ﰡ
﴿ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾؛ أي لكي يُدرِكُوا معناهُ ويَفهَموا ما فيهِ، ولو نزلَ بغيرِ لغة العرب لم يعلموهُ.
وعن ابنُ عبَّاس أنَّهُ قَالَ: (لَمَا قَصَّ يُوسُفُ رُؤْيَاهُ عَلَى أبيهِ نَهَرَهُ وَزَجَرَهُ لِئَلاَّ يَفْطَنَ إخْوَتُهُ، وَقَالَ لَهُ فِي السِّرِّ: إذا رَأيْتَ رُؤْيَا بَعْدَهَا لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ). فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ﴾؛ لأن رؤيا الأنبياء وحيٌ، يعلم يعقوب أن الإخوة إذا سمعوا بها حسَدوهُ فأمرَهُ بالكتمان، وإنما كان قَصَّهَا على يعقوبَ فقط، وهذا القولُ أقربُ إلى ظاهرِ الآية، أي لا تُخبرهُم بذلك لئَلاَّ يحمِلُهم الحسدُ إلى قصدِكَ بسوءٍ، ومن الخضوعِ له على إنزال التثريب عليه والاحتيالِ لهلاكه، والكَيْدُ: هو طلبُ الشرِّ بالإنسان على جهةِ الغَيْظِ عليه. اختُلِفَ فيما عناهُ فيه هذه اللامِ التي في قولهِ تعالى: ﴿ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ﴾ قال بعضُهم: معناهُ: فيَكِيدُوكَ واللامُ صِلَةٌ كقولهِ تعالى:﴿ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾[الأعراف: ١٥٤]، وقال بعضُهم: هو مثلُ قولِهم: نصَحتُكَ ونَصحتُ لكَ وأشباههِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾؛ أي إنَّ الشيطان عدوٌّ ظاهرُ العدوان لبني آدمَ، فلا تذكُرْ رؤياكَ لإخوتِكَ؛ لئلا يحملُهم الشيطان على الحسَدِ وإنزال الضُّرِّ بكَ. وهذا أصلٌ في جوازِ تركِ إظهار النِّعمة عند مَن يُخشى حسدهُ وكَيدهُ، وإنْ كان الله تعالى: قال:﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾[الضحى: ١١]، وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ:" اسْتَعِينُواْ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بالْكِتْمَانِ، فَإنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ ".
﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ ﴾؛ قِيْلَ: معناهُ: من تأويلِ الرُّؤيا لأنَّ فيه أحاديثَ الناسِ عن رُؤياهم. وَقِيْلَ: معناهُ: أفْهَمَكَ عواقبَ الأمُورِ والحوادث. ويقالُ: يعلِّمُكَ الشرائعَ التي لا تُعْلَمُ إلا من قِبَلِ اللهِ تعالى. قَوْلُ تَعَالَى: ﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ ءَالِ يَعْقُوبَ ﴾؛ أي يُتِمُّ نِعمَتَهُ عليك بالنبوَّة كما أتَمَّ النعمةَ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾؛ أي يُتِمَّ النعمةَ أيضاً على أولادِ يعقوبَ بكَ؛ لأن ذلك يكون سرَّ حالِهم؛ أي تكون النبوَّةُ فيهم.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾، في أفعالهِ. وفي بعض التفاسيرِ: أنَّ يعقوب عليه السلام كان خطبَ إلى خالهِ ابْنَتَهُ راحيلَ على أن يخدمَهُ سبعَ سنين فأجابَهُ، فلما حلَّ الأجَلُ زوَّجَهُ ابنتَهُ الكبرى لاَيَا، فقالَ يعقوبُ لخالهِ: لَمْ يكن هذا على شَرطِي، قال: إنَّا لا نُنكِحُ الصغيرةَ قبلَ الكبيرةِ، فهَلُمَّ فَآخُذْ منِّي سبعَ سنين أُخرى وأزَوِّجُكَ راحيلَ، وكانوا يجمعون بين الأُختين، فرعَى يعقوبُ سبعَ سنين أُخرى وزوَّجه راحيل، ودفعَ لكلِّ واحدةٍ من ابنتيه أمَةً تخدمها فوهبتاهما ليعقوبَ عليه السلام فولَدت لاَيَا أربعةَ بَنين: روبيل وسَمعون ويهودَا ولاَوِي، ووَلَدت راحيل: يوسُفَ وبنيامين، وولدت الأَمَيَانِ: بنيامين وهابيل ودان ويسائيل وجادوان وآشير. فجملة بَنيهِ اثنا عشرَ ولداً سِوَى البنتينِ. فإن قالَ قائلٌ: إنْ كان يعقوبُ عَلِمَ أنَّ الله يجتبي يوسُفَ ويعَلِّمهُ مِن تأويلِ الأحاديث، فلِمَ إذاً قال:﴿ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ ﴾[يوسف: ٥]؟ وكيفَ قالَ لَهم:﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ ﴾[يوسف: ١٣] مع علمهِ أنَّ الله سيبعثهُ رَسُولاً؟والجوابُ: أنه عليه السلام كان عَالِماً من طريقِ القطعِ أنَّ الله سيُبلِغُهُ هذه المنْزِلة، ولكن كان مع ذلك يخافُ من وصُولِ الْمَضَارِّ إليه بكَيدِهم، وإنْ لم يخَفِ الهلاكَ. وأرادَ بقولهِ:﴿ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ ﴾[يوسف: ١٣] الزجرَ لهم عن التَّهاوُنِ في حفظهِ، وإنْ كان يعلمُ أن الذئبَ لا يَصِلُ إليه، ولذلك لَمْ يصَدِّقهم في قولِهم:﴿ فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ ﴾[يوسف: ١٧]، بل حاجَّهم بما يظهرُ به كَذِبُهم. وَقِيْلَ: أرادَ بقوله ﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ التخلُّصَ من السِّجنِ، كما خَلَّصَ اللهُ إبراهيمَ عليه السلام من النار، وإسحاقَ من الذبحِِ.
﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾؛ أي جماعةٌ وكانوا عشرةً، سُموا عصبةً؛ لأن بعضَهم يتعصَّبُ لبعضٍ، ويُعِينُ بعضُهم بعضاً. والعُصبَةُ: ما بين الواحدِ إلى العشرةِ، وَقِيْلَ: إلى الخمسةَ عشر. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾؛ أي من الْخَاطِئِين في تَرْكِ العدلِ في المحبَّة بينَنا لَفِي خطأ بَيِّنٍ من التدبيرِ باختياره الصغيرين، ولا منفعةَ له فيهما علَينا مع أنَّا نسعى في منافعه ونرعَى له غَنَمَهُ ونتعهَّدها.
﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ﴾؛ أي تَتُوبُوا بعدَ ذلك من هذا الذنب، ويصلحُ حالتكم مع أبيكم.
﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ ﴾؛ على الطريقِ. والغَيَابَةُ: هو الموضعُ الذي غابَ عن بصَرِكَ، والْجُبُّ: هو البئرُ التي لم يُطْوَ بالحجارةِ. قَوْلهُ تَعَالَى: ﴿ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾؛ معناهُ: قال لَهم: إنْ كُنتم لا بدَّ فَاعِلين به أمراً فَاعْدِلُوا إلى هذا الأمرِ، وإلاَّ فاتركُوا كلَّ ذلك. والظاهرُ من قولهِ (الْجُب) أنه جُبُّ مُشار إليه معروفٌ، قال وهب: (هُوَ بأَرْضِ الأُرْدُنِّ عَلَى ثَلاَثَةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَنْزِلِ يَعْقوبَ). فلمَّا أبْرمُوا هذا التدبيرَ وعَزَمُوا عليهِ تلَطَّفوا بالوصُول إلى مُرادِهم، وجَاؤُا إلى أبيهم، فقالوا كما قالَ اللهُ: ﴿ قَالُواْ يَٰأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾؛ أي مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عليه، فتُرسِلَهُ معنا وإنَّا له لناصحون في الرَّحمةِ والبرِّ. قولهُ: ﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾؛ أي يذهبُ ويجيء وينشطُ؛ ويقرأ كلاهما بالنُّون والياءِ. والرَّتْعُ: هو التردُّدُ يَميناً وشِمالاً للاتساعِ في الملاذِ. ومن قرأ (يَرْتَعْ) بالياء فهو من يَرْتَعُ؛ أي يرعَى ماشيتَهُ، واللَّعِبُ: هو الفعلُ الذي يطلبُ منه التَّفْرِيحُ من غيرِ عاقبةٍ محمودة، وهو على وَجهين: مباحٌ ومحظور، كما قالَ عليه السلام:" كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلاَّ ثَلاَثَةٌ: مُلاَعَبَةُ الرَّجُلِ أهْلُهُ، وَنَبْلُهُ بقَوْسِهِ، وَتأَدِيبُهُ فَرَسَهُ "﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾؛ عن الأَسْوَاءِ؛ وعن كلِّ ما يخافُ عليه.
﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾؛ ذكرَ شَيئين: الحزنُ لذهابهم، والخوفُ عليه أن يجده الذِّئبُ وحدَهُ وقتَ غَفلَتِهم عنه فيأكلَهُ. وكان يعقوبُ قد رأى في منامهِ كأَنَّ ذِئْباً قد عَدَا على يُوسفَ، فكان خَائفاً عليه، فمِن ذلك قال: ﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ ﴾.
﴿ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ﴾؛ أي لعَاجِزُونَ والْخُسْرَانُ هنا العجزُ.
﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾؛ بأنَّ يوسفَ في وقتِ إخباركَ إيَّاهم بأمرِهم، وكان فيما أُوحي إليه: أنِ اصبر على ما أصابَكَ واكْتُمْ حالَكَ، فإنَّكَ تُخبرُهم بما فَعَلُوا بكَ. وعن ابنِ عبَّاس: قال: (كَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ سَبْعَ عَشْرَةِ سَنَةً وَبَقِيَ فِي الْجُب ثَلاَثَةَ أيَّامٍ). وفي بعضِ الروايات: أنه لَمَّا أُلقِيَ في الْجُب جعلَ يقول: يا شاهداً غيرَ غائبٍ، ويا قريباً غيرَ بعيدٍ، ويا غالباً غيرَ مغلوبٍ: اجعَلْ لي من أمْرِي فَرَجاً ومَخرجاً، فأوحَى اللهُ إليه وهو في البئرِ: اصبرْ على ما أصابَكَ واكْتُمْ حالكَ، فإنَّكَ تخبرُ إخوانَكَ في وقتٍ عن ما فعَلُوا بكَ في وقتِ إخباركَ إيَّاهم بأمرِهم. ثم عَمَدوا إلى سَخْلَةٍ فذبَحوها، وجعلوا دَمَها على قميصِ يوسف.
﴿ وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ ﴾؛ أي يتَبَاكون.
﴿ قَالُواْ يَٰأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ﴾ أي نتسابقُ في الرَّمي، وَقِيْلَ: نُسابَقُ في الاصطيادِ.
﴿ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا ﴾؛ ليحفظَهُ.
﴿ فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾؛ أي بمُصدِّقٍ لنا في أمرِ يوسف لفَرطِ محبَّتِكَ له وتُهمَتِكَ إيانا فيه.
﴿ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾؛ محل الصدقِ عندكَ في غير هذا الحديثِ. ثم أرَوهُ قميصَهُ ملطَّخًا بالدمِ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾؛ أي بدَمٍ كذبٍ، فلمَّا نظرَ يعقوبَ إلى القميصِ قال: ما عهدتُ ذِئْباً حَلِيماً مثلَ هذا الذئب! فَكَيْفَ أكلَ لحمه ولم يخرِّقْ قميصَهُ؟! ولو أنَّهم كانوا مزَّقُوا قميصَهُ حين لطَّخوهُ بالدم، كان ذلك أبعدَ عن التُّهمةِ عنهم، ولكن لا بدَّ في المعاصِي أن يقترنَ بها الحزنان.
﴿ قَالَ ﴾؛ يعقوبُ: كَذبْتُمْ.
﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً ﴾ أي زيَّنت لكم أنفسُكم في هلاكِ يوسف فضيَّعتموهُ، ويقالُ: إن يعقوب كما قال لَهم: لو أكلَهُ الذئبُ فشَقَّ قميصَهُ! قالوا: لو قتَلهُ اللصوصُ لَمَا ترَكُوا قميصَهُ، هل يريدون إلا الثيابَ والمتاعَ، فَسَكَتوا متحيِّرين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾؛ أي فصبرٌ جَمِيلٌ أوْلَى من الجزَعِ، والصبرُ الجميل هو الذي لا شَكوَى فيه، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ﴾؛ أي معناهُ: أستعينُ باللهِ على الصبرِ في ما يقولون. ورُوي: (أنَّ شُرَيْحاً كَانَ جَالِساً لِلْقَضَاءِ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَبْكِي وَتَشْكُو، فَقِيلَ لَهُ: يُوشِكُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ مَظْلُومَةً، فَقَالَ شُرَيْحُ: قَدْ جَاءَ إخْوَةُ يُوسُفَ أبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ وَهُمْ كَذبَةٌ).
﴿ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ﴾ في البئرِ، فتعلَّقَ بها يوسفُ، فلم يَقدِرُوا على نَزْعِهِ، فنَظَرُوا فرأوا غُلاماً قد تعلَّقَ بالدَّلْوِ، فنادَى أصحابَهُ فَـ ﴿ قَالَ يٰبُشْرَىٰ هَـٰذَا غُلاَمٌ ﴾، قال: مَا ذاكَ يا مالِكُ؟ قال: غلامٌ أحسنَ ما يكون من الغِلمَانِ. فاجتمَعُوا عليه وأخرَجوهُ. قال كعبٌ: (كَانَ يُوسُفْ حَسَنَ الْوَجْهِ جَعِدَ الشَّعْرِ ضَخْمَ الْعَيْنِ مُسْتَوِيَ الْبَطْنِ صَغِيرَ السُّرَّةِ، وَكَانَ إذا تَبَسَّمَ رَأيْتَ النُّورَ فِي ضَوَاحِكِهِ، َلاَ يَسْتَطِيعُ أحَدٌ وَصْفَهُ، وَكَانَ حُسْنَهُ كَضَوْءِ النَّارِ وَكَانَ يُشْبهُ آدَمَ يَوْمَ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى قَبْلَ أنْ يُصِيبَ الْمَعْصِيَةَ). ويقال: إنه وَرِثَ ذلك الجمالَ من جدَّتهِ سارة، وكانت قد أُعطيت سُدُسَ الْحُسْنِ. وقولهُ تعالى: ﴿ قَالَ يٰبُشْرَىٰ هَـٰذَا غُلاَمٌ ﴾ من قرأ (يَا بُشْرِي) أي بياء الإضافة، فهو خطابٌ للفرَحِ على القلب، كما قالَ: يا فَرَحِي يا طُوبَايَ ويا أسَفِي. ومن قرأ بغيرِ ياء الإضافة فمعناهُ تبشيرُ الأصحاب، كما يقالُ: يا عَجَبَا ويرادُ به يا أيُّها القومُ اعجَبُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ﴾؛ أي أسَرَّ الذين وجَدُوا يوسُفَ من رُفَقَائِهم ومِن القافلة مخافةَ أن يَطلُبَ أحدٌ منهم الشِّركَةَ معهم في يوسف عليه السلام، قولهُ: ﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ﴾ نُصِبَ على المصدرِ؛ أي قالوا في ما بينَهم: إنَّا نقولُ إن أهلَ الماءِ استَبضَعُوكَ بضاعةً، ويجوزُ أن يكون ﴿ بضَاعَةً ﴾ نَصباً على الحالِ على معنى أنَّهم كَتَمُوهُ حين أعقَدُوا التجارةَ فيه. ويقال: إن قولَهُ ﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ﴾ راجعٌ إلى إخوَةِ يوسف، فإنه رُوي أنَّهم جَاؤُا بعدَ ثلاثةِ أيَّام فلم يجدُوا في البئرِ، فنظَرُوا فإذا القومُ نُزُولٌ بقُرب البئرِ، فإذا هم بيوسُفَ، فقالوا لَهم: هذا عبدٌ آبقٌ منذُ ثلاثةِ أيام، وقالوا لِيُوسُفَ: لئِنْ أنكرتَ أنَّكَ عبدٌ لنا فَلَنَقتُلَنَّكَ، وقالوا للقومِ: اشتَرُوا مِنَّا فذلك معنى قولهِ ﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ﴾ بأن طلَبُوا من يوسُفَ كتمانَ نسَبهِ، إلا أنَّ القولَ الأوَّلَ أقربُ إلى ظاهرِ الآية. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾؛ أي بيوسُفَ، وهذا يجرِي مجرَى الوعيدِ.
﴿ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ ﴾؛ في أمُورنا ونبيعُ فنربح في ثَمنِه.
﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾؛ نسبناه، وكان العزيزُ عَقيماً، أو حصُوراً لا يولَدُ له، إنما قالَ لِمَا رأى على يوسُفَ من الجمالِ والعقل والهداية إلى الأمُور. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي كما خلَّصناهُ من البئرِ وإخوته كذلك مكَّنَّاهُ فيها حتى بلَغَ ما بلغَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ ﴾؛ أي لنُعلِّمَهُ من ضُروب العلومِ.
﴿ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ ﴾ أي لا يقدرُ أحدٌ منكم دفعِ ما أرادَ من أمرهِ.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أن اللهَ غالبٌ على أمرهِ وهم المشركون.
﴿ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ ﴾؛ عليهِ وعليها وطلَبت منه أن يُواقِعَها، قولهُ ﴿ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ ﴾ قال المفسِّرون أغلَقَت سبعةَ أبوابٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ﴾؛ أي هَلُمَّ إلى ما هُيِّءَ لك، قرأ ابنُ كثير (هَيْتُ لَكَ) بفتح الهاء وضمِّ التاء، وقرأ أهلُ المدينة والشام بكسرِها وبفتح التاءِ، وقرأ الباقون بفتح الهاءِ والتاء، وهي قراءةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعناهُ جميعاً، هَلُمَّ وأقبلْ، قال مجاهدُ: (تَدْعُوهُ إلَى نَفْسِهَا وَهِيَ كَلِمَةُ حَثٍّ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي أعوذ باللهِ أن أفعلَ ما لا يجوزُ لِي فِعْلهُ. وَقِيْلَ: اعتصمُ باللهِ عن فعلِ ما تدُعُنَّني إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾؛ ذهبَ أكثرُ المفسِّرين إلى أنَّ معناهُ: إنَّ زوجَكِ سيِّدي أحسنَ تَربيَتي ومنْزِلَتِي مدَّة مُقامِي عندَهُ، لا أخونهُ في أهلهِ. سَمَّاهُ رَبّاً للرقِّ الذي كان ثبتَ له في الظاهرِ عليه. وَقِيْلَ: معناهُ: إن اللهَ تعالى ربي أحسنَ إلَيَّ بتخليصِي من البئرِ وما قصدَنِي قَومِي من الهلاكِ.
﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾؛ أي لا يأْمَنُ ولا ينجُو من عذاب الله الذين يظلِمُون أنفسهم، أراد بهم الزُّنَاةَ، ويجوزُ أن يكون أرادَ لو فَعَلَ ما دَعَتْهُ إليه لكان ظَالِماً لزَوجِها في أهلهِ. وفي قولهِ (هَيْتَ) خلافٌ من فتحِ التاء فلِسُكونِها وسكونِ الياء قبلَها نحوُ: كيفَ وأينَ، ومَن ضَمَّ التاءَ فعلى أنَّها مبنيَّةٌ على الضمِّ نحو حيثُ ومنذ، ومَن قرأ بفتحِ الهاء وكسرِ التاء فلأنَّ الأصلَ في التقاءِ السَّاكِنَين حركةُ الكسرِ، ويجوز أن يكون مبنيّاً على الكسرِ مثل أمسِ وجَيْرٍ.
وعن محمَّد بن كعبٍ القُرظي قال: (مَعْنَى ﴿ لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾: لَوْلاَ مَا عَلِمَهُ مِنْ قَبيحِ الزِّنَى، وَوُجُوب الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ) وَهَذا كُلُّهُ مَحْذُوفُ الْجَوَاب، وَجَوَابُهُ: لَوْلاَ ذلِكَ لَعَزَمَ عَلَى الْقُبْحِ، وَعَمِلَ عَلَى مقتضى شَهْوَتِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ ﴾؛ أي كما مكَّنَّا له في الأرضِ، كذلك أرَيْنَاهُ البرهانَ ﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ ﴾ أي الخيانةَ (وَالْفَحْشَاءَ) يعني الزِّنَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ ﴾؛ الذين أخلَصُوا دِينَهم للهِ، ومَن قرأ بفتحِ اللام فمعناهُ: مِن عِبادنا الذين أخلَصْنَاهم واصْطَفَيناهم.
﴿ إِلاَّ أَن يُسْجَنَ ﴾؛ أن يُودَعَ في السجنِ، أَوْ؛ يُعَذبَ.
﴿ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾؛ يعني الضَّربَ الوجيعَ. فلمَّا قالت المرأةُ ذلك، لَمْ يجدْ يوسُفُ بُدّاً من تبرئةِ نفسه.
﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾؛ أي طالَبَتني بمُرادِها من نفسي فأبَيتُ وفرَرْتُ منها، فأدرَكَتْنِي وشقَّتْ قَمِيصِي.
﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ ﴾، وكان مع زوجِها بالباب.
﴿ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾، ابنُ عمٍّ لها حكيم، فقال ابنُ عمِّها: ﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ﴾؛ إنْ كان شُقَّ القميصُ مِن قُدَّامِهِ.
﴿ فَصَدَقَتْ ﴾؛ فهي صادقةٌ.
﴿ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ﴾، وإنْ كَانَ من خَلْفِهِ فهو صادقٌ، وقال الضحَّاك: (كَانَ الشَّاهِدُ صَبيّاً فِي الْمَهْدِ فَأَنْطَقَهُ اللهُ تَعَالَى). قِيْلَ: كان ذلك الصبيُّ ابنَ خالِ المرأة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ ﴾؛ أي فلَمَّا رأى ابنُ عمِّها قُدَّ القيمصُ من خلفٍ، ويقال: فلمَّا رأى زوجُها ذلك.
﴿ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ﴾؛ أي قولُها ﴿ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا ﴾ من مَكْرِكُنَّ.
﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾.
ثم قالَ ليوسُفَ بعدَما ظهَرتْ براءتهُ: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا ﴾؛ يعني أمْسِكْ ذِكرَهُ حتى لا ينتشرَ في البلدِ وفي ما بين الناس، ثم أقبلَ عليها وقال: ﴿ وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ ﴾؛ فإن الخطابَ كان منكِ ألقَيتِهِ على يوسف. وقد احتجَّ مالكُ والحسنُ بن حيٍّ في الحكمِ بالعلامة بهذه الآيةِ: أنَّ اللُّقَطَةَ إذا ادَّعَاهَا مُدَّعٍ وَوَصَفَها وَجَبَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ أنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى مَذْهَبهِمَا. ولا حجَّةَ لهما في هذه الآيةِ، إذ لا خلافَ بين الفُقهاءِ أن الأملاكَ والأيدي لا تستَحقُّ بالعلاماتِ، فإنَّ العطَّارَ والدباغَ إذا اختلفَا في عِطْرٍ في أيدِيهما لم يكن العطارُ أوْلَى به من الدَّباغِ، وكذلك الاسكافِيُّ والصَّيرَفِيُّ إذا اختلفَا في حذاءٍ في يدِ الصيرفِيِّ لم يستحقُّهُ الاسكافِيُّ؛ لأن ذلك من صِنَاعتهِ. وعن مجاهد: (أنَّ امْرَأَتَيْنِ اخْتَصَمَتَا إلَى شُرَيْحٍ فِي وَلَدٍ لَهُنَّ، فَقَالَ شُرَيْحُ: ألْقُوهَا مَعَ هَذِهِ، فَإنْ هِيَ رَدَّتْ وَفَرَّتْ وَاسْتَفَزَّتْ فِهِيَ لَهَا، وَإنْ هَرَبَتْ وَفَرَّتْ فَلَيْسَتْ لَهَا). وكان ذا القولِ من شُريح على جهةِ ما يغلبُ في الظنِّ ليميِّز المبطلَ من المدعِيَين فنحكمُ عليه بالإقرار.
﴿ وَقَالَتِ ﴾؛ ليوسُف: ﴿ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾؛ وذلك أنَها كانت قد أجْلَسَتهُ في مجلسٍ غير الذي كُنَّ جلسنَ فيه. قال عكرمةُ: (وَكَانَ فَضْلُ يُوسُفَ عَلَى النَّاسِ فِي الْحُسْنِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى النُّجُومِ). وعن أبي سعيدٍ الخدري قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" " مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي فَرَأيْتُ يُوسُفَ عليه السلام، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذا؟ فَقَالَ: يُوسُفَ " قَالَ: كَيْفَ رَأيْتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ " "ورُوي أن يوسف عليه السلام كان إذا مشَى في أزِقَّة مصرَ يُرى نورُ وجههِ على الجِدَارَاتِ كما ترى نورَ الشمسِ والماء على الجدار. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ فخرجَ عليهن.
﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ﴾؛ أي عَظُمَ عندَهُن، وَ؛ بلغَ من شَغْلِ قُلوبهن برؤيته ما.
﴿ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾؛ بالسَّكاكين. قال قتادةُ: (قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ حَتَّى ألْقَيْنَهَا وَهُنَّ لاَ يَشْعُرْنَ)، ويقالُ: معنى (أكْبَرْنَهُ) أي حِضْنَ، ويقال: معنى (أكْبَرْنَ) آمَنَّ. قِيْلَ: أنَّهن كُنَّ يقَطِّعن أيديهن وهن يحسَبن أنَّهن يُقَطِّعنَ الأتْرَجُ، ولم يجدن الألَمَ لاشتغالِ قُلوبهن برؤيةِ يوسف. قال وهب: (وَبَلَغَنِي أنَّ سَبْعاً مِنَ الأرْبَعِينَ مِمَّنْ كُنَّ فِي ذلِكَ الْمَجْلِسِ وَجَدْنَ بيُوسُفَ عليه السلام). وقولهُ تعالى: ﴿ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً ﴾؛ أي قُلن معاذ اللهِ أن يكون هذا آدَمِيّاً.
﴿ إِنْ هَـٰذَآ ﴾، بل هو.
﴿ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾؛ من السَّماء، فشبَّهنَهُ بالْمَلَكِ وهُنَّ لا يَرَينَ الْمَلَكَ، ولكنَّ الناسَ إذا وصَفُوا بالْحُسْنِ شَبَّهوا بالْمَلَكِ. ومعنى ﴿ حَاشَ للَّهِ ﴾ أي تَنْزِيهاً للهِ، وفي قراءةِ الحسن (إنْ هَذا إلاَّ مَلِكٌ كَرِيمٌ) بكسر اللامِ، ويُقرأ (مَا هَذا بشِرِي) أي بعبدٍ مُشترى، وليست هذه القراءة بشيء. قَوْلُهُ تَعالَى: ﴿ قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾؛ أي قالت زُلَيخا: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيْهِ فِي حُبهِ وشغَفي به، وذا إشارةٌ إلى يوسُفَ ولكن مخاطبة لهن، ثم أقَرَّت لهن فقالت: ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ ﴾ أي دَعَوتُهُ إلى مُرادِي فامتنعَ بالعفَّة.
﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ ﴾ ما أدعوهُ إليه.
﴿ لَيُسْجَنَنَّ ﴾ في السِّجنِ.
﴿ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ ﴾؛ أي الأذِلاَّء فيه مع السُّرَّاق، وجعلت تقول هذا القول منها قبالته وهو جالسٌ يسمع. قال ابنُ عبَّاس: (فَلَمَّا قَالَتْ زُلَيْخَا هَذا الْقَوْلَ، قَالَ هَؤُلاَءِ النِّسْوَةُ لِيُوسُفَ: أطِعْ مَوْلاَتَكَ) فَقَالَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ ﴾ أي قالَ يوسفُ: يارب نزولُ السجنِ أحبُّ إلَيَّ مما يَدعُونَني إليه من قبيحِ الفعل، والسِّجنُ أسهلُ عليَّ من المعصيةِ. ومَن قرأ (السَّجْنُ) بفتح السين فهو المصدرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾؛ أي وإلاَّ تَلْطُفْ بي بما يصرِفُ عنِّي كيدَهُن أمِلْ إليهنَّ بهَوَاي.
﴿ وَأَكُن مِّنَ ﴾؛ بمنْزِلَة.
﴿ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾؛ في فِعْلي. وفي هذا دليلٌ على أنَّ النسوةَ طلَبن منه مثلَ ما طلبَتِ امرأةُ العزيزِ، فإنه روي أنَّهن لَمَّا رأينَ يوسف استأذنَّ امرأةَ العزيزِ أن تَخْلُو كلُّ واحدةٍ منهن بهِ، وتدعوهُ إلى امرأة العزيزِ وإلى طاعَتِها، فلمَّا خَلَونَ به دَعَتْهُ كلُّ واحدة منهن إلى نفسِها. قَوْلُهُ تَعَاَلَى: ﴿ فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ﴾؛ أي فأجابَهُ ربَّه في دعائهِ فصرفَ عنه كيدَهن، وعصَمَهُ من الفواحشِ.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴾ لدعاءِ عباده، العليمُ بضمائرِهم ونياتِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ ﴾ أي بَدَا للعزيزِ وأصحابه من بعدِ ما رَأوا العلاماتِ من شقِّ القميصِ وقطع الأيدِي وقضاء ابن عمِّها عليها، أن يحبسَهُ إلى مدَّة حتى تنقطعَ مقالةُ الناسِ، ويأتِي على هذا الحديثِ مدَّة، فحبَسهُ بعد ظهور عُذرهِ خمسَ سنين.
﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي العالِمين الذين أحسَنُوا العلمَ. وَقِيْلَ: من الْمُحسِنين إلينا إنْ قلتَ ذلك وفسَّرتَ رُؤيانا. وعن الضحَّاك في قولهِ تعالى: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ قال: (كَانَ إحْسَانُهُ إذا مَرِضَ رَجُلٌ فِي السِّجْنِ قَامَ عَلَيْهِ، وَإذا أضَاقَ وَسَّعَ عَلَيْهِ، وَإذا احْتَاجَ سَأَلَ لَهُ). وقيل: إحسَانهُ أنه كان يُداوِي مَريضَهم، ويُعزِّي حَزينَهم. قال: (فَكَرِهَ يُوسُفُ أنْ يُعَبرَ لَهُمَا لَمَا عَلِمَ فِيْهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ عَلَى أحَدِهِمْ، فَأَعْرَضَ عَنْ سَؤَالِهِمَا وَأخَذ فِي غَيْرِهِ) و ﴿ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ﴾؛ أي لا يَأتِكُما طعامٌ تَطعَمَانِهِ وتأكُلانهِ إلاّ نبَّأتُكما بتفسيرهِ وَلَونهِ أيَّ طعامٍ أكلتمُوهُ، قالاَ له: هذا مِن فعلِ الكَهَنةِ، قال: ما أنَا بَكاهنٍ وإنما: ﴿ ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ ﴾؛ أي شَريعَةَ آبَائي.
﴿ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾؛ وباقِي الآيةِ ظاهرُ المعنى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ ﴾؛ وذلك أنَّ يوسف عليه السلام رأى أهلَ السِّجن وبين أيدِيهم أصنامٌ يعبُدونَها فدعَاهم إلى الإسلامِ وألزَمَهم الحجَّةَ، فقالَ لَهم: أربابٌ متفرِّقون شتَّى لا تضرُّ ولا تنفعُ خيرٌ أمِ اللهُ الواحد القهَّارُ الذي لا ثانِي له؟ثم بيَّن عجزَ الأصنامِ وضَعفَها فقال: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ ﴾؛ آلِهة من غيرِ أن يكون لتلكَ التسميةِ حقيقةً.
﴿ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾ أي من حجَّة وبرهان.
﴿ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ﴾ أي ما القضاءُ والأمر والنَّهيُ إلا للهِ.
﴿ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ ﴾؛ أي الذي أدعُوكم إليه هو الدِّينُ القائمُ الذي يرضاهُ لا عِوَجَ فيه.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
﴿ عِجَافٌ ﴾؛ هالِكات من الهزالِ، وفي ﴿ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ﴾؛ التَوَينَ على الْخُضْرِ وغَلَبْنَ خُضرَتَهن. قولهُ تعالى: ﴿ لَّعَلِّيۤ أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أي لإِنَّ أرجِعَ بتأويلِ ذلك إلى الملِك والناسُ يعلمونَهُ. فقال له يوسفُ: أما سبعُ بقراتٍ سِمَانٍ فهي سبعُ سنين خَصْبَةٍ، وأما سبعُ بقرات عِجَافٍ فهي السُّنون السَّبع الْجَدْبَةِ، وأما سبعُ سُنبلات يابساتٍ فهو القحطُ والغَلاءُ في السِّنين الجدبَة، ثم عَلَّمَهُ يوسفُ عليه السلام كيف يصنَعون، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً ﴾؛ أي على ما هو عادتُكم في الزراعةِ، وَقِيْلَ: معنى قوله ﴿ دَأَباً ﴾ بجِدٍّ واجتهادٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ ﴾؛ أي فما حصَدتُم من الزَّرعِ، فاتركوهُ في سُنبُلِهِ ولا تدرسوهُ.
﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ﴾؛ مِن ذلك في كلِّ سَنة، وإنما أمَرَهم بهذا؛ لأن الحنطةَ إذا كانت في سُنبلها كانت أبقَى منها اذا دُرسَتْ، فإنَّها إذا دُرست تآكَلَت، وفَسَدت بمُضِيِّ المدَّة عليها.
﴿ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ﴾؛ إلا شيئاً قليلاً تُحصِنُونَهُ في موضعٍ من المواضع، ونسبَ الأكلَ إلى السِّنين القحطِ على التوسُّع؛ لأن الأكلَ كان يقعُ فيها.
فلمَّا رجعَ الرسولُ إليه وأخبرَهُ بمقالتهِ، قالَ الملِكُ: ائْتُونِي به، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ ﴾؛ قال له: إن الملِكَ يدعُوكَ.
﴿ قَالَ ﴾؛ له يوسفُ: ﴿ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ ﴾؛ سيِّدِكَ الملكِ.
﴿ فَاسْأَلْهُ ﴾؛ حتى يسألَ.
﴿ مَا بَالُ ﴾، عن شأنِ.
﴿ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾؛ أكُنَّ صادقاتٍ على يُوسُفَ أم كاذباتٍ عليه، وليعلمَ صحَّةَ بَراءَتِي، وأنِّي مظلومٌ بالحبسِ، وأبَى أن يخرُجَ مع الرسولِ.
﴿ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾؛ وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ صَبْرِ أخِي يُوسُفَ وَكَرَمِهِ، وَلَوْ كُنْتُ أنَا الَّذِي دُعِيتُ إلَى الْخُرُوجِ لَبَادَرْتُهُمْ إلَى الْبَاب، وَلَكِنَّهُ أحَبَّ أنْ يَكُونَ لَهُ الْعُذْرُ ".
﴿ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ ﴾؛ هذا جوابُ النسوةِ للملك بكلمة التَّنْزِيهِ، نزَّهنَ يوسفَ عن ما اتُّهِمَ بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ ﴾؛ أي من قبيحٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ ﴾؛ أي تَبَيَّنَ وظهرَ الحقُّ ليوسف.
﴿ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ ﴾؛ أي دعوتهُ إلى نفسي.
﴿ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾؛ في قولهِ إنه لَمْ يُراودْنِي. قال ابنُ عبَّاس: (فَرَجَعَ صَاحِبُ الشَّرَاب إلَى يُوسُفَ فَأَخْبَرَهُ بذلِكَ، فَقَالَ يُوسُفُ: ﴿ ذٰلِكَ ﴾، الَّذِي فَعَلْتُ مِنْ رَدِّي رَسُولَ الْمَلِكِ إلَيْهِ فِي شَأْنِ النِّسْوَةِ) ﴿ لِيَعْلَمَ ﴾ العزيزُ.
﴿ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ ﴾ في زوجتهِ في حال غَيْبَتهِ عنِّي. قال أهلُ الوعظ: فقال جبريلُ: بل ولاَ هَمَمْتَ بها، فقال يوسفُ: ﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ ﴾؛ فإن صحَّت هذه الروايةُ كان المعنى: وما أُبَرِّئُ نفسي من الْهَمِّ؛ أي ما أُزَكِّيها، وتزكيةُ النفسِ مما يُذمُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ ﴾؛ أي بالقبيحِ، وذلك لكثرةِ ما تَشتَهيهِ وتسارعُ إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ ﴾؛ أي إلا ما عَصَمني ربي بلُطفِه، و(ما) بمعنى (من)، كقولهِ﴿ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ ﴾[النساء: ٣]، وفي هذا دليلٌ أنَّ أحداً لا يمتنعُ من المعصيةِ إلا بعصمةِ الله، وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ أي غفورٌ لذنوب المذنِبين، رحيمٌ بهم بعد التوبةِ.
﴿ فَلَمَّا ﴾؛ دخلَ على الملكِ.
﴿ كَلَّمَهُ ﴾، قال: اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهِ وَأَعُوذ بكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ غَيْرِهِ، ثم سَلَّمَ عليه يوسف بالعربيَّة، فقالَ له: وما هذا اللسانُ؟ قال: لسانُ عَمِّي إسماعيل، ثم دعَا له بالعبرانيَّة، فقال له: وما هذا اللسانُ؟ قال: لسانُ آبَائِي. فأُعجِبَ الملكُ ما رأى منه. وكان يوسفُ يومئذٍِ ابنُ ثلاثين سَنة، فلما رأى الملك حَدَاثَةَ سِنِّهِ قال لِمَن عندَهُ: إنَّ هذا عَلِمَ تأويلَ رُؤيَايَ، ولَم تَعْلَمْهُ السحرةُ ولا الكهنة، ثم أجلسَهُ وقال له: إنِّي أحبُّ أن أسمعَ تأويلَ رُؤيَايَ شِفَاهاً منك. قال: أيُّها الملكُ، رأيتَ سبعَ بقراتٍ سِمَانٍ حِسَانٍ كشفَ لكَ عنهُنَّ النيلُ، خرجنَ عليكَ من شاطئهِ، فبينما أنتَ تنظرُ إليهن، ويُعجِبُكَ حُسْنُهُنَّ إذ نَضَبَ النيلُ وغَارَ ماؤهُ، فخرجَ من حَمْأَتِهِ وَوَجَلِهِ سبعُ بقراتٍ عِجَافٍ شُعْثٍ غيرِ مقلصات البُطون، ليس لهن ضُروعٌ ولهن أضراسٌ وأنياب وأكُفٌّ كَأَكُفِّ الكلاب، فاختطَفن بالسِّمانِ فافتَرسُوهنَّ افتراسَ السَّبُعِ، فأكلنَ لُحومَهن ومزَّقْنَ جُلودَهن ومَشْمَشَنَ مُخَّهُنَّ وحطَّمن عِظَامَهُنَّ. فبَينا أنتَ تتعجَّبُ إذ بسبعِ سنبلات خُضْرٍ وسبع آُخر سُود في منبتٍ واحد وأصولُهن في الماءِ، إذ هبَّت ريحٌ فجعلت اليابساتِ السودِ على الْخُضْرِ المثمِرات، فأشعَلَت فيهن النارَ فأحرقتهن، فهذا ما رأيتَ من الرُّؤيا. فقال الملكُ: واللهِ إن هذه الرؤيا وإنْ كانت عَجَباً، فإن الذي سمعتُ منك أعجَبُ، فما ترَى فيها؟ فقال تَأْويلُها كذا وكذا كما قد تقدَّم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾؛ أي قالَ له الملكُ: إنَّك اليومَ لدينا مُتَمَكِّنٌ من فعلِ ما تريدُ، نافذُ القولِ والأمرِ، قد ظهَرت أمَانَتُكَ، وظهرَ كَذِبُ النساءِ عليكَ، ولم تظهرْ منكَ خيانةٌ.
﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ ﴾.
ورُوي أن الملكَ تَوَّجَهُ وأعطاهُ سَيْفَهُ ووضعَ له سَريراً من ذهبٍ مُكَلَّلاً بالدُّرِّ والياقوتِ، ثم أمرَ بأن يجلسَ عليه، فجلسَ ولَزِمَ الملكُ بيته وفوَّضَ إليه كلَّ أمُورهِ، وذلَّت له سائرُ الملوكِ، فلَطَفَ يوسفُ بالناسِ وأقامَ فيهم العدلَ وأخذ يدعوهم إلى الإسلامِ، فأحبَّهُ الناسُ كلهم وآمَنَ كثيرٌ منهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾؛ على إحسانِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾؛ أي ولَثَوابُ الآخرةِ خيرٌ من ثواب الدُّنيا للذين آمَنُوا بالله وكتُبهِ.
﴿ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾؛ الكفرَ والفواحشَ.
﴿ فَعَرَفَهُمْ ﴾؛ أنَّهم إخوَتهُ.
﴿ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾، وكانوا لا يعرفونَهُ لطُولِ العهدِ؛ لأنَّهم كانوا رَأوْهُ صَغيراً، ولم يظُنُّوا أنه يصيرُ مَلِكاً، فأَمَارَهُمْ وأحسنَ إليهم، وفاوضَهم في الحديثِ حتى حدَّثوهُ بحديث أبيهم، وقالوا: إنَّ لنا أباً شَيخاً كبيراً وكُنا اثني عشرَ، فهلكَ واحدٌ منَّا في الغنَمِ ووجدنا قميصَهُ وعليه دمٌ فأتَينا به أبَانَا، ولهُ أخٌ وهو آثرُ إلى أبينَا مِنَّا.
﴿ وَأَنَاْ خَيْرُ ٱلْمُنْزِلِينَ ﴾؛ للأُمور منَازلُها.
﴿ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ ﴾؛ مرَّة أُخرى.
﴿ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ﴾؛ أن سنَجِيء به، وخافَ يوسفُ أن لا يكون عند أبيهم من الرِّزقِ ما يرجِعُون به إليه مرَّة أُخرى. فأمَرَ أن يجعلَ درَاهِمَهم في أوعِيَتهم من غيرِ علمٍ لَهم، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ ٱجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ ﴾؛ أي قالَ يوسفُ لِخُدَّامِهِ مِن مماليكهِ: اجعَلُوا دَراهِمَهم ودنانِيرَهم التي جَاؤُا بها في رحالِهم.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا ٱنْقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ ﴾، لكي يعرِفُوا هذه الكرامةَ مِنِّي. ويقال: كي يعرِفُوا أنَّها دَرَاهِمي.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾، فيرجِعُوها فيردُّوها عَلَيَّ.
﴿ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ ﴾؛ لنَا ولَهُ. ومن قرأ (يَكْتَلْ) بالياء أي يكتل أخُونَا، يأخذ لنفسهِ حِمْلاً.
﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾؛ حتى نَرُدَّهُ عليكَ. ﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ ﴾؛ يوسُفَ.
﴿ مِن قَبْلُ ﴾؛ فضيَّعتموهُ وغيَّبتموهُ عني، ولئن أرسلتُ معكم بنيامين.
﴿ فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً ﴾، أي فعلَى اللهِ أتوكَّلُ، فإنَّ حِفْظَ اللهِ خيرٌ من حفظِكم. ومن قرأ (حَافِظٍ) أي خيرُ حافظٍ، وكُلاًّ نُصب على التمييزِ.
﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ ﴾.
قال كعبٌ: (لَمَّا قَالَ يَعْقُوبُ: واللهُ خَيْرٌ حَافِظاً، قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَعَزَّتي لأَرُدَّنَّ عَلَيْكَ كِلاَهُمَا بَعْدَ مَا تَوَكَّلْتَ عَلَيَّ).
﴿ قَالُواْ ﴾؛ لأَبيهم: ﴿ يٰأَبَانَا مَا نَبْغِي ﴾؛ أي ما نظلِمُ ولا نكذبُ في ما أخبَرنَاكَ به أنَّ مَلِكَ مصرَ أكرَمَنا وألطفنا، وهذا إذا كان قولهُ: ﴿ مَا نَبْغِي ﴾ من البغيِ، فأما إذا كان من الطلب، فمعناهُ الاستفهامُ دون الجحدِ، وموضع (مَا) نَصْبٌ تقديرهُ أيُّ شيءٍ نريدُ، وفي قراءةِ عائشةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَا نَبْغِي مَعْنَاهُ مَا نَطْلُبُ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَـٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ﴾؛ ابتداءُ كلامٍ معناهُ: درَاهمنا وهي ثمنُ الطعامِ الذي اشتريناهُ بمصرَ رُدَّتْ إلينا، وقولهُ تعالى: ﴿ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ﴾؛ أي نَمْتَارُ لأهلنا، بقولهِ مَارَ فُلانٌ لأَهْلِهِ إذا حَمَلَ إليهم قُوتَهم من غيرِ بلدةٍ. ومَن قرأ (نُمِيرُ) بضم النون، أي نجعلهم أصحابَ مِيرَةٍ.
﴿ وَنَحْفَظُ أَخَانَا ﴾؛ مِن أن يضيعَ.
﴿ وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ﴾؛ إذا كان هُوَ مَعنا، وسُمي الْحِمْلُ كَيْلاً؛ لأنه يُكَالُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ﴾؛ أي هَيِّنٌ سريع لا حَبْسَ فيه إنْ أرسَلتَهُ معَنا.
﴿ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً ﴾؛ أي تُعطونِي عَهْداً وثيقاً.
﴿ مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ﴾؛ لتَرُدُّنَّهُ عليَّ.
﴿ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾، يُنْزِلُ بكُم أمِينُ السَّماءِ والأرض لا تَقدِرُون على دفعِ ذلك.
﴿ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ﴾؛ أي لما حَلَفوا.
﴿ قَالَ ﴾؛ لَهم يعقوبُ: ﴿ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾؛ أي شهيدٌ حفيظ.
﴿ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ﴾؛ أي ما القضاءُ إلا للهِ.
﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾؛ إليهِ فوَّضتُ أمرِي وأمْرَكم مع التمسُّك بطاعتهِ والرضا بقضائهِ.
﴿ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ ﴾.
واختلفَ العلماءُ في أمرِ العَيْنِ، فقالَ بعضُهم: هي حَقٌّ، واستدَلُّوا بما" رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ عَوَّذ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَرَقَّى لَهُمَا مِنَ الْعَيْنِ وَقَالَ " وَأُعِيذُكُمَا باللهِ مِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ " "، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" وَالْعَيْنُ حَقٌّ "وقال بعضُهم: إنه يَمْتَدُّ من عينِ الناظر أجزاء، فتتصلُ بما يَسْتَحسِنهُ فتؤثِّرُ فيه كتأثيرِ اللَّسْعِ من النارِ والسُّمِّ. وأنكرَ بعضُ العلماءِ الإصابةَ بالعينِ؛ لأنه لا شُبهةَ في أنَّ الأمراضَ والأسقامَ لا تكون إلا مِن فعلِ اللهِ؛ لأن الإنسانَ لا يقدرُ على ذلكَ. وفي قولهِ: ﴿ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ بيانُ أنه لا ينفعُ حَذرٌ مِنْ قَدَرٍ.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ ذلكَ.
﴿ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ﴾، أي فلما رَحَلت إخوةُ يوسفَ نادَى مُنَادٍ: ﴿ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾؛ وكان النداءُ على ظنٍّ مِن هؤلاءٍ الموَكَّلِين بالصاع أنَّهم كذلكَ. ولم يكن هذا النداءُ بأمر يُوسف ولا يعلمهُ؛ لأن الأنبياءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ لا يَأْمُرُونَ بالكذب، ومَن قالَ: إنَّ هذا النداءَ كان بأمرِ يُوسُفَ، فيحتملُ أنْ يكون معناهُ: إنَّكم لسَارِقُونَ يُوسُفَ على أبيهِ حين غيَّبتموهُ عنه. والعِيرُ اسمٌ لقافلةِ الْحَمِيرِ دُون قافلةِ الإبل، ثم كَثُرَ استعمالهُ في كلِّ قافلةٍ.
{ قَالُواْ نَفْقِدُ ﴾؛ أي نَطْلُبُ.
﴿ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ ﴾؛ والصُّوَاعُ والصَّاعُ واحدٌ وهو السِّقايَةُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ﴾؛ من الطَّعامِ.
﴿ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ﴾؛ أي كَفِيلٌ، قالَ هذا القولَ المؤَذِّنُ، وقال لَهم أيضاً: إنَّ الملِكَ قَدِ اتَّهَمَنِي، وأخافُ عقوبتَهُ وسقوطَ مَنْزلَتي عندَهُ إنْ لم أجدِ الصَّاعَ.
﴿ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾؛ ما تَظُنُّونَهُ.
﴿ قَالُواْ جَزَآؤُهُ ﴾ السارقُ.
﴿ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ﴾ أُخِذ عَبداً لسَرِقته.
﴿ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ﴾ استِرقاقهُ.
﴿ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ ﴾ أي هكَذا جزاءُ السَّارقين في أرضِنا وهي سُنَّةُ يعقوبَ عليه السلام، حَكَمُوا على أنفُسِهم بما كان يطلبُ يوسُفَ من احتباسِ أخيه.
﴿ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ ﴾؛ فلَمَّا فتَّشَ وعاءَ أخيهِ وجدَ الصَّاعَ، فلما رأى أخوةَ يوسُفَ ذلك، تحيَّرُوا ونَكَّسُوا رُؤوسَهم، وقالوا لبنيامين: يَا ابْنَ المشؤومةِ وأخُوا المشؤومِ! ما الذِي حَمَلَكَ على أن تسرُقَ صُواعَ الملكِ فتَفضَحَنا وتُزْري بأَبيكَ يعقوبَ، فجعلَ يحلِفُ باللهِ ما سرقتهُ ولا عِلْمَ لِي بمن وضعَهُ. فلم يقبَلُوا منهُ وقالوا له: فمَن وضعَهُ في متَاعِكَ؟ قال: الذي وضعَ بضاعَتَكم في رحالِكم في المرَّة الأُولى، فقالُوا فيما بينهم: لعلَّ هذا الملكُ يريد بنَا أمراً، فبينما هُم في الخصومةِ إذ أقبلَ فتى يُوسف فأخذ برَقبَةِ بنيامينَ وذهبَ به إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ ﴾ كذلك ضَنَعنا ليوسُفَ حتى أخذ أخاهُ، وفي هذا دليلٌ على أنَّ يوسُفَ كان مأْذُوناً له من جهةِ الله في هذه الحيلةِ ليُضَاعِفَ الثوابَ ليعقوبَ على فَقدِهما. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾؛ أي ما كان ليأخُذ أخاهُ في قضاءِ الملك، لأن من حُكمِ الملكِ في السَّارق أن يُضْرَبَ ويَغْرَمَ ضِعْفَي ما سَرَقَ، فلم يكن يوسفُ يتمكَّنُ من حبسِ أخيه عندَهُ في حُكمِ الملكِ لولا ما كادَ اللهُ له تلطُّفاً حتى وجدَ السبيلَ في ذلك، وهو ما جرَى عليه ألسِنَةُ إخوتهِ أنَّ جزاءَ السارقِ الاسترقاقُ، فأمِرُوا به وكان ذلك مُراده، وهو معنى قولهِ ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾ وكان ذلك بمشيئةِ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ ﴾؛ أي في العلمِ كما رفَعنا درجةَ يوسف.
﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾؛ أي فوقَ كلِّ عالِم عالِمٌ حتى ينتهِي العلمُ إلى اللهِ.
﴿ مِن قَبْلُ ﴾؛ أي قالَ أخوةُ يوسف: إنْ يسرِقْ بنيامينُ سقايةَ الملكِ ﴿ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ﴾ يَعْنُونَ يوسف، وذلك أنَّ عمَّةَ يوسف كانت تُحِبُّهُ وهو صغيرٌ، وكان يعقوبُ لا يتركهُ عندَها، فاحتَالَتْ وجاءَتْ بمِنْطَقَةِ أبيها إسحاقَ فشَدَّتْها على وسط يوسُفَ تحتَ القميصِ، ثم قالت: فقد سَرَقَ مِنْطَقَةَ أبي فأنا آخذهُ بذلكَ. فهي التي أرادَ إخوتهُ بإضافتِهم السرقةَ إليه. وعن مجاهدٍ: (أنَّ يُوسُفَ جَاءَهُ سَائِلٌ يَوْماً، فَسَرَقَ بَيْضَةً مِنَ الْبَيْتِ فَنَاوَلَهُ إيَّاهَا، فَعَيَّرُوهُ بذلِكَ). وَقِيْلَ: كان يُخَبىءُ الطعامَ من المائدةِ للفُقراء، وَقِيْلَ: جاءَ سائلٌ ولم يكن في المنْزِل معه أحدٌ، فأعطاهُ جَدْياً من غيرِ أمرِ أبيه فهذه سرَقتهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ﴾؛ أي أخَّرَ هذه الكلمةَ في نفسهِ، ولم يُظهِرْ لَهم جَواباً، بل ﴿ قَالَ ﴾؛ في نفسهِ: ﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾؛ أي صُنعاً من يوسُف بما قدَّمتُم عليه من ظُلْمِ أخيكم وعُقوقِ أبيكُم.
﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ﴾؛ به يُوسُفَ.
﴿ أَن نَّأْخُذَ ﴾؛ أي أن آخُذ بالسَّرقة.
﴿ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ﴾؛ إذا فَعَلنا ذلك كُنَّا ظَالِمين، نحبسُ مَن لم نجِدْ متَاعَنا عندَهُ. يجوزُ أن يكون أرادَ إنَّا.
﴿ إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ ﴾، عندكم وفي حكمكم.
﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ ﴾ أي أرضَ مصرَ.
﴿ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ ﴾ في البَرَاحِ.
﴿ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي ﴾؛ في موتٍ، أو وصُولٍ إلى أخِي فأَرُدُّهُ إلى أبيهِ ﴿ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ ﴾؛ لا يحكمُ إلا بالحقِّ. ثُم قالَ لإخوتهِ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ ﴾؛ صُوَاعَ الملكِ. وقرأ ابنُ عبَّاس (سُرِّقَ) بضمِّ السين وتشديدِ الراء.
﴿ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ﴾؛ إخبارٌ عن ظاهر وجودِ الصَّاع في رَحْلِ بنيامين أنه هو الآخذُ له.
﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾؛ أي ما كُنَّا ندري باطنَ الأمرِ في السَّرقة أنه سَرَقَ أو كُذِبَ عليه.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ﴾؛ بعبادهِ.
﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ في تدبيرِ أمرِ خَلْقِهِ.
﴿ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ ﴾؛ أي أقْبلْ أيُّها الأسَفُ فقد حانَ وقتُكَ، والأسَفُ والحزنُ واحدٌ. وَقِيْلَ: الأسَفُ أشدُّ من الحزنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ ﴾، من شدَّة البُكاءِ وإلاَّ فالحزنُ لا يُبَيِّضُ العينَ، والدمعُ مما لا يمكن الاحترازُ عنه كما قالَ صلى الله عليه وسلم:" الْقَلْبُ يَحْزَنُ وَالْعَيْنُ تَدْمَعُ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾؛ أي مُمسِكٌ للحُزنِ يتردَّدُ حزنهُ في جَوفهِ، وقال عطاءُ: (الْكَظِيمُ الْحَزِينُ)، وقال الضحَّاك: (كَمِيدٌ)، وقال ابنُ عبَّاس: (مَهْمُومٌ) قال مقاتلُ: (لَمْ يُبْصِرْ بعَيْنَيْنِ سِتَّ سِنِينَ حَتَّى كَشَفَهُ اللهُ بقَميصِ يُوسُفَ)، قِيْلَ: بلغَ من حُزنِ يعقوبَ حزن سَبعين ثكلَى.
قال وهبُ بن مَنبه: (أوحَى اللهُ إلى يعقوبَ: أتدري لِمَ عاقبتُكَ وحبستُ عنك يوسف ثمانين سنةَ؟ فقالَ: لاَ، قال: لأنَّكَ شويتَ وقتَّرْتَ على جارِكَ وأكلتَ ولم تُطعِمْهُ!). ويقالُ: إن سببَ ابتلاءِ يعقوب، أنه كان له بقرةٌ وكان لها عِجْلٌ، فذبحَ عِجلَها بين يديها وهي تخورُ، فلم يَرحَمْها يعقوبُ فأخذهُ الله به وابتلاهُ بفقدِ أعزِّ أولادهِ من وسيطٍ الواحد!قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾؛ أي أعلمُ أن رُؤيا يوسف صادقةٌ وإنَّا سنسجدُ له. وَقِيْلَ: أعلمُ أن يوسف حيٌّ لم يَمُتْ؛ لأنه رويَ أن مَلَكَ الموتِ دخلَ على يعقوبَ، فقال له يعقوبُ: هل قبضتَ روحَ ولَدي يوسف في الأرواحِ؟ قال: لاَ وستراهُ عاجلاً. فعندَ ذلك قال يعقوبُ لأولادهِ كما قَالَ اللهُ تََعَالَى: ﴿ يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾؛ أي اذهَبُوا واسْتَخْبرُوا واطلبُوا يوسف وأخاهُ، وقال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: فالْتَمِسُوا يُوسُفَ وَأخَاهُ).
﴿ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي لا تقنَطُوا من فَرَجِ اللهِ.
﴿ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ ﴾؛ وسُئل ابنُ عبَّاس عن الفرقِ بين التَّحْسِيسِ والتَّجْسِيسِ، فقالَ: (التَّحَسُّسُ فِي الْخَيْرِ، وَالتَّجَسُّسُ فِي الشَّرِّ). ورُوي أن يعقوبَ كتبَ كتاباً إلى عزيزِ مصرَ: بسمِ الله الرَّحمنِ الرحيم: من يعقوبَ بن اسحاقَ بن إبراهيم إلى عزيزِ مصرَ، أمَا فإنَّا أهلُ بيتٍ موَكَّل بنا البلاءُ، ابتلَى اللهُ جَدِّي بأن طُرِحَ في النار فجعلَها اللهُ عليه بَرْداً وسَلاَماً، وابتَلَى عمِّي إسماعيلَ بالذبْحِ، ففداهُ اللهُ بكَبْشٍ عظيمٍ، وابتلَى أبي بالعمَى، وابتُلِيتُ أنا بغَيْبَةِ ابنِي يوسُفَ فذهبَ بصَرِي، وزعمتَ أنَّ ابني سَرَقَ، وما ولدتُ سَارقاً، فخَلِّ سبيلَ ابني وإلا فإن اللهَ يفعلُ ما يشاء. ثم دفعَ الكتابَ إلى أولادهِ وقال لَهم: إذا دخلتُم عليه فقولوا: يَا أيُّاَ الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأهْلَنَا الضُّرُّ، فذلكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ ﴾؛ أي فلمَّا دخَلُوا في المرَّة الثالثةِ قالوا: يا أيُّها العزيزُ مسَّنَا وأهلَنا الشدَّةُ من القحطِ.
﴿ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ ﴾؛ أي قليلةٍ كاسِدَة، والْمُزْجَاةُ: هي الشيءُ اليسير الذي يدافَعُ بهِ. روي أنَّهم جاؤُوا بمتاعِ الأعراب مثل الأقطِ والْجُبْنِ والسَّمْنِ والصوفِ، وَقِيْلَ: جاؤُا بدراهم رَديئةٍ لا تنفَقُ في الطعامِ، وقال الضحاك: (النِّعَالُ وَالأَدْمُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ ﴾؛ أي وفِّر لنا الكيل، كما كنت توفر في السنين الماضية، ولا تنظر الى قلة بضاعتنا في هذه السنة، وتصدق علينا بنقصان السعر. وقال سفيان بن عيينة: (سَأَلُوا الصَّدَقَةَ وَهُمْ أنْبيَاءُ، وَكَانَتْ حَلاَلاً لَهُمْ، وَإنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم)، وكره مجاهد أن يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علينا، فان الصدقة إنما هي ممن يبتغي الثواب، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ ﴾؛ أي على صدقاتهم بأفضل منها.
﴿ قَالُوۤاْ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ ﴾؛ بصبرِنا على الشدَّة.
﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ ﴾؛ المعاصيَ.
﴿ وَيَِصْبِرْ ﴾؛ على الشدائدِ.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ﴾؛ أي ثوابَ ﴿ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾.
﴿ وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾؛ أي وقد كُنَّا عَاصِينَ للهِ في ما فَعَلنا، وهذا يدلُّ على أنَّهم نَدِموا على ما فعلوا.
﴿ يَأْتِ بَصِيراً ﴾؛ كما كانَ، قال الضحَّاك: (كَانَ ذلِكَ الْقَمِيصُ مِنْ نَسْجِ الْجَنَّةِ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾، رُوي أنُّهم كانوا نحو سَبعين إنساناً. وقولهُ تعالى: ﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ ﴾؛ رُوي أنه لمَّا خَرجت القافلةُ من العريشِ وهي قريةٌ بين مصرَ وكنعان، بينهم وبين يعقوب ثَمانية أيَّام.
﴿ قَالَ أَبُوهُمْ ﴾؛ قال يعقوبُ لولدِ وَلَدِه، وكان أولادُه كلُّهم بمصرَ: ﴿ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾.
رُوي أن الريحَ حَملت رائحةَ يوسف إلى أبيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ﴾؛ تُسَفِّهُونِي في الرأيِ لقُلتُ إنه حيٌّ. وقال الخليلُ: (الْفَنْدُ إنْكَارُ الْعَقْلِ مِنْ هَرَمٍ، يُقَالُ شَيْخٌ مُفْنِدٌ، وَلاَ يُقَالُ عَجُوزٌ مُفْنِدَةٌ؛ لأنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي شَبيبَتِهَا ذاتَ رَأيٍ فَتُفْنِدُ). وقال ابنُ عبَّاس: (تُفَنِّدُونِ تُجَهِّلُون)، وعن مجاهد: (لَوْلاَ أنْ تَقُولُوا ذهَبَ عَقْلُكَ)، وقال الضحَّاك وابنُ جبير: (لَوْلاَ أنْ تُكَذِّبُونِ)، وَقِيْلَ: لولا أنْ تقولوا إنِّي شيخٌ خَرِفٌ، وقال أبو عُبيدة: (تُضَلِّلُونِ)، والفَنْدُ الْفَسَادُ، قال الشاعرُ: يَا صَاحِبَيَّ دَعَا لَوْمِي وَتَفْنِيدِي فَلَيْسَ مَا فَاتَ مِنْ أمْري بمَرْدُودِوفي بعضِ الرِّوايات: أنَّ ذلك القميصَ كان من الجنَّة، وكان اللهُ ألبسَهُ إبراهيمَ حين أُلقي في النار فصارت عليه بَرْداً وسلاماً، ثم كساهُ إبراهيمُ اسحاقَ وكساهُ يعقوبَ، وكان يعقوبُ أدرَجَ ذلك القميصَ في قصبةٍ وعلَّقه على يوسف لما كان يخافُ عليه من العينِ. وأمرَهُ جبريلُ أن أرسِلْ إليه قميصكَ هذا فإن فيه ريحَ الجنَّة، لا يقعُ على مُبتَلَى أو سَقيمٍ إلا عُوفِيَ، فلذلك أصابَ يعقوب ريحه من بعد ثمانيةِ أيَّام.
﴿ قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ ﴾.
﴿ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾؛ أي مسيئين عاصِين لله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيۤ ﴾؛ رُوي أنه قال لَهم يوسف: أدعُو لكم ربي ليلة الجمعة آخرَ السَّحَر.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ﴾؛ لعبادِه.
﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾ لَهم، ويقال: إنَّهم التَمَسُوا منه أن يستغفرَ لهم على الدوامِ، وأن يجعلَهم في ورْدِهِ في الدُّعاء.
﴿ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ ﴾ أي أحسنَ إلَيَّ.
﴿ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ ﴾؛ هذا ثناءٌ منه على اللهِ تعالى بإنعامهِ عليه؛ إذ خَلَّصَهُ وَنَجَّاهُ من العبوديَّة.
﴿ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ ﴾؛ وجاءَ بأبيهِ وإخوته من الباديةِ إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ ﴾؛ بالحسدِ.
﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ ﴾؛ أي لطيفٌ في تدبيرِ عباده وبلُطفهِ جمعَ بيننا على أحسنِ الأحوال.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ﴾؛ بمصالحِ عبادهِ.
﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ في تدبيرِهم. واختلَفُوا في المدَّة التي كانت بين رُؤيا يوسف وبين تَصدِيقها، قال سلمانُ رضي الله عنه: (أرْبَعُونَ سَنَةً)، وقال ابنُ عبَّاس: (اثْنَانِ وَعُشْرُونَ سَنَةً).
﴿ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ ﴾؛ أي تعبيرِ الرُّؤيا وتأويل كُتب الدين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ نُصِبَ على النداءِ؛ أي يا فاطرَ السماءِ والأرض مُنشِئُهما على غيرِ مثالٍ.
﴿ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ ﴾؛ أي تتَولَّى حِفظِي وصيانتي.
﴿ تَوَفَّنِى مُسْلِماً ﴾؛ أي ألطُفْ بي لُطفاً أثبتُ به على الإيمانِ إلى أن يلحَقُني الموت.
﴿ وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ ﴾؛ يعني يلحقهُ بآبائه. وأما ما كان من أمرِ زُليخا فإنه لما ماتَ العزيزُ وبَقِيت أرملةً، قالت: أنا مِن يوسف على رجاءٍ، وأمري كلَّ يوم إلى نقصٍ؛ وذلك بمَعصِيَتي لآلهِ يوسف، فكيف لا أقومُ إلى هذا الصَّنم المشؤومِ فأجعلهُ جُذاذاً، وألْحَقُ بيوسف وأُسلِمُ على يدهِ؟ لعلَّ إلَهَهُ يرحَمُني ويقضي حاجَتي، فقامت وكسرت صنَمَها وجاءت إلى طريق يوسف، فوقفت له في يومِ ركوبهِ فأقبلَ مع الأعلامِ والرايات مكتوبات عليها:﴿ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾[يوسف: ١٠٨].
فلمَّا صارَ يوسف بحذاءِ زُليخا نادت: سُبحان من يعلي العبيد ويجعلَهم مُلوكاً بطاعتهِ، ويذِلُّ الموالِي ويجعلهم عبيداً بمعصيتهِ. فسَمِعَ ذلك يوسف فقال: علَيَّ بصاحبةِ هذا الكلامِ، فأُتِيَ بها إليه فقال: مَن أنتِ؟ قالت: زُليخا أمَا تعرِفُنِي؟! قال: لا، قالت: قد أنكَرتَني؟ قال: أشدَّ الإنكار، قالت: أنا الذي راودتُكَ عن نفسك فاستعصمتَ بإلهِ السَّماء، فرفعَكَ ووضعَنِي؛ وأعزَّكَ وأذلَّني؛ وأغناكَ وأفقرَنِي، فعلمتُ أني في باطلٍ وغُرورٍ، فكسرتُ صنَمِي وجئتُكَ طائعةً مؤمنةً أقولُ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، لِيَرْحَمَنِي، فوقعت رحمتُها في قلبهِ، فقالَ: سَلِي حاجتَكِ، قالت: أتفعلُ؟ قال: نعم، قالت: لي ثلاثُ حوائجَ يا يوسف قد ذهبَ بصَري فادعُ اللهَ أن يرُدَّ عليَّ لأنظُرَ إلى جمالِ وجهك، فدعا اللهَ فردَّ عليها بصرَها فأقبلت تنظرُ إلى يوسف، ثم قالت: وادعُ اللهَ أن يرُدَّ علي حُسني وجَمالي، فدعَا اللهَ فردَّه عليها ذلك. فلما نظرَ يوسفُ إليها نكَّسَ رأسه وقال: أما تسأَلِي الثالثةَ يا رأسَ الفتنةِ؟ قالت: تتزوَّجُ بي حلالاً؟ قال لها: قُومِي يا رأسَ الفتنةِ هذه حاجةٌ ليس في نفسي قضاؤُها، قالت: أما أنا فلا أقنطُ من رحمةِ اللهِ، فنَزل جبريلُ على يوسف وقال: إن اللهَ يأمُركَ أن تتزوجَ بها، فجعلت تحمدُ اللهَ وتشكرهُ فتزوَّجَها، فلما دخلَ بها وجدَها عذراءَ، فولَدَت له وَلَدَين، وأقامَ يعقوبُ عند يوسف ثَماني عشرةَ سنةً، ومات قبل يوسف بسنتين.
﴿ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾؛ به، وكان مَكرُهم إلقاءَهم إياه في البئرِ.
﴿ أَوْ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ بنُزول العذاب.
﴿ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ ﴾؛ على معرفةٍ منِّي باللهِ تعالى، وقوله تعالى: ﴿ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي ﴾؛ معناهُ: يدعُو إلى اللهِ.
﴿ وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ ﴾ أي وقُل: سبحانَ اللهِ.
﴿ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾؛ أي لستُ معَهم على دِينهم.
﴿ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ﴾؛ فيَرَوا آثارَ ديارِ.
﴿ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾؛ من الكفَّار فيخافون ما ينْزِلُ بهم من عذاب الله وما نزلَ بأولئِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾؛ يعني قولهُ (دَارُ الآخِرَةِ) الجنَّة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوا) الكفرَ والفواحشَ (أفلاَ يَعْقِلُونَ) معناهُ: أفليسَ لهم ذهنُ الإنسانية أنَّ الآخرةَ الباقيةَ خيرٌ من الدنيا الفانية، وأضافَ الدارَ الآخرةِ على سبيلِ إضافة الشيء إلى نفسه كما يقالُ يومُ الجمعُة.
﴿ قَدْ كُذِبُواْ ﴾؛ تَكذيباً لا يرجعون عنه.
﴿ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ ﴾؛ بإهلاكِ قومهم، ومن قرأ (كُذِبُوا) بالتخفيف فمعناهُ: وظنَّ المرسَلُ إليهم أن الرُّسُلَ قد كذبُوهم في ما أوعَدُوهم من العذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾؛ أي لا يُرَدُّ عذابُنا عن الكافرينِ.
﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾؛ ودلالةً ونجاةً من العذاب الأليم لقوم يصدِّقون بمُحَمَّدٍ والقرآنِ.