ﰡ
الوحي القرآني
يظل الوحي القرآني الإلهي حجة الله تعالى على خلقه، ومنار السبيل إلى عباده، وطريق الإنقاذ من الضلالة والرّدى إلى الهداية والحياة السوية، وتميز هذا الوحي بالبيان العربي الواضح المشرق، وبالثروة المعرفية الخصبة التي تزداد نموّا واتّساعا كلما تقدم العلم والمدنية، وكلما ازداد التأمل والتفكر في عظمة البيان الإلهي واتّساعه وشموله، وخلوده مع ممرّ الزمان، وإعرابه وإفصاحه عن أسرار الكون والإنسان والحياة. ولقد تبدلت حياة الأمة العربية تبدّلا جذريّا وشاملا بالهدي القرآني والبيان الرّباني الرفيع، فقال الله تعالى مبيّنا خواص هذا التبدل السريع في مطلع سورة يوسف المكية على المعتمد:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣)«١» [يوسف: ١٢/ ١- ٣].
روى ابن جرير عن ابن مسعود: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ملّوا ملّة، فقالوا:
لو قصصت علينا يا رسول الله، فنزلت هذه الآية: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ
سمي القرآن قرآنا لأنه يقرأ، وهو اسم جنس يقع على القليل والكثير، وقال أبو عبيد: سمّي قرآنا لأنه يجمع السور، فيضمّها.
وسميت سورة يوسف بأنها أحسن القصص لأسباب ذكرها العلماء منها: أن كل من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة، يتبين ذلك من أحوال يوسف وأبيه وإخوته وامرأة العزيز والملك والساقي مستعبر الرؤيا. ومنها: انفراد السورة بما فيها من أخبار لم تتكرر في غيرها، ومنها أنها ذكرت جملة من الفوائد التي تصلح الدنيا والدين، كالتوحيد، والفقه، والسّير، والسياسة، والمعاشرة، وتعبير الرؤيا، وتدبير المعاش.
ومعنى الآيات في مطلع سورة يوسف: التنبيه بحروف الر إلى إعجاز القرآن، وتحدّي العرب بالإتيان بمثله، ما دام مكونا من الحروف نفسها التي تتألف منها لغتهم، ويصوغون بها بيانهم الفصيح خطابة وشعرا ونثرا. والآيات التي أنزلت عليك أيها النّبي في هذه السورة آيات ظاهرة الإعجاز، وهي آيات القرآن البيّن في نفسه، الظاهر في إعجازه، الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبيّنها، ويوضح الحلال والحرام، والحدود والأحكام، والهدى والبركة والنور.
يقرر الله تعالى أنا أنزلنا هذا القرآن على النّبي محمد العربي الهاشمي، بلغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، لتتعلموا ما لم تكونوا تعلمون من قصص وأخبار، وآداب وأخلاق، وأحكام وتشريعات،
قال ابن كثير: فلهذا أنزل أشرف الكتب، بأشرف اللغات، على أشرف الرّسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة، فكمل من كل الوجوه.
ثم يتابع الله إخباره لنبيّه بأنا نحن نخبرك بأحسن الأخبار، بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن، الذي جاء تامّا كاملا، مفصّلا كل شيء، وجاءت قصة يوسف كاملة تامة، مفصلة، ذات أهداف سامية، وعبر كثيرة، وإن كنت من قبل ما أوحينا، أي من قبل إيحائنا إليك، من الغافلين عما عرّفناك به من القصص وأعلمناك من شؤون الأمم، أي من الجاهلين به، فلا علم لك به قط، شأنك شأن قومك، لا يعلمون من قصص الماضين وأخبارهم شيئا.
إن قصة يوسف قصة جامعة، شاملة للدين والدنيا، والحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والأدبية الخلقية، الملأى بالعبر والعظات، ومن أهمها الصبر على الأذى، والعفو عند المقدرة.
رؤيا يوسف عليه السّلام
قد تكون الرؤيا المنامية الروحانية عجيبة جدا، لا مثيل لها في الكتب المدونة، ويصعب تصورها في اليقظة والوجود الواعي، ومن الرؤى ما هو إخبار عن مشاهد ستقع حتما، أو تصورات عن كوارث مستقبلية، يستغربها الرّائي والسامع، ويتخوف منها صاحبها، إذ يرى ما لا تتصوره العقول البشرية أو الأفكار العلمية، لأنها غير خاضعة لموازين الحس الواقع أو الأمر المشاهد. ومن غرائب الرؤى ما رآه يوسف
أخبر القرآن الصادق: كلام الله اليقيني عن رؤيا يوسف في هذه الآيات، فقال تعالى:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤ الى ٦]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
«١» «٢» [يوسف: ١٢/ ٤- ٦].
تتحدث هذه الآيات عن رؤيا يوسف الطفل، وقد نزل بها وحي دائم لما فيها من العظات والعبر للأمم والآباء والأبناء، لذا بدئت بالتذكير، فاذكر أيها الرسول محمد لقومك قصة يوسف حين قال لأبيه يعقوب عليه السّلام: إني رأيت في منامي أن أحد عشر كوكبا أو نجما، والشمس والقمر تسجد لي، سجود احترام وتقدير، لا سجود عبادة وتقديس، والأحد عشر كوكبا تبيّن فيما بعد: أنهم إخوة يوسف الأحد عشر نفرا، والشمس والقمر أبوه وأمه، لأن الكواكب لا تسجد في الحقيقة، فيحمل الكلام على الرؤيا، لذا قال يعقوب عليه السّلام: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ.
وقد أخبر نبيّنا عليه الصلاة والسلام بتعليم جبريل عن أسماء هذه الكواكب التي طالب يهودي ببيان أسمائها.
والظاهر الراجح أن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء، لما وقع منهم من صفات لا تتفق مع عصمة الأنبياء، كالحسد الدنيوي، وعقوق الآباء، وتعريض مؤمن للهلاك والقتل. وبما أن هذه الرؤيا غريبة عجيبة، وتحتاج إلى وقت طويل لتحققها في
(٢) تعبير الرؤيا وتفسيرها.
روى الإمام أحمد وغيره عن معاوية القشيري أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبّر، فإذا عبّرت وقعت».
وأضاف يعقوب مبشرا ابنه يوسف ببشارة عظيمة، وهي النّبوة وتعبير الرؤيا، فقال له: وكما اختارك ربّك، وأراك هذه الكواكب، مع الشمس والقمر ساجدة لك، يختارك لنفسه ويصطفيك لنبوّته على آلك وغيرهم، ويعلّمك تعبير الرؤيا.
والرؤيا: وإن كان مصدرا في الأصل، لكن كثر إطلاقه على المتخيّل في النوم، فجرى مجرى الأسماء. وتعبير الرؤيا: الإخبار بما تؤول إليه في الوجود، وتعليم الله يوسف التأويل: إلهامه الصواب فيها، أو صدق الفراسة.
والله سبحانه يتم نعمته عليك يا يوسف، بإرسالك رسولا، وجعلك نبيّا وإيحائه إليك، ويتم هذه النعمة أيضا على آل يعقوب وأسرته، وهم أبوك وإخوتك وذريتك، فآل الإنسان: أهله، وهو خاص بمن لهم مجد وشرف، وإتمام هذه النعمة على آل يعقوب، كإتمامها من قبل هذا الوقت على جدّك إسحاق وجدّ أبيك إبراهيم، وقدّم إبراهيم في البيان الإلهي على إسحاق لأنه الأشرف وأبو الأنبياء، إن ربّك عليم بخلقه وبمن يستحق الاجتباء والاصطفاء، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، إنّ ربّك حكيم في صنعه وتدبيره، يفعل الأشياء على ما ينبغي ويتفق مع المناسبات والأوضاع الصحيحة.
مؤامرة إخوة يوسف
إن ضعف الإنسان وعجزه، وقلقه ومخاوفه، وحرصه على حبّ الذات والظفر بأعظم المغانم وأكثرها، يجعله يقع في أحوال لا تتفق مع أصول الأخلاق، ولا تنسجم مع الطبائع السوية. وهكذا كانت تصرفات إخوة يوسف معه مثلا غريبا في الكيد والحسد والتآمر الدنيء، فلم يتورعوا أن عرّضوا أخاهم للموت البطيء، أو القتل بالتسبب، فتآمروا على إلقائه في بئر، فإما أن يموت أو يلتقطه مسافر، فيجعله عبدا خادما لسيّده، وينتهي في كلا الحالين وجوده. وهذا تصوير المؤامرة، قال الله تعالى:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧ الى ١٠]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧».
[يوسف: ١٢/ ٧- ١٠].
والمعنى: تالله، لقد كان في قصة يوسف مع إخوته لأبيه آيات وعبر وعظات للسائلين الذين سألوا عنهم، دالّة على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء، ودالّة
(٢) خطأ بيّن في إيثاره علينا.
(٣) ألقوه في أرض بعيدة.
(٤) يخلص لكم حبه.
(٥) توجهه وإقباله عليكم.
(٦) ما غاب من قعر البئر. [.....]
(٧) المسافرين.
قال إخوة يوسف: والله ليوسف وأخوه بنيامين شقيقه أحبّ إلى أبينا منا، وهما صغيران، ونحن رجال عشرة، جماعة تضرّ وتنفع، وتحمي وتخذل، أي لنا كانت تنبغي المحبة والمراعاة، إن أبانا لفي خطأ واضح، مجاف للصواب، بإيثار يوسف وأخيه علينا بالمحبة، وتركه العدل والمساواة في المحبة، فكيف يفضّل ولدين صغيرين ضعيفين، لا كفاية فيهما ولا منفعة، على رجال أشداء، وكيف يحب الاثنين أكثر من الجماعة؟! وهذا خطأ منهم لأن يوسف وأخاه صغيران يتيمان، ماتت أمهما، والأب عادة يعطف على الصغير حتى يكبر، وعلى المريض حتى يشفى، وعلى الغائب حتى يعود. فهم لم يدركوا أسباب هذه العاطفة، وبيّتوا مؤامرة.
وهي أن بعضهم قال: اقتلوا يوسف حسما للمشكلة، أو أبعدوه وانبذوه في أرض مجهولة عن العمران، فلا يستطيع الرجوع إلى أبيه، وتتمحض محبّة أبينا لنا، ونكون بعد قتله أو طرحه أرضا قوما تائبين إلى الله من جنايتنا عليه، وهذا هو الأظهر من اللفظ، وهو قول الجمهور في أن المراد من قولهم: قَوْماً صالِحِينَ معناه التوبة.
فقال أكبرهم سنّا وهو روبيل، أو أحلمهم وهو يهوذا، أو أشجعهم وهو شمعون:
لا تقدموا على قتل يوسف، فإن القتل جريمة عظيمة، وهو أخوكم، ولكن ألقوه في أسفل البئر، يلتقطه بعض المسافرين الذين يسيرون في الأرض للتجارة، فتستريحوا منه بهذا، ويتحقق غرضكم وهو إبعاده عن أبيه، ولا حاجة إلى قتله، إن كنتم فاعلين، أي عازمين على ما تقولون، وفاعلين ما هو الصواب، فهذا هو الرأي.
وأخطأ الإخوة إذ قالوا: نرتكب الجناية ثم نتوب، على شاكلة ما يفعله بعض الجهلة الطائشين الذين يقدمون على المعصية عمدا، ثم ينوون التوبة، وهذا عمل طائش وفعل يعدّ مهزلة واستهزاء وتهورا، لأن قبول التوبة لا يكون لمن صمم على الجناية، وتوغّل في سوئها وفحشها، وتعمد ارتكابها.
وأخطأ الإخوة أيضا حين اتفقوا على قطيعة الرحم، وقسوة الفعل بأخيهم، وقلة الرأفة، وعقوق الوالد، وهم يعلمون أن أباهم يعقوب من الرسل الكرام، وربما يطلعه الله على فحش فعلهم وسوء صنيعهم. إنهم في الواقع كانوا متهورين، عميا عن تقدير النتائج، قصيري النظر، سذّجا في التفكير، بل كانوا قساة القلوب، عصاة للرّب، مسيئين للوالد الشيخ الكبير إساءة بالغة.
تنفيذ إخوة يوسف مؤامرتهم
تدارس إخوة يوسف فيما بينهم في أسلم الطرق التي ينجحون فيها في تنفيذ مؤامرتهم، حول أخيهم يوسف عليه السّلام، والحاجز الوحيد أمامهم هو كيفية خداع أبيهم يعقوب عليه السّلام، فتظاهروا مكرا بمحبته ومؤانسته لأخذه معهم، وأظهروا استعدادهم للحفاظ عليه، وقوتهم في الدفاع عنه، وأنهم قادرون على حراسته وحمايته من الذئب المفترس. ولما ألقوا يوسف في البئر وعادوا، زعموا أن الذئب أكله، ولطّخوا قميصه بدم كذب، فما انطلت الحيلة على أبيهم يعقوب،
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١١ الى ١٨]
قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥)
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [يوسف: ١٢/ ١١- ١٨].
هذا النّص القرآني واضح كل الوضوح، ولكنا نستلهم منه مواقف معينة وأخلاقا بشرية ملتوية، لا يرضاها أحد من البشر الأسوياء، وتسخط المولى عزّ وجلّ. أظهر إخوة يوسف أنهم ناصحون لأخيهم مشفقون محبّون للخير، فلم لا يرسله أبوه معهم للهو والتسلية، وتناول طيبات الفاكهة والبقول. وكان هذا التظاهر بالحبّ والشفقة وإعطاء العهد بالمحافظة عليه، في مقابل معرفتهم أن أباهم يحبّ يوسف، وأن هذا الحبّ يغضبهم، فما كان يطمئن لهم، وهم يعرفون حرص أبيهم على يوسف.
فبادرهم الأب الشيخ الكبير بإبداء المخاوف وإظهار الحزن على أخذهم يوسف للنزهة والاستجمام، واحتمال أكل الذئب له، فأجابوه بأساليب المكر والخداع بأنهم
(٢) يسابق ويلهو بالسهام ونحوها.
(٣) عزموا.
(٤) في قعر البئر.
(٥) نتسابق في رمي السهام.
(٦) زيّنت وسهّلت.
ولكنهم غفلوا عن إحاطة علم الله بأحوالهم، وحدثت المفاجأة أنهم لما صمموا على إلقاء يوسف في الجبّ، أي البئر المعروف لديهم، أوحى الله ليعقوب أنه ليخبرنهم بما فعلوا، وهم لا يشعرون بما أوحى الله لنبيّه، لهول الموقف، وقصر نظرهم، وقلّة وعيهم ومعرفتهم.
وينتهي المشهد المخزي والمفضوح، ويعود الإخوة الجناة في آخر اليوم إلى أبيهم، منتحلين الأعذار الكاذبة والواهية معا، فتباكوا في العشاء بالدموع الكاذبة، وكذبوا على أبيهم يعقوب أنهم أثناء لعبهم وتسابقهم وتركهم يوسف حارسا عند أمتعتهم، ودلّت أقوالهم بنحو سافر على كذبهم وسخفهم، وزعموا أن الذئب المفترس أكل أخاهم، وأحسّوا ضمنا بالكذب حين قالوا لوالدهم: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ- أي مصدق- لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ قال المبرد: كأنهم أخبروا عن أنفسهم أنهم صادقون في هذه النازلة، فهو تماد منهم في الكذب.
وزادوا في التدليس والتمويه أنهم كما روي: أخذوا سخلة (ولد ضأن) أو جديا، فذبحوه ولطّخوا به قميص يوسف، وقالوا ليعقوب: هذا قميصه، فأخذه ولطّخ به وجهه وبكى. ثم تأمّله، فلم ير خرقا ولا أثر ناب، فاستدلّ بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليما، يأكل يوسف، ولا يخرق قميصه؟ وهذا دليل على أن
فقال يعقوب لهم: بل زيّنت لكم أنفسكم السّيئة أمرا منكرا غير ما تصفون وتذكرون، فسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتّفقتم عليه، وأستعين بالله على وصفكم، حتى يأتي الفرج ويزول الكرب. وهذا تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه.
والصبر الجميل: هو الذي لا شكوى معه. والصبر مفتاح الفرج، وطريق التغلب على المصاعب والمشاق والأزمات.
نجاة يوسف من الهلاك في البئر
يخطئ البشر كثيرا حين يظنون أن تدابيرهم وخططهم لا تصطدم بشيء أقوى منهم، وبتدبير أحكم وأنفذ، فإن قدرة الله وإرادته وتدابيره تحيط بكل شيء، ولا يتحقق أمر في الكون إلا بمراد الله، فإرادته هي النافذة، ومشيئته هي الغالبة، وتدبيره هو المحكم لأنه القابض المهيمن على مقاليد السماوات والأرض. وهكذا خطّط إخوة يوسف للتخلص نهائيا من أخيهم، فباؤوا بالخيبة والفشل لأن الله تعالى هو الإله القادر المنفّذ لما يريد، قال الله تعالى واصفا كيفية نجاة يوسف عليه السّلام من الموت في البئر المظلمة العميقة:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» »
(٢) الوارد: هو الذي يأتي الماء ليسقي منه لجماعته، وهو إما واحد أو جماعة.
(٣) أرسلها في البئر ليملأها ماء.
(٤) أخفوه عن الرفقة، وجعلوه بضاعة للتجارة أي متاعا.
(٥) باعوه.
(٦) منقوص.
قدّر الله تعالى ألا تطول غربة يوسف ومأساته ووحشته في البئر، فمرّت سيارة، أي قوم مسافرون معا من مدين إلى مصر، وأشدّ ما يحتاج إليه المسافرون عبر الصحراء والمسافات البعيدة هو الماء، فأرسلوا من يستقي لهم الماء من بئر وجدوها في الطريق في الأردن، على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب (أي حوالي ١٥ كم)، فألقى دلوه في البئر ليملأها، فتدلى بها يوسف وتمسّك بالحبل، وصعد مع حبل الدلو، فقال الوارد المستقي المدلي مبشّرا نفسه وقومه: يا بشارتنا العظمى، يا بشراي، هذا غلام، وكان يوسف يومئذ ابن سبع سنين، فحملوه مع قافلتهم، وأخفوا أمره عن الرفاق المسافرين، جاعليه متاعا للتجارة، والله عليم بأفعالهم، لم يخف عليه إسرارهم في أنفسهم أنهم يتّخذونه بضاعة لأنفسهم. وفي ذلك تنبيه على إرادة الله تبارك وتعالى ليوسف، وسوق الأقدار بحسب بناء حاله، كما
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم كما جاء في حلية الأولياء ٨/ ٣٣٩: «يقدّر المقدرون، والقضاء يضحك».
وفي ذلك إيناس أيضا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم عما يجري عليه من جهة قريش، فإن العاقبة التي هي للمتقين هي المراعاة والمنتظرة.
وباعوا الغلام الجميل الحدث في مصر بثمن قليل ناقص عن ثمن المثل من الدراهم المعدودة عدّا، لا وزنا، وكانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية (أربعين درهما) فما فوقها. وكانوا في هذا البيع من الزاهدين، أي الراغبين عنه الذين لا يعرفون قدره،
(٢) منتهى القوة والجسم وهو سنّ الأربعين.
(٣) نبوة وحكمة: وهي الفهم ومعرفة الأسرار.
وقال العزيز الذي كان واليا على خزائن الأرض، والذي اشتراه من مصر، لامرأته زليخة: أكرمي مقامه عندنا، يجعل مقامه حسنا مكرّما، أي أحسني تعهده، فلا يكون عبدا، عسى أن ينفعنا في ثروتنا ومصالحنا، أو نتبنّاه ولدا، لأنه كان عقيما، لما تفرّس به من الرشد وملامح النجابة والذكاء.
وإرادة الله ورعايته تحوط يوسف عليه السلام، فكما نجاه الله من القتل والبئر، وعطّف عليه قلب العزيز، مكّن له في أرض مصر، وجعل له مكانة رفيعة فيها، حتى تولى الحكم فيها إداريا وماليا، وعلّمه أيضا كيفية تأويل الأحاديث، أي الرؤيا في النوم، والله سبحانه هو الغلّاب القهّار، لا يعجزه شيء فلا يمنع عما يشاء، ولا ينازع فيما يريد.
ولما بلغ يوسف أشدّه، أي استكمل القوة والرجولة وتناهت بنيته، وكملت قواه الجسدية والعقلية، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين، آتاه الله حكما أي حكمة وعلما، وسلطانا في الدنيا، وحكما بين الناس بالحق، ومثل ذلك الجزاء الحسن، يجزي الله الذين يحسنون لأنفسهم أعمالهم، وهذا دليل على أن يوسف عليه السّلام كان محسنا في عمله، عاملا بطاعة الله تعالى، فإحسان الجزاء له، جزاء على إحسانه في عمله، وتقواه في حال شبابه، فإن للإحسان والاستقامة تأثيرا في صفاء النفوس والعقول، كما أن للإساءة تأثيرا واضحا في تعكير النفوس وسوء فهم الأمور.
وما أجمل هذه الجملة وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ففيها وعد للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، فلا يهتم بفعل الكفرة به وتوهم عليه، وفيها البشارة لكل محسن بعاقبة طيبة حسنة، فالله تعالى يصنع للمحسنين أجمل صنع، ويتوّجهم بفضله وكرمه، ويفيض عليهم من خيراته ونعمه وإحسانه.
لقد أوتي يوسف عليه السّلام نصف الجمال، فكان بهي الطلعة، جميل الوجه، جذاب الشخصية، حسن القامة والهيئة، ففتنت به امرأة عزيز مصر، وغازلته ولاطفته للوصول إلى غرض معين، ولكن الله عصم نبيّه يوسف من الوقوع في الفاحشة، ونجاه من الافتراء وسوء الاتّهام، وحماه من تلفيق التهمة، وأبعده عن مظانّ السوء، والتصقت التهمة بامرأة العزيز، وثبت الخطأ عليها. وهذا ما عبّر عنه القرآن المجيد بصورة قاطعة وبرهان حسّي عقلي، فقال الله تعالى:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٩]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [يوسف: ١٢/ ٢٣- ٢٩].
تعرّض يوسف عليه السلام لمحنة خطيرة أشدّ من محنة إخوته ومؤامرتهم عليه بالقتل أو الإبعاد والضياع، وتلك المحنة هي مراودة زليخة امرأة سيده العزيز وولي نعمته، والمراودة: الملاطفة في التوصل إلى هدف أو غرض معين، والمراد بها هنا:
(٢) أسرع.
(٣) ألتجئ إلى الله مما دعوتني إليه.
(٤) إقامتي وتكريمي.
(٥) المختارين لطاعتنا.
(٦) تسابقا إليه.
(٧) قطعته.
(٨) وجدا زوجها.
(٩) صبي في المهد أنطقه الله.
ولقد همت زليخة في أن يواقعها يوسف، وأما يوسف الذي لم يكن نبيّا في وقت هذه الحادثة، فلم يهمّ بها بسوء، لرؤيته برهان ربّه: وهو قانون الله تعالى في تحريم الزنى، والعلم بما يستحق الزاني من العقاب، والتفكّر في عذاب الله ووعيده على المعصية، فلولا رؤيته برهان ربّه، لفعل أو لارتكب المعصية، فذلك هو الذي منعه من هم السوء، لأن خشية الله الحقيقية تعصم الإنسان من الانزلاق والانحراف.
ومثل ذلك التثبيت على العفة أمام المغريات ودواعي الفتنة، ثبتناه ووقيناه من السوء والفحشاء في جميع أموره، إن يوسف من عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته، فلا يتمكن الشيطان من إغوائهم.
وحدثت المفاجأة المخجلة، وقدم زوج زليخة عزيز مصر، وتسابق يوسف وهي إلى الباب، يوسف يريد الفرار، وهي مسرعة لمنعه من الخروج. ولحقته في أثناء هربه، وقطّعت أو مزّقت قميصه من الخلف. ثم بادرت إلى الافتراء عليه، قائلة لزوجها:
ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ فإنه يستحق إما السجن أو التعذيب المؤلم.
فقال يوسف مدافعا عن نفسه: هي التي راودتني عن نفسي، وشهد شاهد من أهلها إما إنسان خارج المكان، أو حال القميص وتخريقه، فإن كان شقّ القميص من
هذه محنة عظيمة مرّ بها يوسف الشاب قبل النبوة، فحفظه ربّه، لأنه حفظ الله: «احفظ الله يحفظك» رواه الترمذي عن ابن عباس والله أراد له التطهير وكمال العفة والشرف، إعدادا له لشرف النبوة والرسالة، وإظهارا للعالمين أن الطاعة للرّب أمر ممكن غير مستحيل، وأن هذا المثل الرائع هو المثل الذي ينبغي أن يعتبر به الشباب والرجال والنساء، فإن العاقبة الحسنة والسمعة الطاهرة الخالدة إنما هي للمتقين المحسنين.
موقف نساء مصر من امرأة العزيز
تأبى الفطرة السوية وقوانين العفة والعرض والشرف أن ينزلق الرجل أو المرأة في مزالق الفاحشة، ويزداد الاستهجان إذا كان الانحراف من نساء القادة والزعماء لأن رفعة المناصب ترفع من مواقف أصحابها، وتجعلهم يترفعون عن الدّنايا وسفساف الأمور لأنهم المثل الرفيع للناس الذين يتبعونهم. فكلما علا الإنسان وازدادت مرتبته، كبر خطؤه، وامتهنت كرامته. لذا استنكرت نساء مصر شيوع الخبر عن سقطة زليخة امرأة العزيز، فأرادت تسويغ فعلها ودفع الملامة عنها، وأبي يوسف
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٥]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [يوسف: ١٢/ ٣٠- ٣٥].
قال أربعة من النّسوة: امرأة خبّاز الملك، وامرأة ساقيه، وامرأة حاجبه، وامرأة بوّابه: عجبا ودهشة، امرأة الملك تراود فتاها الشاب عن نفسه، وتحاول مواقعته لها، قد استولى حبّه على سويداء قلبها، فلم تفكر بالعواقب، إنا لنراها أنها في صنيعها هذا لفي خطأ واضح، وبعد عن الصواب، وجهل يتنافى مع مكانتها. وهذا أمر معقول ومنتظر.
فلما سمعت زليخة امرأة الملك باغتياب النساء، وسوء مقالتهن وطعنهن بها، دعتهن إلى ضيافتها في جلسة كريمة هادئة، وأعدّت لهن ما يتّكأ عليه من فرش ووسائد، وهيّأت ألوان الفاكهة والطعام والشراب، وأعطت كل واحدة منهن سكينا
(٢) هيّأت لهنّ ما يتّكئن عليه.
(٣) دهشن بجماله. [.....]
(٤) خدشنها بالسكاكين.
(٥) تنزيها لله.
(٦) امتنع بشدة.
(٧) أمل إلى إجابتهن.
فلما خرج ورأينه، دهشن لجماله الفائق وحسنه الرائع، وجعلن يقطّعن أيديهن، اندهاشا برؤيته، وقلن على الفور: حاشا لله، أي تنزيها له عن العجز، وتعجبا من إبداع الخلق لجميل مثل يوسف، ما هذا بشرا، إنّ هذا إلا ملك كريم من الملائكة، تمثّل في صورة بشر، والمقصود إثبات الحسن العظيم له، إذ ليس في تصور الإنسان أجمل من الملائكة، ولا أقبح من الشيطان، فالتّشبيه بالملك من قبيل التشبيه بالمستعظمات، وإن كانت لا ترى،
روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يوسف أعطي نصف الحسن «١».
فقالت امرأة العزيز، وقد نجحت في انبهارهن بجماله الفتّان: فذلكن الذي وجهتن اللوم إلي بسببه، وعبتن علي فعله. ثم توعدت يوسف بالعقاب قائلة: أنا راودته عن نفسه، فامتنع، ولئن لم يفعل ما آمره به في المستقبل القريب، ليزجنّ به في السجن، وليكونن من الأذلاء المقهورين. وهذا دليل على أن حبّه أعماها عن كل شيء.
قال يوسف: يا ربّ أنت ملاذي وملجئي، إن السجن الذي توعّدت به، أحبّ إلي مما يدعونني إليه هؤلاء النّسوة من الفاحشة وارتكاب المعصية. وإن لم تنجني أنت هلكت، وإن لم تصرف عني كيدهنّ ومكرهنّ، أمل إليهن، وأكن من الجهلة الطائشين. وهذا استسلام لله تبارك وتعالى، ورغبة إليه، وتوكّل عليه، وشكوى إلى الله من حاله مع النّسوة، والدعاء إليه في كشف بلواه.
فأجابه ربّه إلى إرادته، وحقّق دعاءه، وصرف عنه كيدهن، في أن حال بينه وبين
وماذا كانت النتيجة في المستوى الرسمي، لقد ظهر للملك وامرأته من المصلحة والرأي بعد شيوع الخبر والاتهام، وبعد معرفة براءة يوسف، وظهرت الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته، ظهر لهم بعد كل هذا أن يسجنوه لأجل غير معلوم، لإسكات الفتنة ونسيان التهمة التي لوّثت بها امرأة الملك. وكان هذا الخير تمهيدا لعودة يوسف ملكا لمصر وحاكما لها، والله يفعل ما يشاء ويختار.
قصة رفاق يوسف في السجن
إن مسرح الأحداث الجسام التي يتعرض لها الأنبياء لا يكاد يوجد له نظير في التاريخ، فهذا يوسف عليه السّلام يزجّ به في غياهب السجون، وهو العفّ البريء البعيد عن التّهمة، ويعيث الجناة المردة الفساد في الأرض، ويناصرهم بعض الناس، لأنه مع الأسف يكثر أعوان الشّر، ويقلّ أعوان الخير. وكان سجن يوسف سببا قويّا في دعوة السجناء إلى عبادة الله وحده وترك الوثنية، مستعينا بما عليه من الصلاح والتقوى، ومعبّرا الرؤيا لمن رآها، فتأتي مطابقة للواقع، فيزداد المسجونون ثقة به وحبّا وإكبارا، وهذه هي قصة رفاقه في السجن، قال الله تعالى:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠)
«١»
رأت سلطة مصر المصلحة في سجن يوسف، فسجنوه، ودخل معه السجن فتيان مملوكان للملك، أحدهما ساقيه، والآخرة خبّازه، لتمالئهما على سمه في طعامه وشرابه، فرأيا رؤيا، فقال السّاقي: إني رأيت في المنام أني أعصر عنبا ليصير خمرا، وقال الخبّاز: إني رأيت أني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه، فقالا ليوسف:
أخبرنا بتأويل ما رأينا، وهل يقع ذلك؟ إننا نعلم أنك من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، فدعاهما يوسف لتوحيد الإله، وترك عبادة الأصنام أولا.
ثم قال لهما قولا يدلّ على أنه نبي صادق: لا يأتيكما طعام في يومكما إلا أخبرتكما به قبل وصوله إليكما، وهذا من تعليم الله إياي بالوحي لا بالكهانة والتنجيم، وسبب الوحي أنني اجتنبت ملّة الكافرين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وهم الكنعانيون وأمثالهم في فلسطين، والمصريون عبدة الآلهة كالشمس والعجل وفرعون. واتّبعت ملّة آبائي الأنبياء والمرسلين: إبراهيم وإسحاق ويعقوب الدّعاة إلى التوحيد الخالص. وكلامه عن ترك الكفر واتّباع مبدأ التوحيد اشتغال عن شدة مصير رائي الخبز، وأن رؤياه تؤذن بقتله.
ثم قرر يوسف منهج الأنبياء عامة، فقال: ما صح لنا وما ينبغي لنا معشر الأنبياء
يا رفاق السجن، هل القول بتعدد الآلهة والأرباب المتفرقين في الذوات والصفات خير وأجدى وأنفع، أو الإيمان بالله الواحد الأحد الغلاب القهار، الذي لا يحتاج لغيره، ويقهر بقدرته وإرادته كل شيء.
إن تلك الآلهة التي تعبدونها هي مجرد أسماء فارغة، حين سميتم أصنامكم آلهة، فليست عبادتكم لإله إلا باسم فقط، لا بالحقيقة والواقع، ولم ينزل الله بها حجة أو برهانا، وما الحكم والتّصرف النافذ والمشيئة والملك كله إلا لله، وليس لأصنامكم التي سميتموها آلهة من الحكم والأقدار والأرزاق شيء، فكيف تصح عبادتها وإطاعة الناس لها، إنها تسمية لا دليل عليها من عقل ولا نقل سماوي. والله سبحانه الخالق الرازق المهيمن القادر هو الذي أمر ألا تعبدوا وتطيعوا إلا إياه سبحانه، وهذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له، هو الدين المستقيم الذي أمر الله به، وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبّه ويرضاه.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك هو الدين الحق، الذي لا عوج فيه، ولهذا كان أكثرهم مشركين، كما قال الله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) [يوسف: ١٢/ ١٠٣].
أمثلة من تأويل يوسف الرّؤيا
كثر تعبير يوسف عليه السلام الرؤيا في السجن، وأبرز تلك التأويلات تعبير رؤيا صاحبيه في السجن، وتأويل رؤيا ملك مصر.
أما تأويل رؤيا صاحبي يوسف في السجن، فهو كما قال الله تعالى:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)
«١» [يوسف: ١٢/ ٤١- ٤٢].
نادى يوسف عليه السلام بقوله: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ استعدادا لسماع الجواب، فقال للسّاقي الذي رأى أنه يعصر عنبا يؤول إلى الخمر: إنك تسقي سيدك الخمر كما كنت تفعل قبل السجن بحسب العادة، وهذا دليل على براءته من تهمة الاشتراك في تسميم الملك.
وأما الآخر: وهو الخباز الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، فتأكل جوارح الطير كالنّسر والعقاب من رأسه، أي إنه يقتل ويصلب.
ثم أخبرهما يوسف عليه السلام عما علمه بتعليم الله تعالى: أن الأمر قد قضي، ووافق القدر، ولا مناص منه. وقوله: تَسْتَفْتِيانِ أي تسألان عن المشكل، والفتوى جوابه.
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فكانت مدة سجنه اثنتي عشرة سنة.
ثم رأى ملك مصر رؤيا أخرى كانت سببا لخروج يوسف عليه السلام معزّزا مكرّما، حكى القرآن الكريم هذه الرؤيا بقوله تعالى:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٣ الى ٤٩]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» »
[يوسف: ١٢/ ٤٣- ٤٩].
(٢) تعلمون تأويلها.
(٣) أي مجموع أخلاط من الأحلام الزائفة الكاذبة.
(٤) أي تذكر.
(٥) أي بعد مدة من الزمان.
(٦) أي متتابعة. [.....]
(٧) تخبّئونه من البذور.
(٨) يمطرون.
(٩) ما شأنه أن يعصر كالزيتون ونحوه.
فقال الملك للملأ من الكهنة والعلماء: عبّروا علي هذه الرؤيا، إن كنتم تعلمون تعبير الرؤيا، وبيان معناها. فقالوا: هذه شوائب وأخلاط من الخواطر والخيالات تتراءى للنائم في عقله، ولا معنى لها، ولسنا عالمين بتأويل أمثالها لو كانت صحيحة.
وحينئذ تذكّر ساقي الملك الذي نجا من الموت من صاحبي يوسف في السجن، وكان تذكّره بعد نسيان، فقال للملك والملأ أشراف القوم: أنا أخبركم بتأويل هذا المنام، فابعثوني إلى يوسف الصّدّيق الموجود حاليا في السجن. فأرسلوه فجاء فقال:
يا يوسف، أيها الرجل الكريم المصداق في أقواله وأفعاله، الصدوق العالم الخبير بتعبير الأحلام: أفتنا في رؤيا الملك، لعل الله يجعل لك مخرجا. فقصّ عليه خبر البقرات الهزيلات اللاتي يأكلن البقرات السّمان، وسبع سنبلات خضراوات وأخر يابسات، لعلي أعود إلى الناس ليعلموا حقيقة هذه الرّؤيا.
فأجابه يوسف من غير لوم ولا عتاب، ومن غير اشتراط للخروج من السجن:
بأنه يأتيكم سبع سنوات خصبة متوالية، فما حصدتم فاتركوه في سنبله لئلا يأكله السوس، إلا القدر القليل الكافي للأكل الضروري، فهذه السنوات السبع هي البقرات السّمان والسّنابل الخضراء السّبع. ثم يأتي بعد ذلك سبع سنين جدباء يأكل أهلها كل مدّخرات السنوات السابقة إلا قليلا مما تدّخرون للبذر.
ثم يأتي من بعد تلك السنوات الأربع عشرة عام يهطل فيه الغيث وهو المطر، وتكثر الغلال، ويعصر الناس ألوان العصير من زيت الزيتون وسكر القصب وشراب العنب والتمر ونحوها.
طلب الملك مواجهة يوسف عليه السّلام
بعد أن عبّر يوسف عليه السّلام المقصود من رؤيا ملك مصر، كانت النتيجة الطبيعية المنتظرة عند عقلاء الناس وحكمائهم أن يطلب هذا الملك مواجهة يوسف السجين الذي له هذه المقدرة الفائقة في تعبير الأحلام، فلم يستجب يوسف عليه السّلام للطلب، وأراد إعلان براءته وعفّته وتعرّضه للظلم في السجن مدة سبع سنوات، تلاها خمس أخرى عقابا من الله لقوله لساقي الملك: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فصارت مدّة سجنه اثنتي عشرة سنة، فطالب بفتح ملفّ النّسوة اللاتي قطّعن أيديهن وإظهار الحق في هذه القضية. وهذا ما تحدثت عنه الآيات التالية:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢)
«١» «٢» «٣» [يوسف: ١٢/ ٥٠- ٥٢].
طالب الملك بإحضار يوسف من السجن، حتى يتحقق بنفسه صدق ما تشير إليه
(٢) تنزيها لله وتعجّبا من عفّة يوسف عليه السّلام.
(٣) أي ظهر الحق وثبت واستقر
امتنع يوسف من الاستجابة لرسول الملك بمواجهته وإخراجه من السجن، وإحضاره له، وقال له: ارجع إلى سيدك، فاسأله عن حال النّسوة اللاتي جرحن أيديهن، لأني لا أريد أن آتيه، وأنا متّهم بمسألة سجنت من أجلها، واطلب من الملك أن يحقق في تلك القضية قبل أن آتيه، ليعرف حقيقة الأمر، إن ربي عزّ وجلّ العالم بخفايا الأمور عليم بكيد النساء وتدبيرهن وما دبّرن لي من كيد.
فجمع الملك النّسوة اللاتي قطّعن أيديهن عند امرأة العزيز، فقال مخاطبا لهن كلهن، وهو يريد امرأة العزيز وزيره الأول: ما شأنكن وخبركن حين راودتن يوسف عن نفسه، يوم الضيافة، قلن: حاشا لله، أي معاذ الله أن يكون يوسف أراد السوء أو يكون متّهما، والله ما علمنا عليه سوءا في تاريخه الطويل.
وقالت امرأة العزيز حينئذ: الآن تبيّن الحق وظهر بعد خفائه، أن راودت يوسف من نفسه، لا هو، فامتنع واستعصم، وإنه لصادق في قوله، لم يكذب أبدا. ثم أردفت قائلة: ذلك الاعتراف مني بالحق، ليعلم يوسف أني لم أخنه أثناء غيبته بأن أكذب عليه، أو أرميه بذنب هو بريء منه، والمراد أن توبتي وإقراري ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وليعلم أن الله تعالى لا يهدي كيد الخائنين، أي لا يسدده ولا ينجحه، بل يبطله ويبدد أثره، فهذا من كلام امرأة العزيز.
وقال جماعة من أهل التأويل في آية: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) : هذه المقالة هي من يوسف عليه السّلام، أي، ذلك ليعلم العزيز سيدي أني لم أخنه في أهله، وهو غائب، وليعلم أيضا أن الله تعالى لا يهدي
وفي هذا تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانة زوجها، وتعريض بزوجها في خيانته أمانة الله، حين ساعدها بعد ظهور الآيات المصدقة له على حبسه.
وعلى أي حال، سواء أكانت المقالة من يوسف عليه السّلام أم من امرأة العزيز، فهي تقرّر مبدءا عظيما أو قاعدة صلبة: وهو أن الواجب يقضي بحفظ الأمانات والعهود، وصون حرمة الغائب، سواء كان زوج المرأة وهو عزيز مصر، أو كان يوسف عليه السّلام، فإن الدفاع عن الغائب في مجلس أمر توجبه المروءة والحق وحفظ العهد والميثاق، والمبدأ الثاني: هو أن الله تعالى لا يسدّد عمل خائن، ولا يكمله ولا يحقق غاية أو هدفا، وهذا تطمين لأولئك المظلومين أو المستضعفين المقهورين، الذين يتولى الله تعالى مناصرتهم والدفاع عنهم، وحمايتهم من الظلم والسوء في النهاية، كما جاء في آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) [الحج: ٢٢/ ٣٨].
تولّي يوسف عليه السّلام قيادة الحكم في مصر
أدانت زليخة امرأة العزيز نفسها، واعترفت بالحق والواقع الذي صدر منها، وهذه فضيلة وصراحة وجرأة، وتبيّن للملك براءة يوسف وعفّته وسجنه بغير حق، كما تبيّن له أمانته، وصبره وجلده، وتيقن حسن خلاله، وطيب فعاله، فولاه مقاليد الأمور في مصر، وهذا دليل الحكمة والوعي والرشد، وكان ذلك تمهيدا لارتقاء يوسف أعلى المنازل وتحقيق مراد الله تعالى في خضوع إخوته له واحتياجهم إليه. قال الله تعالى مبيّنا هذه الأحوال:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٣ الى ٥٧]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)
توّجت امرأة عزيز مصر أقوالها واعترافاتها أمام الملك بقولها المعبّر عن ضعف الإنسان وتورّطه بالمساوئ، وهو أنني لئن برّأت يوسف، فما أبرئ نفسي من الزّلل والخطأ، إن النفس ميّالة بالطبع إلى الشهوات والأهواء. وهو اعتذار عن وقوعها فيما يقع فيه البشر عادة من الشهوات، كأنها قالت: وما هذا ببدع ولا ذلك بنكير على البشر، فأبرئ أنا منه نفسي، والنفوس أمّارات بالسوء، مائلة إليه، إلا النفوس التي يرحمها الله، فيحميها من التورّط في الفواحش، وإن الله ربّي غفّار للذنوب، رحيم بالعصاة إذا تابوا وأنابوا إلى الله.
هذا قول جمهور المفسّرين، ويرى بعضهم أن هذا من قول يوسف عليه السّلام، لتذكّره ما كان هم به.
وأمام هذا الإعلان الصريح أمام الملك، قال: ائتوني بيوسف من السجن، أجعله من خلصائي ومستشاريّ، فلما خاطبه الملك واختبره، ورأى فضله وعلمه، ولمس أدبه وخلقه، قال له: إنك اليوم عندنا ذو مكانة ومنزلة، وموضع ثقة وأمانة، تؤتمن على كل شيء في شؤون الحكم وإدارة البلاد.
فقال يوسف للملك: اجعلني أيها الملك على مخازن الأرض التي تخزن فيها الغلال، أشرف عليها وأتصرّف بها، فأنقذ البلاد من المجاعة التي تهدّد أهلها، إني خازن أمين، ذو علم وبصيرة بما يتولاه. وهذا دليل على جواز المطالبة بالعمل،
(٢) يتخذ منها مباءة ومنزلا.
فأجابه الملك إلى طلبه، وجعله وزير المالية والخزانة، وأطلق له سلطة التصرف في شؤون الحكم، لرجاحة عقله وخبرته وحسن تصرّفه.
وتنفيذا لأمر الله وتقديره ومراده، وبيانا لجميل صنع الله بعباده وبنبيّه يوسف، ومثل هذا الإنعام الذي أنعم الله به على يوسف في تقريبه إلى قلب الملك، وإنجائه من السجن، أقدره الله على ما يريد، وجعل له مكانة ومنزلة في أرض مصر، وانتقل من حال العبودية إلى الملك والسلطان، والنفوذ والتفوق، يتبوأ في بلاد مصر المكانة العالية، والله سبحانه يصيب برحمته وإحسانه ونعمه من يشاء من عباده، ولا يضيّع في الدنيا والآخرة ثواب الذين يحسنون أعمالهم.
ولكن ثواب الآخرة للمؤمنين الأتقياء، وهو الظفر بجنان الخلد، خير وأعظم وأكثر من خير الدنيا وما فيها من مظاهر العزّ والسّلطان، والمال والزينة والرفعة.
وهذا يدلّ على أن ما ادّخره الله لنبيّه يوسف عليه السّلام في الآخرة أعظم مما أنعم عليه من التّصرف والنفوذ في الدنيا. ومن جمع الله له السعادتين في الدنيا والآخرة، كان فضل الله عليه أكثر، وعطاؤه أتم، للقيام بالطاعة، وترك المعصية.
ويدلّ هذا أيضا على أن إحسان الإنسان لعمله، والتزامه الطاعة لا يضيع عند الله، ولكن حال الآخرة أحمد، وأحرى أن يتخذ غرضا ومقصدا، وحال يوسف في الآخرة خير من حاله العظيمة في الدنيا.
وكل ذلك مرهون بالتّقيّد بالإيمان الصحيح، والتقوى والاستقامة، لأن الإيمان أساس لقبول العمل الصالح. والتقوى برهان الصدق، وثمرة الإيمان. والاستقامة دليل الرشد والعقل والحكمة. ومن كان ذا إيمان واعتقاد سليم، واتقى الله ربّه
شراء القمح من مصر
في السنوات السّبع الثانية التي عم فيها القحط والجدب، لا مصر وحدها، وإنما بلاد الشام أيضا، لم يجد أولاد يعقوب عليه السّلام، إخوة يوسف بدّا إلا التوجّه لأرض مصر لشراء القمح والقوت منها، لما بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه. فسافروا إلى مصر ليتم اللقاء بين يوسف وإخوته، قال الله تعالى واصفا هذا اللقاء الأول:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٨ الى ٦٢]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)
«١» «٢» «٣» [يوسف: ١٢/ ٥٨- ٦٢].
(٢) ثمن ما اشتروه.
(٣) أوعيتهم.
لقد قدم أولاد يعقوب من فلسطين إلى مصر، فلما دخلوا على الوالي يوسف، وهو في مكانته ومنزلته العالية، عرفهم حين نظر إليهم لأن ملامح الكبار لا تتغير كثيرا، وهم له منكرون، لا يعرفونه، لمفارقتهم له وهو صغير، وباعوه لقافلة السّيارة العابرة المسافرين، والملامح في حال الصّغر تتغير كثيرا مع النمو والكبر، ولأنهم قدّروا هلاكه، ولم يفكّروا لحظة أن يوسف سيصير في هذه المنزلة، وهذه توقّعات منتظرة بحسب التقدير البشري العاجز الذي ينسى فيه الإنسان أن لله تعالى القدرة على صنع العجائب، وإيجاد ما لم يكن في الحسبان.
وأكّد هذا التّجاهل وعدم معرفة يوسف من إخوته: الكلام الذي دار بين يوسف وإخوته، حيث سألهم عن سبب مجيئهم وهو القدوم للميرة وحمل الطعام، وسألهم عن بلادهم وأهلهم وأبيهم وجميع أولاده، فأخبروه بأنهم اثنا عشر ولدا، هلك أصغرهم في البرية، وبقي شقيقه عند والده ليتسلى به ويعينه على أحوال المعيشة، فأمر يوسف بإنزالهم منزلا كريما، وبإكرامهم كرما عظيما.
ولما أوفى لهم الكيل، وحملهم من القمح عشرة أحمال، وزادهم حملين لأبيهم وأخيهم، قال: ائتوني في المرة القادمة بأخيكم من أبيكم وهو بنيامين، ألا ترون أني أتم لكم الكيل الذي تريدون دون بخس، وأزيدكم عليه، وأنا خير المنزلين المضيفين للضيوف. وكان قصده من ذلك ترغيبهم في الرجوع إليه.
وأخبرهم سلفا أنه إن لم تأتوا بأخيكم بنيامين في المرة الثانية، فليس لكم عندي ميرة طعام، ولا تدخلون بلادي. وقوله: وَلا تَقْرَبُونِ نهي لفظا ومعنى، معناه ألا يقربوا له بلدا ولا طاعة.
روي أن يوسف عليه السّلام استوفى في تلك السنين الجدباء أموال الناس ثم أملاكهم، فلم يبق لأحد في أرض مصر ومزارعها ملك. وظاهر كل ما فعله يوسف مع إخوته أنه بوحي وأمر إلهي، وإلا فكان برّ يعقوب يقتضي أن يبادر إليه ويستدعيه، لكن الله تعالى أعلمه بما يصنع، ليكمل أجر يعقوب ومحنته، ويتبين سبب محبّته ليوسف، وتتفسّر الرّؤيا الأولى، بسجود أحد عشر كوكبا له.
وقال يوسف لفتيانه، أي لغلمانه وخدمه: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي اجعلوا البضاعة التي اشتروا بها الطعام، وقدموا بها للميرة، معاوضة أو بيعا، في أمتعتهم التي لهم من حيث لا يشعرون، لعلهم عند رجوعهم إلى أهلهم وبلادهم يعرفون حق ردّها وتكرمتها، فيرغبون فينا، ويرجعون إلينا حينئذ، أي بعد العودة إلى أهلهم وفتح أمتعتهم. والإنسان عادة يسرّ بأخذ الشيء مجانا، وبردّ البضاعة التي دفعها ثمنا. وهذا إغراء واضح بالعودة، وتحقيق للغاية الكبرى، وهي لقاء يوسف مع جميع أسرته، أبيه وخالته وإخوته. وهو أسلوب ناجح، وعمل طيب ازدان به حسن الاستقبال والضيافة الكريمة، والوداع المؤثر الذي لا ينسى، من قبل يوسف عليه السّلام لإخوته الكبار، الذين أساؤوا إليه بإلقائه في البئر، فقابل الإساءة بالإحسان، وهو خلق الأنبياء والأصفياء والأولياء الكرام.
لقد قدم أولاد يعقوب من فلسطين إلى مصر، فلما دخلوا على الوالي يوسف، وهو في مكانته ومنزلته العالية، عرفهم حين نظر إليهم لأن ملامح الكبار لا تتغير كثيرا، وهم له منكرون، لا يعرفونه، لمفارقتهم له وهو صغير، وباعوه لقافلة السّيارة العابرة المسافرين، والملامح في حال الصّغر تتغير كثيرا مع النمو والكبر، ولأنهم قدّروا هلاكه، ولم يفكّروا لحظة أن يوسف سيصير في هذه المنزلة، وهذه توقّعات منتظرة بحسب التقدير البشري العاجز الذي ينسى فيه الإنسان أن لله تعالى القدرة على صنع العجائب، وإيجاد ما لم يكن في الحسبان.
وأكّد هذا التّجاهل وعدم معرفة يوسف من إخوته: الكلام الذي دار بين يوسف وإخوته، حيث سألهم عن سبب مجيئهم وهو القدوم للميرة وحمل الطعام، وسألهم عن بلادهم وأهلهم وأبيهم وجميع أولاده، فأخبروه بأنهم اثنا عشر ولدا، هلك أصغرهم في البرية، وبقي شقيقه عند والده ليتسلى به ويعينه على أحوال المعيشة، فأمر يوسف بإنزالهم منزلا كريما، وبإكرامهم كرما عظيما.
ولما أوفى لهم الكيل، وحملهم من القمح عشرة أحمال، وزادهم حملين لأبيهم وأخيهم، قال: ائتوني في المرة القادمة بأخيكم من أبيكم وهو بنيامين، ألا ترون أني أتم لكم الكيل الذي تريدون دون بخس، وأزيدكم عليه، وأنا خير المنزلين المضيفين للضيوف. وكان قصده من ذلك ترغيبهم في الرجوع إليه.
وأخبرهم سلفا أنه إن لم تأتوا بأخيكم بنيامين في المرة الثانية، فليس لكم عندي ميرة طعام، ولا تدخلون بلادي. وقوله: وَلا تَقْرَبُونِ نهي لفظا ومعنى، معناه ألا يقربوا له بلدا ولا طاعة.
روي أن يوسف عليه السّلام استوفى في تلك السنين الجدباء أموال الناس ثم أملاكهم، فلم يبق لأحد في أرض مصر ومزارعها ملك. وظاهر كل ما فعله يوسف مع إخوته أنه بوحي وأمر إلهي، وإلا فكان برّ يعقوب يقتضي أن يبادر إليه ويستدعيه، لكن الله تعالى أعلمه بما يصنع، ليكمل أجر يعقوب ومحنته، ويتبين سبب محبّته ليوسف، وتتفسّر الرّؤيا الأولى، بسجود أحد عشر كوكبا له.
وقال يوسف لفتيانه، أي لغلمانه وخدمه: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي اجعلوا البضاعة التي اشتروا بها الطعام، وقدموا بها للميرة، معاوضة أو بيعا، في أمتعتهم التي لهم من حيث لا يشعرون، لعلهم عند رجوعهم إلى أهلهم وبلادهم يعرفون حق ردّها وتكرمتها، فيرغبون فينا، ويرجعون إلينا حينئذ، أي بعد العودة إلى أهلهم وفتح أمتعتهم. والإنسان عادة يسرّ بأخذ الشيء مجانا، وبردّ البضاعة التي دفعها ثمنا. وهذا إغراء واضح بالعودة، وتحقيق للغاية الكبرى، وهي لقاء يوسف مع جميع أسرته، أبيه وخالته وإخوته. وهو أسلوب ناجح، وعمل طيب ازدان به حسن الاستقبال والضيافة الكريمة، والوداع المؤثر الذي لا ينسى، من قبل يوسف عليه السّلام لإخوته الكبار، الذين أساؤوا إليه بإلقائه في البئر، فقابل الإساءة بالإحسان، وهو خلق الأنبياء والأصفياء والأولياء الكرام.
محنة جديدة يتعرّض لها يعقوب عليه السّلام بإرسال ابنه الآخر بنيامين شقيق يوسف عليه السّلام مع إخوته إلى مصر في الرحلة الثانية لجلب الطعام، وربما كانت هذه المحنة أشدّ على يعقوب لأنه فقد الأنيس الجليس والحبيب الأثير من أولاده، ولكن ليتم مراد الله وقدره والتسليم لحكمه، ويتمهّد الطريق للقاء الأسرة الكريمة في بلاد مصر. وهذا ما قصّه القرآن الكريم في حديث مؤثّر محزن، قال الله تعالى:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٦]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [يوسف: ١٢/ ٦٣- ٦٦].
عرض إخوة يوسف على أبيهم في هذه المرة ما حدث معهم بكل أمانة وصدق مع عزيز مصر حين شراء القمح، فقالوا له: يا أبانا منع عنا عزيز مصر إعطاء الطعام وكيله لنا في المستقبل، فإن لم ترسل معنا أخانا بنيامين، لا نكتل، فأرسله معنا لجلب الطعام بقدر عددنا، وإنا له لحافظون من كل مكروه وسوء في الذهاب والإياب، فلا تخف عليه، فإنه سيرجع إليك بمشيئة الله، ونوفي للعزيز الذي أكرمنا بما شرط علينا.
قال يعقوب الشيخ الحزين عليه السّلام المتألّم من فراق بنيامين، لما رأى من المصلحة: كيف أئتمنكم عليه؟ وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم، وعاهدتموني
(٢) رحالهم.
(٣) ما نطلب من الخير والإحسان بعد ذلك؟ [.....]
(٤) نجلب لهم الطعام من مصر.
(٥) عهدا مؤكّدا باليمين.
(٦) تغلبوا.
(٧) مطلق رقيب.
وزاد الإغراء بإرسال بنيامين أن الإخوة لما فتحوا أمتعتهم وأوعية طعامهم، وجدوا بضاعتهم من النقود ثمن الطعام قد ردّت إليهم، وتلك فعلة يوسف عليه السّلام الذي أمر بوضعها في رحالهم، وقالوا على الفور: يا أبانا ماذا نريد زيادة على هذا الإكرام والإحسان من ملك مصر، كما حدّثناك، فما تعدّينا، فكذبنا على هذا الملك، ولا في وصف إجماله وإكرامه، هذه البضاعة مردودة، ونأتي بالميرة (الطعام) إلى أهلينا من مصر، ونحفظ أخانا، بنيامين بعنايتنا ورعايتنا، فلا تخف عليه، ونزداد مكيال بعير لأجله، وذلك الحمل الزائد أمر يسير على هذا الحاكم السّخي، الرّحيم إذا أخذنا أخانا معنا.
قال يعقوب مريدا التّوثق من أولاده، وقد تذكر ماضي يوسف ومحنته: لن أرسل بنيامين معكم حتى تعاهدوني عهدا موثّقا باليمين، لتعودنّ به على أي حال كنتم، إلا في حال يمتنع ذلك عنكم بأن تهلكوا وتموتوا أو تغلبوا على أمركم وتقهروا جميعا، ولا تقدرون على تخليصه، فقوله سبحانه: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ لفظ عام لجميع وجوه الغلبة والقسر، أي تعمّكم الغلبة من جميع الجهات، حتى لا تكون لكم حيلة ولا وجه تخلّص، وكأن هذا استشعار من بعد عما يتم، ولكن لا بآلة، وإنما بفيض النّبوة.
فلما آتوه، أي عاهدوه وأعطوه موثقهم، أي عهدهم المؤكد باليمين، قال
ويلاحظ أن يعقوب عليه السلام قد توثق في هذه القصة، وأشهد الله تعالى، ووصّى بنيه، وأخبر بعد ذلك بتوكّله على الله، ولكنه توكّل مقترن بالأسباب واتّخاذ الاحتياط والقيام بالواجب والسعي الداخل في حدود القدرة البشرية، وتلك هي غاية التوكّل الصحيحة، ومردّ الأمر في النهاية بعد السّعي إلى الله فاعل الأشياء ومحقّق النتائج بحكمة وإرادة وعدل.
وصيّة يعقوب لأولاده عند الدخول على حاكم مصر
تظلّ وصايا الأنبياء وسيرتهم نبراسا للقدوة الحسنة والسيرة العملية في حياة الإنسان، لأنهم لا يفعلون شيئا إلا بوحي أو إلهام من الله تعالى، ولا يكون توجيههم وتبليغهم دعوة الله وشرعه إلا لخير الإنسان وإسعاده، وتحقيق أكبر نفع أو مصلحة له، ولو على المدى البعيد، فلا يكون النفع آنيا، كما أن في هذا التوجيه النّبوي حماية للإنسان من ألوان المكاره والسوء، وتجنّب الوقوع في المهاوي والعثرات والمزالق، وهذا لون مرغوب من الوصايا، وهو وصية يعقوب لأولاده، وهي الدخول من أبواب متفرقة، ليروا مدى العناية والاستقبال لكل واحد منهم من حاكم مصر، أو لئلا يحسدهم الحسّاد، وترمقهم الأعين معجبين بالعدد الكثير من الإخوة والرجال. قال الله تعالى مخبرا عن هذه الوصية:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨)
روي أن أولاد يعقوب، لما ودّعوا أباهم، قال لهم: «بلّغوا ملك مصر سلامي، وقولوا: إن أبانا يصلّي عليك، ويدعو لك، ويشكر صنيعك معنا». والصلاة معناها هنا الدعاء بالرّفعة والمنزلة العالية وبالمغفرة والفضل الإلهي.
وقال يعقوب لأولاده: يا بنيّ لا تدخلوا مصر من باب واحد، وادخلوا من أبواب متفرقة لأنهم كانوا أهل جمال وكمال، لئلا تصيبهم العين، والعين قد تكون سببا في المهالك.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح: «العين حقّ»
أي شيء ذو أثر موجود عند الناس،
وفي خبر آخر: «إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر» «١».
والعين لا تضرّ إذا برّك العائن، فيقول: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه. وإذا أصاب العائن ولم يبرك، يؤمر بالاغتسال، ويجبر على ذلك إن أباه.
وتابع يعقوب وصيته ومفادها: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. الآية، أي وما أدفع عنكم بوصيتي وتدبيري من قضاء الله شيئا لأنه لا يغني حذر من قدر، وإن كنا مأمورين باتّخاذ وسائل الحيطة والحذر، لقوله تعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النّساء: ٤/ ١٠٢] أخذا بالأسباب العادية الظاهرية، وليس دفعا للقدر، وتحدّيا للقضاء.
ويظل إنفاذ الحكم وتدبير الأمر لله وحده، لذا قرن يعقوب كلامه السابق: بأن الحكم لله وحده، وعليه وحده توكّلت، وبه وثقت، وعليه تعالى فليتوكل المتوكلون، دون أن يعتمدوا في تحقيق النتائج على أنفسهم وأمثالهم من البشر ذوي الإمكانات المحدودة والقدرات البسيطة أمام قدرة الله الفائقة.
ثم أثنى الله عزّ وجلّ على يعقوب بأنه لقّن ما علّمه الله من هذا المعنى، وهو يعلم بأن الحذر لا يمنع من القدر لتعليم الله إياه بالوحي، ولكن أكثر الناس وهم المشركون والكفار لا يعلمون ذلك، أي لا يعلمون مثل ما علم يعقوب عليه السّلام، ولا يدركون كيف أرشد الله أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة، ومن تلك العلوم: الأخذ بالأسباب الظاهرة، وتفويض الأمر لله تعالى.
والخلاصة: نحن البشر مأمورون باتخاذ الاحتياطات والأسباب الظاهرية، ونفوّض الأمر في تحقيق النتائج إلى الله تعالى، مع ثقتنا التامّة بعدله وفضله ورحمته وإحسانه، ومع توكلنا عليه سبحانه في إنجاز الأمور وتفويض المشيئة لله تعالى.
لقاء الأخوين يوسف وبنيامين
لم يطلب يوسف عليه السّلام الإتيان بأخيه بنيامين إلا لإبقائه عنده، تمهيدا لجمع الشّمل ولمّ الأسرة، والعيش مع الشيخ الكبير يعقوب عليه السّلام الذي اعتصر الأسى قلبه بفقد يوسف، ثم تلاه بنيامين. وتمت الخطة بكيد يسّره الله ليوسف عليه السّلام، واستسهل الأمر على ما فيه من رمي أبرياء بالسرقة، وإدخال الهمّ على
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٩ الى ٧٦]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣)
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [يوسف: ١٢/ ٦٩- ٧٦].
هذا ما حدث في الرحلة الثانية لأولاد يعقوب من فلسطين إلى مصر لجلب الطعام، فقد ضمّ يوسف عليه السّلام أخاه بنيامين واختلى به، وأطلعه على شأنه، وعرفه أنه أخوه، وقال له: لا تبتئس أي لا تأسف ولا تحزن على ما صنعوا بي، وأمره ألا يطلع إخوته على ما أسرّ به إليه، وتواطأ معه أن يبقيه عنده معزّزا مكرّما.
فلما جهّزهم يوسف بجهازهم، أي لما أعدّ لهم الطعام، وحمّل لهم أبعرتهم طعاما، أمر بعض فتيانه (غلمانه أو خدمه) أن يضع السّقاية (الصّواع أو مكيال الطعام من فضة أو ذهب) في رحل أخيه بنيامين، دون علم أحد.
(٢) فلا تحزن.
(٣) المراد به مكيال الطعام، وهو صواع الملك.
(٤) نادى مناد.
(٥) القافلة.
(٦) مكياله.
(٧) كفيل.
(٨) أي علمناه الحيلة وأوحينا إليه طريقة أخذ أخيه.
(٩) أي قانونه ونظامه. [.....]
قال إخوة يوسف بعد اتّهامهم بالسرقة: والله لقد خبرتمونا في المرة الأولى، وعلمتم علم اليقين أننا ما جئنا لنفسد في أرضكم بالسرقة أو غيرها من التّعدي على حقوق الناس، ولم نكن يوما ما سارقين، فليست سجايانا على هذه الصفة.
فقال فتيان يوسف: فما جزاء السارق إن كان فيكم، إن كنتم كاذبين في نفي التّهمة عنكم؟ فأجابوا: جزاؤه في شرعنا أخذ من وجد في رحله، ومثل هذا الجزاء نجزي الظالمين للناس بسرقة أموالهم في شريعتنا أن يسترقّوا، أي أن يتملّك السّارق كما تملك هو الشّيء المسروق. وهي شريعة إبراهيم ويعقوب عليهما السّلام، وهذا مراد يوسف. وإتماما لتنفيذ الخطة، بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه للتورية وحتى لا يتّهم، ثم استخرج السّقاية من وعاء أخيه بنيامين، فأخذه منهم بمقتضى اعترافهم، وإلزاما لهم بمقتضى شريعتهم.
ومثل ذلك الكيد، أي التدبير الخفي، كدنا ليوسف، أي دبّرنا له في الخفاء، وأوحينا إليه أن يفعل لأخذ أخيه، وهذا من الكيد المشروع، لما فيه من المحبة والمصلحة المطلوبة، وهي حيلة مشروعة، يترتب عليها خير ومصلحة في المستقبل، دون إضرار أحد. ولولا هذا التدبير ما كان يتمكّن يوسف عليه السّلام من أخذ أخيه في نظام أو قانون ملك مصر، الذي لا يبيح استرقاق السارق، وكان يوسف يعلم بشريعة يعقوب، فما كان ليأخذ أخاه في نظام الملك في حال من الأحوال إلا في حال
وفوق كل عالم من هو أعلم منه، والمعنى: أن البشر في العلم درجات، فكل عالم لا بدّ من وجود من هو أعلم منه، فإما من البشر، وإما الله عزّ وجلّ. قال الحسن البصري: ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عزّ وجلّ. فإذا كان إخوة يوسف علماء، فإن يوسف كان أعلم منهم.
الحوار الحادّ بين يوسف وإخوته، وبينهم وبين أبيهم
تفجّرت الأزمة الخانقة بين أولاد يعقوب في مصر، وبينهم وبين أبيهم في فلسطين، ووقعوا في كمين أو فخ شائك، وظهرت الطبائع على حقيقتها، بالرغم من كون الأولاد أبرياء من السرقة، والملك يعرف ذلك. لكن الحادث أغاظهم، وبدأت الاتّهامات الباطلة ومخاوف اللقاء مع الأب، وما يتعرّض له من ألم وأسى جديد حين عودتهم من دون بنيامين. فماذا فعلوا في ساحة الاتّهام؟ قال الله تعالى واصفا وقائع الحوار وصدمة يعقوب وشكواه إلى الله وصبره.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٧ الى ٨٧]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١)
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦)
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧)
«١» «٢» «٣»
(٢) يئسوا من إجابته.
(٣) انفردوا عن الناس يتناجون ويتشاورون.
«٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» [يوسف: ١٢/ ٧٧- ٨٧].
عبّر إخوة يوسف عن طبعهم ونظرتهم السّيئة نحو يوسف، فاتّهموه بالسّرقة وهو صغير، وأن الأخوين سارقان، فقالوا: إن يسرق بنيامين الصواع، فقد سرق أخوه يوسف من قبل، فهما في العادة والطبع سواء. وقصة سرقة يوسف في الصغر: أن عمته ربته، فلما شبّ أراد يعقوب أخذه منها، فولعت به، وأشفقت من فراقه، فأخذت منطقة إسحاق المتوارثة عندهم، فنطّقته بها من تحت ثيابه، ثم صاحت وقالت: إني قد فقدت المنطقة، ويوسف قد خرج بها، ففتّش فوجدت عنده، فاسترقّته- حسبما كان في شرعهم- وبقي عندها حتى ماتت، فصار عند أبيه.
فأسر يوسف الحزازة التي حدثت في نفسه من قولهم، ولم يظهر ما في نفسه من مؤاخذتهم بمقالتهم، بل صفح عنهم، وقال لهم في نفسه دون إعلان: أنتم شرّ مكانا
(٢) زيّنت.
(٣) يا حزني الشديد.
(٤) أصابتها غشاوة.
(٥) مملوء غيظا على أولاده.
(٦) لا تفتأ ولا تزال.
(٧) مشرفا على الهلاك.
(٨) أشدّ غمي.
(٩) تعرفوا عنه.
(١٠) رحمته وفرجه.
ثم استشفعوا لدى يوسف قائلين: يا أيها العزيز، إن له أبا شيخا كبيرا، هرما، يحب هذا الولد حبّا شديدا، فخذ أحدنا بدله، إنا نراك من المحسنين لنا في عطائنا وضيافتنا، بل وفي جميع أفعالك معنا ومع غيرنا.
قال: نعوذ بالله ونلجأ إليه أن نأخذ غير من وجدنا الصواع عنده، فإنا إن فعلنا ذلك كنا من جملة الظالمين، لأن ذلك أخذ بريء بمتهم. والمراد أن الله أمرني بما فعلت، واحتبست بنيامين لمصلحة في ذلك.
فلما يئس إخوة يوسف من إطلاق سراح أخيهم بنيامين الذي التزموا وعاهدوا أباهم أن يردوه إليه، اعتزلوا الناس يناجي بعضهم بعضا، فقال كبيرهم شمعون رأيا وتدبيرا وعلما، وإن كان روبيل أسنّهم: ألم تعاهدوا أباكم بردّ بنيامين، وكنتم سابقا قد فرطتم بيوسف، فلن أغادر أرض مصر أبدا، حتى يأذن لي أبي، أو يحكم الله لي بأن يمكنني من أخذ أخي بنيامين، والله خير الحاكمين بالحق والعدل، ارجعوا إلى أبيكم، وقولوا له: يا أبانا لقد سرق ابنك صواع الملك، فاسترقّه عزيز مصر، وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمناه وشاهدناه، ولم نعلم بالغيب أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق بردّه. واسأل يا أبانا أهل القرية التي كنا فيها وهي مصر، واسأل أصحاب العير الذين كانوا يأتون بالميرة (الطعام) معنا، ونحن صادقون فيما أخبرناك به.
قال يعقوب: بل زيّنت لكم أنفسكم أمرا آخر أردتموه، وكيدا جديدا فعلتموه، فأصبر صبرا جميلا: وهو الذي لا جزع ولا شكاية فيه لأحد غير الله، لعل الله أن يأتيني بأولادي الثلاثة جميعا، إن الله عليم بحالي، حكيم في فعله وقضائه وقدره.
وأعرض بوجهه عن أولاده وجعل يتفجع ويتأسّف، وأصيبت عيناه بغشاوة بيضاء
لقاء التّعارف الفريد
لقد نجحت خطة يوسف عليه السّلام في استدراج مجيء إخوته وأسرته مرة بعد مرة، فهو بتعليم الله له وإرشاده، يسير على خطة محكمة، ومنهج متقن، وإخوته لجهلهم وتفريطهم وتآمرهم السابق على يوسف، لم يدركوا شيئا من هذه الخطة إلا في مرة ثالثة قدموا بها من فلسطين إلى مصر، وبعد أن رقّ قلب يوسف لاستعطافهم واسترحامهم، وحدثت المفاجأة العجيبة حيث عرّفهم يوسف بنفسه، وتم اجتماع الإخوة الاثني عشر في بيت يوسف وسلطانه، فاعترفوا بالذنب السابق، وقابلهم يوسف النّبي بالعفو والصفح عنهم، وتجدد الحبّ الأخوي، وتهيأ الجو لاستقبال الوالد يعقوب عليه السّلام. قال الله تعالى واصفا هذا اللقاء الأخوي والتعارف الفريد في التاريخ:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٨ الى ٩٣]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)
«١» «٢»
(٢) بأثمان رديئة كاسدة.
أمر يعقوب عليه السلام أن يذهب أولاده إلى أرض مصر التي جاؤوا منها، وتركوا أخويهم: بنيامين وروبيل، وأن يستقصوا أخبار يوسف وأخيه، فساروا من أرض الشام ووصلوها، فلما دخلوا على يوسف عليه السّلام أرادوا اختباره وإثارة عواطفه بذكر سوء حالهم وتضرّعهم له، وكان أبوهم يرجح أن هذا العزيز في مصر هو يوسف، فقالوا له: أيها العزيز العادل الرحيم، قد مسّنا وأهلنا الضّرّ، أي الجوع والمسغبة التي كانوا بسبيلها، ووضع أخيهم الذي أهمّ أباهم وغمّ جميعهم، وجئنا ببضاعة مزجاة، أي قطعة من المال ناقصة غير تامة، يتسامح في أخذها، وهي قليلة لا تروج إلا بالدفع وطول العرض وحسنه. فإن الدراهم المدفوعة إذا كانت نازلة القدر تحتاج أن يعتذر معها ويشفع لها، فهي مزجاة، فأتم لنا الكيل كما كنت تفعل، فقد عودتنا الجميل، وتصدّق علينا بالزائد، إن الله يجزي المتصدقين، ويكافئهم على أعمالهم. وكانت الصدقة بالفرق بين الدراهم الجياد وهذه المزجاة. وقالوا هذا تجوّزا واستعطافا منهم في البيع.
فقال يوسف عليه السّلام لما أخبروه بما مسّهم وأهلهم الضّرّ، واستعطفوه، فرقّ قلبه ورحمهم، قال لهم مستفهما عن استقباح فعلهم السابق بيوسف: هل علمتم قبح
(٢) لا لوم عليكم.
(٣) مبصرا من شدّة السرور.
فخاطبوه مستفهمين استفهام تقرير وتثبّت ومعرفة: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ فقد عرفوه بعلامات كانت فيه. فقال على الفور: أنا يوسف المظلوم العاجز الذي نصرني الله، وحفظني، وصيّرني إلى ما ترون، وهذا أخي بنيامين الذي فرّقتم بيني وبينه، فكان مظلوما أيضا كما كنت، ثم صار منعما عليه من قبل الله تعالى، كما ترون. قد أنعم الله علينا بالاجتماع، بعد الفرقة وبعد طول المدة، وأعزّنا في الدنيا والآخرة، إنه من يتق الله في ترك المعصية، ويصبر على المحن التي يتعرّض لها كالرّمي في البئر والسجن، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا في الدنيا والآخرة. وهذه شهادة من الله عزّ وجلّ بأن يوسف من المتقين الصابرين المحسنين.
أجابوه إعلانا للحق واعترافا له بالفضل: والله لقد فضّلك الله علينا، وآثرك بالعلم والحلم والخلق، والسلطان والسعة، والنّبوة والرّسالة، وإن كنا مخطئين مذنبين في حقّك، فقال يوسف بعد هذا الاعتذار والتوبة، معلنا الصفح والعفو عنهم: لا لوم ولا تعيير ولا توبيخ أو تأنيب لأحد منكم فيما صنعتم، يغفر الله لكم ذنوبكم وظلمكم، وهو أرحم الراحمين لمن تاب إليه وأناب إلى طاعته. وهذا مثل عال في العفو الجميل والصفح الكريم، فعل نبينا عليه الصّلاة والسّلام مثله مع أهل مكة بعد فتحها، مستشهدا بقول يوسف نفسه.
ثم جاءت معجزة القميص، قال يوسف لإخوته: اذهبوا بقميصي هذا، فألقوه على
معجزة القميص
يختلف أفق النّبوة غير المعتاد عن الأحوال المعروفة المعتادة للناس، فإن في النّبوة أعمالا خارقة للعادة، تسمى معجزات، وكانت معجزة قميص يوسف من أبهر المعجزات النّبوية في تاريخ الرّسل، وكان الخبر العجيب من يعقوب عليه السّلام أنه يشمّ ريح يوسف ابنه المفقود من زمان طويل. وتحقّقت نبوءة يوسف وأبيه يعقوب، وتمت الفرحة الغامرة باكتشاف وجود يوسف عليه السّلام، وأنه ما زال حيّا، وأنه ذو مكانة وسلطان، وعمت البهجة والسرور أرض مصر وفلسطين معا، وكان البشير المبشر بهذا هو الابن الأكبر ليعقوب، وهو يهوذا الذي اعتصم بمصر، والذي كان قد جاء بقميص الدم. وصف القرآن المجيد هذه المعجزة في قوله سبحانه:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٨]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
«١» «٢» «٣» [يوسف: ١٢/ ٩٤- ٩٨].
(٢) أي تنسبوني إلى الفند: وهو ضعف العقل أو الخرف، أي تسفهوني أو تكذبوني.
(٣) انحرافك عن الصواب.
أخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال: لما خرجت العير، هاجت ريح، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف، فقال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام. قال الإمام فخر الدين الرازي: والتحقيق أن يقال:
إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات لأن وصول الرائحة من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة، فيكون معجزة ليعقوب عليه السّلام على الأظهر أو الأقرب.
وهذا هو الراجح بتقدير الله وإرادته وقدرته حيث يطلع أنبياءه على عجائب الأمور على سبيل إظهار المعجزات على أيديهم.
قال الحاضرون في مجلس يعقوب له: والله، إنك لفي ضلالك القديم أي حيرتك أو خطئك القديم الذي طال أمده، بظنّك أن يوسف حيّ يرزق، ويرجى لقاؤه.
وليس هو بالضّلال الذي هو في العرف ضدّ الرشاد لأن ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به. وكان حزن يعقوب قد تجدّد بقصة بنيامين، فلذلك يقال له:
ذو الحزنين.
فلما أن جاء البشير المبشّر، وهو يهوذا، يحمل قميص يوسف، مبشّرا له ببقائه حيّا، هو وأخوه بنيامين، ألقاه على وجه يعقوب، فانقلب فورا بصيرا كما كان، من شدّة الفرح. وتلك معجزة أخرى، وقال يعقوب حينئذ لمن حوله: ألم أقل لكم يا
ابحثوا عن يوسف، ولا تيأسوا من روح الله ورحمته، وإني لأعلم يقينا أن الله تعالى سيردّ يوسف إلي.
وحين ذاك قال الأولاد لأبيهم يعقوب مترفّقين معتذرين: اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي اطلب من الله أن يغفر لنا ذنوبنا، فإنا كنا مذنبين عاصين، وقد تبنا وندمنا على ما فعلنا معك ومع أخوينا: يوسف وبنيامين.
روي أن يوسف عليه السّلام لما غفر لإخوته، وتحقّقوا أيضا أن والدهم يعقوب يغفر لهم، قال بعضهم لبعض: ما يغني عنا هذا، إن لم يغفر الله لنا، فطلبوا حينئذ من يعقوب أن يطلب لهم المغفرة من الله تعالى، واعترفوا بالخطإ.
فقال لهم يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي أي في المستقبل القريب، في وقت السّحر آخر الليل، لأنّ ربي غفور ستّار للذنوب، رحيم بالعباد. وهذا الوقت- وقت السّحر- هو وقت يجاب فيه الدعاء، لقوله تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آل عمران:
٣/ ١٧].
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي والموطأ والإمام أحمد (أي الجماعة ما عدا النّسائي) عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينزل ربّنا كل ليلة إذا كان الثلث الآخر- أي من الليل- إلى سماء الدنيا، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له؟».
وروى ابن عباس- فيما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ- عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أخّرهم يعقوب، حتى تأتي ليلة الجمعة».
والتوفيق بين الرّأيين: أنه أخّرهم لسحر ليلة الجمعة، ووافق ذلك ليلة عاشوراء، وهو رأي أكثر المفسّرين.
كانت قصة يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته من العجائب، وتمت فصولها ومشاهدها على مدى طويل، لتعليم الناس وإرشادهم إلى ضرورة التصديق أولا بأخبار الأنبياء الذين يخبرون عن الله بالوحي، وإلى لزوم الاعتصام بالإيمان بالله عزّ وجلّ، وبالصبر الجميل على الأحداث، وإلى تفويض الأمر لله تعالى دون تعجيل بالثأر أو الانتقام أو اقتراف الخطأ والذنب، كما حدث من إخوة يوسف. وأدّت فصول هذه القصة إلى الهدف المرجى، وهو لقاء الأسرة اليعقوبية لقاء كريما مباركا فيه، وذلك في المرة الرابعة من رحلات أولاد يعقوب إلى مصر، وتم في هذا اللقاء تأويل رؤيا يوسف من قبل بسجود أحد عشر كوكبا له، وهم أهله وإخوته، قال الله تعالى موضحا هذا التأويل وذلك اللقاء العظيم:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠)
«١» «٢» «٣» [يوسف: ١٢/ ٩٩- ١٠٠].
بعد أن طلب يوسف عليه السّلام من إخوته أن يأتوه بأهله أجمعين، فرحلوا من بلاد كنعان- فلسطين- إلى مصر، للإقامة معه فيها، فحضر يعقوب أبوه وخالته وإخوته وأسرهم، فلما أخبر يوسف عليه السّلام باقترابهم من أرض مصر، خرج لتلقّيهم ومعه الأمراء وأكابر الناس، فلما دخلوا على يوسف في أبهة الملك
(٢) البادية.
(٣) حرّش وأغرى.
وقال يوسف لأسرته جميعا: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أي تمكّنوا واسكنوا واستقرّوا في بلاد مصر، بمشيئة الله، آمنين على أنفسكم وأموالكم وأهليكم، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
ورفع يوسف أبويه على سرير ملكه، بأن أجلسهما معه، تكريما لهما، وسجد له الإخوة الأحد عشر والأبوان سجود تحية وإكرام له، لا سجود عبادة وتقديس، وكان سجود الانحناء هو تحية الملوك والعظماء في زمنهم.
وبعد هذه التحية قال يوسف: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ أي إن هذا السجود هو تأويل رؤياي القديمة حال صغري، وهي: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: ١٢/ ٤]. وتأويل رؤياي: ما آل إليه الأمر.
إن تلك الرؤيا العجيبة الغريبة، أصبحت حقيقة واقعة، وصحيحة صدقا فإن رؤيا الأنبياء حقّ ثابت، فكما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده إسماعيل، صارت سببا لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة والواقع، فكذلك صارت هذه الرؤيا ليوسف سببا لوجوب ذلك السجود: سجود التّحية.
وأضاف يوسف قائلا: وقد أحسن الله تعالى إلي وأفاض علي من نعمه وأفضاله، وعبّر بقوله: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي أي أوقع وناط إحسانه بي، إذ أطلق سراحي من السجن، ورزقني الملك، وجاء بكم من البادية، وكانوا أهل بادية وماشية وشظف عيش، فنقلكم من الشقاوة إلى النعمة، ومن البادية لسكون الحاضرة والمدينة ذات الترف والسعة والرفاه.
ولم يذكر يوسف قصة إخراجه من البئر، تكريما لإخوته، وحفظا لحيائهم،
وإنما ذكر يوسف هذا القدر من أمر إخوته ليبيّن حسن موقع النّعم لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء، فهي أحسن موقعا. وأما نزغ الشيطان فهو حقيقة واقعة
لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه البخاري عن أبي هريرة-: «لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري، لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار».
والمعنى: يرمي به في يده ويحقق ضربته. ومن رواه «ينزغ» فمعناه الإغراء، أي يزيّن له الشيطان تحقيق الضربة.
ثم قال يوسف: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أي إن الله إذا أراد أمرا، قيّض له أسبابا، وقدّره ويسّره، إنه هو العليم بمصالح عباده، الحكيم في أقواله وأفعاله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده.
نهاية قصة يوسف والعبرة منها
تضمنت قصة يوسف عليه السّلام مجموعة من المبادئ الاعتقادية والأخلاقية والدينية، كوّنت همزة وصل وجسور التقاء بين رسالة يوسف ورسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، أساسها شكر النعمة لخالق الأرض والسماء، ومبناها الإيمان بالغيب، وفيها براهين لإثبات وجود الله تعالى وتوحيده تقوم على أساس التّفكر والتأمل في آيات الله الكونية، وتتضمن وصف أكثر الناس بعدم الإيمان، وتهديدهم بإتيان العذاب أو مجيء القيامة، مما يجعل دعوة خاتم الأنبياء تقوم على هذه الأسس القديمة القويمة، وعلى الإقناع والعقل والتبصّر في الأمور، وإثبات توحيد الله، ورفض الشّرك والوثنية. وصف الله تعالى هذه الجسور بين رسالات الأنبياء بقوله تعالى:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠١ الى ١٠٨]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥)وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [يوسف: ١٢/ ١٠١- ١٠٨].
ختمت قصة يوسف بخاتمة مؤثرة تصلح عبرة للملوك والحكام، حيث جمع الله ليوسف بين الملك والسلطة، والنّبوة، وأنعم عليه بنعم كثيرة نقلته من السجن والبئر إلى عزّة الإدارة والحكم والسلطة في مصر، فبادر إلى شكر ربّه، بهذا الدعاء الجامع الذي سأل الله فيه أن يجزل له ثواب الآخرة كما أجزل له العطاء في الدنيا. فقال: يا ربّ، قد آتيتني ملك مصر، وعلّمتني بعض التأويلات للأحاديث وتعبير الرّؤيا، ومعرفة أسرار كلامك. يا ربّ يا فاطر السماوات والأرض (أي خالقهما ومبدعهما في أبدع نظام وأحكم ترتيب) أنت ناصري ومتولّي أمري في الدنيا والآخرة، توفّني مسلما خاضعا لك منقادا لأمرك، وألحقني بالصالحين من آبائي: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فأنت الرحيم الكريم، القادر على كل شيء.
ذلك الإيراد لقصة يوسف عليه السّلام وأخباره من أخبار الغيب التي أوحاها الله لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن موجودا في وقت أحداثها، ولا مشاهدا لها، حين عزم
(٢) عزموا على الكيد ليوسف.
(٣) كم من آية أي كثير.
(٤) أي نقمة تغشاهم أو عقوبة تحيط بهم. [.....]
(٥) فجأة.
علما بأنه ليس أكثر الناس بمصدّقين بدعوتك ورسالتك يا محمد، ولو كنت حريصا على إيمانهم، لتصميمهم على الكفر وعنادهم. وما تسأل منكري نبوّتك يا محمد على تبليغ الرسالة ونصحهم ودعوتهم إلى الخير والرّشد أجرا ولا عوضا، وإنما تفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله وإفادة خلقه، فما عليهم بعد هذا البيان إلا قبول دعوتك، فإن هذا القرآن الذي أرسلك به ربّك هو محض تذكير وموعظة لكل العالمين من الجنّ والإنس.
والسبب في أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين: أنهم في غفلة عن التفكّر في الآيات الكونية والدلائل الدّالة على وجود الله الصانع وتوحيده، وكمال علمه وقدرته، في أنحاء السماوات والأرض من الكواكب والنجوم، والجبال والسهول، والبحار والنباتات والأشجار، والأحياء والأموات، يمرون على تلك الآيات والدلائل ويشاهدها أكثرهم، وهم غافلون عنها، لا يتفكرون بما فيها من عبر وعظات، وكلها تشهد بوجود الله ووحدانيته.
وما يكاد يؤمن أو يصدّق أكثر المشركين بوجود الله إلا وهم ملازمون للشّرك، عاكفون على عبادة الأصنام والأوثان. هذه الآية نزلت بسبب قول قريش في الطّواف والتّلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. فأنذرهم الله بقوله: أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتشملهم، أو يأتيهم يوم القيامة فجأة، وهم لا يحسّون أو لا يشعرون بذلك. وهذا كما في آية أخرى فيها إنذار وتوبيخ وتهديد: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ
[الأعراف: ٧/ ٩٧- ٩٩].
ثم أمر الله نبيّه أن يعلن مضمون دعوته للثّقلين: الإنس والجنّ بأن طريقته التي يتّبعها، ودعوته إلى توحيد الله، يدعو فيها هو أتباعه على تبصّر ويقين، وتأمّل وإقناع، وبرهان ساطع وحجة دامغة، وسبحان الله، أي أنزّه الله وأقدّسه من أن يكون له شريك أو نظير، وأنا بريء من جميع المشركين على اختلاف أنواعهم.
والخلاصة: إن آية قُلْ هذِهِ سَبِيلِي إشارة إلى دعوة الإسلام والشريعة الإلهية بأسرها.
العبرة من القصة القرآنية
يتذرّع أعداء الرّسالات الإلهية بذرائع واهية وشبهات قديمة من أجل تسويغ ضلالهم وكفرهم، والتماس العذر لسلوكهم ومنهاجهم، ومن شبهاتهم إنكارهم بشرية الرّسل، وأن الرسول في زعمهم ينبغي أن يكون ملكا نورانيّا، كما حكى القرآن عنهم: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصّلت: ٤١/ ١٤]. ونسوا ما يرون في الكون من آيات دالّة على صدق الرّسل، وثبوت الوحي الإلهي لهم. فإذا ما أصرّوا على كفرهم جاءهم العذاب الشامل. وعلى الناس أن يدركوا أن في إيراد القصص القرآنية عبرة وعظة لذوي العقول، وليس حديثا مفترىّ أو مكذوبا. وهذا ما أبانته الآيات التالية:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
الآية الأولى:.. إِلَّا رِجالًا... تتضمن الرّد على مستغربي إرسال الرّسل من البشر، كالطائفة التي قالت: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: ١٧/ ٩٤]، وكالطائفة التي اقترحت ملكا وغيرهما. والمعنى: وما أرسلنا يا محمد من قبلك رسلا إلا رجالا، لا ملائكة ولا إناثا، فهم من العنصر البشري القوي الكامل، وكانوا من أهل المدن مدنيّين، لا أعرابا من البوادي، وكنا ننزل عليهم الوحي والتشريع. وهذا يدلّ على أن الرّسل من البشر، لا من الملائكة، ومن أهل المدن المتحضّرين لا من البدائيين، ومن الذّكور الرجال، لا من النّساء، فلم تكن امرأة قطّ نبيّا ولا رسولا، ولم يبعث الله رسولا من أهل البادية، لأن فيهم عادة الجهل والجفاء، ولتتبعهم المدن الأخرى، ولأن أهل المدن أرقّ طبعا وأكثر خبرة وتلطّفا من أهل البوادي.
ثم هدّد الله المشركين على تكذيبهم بالرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، أفلم يسر هؤلاء المكذّبون لك يا محمد في الأرض، فينظروا ويروا كيف كان مصير الأمم المكذّبة للرّسل، كيف دمّر الله عليهم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط عليهم السّلام، وللكافرين أمثال تلك الألوان من العذاب، فإن عاقبة الكافرين الهلاك، وعاقبة المؤمنين النّجاة. ثم حضّ الله تعالى على العمل للدار الآخرة والاستعداد لها، فهي خير للذين خافوا لقاء الله، فلم يشركوا به ولم يعصوه، فهي أفضل من دار الدنيا لأولئك المشركين المكذّبين
(٢) توهّم الرّسل.
(٣) كذبهم رجاؤهم النّصر في الدنيا.
(٤) عذابنا.
(٥) عظة.
(٦) يختلق.
ثم بشّر الله نبيّه بالنّصر بإخباره بسنّة إلهية دائمة: وهي مجيء النصر الإلهي للرّسل عليهم السّلام، عند اشتداد الأزمة وانتظار الفرج الرّباني، وتيقن الرّسل أن المشركين كذبوهم تكذيبا لا إيمان بعده، وصمموا على ذلك، وألا انحراف عنه، وتكون العاقبة هي الإتيان بنصر الله فجأة، فينجّي الله من يشاء، وهم النّبي والمؤمنون معه، ويحلّ العقاب بالمكذّبين الكافرين، ولا يردّ بأس الله، أي لا يمنع عقاب الله وبطشه عن القوم الذين أجرموا، فكفروا بالله، وكذّبوا رسله. وهذا تهديد ووعيد لكفار قريش وأمثالهم، لإعراضهم عن الإيمان بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم وبدعوته، وبما أنزل الله من القرآن المجيد لأن في قوله تعالى: وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا أي عذابنا وعيدا بيّنا، وتهديدا صريحا لمعاصري محمد عليه الصّلاة والسّلام.
ثم أبان الله تعالى الهدف العام من قصص القرآن الكريم، فلقد كان في سرد أخبار الأنبياء المرسلين مع أقوامهم، وإنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين عبرة وعظة وذكرى لأولي العقول السّوية، والأفكار الصحيحة، ولم يكن هذا القرآن المبين لقصة يوسف وغيرها حديثا مختلقا مكذوبا من دون الله لأنه كلام أعجز البلغاء والفصحاء، وإنما هو كلام الله من طريق الوحي والتّنزيل، لتصديق ما تقدمه من الكتب السماوية في صورتها الأولى الصحيحة، كالتّوراة والإنجيل والزّبور، أي تصديق ما جاء فيها من عند الله من الصحيح والحق، ونفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، فالقرآن مصدق أصولها الصحيحة، وهو أيضا مهيمن عليها، وحارس لها. وفي القرآن أيضا تفصيل كل شيء من العقائد والأحكام والحلال والحرام، والمحبوب والمكروه، والأمر والنّهي، والوعد والوعيد، وهو أيضا هدى وإرشاد للعالمين إلى طريق الحق والاستقامة، وهو كذلك رحمة عامّة من الله ربّ العالمين للمؤمنين في الدنيا والآخرة.