ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة يوسف (١٢) : آية ١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١)(فصل في نزولها:) هي مكية بالإِجماع. وفي سبب نزولها قولان:
(٨٠٣) أما القول الأول: فروي عن سعد بن أبي وقاص قال: أُنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاه عليهم زماناً، فقالوا: يا رسول الله، لو قصصت علينا، فأنزل الله تعالى: آلر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إلى قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، فتلاه عليهم زماناً، فقالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا، فأنزل الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «١» كل ذلك يؤمرون بالقرآن.
(٨٠٤) وقال عون بن عبد الله: ملّ أصحاب رسول الله ﷺ مَلَّة، فقالوا: يا رسول الله حدِّثنا، فأنزل الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ، ثم إِنهم ملوّا مَلَّة أخرى، فقالوا: يا رسول الله، فوق الحديث، ودون القرآن، يعنون القصص، فأنزل الله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، فأراد الحديث، فدلهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصص، فدلهم على أحسن القصص.
(٨٠٥) والثاني: رواه الضحاك عن ابن عباس قال: سألت اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: حدّثنا عن
مرسل. أخرجه الطبري ١٨٧٨٨ عن عون بن عبد الله بن مسعود مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، لكن للحديث شاهد من حديث سعد، وهو المتقدم. وشاهد آخر من حديث ابن عباس: أخرجه الطبري ١٨٧٨٦ عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن عباس، وإسناده منقطع، عمرو لم يسمع من ابن عباس. وكرره الطبري ١٨٧٨٧ من مرسل عمرو بن قيس، وهو شاهد لما قبله، وإن كان ضعيفا، والله أعلم.
باطل لا أصل له. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك، فقد روى عن الضحاك عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا ليس له أصل، وهذا
__________
(١) سورة الزمر: ٢٣.
وفي معنى «المبين» خمسة أقوال: أحدها: البيِّن حلاله وحرامه، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: المبيّن للحروف التي تسقط عن ألسن الأعاجم، رواه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل.
والثالث: البيِّن هداه ورشده، قاله قتادة. والرابع: المبيِّن للحق من الباطل. والخامس: البيِّن إِعجازه فلا يعارَض، ذكرهما الماوردي «١».
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢]
إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢)
قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الكتاب، قاله الجمهور. والثاني: إِلى خبر يوسف، ذكره الزجاج، وابن القاسم.
قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا قد ذكرنا معنى القرآن واشتقاقه في سورة النساء «٢». وقد اختلف الناس، هل في القرآن شيء بغير العربية، أم لا، فمذهب أصحابنا أنه ليس فيه شيء بغير العربية. وقال أبو عبيدة. من زعم أن في القرآن لساناً سوى العربية فقد أعظم على الله القول، واحتجّ بقوله: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «٣». وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة أن فيه من غير لسان العرب، مثل:
«سجيل» و «المشكاة» و «اليم» و «الطور» و «أباريق» و «إِستبرق» وغير ذلك. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: قال أبو عبيد: وهؤلاء أعلم من أبي عبيدة، ولكنهم ذهبوا إِلى مذهب، وذهب هو إِلى غيره، وكلاهما مصيب إِن شاء الله، وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل، فقال:
أولئك على الأصل، ثم لفظت به العرب بألسنتها فعربته فصار عربياً بتعريبها إِياه، فهي عربية في هذه الحالة، أعجمية الأصل، فهذا القول يصدِّق الفريقين جميعاً. قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ قال ابن عباس: لكي تفهموا.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣)
قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ قد ذكرنا سبب نزولها في أول الكلام. وقد خُصَّت بسبب آخر «٤» : فروي عن سعيد بن جبير قال: اجتمع أصحاب محمّد عليه السلام إلى سلمان، فقالوا:
__________
(١) انظر «تفسير الماوردي» ٣/ ٥.
(٢) عند الآية: ٨٢.
(٣) سورة الزخرف: ٣.
(٤) لا يصح ذلك، بل هو باطل، فإن السورة مكية كما تقدم بإجماع، وإسلام سلمان مدني.
قال الزجاج: والمعنى نحن نبين لك أحسن البيان، والقاصُّ: الذي يأتي بالقصة على حقيقتها قال: وقوله تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي: بوحينا إِليك هذا القرآن. قال العلماء: وإِنما سميت قصة يوسف أحسن القصص، لأنها جمعت ذكر الأنبياء، والصالحين، والملائكة، والشياطين، والأنعام، وسير الملوك، والمماليك، والتجار، والعلماء، والرجال، والنساء، وحيلهن، وذكر التوحيد، والفقه، والسرّ، وتعبير الرؤيا، والسياسة، والمعاشرة، وتدبير المعاش، والصبر على الأذى، والحلم والعزّ، والحكم، إِلى غير ذلك من العجائب.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتَ في «إِن» قولان: أحدهما: أنها بمعنى «قد». والثاني: بمعنى «ما».
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ قال ابن عباس: من قبل نزول القرآن. لَمِنَ الْغافِلِينَ عن علم خبر يوسف وما صنع به إخوته.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤ الى ٥]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥)
قوله تعالى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ في «إِذ» قولان: أحدهما: أنها صلة للفعل المتقدِّم، والمعنى:
نحن نقص عليك إِذ قال يوسف. والثاني: أنها صلة لفعل مضمر، تقديره: اذكر إِذ قال يوسف، ذكرهما الزجاج، وابن الأنباري.
قوله تعالى: يا أَبَتِ قرأ أبو جعفر، وابن عامر بفتح التاء، ووقفا بالهاء، وافقهما ابن كثير في الوقف بالهاء، وقرأ الباقون بكسر التاء. فمن فتح التاء، أراد: يا أبتا، فحذف الألف كما تحذف الياء، فبقيت الفتحة دالة على الألف، كما أن الكسرة تبقى دالة على الياء. ومن وقف على الهاء، فلان تاء التأنيث تبدل منها الهاء في الوقف. وقرأ أبو جعفر: «أحد عشر»، و «تسعة عشر»، بسكون العين فيهما.
وفيما رآه يوسف قولان: أحدهما: أنه رأى الشمس والقمر والكواكب، وهو قول الأكثرين. قال الفراء:
وإِنما قال: «رأيتهم» على جمع ما يعقل، لأن السجود فعل ما يعقل، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «١». قال المفسرون: كانت الكواكب في التأويل إِخوته، والشمس أمه، والقمر أباه، فلما قصَّها على يعقوب أشفق من حسد إِخوته. وقال السدي: الشمس أبوه، والقمر خالته، لأن أمه كانت قد ماتت. والثاني: أنه رأى أبويه وإِخوته ساجدين له، فكنى عن ذكرهم، وهذا مروي عن ابن عباس، وقتادة. فأما تكرار قوله تعالى: رَأَيْتُهُمْ فقال الزجاج: إِنما كرره لمَّا طال الكلام توكيداً. وفي سن يوسف لما رأى هذا المنام ثلاثة أقوال: أحدها: سبع سنين. والثاني: اثنتا عشرة سنة. والثالث:
سبع عشرة سنة.
قال المفسرون: علم يعقوب أن إِخوة يوسف يعلمون تأويل رؤياه، فقال: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦]
وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ قال الزجاج، وابن الأنباري: ومثل ما رأيت من الرفعة والحال الجليلة، يختارك ربك ويصطفيك من بين إِخوتك. وقد شرحنا في الأنعام معنى الاجتباء. وقال ابن عباس: يصطفيك بالنّبوّة. قوله تعالى: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فيه ثلاثة اقوال: أحدها: أنه تعبير الرؤيا، قاله ابن عباس ومجاهد، وقتادة، فعلى هذا سمي تأويلاً لأنه بيان ما يؤول أمر المنام إِليه.
والثاني: أنه العلم والحكمة، قاله ابن زيد. والثالث: تأويل أحاديث الأنبياء والأمم والكتاب، ذكره الزّجّاج. قال مقاتل: و «من» ها هنا صلة. قوله تعالى: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
بالنبوة، قاله ابن عباس. والثاني: باعلاء الكلمة. والثالث: بأن أحوج إِخوته إِليه حتى أنعم عليهم، ذكرهما الماوردي «١». وفي آلِ يَعْقُوبَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ولده، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: يعقوب وامرأته وأولاده الأحد عشر، أتم عليهم نعمته بالسجود ليوسف، قاله مقاتل.
والثالث: أهله، قاله أبو عبيدة، واحتج بأنك إِذا صغَّرت الآل، قلت: أُهيل. قوله تعالى: كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ قال عكرمة: فنعمته على إِبراهيم أن نجاه من النار، ونعمته على إِسحاق أن نجاه من الذبح. قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ أي: عليم حيث يضع النبوة حَكِيمٌ في تدبير خلقه.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧)
قوله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي: في خبر يوسف وقصة إِخوته آيات أي: عِبَر لمن سأل عنهم، فكل حال من أحواله آية. وقرأ ابن كثير «آيةٌ» «٢».
(٨٠٦) قال المفسرون: وكان اليهود قد سألوا رسول الله ﷺ عن قصة يوسف، فأخبرهم بها كما في التّوراة، فعجبوا من ذلك.
واضعه يريد شين الإسلام بمثل هذا. اه. وضعفه ابن كثير ٢/ ٥٧٧. والصواب أنه باطل لا أصل له، وهو من الإسرائيليات.
__________
(١) انظر «تفسير الماوردي» ٣/ ٨. [.....]
(٢) قال الطبري رحمه الله ٧/ ١٥١: والذي هو أولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك على الجماع لإجماع الحجة من القراء عليه.
والخامس: حدوث السرور بعد اليأس.
فإن قيل: لم خص السائلين، ولغيرهم فيها آيات أيضاً؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن المعنى:
للسائلين وغيرهم، فاكتفى بذكر السائلين من غيرهم، كما اكتفى بذكر الحر من البرد في قوله تعالى:
تَقِيكُمُ الْحَرَّ. والثاني: أنه إِذا كان للسائلين عن خبر يوسف آية، كان لغيرهم آية أيضاً وإِنما خص السائلين، لأن سؤالهم نتج الأعجوبة وكشف الخبر.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨]
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨)
قوله تعالى: إِذْ قالُوا يعني إِخوة يوسف. لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ يعنون بن يامين. وإِنما قيل له:
ابن يامين، لأن أمه ماتت نفساء. ويامين بمعنى الوجع، وكان أخاه لأمه وأبيه. والباقون إِخوته لأبيه دون أمه. فأما العصبة، فقال الزجاج: هي في اللغة الجماعة الذين أمرهم واحد يتابع بعضهم بعضاً في الفعل، ويتعصب بعضهم لبعض. وللمفسرين في العصبة ستة أقوال: أحدها: أنها ما كان أكثر من عشرة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنها ما بين العشرة إِلى الأربعين، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال قتادة. والثالث: أنها ستة أو سبعة، قاله سعيد بن جبير. والرابع: أنها من عشرة إِلى خمسة عشر، قاله مجاهد. والخامس: الجماعة، قاله ابن زيد، وابن قتيبة، والزجاج. والسادس:
عشرة، قاله مقاتل. وقال الفراء: العصبة عشرة فما زاد. قوله تعالى: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فيه ثلاثة اقوال: أحدها: لفي خَطَأٍ من رأيه، قاله ابن زيد. والثاني: في شَقَاءٍ، قاله مقاتل والمراد به عناء الدنيا. والثالث: لفي ضلال عن طريق الصواب الذي يقتضي تعديل المحبة بيننا، لأن نفعنا له أعم. قال الزجاج: ولو نسبوه إِلى الضلال في الدين كانوا كفاراً، إِنما أرادوا: إِنه قدَّم ابنين صغيرين علينا في المحبة ونحن جماعة نفعنا أكثر.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩]
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩)
قوله تعالى: اقْتُلُوا يُوسُفَ قال أبو علي: قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي: «مبينٌ اقتلوا» بضمّ التنوين، لأنّ تحريكه يلزم لالتقاء السّاكنين، فحركوه بالضم ليُتبعوا الضمة الضمة، كما قالوا: «مد» «وظلمات». وقرأ أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، بكسر التنوين، فلم يتبعوا الضمة كما قالوا: «مدَّ» «ظُلُمات». قال المفسرون: وهذا قولهم بينهم: أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً قال الزجاج: نصب «أرضاً» على إسقاط «في»، وإفضاء الفعل إِليها والمعنى: أو اطرحوه أرضاً يبعد بها عن أبيه. وقال غيره: أرضاً تأكله فيها السباع. قوله تعالى: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أي: يفرغ لكم من الشغل بيوسف.
وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد يوسف. قَوْماً صالِحِينَ فيه قولان: أحدهما: صالحين بالتوبة من بعد قتله، قاله ابن عباس. والثاني: يصلح حالكم عند أبيكم، قاله مقاتل. وفي قصتهم نكتة عجيبة، وهو أنهم عزموا على التوبة قبل الذنب، وكذلك المؤمن لا ينسى التّوبة وإن كان مرتكبا للخطايا.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠ الى ١٤]
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤)قوله تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يهوذا، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال وهب بن منبه، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنه شمعون، قاله مجاهد. والثالث: روبيل، قاله قتادة، وابن إِسحاق.
فأما غيابة الجب، فقال أبو عبيدة: كل شيء غيَّب عنك شيئاً فهو غيابة. والجب: الرَّكية التي لم تطو. وقال الزجاج: الغيابة: كل ما غاب عنك، أو غيَّب شيئاً عنك، قال المنخَّل:
فإنْ أنا يَوْماً غيَّبَتْني غَيَابَتي | فسِيروا بِسَيْري في العشيرة والأهْلِ |
قوله تعالى: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ قال ابن عباس: يأخذه بعض من يسير. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي: إِن أضمرتم له ما تريدون. وأكثر القراء قرءوا «يلتقطه» بالياء. وقرأ الحسن، وقتادة، وابن أبي عبلة بالتاء. قال الزجاج: وجميع النحويين يجيزون ذلك، لأن بعض السيارة سيارة، فكأنه قال: تلتقطه سيارة بعض السيارة. وقال ابن الأنباري: من قرأ بالتاء، فقد أنَّث فعل بعض، وبعض مذكر، وإِنما فعل ذلك حملاً على المعنى، إِذ التأويل: تلتقطه السيارة، قال الشاعر:
رأت مر السنين أخذن مني | كما أخذ السِّرارُ مِنَ الهِلاَلِ «٢» |
طُولُ الليالي أَسْرَعتْ في نَقْضي | طَوَيْنَ طُوِلي وَطَوَيْنَ عَرْضِي |
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ | سُورُ المدينة والجبال الخشّع |
(٢) البيت لجرير كما في ديوانه ٤٢٦، و «مجاز القرآن» ١/ ٩٨.
وفي «اللسان» السرار: آخر الشهر ليلة يستسر الهلال، واستسر القمر أي خفي ليلة السرار.
وتشْرَقُ بالْقَوْلِ الَّذي قد أَذَعْتُهُ | كما شَرقتْ صدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ «١» |
قال المفسرون: فلما عزم القوم على كيد يوسف، قالوا لأبيه: ما لَكَ لا تَأْمَنَّا قرأ الجماعة «تأمنا» بفتح الميم وإِدغام النون الأولى في الثانية والإِشارة إِلى إِعراب النون المدغمة بالضم قال مكي:
لأن الأصل «تأمننا» ثم أدغمت النون الأولى، وبقي الإِشمام يدل على ضمة النون الأولى. والإِشمام:
هو ضمّك شفتيك من غير صوت يُسمع، فهو بعد الإِدغام وقبل فتحه النون الثانية. وابن كيسان يسمي الإِشمام الإِشارة، ويسمى الرَّوم إِشماماً والرَّوْم: صوت ضعيف يُسمع خفياً. وقرأ أبو جعفر «تأمنّا» بفتح النون من غير إِشمام إِلى إعراب المدغم. وقرأ الحسن «ما لك لا تأمُنّا» بضم الميم. وقرأ ابن مقسم «تأمننا» بنونين على الأصل والمعنى: ما لك لا تأمنا على يوسف فترسله معنا، فانه قد كبر ولا يعلم شيئاً من أمر المعاش، وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ فيما أشرنا به عليك أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إِلى الصحراء.
وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وذلك أنهم قالوا له: أرسله معنا، فقال: إِني لَيَحْزُنُني أن تذهبوا به، فقالوا: ما لك لا تأمنّا.
قوله تعالى: يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو «نرتع ونلعب» بالنون فيهما، والعين ساكنه وافقهم زيد عن يعقوب في «نرتع» فحسب. وفي معنى «نرتع» ثلاثة أقوال: أحدها: نَلْهُ، قاله الضحاك. والثاني: نَسْعَ، قاله قتادة. والثالث: نأكل يقال: رتعت الإِبل: إِذا رعت، وأرتعتها: إِذا تركتها ترعى. قال الشاعر:
وَحْبِيبٍ لي إِذَا لاقيته | وإذا يخلو لَهُ لَحْمِي رَتَعْ «٢» |
فأمّا قوله تعالى: «ونلعب» فقال ابن عباس: نلهو.
(٢) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري من قصيدة في «المفضليات» ١٩٠- ٢٠٢، و «الشعر والشعراء» ٣٨٤.
(٣) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ١٥٥: وأولى ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأه في الحرفين كليهما بالياء، وبجزم العين في «يرتع»، لأن القوم إنما سألوا أباهم إرسال يوسف معهم، وخدعوه بالخبر عن مسألتهم إياه ذلك، كما ليوسف في إرساله معهم من الفرح والسرور. والنشاط بخروجه إلى الصحراء وفسحتها ولعبه هنالك، لا بالخبر عن أنفسهم.
فالجواب من وجهين: أحدهما: أنهم لم يكونوا حينئذ أنبياء، قاله أبو عمرو بن العلاء. والثاني:
أنهم عَنَوْا مباح اللعب، قاله الماوردي «١».
قوله تعالى: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي: يحزنني ذهابكم به، لأنه يفارقني فلا أراه.
وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: «الذئب» بالهمز في الثلاثة المواضع. وقرأ الكسائي، وأبو جعفر، وشيبة بغير همز. قال أبو علي: «الذئب» مهموز في الأصل. يقال: تذاءَبَتِ الريح: إِذا جاءت من كل جهة كما يأتي الذئب.
وفي علة تخصيص الذئب بالذكر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه رأى في منامة أن الذئب شد على يوسف، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن أرضهم كانت كثيرة الذئاب، قاله مقاتل. والثالث:
أنه خافهم عليه فكنى بذكر الذئب، قاله الماوردي «٢».
قوله تعالى: وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ فيه قولان:
أحدهما: غافلون في اللعب. والثاني: مشتغلون برعيتكم. قوله تعالى: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي: جماعة نرى الذئب قد قصده ولا نرد عنه إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ أي: عاجزون. قال ابن الأنباري: ومن قرأ «عصبةً» بالنصب، فتقديره: ونحن نجتمع عصبة.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٥]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥)
قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ في الكلام اختصار وإِضمار، تقديره: فأرسله معهم فلما ذهبوا.
وَأَجْمَعُوا أي: عزموا على أن يجعلوه في غيابة الجبّ.
(الإشارة إلى قصّة ذهابهم به) قال المفسرون «٣» : قالوا ليوسف: أما تشتاق أن تخرج معنا فتلعب وتتصيد؟ قال: بلى، قالوا:
فسل أباك أن يرسلك معنا، قال: أفعل، فدخلوا بجماعتهم على يعقوب، فقالوا: يا أبانا إِن يوسف قد أحب أن يخرج معنا، فقال: ما تقول يا بني؟ قال: نعم يا أبت، قد أرى من إِخوتي اللين واللطف، فأنا أحب أن تأذن لي، فأرسله معهم، فلما أصحروا، أظهروا له ما في أنفسهم من العداوة، وأغلظوا له القول، وجعل يلجأ إِلى هذا، فيضربه، وإِلى هذا، فيؤذيه، فلما فطن لما قد عزموا عليه، جعل ينادي:
يا أبتاه، يا يعقوب، لو رأيت يوسف وما ينزل به من إِخوته لأَحَزْنَكَ ذلك وأبكاك، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك، وضيَّعوا وصيَّتك وجعل يبكي بكاءً شديداً. قال الضحاك عن ابن عباس: فأخذه روبيل فجلد به الأرض، ثم جثم على صدره وأراد قتله، فقال له يوسف: مهلاً يا أخي لا تقتلني، قال: يا
(٢) انظر «تفسير الماوردي» : ٣/ ١٣.
(٣) هذه الآثار مصدرها كتب الأقدمين يستأنس بها من غير احتجاج، وفي بعضها غرابة.
ردوه عليَّ أستر به عورتي ويكون كفناً لي في مماتي فأخرج الله له حجراً في البئر مرتفعاً من الماء، فاستقرت عليه قدماه.
وقال السدي: جعلوا يدلونه في البئر، فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال: يا إِخوتاه، ردّوا عليّ قميصي أتوارى به، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً، فدلّوه في البئر، حتى إِذا بلغ نصفها ألقوه إِرادة أن يموت، فكان في البئر ماءٌ فسقط فيه، ثم أوى إِلى صخرة فيها فقام عليها فلما أَلْقَوْهُ في الجب جعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة، فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام. وقال كعب: جمعوا يديه إِلى عنقه ونزعوا قميصه، فبعث الله إِليه مَلَكاً، فحلَّ عنه وأخرج له حجراً من الماء، فقعد عليه وكان يعقوب قد أدرج قميص إِبراهيم الذي كساه الله إِياه يوم أُلْقي في النار في قصبة، وجعلها في عنق يوسف، فألبسه إِياه الملك حينئذ، وأضاء له الجب. وقال الحسن: أُلقي في الجب، فَعَذُبَ ماؤه، فكان يغنيه عن الطعام والشراب ودخل عليه جبريل، فأنس به، فلما أمسى نهض جبريل ليذهب، فقال له يوسف: إِنك إِذا خرجت عني استوحشت، فقال: إِذا رهبت شيئاً فقل: يا صريخ المستصرخين، ويا غوث المستغيثين، ويا مفرِّج كرب المكروبين، قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري. فلما قالها حفّته الملائكة، فاستأنس في الجب ومكث فيه ثلاثة أيام، وكان إِخوته يرعون حول الجب. وقال محمد بن مسلم الطائفي: لما أُلقي يوسف في الجُبِّ، قال: يا شاهدا غير غائب، ويا قريباً غير بعيد، ويا غالباً غير مغلوب، اجعل لي فرجاً مما أنا فيه قال: فما بات فيه. وفي مقدار سنِّة حين أُلقي في الجب أربعة أقوال: أحدها: اثنتا عشرة سنة، قاله الحسن. والثاني: ست سنين، قاله الضحاك.
والثالث: سبع عشرة، قاله ابن السائب، وروي عن الحسن أيضاً. والرابع: ثمان عشرة.
قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ فيه قولان: أحدهما: أنه إِلهام، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنه وحي حقيقة. قال المفسرون: أُوحي إِليه لتخبرنّ إِخوتك بأمرهم، أي: بما صنعوا بك وأنت عال عليهم. وفي قوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قولان: أحدهما: لا يشعرون أنك يوسف وقت إِخبارك لهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثاني: لا يشعرون بالوحي، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد. فعلى الأول يكون الكلام من صلة «لتنبئنهم» وعلى الثاني من صلة «وأوحينا إِليه».
قال حميد: قلت للحسن: أيحسد المؤمنُ المؤمن؟ قال: لا أبا لك، ما نسّاك بني يعقوب؟
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧)
قوله تعالى: وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ وقرأ أبو هريرة، والحسن، وابن السميفع، والأعمش:
والثالث: نتصيد، قاله مقاتل. فيكون المعنى على الأول: نستبق في الرمي لننظر أينا أسبق سهماً وعلى الثاني: نستبق على الأقدام وعلى الثالث: للصيد.
قوله تعالى: وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا أي: ثيابنا. وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي: بمصدّق. وفي قوله تعالى: وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ قولان: أحدهما: أن المعنى: وإِن كنا قد صدقنا، قاله ابن إِسحاق.
والثاني: لو كنا عندك من أهل الصدق لاتّهمتنا في يوسف لمحبتك إِياه، وظننت أنا قد كذبناك، قاله الزّجّاج.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٨]
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨)
قوله تعالى: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قال اللغويون: معناه: بدم مكذوب فيه، والعرب تجعل المصدر في كثير من الكلام مفعولاً، فيقولون للكذب مكذوب، وللعقل معقول، وللجلد مجلود، قال الشاعر:
حتَّى إِذا لَمْ يَتْرُكُوا لِعِظَامِهِ | لَحْماً وَلاَ لِفُؤَادِهِ مَعْقُولاَ «١» |
قد والذي سَمَكَ السماءَ بِقُدْرَةٍ | بُلغ العَزَاءُ وأُدْرِكَ المَجْلُوْدُ «٢» |
قوله تعالى: بَلْ سَوَّلَتْ أي: زَيَّنَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً غير ما تصفون فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال الخليل: المعنى: فشأني صبر جَميل، والذي أعتقده صبر جميل. وقال الفراء: الصبر مرفوع، لأنه عزّى نفسه وقال: ما هو إِلا الصبر، ولو أمرهم بالصبر، لكان نصباً. وقال قطرب: المعنى: فصبري
(٢) في «اللسان» سمك الشيء: رفعه فارتفع.
قوله تعالى: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ فيه قولان:
أحدهما: على ما تصفون من الكذب. والثاني: على احتمال ما تصفون.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٩]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩)
قوله تعالى: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ أي: قوم يسيرون فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ قال الأخفش: أنّث السيارة وذكّر الوارد، لأن السيارة في المعنى للرجال. وقال الزجاج: الوارد: الذي يَرِدُ الماء ليستقي للقوم.
وفي اسم هذا الوارد قولان: أحدهما: مالك بن ذُعْر بن يؤيب بن عيفا بن مدين بن إِبراهيم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: مجلث بن رعويل، قاله وهب بن منبه.
قوله تعالى: فَأَدْلى دَلْوَهُ أي: أرسلها. قال الزجاج: يقال: أدليت الدلو: إِذا أرسلتها لتملأها، ودلوتها: إِذا أخرجتها. قالَ يا بُشْرى قرأه ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «يا بشرايَ» بفتح الياء وإِثبات الألف. وروى ورش عن نافع «بشرايْ» و «محيايْ» و «مثواي» بسكون الياء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي «يا بشرى» بألف بغير ياء. وعاصم بفتح الراء، وحمزة، والكسائي يميلانها. قال الزجاج: من قرأ «يا بشراي» فهذا النداء تنبيه للمخاطبين، لأن البشرى لا تجيب ولا تعقل فالمعنى: أبشروا، ويا أيها البشرى هذا من أوانك، وكذلك إِذا قلت: يا عجباه، فكأنك قلت:
اعجبوا، ويا أيها العجب هذا من حينك وقد شرحنا هذا المعنى.
فأما قراءة من قرأ «يا بشرى» فيجوز أن يكون المعنى: يا من حضر، هذه بشرى. ويجوز أن يكون المعنى: يا بشرى هذا أوانك على ما سبق بيانه من تنبيه الحاضرين. وذكر السدي أنه نادى بذاك أحدهم وكان اسمه بشرى «١». وقال ابن الأنباري: يجوز فيه هذه الأقوال، ويجوز أن يكون اسم امرأة. وقرأ أبو رجاء، وابن أبي عبلة: «يا بُشْرَيَّ» بتشديد الياء وفتحها من غير ألف «٢». قال ابن عباس: لما أدلى دَلْوَه تعلق يوسف بالحبل فنظر إِليه فإذا بغلام أحسن ما يكون من الغلمان، فقال لأصحابه: البشرى، فقالوا:
ما وراءك؟ قال: هذا غلام في البئر، فأقبلوا يسألونه الشركة فيه، واستخرجوه من الجُبِّ، فقال بعضهم لبعض: اكتموه عن أصحابكم لئلّا يسألوكم الشركة فيه، فإن قالوا: ما هذا؟ فقولوا: استبضعنَاه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر فجاء إخوة يوسف فطلبوه فلم يجدوه في البئر، فنظروا، فإذا هم بالقوم ومعهم
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ١٦٥: وأعجب القراءة في ذلك إلي قراءة من قرأه بإرسال الياء وتسكينها، لأنه إن كان اسم رجل بعينه كان معروفا فيهم، كما قال السدي، فتلك هي القراءة الصحيحة لا شك فيها، وإن كان من «التبشير» فإنه يحتمل ذلك إذا قرئ كذلك على ما بينت. وأما التشديد والإضافة في الياء فقراءة شاذة، لا أرى القراءة بها، وإن كانت لغة معروفة لإجماع الحجة من القراء على خلافها.
قوله تعالى: وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً قال الزجاج: «بضاعةً» منصوب على الحال، كأنه قال: وأسرّوه جاعليه بضاعة. وقال ابن قتيبة: أسرّوا في أنفسهم أنه بضاعة وتجارة. وفي الفاعلين لذاك قولان:
أحدهما: أنهم واردو الجب، أسرّوا ابتياعه عن باقي أصحابهم، وتواصَوا أنه بضاعة استبضعهم إِياها أهل الماء وقد ذكرنا هذا المعنى عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثاني: أنهم إِخوته، أسروّا أمره وباعوه، وقالوا: هو بضاعة لنا، وهذا المعنى مرويٌّ عن ابن عباس أيضاً «١». قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ يعمّ الباعة والمشترين.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٠]
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)
قوله تعالى: وَشَرَوْهُ هذا حرف من حروف الأضداد، تقول: شريت الشيء بمعنى بعته وشريته، بمعنى اشتريته. فإن كان بمعنى باعوه، ففيهم قولان: أحدهما: أنهم إِخوته، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنهم السيارة، ولم يبعه إِخوته، قاله الحسن، وقتادة. وإِن كان بمعنى اشتروه، فإنهم السيارة «٢». قوله تعالى: بِثَمَنٍ بَخْسٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحرام، قاله ابن عباس،
(٢) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله ٢/ ٥٨٢: والأول أقوى، لأن قوله: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ إنما أراد إخوته لا أولئك السيارة، لأن السيارة استبشروا به وأسرّوه بضاعة، ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه، فترجّح من هذا أن الضمير في وَشَرَوْهُ إنما هو لإخوته. وقال الطبري رحمه الله ٧/ ١٦٨: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: «وشرى إخوة يوسف يوسف بثمن بخس»، وذلك أن الله عز وجل قد أخبر عن الذين اشتروه أنهم أسرّوا شراء يوسف من أصحابهم، خيفة أن يستشركوهم بادّعائهم أنه بضاعة. ولم يقولوا ذلك إلا رغبة فيه أن يخلص لهم دونهم، واسترخاصا لثمنه الذي ابتاعوه به، لأنهم ابتاعوه كما قال جل ثناؤه:
بِثَمَنٍ بَخْسٍ. ولو كان مبتاعوه من إخوته فيه من الزاهدين، لم يكن لقيلهم لرفاقهم: «هو بضاعة» معنى، ولا كان لشرائهم إياه وهم فيه من الزاهدين وجه، إلا أن يكونوا كانوا مغلوبا على عقولهم، لأنه محال أن يشتري صحيح العقل ما هو فيه زاهد من غير إكراه مكره له عليه، ثم يكذب في أمره الناس بأن يقول: «هو بضاعة لم أشتره» مع زهده فيه. بل هذا القول من قول من هو بسلعته ضنّين لنفاستها عنده، ولما يرجو من نفيس الثمن لها وفضل الربح.
- قلت: كذا رجّح الطبري وابن كثير، في حين لم يرجح ابن العربي في «الأحكام» ٣/ ٤٢- ٤٣ وكذا القرطبي ٩/ ١٣٢- ١٣٣ أحد القولين، مع أن القرطبي ذكر أقوالا أخر. والصواب والله أعلم خلاف ما ذهب إليه الطبري وابن كثير. أما الأثر الوارد عن ابن عباس، فإنه ساقط، أخرجه الطبري ١٨٩٠٨ بسند فيه ثلاثة مجاهيل. وأما سياق الآيات وسباقها، فإنه يدل على أن المراد بذلك بعض السيارة. فإن من وجده في البئر من السيارة أسرّ ذلك ولم يخبر باقي القافلة، فلما قدم مصر باعه بثمن بخس بسبب فقره، وعدم معرفته بقيمة هذا الملتقط، أما إخوة يوسف فقد ألقوه في الجب، وانطلقوا، وهو الذي يدل عليه كلامهم حيث قال أحدهم، وقد أخذوا برأيه لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ لم يقل نبيعه، فكان كما أراد هذا القائل. ثم هو كان قد ألقي في الجب، وقد تبرأ منه إخوته، فكيف يأخذون ثمنا عن تسليمه؟!
الخسيس الذي بُخس به البائع. والثالث: الناقص، وكانت الدراهم عشرين درهماً في العدد، وهي تنقص عن عشرين في الميزان، قاله أبو سليمان الدمشقي «١».
قوله تعالى: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ قال الفراء: إِنما قيل: «معدودة» ليُستدَل بها على القلَّة. وقال ابن قتيبة: أي: يسيرة، سهل عددها لقلَّتها، فلو كانت كثيرة لثقل عددها. وقال ابن عباس: كانوا في ذلك الزمان لا يَزِنُون أقل من أربعين درهماً، وقيل: إِنما لم يَزِنُوها لزهدهم فيه. وفي عدد تلك الدراهم خمسة أقوال: أحدها: عشرون درهماً، قاله ابن مسعود، وابن عباس في رواية، وعكرمة في رواية، ونوف الشامي، ووهب بن منبِّه، والشعبي، وعطية، والسدي، ومقاتل في آخرين. والثاني: عشرون درهماً وحُلَّة، ونعلان، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: اثنان وعشرون درهماً، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والرابع: أربعون درهماً، قاله عكرمة في رواية، وابن إِسحاق. والخامس:
ثلاثون درهماً، ونعلان، وحُلَّة «٢»، وكانوا قالوا له بالعبرانية: إِما أن تُقرَّ لنا بالعبودية، وإِما أن نأخذَك منهم فنقتلَك، قال: بل أُقرُّ لكم بالعبودية، ذكره إِسحاق بن بشر عن بعض أشياخه. قال المفسرون:
اقتسموا ثمنه، فاشترَوا به نعالاً وخفافاً. وكان بعض الصالحين يقول: والله ما يوسف- وإِن باعه أعداؤه- بأعجبَ منك في بيعكَ نفسَكَ بشهوةِ ساعةٍ من معاصيك.
قوله تعالى: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ الزهد: قلَّة الرغبة في الشيء. وفي المشار إِليهم قولان «٣» : أحدهما: أنهم إخوته، قال ابن عباس فعلى هذا، في هاء «فيه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى يوسف، لأنهم لم يعلموا مكانه من الله تعالى، قاله الضحاك، وابن جريج. والثاني: أنها ترجع إِلى الثمن. وفي علَّة زهدهم قولان: أحدهما: رداءته. والثاني: أنهم قصدوا بُعد يوسف، لا الثمن.
والثاني: أنهم السيارة الذين اشترَوه. وفي علَّة زهدهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ارتابوا لقلة ثمنه.
والثاني: أن إِخوته وصفوه عندهم بالخيانة والإباق. والثالث: لأنهم علموا أنه حرّ.
دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ.
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ١٧١: والصواب من القول في ذلك أن يقال:
إن الله تعالى ذكره أخبر أنهم باعوه بدراهم معدودة غير موزونة، لم يحدّ مبلغ ذلك بوزن ولا عدد ولا وضع عليه دلالة في كتاب، ولا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، | وليس في العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع في دين، ولا في الجهل به دخول ضرّ فيه، والإيمان بظاهر التنزيل فرض وما عداه فموضوع عنا تكلّف علمه. |
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢١]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١)قوله تعالى: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ قال وهب: لما ذهبت به السيارة إِلى مصر، وقفوه في سوقها يعرضونه للبيع، فتزايد الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنَه مسكاً، ووزنه ورِقاً، ووزنه حريراً، فاشتراه بذلك الثمن رجل يقال له: قطفير، وكان أمين فرعون وخازنه، وكان مؤمناً. وقال ابن عباس:
إِنما اشتراه قطفير من مالك بن ذعر بعشرين ديناراً، وزوجَيْ نعل، وثوبَيْن أبيضين، فلما رجع إِلى منزله قال لامرأته: أكرمي مثواه. وقال قوم: اسمه أُطفير. وفي اسم المرأة قولان: أحدهما: راعيل بنت رعاييل، قاله ابن إِسحاق. والثاني: أزليخا بنت تمليخا، قاله مقاتل.
قال ابن قتيبة: «أكرمي مثواه» يعني منزله ومقامه عندك، من قولك: ثويت بالمكان: إِذا أقمت به.
وقال الزجاج: أحسني إِليه في طول مُقامه عندنا. قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرَّس في يوسف، فقال لامرأته: «أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا»، وابنة شعيب حين قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ «١»، وأبو بكر حين استخلف عمر.
وفي قوله تعالى: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا قولان: أحدهما: يكفيَنَا إِذا بلغ أمورنا. والثاني: بالربح في ثمنه. قوله تعالى: أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً قال ابن عباس: نتبنَّاه. وقال غيره: لم يكن لهما ولد، وكان العزيز لا يأتي النساء. قوله تعالى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ أي: وكما أنجيناه من إِخوته وأخرجناه من ظلمة الجُبِّ، مكنَّا له في الأرض، أي: ملَّكناه في أرض مصر فجعلناه على خزائنها. وَلِنُعَلِّمَهُ قال ابن الأنباري: إِنما دخلت الواو في «ولنعلِّمه» لفعل مضمر هو المجتلب للام، والمعنى: مكنَّا ليوسف في الأرض، واختصصناه بذلك لكي نعلِّمه من تأويل الأحاديث. وقد سبق تفسير «تأويل الأحاديث».
وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى، فالمعنى: أنه غالب على ما أراد من قضائه، وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني: أنها ترجع إِلى يوسف «٢»، فالمعنى:
غالب على أمر يوسف حتى يبلِّغه ما أراده له، وهذا معنى قول مقاتل. وقال بعضهم: والله غالب على أمره حيث أمر يعقوبُ يوسفَ أن لا يقصَّ رؤياه على إِخوته، فعلموا بها، ثم أراد يعقوب أن يلتقطه بعض السيارة فيندرس أمره، فعلا أمره، ثم باعوه ليكون مملوكاً، فغلب أمره حتى ملك، وأرادوا أن يعطفوا أباهم، فأباهم، ثم أرادوا أن يغرّوا يعقوب بالبكاء والدم الذي ألقَوْه على القميص، فلم يَخْفَ عليه، ثم أرادوا أن يكونوا بعده قوماً صالحين، فنسوا ذنبهم إِلى أن أقرُّوا به بعد سنين. فقالوا: إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ «٣»، ثم أرادوا أن يمحوا محبَّته من قلب أبيه، فازدادت، ثم أرادت أزليخا أن تلقي عليه التهمة بقولها: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً «٤»، فغلب أمره، حتى شهد شاهد من أهلها، وأراد يوسف أن
(٢) وكذا قال الطبري رحمه الله ٧/ ١٧٤: الهاء في قوله: عَلى أَمْرِهِ عائدة على يوسف.
(٣) سورة يوسف: ٩٧.
(٤) سورة يوسف: ٢٥.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٢]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)
قوله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قد ذكرنا معنى الأشدّ في سورة الأنعام «١»، واختلف العلماء في المراد به ها هنا على ثمانية أقوال: أحدها: أنه ثلاث وثلاثون سنة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وبه قال مجاهد، وقتادة. والثاني: ثماني عشرة سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة.
والثالث: أربعون سنة، قاله الحسن. والرابع: بلوغ الحلم، قاله الشعبي، وربيعة، وزيد بن أسلم، وابنه. والخامس: عشرون سنة، قاله الضحاك. والسادس: أنه من نحو سبع عشرة سنة إِلى نحو الأربعين، قاله الزجاج. والسابع: أنه بلوغ ثمان وثلاثين سنة، حكاه ابن قتيبة. والثامن: ثلاثون سنة، ذكره بعض المفسرين «٢».
قوله تعالى: آتَيْناهُ حُكْماً فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الفقه والعقل، قاله مجاهد. والثاني:
النبوَّة، قاله ابن السائب. والثالث: أنه جُعل حكيماً، قاله الزجاج، قال: وليس كل عالم حكيماً، إنما الحكيم: العالم المستعمِل علمه، الممتنع به من استعمال ما يجهَّل فيه. والرابع: أنه الإِصابة في القول:
ذكره الثعلبي. قال اللغويون: الحكم عند العرب ما يصرف عن الجهل والخطأ، ويمنع منهما، ويردُّ النفس عما يشينها ويعود عليها بالضرر، ومنه: حكمَة الدابة. وأصل أحكمت في اللغة: منعت، وسمي الحاكم حاكماً، لأنه يمنع من الظلم والزّيغ.
وفي المراد بالعلم ها هنا قولان: أحدهما: الفقه. والثاني: علم الرؤيا.
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: ومثل ما وصفنا من تعليم يوسف وحراسته، نثيب من أحسن عمله، واجتنب المعاصي، فننجِّيه من الهلكة، ونستنقذه من الضّلالة ونجعله من أهل العلم والحكمة كما فعلنا بيوسف.
وفي المراد بالمحسنين ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: الصابرون على النوائب. والثاني: المهتدون، رويا عن ابن عباس. والثالث: المؤمنون. قال محمد بن جرير: هذا، وإِن كان مخرج ظاهره على كل محسن، فالمراد به محمّد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: كما فعلت بيوسف بعد ما لقي من البلاء فمكَّنته في الأرض وآتيته العلم، كذلك أفعل بك وأنجيك من مشركي قومك «٣».
(٢) قال الطبري رحمه الله ٧/ ١٧٥: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى أخبر أنه آتى يوسف لما بلغ أشده حكما وعلما و «الأشدّ» هو انتهاء قوته وشبابه، وجائز أن يكون آتاه ذلك وهو ابن ثماني عشرة سنة، وجائز أن يكون آتاه وهو ابن عشرين سنة، وجائز أن يكون آتاه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ولا دلالة له في كتاب الله، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في إجماع الأمة على أي ذلك كان، وإذا لم يكن ذلك موجودا من الوجه الذي ذكرت، فالصواب أن يقال فيه كما قال عز وجل، حتى تثبت حجة بصحة ما قيل في ذلك من الوجه الذي يجب التسليم له، فيسلم لها حينئذ.
(٣) انظر «تفسير الطبري» ٧/ ١٧٥.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٣]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣)قوله تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ أي: طلبت منه المواقعة، وقد سبق اسمها.
قال الزجاج: المعنى: راودته عما أرادته مما يريد النساء من الرجال وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قرأ ابن كثير:
«هَيْتُ لك» بفتح الهاء وتسكين الياء وضم التاء. وقرأ نافع، وابن عامر: «هِيتَ لك» بكسر الهاء وتسكين الياء وفتح التاء، وهي مروية عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وروى الحُلواني عن هشام عن ابن عامر مثله، إِلا أنه همزه. قال أبو علي الفارسي: هو خطأ. وروي عن ابن عامر: «هِئْتُ لك» بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء، وهي قراءة ابن عباس، وأبي الدرداء، وقتادة. قال الزجاج: هو من الهيئة، كأنها قالت: تهيأت لك. وعن ابن محيصن، وطلحة بن مصرف مثل قراءة ابن عباس إِلا أنها بغير همز. وعن ابن محيصن بفتح الهاء وكسر التاء، وهي قراءة أبي رزين، وحميد. وعن الوليد بن عتبة بكسر الهاء والتاء مع الهمز، وهي قراءة أبي العالية. وقرأ ابن خثيم مثله، إِلا أنه لم يهمز. وعن الوليد بن مسلم عن نافع بكسر الهاء وفتح التاء مع الهمز. وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري: «هُيِّئتُ لك» برفع الهاء والتاء وبياء مشددة مكسورة بعدها همزة ساكنة. وقرأ أُبَيُّ بن كعب: «ها أنا لك». وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء بغير همز. قال الزجاج: وهو أجود اللغات، وأكثرها في كلام العرب، ومعناها: هلم لك، أي: أقبل على ما أدعوك إِليه، وقال الشاعر:
أَبْلِغْ أمِيْرَ المُؤْمِنْينَ أَخَا العِرَاقِ إِذَا أَتَيْتَا | أَنَّ العِرَاقَ وأَهْلَهُ عُنُقٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا «١» |
قد رابني أنَّ الكَرِيَّ أَسْكَتَا | لو كانَ مَعْنِيَّاً بها لَهَيَّتَا «٢» |
أحدها: أنها عربية قاله مجاهد. وقال ابن الأنباري: وقد قيل: إِنها من كلام قريش، إِلا أنها مما درس وقلَّ في أفواههم آخراً، فأتى الله به، لأن أصله من كلامهم، وهذه الكلمة لا مصدر لها، ولا تصرُّف، ولا تثنية، ولا جمع، ولا تأنيث، يقال للاثنين: هيت لكما، وللجميع: هيت لكم، وللنسوة: هيت لَكُنَّ. والثاني: أنها بالسريانية، قاله الحسن. والثالث: بالحورانية، قاله عكرمة، والكسائي. وقال الفراء: يقال: إِنها لغة لأهل حوران، سقطت إِلى أهل مكة فتكلموا بها. والرابع: أنها بالقبطية، قاله السدي.
قوله تعالى: قالَ مَعاذَ اللَّهِ قال الزجاج: هو مصدر، والمعنى: أعوذ بالله أن أفعل هذا، يقال: عذت عياذاً ومعاذاً ومعاذة. إِنَّهُ رَبِّي أي: إِن العزيز صاحبي أَحْسَنَ مَثْوايَ، قال: ويجوز
وعنق: العنق الجماعة الكثيرة، وجاء القوم عنقا أي طوائف، أي إذا جاءوا فرقا، كل جماعة منهم عنق.
(٢) في «اللسان» : الكريّ: من الكراء وهو أجر المستأجر، والكري: الذي يكريك دابته أو هو المكتري.
قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي: إن فعلت هذا فخنته في أهله بعد ما أكرمني فأنا ظالم.
وقيل: الظّالمون ها هنا: الزّناة.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٤]
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)
قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ الهم بالشيء في كلام العرب: حديث المرء نفسه بمواقعته ما لم يواقع. فأما همّ أزليخا، فقال المفسرون: دعته إِلى نفسها واستلقت له. واختلفوا في همِّه بها على خمسة أقوال «١» :
أما قوله: يرده لسان العرب، فليس كما ذكر، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب، قال تعالى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- القصص: ١٠- فقوله: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ إما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به، وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة، يناقض بعضها بعضا. مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة، والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب، لأنهم قدروا جواب (لولا) محذوفا، ولا يدل عليه دليل، لأنهم لم يقدروا: لهمّ بها، ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط، لأن ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه، وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين، ومن أراد أن يقف على ما نقل عن المفسرين في هذه الآية فليطالع ذلك في تفسير الزمخشري وابن عطية وغيرهما. [.....]
(٨٠٧) ويدل على هذا الحديث الصّحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إِلى غار، فانطبقت عليهم صخرة، فقالوا: ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله. فقال أحدهم: اللهم إِنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إلّا بمائة دينار، فلمّا أتيت بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة أُرعدتْ وقالت: إِن هذا لعملٌ ما عملته قطُّ، فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار، فإن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرِج عنا، فزال ثلث الحجر». والحديث معروف، وقد ذكرته في «الحدائق»، فعلى هذا نقول: إِنما همت، فترقَّت همَّتها إِلى العزيمة، فصارت مصرَّة على الزنا. فأما هو، فعارضه ما يعارض البشر من خَطَرَاتِ القلب، وحديث النفس، من غير عزم، فلم يلزمه هذا الهمُّ ذنباً، فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه.
(٨٠٨) وقد قال عليه السلام: «عفي لأمّتي عمّا حدّثت به أنفسها ما لم تتكلّم أو تعمل».
(٨٠٩) وقال عليه السّلام: «هلك المصرّون» وليس الإِصرار إِلا عزم القلب، فقد فرَّق بين حديث النفس وعزم القلب. وسئل سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بالهمة؟ فقال: إذا كانت عزما.
- وأخرجه البخاري ٢٢٧٢ ومسلم ٢٧٤٣ وأحمد ٢/ ١١٦ من طريقين عن سالم، عن ابن عمر به.
- وله شواهد منها: حديث أبي هريرة: أخرجه البزار ١٨٦٩ وابن حبان ٩٧٢ وإسناده حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» ٨/ ١٤٢ و ١٤٣: رواه البزار والطبراني في «الأوسط» بأسانيد ورجال البزار وأحد أسانيد الطبراني رجالهما رجال الصحيح. وحديث النعمان بن بشير: أخرجه أحمد ٢/ ١٤٢ والبزار ٣١٧٨ و ٣١٧٩ و ٣١٨٠.
وذكره الهيثمي في «المجمع» ٨/ ١٤٢ وقال: ورجال أحمد ثقات. وحديث أنس: أخرجه أحمد ٣/ ١٤٢ و ١٤٣ والبزار ١٨٦٨ والطبراني في «الدعاء» ٢٠٠. وقال الهيثمي في «المجمع» ٨/ ١٤٠: رواه أحمد مرفوعا، ورواه أبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح. فهذا حديث مشهور.
صحيح. أخرجه البخاري ٢٥٢٨ و ٥٢٦٩ و ٦٦٦٤ ومسلم ١٢٧ وأبو داود ٢٢٠٩ والترمذي ١١٨٣ والنسائي ٦/ ١٥٦ و ١٥٧ وابن ماجة ٢٠٤٤ والبيهقي ٧/ ٢٩٨ والطيالسي ٢٤٥٩ وابن حبان ٤٣٣٤ من طرق عن قتادة، عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة به.
حسن. أخرجه أحمد ٢/ ١٦٥- ٢١٩ والبيهقي في «الشعب» ٧٢٣٦ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في أثناء حديث، وإسناده حسن، وجوّده المنذري في «الترغيب» ٣٦٢٨. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠/ ١٩٠- ١٩١: رجال أحمد رجال الصحيح غير حبان بن زيد، ووثقه ابن حبان. قلت: وقال عنه الحافظ في «التقريب» : ثقة.
كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ وكل ذلك إِخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية، وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إلى العزم.
فإن قيل: فقد سوّى القرآن بين الهمتين، فلم فرقتم؟
فالجواب: أن الاستواء وقع في بداية الهمة، ثم ترقت همتها إِلى العزيمة، بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه، ولم تتعد همته مقامها، بل نزلت عن رتبتها، وانحل معقودها. بدليل هربه منها، وقوله: قالَ مَعاذَ. ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حلّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل، فإنه لو كان هذا، دل على العزم، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا.
والقول الثاني: أنها همت به أن يفترشها، وهمّ بها، أي: تمنَّاها أن تكون له زوجة، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والقول الثالث: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها فلما رأى البرهان، لم يقع منه الهم، فقُدِّم جواب «لولا» عليها، كما يقال: قد كنتَ من الهالكين، لولا أن فلاناً خلَّصك لكنت من الهالكين، ومنه قول الشاعر:
فَلا يَدْعُني قَوْمِي صَرِيْحاً لِحُرَّةٍ | لئن كُنْتُ مَقْتُولاً وتَسْلَم عَامِرُ |
وجزى ربُّه عَنِّي عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ | بِتَرْكي وَخِذْلاَني جَزَاءً موفَّراً |
لَمَّا جْفَا إِخوانُه مُصْعَبَاً | أدَّى بِذَاكَ البيَعَ صَاعاً بِصاعِ |
طلبا لعرفك يا ابن يحيى بعد ما | تقطّعت بي دونك الأسباب |
إِنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلَك شَتَّى | فَالْزَمِي الخَفْضَ وانعمي تَبْيَضِّضي |
هُمَا تَفَلا في فِيَّ مِن فَمَوَيْهِمَا | عَلَى النَّابِحِ العَاوِي أشدُّ لِجَامِيا |
والقول الرابع: أنه همّ أن يضربها ويدفعها عن نفسه، فكان البرهان الذي رآه من ربه أن الله أوقع في نفسه أنه إِن ضربها كان ضربه إِياها حجة عليه، لأنها تقول: راودني فمنعته فضربني، ذكره ابن الأنباري.
والقول الخامس: أنه همّ بالفرار منها، حكاه الثعلبي، وهو قول مرذول، أفَتراه أراد الفرار منها، فلما رأى البرهان أقام عندها؟! قال بعض العلماء: كان همّ يوسف خطيئة من الصغائر الجائزة على الأنبياء، وإِنما ابتلاهم بذلك ليكونوا على خوف منه، وليعرفهم مواقع نعمته في الصفح عنهم، وليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة. قال الحسن: إِن الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرا لهم، ولكن لئلا تقنطوا من رحمته. يعني الحسن أن الحجة للأنبياء ألزم، فاذا قبل التوبة منهم، كان إِلى قبولها منكم أسرع.
(٨١١) وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «ما من أحد يلقى الله تعالى إِلا وقد همّ بخطيئة أو عملها، إِلا يحيى بن زكريا، فإنه لم يهم ولم يعملها».
قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ جواب «لولا» محذوف. قال الزجاج: المعنى: لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما همّ به. قال ابن الأنباري: لزنى، فلما رأى البرهان كان سبب انصراف الزنا عنه. وفي البرهان ستة أقوال:
أحدها: أنه مُثّل له يعقوب. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: نُودي يا يوسف، أتزني فتكون مثل الطائر الذي نُتف ريشه فذهب يطير فلم يستطع؟ فلم يعط على النداء شيئاً، فنودي الثانية، فلم يعط على النداء شيئاً فتمثل له يعقوب فضرب صدره، فقام، فخرجت شهوته من أنامله. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضَّاً على أنامله، فأدبر هارباً، وقال: وحقِّك يا أبت لا أعود أبدا. وقال أبو صالح عن ابن عباس: رأى مثال يعقوب في الحائط عاضَّاً
والثاني: أنه جبريل عليه السلام. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: مثِّل له يعقوب فلم يزدجر، فنودي: أتزني فتكون مثل الطائر نتف ريشه؟! فلم يزدجر حتى ركضه جبريل في ظهره، فوثب.
والثالث: أنها قامت إِلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال لها يوسف: أي شيء تصنعين؟
قالت: أستحي من إِلهي هذا أن يراني على هذه السوأة، فقال: أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع، ولا أستحي من إِلهي القائم على كل نفس بما كسبت؟ فهو البرهان الذي رأى، قاله عليّ بن أبي طالب، وعليّ بن الحسين، والضحاك.
والرابع: أنّ الله تعالى بعث إِليه ملكاً، فكتب في وجه المرأة بالدّم: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا «١»، قاله الضحاك عن ابن عباس. وروي عن محمد بن كعب القرظي: أنه رأى هذه الآية مكتوبة بين عينيها، وفي رواية أخرى عنه، أنه رآها مكتوبة في الحائط. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: بدت فيما بينهما كف ليس فيها عضد ولا معصم، وفيها مكتوب وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا، فقام هاربا، وقامت، فلمّا ذهب عنهما الرّوع عادت وعاد، فلما قعد إِذا بكفٍّ قد بدت فيما بينهما فيها مكتوب وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»
الآية، فقام هارباً، فلما عاد، قال الله تعالى لجبرئيل: أدركْ عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل عاضّاً على كفه أو أصبعه وهو يقول: يا يوسف، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء؟!. وقال وهب بن منبه: ظهرت تلك الكف وعليها مكتوب بالعبرانية أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «٣»، فانصرفا، فلما عادا رجعت وعليها مكتوب وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ «٤»، فلما عادا عادت وعليها مكتوب وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى الآية، فعاد، فعادت الرابعة وعليها مكتوب وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، فولَّى يوسف هاربا «٥».
والخامس: أنه سيّدُه العزيز دنا من الباب، رواه ابن إِسحاق عن بعض أهل العلم. وقال ابن إِسحاق: يقال: إِن البرهان خيال سيِّده، رآه عند الباب فهرب.
والسادس: أن البرهان أنه علِم ما أحل الله مما حرّم الله، فرأى تحريم الزنا، روي عن محمد بن كعب القرظي. قال ابن قتيبة: رأى حجة الله عليه، وهي البرهان، وهذا هو القول الصحيح، وما تقدَّمه فليس بشيء، وإِنما هي أحاديث من أعمال القصاص، وقد أشرت إِلى فسادها في كتاب «المغني في التفسير». وكيف يُظن بنبيٍّ لله كريمٍ أنه يخوَّف ويرعَّب ويُضطر إِلى ترك هذه المعصية وهو مصرّ؟! هذا غاية القبح.
(٢) سورة البقرة: ٢٨١.
(٣) سورة الرعد: ٣٣.
(٤) سورة الانفطار: ١٠- ١١.
(٥) هذه الآثار جميعا من الإسرائيليات، لا حجة في شيء منها، وتقدم ما فيه كفاية.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)
قوله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ يعني يوسف والمرأة، تبادرا إِلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه، وأراد يوسف أن يسبق ليفتح الباب ويخرج، وأرادت هي إِن سبقت إِمساك الباب لئلا يخرج، فأدركته فتعلقت بقميصه من ورائه، فجذبته إِليها، فقدَّت قميصه من دبر، أي: قطعته من خلفه، لأنه كان هو الهارب وهي الطالبة له. قال المفسرون: قطعت قميصه نصفين، فلما خرجا، ألفيا سيدها، أي: صادفا زوجها عند الباب، فحضرها في ذلك الوقت كيد، فقالت سابقةً بالقول مبرِّئةً لنفسها من الأمر ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً قال ابن عباس: تريد الزّنى إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أي: ما جزاؤه إِلا السّجن أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني الضرب بالسياط، فغضب يوسف حينئذ وقال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وقال وهب بن منبِّه: قال له العزيز حينئذ: أخنتني يا يوسف في أهلي، وغدرتَ بي، وغررتني بما كنت أرى من صلاحك! فقال حينئذ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي.
قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها وذلك أنه لما تعارض قولاهما، احتاجا إِلى شاهد يُعلَم به قول الصادق. وفي ذلك الشاهد ثلاثة «١» أقوال: أحدها: أنه كان صبياً في المهد، رواه عكرمة عن ابن عباس «٢»، وشهر بن حوشب عن أبي هريرة، وبه قال سعيد بن جبير، والضحاك، وهلال بن يساف
- وأما مستند القول الأول عن ابن عباس فخبره واه، لا تقوم به حجة.
(٢) أخرجه الطبري ١٩١٠٩ و ١٩١١٨ عن ابن عباس قوله، وإسناده ضعيف، فيه عطاء بن السائب، وقد اختلط.
وكرره ١٩١٢٠ بإسناد ساقط، فيه عطية العوفي ضعيف، وعنه مجاهيل وأخرج خلافه برقم ١٩١٢١ عن ابن عباس قوله: كان ذا لحية. ورجاله رجال مسلم، لكن سماك بن حرب مضطرب الرواية في عكرمة.
- قلت: وورد أثر ابن عباس بمثل سياق المصنف مرفوعا، أخرجه الحاكم ٢/ ٥٩٥ من طريق السري بن خزيمة عن مسلم بن إبراهيم عن جرير بن حازم عن ابن سيرين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة فرعون».
- صححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! وليس بشيء، والوهم فيه من السري بن خزيمة، أو من شيخ الحاكم، فقد أخرج البخاري ٣٤٣٦ ومسلم ٢٥٥٠ وأحمد ٢/ ٣٠٧ وغيرهما من طرق عن مسلم بن إبراهيم.
بهذا الإسناد «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة فذكر فيه عيسى بن مريم، وصاحب جريج، والطفل الرضيع وقصته مع الجبار والجارية» وسيأتي. فهذا هو الصحيح، وليس فيه ذكر ابن ماشطة فرعون ولا شاهد يوسف.
ويلاحظ أن خبر الحاكم صدره «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة. ثم ذكر أربعة؟!!. فهذا دليل على أنه حديث مقلوب، جعل إسناده لمتن آخر، والله أعلم.
فإن قيل: كيف وقعت شهادة الشّاهد ها هنا معلَّقة بشرط، والشارط غير عالم بما يشرطه؟
فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري.
أحدهما: أن الشاهد شاهد بأمر قد علمه، فكأنه سمع بعض كلام يوسف وأزليخا، فعلم، غير أنه أوقع في شهادته شرطاً ليَلزم المخاطبين قبولُ شهادته من جهة العقل والتمييز، فكأنه قال: هو الصّادق عندي، فإن تدبّرتم ما أشترطه لكم، عقلتم قولي، ومثل هذا قول الحكماء: إِن كان القَدَر حقاً، فالحرص باطل، وإِن كان الموت يقيناً، فالطمأنينة إِلى الدنيا حمق.
والجواب الثاني: أن الشاهد لم يقطع بالقول، ولم يعلم حقيقة ما جرى، وإِنما قال ما قال على جهة إِظهار ما يسنح له من الرأي، فكان معنى قوله: وَشَهِدَ شاهِدٌ: أعلم وبيَّن. فقال: الذي عندي من الرأي أن نقيس القميص ليوقَف على الخائن. فهذان الجوابان يدلان على أن المتكلم رجل.
فإن قلنا: إِنه صبي في المهد، كان دخول الشرط مصحِّحاً لبراءة يوسف، لأن كلام مثله أعجوبة ومعجزة لا يبقى معها شكّ.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٨]
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨)
قوله تعالى: فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ في هذا الرائي والقائل: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ قولان:
أحدهما: أنه الزوج. والثاني: الشاهد.
وفي هاء الكناية في قوله: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ «١» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى تمزيق القميص، قاله مقاتل. والثاني: إِلى قولها: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً، فالمعنى: قولكِ هذا من كيدكن، قاله الزجاج. والثالث: إِلى السوء الذي دعته إِليه، ذكره الماوردي.
قال ابن عباس: إِنَّ كَيْدَكُنَّ أي: عملكن عَظِيمٌ تخلطن البريء والسّقيم.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠)
أحدهما: أنه ابن عمها وهو الشاهد، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الزوج، ذكره جماعة من المفسرين.
قال ابن عباس: أَعرضْ عن هذا الأمر فلا تذكره لأحد، واكتمه عليها. وروى الحلبيّ عن عبد الوارث:
«يوسف أعرَضَ عن هذا» بفتح الراء على الخبر.
قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ فيه قولان: أحدهما: استعفي زوجك لئلا يعاقبَكِ، قاله ابن عباس. والثاني: توبي من ذنبكِ فإِنكِ قد أثمتِ.
وفي القائل لهذا قولان: أحدهما: ابن عمها. والثاني: الزوج.
قوله تعالى: إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ يعني: من المذنبين. قال المفسرون: ثم شاع ذلك الحديث في مصر حتى تحدَّث بذلك النساء، وهو قوله: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ، وفي عددهن قولان: أحدهما: أنهن كن أربعاً: امرأة ساقي الملك، وامرأة صاحب دواته، وامرأة خبَّازه، وامرأة صاحب سجنه، قاله ابن عباس. والثاني: أنهن خمس: امرأة الخبَّاز، وامرأة الساقي، وامرأة السجَّان، وامرأة صاحب الدواة، وامرأة الآذن، قاله مقاتل.
وأما العزيز، فهو بلغتهم الملك، والفتى بمعنى العبد. قال الزجاج: كانوا يسمون المملوك فتى.
وإِنما تكلم النسوة في حقها، طعناً فيها، وتحقيقاً لبراءة يوسف.
قوله تعالى: قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي: بلغ حبُّه شَغاف قلبها. وفي الشَّغاف أربعة أقوال: أحدها: أنه جلدةٌ بين القلب والفؤاد، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أنه غلاف القلب، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: ولم يُرِدِ الغلاف، إِنما أراد القلب، يقال: شغفت فلاناً: إِذا أصبت شغافه، كما يقال: كبدته:
إِذا أصبت كبده، وبطنته: إِذا أصبت بطنه. والثالث: أنه حَبَّة القلب وسويداؤه. والرابع: أنه داءٌ يكون في الجوف في الشراسيف، وأنشدوا:
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُوْنَ ذَلِكَ دَاخِلٌ | دُخُوْلَ الشَّغافِ تَبْتَغِيْهِ الأَصَابِعُ «١» |
قوله تعالى: إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: عن طريق الرشد، لحبها إِياه. والمبين: الظّاهر.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢)
قوله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ يعني: امرأة العزيز بِمَكْرِهِنَّ وفيه قولان: أحدهما: أنه قولهنّ
قوله تعالى: وَأَعْتَدَتْ قال الزجاج: أفعلت من العتاد، وكل ما اتخذته عُدَّةً لشيء فهو عتاد، والعتاد: الشيء الثابت اللازم. فأما المتكأ، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المجلس فالمعنى: هيأت لهن مجلساً، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنه الوسائد اللائي يتكئن عليها، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال الزجاج: المتكأ: ما يُتَّكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث. والثالث: أنه الطعام، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة. قال ابن قتيبة: يقال: اتكأنا عند فلان: إِذا طعمنا، قال جميل بن معمر:
فَظَلِلْنَا في نَعْمةٍ واتَّكأْنا | وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قُلَلِهْ «١» |
أحدها: أنه الأُتْرُجّ، قاله ابن عباس ومجاهد ويحيى بن يعمر في آخرين، ومنه قول الشاعر:
وترى المُتْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارَا «٢»
يريد: الأُتْرُجّ. والثاني: أنه الطعام أيضا، قاله عكرمة. والثالث: كل شيء يُحَزُّ بالسكاكين، قاله الضحاك. والرابع: أنه الزُّماورد، روي عن الضحاك أيضاً.
وقد روي عن جماعة أنهم فسروا المتَّكأَ بما فسروا به المُتك، فروي عن ابن جريج أنه قال:
المتَّكأُ: الأترج، وكل ما يُحَزُّ بالسكاكين. وعن الضحاك قال: المتَّكأُ: كل ما يُحَزُّ بالسكاكين. وفرق آخرون بين القراءتين، فقال مجاهد: من قرأ «متَّكَأً» بالتثقيل، فهو الطعام، ومن قرأ بالتخفيف، فهو الأُتْرُجُّ. قال ابن قتيبة: من قرأ «مُتْكاً» فإنه يريد الأترج، ويقال: الزُّماورد. وأياً ما كان، فإني لا أحسبه سمي مُتْكاً إِلا بالقطع، كأنه مأخوذ من البَتْك، فأبدلت الميم منه باءً، كما يقال: سَمَد رأسه وسَبَده: إِذا استأصله، وشر لازم، ولازب، والميم تبدل من الباء كثيراً، لقرب مخرجيها.
قوله تعالى: وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً إِنما فعلت ذلك، لأن الطعام الذي قدمتْ لهن يحتاج إِلى السكاكين. وقيل: كان مقصودها افتضاحهن بتقطيع أيديهن كما فضحنها. قال وهب بن منبه:
ناولت كل واحدة منهن أُتْرُجَّةً وسكيناً، وقالت لهن: لا تقطعن ولا تأكلن حتى أُعلمكن، ثم قالت ليوسف: اخرج عليهن. قال الزجاج: إِن شئت ضممت التاء من قوله: «وقالت»، وإِن شئت كسرت، والكسر الأصل لسكون التاء والخاء، ومن ضم التاء، فلثقل الضمة بعد الكسرة. ولم يمكنه أن لا يخرج، لأنه بمنزلة العبد لها. وذكر بعض أهل العلم أنها إِنما قالت: «اخرج» وأضمرت في نفسها «عليهن»، فأخبر الحق عما في النفس كأن اللسان قد نطق به، ومثله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً
(٢) هو عجز بيت وصدره: لنشرب الإثم بالصّواع جهارا. انظر «تفسير القرطبي» ٩/ ١٥٣.
وفي قوله تعالى: أَكْبَرْنَهُ قولان: أحدهما: أَعْظَمْنَهُ، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة، وابن زيد. والثاني: حِضْنَ «٢»، رواه الضحاك عن ابن عباس. وروى عليّ بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال: حضن من الفَرَح، قال: وفي ذلك يقول الشاعر:
نَأْتي النساءَ لدى أطهارهنّ ولا | نأتي النساء إذا أكثرن إِكبارا «٣» |
قوله تعالى: وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: حَزَزْنَ أيديَهن، وكن يحسبن أنهن يقطّعن طعاماً، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: قطّعن أيدَيهن حتى ألقينها، قاله مجاهد، وقتادة. والثالث:
كلَمن الأكُفَّ وأبنَّ الأنامل، قاله وهب بن منبّه.
قوله تعالى: وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ قرأ أبو عمرو «حاشا» بألف في الوصل في الموضعين، واتفقوا على حذف الألف في الوقف، وأبو عمرو جاء به على التمام والأصل، والباقون حذفوا. وهذه الكلمة تستعمل في موضعين. أحدهما: الاستثناء. والثاني: التبرئة من الشر. والأصل «حاشا» وهي مشتقة من قولك: كنت في حشا فلان، أي: في ناحيته. والحشا: الناحية، وأنشدوا:
بأيِّ الحَشَا أَمْسَى الخَلِيْطُ المُبَايِنُ «٤»
أي: بأي النواحي، والمعنى: صار يوسف في حشاً من أن يكون بشراً، لفرط جماله. وقيل:
صار في حشاً مما قرفته به امرأة العزيز. وقال ابن عباس، ومجاهد: «حاش لله» بمعنى: معاذ الله. قال الفراء: و «بشراً» منصوب، لأن الباء قد استعملت فيه، فلا يكاد أهل الحجاز ينطقون إِلا بالباء، فلما حذفوها أحبوا أن يكون لها أثر فيما خرجت منه، فنصبوا على ذلك، وكذلك قوله: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ «٥»، وأما أهل نجد فيتكلمون بالباء وبغير الباء، فإذا أسقطوها، رفعوا، وهو أقوى الوجهين في العربية. قال الزّجّاج: قوله: الرّفع أقوى الوجهين، غلط، لأن كتاب الله أقوى اللغات، ولم يقرأ بالرفع أحد. وزعم الخليل، وسيبويه، وجميع النحويين القدماء أن «بشراً» منصوب، لأنه خبر «ما» و «ما» بمنزلة «ليس». قلت: وقد قرأ أبو المتوكّل، وأبو نهيك، وعكرمة، ومعاذ القارئ في آخرين: «ما هذا
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله: ٧/ ٢٠٣: مرجحا القول الأول: لا شك أن المحال أن يحضن من يوسف، ولكن الخبر، إن كان صحيحا عن ابن عباس على ما روي فخليق أن يكون معناه في ذلك: أنهن حضن لما أكبرن من حسن يوسف وجماله في أنفسهن، ووجدن ما يجد النساء من مثل ذلك.
ووافقه ابن كثير في تفسيره ٢/ ٥٨٧ بقوله: أكبرنه: أي أعظمن شأنه وأجللن قدره.
(٣) بيت مصنوع، وقائله مجهول، انظر تفسير الطبري والبحر المحيط. [.....]
(٤) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «حشا»، وعزاه إلى المعطّل الهذلي، وعنده- الحبيب- بدل- الخليط-.
(٥) سورة المجادلة: ٢.
قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قرأ أبيّ، وأبو رزين، وعكرمة، وأبو حياة، والجحدري:
«ملِك» بكسر اللام.
قوله تعالى: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ قال المفسرون: لما ذهلت عقولهن فقطَّعن أيدَيهن، قالت لهن ذلك. فإن قيل: كيف أشارت إِليه وهو حاضر بقولها: «فذلكن» ؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أنها أشارت ب «ذلكن» إِلى يوسف بعد انصرافه من المجلس. والثاني: أن في الكلام إِضمار «هذا» تقديره: فهذا ذلكن. ومعنى «لمتنّني فيه» أي: في حبه. ثم أقرت عندهن، فقالت:
وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أي: امتنع.
قوله تعالى: وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ قال الزجاج: القراءة الجيدة تخفيف «وليكوننْ» والوقف عليها بالألف، لأن النون الخفيفة تبدل منهما في الوقف الألف، تقول: اضربا زيداً، وإِذا وقفت قلت:
اضربا. وقد قرئت «وليكوننَّ» بتشديد النون، وأكرهُها، لخلاف المصحف، لأن الشديدة لا يبدل منها شيء. والصاغرون: المذَلُّون.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)
قوله تعالى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ قال وهب بن منبه: لما قالت: «فذلكن الذي لمتنّني فيه» قلن: لا لوم عليكِ، قالت: فاطلبن إِلى يوسف أن يسعفني بحاجتي، فقلن: يا يوسف افعل، فقالت:
لئن لم يفعل لأخلدنَّه السجن، فعند ذلك قال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ. وقرأ يعقوب: «السَّجن» بفتح السين ها هنا فحسب. قال الزجاج: من كسر سين «السجن» فعلى اسم المكان، فيكون المعنى: نزول السجن أحب إِليَّ من ركوب المعصية، ومن فتح، فعلى المصدر، المعنى: أن أُسجن أحب إِلي.
وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أي: إِلاَّ تعصمني أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي: أمِل إِليهن. يقال: صبا إِلى اللهو يصبو صَبْواً وصُبُوّاً وصَباءً: إِذا مال إليه. وقال ابن الأنباري: ومعنى هذا الكلام: اللهم اصرف عني كيدهن، ولذلك قال: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ.
قال: فإن قيل: إِنما كادته امرأة العزيز وحدها، فكيف قال: «كيدهن» ؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن العرب توقع الجمع على الواحد، فيقول قائلهم: خرجت إِلى البصرة في السفن، وهو لم يخرج إِلا في سفينة واحدة. والثاني: أن المكنيَّ عنه امرأة العزيز والنسوة اللاتي عاضدنها على أمرها. والثالث: أنه عنى امرأة العزيز وغيرها من نساء العالَمين اللاتي لهنّ مثل كيدها.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٥]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)
قوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ في المراد بالآيات ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها شق القميص، وقضاء ابن عمها عليها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قال وهب بن منبه: فأشار النسوة عليها بسجنه رجاء أن يستهوينه حين يخلو لهن في السجن، وقلن: متى سجنتيه قطع ذلك عنكِ قَالَةَ الناس التي قد شاعت، ورأوا أنكِ تبغضينه، ويذلُّه السجن لك، فلما انصرفن عادت إِلى مراودته فلم يزدد إِلا بُعداً عنها، فلما يئست، قالت لسيدها: إِن هذا العبد قد فضحني، وقد أبغضتُ رؤيته، فائذن لي في سجنه، فأذن لها، فسجنتْه وأضرَّتْ به. وقال السدي:
قالت: إِما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر بعذري، وإِما أن تحبسه كما حبستني، فظهر للعزيز وأصحابه من الرأي حبس يوسف. قال الزجاج: كان العزيز أمر بالإِعراض فقط، ثم تغيَّر رأيه عن ذلك. قال ابن الأنباري: وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: «ثم بدا لهم» أي: ظهر لهم بالقول والرأي والفكر سجنه.
والثاني: ثم بدا لهم في يوسف بداء، فقالوا: والله لنسجننَّه، فاللام جواب يمين مضمرة.
فأما «الحين»، فهو يقع على قصير الزمان وطويله. وفي المراد به ها هنا للمفسرين خمسة أقوال:
أحدها: خمس سنين، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: سنة، روي عن ابن عباس أيضاً.
والثالث: سبع سنين، قاله عكرمة. والرابع: إِلى انقطاع القالَة، قاله عطاء. والخامس: أنه زمان غير محدود، ذكره الماوردي، وهذا هو الصحيح، لأنهم لم يعزموا على حبسه مدة معلومة، وإِنما ذكر المفسّرون قدر ما لبث.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٦]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)
قوله تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قال الزجاج: فيه دليل على أنه حبس، وإِن لم يُذكر ذلك. و «فتيان» جائز أن يكونا حَدَثين أو شيخين، لأنهم يسمون المملوك فتى. قال ابن الأنباري: إِنما قال: «فتيان» لأنهما كانا مملوكين، والعرب تسمي المملوك فتى، شاباً كان أو شيخاً. قال المفسرون:
عُمِّر ملك مصر فملُّوه، فدسُّوا إِلى خبَّازه وصاحب شرابه أن يسمَّاه، فبلغه ذلك فحبسهما، فكان يوسف قال لأهل السجن: إِني أعبِّر الأحلام، فقال أحد الفتيين: هلم فلنجرب هذا العبد العبراني. واختلفوا هل كانت رؤياهما صادقة، أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها كانت كذباً، وإِنما سألاه تجريباً، قاله ابن مسعود، والسدي.
والثاني: أنها كانت صدقاً، قاله مجاهد، وابن إِسحاق.
والثالث: أن الذي صُلب منهما كان كاذباً، وكان الآخر صادقاً، قاله أبو مجلز.
قوله تعالى: قالَ أَحَدُهُما يعني الساقي إِنِّي أَرانِي أي: في النوم أَعْصِرُ خَمْراً أي: عنباً.
وفي تسمية العنب خمراً ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه سماه باسم ما يؤول إِليه، لأن المعنى لا يلتبس، كما يقال: فلان يطبخ الآجُرَّ ويعمل الدبس، وإِنما يطبخ اللبِن ويصنع التمر، وهذا قول أكثر المفسرين. قال ابن الأنباري: وإِنما كان
والثاني: أن الخمر في لغة أهل عُمان اسم للعنب، قاله الضحاك، والزجاج. قال ابن القاسم:
وقد نطقت قريش بهذه اللغة وعرفتها.
والثالث: أن المعنى: أعصر عنب خمر، وأصل خمر، وسبب خمر، فحذف المضاف، وخلفه المضاف إِليه، كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «١». قال أبو صالح عن ابن عباس: رأى يوسف ذات يوم الخباز والساقي مهمومَين، فقال: ما شأنكما؟ قالا: رأينا رؤيا، قال: قصّاها عليّ، فقال الساقي: إِني رأيت كأني دخلت كرماً فجنيت ثلاثة عناقيد عنب، فعصرتهن في الكأس، ثم أتيت به الملك فشربه، وقال الخباز: رأيت أني خرجت من مطبخ الملك أحمل فوق رأسي ثلاث سلال من خبز، فوقع طير على أعلاهن فأكل منها، نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أي: أخبرنا بتفسيره. وفي قوله تعالى: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ خمسة أقوال:
أحدها: أنه كان يعود المرضى ويداويهم ويعزّي الحزين، رواه مجاهد عن ابن عباس.
والثاني: إِنا نراك محسناً إِن أنبأتنا بتأويله، قاله ابن إِسحاق.
والثالث: إِنا نراك من العالِمين قد أحسنت العلم، قاله الفراء. قال ابن الأنباري: فعلى هذا يكون مفعول الإِحسان محذوفاً، كما حذف في قوله: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ «٢» يعني العنب والسمسم. وإِنما علموا أنه عالم، لنشره العلم بينهم.
والرابع: إِنا نراك ممن يحسن التأويل، ذكره الزجاج.
والخامس: إِنا نراك محسناً إِلى نفسك بلزومك طاعة الله، ذكره ابن الأنباري.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩)
قوله تعالى: قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ في معنى الكلام قولان:
أحدهما: لا يأتيكما طعام تُرْزَقانه في اليقظة إِلا أخبرتكما به قبل أن يصل إِليكما، لأنه كان يخبر بما غاب كعيسى عليه السلام، وهو قول الحسن.
والثاني: لا يأتيكما طعام تُرْزَقانه في المنام إِلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما في اليقظة، هذا قول السدي. قال ابن عباس: فقالا له: وكيف تعلم ذلك، ولست بساحر، ولا عرّاف، ولا صاحب نجوم فقال: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي.
فإن قيل: هذا كله ليس بجواب سؤالهما، فأين جواب سؤالهما؟ فعنه أربعة أجوبة:
(٢) سورة يوسف: ٤٩.
والثاني: أنه عدل عن الجواب لما فيه من المكروه لأحدهما، قاله ابن جريج.
والثالث: أنه ابتدأ بدعائهما إِلى الإِيمان قبل جواب السؤال، قاله الزجاج.
والرابع: أنه ظنهما كاذبَين في رؤياهما، فعدل عن جوابهما ليُعرضا عن مطالبته بالجواب، فلما ألحّا أجابهما، ذكره ابن الأنباري. فأما الملَّة فهي الدين. وتكرير قوله: «هم» للتوكيد.
قوله تعالى: ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قال ابن عباس: يريد: أن الله عصمنا من الشرك ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا أي: اتِّباعنا الإِيمان بتوفيق الله. وَعَلَى النَّاسِ يعني المؤمنين بأن دلهم على دينه. وقال ابن عباس: «ذلك من فضل الله علينا» أن جعلنا أنبياء «وعلى الناس» أن بعثنا إِليهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ من أهل مصر لا يَشْكُرُونَ نعم الله فيوحِّدونه.
قوله تعالى: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ يعني: الأصنام من صغير وكبير خَيْرٌ أي: أعظم صفة في المدح أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ يعني أنه أحق بالإِلهية من الأصنام؟ فأما الواحد، فقال الخطابي: هو الفرد الذي لم يزل وحده، وقيل: هو المنقطع القرين، المعدوم الشريك والنظير، وليس كسائر الآحاد من الأجسام المؤلَّفة، فإن كل شيء سواه يُدعى واحداً من جهة، غير واحد من جهات، والواحد لا يثنّى من لفظه، لا يقال: واحدان. والقهار: الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة، وقهر الخلق كلَّهم بالموت. وقال غيره: القهار: الذي قهر كل شيء فذلَّلَه، فاستسلم وذلّ له.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١)
قوله تعالى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِنما جمع في الخطاب لهما، لأنه أراد جميع من شاركهما في شركهما. وقوله: «من دونه» أي: من دون الله إِلَّا أَسْماءً يعني: الأرباب والآلهة، ولا يصح معاني تلك الأسماء للأصنام، فكأنها أسماء فارغة، فكأنهم يعبدون الأسماء، لأنها لا تصح معانيها. ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي: من حجة بعبادتها إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي: ما القضاء والأمر والنهي إِلا له.
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: المستقيم، يشير إِلى التوحيد. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيه قولان:
أحدهما: أنه لا يجوز عبادة غيره. والثاني: لا يعلمون ما للمطيعين من الثواب وللعاصين من العقاب.
قوله تعالى: أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً الرب هاهنا: السيد. قال ابن السائب: لما قص الساقي رؤياه على يوسف، قال له: ما أحسن ما رأيت! أما الأغصان الثلاثة، فثلاثة أيام، يبعث إِليك الملك عند انقضائها، فيردك إِلى عملك، فتعود كأحسن ما كنت فيه، وقال للخبَّاز: بئس ما رأيت، السلال الثلاث، ثلاثة أيام، ثم يبعث إِليك الملك عند انقضائهن، فيقتلك ويصلبك ويأكل الطير من رأسك، فقالا: ما رأينا شيئاً، فقال: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي: فُرغ منه، وسيقع بكما، صدقتما أو كذبتما.
أحدهما: أنه حتم ذلك لوحي أتاه من الله، وسبيل المنام المكذوب فيه أن لا يقع تأويله، فلما قال: «قضي الأمر»، دل على أنه وحي.
والثاني: أنه لم يحتم، بدليل قوله: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا، قال أصحاب هذا الجواب:
معنى «قضي الأمر» : قُطع الجواب الذي التمستماه من جهتي، ولم يعنِ أن الأمر واقع بكما. وقال أصحاب الجواب الأول: الظّنّ ها هنا بمعنى العلم.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٢]
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)
قوله تعالى: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا يعني الساقي. وفي هذا الظن قولان: أحدهما: أنه بمعنى العلم، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه الظن الذي يخالف اليقين، قاله قتادة.
قوله تعالى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي: عند صاحبك، وهو الملك، وقل له: إِن في السجن غلاماً حُبس ظلماً. واسم الملك: الوليد بن الريّان.
قوله تعالى: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فيه قولان:
أحدهما: فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف لربه، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن إِسحاق. والثاني: فأنسى الشيطان يوسف ذكر ربه، وأمره بذكر الملك ابتغاءَ الفرج من عنده، قاله مجاهد ومقاتل والزجاج، وهذا نسيان عمد، لا نسيان سهو، وعكسه القول الذي قبله.
قوله تعالى: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ أي: غير ما كان قد لبث قبل ذلك، عقوبة له على تعلُّقه بمخلوق. وفي البضع تسعة أقوال: أحدها: ما بين السبع والتسع.
(٨١٢) روى ابن عباس أن أبا بكر لما ناحب قريشاً عند نزول الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا احتطتَ، فانَّ البِضْع ما بين السبع إِلى التسع».
والثاني: اثنتا عشرة سنة، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: سبع سنين، قاله عكرمة.
والرابع: أنه ما بين الخمس إِلى السبع، قاله الحسن. والخامس: أنه ما بين الأربع إِلى التسع، قاله مجاهد. والسادس: ما بين الثلاث إِلى التسع، قاله الأصمعي، والزجاج. والسابع: أن البضع يكون بين الثلاث والتسع والعشر، قاله قتادة. والثامن: أنه ما دون العشرة، قاله الفراء، وقال الأخفش: البضع:
من واحد إلى عشرة. والتاسع: أنه ما لم يبلغ العقد ولا نصفه، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: يعني ما بين الواحد إِلى الأربعة. وروى الأثرم عن أبي عبيدة: البضع: ما بين ثلاث وخمس. وفي جملة ما لبث في السجن ثلاثة أقوال: أحدها: اثنتا عشرة سنة، قاله ابن عباس. والثاني: أربع عشرة، قاله الضحاك.
والثالث: سبع سنين، قاله قتادة. قال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي: «اذكرني عند ربك»، قيل
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٣]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣)
قوله تعالى: وَقالَ الْمَلِكُ يعني ملك مصر الأكبر إِنِّي أَرى يعني في المنام، ولم يقل:
رأيت، وهذا جائز في اللغة أن يقول القائل: أرى، بمعنى رأيت. قال وهب بن منبه: لما انقضت المدة التي وقّتها الله تعالى ليوسف في حبسه، دخل عليه جبريل إِلى السجن، فبشَّره بالخروج وملكِ مصر ولقاءِ أبيه، فلما أمسى الملك من ليلتئذ، رأى سبع بقرات سمان خرجن من البحر، في آثارهن سبع عجاف، فأقبلت العجاف على السمان، فأخذن بأذنابهن فأكلنهن إِلى القرنين، ولم يزد في العجاف شيء، ورأى سبع سنبلات خضر وقد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى أتين عليهن، ولم يزدد في اليابسات شيء، فدعا أشراف قومه فقصها عليهم، فقالوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ. قال الزجاج: والعجاف: التي قد بلغت في الهزال الغاية. والملأ: الذين يُرجع إِليهم في الأمور ويقتدى برأيهم، واللام في قوله: لِلرُّءْيا دخلت على المفعول للتبيين، المعنى: إِن كنتم تعبرون. ثم بيّن باللام فقال: «للرؤيا». ومعنى عبرتُ الرؤيا وعبَّرتها: أخبرت بآخر ما يؤول إِليه أمرها، واشتقاقه من عبر النهر، وهو شاطئ النهر، فتأويل عبرت النهر: بلغت إِلى عِبْره، أي: إِلى شطه، وهو آخر عرضه. وذكر ابن الأنباري في اللام قولين: أحدهما: أنها للتوكيد. والثاني: أنها أفادت معنى «إِلى» والمعنى: إن كنتم توجّهون العبارة إلى الرّؤيا.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٤]
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤)
قوله تعالى: قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ قال أبو عبيدة: واحدها ضِغث، مكسورة، وهي ما لا تأويل له من الرؤيا تراه جماعات، تُجمع من الرؤيا كما يُجمع الحشيش، فيقال: ضغث، أي: ملء كف منه.
وقال الكسائي: الأضغاث: الرؤيا المختلطة. وقال ابن قتيبة: «أضغاث أحلام» أي: أخلاط مثل أضغاث النبات يجمعها الرجل، فيكون فيها ضروب مختلفة. وقال الزجاج: الضغث في اللغة: الحزمة والباقة من الشيء، كالبقل وما أشبهه، فقالوا له: رؤياك أخلاط أضغاث، أي: حزم أخلاط، ليست برؤيا بيِّنه وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ أي: ليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل. وقال غيره: وما نحن بتأويل الأحلام الذي هذا وصفها بعالمين. والأحلام: جمع حُلُم، وهو ما يراه الإِنسان في نومه مما يصحّ ومما يبطل.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨)
وقوله تعالى: بَعْدَ أُمَّةٍ أي: بعد حين، وهو الزمان الذي لبثه يوسف بعده في السجن، وقد سبق بيانه. وقرأ ابن عباس، والحسن «بعد أَمَةً» أراد: بعد نسيان.
فإن قيل: هذا يدل على أن الناسي في قوله: «فأنساه الشيطان ذكر ربه» هو الساقي، ولا شك أن من قال: إِن الناسي يوسف يقول: لم ينس الساقي. فالجواب: أن من قال: إِن يوسف نسي، يقول:
معنى قوله: «وادَّكر» ذكر، كما تقول العرب: احتلب بمعنى حلب، واغتدى بمعنى غدا، فلا يدل إِذاً على نسيان سبقه. وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: إِنما لم يذكر الساقي خبر يوسف للملك حتى احتاج الملك إِلى تأويل رؤياه، خوفاً من أن يكون ذكره ليوسف سبباً لذكره الذنب الذي من أجله حبس، ذكر هذا الجواب ابن الأنباري.
قوله تعالى: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أي: من جهة يوسف فَأَرْسِلُونِ أثبت الياء فيها وفي وَلا تَقْرَبُونِ «١» أَنْ تُفَنِّدُونِ «٢» يعقوب في الحالين، فخاطب الملك وحده بخطاب الجميع، تعظيماً، وقيل: خاطبه وخاطب أتباعه. وفي الكلام اختصار، المعنى: فأرسلوه فأتى يوسف فقال: يا يوسف يا أيها الصدّيق. والصدّيق: الكثير الصدق، كما يقال: فسّيق، وسكّير، وقد سبق بيانه.
قوله تعالى: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ يعني الملك وأصحابه والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه.
وفي قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: يعلمون تأويل رؤيا الملك. والثاني: يعلمون بمكانك فيكون سبب خلاصك. وذكر ابن الأنباري في تكرير «لعلّ» قولين. أحدهما: أن «لعل» الأولى متعلقة بالإِفتاء، والثانية: مبنية على الرجوع، وكلتاهما بمعنى «كي». والثاني: أن الأولى بمعنى «عسى»، والثانية بمعنى «كي» فأعيدت لاختلاف المعنيين، وهذا هو الجواب عن قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «٣».
قال: المفسرون: كان سيِّده العزيز قد مات، واشتغلت عنه امرأته. وقال بعضهم: لم يكن العزيز قد مات، فقال يوسف للساقي: قل للملك: هذه سبع سنين مُخصِبات، ومن بعدهن سبع سنين شداد، إِلا أن يُحتال لهن، فانطلق الرسول إِلى الملك فأخبره، فقال له الملك: ارجع إِليه فقل له: كيف يُصنع؟
فقال: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «دأْباً» ساكنة الهمزة، إِلا أن أبا عمرو كان إِذا أدرج القراءة لم يهمزها. وروى حفص عن عاصم «دأَباً» بفتح الهمزة. قال أبو علي: الأكثر في «دأب» الإِسكان، ولعل الفتح لغة، ومعنى «دأَباً» أي: زراعة متوالية على عادتكم، والمعنى: تزرعون دائبين. فناب «دأب» عن «دائبين». وقال الزجاج:
المعنى: تدأبون دأباً، ودل على تدأبون «تزرعون» والدأب: الملازمة للشيء والعادة.
فإن قيل: كيف حكم بعلم الغيب، فقال: «تزرعون» ولم يقل: إِن شاء الله؟ فعنه أربعة أجوبة:
(٢) سورة يوسف: ٩٤.
(٣) سورة يوسف: ٦٣.
قوله تعالى: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ فإنه أبقى له، وأبعد من الفساد. والشِّداد: المجدبات التي تشتد على الناس. يَأْكُلْنَ أي: يُذهبن ما قدمتم لهنّ في السنين المخصبة، فوصف السنين بالأكل، وإِنما يؤكل فيها، كما يقال: ليل نائم.
قوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي: تحرزون وتدّخرون.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٩]
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)
قوله تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ إِن قيل: لِمَ أشار إِلى السنين وهي مؤنثة ب «ذلك» ؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن القاسم: أحدهما: أن السبع مؤنثه، ولا علامة للتأنيث في لفظها، فأشبهت المذكّر، كقوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «٢» فذكّر منفطراً لمّا لم يكن في السماء علم التأنيث، قال الشاعر:
فلا مُزْنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها | وَلاَ أَرْضٌ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا «٣» |
قوله تعالى: فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ فيه قولان أحدهما: يصيبهم الغيث، قاله ابن عباس. والثاني:
يغاثون بالخصب. ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: «يعصرون» بالياء. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء، فوجَّها الخطاب إِلى المستفتين. وفي قوله: «يعصرون» خمسة أقوال: أحدها: يعصرون العنب والزيت والثمرات، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والجمهور. والثاني: «يعصرون» بمعنى يحتلبون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وروى ابن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد قال: تفسير «يعصرون» يحتلبون الألبان لِسَعَةِ خيرهم واتِّساع خصبهم، واحتج بقول الشاعر:
فما عِصْمةُ الأعْرَابِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُم | طَعَامٌ وَلاَ دَرٌّ مِنَ المَالِ يُعْصَرُ |
فلان في عُصْرة: إِذا كان في حصن لا يُقدَر عليه، قال الشاعر:
صَادِياً يَسْتغيث غير مغاث | ولقد كان عصرة المنجود «٤» |
(٢) سورة المزمل: ١٨.
(٣) البيت لعامر بن جوين الطائي، انظر «خزانة الأدب» ١/ ٢١. وذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ودق». وودق به أي: أنس، والودق: المطر كله شديدة وهيّنه، وقد ودق: أي قطر.
(٤) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «عصر» ونسبه لأبي زبيد. والصدى: شدة العطش.
لَوْ بِغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ | كُنْتُ كالغصَّانِ بالماءِ اعْتِصَارِي «١» |
الذي يصيب الشيء ويأخذه، ومنه هذه الآية. ومنه قول ابن أحمر:
فإنَّما العَيْشُ بريّانِه | وأَنْتَ من أفْنَانِه مُعْتَصَر |
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١)
قوله تعالى: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ قال المفسرون: لما رجع الساقي إِلى الملك وأخبره بتأويل رؤياه، وقع في نفسه صحة ما قال، فقال: ائتوني بالذي عبّر رؤياي، فجاءه الرسول، فقال: أجب الملك، فأبى أن يخرج حتى تبين براءته مما قُرف به، فقال: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ يعني الملك فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ وقرأ ابن أبي عبلة: «النُّسوة» بضم النون، والمعنى: فاسأل الملك أن يتعرف ما شأن تلك النسوة وحالهن ليعلم صحة براءتي، وإِنما أشفق أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره أو متّهم بفاحشة، وأحب أن يراه بعد استقرار براءته عنده. وظاهر قوله: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ أنه يعني الله عزّ وجلّ، وحكى ابن جرير الطبري أنه أراد به سيده العزيز، والمعنى: أنه يعلم براءتي. وقد روي عن نبيّنا صلّى الله عليه وسلم أنه استحسن حزم يوسف وصبره عن التسرع إلى الخروج. فقال صلّى الله عليه وسلم:
(٨١٣) «إنّ الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إِسحاق بن إِبراهيم، لو لبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم جاءني الداعي لأجبت».
رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ويرحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إِلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي».
__________
(١) البيت لعدي بن زيد انظر «مجاز القرآن» ١/ ٣١٤، و «الخزانة» ٣/ ٥٩٤، وذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «شرق». والشّرق: الشجا والغصة.
(٢) سورة النبأ: ١٤.
والرابع: لأن في ذكره لها نوع تهمة، ذكر الأقوال الثلاثة الماوردي.
قال المفسرون: فرجع الرسول إِلى الملك برسالة يوسف، فدعا الملك النسوة وفيهن امرأة العزيز، فقال: ما خَطْبُكُنَّ أي: ما شأنكن وقصتكن إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ. فإن قيل: إِنما راودته واحدة، فلم جمعهنّ؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه جمعهن في السؤال ليُعلم عينُ المراوِدة. والثاني:
أن أزليخا راودته على نفسه، وراوده باقي النسوة على القبول منها. والثالث: أنه جمعهنَّ في الخطاب، والمعنى لواحدة منهن، لأنه قد يوقع على النوع وصف الجنس إِذا أُمن من اللبس، يدلّ عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلم:
(٨١٤) «إِنكن أكثر أهل النار» فجمعهن في الخطاب والمعنى لبعضهن، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ قال الزجاج: قرأ الحسن «حاش» بتسكين الشين، ولا اختلاف بين النحويين أن الإِسكان غير جائز، لأن الجمع بين ساكنين لا يجوز، ولا هو من كلام العرب. فأعلم النسوةُ الملكَ براءة يوسف من السوء، فقالت امرأة العزيز: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي: برز وتبين، واشتقاقه في اللغة من الحِصَّة، أي: بانت حصة الحق وجهته من حصة الباطل. وقال ابن القاسم:
«حصحص» بمعنى وضح وانكشف، تقول العرب: حصحص البعير في بروكه: إِذا تمكن، وأثَّر في الأرض، وفرَّق الحصى. وللمفسرين في ابتداء أزليخا بالإِقرار قولان:
أحدهما: أنها لما رأت النسوة قد برّأنه، قالت: لم يبق إِلا أن يُقبِلن علي بالتقرير، فأقرت، قاله الفراء. والثاني: أنها أظهرت التوبة وحقّقت صدق يوسف، قاله الماوردي.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٢]
ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢)
قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال مقاتل: «ذلك» بمعنى هذا. وقال ابن الأنباري:
قال اللغويون: هذا وذلك يصلحان في هذا الموضع وأشباهه، لقرب الخبر من أصحابه، فصار كالمشاهد الذي يشار إِليه بهذا، ولمّا كان متقضياً أمكن أن يشار إِليه بذلك، لأن المتقضّي كالغائب.
واختلفوا في القائل لهذا على ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنه لما رجع الساقي إِلى يوسف فأخبره وهو في السجن بجواب امرأة العزيز والنسوة للملك، قال حينئذ: «ذلك ليعلم»، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن جريج.
والثاني: أنه قاله بعد حضوره مجلس الملك، رواه عطاء عن ابن عباس.
قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أي: ذلك الذي فعلت من ردِّي رسول الملك، ليعلم.
واختلفوا في المشار إِليه بقوله: «ليعلم» وقوله: «لم أخنه» على أربعة أقوال:
أحدها: أنه العزيز، والمعنى: ليعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته بِالْغَيْبِ أي: إِذا غاب عني، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، والجمهور.
والثاني: أن المشار إِليه بقوله: «ليعلم» الملك، والمشار إِليه بقوله: «لم أخنه» العزيز، والمعنى:
ليعلم الملك أني لم أخن العزيز في أهله بالغيب، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: أن المشار إِليه بالشيئين، الملك، فالمعنى: ليعلم الملك أني لم أخنه، يعني الملك أيضاً، بالغيب. وفي وجه خيانة الملك في ذلك قولان: أحدهما: لكون العزيز وزيره، فالمعنى: لم أخنه في امرأة وزيره، قاله ابن الأنباري. والثاني: لم أخنه في بنت أخنه، وكانت أزليخا بنت أخت الملك، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والرابع: أن المشار إِليه بقوله: «ليعلم» الله عزّ وجلّ، فالمعنى: ليعلم الله أني لم أخنه، روي عن مجاهد، قال ابن الأنباري: نسبَ العلم إِلى الله في الظاهر، وهو في المعنى للمخلوقين، كقوله:
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ «٥».
فإن قيل: إِن كان يوسف قال هذا في مجلس الملك، فكيف قال: «ليعلم» ولم يقل: لتعلم، وهو يخاطبه؟ فالجواب: أنا إِن قلنا: إِنه كان حاضراً عند الملك، فانما آثر الخطاب بالياء توقيراً للملك، كما يقول الرجل للوزير: إِن رأى الوزير أن يوقّع في قصتي. وإِن قلنا: إِنه كان غائباً، فلا وجه لدخول التاء، وكذلك إِن قلنا: إِنه عنى العزيز، والعزيز غائب عن مجلس الملك حينئذ.
والقول الثاني: أنه قول امرأة العزيز، فعلى هذا يتصل بما قبله، والمعنى: ليعلم يوسف أني لم
(٢) سورة الأعراف: ١١٠.
(٣) سورة النمل: ٣٤.
(٤) سورة يس: ٥٢.
(٥) سورة محمد: ٣١.
والثالث: أنه قول العزيز، والمعنى: ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، فلم أغفل عن مجازاته على أمانته، حكى القولين الماوردي.
قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ قال ابن عباس: لا يصوِّب عمل الزناة، وقال غيره:
لا يرشد من خان أمانته ويفضحه في عاقبته.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
قوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ، في القائل لهذا ثلاثة أقوال، وهي تقدمت في الآية قبلها.
فالذين قالوا: هو يوسف، اختلفوا في سبب قوله لذلك على خمسة أقوال: أحدها: أنه لما قال:
«ليعلم أني لم أخنه بالغيب» غمزه جبريل عليه السّلام، فقال: ولا حين هممت؟ فقال: «وما أبرّئ نفسي» رواه عكرمة عن ابن عباس «٢»، وبه قال الأكثرون. والثاني: أن يوسف لما قال: «لم أخنه» ذكر أنه قد همّ بها، فقال: «وما أبرّئ نفسي»، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنه لمّا قال ذلك،
- وقال الحافظ ابن كثير في «التفسير» ٢/ ٥٩٣ ما ملخصه: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي، ذلك ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته لأن النفس أمّارة بالسوء، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أي: إلا من عصمه الله تعالى، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا القول هو الأشهر والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. وقد حكاه الماوردي في تفسيره. وانتدب لنصره الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فأفرده بتصنيف على حدة، وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف عليه السلام، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، وابن أبي هذيل، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي والقول الأول أقوى وأظهر، لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف- عليه السلام- عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك.
(٢) باطل مصنوع. أخرجه الطبري ١٩٤٣٥ و ١٩٤٣٦ و ١٩٤٣٧ من طرق عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس، وسماك ضعيف في روايته عن عكرمة، وقد اختلط بأخرة، وهذا قول باطل، وإن ثبت عن ابن عباس، فإنما يكون تلقاه عن كتب الأقدمين.
والذين قالوا: هذا قول امرأة العزيز، فالمعنى: وما أبرّئ نفسي من سوء الظن بيوسف، لأنه قد خطر لي.
قوله تعالى: لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة، ويعقوب إِلا رويساً: «بالسوء إِلا» بتحقيق الهمزتين. وقرأ أبو عمرو، وابن شنبوذ عن قنبل بتحقيق الثانية وحذف الأولى. وروى نظيف عن قنبل بتحقيق الأولى وقلب الثانية ياءً. وقرأ أبو جعفر، وورش، ورويس بتحقيق الأولى وتليين الثانية بين بين، مثل: «السُّوء عِلاَّ». وروى ابن فليح بتحقيق الثانية وقلب الأولى واواً، وأدغمها في الواو قبلها، فتصير واواً مكسورة مشددة قبل همزة «إِلا».
قوله تعالى: إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي قال ابن الأنباري: قال اللغويون: هذا استثناء منقطع، والمعنى:
إِلا أن رحمة ربي عليها المعتمَد. قال أبو صالح عن ابن عباس: المعنى: إِلا من عصم ربي وقيل «ما» بمعنى «من». قال الماوردي: ومن قال: هو من قول امرأة العزيز، فالمعنى: إِلا من رحم ربي في قهره لشهوته، أو في نزعها عنه. ومن قال: هو قول العزيز، فالمعنى: إِلا من رحم ربي بأن يكفيَه سوء الظن، أو يثبِّته، فلا يعجل. قال ابن الأنباري: والقول بأن هذا قول يوسف أصح لوجهين: أحدهما:
لأن العلماء عليه. والثاني: لأن المرأة كانت عابدة وثن، وما تضمنته الآية أليق أن يكون قول يوسف من قول من لا يعرف الله تعالى.
وقال المفسرون: فلما تبين الملك عذر يوسف وعَلِم أمانته، قال: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أي: أجعله خالصاً لي، لا يشركني فيه أحد.
فإن قيل: فقد رويتم في بعض ما مضى أن يوسف قال في مجلس الملك: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب»، فكيف قال الملك: «ائتوني به» وهو حاضر عنده؟! فالجواب: أن أرباب هذا القول يقولون: أمر الملك باحضاره ليقلِّده الأعمال في غير المجلس الذي استحضره فيه لتعبير الرؤيا. قال وهب: لما دخل يوسف على الملك، وكان الملك يتكلَّم بسبعين لساناً، كان كلما كلَّمه بلسان، أجابه يوسف بذلك اللسان، فعجب الملك، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة، فقال إِني أحب أن أسمع رؤياي منك شِفاهاً، فذكرها له، قال: فما ترى أيها الصِّدِّيق؟
قال: أرى أن تزرع زرعاً كثيراً في هذه السنين المخصبة، وتجمع الطعام، فيأتيك الناس فيمتارون، وتجمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد، فقال الملك: ومن لي بهذا؟ فقال يوسف: «اجعلني على خزائن الأرض». قال ابن عباس: ويريد بقوله: مَكِينٌ أَمِينٌ أي: قد مكَّنتكَ في ملكي وائتمنتكَ فيه.
وقال مقاتل: المكين: الوجيه، والأمين: الحافظ.
أحدهما: خزائن الأموال، قاله الضحاك، والزجاج. والثاني: خزائن الطعام فحسب، قاله ابن السائب.
قال الزجاج: وإِنما سأل ذلك لأن الأنبياء بُعثوا بالعدل، فعلم أنه لا أحد أقوَم بذلك منه. وفي قوله تعالى: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ثلاثة أقوال: أحدها: حفيظ لِما ولَّيتني، عليم بالمجاعة متى تكون، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: حفيظ لما استودعتني، عليم بهذه السنين، قاله الحسن. والثالث: حفيظ للحساب، عليم بالألسن، قاله السدي، وذلك أن الناس كانوا يَرِدُون على الملك من كل ناحية فيتكلمون بلغات مختلفة.
واختلفوا، هل وَّلاه الملك يومئذ، أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه وَّلاه بعد سنة.
(٨١٥) روى الضحاك عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل: اجعلني على خزائن الأرض، لاستعمله من ساعته، ولكنه أَخَّر ذلك سنة».
(٨١٦) وذكر مقاتل أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لو أن يوسف قال إِني حفيظ عليم إِن شاء الله، لملك من وقته».
قال مجاهد: أسلم الملك على يد يوسف. وقال أهل السِّيَر: أقام في بيت الملك سنة، فلما انصرمت دعاه الملك، فتوَّجه، وردَّاه بسيفه، وأمر له بسرير من ذهب، وضرب عليه كِلَّةً من إِستبرق، فجلس على السرير كالقمر، ودانت له الملوك، ولزم الملك بيته وفوَّض أمره إِليه، وعزل قُطَفِير عما كان عليه، وجعل يوسف مكانه، ثم إِن قطفير هلك في تلك الليالي، فزوَّج الملكُ يوسفَ بامرأة قطفير، فلما دخل عليها، قال: أليس هذا خيراً مما تريدين؟ فقالت: أيها الصِّدِّيق لا تلمني، فاني كنت امرأة حسناء في مُلك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، فغلبتني نفسي، فلما بنى بها يوسف وجدها عذراء، فولدت له ابنين، إفراييم، وميشا، واستوثق له ملك مصر.
والقول الثاني: أنه ملَّكه بعد سنة ونصف، حكاه مقاتل عن ابن عباس.
والثالث: أنه سلَّم إِليه الأمر من وقته، قاله وهب، وابن السائب.
فان قيل: كيف قال يوسف إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ولم يقل: إِن شاء الله؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن ترك الاستثناء أوجب عقوبة بأن أخِّر تمليكُه، على ما ذكرنا عن النبي صلّى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه أضمر الاستثناء، كما أضمروه في قولهم: وَنَمِيرُ أَهْلَنا.
والثالث: أنه أراد أن حفظي وعِلمي يزيدان على حفظ غيري وعِلمه، فلم يحتج هذا إِلى الاستثناء، لعدم الشك فيه، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو ممن يضع الحديث ويكذب فهذا خبر باطل.
فالجواب: أنه لما خلا مدحُه لنفسه من بغي وتكبر، وكان مراده به الوصول إِلى حق يقيمه وعدل يحييه وجور يبطله، كان ذلك جميلاً جائزا.
(٨١٧) وقد قال نبيّنا عليه السلام: «أنا أكرم ولد آدم على ربه».
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: والله ما من آية إِلا وأنا أعلم أبِليل نزلت، أم بنهار. وقال ابن مسعود: لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإِبل لأتيته. فهذه الأشياء، خرجت مخرج الشكر لله، وتعريف المستفيد ما عند المفيد، ذكر هذا محمد بن القاسم. قال القاضي أبو يعلى: في قصة يوسف دلالة على أنه يجوز للانسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه، وأنه ليس من المحظور في قوله: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ «١».
قوله تعالى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الكلام محذوف، تقديره: اجعلني على خزائن الأرض، قال: قد فعلت، فحُذف ذلك، لأن قوله: «وكذلك مكنا ليوسف» يدل عليه، والمعنى: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في دفع المكروه عنه، وتخليصه من السجن، وتقريبه من قلب الملك، أقدرناه على ما يريد في أرض مصر يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ قال ابن عباس: ينزل حيث أراد. وقرأ ابن كثير، والمفضل: «حيث نشاء» بالنون.
قوله تعالى: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا أي: نختصُّ بنعمتنا من النبوَّة والنجاة مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ يعني المؤمنين. يقال: إِن يوسف باع أهل مصر الطعام بأموالهم وحُلِيِّهم ومواشيهم وعقارهم وعبيدهم ثم بأولادهم ثم برقابهم، ثم قال للملك: كيف ترى صُنع ربي؟ فقال الملك: إِنما نحن لك تبع، قال: فإني أُشهد الله وأُشهدك أني قد أعتقت أهل مصر ورددت عليهم أملاكهم. وكان يوسف لا يَشبع في تلك الأيام، ويقول: إِني أخاف أن أنسى الجائع.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٧]
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)
قوله تعالى: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ المعنى: ما نُعطي يوسف في الآخرة، خير مما أعطيناه في الدنيا، وكذلك غيره من المؤمنين ممن سلك طريقه في الصّبر.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٨]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨)
قوله تعالى: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ روى الضحاك عن ابن عباس قال: لما فوَّض الملك إلى
__________
(١) سورة النجم: ٣٢.
واختلفوا بماذا عرفهم يوسف على قولين: أحدهما: أنه عرفهم برؤيتهم، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه ما عرفهم حتى تعرَّفوا إِليه، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ قال مقاتل: لا يعرفونه. وفي علَّة كونهم لم يعرفوه قولان:
أحدهما: أنهم جاءوه مقدِّرين أنه ملك كافر، فلم يتأملوا منه ما يزول به عنهم الشك. والثاني: أنهم عاينوا من زِيِّه وحليته ما كان سبباً لإِنكارهم. وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان لابسا ثياب حرير، وفي عنقه طوق من ذهب.
فإن قيل: كيف يخفى من قد أُعطي نصف الحسن، وكيف يشتبه بغيره؟ فالجواب: أنهم فارقوه طفلاً ورأوه كبيراً، والأحوال تتغير، وما توهموا أنه ينال هذه المرتبة.
وقال ابن قتيبة: معنى كونه أُعطي نصف الحسن، أن الله تعالى جعل للحسن غاية وحدّاً، وجعله لمن شاء من خَلقه، إِما للملائكة، أو للحور، فجعل ليوسف نصف ذلك الحسن، فكأنه كان حُسناً مقارباً لتلك الوجوه الحسنة، وليس كما يزعم الناس من أنه أُعطي هذا الحسن، وأُعطي الناس كلّهم نصف الحسن.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠)
قوله تعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ يقال: جهَّزت القوم تجهيزاً: إِذا هيأت لهم ما يصلحهم، وجهاز البيت: متاعه. قال المفسرون: حمل لكل رجل منهم بعيراً، وقال: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أي: أُتمه ولا أَبْخَسُه، وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ يعني: المضِيفين، وذلك أنه أحسنَ ضيافتهم. ثم أوعدهم على ترك الإِتيان بأخيهم، فقال: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وفيه قولان: أحدهما: أنه يعني به: فيما بعد، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه منعهم الكيل في الحال، قاله وهب بن منبّه.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦١]
قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١)قوله تعالى: قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أي: نطلبه منه، والمراودة: الاجتهاد في الطلب. وفي قوله تعالى: وَإِنَّا لَفاعِلُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: وإنّا لجاءوك به، وضامنون لك المجيء به، هذا مذهب الكلبي. والثاني: أنه توكيد، قاله الزجاج، فعلى هذا يكون الفعل الذي ضمِنوه عائداً إِلى المراودة، فيصحّ معنى التّوكيد. والثالث: وإنّا لمديمون المطالبة به لأبينا، ومتابعون المشورة عليه بتوجيهه، وهذا غير المراودة، ذكره ابن الأنباري.
فإن قيل: كيف جاز ليوسف أن يطلب أخاه، وهو يعلم ما في ذلك من إِدخال الحزن على أبيه؟
فعنه خمسة أجوبة: أحدها: أنه يجوز أن يكون ذلك بأمر عن الله تعالى زيادة لبلاء يعقوب ليعظم ثوابه، وهذا الأظهر. والثاني: أنه طلبه لا ليحبسه، فلما عرفه قال: لا أفارقك يا يوسف، قال: لا يمكنني حبسك إِلا أن أنسبك إِلى أمر فظيع، قال: أفعل ما بدا لك، قاله كعب. والثالث: أن يكون قصد تنبيه يعقوب بذلك على حال يوسف. والرابع: ليتضاعف سرور يعقوب برجوع ولديه. والخامس: ليعجِّل سرور أخيه باجتماعه به قبل إِخوته. وكل هذه الأجوبة مدخوله، إِلا الأول، فانه الصحيح. ويدل عليه ما روينا عن وهب بن منبه، قال: لما جمع الله بين يوسف ويعقوب، قال له يعقوب: بيني وبينك هذه المسافة القريبة، ولم تكتب إِليَّ تعرِّفني؟! فقال: إِن جبريل أمرني أن لا أعرِّفك، فقال له: سل جبريل، فسأله، فقال: إِن الله أمرني بذلك، فقال: سل ربك، فسأله، فقال: قل ليعقوب: خفتَ عليه الذئب، ولم تؤمنّي؟
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٢]
وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)
قوله تعالى: وَقالَ لِفِتْيانِهِ قرأ أبن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «لفتيته».
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «لفتيانه». قال أبو علي: الفتية جمع فتى في العدد القليل، والفتيان في الكثير. والمعنى: قال لغلمانه: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ وهي التي اشترَوا بها الطعام فِي رِحالِهِمْ، والرحل: كل شيء يُعَدُّ للرحيل. لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي: ليعرفوها إِذَا انْقَلَبُوا أي: رجعوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: لكي يرجعوا. وفي مقصوده بذلك خمسة أقوال: أحدها: أنه تخوف أن لا يكون عند أبيه من الورِق ما يرجعون به مرة أخرى، فجعل دراهمهم في رحالهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه أراد أنهم إِذا عرفوها، لم يستحلُّوا إِمساكها حتى يردُّوها، قاله الضحاك.
والثالث: أنه استقبح أخذ الثمن من والده وإِخوته مع حاجتهم إِليه، فردَّه عليهم من حيث لا يعلمون سبب رده تكرماً وتفضلاً، ذكره ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي. والرابع: ليعلموا أنّ طلبه لعَوْدهم لم يكن طمعاً في أموالهم، ذكره الماوردي. والخامس: أنه أراهم كرمه وبِرَّه ليكون أدعى إِلى عَوْدهم.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤)
وفي قوله تعالى: مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ قولان قد تقدما في قوله: (فلا كيل لكم عندي). فإن قلنا:
إِنه لم يكل لهم، فلفظ «مُنع» بَيِّن. وإِن قلنا: إِنه خوّفهم منع الكيل، ففي المعنى قولان:
أحدهما: حُكم علينا بمنع الكيل بعد هذا الوقت، كما تقول للرجل: دخلت والله النار بما فعلت. والثاني: أن المعنى: يا أبانا يُمنع منا الكيل إِن لم ترسله معنا، فناب «مُنع» عن «يمنع» كقوله تعالى: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ «١» أي: يخلده، وقوله: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ «٢»، وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى «٣» أي: وإِذ يقول، ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى: فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
«نكتل» بالنون. وقرأ حمزة، والكسائي: «يكتل» بالياء. والمعنى: إِن أرسلته معنا اكتلنا، وإِلا فقد مُنعنا الكيل.
قوله تعالى: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ أي لا آمنكم عليه إِلا كأمني على يوسف، يريد أنه لم ينفعه ذلك الأمن إِذ خانوه. فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «حفظاً»، والمعنى: خير حفظاً من حفظكم، وقرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم: «خير حافظاً» بألف. قال أبو علي: ونصبُه على التمييز دون الحال.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٥ الى ٦٨]
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨)
قوله تعالى: وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ يعني أوعية الطعام وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ التي حملوها ثمناً للطعام رُدَّتْ قال الزجاج: الأصل «رُدِدَتْ»، فأدغمت الدال الأولى في الثانية، وبقيت الراء مضمومة. ومن قرأ بكسر الراء جعل كسرتها منقولة من الدال، كما فُعل ذلك في: قيل، وبيع، ليدل على أن أصل الدال الكسر.
قوله تعالى: ما نَبْغِي في «ما» قولان: أحدهما: أنها استفهام، المعنى: أي شيء نبغي وقد رُدَّت بضاعتنا إِلينا؟ والثاني: أنها نافية، المعنى: ما نبغي شيئاً، أي: لسنا نطلب منك دراهم نرجع بها
(٢) سورة الأعراف: ٥٠.
(٣) سورة المائدة: ١١٦.
قوله تعالى: وَنَمِيرُ أَهْلَنا أي: نجلب لهم الطعام. قال ابن قتيبة: يقال: مار أهله يميرهم مَيْراً، وهو مائر لأهله: إِذا حمل إِليهم أقواتهم من غير بلده. قوله تعالى: وَنَحْفَظُ أَخانا فيه قولان:
أحدهما: نحفظ أخانا ابن يامين الذي ترسله معنا، قاله الأكثرون. والثاني: ونحفظ أخانا شمعون الذي أخذ رهينة عنده، قاله الضحاك عن ابن عباس. قوله تعالى: وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ أي: وِقْر بعير، يعنون بذلك نصيب أخيهم، لأن يوسف كان لا يعطي الواحد أكثر من حِمل بعير.
قوله تعالى: ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ذلك كيل سريع، لا حبس فيه، يعنون: إِذا جاء معنا، عجَّل الملك لنا الكيل، قاله مقاتل. والثاني: ذلك كيل سهل على الذي نمضي إِليه، قاله الزجاج. والثالث: ذلك الذي جئناك به كيل يسير لا يُقنعُنا، قاله الماوردي.
قوله تعالى: حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أي: تعطوني عهداً أثق به، والمعنى: حتى تحلفوا لي بالله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ أي: لتَرُدُّنَّه إِلي. قال ابن الأنباري: وهذه اللام جواب لمضمَر، تلخيصه: وتقولوا:
والله لتأتُنّني به. قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فيه قولان: أحدهما: أن يهلك جميعكم، قاله مجاهد. والثاني: أن يُحال بينكم وبينه فلا تقدرون على الإِتيان به، قاله الزجاج. قوله تعالى: فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ أي: أعطَوْه العهد، وفيه قولان: أحدهما: أنهم حلفوا له بحقّ محمّد صلّى الله عليه وسلم ومنزلته من ربه، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنهم حلفوا بالله تعالى، قاله السدي. قوله تعالى: قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الشهيد. والثاني: كفيل بالوفاء، رُويا عن ابن عباس.
قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ قال المفسرون: لما تجهزوا للرحيل، قال لهم يعقوب: «لا تدخلوا» يعني مصر «من باب واحد». وفي المراد بهذا الباب قولان: أحدهما: أنه أراد باباً من أبواب مصر، وكان لمصر أربعة أبواب، قاله الجمهور. والثاني: أنه أراد الطرق لا الأبواب، قاله السدي، وروى نحوه أبو صالح عن ابن عباس. وفي ما أراد بذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه خاف عليهم العين، وكانوا أُولي جمال وقوة، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنه خاف أن يُغتَالوا لِما ظهر لهم في أرض مصر من التهمة، قاله وهب بن منبه. والثالث: أنه أحب أن يلقَوا يوسف في خَلوة، قاله إِبراهيم النخعي.
قوله تعالى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي: لن أدفع عنكم شيئاً قضاه الله، فإنه إِن شاء أهلككم متفرقين، ومصداقه في الآية التي بعدها ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وهي إِرادته أن يكون دخولهم كذلك شفقة عليهم. قال الزجاج: «إِلا حاجة» استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكنْ حاجةٌ في نفس يعقوب قضاها. قال ابن عباس: «قضاها» أي: أبداها وتكلم بها.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ فيه سبعة أقوال: أحدها: إِنه حافظ لما علَّمناه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وإنه لذو علم أنّ دخولهم من أبواب متفرقة لا يغني عنهم من الله شيئاً، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: وإِنه لعامل بما عُلِّم، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري: سمّي العمل
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٩]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩)
قوله تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ يعني إِخوته آوى إِلَيْهِ أَخاهُ يعني بنيامين، وكان أخاه لأبيه وأمه، قاله قتادة، وضمه إِليه وأنزله معه. قال ابن قتيبة: يقال: آويتُ فلاناً إِليَّ، بمد الألف:
إِذا ضممتَه إِليك، وأويت إِلى بني فلان، بقصر الألف: إِذا لجأت إِليهم. وفي قوله: قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ قولان: أحدهما: أنهم لما دخلوا عليه حبسهم بالباب، وأدخل أخاه، فقال له: ما اسمك؟
فقال: بنيامين، قال: فما اسم أمك؟ قال: راحيل بنت لاوَي، فوثب إِليه فاعتنقه، فقال: «إِني أنا أخوك»، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وكذلك قال ابن إِسحاق: أخبره أنه يوسف. والثاني: أنه لم يعترف له بذلك، وإِنما قال: أنا أخوك مكان أخيك الهالك، قاله وهب بن منبه. وقيل: إِنه أجلسهم كل اثنين على مائدة، فبقي بنيامين وحيداً يبكي، وقال: لو كان أخي حياً لأجلسني معه، فضمَّه يوسف إِليه وقال: إنّي أرى هذا وحيدا، فأجلسه معه على مائدته. فلما جاء الليل، نام كل اثنين على منام، فبقي وحيداً، فقال يوسف: هذا ينام معي. فلما خلا به، قال: هل لك أخ من أمك؟ قال: كان لي أخ من أمي فهلك، فقال أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال: أيها الملك، ومن يجد أخاً مثلك؟
ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف، وقام إِليه فاعتنقه، وقال: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف فَلا تَبْتَئِسْ قال قتادة: لا تأس ولا تحزن، وقال الزجاج: لا تحزن ولا تستكِنْ. قال ابن الأنباري:
«تبتئس» : تفتعل، من البؤس، وهو الضُرُّ والشدة، أي: لا يلحقنَّك بؤس بالذي فعلوا.
قوله تعالى: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا يعيِّرون يوسف وأخاه بعبادة جدِّهما أبي أُمهما للأصنام، فقال: لا تبتئس بما كانوا يعملون من التعيير لنا، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لا تحزن بما سيعملون بعد هذا الوقت حين يسرِّقونك، فتكون «كانوا» بمعنى «يكونون» قال الشاعر:
فَأَدْرَكْتُ مَنْ قَدْ كَانَ قَبْلي وَلَمْ أَدَعْ | لِمَنْ كَانَ بَعْدِي في القَصَائِد مَصْنَعَا |
وانْضَحْ جَوانِبَ قَبْرِهِ بِدِمَائِهَا | فَلَقَدْ يَكُونُ أَخَا دَمٍ وَذَبَائِحِ |
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢)
فإن قيل: كيف جاز ليوسف أن يُسرِّق من لم يسرق؟ فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أن المعنى: إِنكم لسارقون يوسف حين قطعتموه عن أبيه وطرحتموه في الجب، قاله الزجاج. والثاني: أن المنادي نادى وهو لا يعلم أن يوسف أمر بوضع السقاية في رحل أخيه، فكان غير كاذب في قوله، قاله ابن جرير.
والثالث: أن المنادي نادى بالتسريق لهم بغير أمر يوسف. والرابع: أن المعنى: إِنكم لسارقون فيما يظهر لمن لم يعلم حقيقة أخباركم، كقوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «١» أي: عند نفسك، لا عندنا. وقولِ النبي صلّى الله عليه وسلم:
(٨١٨) «كذب إِبراهيم ثلاث كَذَبات» أي: قال قولاً يشبه الكذب، وليس به.
قوله تعالى: قالُوا يعني: إخوة يوسف وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ فيه قولان: أحدهما: على المؤذن وأصحابه. والثاني: أقبل المنادي ومن معه على إِخوة يوسف بالدّعوى. ماذا تَفْقِدُونَ ما الذي ضلَّ عنكم؟ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ. قال الزجاج: الصواع هو الصاع بعينه، وهو يذكّر ويؤنّث، وكذلك الصّاع يذكّر ويؤنّث. وقد قرئ: «صياع» بياء، وقرئ: «صوغ» بغين معجمة، وقرئ: «صَوع» بعين غير معجمة مع فتح الصاد، وضمها، وقرأ أبو هريرة: «صاع الملك» وكل هذه لغات ترجع إِلى معنى واحد، إِلا أن الصوغ، بالغين المعجمة، مصدر صغت، وُصف الإِناء به، لأنه كان مصوغاً من ذهب.
واختلفوا في جنسه على خمسة أقوال: أحدها: أنه كان قدحاً من زبرجد. والثاني: أنه كان من نحاس، رويا عن ابن عباس. والثالث: أنه كان شربة من فضة مرصَّعة بالجوهر، قاله عكرمة. والرابع: كان كأساً من ذهب، قاله ابن زيد. والخامس: كان من مِسٍّ «٢»، حكاه الزجاج. وفي صفته قولان: أحدهما: أنه
__________
(١) سورة الدخان: ٤٩.
(٢) في «اللسان» المسّ: النحاس، قال ابن دريد: لا أدري أعربي هو أم لا.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥)
قوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ قال الزجاج: «تالله» بمعنى: والله، إِلا أن التاء لا يقسم بها إلّا في الله عزّ وجلّ. ولا يجوز: تالرحمن لأفعلن، ولا: تربي لأفعلن. والتاء تُبدل من الواو، كما قالوا في وُراث: تراث، وقالوا: يتَّزن، وأصله: يوتزن، من الوزن. قال ابن الأنباري: أبدلت التاء من الواو، كما أبدلت في التخمة والتراث والتُجاه، وأصلهنّ من الوخمة والوارث والوجاه، لأنهنّ من الوخامة والوارثة والوَجه. ولا تقول العرب: تالرحمن، كما قالوا: تالله، لأن الاستعمال في الإِقسام كثر بالله، ولم يكن بالرحمن، فجاءت التاء بدلاً من الواو في الموضع الذي يكثر استعماله.
قوله تعالى: لَقَدْ عَلِمْتُمْ يعنون يوسف ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ أي: لنظلم أحداً أو نسرق. فإن قيل: كيف حلفوا على عِلم قوم لا يعرفونهم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهم قالوا ذلك، لأنهم ردّوا الدراهم ولم يستحلُّوها، فالمعنى: لقد علمتم أنا رددنا عليكم دراهمكم وهي أكثر من ثمن الصاع، فكيف نستحل صاعكم، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثاني: لأنهم لما دخلوا مصر كعموا «١» أفواه إِبلهم وحميرهم حتى لا تتناول شيئاً، وكان غيرهم لا يفعل ذلك، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أن أهل مصر كانوا قد عرفوهم أنهم لا يظلمون أحداً.
قوله تعالى: فَما جَزاؤُهُ المعنى: قال المنادي وأصحابه: فما جزاؤه. قال الأخفش: إِن شئت رددت الكناية إِلى السارق، وإِن شئت رددتها إِلى السرق. قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ أي: في قولكم، وَما كُنَّا سارِقِينَ. قالُوا يعني: إِخوة يوسف جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ أي:
يُستعبَد بذلك. قال ابن عباس: وهذه كانت سنّة آل يعقوب.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧٦]
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)
قوله تعالى: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قال المفسرون: انصرف بهم المؤذن إِلى يوسف، وقال: لا بد من تفتيش أمتعتكم، فَبَدَأَ يوسف بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ لإِزالة التهمة، فلما وصل إِلى وعاء أخيه، قال: ما أظن هذا أخذ شيئاً، فقالوا: والله لا نبرح حتى تنظر في رحله، فهو أطيب لنفسك. فلما فتحوا متاعه وجدوا الصّاع، فذلك قوله: ثُمَّ اسْتَخْرَجَها. وفي هاء الكناية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى السرقة، قاله الفراء. والثاني: إِلى السقاية، قاله الزجاج. والثالث: إلى الصّواع على لغة من
قوله تعالى: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ فيه أربعة أقوال: أحدها: كذلك صنعنا له، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: احتلنا له، والكيد: الحيلة، قاله ابن قتيبة. والثالث: أردنا ليوسف، ذكره ابن القاسم. والرابع: دبَّرنا له بأن ألهمناه ما فعل بأخيه ليتوصل إِلى حبسه. قال ابن الأنباري: لما دبَّر الله ليوسف ما دبَّر من ارتفاع المنزلة وكمال النعمة على غير ما ظن إِخوتُه، شُبِّه بالكيد من المخلوقين، لأنهم يسترون ما يكيدون به عمن يكيدونه.
قوله تعالى: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ في المراد بالدين ها هنا قولان:
أحدهما: أنه السلطان، فالمعنى: في سلطان الملك، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه القضاء، فالمعنى: في قضاء الملك، لأن قضاء الملك أن من سرق إِنما يُضرب ويُغرَّم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وبيانه أنه لو أجرى أخاه على حكم الملك ما أمكنه حبسه، لأن حكم الملك الغرم والضرب فحسب، فأجرى الله على ألسنة إِخوته أن جزاء السارق الاسترقاق، فكان ذلك مما كاد الله ليوسف لطفاً حتى أظفره بمراده بمشيئة الله، فذلك معنى قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ. وقيل: إِلا أن يشاء الله إِظهار علَّة يستحق بها أخاه.
قوله تعالى: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وقرأ يعقوب «يرفع درجاتِ من يشاء» بالياء فيهما. وقرأ أهل الكوفة «درجاتٍ» بالتنوين، والمعنى: نرفع الدرجات بصنوف العطاء، وأنواع الكرامات، وابواب العلوم، وقهر الهوى، والتوفيق للهدى، كما رفعنا يوسف. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أي: فوق كل ذي علم رفعه الله بالعلم مَن هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إِلى الله تعالى، والكمال في العلم معدوم من غيره. وفي مقصود هذا الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: يوسف أعلم من إِخوته، وفوقه من هو أعلم منه. والثاني: أنه نبَّه على تعظيم العِلم، وبيَّن أنه أكثر من أن يُحاط به. والثالث: أنه تعليم للعالم التّواضع لئلّا يعجب.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩)
قوله تعالى: قالُوا يعني: إِخوة يوسف إِنْ يَسْرِقْ يعنون ابن يامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يعنون يوسف. قال المفسرون: عوقب يوسف ثلاث مرات، قال للساقي: «اذكرني عند ربك» فلبث في السجن بضع سنين، وقال للعزيز: «ليعلم أني لم أخنه بالغيب»، فقال له جبريل: ولا حين هممت؟ فقال: «وما أبرّئ نفسي»، وقال لإِخوته: «إِنكم لسارقون»، فقالوا: «إِن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل». وفي ما عنوا بهذه السرقة سبعة أقوال: أحدها: أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه في سني
والثاني: أنه شاة، قاله كعب. والثالث: دجاجة، قاله سفيان بن عيينة. والسادس: أن بني يعقوب كانوا على طعام، فنظر يوسف إِلى عَرْق، فخبأه، فعيَّروه بذلك، قاله عطية العوفي، وإِدريس الأودي. قال ابن الأنباري: وليس في هذه الأفعال كلِّها ما يوجب السرقة، لكنها تشبه السرقة، فعيَّره إِخوته بذلك عند الغضب. والسابع: أنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إِليه، قاله الحسن. وقرأ أبو رزين، وابن أبي عبلة: «فقد سُرِّق» بضم السين وكسر الراء وتشديدها.
قوله تعالى: فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ في هاء الكناية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى الكلمة التي ذُكرت بعد هذا، وهي قوله تعالى: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنها ترجع إِلى الكلمة التي قالوها في حقه، وهي قولهم: «فقد سرق أخ له من قبل»، وهذا معنى قول أبي صالح عن ابن عباس، فعلى هذا يكون المعنى: أسرَّ جواب الكلمة فلم يجبهم عليها. والثالث: أنها ترجع إِلى الحُجة، المعنى: فأسر الاحتجاج عليهم في ادعائهم عليه السرقة، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً فيه قولان: أحدهما: شرٌّ صنيعاً من يوسف لما قدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم، قاله ابن عباس. والثاني: شرٌّ منزلة عند الله، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ فيه قولان: أحدهما: تقولون، قاله مجاهد. والثاني: بما تكذبون، قاله قتادة. قال الزجاج: المعنى: والله أعلم أسرق أخ له أم لا.
وذكر بعض المفسرين، أنه لما استخرج الصواع من رحل أخيه، نقر الصواع، ثم أدناه من أذنه، فقال: إِنَّ صواعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثنى عشر رجلاً، وأنكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه، فقال ابن يامين: أيها الملك، سل صواعك عن أخي، أحيّ هو؟ فنقره، ثم قال: هو حي، وسوف تراه، فقال:
سل صواعك، من جعله في رحلي؟ فنقره، وقال: إِنَّ صواعي هذا غضبان، وهو يقول: كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت؟ فغضب روبيل، وكان بنو يعقوب إِذا غضبوا لم يطاقوا، فإِذا مسَّ أحدهم الآخر ذهب غضبه، فقال: والله أيها الملك لتتركنَّا، أو لأصيحنَّ صيحةً لا يبقى بمصر امرأة حامل إِلا أَلقتْ ما في بطنها، فقال يوسف لابنه: قم إِلى جنب روبيل فامسسه، ففعل الغلام، فذهب غضبه، فقال روبيل: ما هذا؟! إِن في هذا البلد من ذرية يعقوب؟ قال يوسف: ومَن يعقوب؟ فقال: أيها
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١)
قوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ أي: يئسوا. وفي هاء «منه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى يوسف، فالمعنى: يئسوا من يوسف أن يخلّي سبيل أخيهم. والثاني: إِلى أخيهم، فالمعنى: يئسوا من أخيهم. قوله تعالى: خَلَصُوا نَجِيًّا أي: اعتزلوا الناس ليس معهم غيرهم، يتناجَون ويتناظرون ويتشاورون، يقال: قوم نجي، والجمع أنجية، قال الشاعر:
إِني إِذا ما القومُ كانوا أَنْجِيَهْ | وَاضّطربَتْ أَعْنَاقُهم كالأَرْشِيَهْ «١» |
قوله تعالى: قالَ كَبِيرُهُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه كبيرهم في العقل، ثم فيه قولان «٢» :
أحدهما: أنه يهوذا، ولم يكن أكبرهم سناً، وإِنما كان أكبرهم سناً روبيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، ومقاتل. والثاني: أنه شمعون، قاله مجاهد. والثاني: أنه كبيرهم في السن وهو روبيل، قاله قتادة، والسدي.
قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ في حفظ أخيكم وردِّه إِليه وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ قال الفراء: «ما» في موضع رفع، كأنه قال: ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف، وإِن شئت جعلتها نصباً، المعنى: ألم تعلموا هذا، وتعلموا من قبل تفريطكم في يوسف. وإن
(٢) قال الطبري رحمه الله ٧/ ٢٧٠: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، قول من قال: عني بقوله قالَ كَبِيرُهُمْ روبيل لإجماع جميعهم على أنه كان أكبرهم سنا، ولا تفهم العرب في المخاطبة إذا قيل لهم: «فلان كبير القوم» مطلقا بغير وصل إلا أحد معنيين: إما في الرياسة عليهم والسؤدد، وإما في السن. فأما في العقل، فإنهم إذا أرادوا ذلك وصلوه فقالوا: هو كبيرهم في العقل. وقد قال أهل التأويل: لم يكن لشمعون- وإن كان من العقل والعلم بالمكان الذي جعله الله به- على إخوته رئاسة وسؤدد. فإذا كان كذلك، فلم يبق إلا الوجه الآخر وهو الكبر في السن وروبيل كان أكبر القوم سنا.
قوله تعالى: إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وقرأ ابن عباس، والضحاك، وابن أبي سريج عن الكسائي:
«سُرِّق» بضم السين وتشديد الراء وكسرها. قوله تعالى: وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا فيه قولان:
أحدهما: وما شهدنا عليه بالسرقة إِلا بما علمنا، لأنا رأينا المسروق في رحله، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يؤخذ بسرقته إِلا بما علمنا من دينك، قاله ابن زيد.
وفي قوله: وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ثمانية أقوال: أحدها: أن الغيب هو الليل، والمعنى: لم نعلم ما صنع بالليل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وهذا يدل على أن التهمة وقعت به ليلاً. والثاني: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال عكرمة، وقتادة، ومكحول. قال ابن قتيبة: فالمعنى: لم نعلم الغيب حين أعطيناك الموثق لنأتينَّك به أنه يسرق فيؤخذ. والثالث: لم نستطع أن نحفظه فلا يسرق، رواه عبد الوهاب عن مجاهد. والرابع: لم نعلم أنه سرق للملك شيئاً، ولذلك حكمنا باسترقاق السارق، قاله ابن زيد. والخامس: أن المعنى: قد رأينا السرقة قد أُخذت من رحله، ولا علم لنا بالغيب فلعلهم سرَّقوه، قاله ابن إِسحاق. والسادس: ما كنا لغيب ابنك حافظين، إِنما نقدر على حفظه في محضره، فإِذا غاب عنا، خفيت عنا أموره. والسابع: لو علمنا من الغيب أن هذه البلية تقع بابنك ما سافرنا به، ذكرهما ابن الأنباري. والثامن: لم نعلم أنك تُصَابُ به كما أُصبتَ بيوسف، ولو علمنا لم نذهب به، قاله ابن كيسان.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٢]
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢)
قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ المعنى: قولوا لأبيكم: سل أهل القرية الَّتِي كُنَّا فِيها يعنون مصر وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وأهل العير، وكان قد صحبهم قوم من الكنعانيين. قال ابن الأنباري:
ويجوز أن يكون المعنى: وسل القرية والعير فانها تعقل عنك لأنك نبي والأنبياء قد تخاطبهم الأحجار والبهائم، فعلى هذا تسلم الآية من إضمار.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٣]
قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣)
قوله تعالى: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ في الكلام اختصار، والمعنى: فرجعوا إِلى أبيهم فقالوا له ذلك، فقال لهم هذا، وقد شرحناه في أوّل السّورة.
واختلفوا لأي علَّة قال لهم هذا القول، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ظن أن الذي تخلَّف منهم، إِنما تخلف حيلة ومكراً ليصدِّقهم، قاله وهب بن منبه. والثاني: أن المعنى: سوَّلت لكم أنفسكم أنّ
قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً يعني: يوسف وابن يامين وأخاهما المقيم بمصر.
وقال مقاتل: أقام بمصر يهوذا وشمعون، فأراد بقوله: «أن يأتيني بهم» يعني: الأربعة.
قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ أي: بشدة حزني، وقيل: بمكانهم، الْحَكِيمُ فيما حكم عليّ.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٤]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤)
قوله تعالى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي: أعرض عن ولده أن يطيل معهم الخطب، وانفرد بحزنه، وهيَّج عليه ذِكر يوسف وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ قال ابن عباس: يا طول حزني على يوسف. قال ابن قتيبة:
الأسف: أشد الحسرة. قال سعيد بن جبير: لقد أعطيت هذه الأمّة عند المصيبة ما لم يُعْطَ الأنبياء قبلهم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب، إِذ يقول: «يا أسفى على يوسف». فإن قيل: هذا لفظ الشكوى، فأين الصبر؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه شكا إِلى الله تعالى، لا مِنْهُ.
والثاني: أنه أراد به الدعاء، فالمعنى: يا ربّ ارحم أسفي على يوسف. وذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: نداء يعقوب الأسف في اللفظ من المجاز الذي يُعنى به غير المظهر في اللفظ، وتلخيصه: يا إِلهي ارحم أسفي، أو أنت راءٍ أسفي، وهذا أسفي، فنادى الأسف في اللفظ، والمنادى في المعنى سواه، كما قال: «يا حسرتنا» والمعنى: يا هؤلاء تنبهوا على حسرتنا، قال: والحزن ونفور النفس من المكروه والبلاء لا عيب فيه ولا مأثم إِذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثِّم ولم يشكُ إِلا إِلى ربه، فلما كان قوله: «يا أسفى» شكوى إِلى ربه، كان غير ملوم. وقد روي عن الحسن أن أخاه مات، فجزع الحسن جزعاً شديداً، فعوتب في ذلك، فقال: ما وجدت الله عاب على يعقوب الحزن حيث قال: «يا أسفى على يوسف». قوله تعالى: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي: انقلبت إِلى حال البياض. وهل ذهب بصره، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه ذهب بصره، قاله مجاهد. والثاني: ضعف بصره لبياضٍ تغشّاه من كثرة البكاء، ذكره الماوردي. وقال مقاتل: لم يُبصر بعينيه ست سنين. قال ابن عباس:
وقوله: «من الحزن» أي: من البكاء، يريد أن عينيه ابيضتا لكثرة بكائه، فلما كان الحزن سبباً للبكاء، سمي البكاء حزناً. وقال ثابت البُناني: دخل جبريل على يوسف، فقال: أيها الملَك الكريم على ربه، هل لك علِم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: ما فعل؟ قال: ابيضت عيناه، قال: ما بلغ حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، قال: فهل له على ذلك من أجر؟ قال: أجر مائة شهيد. وقال الحسن البصري: ما فارق يعقوبَ الحزنُ ثمانين سنة، وما جفَّت عينه، وما أحد يومئذ أكرم على الله منه حين ذهب بصره. قوله تعالى: فَهُوَ كَظِيمٌ الكظيم بمعنى الكاظم، وهو الممسك على حزنه فلا يظهره، قاله ابن قتيبة، وقد شرحنا هذا عند قوله: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «١».
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٥ الى ٨٧]
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧)قوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ قال ابن الأنباري: معناه: والله، وجواب هذا القسم «لا» المضمرة التي تأويلها: تالله لا تفتأ، فلما كان موضعها معلوماً خفف الكلام بسقوطها من ظاهره، كما تقول العرب: والله أقصدك أبداً، يعنون: لا أقصدك، قال امرؤ القيس:
فقلتُ يمينُ اللهِ أبرحُ قَاعِدَاً | وَلَوْ قطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالي |
فَأَقْسَمْتُ آسَى عَلَى هالك | أو اسأل نائحة ما لها |
لَمْ يَشْعُرِ النَّعْشُ مَا عَلَيْهِ مِن ال | عُرْفِ وَلاَ الحاملون ما حملوا |
تاللهِ أَنْسَى مُصِيْبتي أَبَدَاً | مَا أَسْمَعَتْني حَنِيْنَها الإِبِلُ |
وأما قوله: «تفتأ» فقال المفسرون وأهل اللغة: معنى «تفتأ» تزال، فمعنى الكلام: لا تزال تذكر يوسف، وأنشد أبو عبيدة:
فَمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وتدَّعي | ويَلْحَقُ منها لاَحِقٌ وتقطّع «١» |
فَمَا فَتِئَتْ مِنَّا رِعَالٌ كَأنَّها | رِعَالٌ القَطَا حَتَّى احْتَوَيْنَ بني صَخْرِ |
إِني امرؤٌ لجَّ بي حُبٌّ فَأَحْرَضَنِي | حَتى بَلِيتُ وحَتَى شفَّني السَّقَم «٢» |
والثاني: أنه الذاهب العقل، قاله الضحاك عن ابن عباس. وقال ابن إِسحاق: الفاسد العقل. قال الزجاج: وقد يكون الحرض: الفاسد في أخلاقه. والثالث: أنه الفاسد في جسمه وعقله، يقال: رجل حارض وحرض، فحارض يثنَّي ويُجمع ويُؤنث، وحرض لا يُجمع ولا يثنَّى، لأنه مصدر، قاله الفراء.
والرابع: أنه الهرم، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد.
قوله تعالى: أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ يعنون: الموتى. فان قيل: كيف حلفوا على شيء يجوز
(٢) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «حرض»، ونسبه إلى عبد الله بن عمر بن عبد الله العرجيّ.
قوله تعالى: نَّما أَشْكُوا بَثِّي
قال ابن قتيبة: البثُّ: أشد الحزن، سمي بذلك، لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه.
قوله تعالى: لَى اللَّهِ
المعنى: إِني لا أشكو إِليكم، وذلك لما عنَّفوه بما تقدم ذِكره.
(٨١٩) وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «كان ليعقوب أخ مؤاخٍ، فقال له ذات يوم: يا يعقوب، ما الذي أذهب بصرك؟ وما الذي قوَّس ظهرك؟ قال: أمَّا الذي أذهب بصري، فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوَّس ظهري، فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل، فقال: يا يعقوب إِن الله يقرئك السلام ويقول لك: أما تستحي أن تشكو إِلى غيري؟ فقال: إِنما أشكو بثّي وحزني إِلى الله، فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو، ثم قال يعقوب: أي رب، أما ترحم الشيخ الكبير؟ أذهبتَ بصري، وقوَّستَ ظهري، فاردد عليَّ ريحاني أشمه شمَّة قبل الموت، ثم اصنع بي يا رب ما شئت، فأتاه جبريل، فقال: يا يعقوب، إِن الله يقرأ عليك السّلام ويقول: أبشر، فو عزّتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك، اصنع طعاماً للمساكين، فإن أحب عبادي إِليّ المساكين، وتدري لم أذهبتُ بصرك، وقوّست ظهرك، وصنع إِخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؟ لأنكم ذبحتم شاة، فأتاكم فلان المساكين وهو صائم، فلم تطعموه منها. فكان يعقوب، بعد ذلك إِذا أراد الغداء أمر منادياً فنادى: ألا مَن أراد الغداء من المساكين فليتغدَّ مع يعقوب، وإِذا كان صائماً أمر منادياً فنادى: من كان صائماً فليُفطر مع يعقوب. وقال وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إِلى يعقوب: أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا، قال: لأنك شويت عناقاً وقتَّرت على جارك وأكلت ولم تطعمه». وذكر بعضهم أن السبب في ذلك أن يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها، وهي تخور، فلم يرحمها.
فإن قيل: كيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكاً؟ فقد ذكر المفسرون عنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر الله تعالى، وهو الأظهر. والثاني: لئلّا يظنّ الملك بتعجيل
قوله تعالى: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
فيه أربعة أقال: أحدها: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأنّا سنسجد له، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أعلم من سلامة يوسف ما لا تعلمون.
قال ابن السائب: وذلك أن ملك الموت أتاه، فقال له يعقوب: هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال: لا.
والثالث: أعلم من رحمة الله وقدرته ما لا تعلمون، قاله عطاء. والرابع: أنه لما أخبره بنوه بسيرة العزيز، طمع أن يكون هو يوسف، قاله السدي، قال: ولذلك قال لهم: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا. وقال وهب بن منبه: لما قال له ملك الموت: ما قبضت روح يوسف، تباشر عند ذلك، ثم أصبح، فقال لبنيه: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ. قال أبو عبيدة: «تحسسوا» أي: تخبَّروا والتمِسوا في المظانّ. فان قيل: كيف قال: «من يوسف» والغالب أن يقال: تحسست عن كذا؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أن المعنى: عن يوسف، ولكن نابت عنها «من» كما تقول العرب: حدثني فلان من فلان، يعنون عنه. والثاني: أن «مِن» أوثرت للتبعيض، والمعنى: تحسَّسُوا خبراً من أخبار يوسف.
قوله تعالى: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: من رحمة الله، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: من فرج الله، قاله ابن زيد. والثالث: من توسعة الله، حكاه ابن القاسم. قال الأصمعي: الروح: الاستراحة من غم القلب. وقال أهل المعاني: لا تيأسوا من الروح الذي يأتي به الله، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ لأن المؤمن يرجو الله في الشدائد.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٨ الى ٩٣]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)
قوله تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ في الكلام محذوف، تقديره: فخرجوا إِلى مصر، فدخلوا على يوسف، ف قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ وكان يسمُّون ملكهم بذلك، مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ يعنون الفقر والحاجة «١» وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ. وفي ماهية تلك البضاعة سبعة أقوال: أحدها: أنها كانت دراهم،
والخامس: كانت سويق المُقْل، روي عن الضحاك أيضاً. والسادس: حبة الخضراء وصنوبر، قاله أبو صالح. والسابع: كانت صوفاً وشيئاً من سمن، قاله عبد الله بن الحارث. وفي المزجاة خمسة أقوال:
أحدها: أنها القليلة. روى العوفي عن ابن عباس قال: دراهم غير طائلة، وبه قال مجاهد، وابن قتيبة.
قال الزجاج: تأويله في اللغة أن التزجية: الشيء الذي يدافَع به، يقال: فلان يزجي العيش، أي: يدفع بالقليل ويكتفي به، فالمعنى: جئنا ببضاعة إِنما ندافع بها ونتقوَّت، وليست مما يُتَّسع به، قال الشاعر:
الوَاهِبُ المائَةَ الهِجَانَ وَعَبْدَهَا | عُوذَاً تُزَجِّي خَلْفَهَا أَطْفَالَهَا «٢» |
لِيَبْكِ على مِلحانَ ضيفٌ مُدفَّع | وَأَرْمَلَةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أَرْمَلاَ «٣» |
قوله تعالى: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي: أتمه لنا ولا تنقصه لرداءة بضاعتنا. قوله تعالى: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: تصدَّق علينا بما بين سعر الجياد والرديئة، قاله سعيد بن جبير، والسدي. قال ابن الأنباري: كان الذي سألوه من المسامحة يشبه التصدُّق، وليس به. والثاني: بردّ أخينا، قاله ابن جريج، قال: وذلك أنهم كانوا أنبياء، والصَّدَقَةُ لا تحل للأنبياء. والثالث: وتصدَّق علينا بالزيادة على حقِّنا، قاله ابن عيينة، وذهب إِلى أن الصدقة قد كانت تحل للأنبياء قبل نبيّنا صلّى الله عليه وسلم، حكاه عنه أبو سليمان الدمشقي، وأبو الحسن الماوردي، وأبو يعلى بن الفراء.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ أي: بالثواب. قال الضحاك: لم يقولوا: إِن الله يجزيك إِن تصدقت علينا، لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن.
قوله تعالى: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ في سبب قوله لهم هذا، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أخرج إِليهم نسخة الكتاب الذي كتبوه على أنفسهم ببيعه من مالك بن ذعر، وفي آخر الكتاب: «وكتب يهوذا» فلمّا قرءوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا: هذا كتاب كتبناه على أنفسنا عند بيع عبدٍ كان لنا، فقال يوسف عند ذلك: إِنكم تستحقون العقوبة، وأمر بهم ليُقتَلوا، فقالوا: إِن كنت فاعلاً، فاذهب بأمتعتنا إِلى يعقوب، ثم أقبل يهوذا على بعض إِخوته، وقال: قد كان أبونا متصل الحزن لفقد واحد من ولده، فكيف به إِذا أُخبر بهُلكنا أجمعين؟ فرقَّ يوسف عند ذلك وكشف لهم أمره، وقال لهم هذا القول، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم لما قالوا: (مسَّنا وأهلنا الضرُّ) أدركته
(٢) البيت للأعشى في ديوانه ٢٩، وفي «القاموس» الهجائن: البيض الكرام.
(٣) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «رمل»، ونسبه إلى ابن بري. وامرأة أرملة ورجل أرمل: من لا زوج له.
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي «١»
لم يرد الاستفهام، إِنما أراد أن هذا غير مرجوٍّ عندهم. قال: ويجوز أن يكون المعنى: هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله لهما من المكروه؟ وهذه الآية تصديق قوله: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ. والثاني: أن «هل» بمعنى «قد»، ذكره بعض أهل التفسير.
فان قيل: فالذي فعلوا بيوسف معلوم، فما الذي فعلوا بأخيه، وما سعَوا في حبسه ولا أرادوه؟
فالجواب من وجوه: أحدها: أنهم فرَّقوا بينه وبين يوسف، فنغَّصوا عيشه بذلك. والثاني: أنهم آذوْهُ بعد فُقْدِ يوسف. والثالث: أنهم سبّوه لما قُذف بسرقة الصاع.
وفي قوله: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أربعة أقوال: أحدها: إِذ أنتم صبيان، قاله ابن عباس. والثاني:
مذنبون، قاله مقاتل. والثالث: جاهلون بعقوق الأب، وقطع الرحم، وموافقة الهوى. والرابع: جاهلون بما يؤول إِليه أمر يوسف، ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وابن محيصن: «إِنك» على الخبر، وقرأه آخرون بهمزتين محققتين، وأدخل بعضهم بينهما ألفاً «٢».
واختلف المفسرون، هل عرفوه، أم شبّهوه؟ على قولين: أحدهما: أنهم شبّهوه بيوسف، قاله ابن عباس في رواية. والثاني: أنهم عرفوه، قاله ابن إِسحاق. وفي سبب معرفتهم له ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه تبسم، فشبَّهوا ثناياه بثنايا يوسف، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنه كانت له علامة كالشامة في قرنه، وكان ليعقوب مثلها، ولإسحاق مثلها، ولسارة، فلما وضع التاج عن رأسه، عرفوه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أنه كشف الحجاب، فعرفوه، قاله ابن إِسحاق.
قوله تعالى: قالَ أَنَا يُوسُفُ قال ابن الأنباري: إِنما أظهر الاسم، ولم يقل: أنا هو، تعظيماً لما وقع به من ظلم إِخوته، فكأنه قال: أنا المظلوم المستحَلُّ منه، المراد قتلُه، فكفى ظهور الاسم من هذه المعاني، ولهذا قال: وَهذا أَخِي وهم يعرفونه، وإِنما قصد: وهذا المظلوم كظلمي. قوله تعالى:
(٢) قال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٦٠٢: القراءة المشهورة هي الأولى، لأن الاستفهام يدل على الاستعظام، أي: إنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر، وهم لا يعرفون، وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ.
وقال الطبري رحمه الله ٧/ ٢٩١: الصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأه بالاستفهام، لإجماع الحجة من القراء عليه، فوافق بذلك ابن كثير.
والثالث: بالسلامة ثم بالكرامة.
قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ قرأ ابن كثير في رواية قنبل: «من يتقي ويصبر» بياء في الوصل والوقف، وقرأ الباقون بغير ياء في الحالين. وفي معنى الكلام أربعة أقوال: أحدها: من يتق الزنى ويصبر على البلاء. والثاني: من يتّق الزّنى ويصبر على العزوبة. والثالث: من يتق الله ويصبر على المصائب، رويت هذه الأقوال عن ابن عباس. والرابع: من يتق معصية الله ويصبر على السجن، قاله مجاهد.
قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي: أجر مَنْ كان هذا حاله.
قوله تعالى: لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أي: اختارك وفضَّلك. وبماذا عنوا أنه فضَّله فيه؟ أربعة أقوال: أحدها: بالملك، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: بالصبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: بالحلم والصفح عنا، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والرابع: بالعلم والعقل والحسن وسائر الفضائل التي أعطاه.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ قال ابن عباس: لمذنبين آثمين في أمرك. قال ابن الأنباري:
ولهذا اختير «خاطئين» على «مخطئين»، وإِن كان «أخطأ» على ألسن الناس أكثر من «خطئ يخطأ» لأنّ معنى خطئ يخطأ، فهو خاطئ: آثم، ومعنى أخطأ يخطئ، فهو مخطئ: ترك الصواب ولم يأثم، قال الشاعر:
عِبَادُكَ يخطئون وَأَنْتَ رَبٌّ | بِكَفَّيْكَ المَنَايَا والحُتُومُ «١» |
أحدهما: وقد كنا خاطئين. والثاني: وما كنا إِلا خاطئين.
قوله تعالى: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ قال أبو صالح عن ابن عباس: لا أعيِّركم بعد اليوم بهذا أبداً. قال ابن الأنباري: إِنما أشار إِلى ذلك اليوم، لأنه أول أوقات العفو، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة. وقال ثعلب: قد ثرَّب فلان على فلان: إِذا عدَّد عليه ذنوبه. وقال ابن قتيبة: لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم بما صنعتم، وأصل التثريب: الإِفساد، يقال: ثرَّب علينا: إِذا أفسد. وفي الحديث:
(٨٢٠) «إِذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدَّ، ولا يثرِّب» أي: لا يعيِّرها بالزّنى. قال ابن عباس:
__________
(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» وقال: الحتم: القضاء، وجمعه حتوم.
وقال السدي: لما عرّفهم نفسه، سألهم عن أبيه، فقالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصَه، وقال:
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي وهذا القميص كان في قصبة من فضة معلَّقاً في عنق يوسف لما أُلقي في الجب، وكان من الجنة، وقد سبق ذكره.
قوله تعالى: يَأْتِ بَصِيراً قال أبو عبيدة: يعود مبصراً.
فان قيل: من أين قطع على الغيب؟ فالجواب: أن ذلك كان بالوحي إليه، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ قال الكلبي: كان أهله نحواً من سبعين إنسانا.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩٤]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤)
قوله تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ أي: خرجت من مصر متوجهة إِلى كنعان. وكان الذي حمل القميص يهوذا. قال السدي: قال يهوذا ليوسف: أنا الذي حملت القميص إِلى يعقوب بدم كذب فأحزنتُه، وأنا الآن أحمل قميصك لأسرَّه، فحمله، قال ابن عباس: فخرج حافياً حاسراً يعدو، ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها. قوله تعالى: قالَ أَبُوهُمْ يعني يعقوب لمن حضره من أهله وقرابته وولد ولده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ومعنى أجد: أشم، قال الشاعر:
وَلَيْسَ صَرِيْرُ النّعش ما تسمعونه | وَلَكِنَّها أَصْلاَبُ قَوْمٍ تَقَصَّف «١» |
وَلَيْسَ فَتِيقُ المِسْكِ ما تجدونه | وَلَكِنَّه ذَاكَ الثَّنَاءُ المُخلَّفُ |
أحدهما: أن الله أخفى أمر يوسف على يعقوب في بداية الأمر لتقع البلية التي يتكامل بها الأجر، وأوجده ريحه من المكان النازح عند تقضِّي البلاء ومجيء الفرج.
والثاني: أن هذا القميص كان في قصبة من فضة معلقا في عنق يوسف على ما سبق بيانه، فلما نشره فاحت روائح الجنان في الدنيا فاتصلت بيعقوب، فعلم أن الرائحة من جهة ذلك القميص. قال مجاهد: هبت ريح فضربت القميص، ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إِلا ما كان من ذلك القميص، فمن ثم قال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ. وقيل: إِن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل البشير فأذن لها، فلذلك يستروح كل محزون إِلى ريح الصبا، ويجد المكروبون لها رَوْحاً، وهي ريح لينة تأتي من ناحية المشرق، قال أبو صخر الهذلي:
إِذا قُلْتُ هَذَا حِينَ أَسْلُو يَهِيْجُني | نَسِيْمُ الصَّبا مِنْ حَيْثُ يطَّلِعُ الفَجْرُ |
قوله تعالى: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ فيه خمسة أقوال: أحدها: تُجهِّلونِ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن
وقال أبو عبيدة: تسفِّهون وتعجِّزون وتلومون، وأنشد:
يا صاحبيّ دَعَا لَوْمِي وَتَفْنِيدِي | فَلَيْسَ مَا فَاتَ مِنْ أَمْرٍ بِمَرْدُودِ «١» |
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩٥]
قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥)
قوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ قال ابن عباس: بنو بنيه خاطبوه بهذا، وكذلك قال السدي: هذا قول بني بنيه، لأن بنيه كانوا بمصر. وفي معنى هذا الضلال ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه بمعنى الخطأ، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: أنه الجنون، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: الشقاء والعناء، قاله مقاتل، يريد بذلك شقاء الدنيا.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ فيه قولان: أحدهما: أنه يهوذا، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال وهب بن منبه، والسدي، والجمهور. والثاني: أنه شمعون، قاله الضحاك.
فان قيل: ما الفرق بين قوله ها هنا: فَلَمَّا أَنْ جاءَ وقال في موضع: فَلَمَّا جاءَهُمْ «٣».
فالجواب: أنهما لغتان لقريش خاطبهم الله بهما جميعاً، فدخول «أن» لتوكيد مُضِّي الفعل، وسقوطها للاعتماد على إِيضاح الماضي بنفسه، ذكره ابن الأنباري «٤».
قوله تعالى: أَلْقاهُ يعني القميص عَلى وَجْهِهِ يعني يعقوب فَارْتَدَّ بَصِيراً، الارتداد:
رجوع الشيء إِلى حال قد كان عليها. قال ابن الأنباري: إِنما قال: ارتد، ولم يقل: رُدَّ، لأن هذا من الأفعال المنسوبة إِلى المفعولِين، كقولهم: طالت النخلة، والله أطالها، وتحركت الشجرة، والله قد
(٢) قال الطبري رحمه الله ٧/ ٢٩٧: أصل التفنيد، الإفساد. وإذ كان ذلك كذلك فالضعف والهرم والكذب وذهاب العقل والضعف، وفي الفعل: الكذب واللوم بالباطل. فالأقوال على اختلاف عباراتهم متقاربة المعاني، محتمل جميعها ظاهر التنزيل، إذ لم يكن في الآية دليل على أنه معني به بعض ذلك دون بعض.
(٣) سورة البقرة: ٨٩.
(٤) كذلك قال الطبري رحمه الله ٧/ ٢٩٩، وقال أيضا: هذا في «لما» و «حتى» خاصة، كما قال جل ثناؤه، وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا- العنكبوت: ٣٣-.
قوله تعالى: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فيه أقوال قد سبق ذكرها قبل هذا بقليل. قوله تعالى: يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا سألوه أن يستغفر لهم ما أتوا، لأنه نبيّ مجاب الدعوة.
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي في سبب تأخيره لذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أخَّرهم لانتظار الوقت الذي هو مَظِنَّة الإِجابة، ثم فيه ثلاثة أقوال:
(٨٢١) أحدها: أنه أخَّرهم إِلى ليلة الجمعة، رواه ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال وهب: كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيِّف وعشرين سنة «١». والثاني: إِلى وقت السّحَر من ليلة الجمعة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال طاوس: فوافق ذلك ليلة عاشوراء. والثالث: إِلى وقت السَّحَر، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، وابن عمر، وقتادة، والسدي، ومقاتل. قال الزجاج: إِنما أراد الوقت الذي هو أخلق لإِجابة الدعاء، لا أنه ضَنَّ عليهم بالاستغفار، وهذا أشبه بأخلاق الأنبياء عليهم السلام.
والقول الثاني: أنه دفعهم عن التعجيل بالوعد. قال عطاء الخراساني: طلبُ الحوائج إِلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ، ألا ترى إِلى قول يوسف: (لا تثريب عليكم اليوم) وإِلى قول يعقوب: (سوف أستغفر لكم ربي).
والثالث: أنه أخَّرهم ليسأل يوسف، فان عفا عنهم، استغفر لهم، قاله الشعبي.
وروي عن أنس بن مالك أنهم قالوا: يا أبانا إِنْ عفا الله عنا، وإِلا فلا قُرَّة عين لنا في الدنيا، فدعا يعقوبُ وأمَّن يوسف، فلم يُجب فيهم عشرين سنة، ثم جاء جبريل فقال: إِن الله قد أجاب دعوتك في ولدك، وعفا عما صنعوا به، واعتقد مواثيقهم من بَعْدُ على النبوَّة. قال المفسرون: وكان يوسف قد بعث مع البشير إِلى يعقوب جَهازاً ومائتي راحلة، وسأله أن يأتيه بأهله وولده. فلما ارتحل يعقوب ودنا
__________
(١) هذا قول بعيد، وهب هو ابن منبه، عامة ما يرويه عن كتب الإسرائيليات.
فلما التقى يعقوب ويوسف، بكيا جميعاً، فقال يوسف: يا أبت بكيتَ عليَّ حتى ذهب بصرك، أما علمتَ أن القيامة تجمعني وإِياك؟ قال: أي بني، خشيت أن تسلب دينك فلا نجتمع. وقيل: إِن يعقوب ابتدأه بالسلام، فقال: السّلام عليك يا مذهب الأحزان.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩٩]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩)
قوله تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ يعني: يعقوب وولده. وفي هذا الدخول قولان:
أحدهما: أنه دخول أرض مصر، ثم قال لهم: ادْخُلُوا مِصْرَ يعني البلد.
والثاني: أنه دخول مصر، ثم قال لهم: «ادخلوا مصر» أي: استوطنوها.
وفي قوله تعالى: آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ قولان: أحدهما: أبوه وخالته، لأن أمه كانت قد ماتت، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني: أبوه وأمه، قاله الحسن، وابن إسحاق.
وفي قوله تعالى: إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أربعة أقوال «١» : أحدها: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، فالمعنى: سوف أستغفر لكم ربي إِن شاء الله، إِنه هو الغفور الرحيم، هذا قول ابن جريج. والثاني: أن الاستثناء يعود إِلى الأمن. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه لم يثق بانصراف الحوادث عنهم. والثاني: أن الناس كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر، فلا يدخلون إِلا بجوارهم. والثالث: أنه يعود إِلى دخول مصر، لأنه قال لهم هذا حين تلقَّاهم قبل دخولهم، على ما سبق بيانه. والرابع: أن «إِن» بمعنى: «إِذ» :
كقوله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «٢». قال ابن عباس: دخلوا مصر يومئذ وهم نيّف وسبعون بين ذكر وأنثى. وقال ابن مسعود: دخلوا وهم ثلاثة وتسعون، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا «٣».
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
قوله تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ في «أبويه» قولان: قد تقدما في الآية التي قبلها. والعرش ها هنا: سرير المملكة، أجلس أبويه عليه وَخَرُّوا لَهُ يعني: أبويه وإِخوته. وفي هاء «له» قولان:
(٢) سورة النور: ٣٣.
(٣) هذه أرقام مصدرها كتب الأقدمين، لا حجة في شيء من ذلك.
سجدوا له على جهة التحية لا على معنى العبادة، وكان أهل ذلك الدهر يحيِّى بعضهم بعضاً بالسجود والانحناء، فحظره رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فروى أنس بن مالك قال:
(٨٢٢) «قال رجل: يا رسول الله! أحدنا يلقى صديقه، أينحني له؟ قال: لا».
والثاني: أنها ترجع إِلى الله، فالمعنى: وخرُّوا لله سجَّداً، رواه عطاء، والضحاك عن ابن عباس، فيكون المعنى: أنهم سجدوا شكراً لله إِذ جمع بينهم وبين يوسف.
قوله تعالى: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ أي: تصديق ما رأيت، وكان قد رآهم في المنام يسجدون له، فأراه الله ذلك في اليقظة. واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها على سبعة أقوال: أحدها: أربعون سنة، قاله سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد بن الهاد ومقاتل. والثاني: اثنتان وعشرون سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: ثمانون سنة، قاله الحسن والفضيل بن عياض. والرابع: ست وثلاثون سنة، قاله سعيد بن جبير وعكرمة والسدي. والخامس: خمس وثلاثون سنة، قاله قتادة. والسادس: سبعون سنة، قاله عبد الله بن شوذب. والسابع: ثماني عشرة سنة، قاله ابن إِسحاق.
قوله تعالى: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي أي: إِليّ. والبَدْوُ: البَسْطُ من الأرض. وقال ابن عباس: البدو:
البادية، وكانوا أهل عمود وماشية.
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي أي: أفسد بيننا. قال أبو عبيدة: يقال:
نزغ بينهم يَنْزَغ، أي: أفسد وهيَّج، وبعضهم يكسر زاي ينزِغ. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي: عالم بدقائق الأمور. وقد شرحنا معنى «اللطيف» في سورة (الأنعام) «١».
فان قيل: قد توالت على يوسف نعم جمّة، فما السّرّ في اقتصاره على ذكر السّجن، وهلّا ذكر الجبّ، وهو أصعب؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنه ترك ذِكر الجُبِّ تكرماً، لئلا يذكِّر إِخوته صنيعهم، وقد قال (لا تثريب عليكم اليوم). والثاني: أنه خرج من الجُبِّ إِلى الرق، ومن السجن إِلى الملك، فكانت هذه النعمة أوفى. والثالث: أن طول لبثه في السجن كان عقوبة له، بخلاف الجُبِّ، فشكر الله على عفوه.
__________
(١) في سورة الأنعام: ١٠٣.
قوله تعالى: فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قد شرحناه في (الأنعام) «١». أَنْتَ وَلِيِّي أي: الذي تلي أمري. تَوَفَّنِي مُسْلِماً قال ابن عباس: يريد: لا تسلبني الإِسلام حتى تتوفاني عليه. وكان ابن عقيل يقول: لم يتمنَّ يوسف الموت، وإِنما سأل أن يموت على صفة، والمعنى: توفني إِذا توفيتني مسلماً، وهذا الصحيح «٢».
قوله تعالى: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ والمعنى: ألحقني بدرجاتهم، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الجنة، قاله عكرمة. والثاني: آباؤه إِبراهيم وإِسحاق ويعقوب، قاله الضحاك، قالوا: فلما احتُضر يوسف، أوصى إِلى يهوذا، ومات، فتشاحَّ الناس في دفنه، كل يُحبُّ أن يُدفن في محلَّته رجاءَ البركة، فاجتمعوا على دفنه في النيل ليمر الماء عليه ويصل إِلى الجميع، فدفنوه في صندوق من رخام، فكان هنالك إِلى أن حمله موسى حين خرج من مصر ودفنه بأرض كنعان. قال الحسن: مات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة. وذكر مقاتل أنه مات بعد يعقوب بسنتين.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٢]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢)
قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر يوسف وإِخوته من الأخبار التي كانت غائبة عنك، فأنزلته عليك دليلاً على نبوَّتك. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي: عند إِخوة يوسف إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أي: عزموا على إِلقائه في الجب وَهُمْ يَمْكُرُونَ بيوسف. وفي هذا احتجاج على صحة نبوّة نبيّنا عليه السّلام، لأنه لم يشاهد تلك القصة، ولا كان يقرأ الكتاب، وقد أخبر عنها بهذا الكلام المعجز، فدلّ على أنه أخبر بوحي.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤)
قوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ قال ابن الأنباري: إِن قريشاً واليهود سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قصة يوسف وإِخوته، فشرحها شرحاً شافياً، وهو يؤمّل أن يكون ذلك سببا
(٢) قال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٦٠٦: وهذا يحتمل أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام كما أن نوحا أول من قال:
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً.
وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم. وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ أي: على القرآن وتلاوته وهدايتك إِياهم مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ أي: ما هو إِلا تذكرة لهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٥]
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥)
قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ أي: وكم مِنْ آيَةٍ أي: علامة ودلالة تدلهم على توحيد الله، من أمر السّماوات والأرض، يَمُرُّونَ عَلَيْها أي: يتجاوزونها غير مفكّرين ولا معتبرين.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٦]
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)
قوله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المشركون، ثم في معناها المتعلق بهم قولان: أحدهما: أنهم يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم وهم يشركون به، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، والشعبي، وقتادة. والثاني:
أنها نزلت في تلبية مشركي العرب، كانوا يقولون: لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك، إِلا شريكاً هو لكْ، تملكه وما ملك، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنهم النصارى، يؤمنون بأنه خالقهم ورازقهم، ومع ذلك يشركون به، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنهم المنافقون، يؤمنون في الظاهر رئاء للناس، وهم في الباطن مشركون، قاله الحسن.
فان قيل: كيف وصف المشرك بالإِيمان؟ فالجواب: أنه ليس المراد به حقيقة الإِيمان، وإِنما المعنى: أن أكثرهم، مع إِظهارهم الإيمان بألسنتهم، مشركون.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٧]
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧)
قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ قال ابن قتيبة: الغاشية: المجلِّلة تغشاهم.
وقال الزجاج: المعنى: يأتيهم ما يغمرهم من العذاب. والبغتة: الفجأة من حيث لم تتوقّع.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٨]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)
قوله تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي المعنى: قل يا محمد للمشركين: هذه الدعوة التي أدعو إِليها، والطريقة التي أنا عليها، سبيلي، أي: سُنَّتي ومنهاجي. والسبيل تذكَّر وتؤنَّث، وقد ذكرنا ذلك في (آل عمران) «٢». أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أي: على يقين. قال ابن الأنباري: وكل مسلم لا يخلو من الدعاء إلى الله عزّ وجلّ، لأنه إِذا تلا القرآن، فقد دعا إِلى الله بما فيه. ويجوز أن يتم الكلام عند قوله:
إِلَى اللَّهِ ثم ابتدأ فقال: عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي «٣».
(٢) في آل عمران: ١٩٥.
(٣) قال الشوكاني ٣/ ٧١: وفي هذا دليل على أن كل متّبع لرسول الله ﷺ حقّ عليه أن يقتدي به في الدعاء إلى الله، أي الدعاء إلى الإيمان به وتوحيده والعمل بما شرعه لعباده. وكذلك قال ابن كثير ٢/ ٦١٠.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٩]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩)
قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا هذا نزل من أجل قولهم: هلاّ بعث الله ملكاً، فالمعنى: كيف تعجَّبوا من إِرسالنا إِياك، وسائر الرسل كانوا على مثل حالك «يوحى إِليهم»، وقرأ حفص عن عاصم: «نوحي» بالنون. والمراد بالقرى: المدائن. وقال الحسن: لم يبعث الله نبيّاً من أهل البادية، ولا من الجن، ولا من النساء، قال قتادة: لأن أهل القرى أعلم وأحلم من اهل العَمود.
قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعني: المشركين المنكرين نبوَّتك فَيَنْظُرُوا إِلى مصارع الأمم المكذِّبة فيعتبروا بذلك. وَلَدارُ الْآخِرَةِ يعني: الجنة خَيْرٌ من الدنيا لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك. قال الفراء: أضيفت الدار إِلى الآخرة، وهي الآخرة، لأن العرب قد تضيف الشيء إِلى نفسه إِذا اختلف لفظه، كقوله: لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «١» والحق: هو اليقين، وقولهم: أتيتك عام الأول، ويوم الخميس.
قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ قرأ أهل المدينة، وابن عامر، وحفص، والمفضَّل، ويعقوب:
تَعْقِلُونَ بالتاء، وقرأ الآخرون بالياء، والمعنى: أفلا يعقلون هذا فيؤمنوا.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١١٠]
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)
قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ المعنى متعلق بالآية الأولى، فتقديره: وما أرسلنا من قبلك إِلا رجالاً، فدعَوا قومهم، فكذَّبوهم، وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم، حتى إِذا استيأس الرسل، وفيه قولان: أحدهما: استيأسوا من تصديق قومهم، قاله ابن عباس. والثاني: من أن نعذِّب قومهم، قاله مجاهد. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «كُذِّبوا» مشددة الذال مضمومة الكاف «٢»، والمعنى: وتيقَّن الرسل أن قومهم قد كذَّبوهم، فيكون الظّنّ ها هنا بمعنى اليقين، هذا قول الحسن، وعطاء، وقتادة. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ: «كذبوا» خفيفة،
(٢) قال الطبري رحمه الله ٧/ ٣٢٢- ٣٢٣: وبهذه القراءة كانت تقرأ عامة قراء المدينة والبصرة والشام أعني بتشديد الذال من «كذّبوا» وضم كافها. وهذا التأويل الذي ذهب إليه الحسن وقتادة في ذلك، خلاف لما ذكرنا من أقوال جميع من حكينا قوله من الصحابة، لأنه لم يوجه «الظن» في هذا الموضع منهم أحد إلى معنى العلم واليقين، مع أن «الظن» استعمله العرب في موضع العلم فيما أدرك من جهة الخبر أو من غير وجه المشاهدة والمعاينة. وأما رواية مجاهد المخالفة بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال «كذبوا» فهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، لإجماع الحجة من قراء الأمصار على خلافها، وقال الحافظ ابن كثير ٢/ ٦١٣: قد أنكرت عائشة رضي الله عنها على من قرأ «كذبوا» بالتخفيف. وانتصر لها ابن جرير، ووجّه المشهور عن الجمهور، وزيّف القول الآخر بالكلية وردّه وأباه، ولم يقبله ولا ارتضاه والله أعلم.
قوله تعالى: جاءَهُمْ نَصْرُنا يعني: الرسل فَنُجِّيَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «فننجي» بنونين «١»، الأولى مضمومة والثانية ساكنة والياء ساكنة. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر، وحفص، جميعاً عن عاصم، ويعقوب: «فَنُجِّيَ» مشدده الجيم مفتوحة الياء بنون واحدة، يعني: المؤمنين، نجوا عند نزول العذاب.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١١١]
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
قوله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي: في خبر يوسف وإِخوته. وروى عبد الوارث كسر القاف، وهي قراءة قتادة، وأبي الجوزاء. عِبْرَةٌ أي: عظة لِأُولِي الْأَلْبابِ أي: لذوي العقول السليمة، وذلك من وجهين: أحدهما: ما جرى ليوسف من إِعزازه وتمليكه بعد استعباده، فإنَّ من فَعَلَ ذلك به قادر على إعزاز محمّد صلّى الله عليه وسلم وتعلية كلمته. والثاني: أن من تفكَّر، علم أنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلم مع كونه أمَّياً، لم يأت بهذه القصة على موافقة ما في التوراة مِنْ قِبَل نفسه، فاستدل بذلك على صحة نبوَّته.
قوله تعالى: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى في المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله قتادة.
والثاني: ما تقدم من القصص، قاله ابن إِسحاق. فعلى القول الأول، يكون معنى قوله: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: ولكن كان تصديقا لما بين يديه من الكتاب وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ يُحتاج إِليه من أمور الدين وَهُدىً بياناً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي: يصدّقون بما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلم. وعلى القول الثاني: وتفصيل كل شيء من نبأ يوسف وإخوته.