثمن كيل عشرة أبعرة؛ فإنما احتاجوا إلى ثمن كيل بعير واحد؛ فقالوا: طلب ثمن كيل بعير واحد يسير، وتكلفة سهلة؛ وهو ثمن كيل بعير بنيامين. واللَّه أعلم.
أي: حتى تأتوني بمواثيق من اللَّه؛ وبعهود منه.
(لَتَأْتُنَّنِي بِهِ).
فيه دلالة أنه وإن قال: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) واعتمد في الحفظ على اللَّه، ورأى الحفظ منه، لم يرسله معهم إلا بالمواثيق والعهود من اللَّه، وهذا أمر ظاهر بين الناس؛ أنهم وإن كان اعتمادهم على اللَّه وإليه يكلون في جميع أمورهم في الأموال والأنفس، ومنه يرون الحفظ فإنه يأخذ بعضهم من بعض المواثيق والعهود؛ فعلى ذلك يعقوب أنه وإن أخبر أن اعتماده واتكاله في حفظ ولده على اللَّه لم يرسله معهم إلا بعدما أخذ منهم العهود والمواثيق.
(لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ).
أي: إلا أن يجمعكم أمر ويعمكم، ويحيط بكم الهلاك جميعًا؛ فعند ذلك تكونون معذورين؛ فإما أن يخص به أمر فلا.
والثاني: إلا أن يجيء أمر عظيم يمنعكم عن رده؛ كأنه خاف عليه من الملك؛ حيث طلب منهم أن يأتوه به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ) يعقوب (اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) أي: الله على المواثيق والعهود التي أخذتها منكم شهيد، أو يقول: اللَّه له حفيظ؛ كما قال: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا). واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧)
قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: إن يعقوب خاف عليهم العين؛ لأنهم كانوا ذوي صور وجمال وبهاء؛ فخشي عليهم العين؛ لذلك أمرهم أن يدخلوا متفرقين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: خشي عليهم البيات والهلاك؛ لأنهم كانوا أهل قوة ومنعة؛ فيخافهم أهل البلد ويفرقون منهم السرقة؛ فأمرهم بالتفرق، وهو قول ابن عَبَّاسٍ؛ فإذا كانوا
وقَالَ بَعْضُهُمْ: علم يعقوب أنهم لا يهلكون؛ لما رأى يوسف من الرؤيا أن يسجد له إخوته، ولكن خاف عليهم أن تصيبهم النكبة؛ لذلك أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، أوص ن سكك متفرقة، أو من طرق متفرقة، أو ما قالوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ).
أي لا أدفع عنكم من اللَّه من شيء؛ إن أصابكم نكبة أو عين، فَإِنْ قِيلَ: لو كان أمره إياهم بالتفرق؛ لخوف العين؛ أو لخوف أهل البلد منهم السرقة والإغارة، كيف لم يأمرهم بذلك في المرة الأولى؛ وخوف العين؟ لم يخش ذلك لما قد يقع الاجتماع ما ذكر ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنه يخافهم أهل البلد إذا رأوهم مجتمعين أنهم لصوص وأنهم كذا، ولكن جائز أن يكون في المرة الأولى لم يخش ذلك؛ لما قد يقع الاجتماع في أمثال أُولَئِكَ من الرفقاء والصحابة، فلا يكون في ذلك الخوف الذي ذكروا. وإذا عادوا في المرة الثانية؛ قد يحتمل ذلك الخوف من العين؛ وغيره، إذا علم أهل البلد أن ذلك العدد تحت أب واحد، أو أمرهم بالتفرق على الأبواب؛ بمحنة امتحن بذلك، وأمر به، أو لمعنى غاب عنا لا نحتاج إليه. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي: لا أدفع عنكم من اللَّه من شيء إن أصابكم نكبة أو عين وإن تفرقتم إن الحكم إلا لله، هذا تفسير قوله: (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي: لا أدفع عنكم، بما أحتال ما قدر اللَّه وقضاه؛ أن يصيبكم؛ فيصيبكم لا محالة وينزل بكم (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي: ما الحكم في ذلك إلا لله ما في حكمه وقضائه أن يصيبكم فيصيبكم لا محالة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).
هذا أصل كل أمر يخاف المرء، وأن يأخذ بالحذر، ويتوكل - مع ذلك - على اللَّه؛ على ما أمر يعقوب - عليه السلام - بنيه بالحذر في ذلك، ثم توكل على اللَّه في ذلك.
وقال بعضهم : خشي عليهم البيات والهلاك ؛ لأنهم كانوا أهل قوة ومنعة، فيخافهم أهل البلد ويفرقون منهم [ خوف ][ ساقطة من الأصل وم ] السرقة، فأمرهم بالتفرق، وهو قول ابن عباس. فإذا كانوا متفرقين فلا يهلك[ في الأصل وم : يهلكون ] الكل، وإنما يهلك بعض وينجو بعض، أو لا يدري ما أراد بهذا.
وقال بعضهم : علم يعقوب أنهم لا يهلكون من رأى يوسف من الرؤيا أن يسجد له إخوته، ولكن خاف عليهم أن يصيبهم النكبة، لذلك أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة أو سكك متفرقة أو من طرق متفرقة، أو ما قالوا.
وقوله تعالى :( وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) أي لا أدفع عنكم إن أصابكم نكبة أو عين.
فإن قيل : لو كان أمره إياهم بالتفرق لخوف العين أو لخوف أهل البلد منهم السرقة والإغارة، كيف لم يأمرهم بذلك في المرة الأولى ؟ لم يخش ذلك لما قد يقع [ في ][ ساقطة من الأصل وم ] الاجتماع ما ذكر ابن عباس رضي الله عنه أنه يخافهم أهل البلد إذا رأوهم مجتمعين أنهم لصوص، وأنهم كذا.
[ قيل : إن يكن ][ في الأصل وم : ولكن أن يكون ] في المرة الأولى لم يخش لما قد يقع الاجتماع في أمثال ذلك من الرفقاء والصحابة فلا يكون في ذلك الخوف الذي ذكروا، وإذا عادوا في المرة الثانية قد يحتمل ذلك الخوف من العين وغيره إذا علم أهل البلدان ذلك العدد تحت أب واحد. أو أمرهم بالتفرق [ في الأبواب بمحنة ][ في الأصل وم : الأبواب بمحنة ]، امتحن بذلك، وأمر به، أو لمعنى غاب عنا. لا نحتاج إليه، والله أعلم.
وقوله تعالى :( وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) : أي لا أدفع عنكم بما أحتال ما قدر الله، وقضاه، أن يصيبكم ؛ [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] يصيبكم، لا محالة، وينزل بكم ( إن الحكم ) أي ما الحكم في ذلك ( إلا لله ) ما في حكمه وقضائه أن يصيبكم، يصيبكم[ في الأصل وم : فيصيبكم ]، لا محالة.
وقوله تعالى :( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ ) هذا أصل كل أمر يخاف المرء : أن يأخذ بالحذر، ويتوكل مع ذلك على الله على ما أمر يعقوب عليه السلام بالحذر في ذلك. ثم التوكل[ في الأصل وم : توكل ] على الله. والحذر هو العادة في الخلق، والتوكل تفويض الأمر إلى الله، والاعتماد عليه، والله أعلم.
وقوله:
(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ | (٦٨) من أبواب متفرقة. |
أي: ما كان يدفع ذلك عنهم ما حكم اللَّه عليهم أنه يصيبهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَ).
الحاجة في النفس: أحد شيئين: إما الرغبة، وإما الرهبة؛ كقوله: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً) فعلى ذلك حاجة يعقوب، لا تخلو: إما أن كانت رغبة منه؛ في تفرقهم، أو رهبة في اجتماعهم؛ قضى تلك الحاجة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ).
يشبه أن يكون هذا صلة ما قال يعقوب لبنيه: (لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) أي: وإنه لذو علم لما أمرهم بالدخول على التفرق؛ والنهي عن الاجتماع.
وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
ما أراد. بقوله: (لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ).
وعن ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما: (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ): من السكك المتفرقة، ما كان يغني عنهم من قضاء اللَّه شيئًا إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها، يقول: بدأها فتكلم بها.
(وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) يقول: حافظًا لما علمناه، وقيل: حافظًا له؛ عالمًا به، وقيل؛ (لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) أي: عمل بجميع ما علم وانتفع به، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) لم ينتفعوا بما علموا.
ويحتمل: وإنه لذو علم بقصة يوسف من أولها إلى آخرها؛ كما أخبرناه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ذلك.
وجائز أن يكون قوله: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) أي: ما أصابه من الحزن؛ بذهاب يوسف وأخيه، وما أصابه من الشدة والنكبة لم يؤثر ذلك في علمه الذي علمناه، وإن أثر ذلك في نفسه وبدنه، أي علمه بما علمناه بعدما أصابه ما أصابه؛ كهو ما كان قبل ذلك،
وعن الحسن - فيما أظن - في قول يعقوب لبنيه: (لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) قال: أما واللَّه ما كانت به طيرة تطير بها؛ ولكن قد علم أو ظن أن يوسف سيلقى أخاه؛ فيقول: إني أنا أخوك.
وأكثر أهل التأويل قالوا: قوله: (إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) أي: خيفة العين على بنيه؛ لجمالهم، وبهائهم، وحسن صورهم، أو لما يكون لواحد كذا كذا عددًا من البنين فيقصدون قصدهم بالنكاية عليهم لما ذكرنا أو ما أراد بذلك. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (٧٠) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (٧١) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (٧٣) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (٧٤) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (٧٧) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (٧٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ).
هذا يحتمل وجهين:
يحتمل أنهم لما دخلوا البلد الذي فيه دعا يوسف أخاه وحن إليه ويحتمل أنهم دخلوا جميعًا على يوسف؛ فضم أخاه إلى نفسه؛ فقال: إني أنا أخوك.
قال بعض أهل التأويل لم يقل له: أنا أخوك: بالنسبة؛ ولكنه قال: أنا أخوك: مكان أخيك الهالك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَبْتَئِسْ).
يقول: لا تحزن.
هذا يحتمل وجهين:
يحتمل: لا تَبْتَئِسْ بما كان عمل إخوتك؛ كأنه لما دعاه فضمه إلى نفسه - شكا إليه من إخوته؛ فقال عند ذلك: (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
ويحتمل: فَلَا تَبْتَئِسْ بما يعمل بك هَؤُلَاءِ؛ أي: خدمه وعماله، كأنه أخبره بما كان يريد أن يكيد بهم؛ من جعل الصاع في رحله؛ فقال: (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) بك؛ لأنه لا يجوز أن يجعل أخاه متهمًا، يقرف به من غير أن ظهر منه شيء؛ وقد أخبره أنه أخوه. واللَّه أعلم.
دل أنه أراد أن يعْلمه ما يريد أن يكيد بهم؛ ليكون هو على علم من ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (٧٠) هو ما يهيأ للخروج؛ ولذلك يقال لمتاع المرأة: جهاز، وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ).
السقاية: قيل: هي الإناء الذي كان يشرب فيه الملك، وقيل: هو الصاع الذي كان يكال به الطعام؛ ولكن لا نعلم ما كان ذلك سوى أنا نعلم أنها كانت ذات قيمة وثمن؛ ألا ترى أن ذلك الرسول قال: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) فلولا أنها كانت ذات قيمة وثمن وإلا لم يعط لمن جاء به حمل بعير الطعام، وكان قيمة الطعام عندهم في ذلك الوقت ما كان.
(ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ).
أي: نادى مناد: (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ).
لا يحتمل أن يكون يوسف يأمر رسوله أن يقول لهم: (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)؛ وقد علم أنهم ليسوا بسارقين، ولكن قال لهم ذلك المنادي الذي ناداه - واللَّه أعلم -: (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) من نفسه، وهو من بعض من يتولى كيل الطعام على الناس، وأمثاله لا يبالون الكذب أو قال، لهم ذلك قوم كانوا بحضرتهم: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ). أو أن يكون على
يحتمل لمكان سؤاله إياهم أن يأتوا به، أو لمكان فضله ومنزلته ليعلموا أن ما كان ليوسف وأخيه عند أبيهم من فضل المحبة والمنزلة من اللَّه؛ إذ جعل ذلك لهما عند الملك وغيره. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (٧١) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ).
أي: إناء الملك؛ سقاه مرةً صاعًا؛ ومرةً سقاية، فيجوز أن يستعمل في الأمرين جميعًا؛ في الاستسقاء والكيل جميعًا.
(قَالُوا) - لمناديه - (مَاذَا تَفْقِدُونَ).
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي أضللتم؛ يقال: افتقدتك وتفقدتك أي: تعهدتك.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَلَا تَبْتَئِسْ): هو من البؤس، والسقاية: المكيال؛ وقيل: مشربة الملك، وصواع الملك؛ وصاعه - واحد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢)
قيل: ضمينٌ لذلك الطعام؛ وكفيل به. والزعيم: كأنه أيضًا اسم لرئيس من القوم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (٧٣)
هذا يحتمل وجوهًا:
يحتمل أنهم قالوا ذلك؛ لأنكم رددتم إلينا الدراهم وجعلتم في أوعيتنا، ثم رددنا عليكم؛ مخافة أن نعرف بالسرقة والفساد في الأرض؛ فكيف تقرفونا بهذا؟!
والثاني: أنكم تعلمون أنا أبناء النبي والرسول، والأنبياء لا يكون منهم السرقة ولا الفساد في الأرض، ومثل هذا لم يظهر في أهل بيتنا قط ولا قرفنا به؛ فكيف قرفتمونا بهذا؟!
قال أبو عوسجة : أي أضللت ؛ يقال : افتقدتك، وتفقدتك، أي تعهدتك. وقال القتبي :( فلا تبتئس ) هو من البؤس، والسقاية المكيال، وقيل : مشربة الملك، وصواع الملك وصاعه واحد.
وقوله تعالى :( وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) قيل : ضمين لذلك الطعام كفيل به. والزعيم كأنه أيضا اسم لرئيس من القوم.
[ أحدها :][ ساقطة من الأصل وم ] : أنهم قالوا : ذلك لأنكم رددتم إلينا الدراهم، وجعلتم في أوعيتنا، ثم رددنا مخافة أن نقرف بالسرقة والفساد. فيكف تقرفوننا بهذا ؟
والثاني : أنكم تعلمون أنا أبناء النبي، والرسول والأنبياء لا يكون منهم السرقة والفساد في الأرض، ومثل هذا لم يظهر في أهل بيتنا قط، ولا قرفنا به، فكيف قرفتمونا بهذا ؟
والثالث : أنكم تروننا صوامين قوامين. ومن هذا فعله فإنه لا يتهم بالسرقة.
والرابع[ في الأصل وم : أو ] : أن يكون قوله :( قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ ) لما رأوهم دخلوا من أبواب متفرقة ولو كانوا سراقا لدخلوا مجموعين، لأن عادة السراق الاجتماع لا التفرق.
ثم قالوا: (قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (٧٤)
أي: إن كان فيكم من يكذب ويظهر ذلك منه؛ فما جزاؤه؟.
(قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥)
هذا يحتمل وجهين:
يحتمل قوله: (فَهُوَ جَزَاؤُهُ) أي يصير رقيقًا مملوكًا بها له، أو يصير محبوسًا بها عنده.
واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)
ظاهر هذا الكلام: أن يكون يوسف هو الذي فتش أوعيتهم، وطلب ذلك فيها؛ حيث نسب ذلك إليه بقوله: (قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ).
لكنه نسب إليه؛ لمْا بامْرِهِ فُتِّشَ؛ إِذ الملوك لا يتولون ذلك بأنفسهم وفيه أنه قد فصل بينهم وبين بنيامين؛ حيث سفى هذا أخاه، ولم يسم أُولَئِكَ؛ بقوله: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ)، وهو يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه قد ذكر لهذا أنه أخوه؛ حيث قال له: (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ)؛ ولم يذكر لأُولَئِكَ فسمى هذا أخًا له، ونسب إليه بالأخوة؛ لما كان ذكر له، ولم يسم أُولَئِكَ؛ لما لم يذكر لهم أنه أخوهم.
والثاني: أنه لم يكن لهذا - أعني بنيامين لمكان يوسف - سوء صنيع، ولا شر، بل هو على الأخوة والصداقة التي كانت بينه وبينه. وأمَّا أُولَئِكَ - أعني غيره من الإخوة - فقد كان منهم إليه ما كان من سوء صنيعهم، وقبح فعالهم؛ فيخرج ذلك مخرج التبري من الإخوة بسوء ما كان منهم إليه؛ وهو كقوله لنوح - عليه السلام - حين قال: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) نفى أن يكون من أهله؛ بسوء عمله وفعله؛ غير صالح.
فعلى ذلك الأول يشبه أن يكون على هذا. واللَّه أعلم.
دل هذا أنه قد كان منه أيضًا التفتيش والطلب في وعاء أخيه؛ على ما كان في أوعيتهم لا يستخرجها على غير تفتيش.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ).
هذا يحتمل وجهين:
يحتمل (كَذَلِكَ كِدْنَا) أي علمنا يوسف - من أول الأمر إلى آخره - ما يكيد ويحتال في إمساك أخيه عنده ومنعه عنهم؛ لأن يخلو لهم وجه أبيهم جزاء ما طلبوا هم: أن يخلو لهم وجه أبيهم؛ بتغييب يوسف عن أبيه؛ لأن أباهم قال: (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ)، فلما بلغه ذلك الخبر - تولى عنهم؛ وهو قوله: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ...) الآية؛ هذا - واللَّه أعلم - جزاء كيدهم الذي كادوا بيوسف ليخلو لهم وجه أبيهم؛ ليتولى عنهم أبوهم، هذا يشبه أن يكون.
والثاني: (كِدْنَا لِيُوسُفَ) أي: علمناه أن كيف يفتش أوعيتهم لئلا يشعروهم أنه عن علم استخرجها من وعاء أخيه؛ لا عن جهل وظن، فعلمه البداية في التفتيش بأوعيتهم؛ لئلا يقع عندهم أنه عن علم ويقين يأخذه.
يشبه - واللَّه أعلم - أن يخرج قوله: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ) على هذين الوجهين. أو (كِدْنَا لِيُوسُفَ) أي: أمرنا يوسف بالكيد بهم؛ جزاء ما عملوا بمكانه لما اهتموا بإمساك أخيهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ).
أي في حكم الملك، ذكر أن حكم إخوة يوسف وقضاءهم فيهم: أن من سرق يكون عبدًا بسرقته للمسروق منه، ويستعبد بسرقته، ومن حكم الملك: أن يغرم السارق ضِعْفَي ما سرق؛ ويضرب ويؤدب؛ ثم يخلى عنه، ولا نعلم ما حكم الملك في السرقة، سوى أنه أخبر أن ليس له أخذ أخيه في دين الملك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك، أو يجعل له حق الأخذ وحبسه؛ وإن لم يكن ذلك في حكمه.
أو أن يكون قوله: (إِلَّا أَن يَشَاءُ اللَّهُ) على ما كان من إبراهيم: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) وكان الأنبياء - عليهم السملام - يذكرون الثنيا على حقيقة المشيئة، أو يقول: إلا أن يكون في علم اللَّه مني زلة؛ فاستوجب عند ذلك الكون في دين ذلك الملك؛ فيشاء ما علم مني، وكذلك قول إبراهيم حيث قال:
وفيه أنه قد فصل بينه وبين بنيامين ؛ سمى هذا أخاه، ولم يسم أولئك بقوله :( بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ) وهو يخرج على وجهين.
أحدهما : أنه قد ذكر هذا أنه أخوه حين[ في الأصل وم : حيث ] قال له :( إني أنا أخوك )[ الآية : ٦٩ ] ولم يذكر أولئك، فسمى هذا أخا له ونسبه إليه بالأخوة لما كان ذكر له، ولم يسم أولئك لما لم يذكر لهم أنه أخوهم.
والثاني : أنه لم يكن لهذا ؛ أعني بنيامين [ في حق ][ في الأصل وم : لمكان ] يوسف سوء صنيع ولا شريك، بل هو على الأخوة والصداقة التي كانت بينه وبينه. وأما أولئك ؛ أعني غيره من الإخوة فقد كان منهم إليه ما كان من سوء صنيعهم وقبح فعالهم، فخرج ذلك مخرج التبري من الأخوة بسوء ما كان إليه.
وهو كقوله لنوح عليه السلام حين قال :( رب إن ابني من أهلي ) :( يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح )[ هود : ٤٥و٤٦ ] نفى أن يكون من أهله بسوء عمله، وفعله غير صالح.
فعلى ذلك الأول، يشبه أن يكون على هذا والله أعلم.
وقوله تعالى :( ثم استخرجها من وعاء أخيه ) دل هذا أنه قد كان منه أيضا التفتيش و الطلب في وعاء أخيه على ما كان في أوعيتهم لا يستخرجها على غير تفتيش.
وقوله تعالى :( كذلك كدنا ليوسف ) هذا يحتمل وجهين :
أحدهما[ في الأصل وم : يحتمل ] ( كذلك كدنا ليوسف ) أي علمنا يوسف من أول الأمر إلى آخره ما يكيد ويحتال في إمساك أخيه عنده ومنعه عنهم [ لئلا يخلو ][ في الأصل وم : لأن يخلو ] لهم وجه أبيهم بتغييب يوسف عن أبيه لأن أباهم قال :( حتى تؤتوني موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم )[ الآية : ٦٦ ] فلما بلغه ذلك الخبر تولى عنهم وهو قوله :( وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف )الآية[ الآية : ٨٤ ].
هذا والله أعلم، جزاء كيدهم الذي كادوا بيوسف ليخلو لهم وجه أبيهم ليتولى عنهم أبوهم. هذا يشبه أن يكون.
والثاني :( كذلك كدنا ليوسف ) أي علمناه أن كيف يفتش أوعيتهم لئلا يشعروا أنه عن علم استخرجها من وعاء أخيه لا عن جهل وظن ؟ علمناه[ في الأصل وم : لعلمه ] البداية في التفتيش لأوعيتهم لئلا يقع عندهم أنه عن علم ويقين يأخذه.
يشبه، والله أعلم، أن يخرج قوله :( كذلك كدنا ليوسف ) على هذين الوجهين أو ( كذلك كدنا ليوسف ) بالكيد بهم جزاء ما عملوا به بالحق لما اهتموا بإمساك أخيهم.
وقوله تعالى :( مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِك ) أي في حكم الملك ؛ ذكر أن حكم إخوة يوسف وقضاءهم فيهم أن من سرق يكن[ في الأصل وم : يكون ] عبدا بسرقته للمسروق، ويستعبد[ من م، في الأصل : ويستبعد ] بسرقته. ومن حكم الملك أن يغرم[ في الأصل وم : يفرق ] السارق ضعفي ما سرق ويضرب ويؤدب ثم يخلى عنه. ولا نعلم ما حكم الملك في السرقة سوى أنه أخبر أن ليس له أخذ أخيه في دين الملك.
وقوله تعالى :( إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك أو يجعل له حق الأخذ وحبسه وإن لم يكن ذلك في حكمه، أو أن يكون قوله :( إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) على ما كان الأنبياء صلوات الله عليهم، وسلامه، يذكرون الثنيا على حقيقة المشيئة، أو يقول : إلا أن يكون في علم الله مني زلة، فأستوجب عند ذلك الكون في دين[ من م، في الأصل : ذلك ] الملك، فيشاء ما علم مني.
وكذلك قوله إبراهيم حين[ في الأصل وم : حيث ] قال :( ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا )[ الأنعام : ٨٠ ] أي لا أخاف ما تشركون به إلا أن يكون مني ما أستوجب ذلك بزلة، فيشاء الله ذلك مني.
وقوله تعالى :( نرفع درجات من نشاء ) الدرجات هن الفضائل ؛ نرفع بعضهم فوق بعض بالنبوة والعلم وفي كل شيء ( وفوق كل ذي علم عليم ) ما من عالم، وإن لطف علمه، وكثر إلا وقد يكون فوقه من هو ألطف علما منه وأكثر وأعلم في شيء. أو يكون قوله :( وفوق كل علم عليم ) هو الله تعالى فوق كل ذي علم ؛ يعلمهم العلم، والله أعلم.
ومن يقول : إنه عالم، [ وهو لا يعلم كل شيء ][ في الأصل وم : لا يعلم ] يحتج بظاهر هذه الآية حين[ في الأصل وم : حيث ] قال :( وفوق كل ذي علم عليم ) أثبت لغيره العلم، ولم يذكره[ في الأصل و م : يذكر ] لنفسه ؛ كأنه[ في الأصل وم : بل ] قال :[ إنه ذو علم. ولو قال إنه ][ في الأصل وم : عليم لكنه إذا قال ] عليم أثبت العلم [ لنفسه لأنه ][ في الأصل وم : ولأنه ] إذا قال : وفوق كل العلماء يكون كذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ).
الدرجات: هن الفضائل؛ يرفع بعضهم فوق بعض بالنبوة والعلم، وفي كل شيء.
(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).
ما من عالم وإن لطف علمه وكثر إلا قد يكون فوقه من هو ألطف علمًا منه وأكثر وأعلم في شيء أو يكون قوله: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) وهو اللَّه تعالى؛ فوق كل ذي علم؛ يعلمهم العلم، واللَّه أعلم.
من يقول: إنه عالم إلا بعلم يحتج بظاهر هذه الآية؛ حيث قال: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أثبت لغيره العلم ولم يذكر لنفسه؛ بل قال: (عَلِيمٌ)؛ لكنه إذا قال: (عَلِيمٌ) أثبت العلم ولأنه إذا قال: وفوق كل العلماء عليم يكون كذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (٧٧)
قال بعض أهل التأويل: كانت سرقته: أنه كان صنم من ذهب لجده أبي أمِّه يعبده؛ فسرق ذلك منه لئلا يُعْبَدَ دون اللَّه، ولكنا لا نعلم ذلك؛ ونعلم أنهم كذبوا في قولهم (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وأرادوا أن يتبرءوا منه، وينفوا ذلك عن أنفسهم، ليعلم أنه ليس منهم.
فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم (قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) عند اللَّه.
قيل: إن يوسف أسر هذه الكلمة في نفسه؛ لم يظهرها لهم أو أسر ما اتهموه بالسرقة.
وجائز أن يكون قولهم: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) خاطبوا به أخاه بنيامين دون يوسف: إن سرقت، فقد سرق أخ له من قبل؛ يقولون فيما بينهم.
وقد ذكر في بعض الحروف: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سُرِّقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) بالتشديد فإن
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) أي أنتم شر صنعًا بيوسف.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) من الكذب أنه سرق أخ له من قبل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨)
أرادوا واللَّه أعلم أن يرقوا قلبه بهذا، (إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا) لما يكون قلب الشيخ بولده الصغير أميل؛ وهو عنده آثر وأكثر منزلة منا.
(فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
لما أحسن إليهم في الكيل؛ والإنزال في المنزل والضيافة والقرى؛ قد رأوه وعلموه محسنًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (٧٩)
قيل: هذا قول يوسف. (مَعَاذَ اللَّهِ) أي أعوذ باللَّه (أَنْ نَأْخُذَ) ونحبس بالسرقة (إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ) فَإِنْ قِيلَ: كيف تعوذ على ترك أخذه؛ وأخذ غيره مكانه، ولم يكن وجب له حق الأخذ؛ إذ لم يكن سرقه وإنما يتعوذ على ترك ما لا يسع تركه؟
قيل: إنه لم يتعوذ على ترك أخذ أخيه، إنما تعوذ على أخذ غير من وجد المتاع عنده.
(إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ) عندكم لو أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده؛ إذ في حكمهم أخذ من سرق بالسرقة والحبس بها. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (٨١) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٨٢) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (٨٥) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (٨٧)
[ فإن قيل : كيف تعود على ترك أخذه وأخذ غيره مكانه، ولم يكن وجب له حق الأخذ، إذ لم تكن سرقة، وإنما يتعوذ على ترك ما لا يسع تركه ؟ قيل : إنه لم يتعوذ على ترك أخذ أخيه، إنما تعوذ على غير ما وجد المتاع عنده ( إنا إذا لظالمون ) عندكم لو أخذنا غير من وجدنا متاعا عنده. إذ في حكمهم أخذ من سرق بالسرقة ][ من م، ساقطة من الأصل ] والحبس بها، والله أعلم.
قيل: أيسوا عن أن يُرَدَّ إليهم أخوهم.
(خَلَصُوا نَجِيًّا).
قيل: خلوا من الناس وخلصوا منهم؛ يتناجون فيما بينهم في أمر أخيهم، أو في الانصراف إلى أبيهم، أو في المقام فيه.
(قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا).
قال أهل التأويل: كبيرهم في العقل ليس في السن؛ وهو فلان.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وهو يهوذا، وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو شمعون. ولكن لا نعلم من وإن قائل هذا لهم، ولا نحتاج إلى معرفة ذلك؛ سوى أن فيه: (قَالَ كَبِيرُهُمْ إما أن كان كبيرهم في العقل؛ أو كبيرهم في السن.
(أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ) (ألم تعلموا) و (ألم تروا) حرفان يستعملان في أحد أمرين: في الأمر؛ أن اعلموا ذلك، أو في موضع التنبيه والتقرير؛ وهاهنا كأنه قال ذلك على التقرير والتنبيه؛ أي: قد علمتم (أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ).
هذا يدل أن التأويل في قوله: (إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُم)، هو إلا أن يعمكم أمرٌ ويجمعكم؛ فتهلكون فيه جميعًا، وليس كما قال بعض أهل التأويل: إلا أن يجيء ما يمنعكم عن رده؛ أي: إلا أن تغلبوا فتعجزوا عن رده؛ لأنه قد جاء ما يمنعهم عن رده، ثم أبى أكبرهم الرجوع إلى أبيه؛ دل أن التأويل هو هذا، ومن يقول: إن التأويل في قوله: (إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُم)، إلا أن يجيء ما يمنعكم عن الرد؛ استدل بقوله: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ)؛ فلو كان على ما يعمهم ويجمعهم، لم يكن ليأمرهم بالرجوع إلى أبيهم؛ دل أنه ما ذكر.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ).
أي: من قبل ما ضيعتم أمر أبيكم في يوسف؛ أو ضيعتم أمر اللَّه ووعده في يوسف.
(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي).
هذا يحتمل وجهين: يحتمل حتى يأذن لي أبي بالرجوع إليه؛ إذا ظهر عنده عذرنا وصدقنا في أمر ابنه أو يأذن لي أبي، بالمنازعة في القتال مع الملك حتى أستنقذ أخي وأستخلصه منه.
(أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) في الرجوع أيضًا أو في القتال معه.
(وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) أو يحكم اللَّه لي بإظهار عذرنا وصدقنا عند أبينا.
(وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) في إظهار العذر؛ لأنه إذا حكم بإظهار العذر ظهر ذلك في الخلق جميعًا، ولا كذلك حكم غيره؛ لأن كل من يحكم بحكم؛ يجوز إنما يحكم بحكم؛ هو حكم اللَّه؛ فهو خير الحاكمين وكذلك قوله: (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لأن من رحم من الخلق؛ إنما يرحم برحمته؛ فهو أرحم الراحمين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (٨١)
يحتمل على الأمر؛ على ما هو في الظاهر. ويحتمل ما ذكرنا؛ أي: لو رجعتم إليه؛ فقولوا: يا أبانا إن ابنك سرق يشبه أن يكون هذا منه تعريضًا في التخطئة؛ على ما كان يؤثره على غيره من الأولاد؛ أي الذي كنت تؤثره علينا بالمحبة وميل القلب إليه - قد سرق، ويشبه أن يكون ليس على التعريض؛ ولكن على الإخبار؛ على ما ظهر عندهم من ظاهر الأمر.
(وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا) بما أخرج المتاع من وعائه.
(وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ).
ويحتمل: (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) وقت ما أخرج المتاع من وعائه؛ واتهم أنه سرق، أو لم يسرق، أو هو وضع الصاع في رحله، أو غيره وضع أي: ما كنا نعلم في الابتداء أن الأمر يرجع إلى هذا؛ وإلا لم نخرجه معنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٨٢)
أي لو سألت أهل القرية وأهل العير؛ لأخبروك أنه على ما نقول.
(وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) على ذلك؛ على ما ظهر لنا؛ من استخراج الإناء من وعائه والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣)
فَإِنْ قِيلَ: كيف قال لهم: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا) وجعل ما أخبروه من تسويل أنفسهم وتزيينها؛ ولم يخالفوه فيما أمرهم في أمر بنيامين، ولا تركوا شيئًا مما أمرهم به؛ وليس هذا كالأول؛ الذي قال لهم في أمر يوسف: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا...) الآية؛ لأنه قد كان منهم خلاف لما أمرهم به؛ والسعي على إهلاكه، فكان ما ذكر من تسويل أنفسهم وتزيينها في موضع التسويل والتزيين، وأمَّا هاهنا فلم يأت منهم إليه خلاف، ولا ترك لأمره؛ فكيف قال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا) ولكن يشبه أن يكون قال
وليس هذا كالأول الذي قال لهم في أمر يوسف ( بل سولت لكم أنفسكم أمرا )[ الآية : ١٨ ] لأنه قد كان منهم خلاف لما أمرهم به، والسعي إلى إهلاكه، فكان ما ذكر من تسويل أنفسهم وتزيينها في موضع التسويل والتزيين. وأما ههنا فلم يأت منهم إليه خلاف ولا ترك لأمره.
فكيف قال :( بل سولت لكم أنفسكم أمرا ) ؟ قيل[ في الأصل وم : لكن ] يشبه أن يكون قال ذلك لأنهم لما اتهموا جميعا بالسرقة، فقيل :( إنكم لسارقون )[ الآية : ٧٠ ] ( قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين )[ الآية : ٧٣ ] قطعوا فيه القول : إنهم لم يكونوا سارقين، وهو كان فيهم.
فكيف قطعتم فيه القول بالسرقة ( إن ابنك سرق ) ؟ ( بل سولت لكم أنفسكم أمرا ) من البغض والعداوة والإيثار له وليوسف [ عليكم والميل إليهما دونكم حين ][ في الأصل وم : عليهم والميل إليها دونهم حيث ] ( قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة )[ الآية : ٨ ] والله أعلم. فسولت لكم أنفسكم ببغضكم وعداوتكم حتى تركتم الفحص عن حاله وأمره [ إذ لا ][ في الأصل وم : إلا ] كل من وجد في رحله شيء يكون هو واضع ذلك الشيء، بل قد يضعه[ في الأصل وم : يضع ] غيره فيه على غير علم منه.
وقوله تعالى :( فصبر جميل ) قد ذكرناه.
وقوله تعالى :( عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ) قال أهل التأويل : قال :( يأتيني بهم جميعا ) لأنهم صاروا جماعة : يوسف، وبنيامين أخوه، ويهوذا، وشمعون، قد تخلفا بسبب حبس يوسف أخاه، أو يوسف وأخوه.
وقال بعض أهل التأويل : إن جبريل أتى يعقوب على أحسن صورة، فسأله عن يوسف : أفي الأحياء [ هو أم في الأموات ][ في الأصل : أم الأموات، في م : أم في الأموات ] فقال : بل هو في الأحياء، فقال عند ذلك :( عسى /٢٥٦-ب/الله أن يأتيني بهم جميعا ) أو علم يعقوب أن يوسف في الأحياء، وأنه غير هالك، لما رأى يوسف من الرؤيا من سجود الكواكب والشمس والقمر له علم أنه في الأحياء، وأنه لا يهلك إلا بعد خروج رؤياه، وغير ذلك من الدلائل.
لكنه كان لا يعلم أين هو، فقال ذلك :( إنه هو العليم الحكيم ).
فسولت لكم أنفسكم ببغضكم وعداوتكم حتى تركتم التفحص عن حاله وأمره، أن لا كل من وجد في رحله شيء يكون هو واضع ذلك الشيء؛ بل قد يضع غيره فيه؛ على غير علم منه.
وقوله: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).
قد ذكرناه.
وقوله: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا).
قال أهل التأويل: قال: (يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا)؛ لأنهم صاروا جماعة؛ يوسف وبنيامين أخوه، ويهوذا وشمعون قد تخلفا لسبب حبس يوسف أخاه، أو يوسف وأخوه.
وقال بعض أهل التأويل: إن جبريل أتى يعقوب على أحسن صورة؛ فسأله عن يوسف؛ أفي الأحياء أم في الأموات؟ فقال: بل هو في الأحياء؛ فقال عند ذلك: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا).
أو علم يعقوب أن يوسف في الأحياء، وأنه غير هالك؛ لما رأى يوسف؛ من الرؤيا؛ من سجود الكواكب والشمس والقمر له؛ علم أنه في الأحياء، وأنه لا يهلك إلا بعد خروج رؤياه، وغير ذلك من الدلائل، لكنه كان لا يعلم أين هو؟ فقال ذلك). (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤)
أي أعرض عنهم وعاتبهم؛ حين أخبروه أن ابنه سرق.
وقال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ).
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الأسف أشد الحسرة؛ وأصله: أن الأسف كأنه النهاية في الحزن: أن الحزين إذا بلغ غايته ونهايته؛ يقال: أسف. وهو النهاية في الغضب أيضًا.
كقوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا) أي: لما أغضبونا (انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)، وقوله تعالى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا).
وقوله: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ).
يحتمل أن يكون لا على إظهار القول باللسان؛ ولكن إخبار عما في ضميره، وذلك جائز؛ كقوله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ)، أخبر عما في قلوبهم؛ لا أن قالوا ذلك باللسان. ويحتمل القول به على غير قصد منه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهُوَ كَظِيمٌ).
الكظم: هو كف النفس عن الجزع؛ وترديد الحزن في الجوف على غير إظهار في أفعاله، والجزع هو ما يظهر في أفعاله؛ والذي يهيج الحزن هو الذي يهيج الغضب، إلا أن الحزن يكون على من فوقه؛ والغضب على من تحت يده، وسبب هيجانهما واحد، أو أن يكون الكظيم: هو الذي يمسك الحزن في قلبه والغم، كأنه هو الذي يستر ويغطي القلب؛ إذا حل به، والهم: هو ما يبعث على القصد من الهم به. والحزن: هو على ما يؤثر التغيير في الخلقة؛ ولا يظهر في الأفعال والجزع يظهر في الأفعال، ولا يغير الخلقة عن حالها، لذلك عمل في ضعف نفس يعقوب، وعمل في إهلاك بعضه، حيث ذهبت عيناه وابيضت من الحزن، والكظيم: ما ذكرنا؛ هو الذي يردد الحزن في جوفه ولا يظهر ويكفه عن الجزع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (٨٥)
هو يمينهم مكان: واللَّه أو باللَّه، وكذلك قال إبراهيم: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ).
أي لا تزال تذكر يوسف ولا تنسى ذكره؛ حتى تسلو؛ من حزنه، كأنهم دَعَوْه إلى السلو من حزنه؛ لأنه بالذكر يتجدد الحزن ويحدث، فقالوا له: لا تزال تذكر يوسف.
(حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا).
قيل: دنفًا وقيل: (حَرَضًا): هرمًا؛ وأصل الحرض: الضعف.
(أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِ).
كذلك صار يعقوب ضعيفًا في بدنه من الحزن؛ وصار بعض بدنه من الهالكين؛ حيث ابيضت عيناه؛ وذهبتا من الحزن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦)
قَالَ الْقُتَبِيُّ: الحرض: الدنف، والبث: أشد الحزن؛ لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يَبُثه؛ أي: يشكوه، وكذلك روي في الخبر: (مَنْ بَثَّ فلم يصبر)؛ أي: شكا، وما ذكر من الشكاية إلى اللَّه ليس على إظهار ذلك باللسان؛ ولكن إمساك في القلب.
وقال الحسن: (أَشْكُو بَثِّي) أي: حاجتي وحزني إلى اللَّه، ويشبه أن يكون البث والحزن واحدًا ذكر على التكرار.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحرض: الذي قد ذهب عقله من الكبر.
(أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) فتموت واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
قال بعض أهل التأويل: قوله: أعلم من اللَّه من تحقيق رؤيا يوسف؛ أنه كائن ما لا تعلمون: أنتم وأنا سنسجد له.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قوله: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أنه حي
ويشبه أن يكون قوله: أعلم من اللَّه؛ أي: أنتفع بعلمي ما لا تنتفعون أنتم، وأصله: أن إخوة يوسف لو علموا أن أمر يوسف يبلغ ما بلغ من الملك والعز - ما قصدوا قصد تغييبه عن والده، ولا سعوا فيه فيما سعوا من إفساد أمره، لكنهم لم يعلموا واللَّه أعلم - أو علم من اللَّه شيئًا لم يبين ما لا يعلمون هم؛ كقول إبراهيم [.... ]، وما ذكر أهل التأويل: أن يعقوب قال: كذا؛ من النياح على يوسف والجزع عليه؛ لا يحتمل ذلك؛ لأنه قال - حين أخبروه بذلك -: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) وما ذكروا هم منه ليس هو بصبر؛ فضلا أن يكون جميلا.
وقوله: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (٨٧)
قال أهل التأويل: تحسسوا: اطلبوه واستخبروا عنه وعن أخيه، لكن غير هذا كأنه أقرب؛ وهو من وقوع الحس عليه؛ كأنه قال: اذهبوا فانظروا إليه وإلى أخيه؛ لأنهم إن لم يكونوا يعلمون أن يوسف أين هو - فلقد كانوا يعلمون من حال أخيه بنيامين أنه أين هو؟ فلو كان على الطلب والبحث والاستخبار؛ على ما قاله أهل التأويل؛ إن احتمل في يوسف فذلك لا يحتمل في أخيه؛ إذ هم كانوا يعلمون مكانه وأين هو؟ وإن كانوا لا يعلمون مكان يوسف ولا أين هو، وهو إنما أمرهم أن يتحسسوا عنهما جميعًا؛ فدل - واللَّه أعلم - أنه من وقوع الحس والبصر عليهما؛ لا من البحث والطلب - واللَّه أعلم - فكأنه علم بالوحي أنه هنالك وأخوه معه، لكنه لم يخبر بنيه أنه هنالك؛ لما علم أنهم يتكاسلون ويتثاقلون عن الذهاب إليه؛ فإنما أمرهم بذلك أمر تعريض لا أمر تصريح.
أو أن يكون قوله: (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ) على الإضمار؛ أي: تحسسوا من يوسف واسألوا منه رد أخيه؛ لما علم أن أخاه يكون معه.
وقال عامة أهل التأويل: إنما قال لهم هذا؛ وعلم أنه في الأحياء؛ لأنه رأى ملك الموت؛ فقال له: هل قبضت روح يوسف مما قبضت من الأرواح؛ قال: لا.
لكنا نقول: إنه كان عالمًا بأنه في الأحياء؛ ليس بهالك؛ لما رأى من الرؤيا وغيره؛ فعلم أنه لا يهلك إلا بعد خروج رؤياه على الصدق والحق، لكنه لم يكن يعلم أنه أين هو من قبل، ثم علم من بعدُ بالوحي عن مكانه وحاله؛ فأمر بنيه أن يأتوه؛ فينظروا إليه وإلى أخيه.
وأصل هذا: أن ما حَلَّ بيعقوب - من فوت يوسف وغيبته عنه - محنة امتحنه ربه، وبلية ابتلاه بها؛ يبتلى بذلك؛ حسرة عليه؛ ألا ترى أن يوسف لو أراد أن يُعْلِم أباه يعقوب عن مكانه وحاله؛ لقدر عليه؛ لأنه كان يعلم بمكان أبيه، وأن يعقوب لا يعلم بمكان يوسف؛ فلم يعلمه إلا بعد الأمر بالإعلام. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ).
قيل: من رحمة اللَّه.
(إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
أخبر أنه لا ييئس من رحمة اللَّه إلا القوم الكافرون؛ لأن مَنْ آمن يعلم أنه متقلب في رحمة اللَّه ونعمته فلا ييئس من رحمته، وأمَّا الكافر؛ فإنه لا يعلم رحمة اللَّه ولا تقلبه في رحمته؛ فييئس من رحمته.
فنهاهم عن الإياس؛ لما كان عندهم أنه هالك؛ حيث قالوا: (إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ)، لما قال لهم: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ)، وأخوه كان محبوسًا بالسرقة؛ والمحبوس لا يرد في حكمهم.
أو يقول: نهاهم؛ وإن لم يكونوا آيسين؛ ثم قوله: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) وخبر عن اللَّه؛ أخبر أنه لا ييئس من رحمة اللَّه إلا القوم الكافرون، وكذلك ما بشر إبراهيم بالولد؛ حيث قالوا: (بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ)، نهاه عن القنوط؛ ولا يحتمل أن يكون إبراهيم قانطًا عن ذلك؛ لكنه نهاه ثم أخبر فقال:
* * *
قوله تعالى: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (٨٩) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (٩١) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي على يوسف (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) سموه عزيزا، لما لعلهم يسمون كل ملك عزيزا، أو سموه عزيزًا؛ لما كان عند ذلك عزيزًا؛ بقوله: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ)، أو لما كان بالناس إليه حاجة بالطعام الذي في يده؛ وهو كان غنيًّا عما في أيديهم واللَّه أعلم.
قولهم: (مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ).
قال أهل التأويل: أصابنا الشدة والبلاء من الجوع.
(وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ).
قيل: دراهم نُفَاية مبهرجة لا تنفق في الطعام؛ كاسدة؛ لأنه كان في عزّة؛ وتُنفَق في غيره.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ) أي قليلة. وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: أي قليلة. وقال ابن عَبَّاسٍ: هي الورق الرديئة التي لا تنفق حتى يوضع منها.
قالوا: ويشبه أن يكون (مُزْجَاةٍ) من التزجية: كما يقال: نزجي يومًا بيوم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أوف لنا الكيل بسعر الجياد؛ وتأخذ النُفَاية وتكيل لنا الطعام بسعر الجياد.
لكن قوله: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي سلم لنا الكيل تامًّا؛ لأن الإيفاء هو التسليم على الوفاء؛ كقوله: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ)، وتصدق علينا بفضل ما بين الثمنين في الوزن. وقيل: ما بين الكيلين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وتصدق علينا: أي زد لنا شيئًا يكون ذلك صدقة لنا منك.
لكن يشبه على ما قالوا: وطلبوا منه الصدقة؛ حط الثمن؛ لأن الصدقة لا تحل للأنبياء، ويجوز الحط لهم، ويجوز حط من لا يجوز صدقته؛ نحو العبد المأذون له في التجارة؛ يجوز حطه ولا يجوز صدقته، وكذلك نبي اللَّه كان يجوز له الشراء، بدون
ويحتمل أن يكون قوله: (مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) بذهاب بصر أبيهم؛ مسهم بذلك وأهلهم الضر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا).
أي رُدَّ علينا بنيامين؛ لعل اللَّه يرد بصره عليه.
(إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ).
قال أهل التأويل: إن اللَّه يجزي المتصدقين إن كانوا على دين الإسلام؛ كأنهم ظنوا أنه ليس على دين الإسلام؛ ولو أنهم ظنوا أنه مسلم؛ لقالوا: إن اللَّه يجزيك بالصدقة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (٨٩)
هو ظاهر لا يحتاج إلى ذكره وأما ما فعلوه بأخيه: قال أهل التأويل: هو ما قالوا إنه سرق؛ لكنهم لم يقولوا إلا قدر ما ظهر عندهم؛ فلم يلحقهم بذلك القول فضل تعيير؛ لكن يشبه أن يكونوا آذوه بأنواع الأذى، ولا شك أنهم كانوا يبغضون يوسف وأخاه؛ حيث قالوا: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا).
وقوله: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ).
قد كانوا علموا هم ما فعلوا بيوسف لكنه كأنه قال: هل تذكرون ما فعلتم بيوسف؛ أو أنتم جاهلون ذلك؛ ناسون؟ يقول لهم: اذكروا ما فعلتم بيوسف، وتوبوا إلى اللَّه عن ذلك، ولا تكونوا جاهلين عن ذلك. أو يقول لهم: هل رجعتم وتبتم عن ذلك؟، أو أنتم بعد فيه؟.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ).
قال بعض أهل التأويل: (إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) أي: مذنبون؛ ولكن إذ أنتم جاهلون قدر يوسف ومنزلته، لأنهم لو علموا ما قدر يوسف عند اللَّه؛ وما منزلته ما قالوا: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا)، وما خطئوا أباهم في حبِّه إياه حيث قالوا: (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، وما فعلوا به ما فعلوا. واللَّه أعلم.
(قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠)
كأنهم عرفوا أنه يوسف؛ بقول يوسف لهم: (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) أو عرفوا بقول أبيهم؛ حيث قال: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ)، لما ذكر أخاه
[ وقوله تعالى ][ ساقطة من الأصل وم ] :( أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ ) يحتمل ( من يتق ) معاصيه ( ويصبر ) على بلاياه، أو [ من ][ ساقطة من الأصل وم ] اتقى مناهيه، وصبر على أداء ما أمر به، أو من اتقى، وصبر، فقد أحسن أو يقول : إنه من يتق الجفا ويصبر على البلاء، فقد أحسن ( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ).
ويشبه أن يكون قوله :( وتصدق علينا ) أي رد أخانا علينا، وهو ما ذكرنا، والله أعلم.
(قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ).
يحتمل: من يتق معاصيه، ويصبر على بلاياه. أو اتقى مناهيه؛ وصبر على أداء ما أمر به. أو من اتقى وصبر؛ فقد أحسن. أو يقول: إنه من يتق الجَفاء؛ ويصبر على البلاء؛ فقد أحسن.
(فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
ويشبه أن يكون قوله: (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا).
أي رُدَّ أخانا علينا، وهو ما ذكرنا. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (٩١)
(تَاللَّهِ) وقسم قد اعتادوه في فحوى كلامهم؛ على غير إرادة يمين بذلك؛ هكذا عادة العرب؛ وإلا كان يعلم يوسف أن اللَّه قد آثره عليهم.
ويشبه أن يكون يخرج القسم هاهنا على تأكيد معرفتهم فضله ومنزلته؛ أي: لم تزل كنت مُؤْثَرًا مفضّلا علينا.
(وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ).
أي: وقد كنا خاطئين؛ فيما كان منا إليك من الصنيع.
أو أن يكون قوله: (لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا)؛ فيما قالوا: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا) أي لما كان يؤثرهما عليهم؛ فقالوا: كنت مؤثَرًا على ما كان أبونا يؤثرك علينا وقد كنا (لَخَاطِئِينَ)؛ فقال يوسف.
(لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
قَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (لَا تَثْرِيبَ): أي لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم؛ بما صنعتم. وقَالَ بَعْضُهُمْ " (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) أي: [لا تعنيف عليكم] (١). وقيل: أصل التثريب: الإفساد؛ يقال: ثرب علينا الأمر: أي أفسده.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: التثريب: الملامة " يقول: لا لوم عليكم في صنيعكم.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تثريب عليكم: أي لا أعيركم بعد هذا اليوم أبدًا؛ ولا أعيره عليكم.
وقيل أصل التثريب الإفساد ؛ يقال : ثرب علينا الأمر أفسده.
وقال أبو عوسجة : التثريب الملامة ؛ يقول : لا لوم عليكم في صنيعكم. وقال ابن عباس رضي الله عنه :( لا تثريب عليكم اليوم ) أي لا أعيركم بعد هذا اليوم أبدا، ولا أعيده[ في الأصل وم : أعبره ] عليكم.
وهو يحتمل هذين الوجهين :
أحدهما : لا تعيير عليكم، ولا ملامة ؛ أي ليس في العقل تعيير ولا ملامة إذ أتيتم، وأقررتم بالخطأ.
وهكذا كل من أذنب ذنبا أو ارتكب كبيرة، ثم انتزع عنها، وثاب منها، لا يعير هو عليه، ولا يلام. وكذلك قيل في قوله :( ولا تنابزوا بالألقاب )[ الحجرات : ١١ ] ذكر أنهم كانوا يعيرون أهل الكفر في كفرهم، وينابزونهم، ثم أسلموا، فنهوا أني ينابزوهم، ويصنعوا بهم مثل صنيعهم بهم في كفرهم. ولو وجب التعيير والملامة بعد الانتزاع عنه والتوبة، أو جاز[ في الأصل وم : يجوز ] ذلك لكان أصحاب رسول الله معيرين ملامين لأنهم كانوا أهل الكفر في الابتداء فهذا مما لا يحل في العقل.
والثاني قوله :( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ ) لا أعيركم على ما قال ابن عباس رضي الله عنه أي لا ذكر ما كان منكم إلينا. أمنهم عن أن يذكر شيئا مما كان منهم إليه. ولذلك قال :( من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي )[ الآية : ١٠٠ ] ذكر /٢٥٧-ب/ أن الشيطان هو الذي فعل ما كان بينه وبين إخوته. وكذلك فعل حين[ في الأصل وم : حيث ] قال :( من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ) أضاف ذلك إلى الشيطان ولم يضف إلى إخوته.
وقوله تعالى :( يغفر الله لكم ) قطع فيه القول بالمغفرة حين أقروا بالخطايا وثابوا عما فعلوا وهكذا كل من تاب عن ذنب ارتكبه ونزع عنه أن يقطع القول فيه بالمغفرة والرحمة.
وقوله تعالى :( يغفر الله لكم ) يخرج على الدعاء لهم وعلى الإخبار بالوحي أنه يغفر لهم، أو قد غفر لهم، أو يقول : استغفروا الله [ من ][ ساقطة من الأصل وم ] الذي كان بين الله وبينكم يغفر لكم ( وهو أرحم الراحمين ) لأن كل من يرحم من الخلائق إنما يرحم برحمة منه إليه. فهو أرحم الراحمين بما قلنا على ما قلنا في قوله :( وهو خير الحاكمين )[ الأعراف : ٨٧ ] لأن من يحكم من الخلائق عليكم إنما يحكم بحكم ناله منه.
أحدهما: لا تعيير عليكم ولا ملامة؛ أي ليس عليكم في العقل تعيير ولا ملامة؛ إذا تبتم وأقررتم بالخطأ، وهكذا كل من أذنب ذنبًا أو ارتكب كبيرة؛ ثم انتزع عنها وتاب منها؛ لا يعيَّر - هو - عليه ولا يلام. وكذلك قيل في قوله: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) ذكر أنهم كانوا يعيرون أهل الكفر في كفرهم؛ وينابزونهم؛ ثم أسلموا؛ فنهوا أن ينابزوهم؛ ويصنعوا بهم مثل صنيعهم بهم في حال كفرهم، ولو وجب التعيير والملامة بعد الانتزع عنه والتوبة؛ أو يجوز ذلك لكان أصحاب رسول اللَّه معيَّرين ملامين؛ لأنهم كانوا أهل الكفر في الابتداء، فهذا مما لا يحل في العقل.
والثاني: قوله: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ): لا أعيركم؛ على ما قال ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أي: لا أذكر ما كان منكم إلينا؛ أمنهم عن أن يذكر شيئا مما كان منهم إليه؛ ولذلك قال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).
ذكر أن الشيطان هو الذي فعل ما كان بينه وبين إخوته؛ وكذلك فعل؛ حيث قال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)، أضاف ذلك إلى الشيطان، ولم يضف إلى إخوته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ).
قطع فيه القول بالمغفرة لهم؛ حين أقروا بالخطايا وتابوا عما فعلوا، وهكذا كل من تاب عن ذنب ارتكبه ونزع عنه؛ أن يقطع القول فيه بالمغفرة والرحمة.
وقوله: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) يخرج على الدعاء لهم بالمغفرة، أو على الإخبار بالوحي أنه يغفر لهم، أو قد غفر لهم، أو يقول: استغفروا اللَّه؛ الذي كان بين اللَّه وبينكم يغفر لكم.
(وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لأن كل من يرحم من الخلائق؛ إنما يرحم برحمة منه إليه؛ فهو أرحم الراحمين؛ بما قلنا؛ على ما قلنا في قوله: (خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)، و (أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)، لأن من يحكم من الخلائق بحكم يجوز إنما يحكم بحكم ناله منه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)
دل هذا من يوسف؛ حيث قطع القول فيه أنه يصير بصيرًا؛ إنه عن وحي قال هذا لا عن رأي منه واجتهاد؛ إذ قطع القول فيه أنه إذا ألقي على وجهه يصير بصيرًا.
أحدهما: يصير بصيرًا على ما ذكرنا.
والثاني: يأتيني بصيرًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ).
أراد - واللَّه أعلم - حيث أمرهم أن يأتوا بأهلهم أجمع - أن يبرهم ويكرمهم؛ حين تابوا عما فعلوا به؛ وأقروا له بالخطأ في أمره.
* * *
قوله تعالى: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٩٦) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ).
قيل خرجت؛ وفصلت؛ وانفصلت - واحد.
(قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ).
قال أهل التأويل: كان بينهما ثمانون فرسخًا؛ يعني: بين مصر وبين كنعان مكان يعقوب. وقيل: مسيرة ثمانية أيام؛ ما بين الكوفة والبصرة.
ولا حاجة لنا إلى معرفة ذلك أن كم كان بينهما؛ سوى أنا نعلم أنه كان بينهما مسيرة أيام؛ ثم وجد يعقوب ريح يوسف من ذلك المكان؛ ولم يجد غيره ممن كان معه؛ فذلك آية من آيات اللَّه؛ حيث وجد ريحه من مكان بعيد لم يجد ذلك غيره، وذلك من آثار البشارة والسرور الذي يدخل فيه بقدومه.
قال بعض أهل التأويل: ذلك القميص هو من كسوة الجنة؛ كان اللَّه كساه إبراهيم، وكساه إبراهيم إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب، وكساه يعقوب يوسف؛ لذلك وجد
احتمل ما قالوا، أو احتمل أن يكون قميصًا من قمصه. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ).
قيل تحزنون، وقيل: تهرمون، وقيل: تكذبون، وقيل: تضعفون، وقيل: تعجزون، وقيل: تجهلون، وقيل: تسفهون، وقيل: تحمقون، وقيل: لولا أن تقولوا ذهب عقلك.
والمفند: معروف عند الناس: هو الذي يبلغ من الكبر غايته؛ كقوله: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ).
وقوله: (لَولَا) وإذا كان على الابتداء؛ فهو على النهي؛ أي لا تفندون، وإذا كان على الخبر؛ فهو على النفي؛ كقوله: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) أي: لم ينفع.
(إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ).
قيل في حُمث يوسف، وذكره القديم كان عندهم؛ بأنه هالك؛ لذلك أنكروا عليه وخطئوه؛ فيما يجد من ريحه، وعنده أنه في الأحياء؛ لذلك كان ما ذكروا. والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٩٦)
أي رجع بصيرًا على ما كان: قال أهل التأويل: البشير كان يهوذا، وقيل: البريد، ولا ندري من كان؛ وليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة - سوى أن المدفوع إليه [الثوب] كان واحدًا؛ وإن قال في الابتداء: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
قال بعض أهل التأويل: وذلك أن يعقوب قال لهم قبل ذلك: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أنتم؛ من تصديق رؤيا يوسف؛ وأنه حي، وكان يعلم هو من اللَّه أشياء ما لا يعلمون هم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧) قال يعقوب: سوف أستغفر لكم ربي.
طلبوا من أبيهم الاستغفار؛ فأخرهم ذلك إلى وقت، وطلبوا من يوسف العفو وأقروا له بالخطأ والذنب؛ فعفا عنهم وقت سؤالهم العفو، فمن الناس من يقول: إنما أخر يعقوب الاستغفار؛ وعفا عنهم يوسف؛ لأن قلب الشاب يكون ألين وأرق من قلب الشيخ؛ لذلك كان ما كان، لكن هذا ليس بشيء؛ إنما يكون هذا في عوام من الناس؛ فأما الأنبياء
قال الشيخ أبو منصور - رحمه اللَّه -: والوجه فيه عندنا - واللَّه أعلم -: أنهم إنما سألوا يعقوب؛ وطلبوا منه الاستغفار من ربهم؛ ليكون لهم شفيعًا؛ فأخر ذلك إلى وقت الاستغفار والشفاعة؛ إذ ليس كل الأوقات يكون وقتًا للاستغفار، وطلبوا من يوسف العفو منه؛ فعفا عنهم وقت طلبهم منه العفو؛ لهذا الوجه، يحتمل أن يخرج معناه. واللَّه أعلم.
أو أن يكون يعقوب أخر الاستغفار؛ لأن الذنب في ذلك كان بينهم وبين ربهم؛ فأخر إلى أن يجيء الإذن من ربه، وأما الذنب في يوسف؛ ففيما بينهم وبين يوسف؛ فعفا عنهم في ساعته.
ويحتمل قوله: (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
إن استغفرتم أنتم، أو قال: سوف أستغفر لكم ربي؛ إذا جاء وقته؛ وهو ما قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنه أخر وقت الاستغفار إلى وقت السحر، أو أن يكون أخره إلى أن يقدم شيئًا بين أيدي، الاستغفار والشفاعة؛ ليكون أسرع إلى الإجابة.
* * *
قوله تعالى: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ).
ظاهر هذا أن يوسف كان تلقاهم خارجًا من المصر؛ فقال لهم: (دْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ
ويشبه أن يكون قال لهم هذا القول وقت ما قال لهم :( واتوني بأهلكم أجمعين )[ الآية : ٩٣ ] ثم[ أدرج في الأصل وم قبلها قوله تعالى : و( ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) ] جاؤوا هم، ودخلوا مصر ضم إليه أبويه وأمره[ في الأصل وم : وأمرهم ] إياهم أن يدخلوا مصر آمنين لأن المصر كان أهله أهل كفر فكأنهم خافوا الملك الذي كان فيه، فذكر لهم الأمن لذلك، والله أعلم، وذكر الثنيا فيه لأنه وعد منه وعد لهم، والأنبياء عليهم السلام كانوا [ لا ][ ساقطة من الأصل وم ] يعدون شيئا إلا ويستثنون فيه آخره كقوله :( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ) ( إلا أن يشاء الله )[ الكهف : ٢٣و٢٤ ] وإنما ذكر الثنيا في الأمن، لم يذكره[ في الأصل وم : يذكر ] في الدخول، لأن الدخول منه أمر، وما ذكر من الأمن فهو وعد، فهو ما ذكرنا أنه يستثنى في الوعد، ولا يستثنى في الأمر.
ويشبه أن يكون قال لهم هذا القول؛ وقت ما قال لهم: (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) و (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، ثم لما جاءوا هم ودخلوا مصر - ضم إليه أبويه؛ وأمره إياهم أن يدخلوا مصر آمنين؛ لأن المصر كان أهله أهل كفر؛ فكأنهم خافوا الملك الذي كان فيه؛ فذكر لهم الأمن لذلك. واللَّه أعلم.
وذكر الثنيا فيه؛ لأنه وعْد منه؛ وعد لهم؛ والأنبياء - عليهم السلام - كان لا يعدون شيئًا إلا ويستثنون في آخره؛ كقوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). وإنما ذكر الثنيا في الأمن؛ لم يذكر في الدخول؛ لأن الدخول منه أمر وما ذكر من الأمن فهو وعْد؛ فهو ما ذكرنا: أنه يستثني في الوعد ولا يستثني في الأمر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠)
يشبه أن يكون قوله: (آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) هو ما ذكر من رفعه إياهما على العرش، وخص بذكر أبويه بالرفع على العرش؛ فيحتمل أن يكون رفع أبويه والإخوة جميعًا؛ لأنه لو لم يرفعهم - وقد كان عفا عنهم - لما أقروا بالخطأ. وقال: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) لكان يقع عندهم أنه قد بقي شيء مما كان منهم إليه؛ لكنه خص أبويه بالذكر؛ لشرفهما ومجدهما؛ على ما يخص الأشراف والأعاظم؛ نحو قوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ)، ونحوه.
ودل رفع أبويه على العرش - على أن اتخاذ العرش والجلوس عليه لا بأس به؛ إذ لو كان لا يحل أو لا يباح ذلك؛ لكان يوسف لا يتخذه؛ ولا كان يعقوب يجلس عليه، دل ذلك منهما أن ذلك مباح لا بأس به. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ - من أهل التأويل - كانت تحيتهم يومئذ - فيما بينهم - السجود؛ يسجد بعضهم لبعض مكان ما يسلم بعضنا على بعض، وأما اليوم فهو غير مباح؛ وإنما التحية في السلام، لكن السجود لغير اللَّه؛ ليس يكره لنفس السجود؛ وإنما يكره وينهى عما في السجود؛ وهو العبادة والتسفل، لا يحل لأحد أن يجعل العبادة والتسفل له دون اللَّه، وأما نفس السجود فإنه كالقيام والقعود؛ وغيره من الأحوال يكون فيها المرء. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا).
أي: حقق تلك الرؤيا التي رأيتها من قبل؛ وجعلها صدقًا لي، رأى يوسف رؤيا فخرجت رؤياه بعد حين ووقت وزمان طويل؛ فهذا يدل أن الخطاب إذا قرع السمع يجوز أن يأتي بيانه من بعد حين وزمان، ويجوز أن يكون مقرونًا به، وليس في تأخر بيان الخطاب تلبيس ولا تشبيه، على ما قال بعض الناس.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ذكر إحسانه إليه ومنته ولم يذكر محنته بالتصريح، إنما ذكرها بالتعريض، حيث قال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ)، ولم يقل: سجنت أو حبست، وأمثاله، ما كان ابتلاه اللَّه به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ).
قيل: من البادية؛ لأنهم كانوا أهل بادية أصحاب المواشي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).
قَالَ بَعْضُهُمْ: نزغ: أي فرق أي: بعدما فرق الشيطان بيني وبين إخوتي، وكأن النزغ هو الإفساد؛ على ما ذكره أهل التأويل؛ أي: بعدما أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي، وأضاف ذلك إلى الشيطان؛ لما كان قال لهم: لا تثريب عليكم حين أقروا له بالفضل؛ والخطأ في فعلهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ).
اللطيف: هو اسم لشيئين: اسم البر والعطف؛ يقال: فلان لطيف؛ أي بارّ عاطِف.
والثاني: يقال: لطيف؛ أي عالم بما يلطف من الأشياء ويصغر، كما يعلم بما يعظم ويجسم.
أو يقال: لطيف: أي يعلم المستور من الأمور الخفية على الخلق؛ كما يعلم الظاهرة منها والبادية، لا يخفى عليه شيء؛ يعلم السر وأخفى، يقال له: عظيم، ولطيف؛ ليعلم
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
أي العليم بما كان ويكون، وما ظهر وما بطن، وما يسرّ وما يعلن، وبكل شيء، أو عليم بعواقب الأمور وبدايتها، (الْحَكِيمُ): حكم بعلم، ووضع كل شيء موضعه؛ لم يحكم بجهل ولا غفلة ولا سفه؛ على ما يحكم الخلق، تعالى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن ذلك علوًّا كبيرًا.
مسألة: ثلاث آيات في سورة يوسف على المعتزلة: قوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ)، أخبر أنه لو لم يصرف عنه كيدهن مال إليهن، وهم يقولون: قد صرف عن كل أحد السوء والكيد؛ لكن لم ينصرف عنه ذلك.
وكذلك قوله: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)، أخبر أنه إذا رحمه امتنع عن السوء والأمر به، وهم يقولون: إنه - وإن رحم - لا يمتنع السوء ولا الأمر به.
وكذلك قوله: (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ)، وهم يقولون: ليس له أن يصيب أحدًا دون أحد من رحمته؛ ولا أن يخص أحدًا بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
قال أبو بكر الأصم: ذكر (مِنَ الْمُلْكِ)؛ لأنه لم يؤته كل الملك؛ إذ كان ووقه ملك أكبر منه، لكن لا لهذا ذكر (مِنَ الْمُلْكِ)؛ إذ معلوم أنه لم يؤت لأحد كل ملك الدنيا؛ قال اللَّه تعالى: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ)، ويكون في وقت واحد ملوك.
وقال مقاتل: (من) صلة: كأنه قال: رب قد آتيتني من الملك. لكن الوجه فيه ما ذكرنا.
وقوله: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ...) إلى آخر ما ذكر، قدم دعاءه؛ وسؤاله ربه ما سأل؛ إحسانه إليه ومحامده وصنائعه؛ ليكون ذلك له وسيلة إلى ربه في الإجابة.
وفي ذلك دلالة نقض قول المعتزلة من وجهين:
أحدهما: يقولون: إن كل أحد شفيعه عمله؛ فيوسف لم يذكر ما كان منه: أني فعلت
والثاني من قولهم: إنه لا يؤتي أحدًا ملكًا ولا نبوة إلا بعد الاستحقاق به ولا يكون من اللَّه إلى أحد نعمة وإحسان إلا بعد الاستحقاق.
ومن قولهم: إن كل أحد هو المتعلم؛ لا أن اللَّه يعلم أحدًا، وقد أضاف يوسف التعليم إلى اللَّه؛ حيث قال: (وَعَفَضتَنِى مِن تَأويلِ آلأصًادِيث وهم يقولون: لم يعلمه ولكن هو تعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ).
قال أهل التأويل: تعبير الرؤيا، ولكن الأحاديث: هي الأنباء، والتأويل: هو علم العاقبة وعلم ما يئول إليه الأمر، كأنه قال: علمتني مستقر الأنباء ونهايتها؛ كقوله - تعالى -: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ). واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
كأنه على النداء والدعاء؛ ذكر: يا فاطر السماوات والأرض؛ لذلك انتصب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).
يشبه أن يكون تأويله: أنت ولي نعمتي في الدنيا والآخرة؛ كما يقال: فلان ولي نعمة فلان.
ويحتمل: أنت أولى بي في الدنيا والآخرة، أو أنت ربي وسيدي في الدنيا والآخرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا).
تمنى - عليه السلام - التوفِّي على الإسلام، والإخلاص باللَّه والإلحاق بالصالحين؛ فهو - واللَّه أعلم - وذلك أن اللَّه قد آتاه النهاية في الشرف والمجد في الدنيا دينًا ودنيا؛ لأن نهاية الشرف في الدِّين هي النبوة والرسالة، ونهاية الشرف في الدنيا الملك؛ فأحب أن يكون له في الآخرة مثله؛ فقال: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ثم يحتمل سؤاله: أن يلحقه بالصالحين؛ بكل صالح.
ويحتمل: أنه سأله أن يلحقه بالصالحين؛ بآبائه وأجداده وبجميع الأنبياء والرسل.
وقوله: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) هو ينقض على المعتزلة أيضًا؛ ومن قولهم: إنه أعطى كل أحد ليس له ألا يتوفاه مسلمًا؛ فيكون في دعائه عابثا؛ على قولهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢)
(ذَلِكَ): أي خبر يوسف وإخوته؛ وقصصهم التي قصصنا عليك وأخبرناك به؛ من أوله إلى آخره، (مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) ولم تشهدها أنت أولم تحضرها كقوله: (مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا)، هذا ليعلم أنك إنما علمت وعرفتها باللَّه وحيًا؛ ليدلهم على رسالتك ونبوتك. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ).
أي: ما كنت لديهم ولا بحضرتهم؛ ثم أنبأت على ما كان؛ ليدل على ما ذكرنا من الرسالة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ يَمْكُرُونَ).
بأبيهم وأخيهم: أما مكرهم بأبيهم؛ حيث قالوا: (يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ)، أخبروه أنهم له ناصحون؛ فخانوه.
ومكرهم بأخيهم؛ حيث قالوا: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ضمنوا له الحفظ؛ فلم يحفظوه - مكروا بهما جميعًا.
والمكر: هو الاحتيال؛ في اللغة؛ والأخذ على جهة الأمن، وقد فعلوا هم بأبيهم يعقوب وأخيهم يوسف عليهما السلام.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٠٧)
وقوله - عز وبرل -: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).
أي ما أكثر الناس بمؤمنين؛ ولو حرصت يا مُحَمَّد أن يكونوا مؤمنين؛ كقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بلخ من شفقته ورحمته على الخلق؛ ورغبته في إيمانهم؛ حتى كادت نفسه تهلك في ذلك؛ حيث قال:
كان حرصه على إيمانهم بلغ ما ذكر حتى خفف ذلك عليه بهذه الآية.
وقال بعض أهل التأويل : وقوله تعالى :( وما أكثر الناس ) يعني أهل مكة ( ولو حرصت بمؤمنين ) وهم كذلك كانوا ؛ كان أكثرهم غير مؤمنين، وأهل مكة وغيرهم سواء، كلهم كذلك كانوا.
وقال بعض أهل التأويل: قوله - تعالى -: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ) يعني أهل مكة، (وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وهم كذلك؛ كانوا أكثرهم غير مؤمنين، وأهل مكة وغيرهم سواء كلهم؛ كذلك كانوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (١٠٤) أي: على ما تبلغ إليهم وتدعوهم إلى طاعة اللَّه؛ وجعل العبادة له؛ وتوجه الشكر إليه؛ لا تسألهم على ذلك أجرًا؛ فما الذي يمنعم عن الإجابة لك فيما تدعوهم؛ والائتمار بأمرك؟! هذا يدل أنه لا يجوز أخذ الأجر على الطاعات والعبادات؛ حيث نهى وأخبر أنه لا يسألهم على ما يبلغ إليهم أجرًا، وهو لم يتولَّ تبليغ جميع ما أمر بتبليغه بنفسه إلى الخلق كافة، بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ...) الآية، ولكنه ولى بعضه غيره؛ كقوله: " ألا فليبلغ الشاهد الغائب "؛ فإذا لم يجز له أخذ الأجر فيما يبلغ هو؛ فالذي كان مأمورًا أن يبلغ عنه أيضا لا يجوز أن يأخذ الأجر على ما يبلغ.
وفي قوله: (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) وجهان:
أحدهما: أنه ليس يسألهم على الذي يبلغه إليهم ويدعوهم أجرًا؛ حتى يمنع بذل ذلك وثقله عن الإجابة.
والثاني: إخبار أن ليس له أن يأخذ؛ وأن يجمع من الدنيا شيئًا؛ كقوله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ...) الآية، ومعلوم أنه لا يمد عينيه إلى ما لا يحل؛ فيكون النهي عن أخذ المباح.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ).
أي هذا القرآن الذي تبلغهم ليس إلا ذكرى؛ وموعظة للعالمين، أو هو نفسه عظة وذكرى للعالمين؛ أعني: النبي - ﷺ -.
وقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) أي شرف وذكرى لمن اتبعه وقام به، وهو ما ذكر في آية أخرى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)، وقوله: (آيَةً لِلْعَالَمِينَ)، أي منفعته تكون لمن اتبعه؛ فعلى ذلك هذا.
أي كم من آية في السماوات والأرض. قال بعض أهل التأويل: الآيات التي في السماء مثل: الشمس والقمر والنجوم والسحاب؛ وأمثاله، والآيات التي في الأرض: من نحو: الجبال والأنهار والبحار والمدائن؛ ونحوها، لكن السماء نفسها آية، والأرض نفسها آية؛ وما يخرج منها من النبات آية.
(يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).
أي: هم عنها معرضون عما جعلت من آيات؛ لأنها إنما جعلت آيات لوحدانية الله وألوهيته؛ فهم عما جعلت من آيات معرضون. وباللَّه الهداية والعصمة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) أي: كم من آية دليل وعلامة على وحدانية اللَّه؛ في خلق السماوات والأرض، وهو قريب مما ذكرنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: آيات السماء؛ ما ذكرنا من نحو الشمس والقمر والكواكب. وآيات الأرض؛ فمثل آثار الأمم التي أهلكوا من قبل؛ من نحو قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط؛ وغيرهم؛ ممن قد أهلكوا؛ يمرون عليها ويرونها ولا يتعظون بهم.
والوجه فيه ما ذكرنا: أنهم معرضون عما جعلت تلك آيات؛ وإنما جعلت آيات لوحدانية اللَّه وألوهيته، أو معرضون عن التفكر فيها والنظر إعراض معاندة ومكابرة.
ثم يحتمل الإعراض وجهين:
أحدهما: أعرضوا: أي لم ينظروا فيها؛ ولم يتفكروا؛ ليدلهم على وحدانية الله وألوهيته؛ فهو إعراض عنها.
والثاني: نظروا وعرفوا أنها آيات لوحدانية اللَّه؛ لكنهم أعرضوا عنها مكابرين معاندين، ليس في السماوات ولا في الأرض شيء - وإن لطف - إلا وفيه دلالة على وحدانية اللَّه، وآية ألوهيته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)
يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: في الاعتقاد؛ أي: وما يؤمن أكثرهم باللَّه بأنه الإله؛ إلا وهم مشركون الأصنام والأوثان في التسمية، وسموها آلهة؛ كقوله - تعالى -: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا
أحدهما :[ إشراك ][ ساقطة من الأصل وم ] في الاعتقاد ( وما يؤمن أكثرهم بالله ) بأنه الإله، وهم يشركون الأصنام والأوثان في التسمية، حين[ في الأصل وم : و ] سموها آلهة كقوله تعالى عز وجل :( قل لو كان معه آلهة ) إلا الله ( كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا )[ الإسراء : ٤٢ ].
والثاني : إشراك في الفعل : أي ( وما يؤمن أكثرهم بالله ) عز وجل إلا وهم عبدوا غيره من الأصنام والأوثان أو يكونوا ( وما يؤمن أكثرهم بالله ) تعالى بلسانهم ( إلا وهم مشركون ) بقلوبهم، أو يقول :( وما يؤمن أكثرهم بالله ) في النعمة أنها من الله سبحانه وتعالى ( إلا وهم مشركون ) في الشكر له تعالى.
والثاني: إشراك في الفعل؛ أي: وما يؤمن أكثرهم باللَّه إلا وهم عبدوا غيره؛ من الأصنام والأوثان، أو أن يكون (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ) بلسانهم (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) بقلوبهم أو يقول: وما يؤمن أكثرهم باللَّه في النعمة أنها من اللَّه تعالى؛ إلا وهم مشركون في الشكر له تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٠٧)
أي: كيف أمنوا أن يأتيهم عذاب اللَّه أو تاتيهم الساعة بغتة؛ وقد سمعوا إتيان العذاب بمن قبلهم وهلاكهم، وقد جاء ما يخوفهم إتيان الساعة؛ وخافوا عنها؛ وإن لم يعلموا بذلك حقيقة؛ لما تركوا العلم بها ترك معاندة ومكابرة؛ لا ترك ما لم يبين لهم؛ ومن لم يأت له التخويف والإعلام.
و (غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ): قال أَبُو عَوْسَجَةَ - رحمه اللَّه -: أي مجللة تغشيهم، ومنه قوله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)، وهو ما يأتيهم العذاب من فوقهم.
وقال غيره: غاشية من عذاب اللَّه: أي عذاب من عذاب اللَّه تعالى؛ وهو كقوله: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ)؛ يجب أن يكون أهل الإسلام معتبرين بقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا)، وكذلك بقوله: (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) وإن كانت الآيتان نزلتا فيهم؛ لأنهم يمرون بما ذكر من الآيات ولا يعتبرون بما ذكر، وكذلك يكون آمنين عن غاشية من عذاب اللَّه تعالى.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي).
قيل: السبيل يؤنث ويذكر. ويحتمل: هذه الطاعة أو العبادة لله.
[ وقوله تعالى ][ ساقطة من الأصل وم ] :( وسبحان الله وما أنا من المشركين ) قيل : هذه صلة قوله :( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ( وسبحان الله ) تنزيها لما قالوا أو تبرئة عما قالوا في الله بما لا يليق به ( وما أنا من المشركين ) في ألوهيته وربوبيته غيره، أو في عبادته، والله أعلم.
ويحتمل: هذه سبيلي التي أدعوكم إلى اللَّه.
(عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي).
البصيرة: العلم والبيان والحجة النيرة؛ أي هذه سبيلي التي أنا أدعوكم إليها؛ إنما أدعوكم على بصيرة؛ أي على علم وبيان وحجة قاطعة؛ وبرهان نير؛ ليس كسائر الأديان التي يدعى إليها على الهوى والشهوة بغير حجة ولا برهان؛ (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أي: ومن اتبعني، -أيضًا- فإنما يدعوكم أيضًا على حجة وبرهان؛ إذ من يجيبني؛ فإنما يجيب على بصيرة وبيان وحجة.
(وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
قيل: كأن هذا صلة قوله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) سُبْحَانَ اللَّهِ: تنزيهًا لما قالوا؛ وتبرئة عما قالوا في اللَّه بما لا يليق به.
(وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في ألوهيته وربوبية غيره؛ أو في عبادته. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠٩)
ذكر رجالا - واللَّه أعلم - أي: لم نبعث رسولا من قبل إلا بشرًا؛ لم نبعث ملكا ولا جنًّا؛ فكيف أنكرتم رسالة مُحَمَّد بأنه بشر؛ ولم يروا رسولا من قبل ولا سمعوا إلا من البشر؛ كقولهم: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، وكقوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا) هذا واللَّه أعلم.
(إِلَّا رِجَالًا) مثلك؛ بشرًا لا ملكًا ولا جنًّا، أو ذكر رجالا؛ لأنه لم يبعث امرأة رسولا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى).
أي: إنما أرسل الرسل جملة من أهل الأمصار والمدن؛ لم يبعثوا من أهل البوادي وأهل البراري والقرى؛ إنما يريد الأمصار والبنيان، وقال اللَّه - تعالى -: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ)، قيل: هي مكة، جميع ما ذكر في القرآن من القرية والقرى؛ يريد به الأمصار والمدن؛ وإنَّمَا بعث الرسل والأنبياء من الأمصار؛ ولم يبعثهم من البوادي ومن أهل البراري - لوجهين - واللَّه أعلم -: أحدهما: لأن لأهل الأمصار والمدن؛ اختلاطا بأصناف الناس؛ وامتزاجًا بأنواع
وبعدُ فإن الرسل يكون لهم أسباب وأعلام تتقدم عن وقت الرسالة تحتاج إلى أن يظهر ذلك للخلق؛ ليكون ذلك أسرع إلى الإجابة لهم؛ وأدعى وأنفذ إلى القبول، فإذا كانوا من أهل البوادي لا يظهر ذلك للخلق.
والثاني: أنه يراد من الرسالة إظهارها في الخلق؛ في الآفاق والأطراف والأمصار، والمدن هي الأمكنة التي ينتاب الناس إليها في التجارات وأنواع الحوائج من الآفاق والأطراف؛ فيظهر ذلك فيها. وفي أهل الآفاق وأما أهل البوادي والبراري؛ ليس يدخلها ولا ينقلب إليها؛ إلا الشاذة من الناس؛ ولا يقضي فيها الحوائج؛ فلا يظهر في الخلق الرسالة وما يراد بها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
أي: ألم ينظروا ويتفكروا؛ فيمن هلك من قبلهم من الأمم؛ بتكذيبهم الرسل أن كيف كان عاقبتهم بالتكذيب في الدنيا؛ ليمتنعوا عن تكذيب رسولهم.
وقوله: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ...) الآية؛ يخرج على وجهين:
أحدهما: أي قد ساروا ونظروا كيف كان عاقبة المكذبين؛ لكنهم عاندوا ولم يعتبروا.
والثاني: أي سيروا في الأرض؛ وانظروا، ولكن ليس على نفس السير في الأرض؛ ولكن على السؤال عما نزل بأُولَئِكَ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك أو خِلافَ اللَّه ورسوله.
(أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أن ذلك أفضل وخير؛ ممن لم يتق ذلك. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا (١١٠)، و (كُذِّبُوا)؛ كلاهما لغتان، قَالَ بَعْضُهُمْ: أيس الرسل عن إيمان قومهم وتصديقهم الرسل، ثم
وقوله: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قَالَ بَعْضُهُمْ: وظن الرسل أن أتباعهم الضعفة قد كذبوهم؛ لكن هذا إن كان من الرسل فهو ظن من الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم؛ لكثرة ما أصابهم من الشدائد، وطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، فوقع عند الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم وإن كان من الأعداء فقد استيقن الرسل أنهم كذبوهم.
ورُويَ عن عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة؛ قال: فقلت: أرأيت قول اللَّه: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) أو (كُذِّبُوا) قال: فقالت: بل كذبهم قومهم، قال: فقلت: أرأيت قول اللَّه (حَتَّى)، واللَّه لقد استيقنوا أن قومهم قد كذبوهم؛ وما هو بالظن؛ فقالت: يا عروة لقد استيقنوا بذلك، قال: قلت: فلعلهم ظنوا أن قد كُذِبوا، قالت: معاذ اللَّه لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها، قال: وما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم؛ وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر؛ حتى إذا استيئست الرسل ممن كذبهم من قومهم؛ وظنوا أن أتباعهم قد كذبوهم؛ جاءهم نصر اللَّه عند ذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: حتى إذا استيئس الرسل عن إيمان قومهم؛ وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا فيما أوعدوا من العذاب أنه نازل بهم؛ لما أبطأ عليهم العذاب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وظنوا أنهم؛ أي ظن قومهم؛ أن رسلهم قد كذبوهم خبر السماء جاءهم نصرنا.
فإن كان الآية في أتباع الرسل؛ على ما ذكر بعضهم؛ فهو كقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
فإن كانت في غيرهم من المكذبين؛ فقد جاء الرسل نصر اللَّه.
ويشبه أن يكون على الخبر في أُولَئِكَ؛ فإن كان على هذا؛ فيجيء أن يكون نجينا من نشاء منهم؛ وأهلكنا من نشاء منهم، لكن يجوز هذا في اللغة، أو يكون في الآخرة ننجي من نشاء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).
أي لا يرد عذابنا إذا نزل عن المجرمين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
يحتمل قوله: (فِي قَصَصِهِمْ) قصة يوسف وإخوته وغيره؛ عبرة لأولى الألباب.
ويحتمل (قَصَصِهِمْ): قصص الرسل والأمم السالفة جميعًا عبرة لأولى الألباب، والاعتبار إنما يكون لأولى الألباب؛ الذين ينتفعون بلبهم وعقلهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى).
يحتمل؛ أي: ما حديث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وما أخبر من القصص وأخبار الرسل والأمم السالفة؛ بالذي افتري؛ بل إنما أخبر ما كان في الكتب السالفة على غير تعلم منه ولا دراسة كتب.
ويحتمل: ما كان هذا القرآن بالذي يقدر أن يفترى.
(وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)
أي: تصديق الذي نزل على رسول اللَّه - الكتب التي كانت من قبل.
(وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ).
أي تفصيل ما للناس حاجة إلبه.
(وَهُدًى) من الضلالة لمن اهتدى.
(وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وفيما ذكر من قصة يوسف وإخوته على رسول اللَّه دلالة التصبير على أذى قريش؛ يقول: إن إخوة يوسف - عليه السلام - مع موافقتهم إياه في الدِّين والنسب والموالاة - عملوا بيوسف ما عملوا من الكيد والمكر به؛ فقومك - مع مخالفتهم إياك في الدِّين - أحرى أن تصبر على أذاهم. وباللَّه العصمة.
* * *