ﰡ
سَبَبُ النّزول: روي أن اليهود سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قصة يوسف وما حصل له مع إخوته من أولاد يعقوب فنزلت السورة.
التفسِير: ﴿الر﴾ إشارة إِلى الإِعجاز، فمن هذه الحروف وأمثالها تتألف آيات الكتاب المعجز ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ أي تلك الآيات التي أنزلت إليك يا محمد هي آيات الكتاب المعجز في بيانه، الساطع في حججه وبراهينه، الواضح في معانيه، الذي لا تشتبه حقائقه، ولا تلتبس دقائقُه ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ أي أنزلناه بلغة العرب كتاباً عربياً مؤلفاً من هذه الأحرف العربية ﴿لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي لكي تعقلوا وتدركوا أن الذي يصنع من الكلمات العادية هذا الكتاب المعجز ليس بشراً، وإنما هو إله قدير، وهذا الكلام وحيٌ منزل من رب العالمين ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص﴾ أي نحن نحدثك يا محمد ونروي لك أخبار الأمم السابقة، بأصدق كلام، وأحسن بيان ﴿بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن﴾ أي بإِيحاءتنا إليك هذا القرآن المعجز ﴿وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين﴾ أي وإنَّ الحال والشأن أنك كنتَ من قبل أن نوحي إليك هذا القرآن لمن الغافلين عن هذه القصة، لم تخطر ببالك، ولم تقرعْ القصة، لأنك أميٌّ لا تقرأ ولا تكتب ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾ من هنا بداية القصة، أي اذكر حين قال يوسفُ لأبيه يعقوب يا أبي إني رأيت في المنام هذه الرؤيا العجيبة، رأيت أحد عشر كوكباً من كواكب السماء خرّت ساجدةً لي ﴿والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ أي ورأيت في المنام الشمس والقمر ساجدةً لي مع الكواكب قال ابن عباس: كانت الرؤيا فيهم وحياً قال المفسرون: الكواكب الأحد عشر كانت إخوته، والشمس والقمر أبواه، وكان سنه إذ ذاك اثنتي عشرة سنة، وبين هذه الرؤيا واجتماعه بأبيه وإخوته في مصر أربعون سنة ﴿قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ﴾ أي قال له يعقوب: لا تخبرْ بهذه الرؤيا إخوتك ﴿فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً﴾ أي فيحتالوا لإِهلاكك حيلةً عظيمة لا تقدر على ردّها ﴿إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ أي ظاهر العداوة قال أبو حيان: فهم يعقوب من رؤيا يوسف أن الله تعالى يبلّغه مبلغاً من الحكمة، ويصطفيه للنبوة، وينعم عليه بشرف الدارين، فخاف عليه من حسد إخوته فنهاه أن يقصَّ رؤياه عليهم ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ أي وكما أراك مثل هذه الرؤيا العظيم كذلك يختارك ربك للنبوة ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾ أي يعلمك تفسير الرؤيا المناميَّة ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ﴾ أي يتمم فضله وإنعامه عليك وعلى ذرية أبيك يعقوب ﴿كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ أي كما أكمل النعمة من قبل ذلك على جدك إِبراهيم وجدك إسحاق بالرسالة والاصطفاء ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عليمٌ بمن هو أهلٌ للفضل، حكيم في تدبيره لخلقه ﴿لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾ أي لقد كان في خبر يوسف وإخوته الأحد عشر عبرٌ وعظاتٌ للسائلين عن أخبارهم ﴿إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا﴾ هذه هي المحنة
البَلاَغَة: ١ - ﴿تِلْكَ آيَاتُ﴾ الاشارة بالبعيد لبعد مرتبته في الكمال وعلو شأنه.
٢ - ﴿كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ﴾ تشبيه مرسل مجمل.
٣ - ﴿رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر﴾ قال الشريف الرضي: هذه استعارة لأن الكواكب والشمس والقمر مما لا يعقل فكان الوجه أن يقال: ساجدة، ولكنها لما أطلق عليها فعل من يعقل جاز أن توصف بصفة من يعقل لأن السجود من فعل العقلاء.
٤ - ﴿بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ الدم لا يوصف بالكذب والمراد بدم مكذوبٍ فيه أو دمٍ ذي كذب وجيء بالمصدر على طريق المبالغة.
لطيفَة: روي أن امرأةً تحاكمت إلى شريحٍ فبكت فقال الشعبي: يا أبا أمية أما تراها تبكي؟ فقال الشعبي: لقد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمةٌ كذبة، لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق.
تنبيه: ذهب بعض المفسرين إلى أن إخوة يوسف أنبياء واستدلوا على ذلك بأنهم الأسباط المذكورون في قوله تعالى ﴿قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط﴾ [آل عمران: ٨٤] والصحيح أن الأسباط ليسوا أولاد يعقوب وإنما هم القبائل من ذرية يعقوب كما نبّه عليه المحققون، ولو كان إخوة يوسف أنبياء لما أقدموا على مثل هذه الأفعال الشنيعة، فالحسد، والسعي بالفساد، والإقدام على القتل، والكذبُ، وإلقاء يوسف في الجب، كل ذلك من الكبائر التي تنافي عصمة الأنبياء، فالقول بأنهم أنبياء - مع هذه الجرائم - لا يقبله عقل حصيف، وانظر ما قاله العلامة ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا الشأن، فإِنه لطيف ودقيق.
اللغَة: ﴿وَرَاوَدَتْهُ﴾ المراودة: الطلب برفقٍ ولين مأخوذة من راد يرود إذا جاء وذهب ومنه الرائد لطلب الكلأ، يقال في الرجل: راودها عن نفسها، وفي المرأة راودته عن نفسه أي طلبت منه مضاجعتها ﴿هَيْتَ﴾ اسم فعل أمر بمعنى تعال وهلُمّ ﴿مَثْوَايَ﴾ مقامي، والثواء الإِقامة مع الاستقرار ﴿هَمَّتْ﴾ الهمُّ يأتي بمعنى العزم والقصد، ومنه ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ [غافر: ٥] ويأتي بمعنى الخاطر وحديث النفس دون عزم قال الشاعر:
ترتَعُ ما رتَعَتْ حتَّى إذا ادكرتْ | فإِنَّما هيَ إقبالٌ وإدبار |
التفسِير: ﴿وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ﴾ هذه هي المحنة الثالثة بعد محنة الجب والاسترقاق، والمراودةُ الطلبُ برفقٍ ولين كما يفعل المخادع بكلامه المعسول المعنى: طلبت امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها منه أن يضاجعها، ودعته برفق ولين أن يواقعها، وتوسَّلت إليه بكل وسيلةٍ ﴿وَغَلَّقَتِ الأبواب﴾ أي غلّقت أبواب البيوت عليها وعلى يوسف وأحكمت إغلاقها قال القرطبي: كانت سبعة أبواب غلّقتها ثم دعته إلى نفسها ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ أي هلُمَّ وأسرع إلى الفراش فليس ثمة ما يُخشى قال في البحر: أمرته بأن يسرع إليها ﴿قَالَ مَعَاذَ الله﴾ أي عياذاً بالله من فعل السوء قال أبو السعود: وهذا إشارة إلى أنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، لما أراه الله من البرهان النيِّر على ما فيه من غاية القبح ونهاية السوء ﴿إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ أي إن زوجك هو سيدي العزيز الذي أكرمني وأحسن تعهدي فكيف أسيء إليه بالخيانة في حَرَمه؟ ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ أي لا يظفر الظالمون بمطالبهم، ومنهم الخائنون المُجازون الإِحسانَ بالسوء، ثم أخبر تعالى ان امرأة العزيز حاولت إيقاعه في شراكها، وتوسَّلت إليه بكل وسائل الإِغراء، ولولا أنَّ الله جلَّ وعلا حفظه من كيدها لهلك فقال ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ أي همَّت بمخالطته عن عزمٍ وقصدٍ وتصميم، عزماً جازماً على الفاحشة لا يصرفها عنها صارف، وقصدت إجباره على مطاوعتها القوة، بعد أن استحكمت من تغليق الأبواب، ودعوته إلى الإِسراع، مما اضطره إلى الهرب إلى الباب ﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ أي مالت نفسه إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، وحدثته نفسُه بالنزول عند رغبتها حديث نفسٍ، دون عزمٍ وقصد، فبين الهمين فرق كبير قال الإِمام الفخر: الهمُّ خطورُ الشيء بالبال أو ميلُ الطبع، كالصائم في الصيف يرى الماء البارد فتحمله نفسُه على الميل إليه وطلب شربه، ولكنْ يمنعه دينُه عنه ﴿لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ جوابه محذوفٌ أي لولا حفظ الله ورعايتُه ليوسف، وعصمتُه له لخالطها وأمضى ما حدثته نفسه به، ولكنَّ الله عصمه بالحفظ والتأييد فلم يحصل منه شيءٌ البتَّة قال في البحر: نسب بعضُهم ليوسف ما لا يجوز نسبتُه لآحاد الفُسَّاق، والذي أختاره أن «يوسف» عليه
. ثم أخبر تعالى بما حصل من المفاجأة العجيبة بقدوم زوجها وهما يتسابقان نحو الباب، ولا تزال هي في هياجها الحيواني ﴿واستبقا الباب﴾ أي تسابقا نحو باب القصر، هو للهرب، وهي للطلب ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ﴾ أي شقت ثوبه من خلف لأنها كانت تلحقه فجذبته فشقت قميصه ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الباب﴾ أي وجدا العزيز عند باب القصر فجأة وقد حضر في غير أوان حضوره، وبمهارة فائقة تشبه مهارة إبليس انقلب الوضع فأصبح الظالم مظلوماً، والبريء متهماً ﴿قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي ما جزاؤه إلا السجن أو الضرب ضرباً مؤلماً وجيعاً ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ أي قال يوسف مكذباً لها: هي التي دعتني إلى مقارفة الفاحشة لا أني أردت بها السوء ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ قال ابن عباس: كان طفلاً في المهد أنطقه الله، وكان ابن خالها قال في البحر: وكونُه من أهلها أوجب للحجة عليها، وأوثقُ لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ﴾ أي إن كان ثوبُه قد شُقَّ من أمام فهي صادقة وهو كاذب ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ﴾ أي وإن كان ثوبه قد شُقَّ من الوراء فهي كاذبة وهو صادق، لأن الأمر المنطقي أن يُشق الثوب من خلف إن كانت هي الطالبة له وهو الهارب ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ﴾ أي فلما رأى زوجها أن الثوب قد شُقَّ من الوراء ﴿قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ﴾ أي إن هذا الأمر من جملة مكركن واحتيالكنَّ أيتها النسوة ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ تأكيد لما سبق ذكره أي مكركنَّ معشر النسوة واحتيالكنَّ
. وهكذا اجتاز يوسف محنته الثالثة بلطف الله ورعايته ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ﴾ هذه بداية المحنة الرابعة وهي الأخيرة من محن الشدة في حياة يوسف الصّديق وهي «محنة السجن» وكل ما بعدها فرخاء والمعنى ثم ظهر للعزيز وأهله ومن استشارهم بعد الدلائل القاطعة على براءة يوسف، سجنه إلى مدة من الزمن غير معلومة، روي ان امرأة العزيز لما استعصى عليها يوسف وأيست منه، احتالت بطريق آخر، فقالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر، وإما أن تحبسه، فعند ذلك بدا له سجنه قال ابن عباس: فأمر به فحمل على حمار، وضُرب بالطبل، ونُودي عليه في أسواق مصر، إن يوسف العبراني أراد سيدته فجزاؤه أن يسجن، قال أبو صالح ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلى بكى ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ﴾ أي أُدخل يوسف السجن واتفق أنه أُدخل حينئذٍ آخران من خدم الملك
.. ولما ذكر عليه السلام ما هو عليه من الدين الحنيف الذي هو دين الرسل، تلطَّفَ في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام فقال ﴿ياصاحبي السجنءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار﴾ أي يا صاحبيَّ في السجن أآلهة متعددة لا تنفع ولا تضر ولا تستجيب لمن دعاها كالأصنام، خيرٌ أم عبادة الواحد الأحد، المتفرد بالعظمة والجلال؟! ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ﴾ أي ما تعبدون يا معشر القوم من دون الله إلا أسماءً فارغة سميتموها آلهة وهي لا تملك القدرة والسلطان لأنها جمادات ﴿مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ﴾ أي ما أنزل الله لكم في عبادتها من حجة أو برهان ﴿إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ﴾ أي ما الحكم في أمر العبادة والدين إلا لله رب العالمين ﴿أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ أي أمر سبحانه بإفراد العبادة له، لأنه لا يستحقها إلا من له العظمة والجلال ﴿ذلك الدين القيم﴾ أي ذلك الذي أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي يجهلون عظمة الله فيعبدون ما لا يضر ولا
البَلاَغة: ١ - بين ﴿صَدَقَتْ﴾ و ﴿كَذَبَتْ﴾ و ﴿الصَّادِقِينَ﴾ و ﴿الكَاذِبِينَ﴾ طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
٢ - ﴿مِنَ الخاطئين﴾ من باب تغليب الذكور على الإِناث.
٣ - ﴿سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ﴾ استعير المكر للغيبة لشبهها له في الإِخفاء.
٤ - ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ كذلك فيه استعارة حيث استعار لفظ القطع عن الجرح أي جرحن أيديهن.
٥ - ﴿أَعْصِرُ خَمْراً﴾ مجاز مرسل باعتبار ما يكون أي عنباً يئول إلى خمر.
فَائِدَة: روي أن جبريل جاء إلى يوسف وهو في السجن معاتباً له فقال له: يا يوسف من خلصك من القتل من أيدي إخوتك؟ قال: الله تعالى، قال: فمن أخرجك من الجب؟ قال: الله تعالى، قال: فمن عصمك من الفاحشة؟ قال: الله تعالى، قال: فمن صرف عنك كيد النساء؟ قال: الله تعالى، قال: فكيف تركتَ ربك فلم تسأله ووثقت بمخلوق!؟ قال: يا رب كلمةٌ زلَّتْ مني أسألك يا إله إبراهيم وآله والشيخ يعقوب عليهم السلام أن ترحمني فقال له جبريل: فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين.
تنبيه: قال العلماء في قوله تعالى ﴿واستبقا الباب﴾ هذا من اختصار القرآن المعجز، الذي يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، وذلك أنها لما راودته عن نفسه وأبى، عزمت على أن
(شطحات بعض المفسرين في تفسير الهمّ)
لقد شطَّ القلم، وزلقت القدم ببعض المفسرين حين زعموا أن يوسف عليه السلام قد همَّ بمقارفة الفاحشة، وشُحنت بعضُ كتب التفسير بكثير من الروايات الإِسرائيلية الواهية، بل المنكرة الباطلة في تفسير «الهمّ» و «البرهان» حتى زعم بعضهم أن يوسف حلَّ رباط السروال، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته، ثم رأى صورة أبيه «يعقوب» عاضاً على أصبعه، فقام عنها وتركها خجلاً من أبيه إلى غير ما هنالك من أقوال واهية، لا زمام لها ولا خطام. ولستُ أدري كيف دخلت تلك الروايات المنكرة إلى بعض كتب التفسير، وتقبّلها بعضهم بقبول حسن، وكلُّها - كما يقول العلامة أبو السعود - خرافات وأباطيل، تمجّها الآذان، وتردها العقول والأذهان ﴿؟ ثم كيف غاب عن أولئك المفسرين أن «يوسف الصدّيق» نبيٌ كريم، ابن نبيٍ كريم، وأن العصمة من صفات الأنبياء﴾ ﴿يا قوم اعقلوا وفكروا، ونزّهوا هذه الكتب عن أمثال هذه التَّرهات والأباطيل، فإن الزنى جريمة من أبشع الجرائم فكيف يرتكبها نبيٌ من الأنبياء المكرمين؟ وهاكم الأدلة أسوقها من كتاب الله فقط على عصمته عليه السلام من عشرة وجوه:
الأول: امتناعه الشديد ووقوفُه أمامها بكل صلابه وعزم {قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ..﴾.
الثاني: فراره منها بعد أن غلَّقت الأبواب وشدّدت عليه الحصار ﴿واستبقا الباب وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ... ﴾.
الثالث: إيثاره السجن على الفاحشة ﴿قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ... ﴾.
الرابع: ثناء الله تعالى عليه في مواطن عديدة ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين﴾ ﴿حُكْماً وَعِلْماً﴾ فهل يكون مخلصاً لله من همَّ بفاحشة الزنى؟
الخامس: شهادة الطفل الذي أنطقه الله وهو في المهد بالحجة الدامغة ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ... ﴾ الآية.
السادس: اعتراف امرأة العزيز ببراءته وعفته ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم... ﴾.
السابع: استغاثته بربه لينجيه من كيد النساء ﴿فاستجاب لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ..﴾.
الثامن: ظهور الأمارات الواضحة والبراهين الساطعة على براءته وإِدخالِهِ السجن لدفع مقالة الناس ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ﴾.
التاسع: عدم قبوله الخروج من السجن حتى تبرأ ساحته من التهمة ﴿ارجع إلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ... ﴾ ؟.
العاشر: الاعتراف الصريح من امرأة العزيز والنسوة ببراءته ﴿قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين﴾. وكفى بذلك برهاناً على عفته ونزاهته} ! والله يقول الحقَّ وهو يهدي السبيل.
اللغَة: ﴿عِجَافٌ﴾ هزيلة ضعيفة جمع أعجف والأنثى عجفاء ﴿تَعْبُرُونَ﴾ التعبير: معرفة تفسير الرؤيا المنامية ﴿أَضْغَاثُ﴾ جمع ضِغث وهو الحزمة من الحشيش اختلط فيها اليابس بالرطب ﴿أَحْلاَمٍ﴾ جمع حُلم وهو ما يراه النائم ومعناه أخلاط منامات اختلط فيها الحق بالباطل ﴿وادكر﴾ تذكّر بعد النسيان ﴿دَأَباً﴾ الدَّأب: الاستمرار على الشيء يقال: دأب على عمله فهو دائب أي استمر عليه ﴿تُحْصِنُونَ﴾ تحرزون وتدخرون ﴿حَصْحَصَ﴾ ظهر وبان ﴿مَكِينٌ﴾ ذو مكانة رفيعة ﴿رِحَالِهِمْ﴾ جمع رحل وهو ما على ظهر المركوب من متاع الراكب وغيره ﴿نَمِيرُ﴾ نأتي لهم بالميرة وهي الطعام ﴿يُحَاطَ بِكُمْ﴾ تهلكوا جميعاً.
التفِسير: ﴿وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ﴾ أي قال ملك مصر إني رأيت في منامي سبع بقرات سمانٍ خرجت من نهرٍ يابسٍ، وفي أثرها سبع بقراتٍ هزيلة في غاية الهُزال فابتلعت العجافُ السمانّ ﴿وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾ هذا من تتمة الرؤيا أي ورأيتُ أيضاً سبع سنبلاتٍ خضر قد انعقد حبُّها وسبعاً آُخر يابسات قد استحصدت، فالتوتْ اليابسات على الخضر فأكلنهنَّ ﴿ياأيها الملأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ﴾ أي يا أيها الأشراف من رجالي وأصحابي أخبروني عن تفسير هذه الرؤيا ﴿إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ أي إن كنتم تجيدون تعبيرها وتعرفون مغزاها ﴿قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾ أي أخلاط رؤيا كاذبة لا حقيقة لها قال الضحاك: أحلامٌ كاذبة ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ﴾ أي ولسنا نعرف تأويل مثل هذه الأحلام الكاذبة ﴿وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ أي وقال نجا من السجن وهو الساقي وتذكّر ما سبق له مع يوسف بعد مدة طويلة ﴿أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ﴾ أي أنا أخبركم عن تفسير هذه الرؤيا ممن عنده علم بتأويل المنامات ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾ أي فأرسلوني إليه لآتيكم بتأويلها، خاطب الملك بلفظ التعظيم قال ابن عباس: لم يكن السجن في المدينة ولهذا قال فأرسلون ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق﴾ في الكلام محذوف دلَّ عليه السياق وتقديره: فأرسلوه فانطلق الساقي إلى السجن ودخل على يوسف وقال له: يا يوسف يا أيها الصِّديق وسمّاه صديقاً لأنه كان قد جرب صدقه في تعبير الرؤيا التي رآها في السجن، والصدّيق مبالغةٌ من الصدق ﴿أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾ أي أخبرنا عن
البَلاغَة: ١ - ﴿إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ﴾ صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية.
٢ - ﴿سِمَانٍ... وعِجَافٌ﴾ بينهما طباقٌ وكذلك بين ﴿خُضْرٍ... ويَابِسَاتٍ﴾ طباقٌ.
٣ - ﴿أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾ هذا من أَبلغ أَنواع الاستعارة وألطفها فإن الأضغاث هو المختلط من الحشيش المضموم بعضه إِلى بعض، فشبه اختلاط الأحلام وما فيها من المحبوب والمكروه، والخير والشر باختلاط الحشيش المجموع من أصناف كثيرة.
٤ - ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق﴾ هذا من براعة الاستهلال فقد قدَّم الثناء قبل السؤال طمعاً في إجابة مطلبه.
٥ - ﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾ فيه مجاز عقلي لأن السنين لا تأكل وإنما يأكل الناس ما ادَّخروه فيها، فهو من باب الإِسناد إلى الزمان كقول الفصحاء: نهارُ الزاهدِ صائم وليلُه قائم.
٦ - ﴿لأَمَّارَةٌ بالسواء﴾ لم يقل آمرة مبالغة في وصف النفس بكثرة الدفع في المهاوي، والقود إلى المغاوي لأن «فعّال» من أبنية المبالغة.
٧ - ﴿فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ بين عرف وأنكر طباقٌ.
٨ - ﴿لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾ فيه إطناب وهو زيادة اللفظ على المعنى، وفائدتُه تمكين المعنى من النفس، وفيه أيضاً من المحسنات البديعية ما يسمى «طباق السلب».
فَائِدَة: أثنى رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على يوسف الصدِّيق في كرمه وصبره وحلمه فقال: «لو لبثتُ في السجن ما لبثَ يوسفُ لأجبتُ الداعي» وكفى بهذا برهاناً على عفة يوسف ونزاهته عليه السلام.
اللغَة. ﴿تَبْتَئِسْ﴾ تحزن ﴿العير﴾ الإِبل التي عليها الأحمال ثم كثر الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عيرٌ ﴿صُوَاعَ﴾ الصُواع: الصاع الذي يكال به يُذكَّر ويؤنَّث وهو السقاية ﴿زَعِيمٌ﴾ كفيل ﴿سَوَّلَتْ﴾ زيَّنت وسهَّلت ﴿كَظِيمٌ﴾ ممتلئ من الحزن يكتمه ولا يبديه ﴿تَفْتَؤُاْ﴾ لا تفتأ ولا تزال من أخوات كان الناقصة ﴿حَرَضاً﴾ الحَرَض: المَرَض الذي يُشْفي على الهلاك قال الشاعر:
هممتُ بهمٍّ من بثيةً لو بدا | شفيتُ غليلاتِ الهوى من فؤاديا |
سَرَى همِّي فأَمْرضني | وقِدْماً زَادَنِي مَرَضاً |
كذاك الحُبُّ قبلَ اليَو | مِ ممّا يُورِثُ الحَرَضا |
التفسِير: ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ﴾ أي وحين دخل أولاد يعقوب على يوسف ﴿آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ أي ضمَّ إليه أخاه الشقيق بنيامين ﴿قَالَ إني أَنَاْ أَخُوكَ﴾ أي أنا أخوك يوسف، أخبره بذلك واستكتمه ﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي لا تحزنْ بما فعلوا بنا فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا بخير قال المفسرون: لما دخل إخوة يوسف عليه أكرمهم وأحسن ضيافتهم ثم أنزل كل اثنين في بيت وبقي «بنيامين» وحيداً فقال: هذا لا ثاني له فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه ويعانقه، وقال له: أنا أخوك يوسف فلا تحزن بما صنعوا، ثم أعمله أنه سيحتال لإبقائه عنده وأمره أن يكتم الخبر ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾ أي ولمّا قضى حاجتهم وحمَّل إبلهم بالطعام والميرة ﴿جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ أي أمر يوسف بأن تُجعل السقاية - وهي صاعٌ مرصَّعٌ بالجواهر - في متاع أخيه بنيامين ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ أي نادى منادٍ ﴿أَيَّتُهَا العير﴾ أي يا أصحاب الإبل ويا أيها الركب المسافرون ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ أي أنتم قوم سارقون، وإنما استحل أن يرميهم بالسرقة لما في ذلك من المصلحة من إمساك أخيه ﴿قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ﴾ ؟ قال المفسرون: لما وصل المنادون إليهم قالوا: ألم نكرمكم ونحسن ضيافتكم؟ ونوفّ إليكم الكيل؟ ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا: بلى وما ذاك؟ قالوا: فقدنا سقاية الملك ولا نتّهم عليها غيركم فذلك قوله تعالى: ﴿قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ﴾ أي التفتوا إليهم وسألوهم ماذا ضاع منكم وماذا فُقد؟ وفي قولهم ﴿مَّاذَا تَفْقِدُونَ﴾ بدل «ماذا سرَقْنا» إرشادٌ لهم إلى مراعاة حسن الأدب، وعدم المجازفة بنسبة البريئين إلى تهمة السرقة، ولهذا التزموا الأدب معهم فأجابوهم ﴿قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك﴾ أي ضاع منا مكيال الملِك المُرصَّع بالجواهر ﴿وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ﴾ أي ولمن جاءنا بالمكيال وردَّه إلينا حِمْلُ بعيرٍ
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى | فدعْني فهذا كله قبر مالك |
. ولما بلغ بهم الأمر إلى هذا الحد من الاسترحام والضيق والانكسار أدركته الرأفة فباح لهم بما كان يكتمه من أمره ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾ ؟ أي هل تذكرون ما فعلتم بيوسف وأخيه حال شبابكم وطيشكم؟ والغرض تعظيم الواقعة كأنه يقول: ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه! قال أبو السعود: وإنما قاله نصحاً لهم، وتحريضاً على التوبة، وشفقةً عليهم ﴿قالوا أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ﴾ أي قال إخوته متعجبين مستغربين: أأنت يوسف حقاً؟ ﴿قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي﴾ أي قال: نعم أنا يوسف وهذا أخي الشقيق ﴿قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ﴾ أي منَّ علينا بالخلاص من البلاء، والاجتماع بعد الفرقة، والعزة بعد الذلة ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ أي لا يبطل أجرهم ولا يضيع إحسانهم بل يجزيهم عليه أوفى الجزاء قال البيضاوي: ووضع المحسنين موضع الضمير للتنبيه على أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر ﴿قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا﴾ اعترافٌ بالخطيئة وإقرار بالذنب أي والله لقد فضَّلك الله علينا بالتقوى والصبر، والعلم والحلم ﴿وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ أي وحالُنا وشأننا أننا كنا مذنبين بصنيعنا الذي صنعنا بك، ولذلك أعزَّك الله وأذلنا، وأكرمك وأهاننا ﴿قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم﴾ أي قال لهم يوسف:
البَلاَغَة: ١ - ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾ فيه جناس الاشتقاق وكذلك في ﴿أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾.
٢ - ﴿فَأَسَرَّهَا... وَلَمْ يُبْدِهَا﴾ بينهما طباق.
٣ - ﴿شَيْخاً كَبِيراً﴾ فيه إطناب للاستعطاف.
٤ - ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ مجاز مرسل علاقته المحلية.
٥ - ﴿ياأسفى عَلَى يُوسُفَ﴾ بين لفظتي الأسف ويوسف جناس الاشتقاق.
٦ - ﴿تَالله تَفْتَؤُاْ﴾ إِيجاز بالحذف أي تالله لا تفتأ.
٧ - ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله﴾ فيه استعارة استعير الرَّوْح وهو تنسيم الريح التي يلذُّ شميمها ويطيب نسيمها، للفَرَج الذي يأتي بعد الكربة، واليُسر الذي يأتي بعد الشدة.
لطيفَة: ذكر القاضي عياض في كتابه «الشفا» أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ هذه الآية ﴿فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً﴾ فقال: أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام. وذلك أن الآية ذكرت صفة اعتزالهم لجميع الناس، وانفرادهم من غيرهم، وتقليبهم الآراء ظهراً لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث، فتضمنت تلك الآية القصيرة، معاني القصة الطويلة.
للغَة: {تُفَنِّدُونِ﴾ تنسبوني إلى الخَرَف قال الأصمعي: إذا كَثُر كلام الرجل من خَرَف فهو المفند وقال الزمخشري: التفنيد النسبة إلى الفَنَد وهو الخَرَف وإنكار العقل من هرم يقال: شيخ مُفند ولا يقال عجوز مُفْندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها ﴿ضَلاَلِكَ﴾ ذهابك عن الصواب ﴿البدو﴾ البادية ﴿نَّزغَ﴾ أفسد وأغوى وأصله من نزغ الراكب الدابة إذا نخسها ليحملها على الجري ﴿فَاطِرَ﴾ مبدع ومخترع وأصله من فطر إذا شقَّ ثم صار عبارة عن الخلق والإِيجاد ﴿غَاشِيَةٌ﴾ عذاب يغشاهم ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة ﴿بَأْسُنَا﴾ عذابنا ﴿عِبْرَةٌ﴾ عظة وتذكرة.
التفسِير: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ العير﴾ أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام ﴿قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ أي قال يعقوب لمن حضر من قرابته إني لأشمّ رائحة يوسف قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت ريح قميص يوسف وبينهما مسيرة ثمان ليال ﴿لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ﴾ أي تسفهوني وتنسبوني إلى الخَرَف وهو ذهاب العقل وجواب ﴿لَوْلاَ﴾ محذوف تقديره لأخبرتكم أنه حيٌّ ﴿قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم﴾ أي قال حفدته ومن عنده: والله إنك لفي خطأ وذهاب عن طريق الصواب قديم، بإفراطك في محبة يوسف، ولهجك بذكره، ورجائك للقائه قال المفسرون: وإنما قالوا ذلك لاعتقادهم أن يوسف قد مات ﴿فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير﴾ أي فلما جاء المبشر بالخبر السارّ
البَلاغَة: ١ - ﴿تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ﴾ أكدوا كلامهم بالقسم وإنَّ واللام وهذا الضرب يسمى (إنكارياً) لتتابع أنواع المؤكدات.
٢ - ﴿ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ﴾ جملة ﴿إِن شَآءَ الله﴾ دعائيةٌ جيء بها للتبرك وفي الآية تقدمي وتأخير تقديره: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله.
٣ - ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً﴾ أبواه المراد به الأب والأم فهو من باب التغليب، والرفع مؤخر عن الخرور وإن تقدم لفظاً للاهتمام بتعظيمه لهما أي سجدوا له ثم أجلس أبويه على عرش الملك.
٤ - ﴿وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ جملة ﴿وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ اعتراضية بين اسم ﴿مَا﴾ الحجازية وخبرها، وجيء بهذا الاعتراض لإفادة أن الهداية بيد الله جل وعلا وحده.
٦ - ﴿وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ ﴿إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ﴾ فيه من المحسنات البديعية «السجعُ» وهو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير.
تنبيه: دلَّ قوله تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب﴾ على أن الغرض من ذكر هذه القصص والأخبار، العظةُ والاعتبار، ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه، وإخراجه من السجن، وتمليكه مصر بعد العبودية، وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة واليأس من الاجتماع، قادرٌ على إعزاز محمد صلى الله عليه، وإعلاء شأنه، وإظهار دينه، وأن الإِخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإِخبار عن الغيوب، فكان ذلك معجزة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.