ﰡ
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ ﴾ الآية، القصص مصدر قص والمراد بكونه أحسن أنه اقتص على أبدع طريقة وأحسن أسلوب، ألا ترى أن هذا الحديث مقتص في كتب الأولين وفي كتب التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارناً لاقتصاصه في القرآن، وانتصب أحسن على المصدر لإِضافته إلى المصدر.﴿ بِمَآ أَوْحَيْنَآ ﴾ الباء: للسبب. وما مصدرية. ﴿ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ ﴾ تنازعه عاملان أحدهما نقص، والثاني أوحينا. واعمل الثاني جرياً على الأفصح في باب التنازع. والضمير في قبله يعود على الإِيماء. ومعنى من الغافلين لم يكن لك شعور بهذه القصة ولا سبق لك علم فيها. والعامل في إذ قال يا بني كما تقول: إذ قام زيد قام عمرو، وتبقى إذ على وضعها الأصلي من كونها ظرفاً لما مضى. وللزمخشري وابن عطية أقوال في العامل في إذ ردّت في البحر لضعفها. ويوسف اسم عبراني وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة وتقدمت فيه لغات. وقرىء: ﴿ يا أبت ﴾ بفتح التاء، وجمهور القراء على كسرها وهي عوض من ياء الإِضافة فلا يجتمعان، لا يقال: يا أبتي.﴿ إِنِّي رَأَيْتُ ﴾ معمول للقول فهو في موضع نصب ورأيت هي حُامية لدلالة متعلقها على أنه منام. والظاهر أنه رأى في منامه كواكب والشمس والقمر. ومن حديث جابر بن عبد الله" أن يهودياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف فسكت عنه ونزل جبريل عليه السلام فأخبره بأسمائها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودي، فقال: هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك؟ قال: نعم. فقال: جريان والطارق والذيال وذو الكتفين وقابس ووثاب وعمودان والفليق والمصبح والضروح وذو الفرع والضياء والنور. فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها "قال الزمخشري: فإِن قلت: لم أخر الشمس والقمر؟ قلت: أخرهما لعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص بياناً لفضلهما واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع كما أخبر جبريل وميكائيل عن الملائكة، ثم عطفهما عليهما لذلك. ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع أي أرأيت الكواكب مع الشمس والقمر. " انتهى ". الذي يظهر أن التأخير إنما هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ولم يقع الترقي في الشمس والقمر جرياً على ما استقر في القرآن من أنه إذا اجتمعا قدمت عليه ولامتناع أن يجتمع الشمس والقمر في أحد عشر كوكباً لأنهم أخوته فليس المكنى عنه بالشمس والقمر داخلاً فيهم. والظاهر أن رأيتم كرر على سبيل التوكيد للطول بالمفاعيل. وجاء الضمير ضمير من يعقل لأنه صدر منهم السجود لأنه من صفات من يعقل. " ولي " متعلق بساجدين، وساجدين منصوب على الحال، ولما خاطب يوسف عليه السلام أباه بقوله: يا أبت، وفيه إظهار الطواعية والبر والتنبيه على محل الشفقة بطبع الأبوة خاطبه أبوه: يا بني تصغير التحبيب والتقريب والشفقة.﴿ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ﴾ منصوب بإِضمار انْ على جواب النهي. وعدي فيكيدوا باللام. وهو متعد بنفسه فاحتمل أن يكون من باب التضمين ضمن فيكيدوا معنى ما يتعدى باللام، فكأنه قال: فيحتالوا لك بالكيد. والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين وللمبالغة أكد بالمصدر ونبه يعقوب عليه السلام على سبب الكيد وهو ما يزينه الشيطان للإِنسان ويسوله له، وذلك للعداوة التي بينهما فهو يجتهد دائماً أن يوقعه في المعاصي ويدخله فيها ويخصه عليها وكان يعقوب دلته رؤيا يوسف عليه السلام على أن الله تعالى يبلغه مبلغاً من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه فخاف عليه من حسد إخوته، فنهاه عن أن يقص رؤياه لهم. وفي خطاب يعقوب ليوسف بنهيه عن أن يقص على أخوته مخالفة كيدهم دلالة على تحذير المسلم أخاه ممن يخافه عليه، والتنبيه على بعض ما لا يليق ولا يكون ذلك داخلاً في باب الغيبة.
وتقدم ان جواب لما هو قولهم قالوا، ونختار أن يكون الجواب محذوفاً لدلالة المعنى عليه تقديره سروا بذلك أي بذهابهم به وإجماعهم على ما يريدون أن يفعلوا به، ويكون قوله: وأوحينا إليه ليس داخلاً تحت جواب لما، بل هو استئناف إخبار بإِيحاء الله إلى يوسف عليه السلام، وانتصب عشاء على الظرف، ويبكون حال أي باكين قيل: وإنما جاؤا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذلك قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإِن الحياء بالعينين ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار، وفي الكلام حذف تقديره وجاؤا آباهم دون يوسف عشاء يبكون فقال: أين يوسف؟ فقالوا: إنا ذهبنا نستبق.﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾ أي بمصدق الآن.﴿ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ فما أنت بمؤمن لنا على كل حالة ولو في حالة الصدق. روي أنهم أخذوا جدياً أو سخلة فذبحوه ولطخوا قميص يوسف بدمه، وقالوا ليعقوب: هذا قميص يوسف فأخذه ولطخ به وجهه وبكى ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا ارتاب فاستدل بذلك على خلاف ما زعموا، وقال لهم: متى كان الذئب حليماً يأكل يوسف ولا يخرق قميصه، قيل: كان في قميص يوسف عليه السلام ثلاث آيات كان دليلاً ليعقوب على أن يوسف لم يأكله الذئب وألقاه على وجهه فأرتد بصيراً ودليلاً على براءة يوسف حين قدّ من دبر. قال الزمخشري: وسبقه إليه الحوفي فإِن قلت: على قميصه ما محله؟ قلت: محله النصب على الظرف، كأنه قيل: وجاؤا فوق قميصه بدم، كما يقول: جاء على جماله باحمال. فإِن قلت: هل يجوز أن يكون حالاً متقدمة؟ قلت: لا لأن حال المجرور لا يتقدم عليه. " انتهى ". ولا يساعد المعنى على نصبه على الظرف بمعنى فوق لأن العامل فيه إذ ذاك جاؤا وليس الفوق ظرفاً لهم بل يستحيل أن يكون ظرفاً لهم. وقال أبو البقاء: على قميصه في موضع نصب حالاً من الدم، لأن التقدير جاؤا بدم كذب على قميصه. " انتهى ". وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب. وأنشد على ذلك شواهد هي مذكورة في علم النحو، والمعنى يرشد إلى ما قاله أبو البقاء قال: بل سوّلت هنا، محذوف تقديره لم يأكله الذئب بل سولت. وقال قتادة: معنى سولت زينت.﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أمثل.﴿ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ ﴾ أي المطلوب منه العون على احتماله ما تصفون من هلاك يوسف فالصبر على الرزية.
﴿ وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ ﴾ لم تتعرّض الآية لاسم من اشتراه، وذكر المفسرون فيه اختلافاً كثيراً. و " مثواه " مكان إقامته وهو كناية عن الإِحسان إليه في مأكل ومشرب وملبس، ولام لامرأته تتعلق بيقال فهي للتبليغ، نحو قلت لك: لا باشتراه.﴿ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ ﴾ لعله إذا تدرّب وراض الأمور وعرف مجاريها نستعين به على بعض ما نحن بصدده فينفعنا بكفايته أو نتبناه ونقيمه مقام الولد. وقيل: كان عقيماً لا يولد له فتفرس فيه الرشد فقال ذلك.﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ أي مثل ذلك التمكين من قلب العزيز حتى عطف عليه وأمر امرأته بإِكرام مثواه.﴿ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي أرض مصر يتصرف فيها بأمره ونهيه، أي حكمناه فيها ولام لنعلمه متعلقة بمحذوف اما قبله، أي ونمكنه واما بعده أي ولنعلمه.﴿ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ ﴾ كان ذلك الإِيحاء والتمكين. والأحاديث: الرؤيا. والضمير في على أمره عائد على يوسف، أي يدبره ولا يكله إلى غيره. والأشد عند سيبويه جمع واحده شدّة، وأشد كنعمة وأنعم، وقال الكسائي: شدّ وأشد نحو صل وأصل والأشد بلوغ الحلم والحكم: الحكمة، والعلم: النبوة. وقيل: الحكم بين الناس. والعلم: الفقه في الدين، وهذا أشبه لمجيء قصة المراودة.﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ أي مثل ذلك الجزاء لمن صبر ورضي بالمقادير.﴿ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ وفيه تنبيه على أن يوسف كان محسناً في عنفوان شبابه، وآتاه الله الحكم والعلم على جزاء إحسانه.﴿ وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ﴾ الآية، المراودة: المطالبة برفق، من راد يرود إذا ذهب. وجاء وهي مفاعلة من واحد نحو داويت المريض وكني به عن طلب النكاح والمخادعة لأجله كان المعنى، وخادعته عن نفسه ولذلك عداه بعن. وقال تعالى: التي هو في بيتها ولم يصرح باسمها ولا بامرأة العزيز ستراً على الحرم والعرب تضيف البيوت إلى النساء، فتقول ربة البيت وصاحبة البيت. قال الشاعر: يا ربة البيت قومي غير صاغرة ﴿ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ ﴾ هو تضعيف تكثير بالنسبة إلى وقوع الفعل بكل باب، قيل: وكانت ستة أبواب.﴿ هَيْتَ ﴾ اسم فعل بمعنى أسرع. ولك للتبيين أي لك أقول أمرته بأن يسرع إليها. وزعم الكسائي والفراء انها لغة حورانية وقعت لأهل الحجاز فتكلموا بها ومعناها تعال. وانتصب: ﴿ مَعَاذَ ٱللَّهِ ﴾ على المصدر، أي عياذاً بالله من فعل السوء. والضمير في أنه يعود على الله تعالى أي أن الله ربي أحسن مثواي أي نجاني من الجب وأقامني أحسن مقام.﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ أي المجازون الإِحسان بالسوء وما أحسن هذا التنصل من الوقوع في السوء استعاذ أولاً بالله الذي بيده العصمة وملكوت كل شىء، ثم نبه على أن إحسان الله إليه لا يناسب أي يجازي بالسوء، ثم نفي الفلاح عن الظالمين وهو الظفر والفوز بالبغية فلا يناسب أن أكون ظالماً أضع الشىء غير موضعه.
وأما اللواتي في القصور فمعهن من ذلك ما لا يوجد لغيرهن لكونهن أكثر تفرغاً في غيرهن وأكثر تأنساً بأمثالهن.﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا ﴾ أي هذا الأمر واكتمه ولا تتحدث به. وفي ندائه باسمه تقريب له وتلطيف، ثم أقبل عليها فقال:﴿ وَٱسْتَغْفِرِي ﴾ ثم ذكر سبب الاستغفار، وهو قوله:﴿ لِذَنبِكِ ﴾، ثم أكد ذلك بقوله:﴿ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ ﴾ ولم يقل من الخاطئات لأن الخاطئين أعم لأنه ينطلق على الذكور والإِناث بالتغليب خطىء إذ أذنب متعمداً. وقال الزمخشري: وما كان العزيز إلا حليماً، وروي أنه كان قليل الغيرة. " انتهى ". وتربة إقليم مصر اقتضت هذا وأين هذا مما جرى لبعض ملوكنا أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس انس وجارية تغنيهم من وراء ستر فاستعاد بعض خلصائه بيتين من الجارية كانت قد غنت بهما فما لبث أن جاء برأس الجارية مقطوعاً في طشت وقال له الملك استعد البيتين من هذا الرأس فسقط في يد ذلك المستعيد ومرض مدة حياة ذلك الملك.
{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ ﴾ في الكلام حذف تقديره فرجع إليه الرسول فأخبره بما قال يوسف فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز وقال لهنّ ما خطبكنّ وهذا استدعاء منه أن يعلمنه بالقصة ونزه جانب يوسف بقوله:﴿ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ﴾ ومراودتهن له قولهن له أطع مولاتك فأجاب النسوة بجواب جيد تظهر منه براءة أنفسهن جملة وتنزيه يوسف بقولهن:﴿ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ ﴾ فلما سمعت امرأة العزيز مقالتهن في براءة يوسف أقرت بأعظم ما أقررن به إذ كانت هي من أقوى سبب فيما جرى من المراودة ومن سجن يوسف.﴿ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ ﴾ وقرىء: حصحص مبنياً للمفعول واتبعت ولني خزائن أرضك.﴿ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾.
﴿ ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ ﴾ الآية، الظاهر أن هذا من كلام امرأة العزيز وهو داخل تحت قوله: قالت والمعنى ذلك الإِقرار والاعتراف بالحق ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته وأكذب عليه وأرمه بذنب هو بريء منه ثم اعتذرت عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات بقولها:﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ ﴾ والنفوس مائلة إلى الشهوات أمارة بالسوء ومن ذهب إلى أن قوله ذلك ليعلم إلى آخره من كلام يوسف يحتاج إلى تكلف ربط بينه وبين ما قبله ولا دليل يدل على أنه من كلام يوسف إذ لم يكن يوسف حاضراً وقت سؤال الملك النسوة وإقرار امرأة العزيز بما أقرت به.﴿ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾ الآية، روي أن الرسول جاءه فقال: أجب الملك فخرج من السجن ودعا لأهله فلما دخل على الملك قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ قال لسان آبائي وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها فأجابه يوسف عليه السلام بجميعها فتعجب منه ومعنى استخلصه اجعله خالصاً لنفسي وخاصاً لي وفي الكلام حذف تقديره فأتوه به والظاهر أن الفاعل بكلمة ضمير يوسف أي فلما كلم يوسف الملك ورأى الملك حسن منطقة بما صدق به الخير.﴿ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ ﴾ أي ذو مكانة ومنزلة.﴿ أَمِينٌ ﴾ مؤتمن على كل شىء ولما وصفه الملك بالتمكن عنده والأمانة طلب من الأعمال ما يناسب هذين الوصفين.﴿ قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ ﴾ أي ولني خزائن أرضك.﴿ إِنِّي حَفِيظٌ ﴾ أحفظ ما تستحفظه.﴿ عَلِيمٌ ﴾ بوجوه التصرف وصف نفسه بالأمانة والكفاءة وهما مقصود الملوك ممن يولونه إذ هما يعمان وجوه التثقيف والحياطة ولا خلل معهما لعامل وجاء حفيظ بضمة المبالغة وهي مقصودة ولمناسبة قوله عليم وكان الملك لا يصدر عن رأي يوسف ولا يعترض عليه في كل ما رأى وكان في حكم التابع.﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ أي مثل ذلك التمكين في نفس الملك.﴿ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ مصر.﴿ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ ﴾ أي يتخذ منها مباءة ومنزلاً كل مكان أراد فاستولى على جميعها ودخلت تحت سلطانه روي أن الملك توجه بتاجه وختمه ورداه بسيفه وجعل له سريراً من ذهب مكللاً بالدرّ والياقوت فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوض الملك إليه أمره وعزل العزيز قطفير ثم مات بعد فزوجه الملك امرأته زليخا فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيراً مما طلبت فوجدها عذراء لأن العزيز كان لا يطأها فولدت له ولدين أفراثيم ومنشا وأقام العدل بمصر وأحبه الرجال والنساء وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى حتى لم يبقى معه شىء ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم ثم استرقهم جميعاً فقالو: والله ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال للملك: كيف رأيت صنع الله في وفيما خولني فما ترى؟ قال: الرأي رأيك، قال: فإِني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا واحتبس بنيامين.﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا ﴾ أي بنعمتنا من الملك والغنى غيرهما ولا نضيع في الدنيا أجر من أحسن ثم ذكر أن أجر الآخرة خير لأنه الدائم الذي لا يفنى وفي الآية إشارة إلى أن حال يوسف في الآخرة خير من حالته العظيمة في الدنيا.﴿ وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ﴾ الآية، أي جاؤا من القريات من أرض فلسطين بغور الشام إلى مصر ليمتاروا منها فتوصلوا إلى يوسف للميرة فعرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريباً من زيه إذ ذاك ولأن همته كانت معمورة بهم وبمعرفتهم وكان يتأمل ويتفطن وإنكارهم إياه كان لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة ولاعتقادهم أنه قد هلك ولذهابه عن قلة أفكارهم فيه ولبعد ماله التي بلغها من الملك والسلطان عن حالته التي فارقوه عليها طريحاً في البئر مشرياً بدراهم معدودة حتى لو تحيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم ولأن الملك مما يبدل الزي ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر منه المعروف.﴿ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ ﴾ وكان الجهاز الذي لهم هو الطعام الذي امتاروه وفي الكلام حذف تقديره وقد كان استوضح منهم أنه لهم أخ قعد عند أبيه روي أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم فباحثهم بأن قال لهم ترجمانه أظنكم جواسيس فاحتاجوا إلى التعريف بأنفسهم فقالوا نحن أبناء رجل صديق وكنا اثني عشرة ذهب منا واحد في البرية وبقي أصغرنا عند أبينا ونحن جئنا للميرة وسقنا بعير الباقي منا وكانوا عشرة بعيراً فقال لهم يوسف ولم تخلف أحدكم قالوا لمحبة أبينا فيه قال: فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم وأرى لم أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين ثم ذكر ما يحرضهم به على الإِتيان بأخيهم بقوله:﴿ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّيۤ أُوفِي ٱلْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ ٱلْمُنْزِلِينَ ﴾ أي المضيفين يعني في قطره وفي زمانه يؤنسهم بذلك ويستميلهم ثم توعدهم إن لم يأتوا إليه بحرمانهم من الميرة في المستقبل واحتمل قوله:﴿ وَلاَ تَقْرَبُونِ ﴾ ان يكون نهياً وان يكون نفياً مستقلاً ومعناه النهي وحذفت النون وهو مرفوع كما حذفت في قوله:﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾[الحجر: ٥٤]، وان يكون نفياً داخلاً في الجزاء معطوفاً على محل فلا كيل لكم عندي فيكون مجزوماً، والمعنى: انهم لا يقربون له بلداً ولا طاعة وظاهر كل ما فعله يوسف عليه السلام معهم أنه بوحي من الله وإلا فإِنه كان مقتضى البر أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه لكن الله أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته وليفسر الرؤيا الأولى.﴿ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ ﴾ أي سنخادعه ونستميله في رفق إلى أن يتركه يأتي معنا إليك أكدوا ذلك الوعد بأنهم فاعلوا ذلك لا محالة لا نفرط فيه ولا نتوانى وقرىء:﴿ لِفِتْيَانِهِ ﴾ ولفتيته فالكثرة على مراعاة المأمورين والقلة على مراعاة المتناولين فهم الخدمة الكائلون أمرهم بجعل المال الذي اشتروا به الطعام في رحالهم مبالغة في استمالتهم.﴿ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ ﴾ أي يعرفون حق ردها وحق التكريم بإِعطاء البدلين فيرغبون فيها.﴿ إِذَا ٱنْقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ ﴾ وفرغوا ظروفهم ولعلهم يعرفونها تعليق بالجعل. و ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ تعليق بترجي معرفة البضاعة للرجوع إلى يوسف قيل وكانت بضاعتهم النعال والأدم.﴿ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُواْ يٰأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلْكَيْلُ ﴾ الآية، أي رجعوا من مصر ممتارين بادروا بما كان أهم الأشياء عندهم من التوطئة لإِرسال أخيهم معهم وذلك قبل فتح متاعهم وعلمهم إحسان العزيز إليهم من ردّ بضاعتهم وأخبروا بما جرى لهم مع العزيز الذي على إهراء مصر وانه استدعى منهم العزيز أي يأتوا بأخيهم حتى يتبين له صدقهم أنهم ليسوا جواسيس وقولهم: منع منا الكيل إشارة إلى قول يوسف قال: فإِذا لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ويكون منع يراد به في المستأنف وإلا فقد كيل لهم وجاؤا بالميرة لكن لما أنذروا بمنع الكيل قالوا: منع وقيل أشاروا إلى بعير بنيامين الذي منع من الميرة وهذا أولى بحمل منع على الماضي حقيقة ولقولهم فأرسل معنا أخانا نكتل ويقويه قراءة يكتل بالياء أي يكتل أخونا فإِنما منع كيل بعبره لغيبته.﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ﴾ هذا تقرير وتوقيف وتألم من فراقه بنيامين ولم يصرح بمنعه من حمله لما رأى في ذلك من المصلحة وشبه هذا الائتمان في ابنه هذا بائتمانه إياهم في حق يوسف قلتم فيه وإنا له لحافظون كما قلتم في هذا فأخاف أن تكيدوا له كما كدتم لذلك لكن يعقوب لم يخف عليه كما خاف على يوسف واستسلم لله فقال:﴿ فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً ﴾ وقرىء: حافظاً اسم فاعل وانتصب حفظاً وحافظاً على التمييز والمنسوب له الخير هو حفظ الله والحافظ الذي من جهة الله وجاز الزمخشري أن يكون حافظاً حالاً وليس بجيد لأن فيه تقييد خير بهذه الحالة.﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ ﴾ اعتراف بأن الله تعالى هو ذو الرحمة الواسعة فارجو منه حفظه ولا يجمع على مصيبته ومصيبة أخيه.
وقال:﴿ وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ ﴾[فاطر: ١٩] فقابل البصير بالأعمى وعلل الابيضاض بالحزن وإنما هو من البكاء وهو ثمرة الحزن فعلل بالأصل الذي نشأ منه البكاء وهو الحزن والكظيم اما للمبالغة وهو الظاهر اللائق بحال يعقوب أي شديد الكظم كما قال:﴿ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ ﴾[آل عمران: ١٣٤]، ولم يشك يعقوب إلى أحد وإنما كان يكتمه في نفسه ويمسك همه في صدره فكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والضجر واما أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول وهو لا ينقاس وقاله قوم كما قال تعالى:﴿ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾[القلم: ٤٨] وجواب القسم تفتؤ حذفت منه لا وحذفها جائز والمعنى لا تزال واسمها ضمير الخطاب وتذكر خبر تفتؤ وحتى للغاية بمعنى إلى أن فكأنهم قالوا له ذلك على جهة تفنيد الرأي أي لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك أو إلى أن تهلك فقال هو:﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ ﴾ أي لا أشكو إلى أحد منكم ولا غيركم. قال أبو عبيدة وغيره: البث أشد الحزن سمي بذلك لأنه من صعوبته لا يطيق حمله فيبثه أي ينشره.﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي أعلم من صفة الله ورحمته وحسن ظني به أنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب.﴿ ٱذْهَبُواْ ﴾ أمر بالذهاب إلى أرض مصر التي جاؤا منها وتركوا بها اخويهم بنيامين والمقيم بها وأمرهم بالتحسس وهو الاستقصاء والطلب بالحواس ويستعمل في الخير والشر وقرىء: بالجيم والمعنى فتجسسوا شيئاً من أمر يوسف وأخيه وإنما خصهما لأن الذي أقام وقال: فلن أبرح الأرض إنما أقام مختاراً وروح الله رحمته وفرجه وتنفيسه.﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ﴾ الآية في الكلام حذف تقديره فذهبوا من الشام إلى مصر فلما دخلوا عليه والضمير في عليه عائد على يوسف وكان آكد ما حدثوه فيه شكوى ما أصابهم من الجهد قبل ما وصاهم به من تحسيس نبأ يوسف وأخيه والضر الهزال من الشدة والجوع والبضاعة كانت زيوفاً قاله ابن عباس. ثم التمسوا منه إيفاء الكيل وقد استدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه.﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ ﴾ أي بالمسامحة والإِغماض عن رداءة البضاعة أو زدنا على حقنا فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة.﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم ﴾ الآية، نسبهم اما إلى جهل المعصية واما إلى جهل الشباب وقلة الحنكة وقيل أتاهم من جهة الدين وكان عليه السلام حليماً موفقاً فكلمهم مستفهماً عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب فقال: هل علمتم أي قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون لا تعلمون قبحه فلذلك أقدمتم عليه يعني هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه لأن علم القبيح يدعو إلى الاستقباح والاستقباح يجر التوبة فكان كلامه شفقة عليهم ونصحاً لهم في الدين وإيثار حق نفسه في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب وينفث المصدور ويشتفي المغيظ المحنق ويدرك ثأره الموتور.﴿ قَالُوۤاْ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ ﴾ الآية، لما خاطبهم بقوله: هل علمتم، أدركوا أنه لا يستفهم ملك لم ينشأ عندهم ولا تتبع أحوالهم وليس منهم فيما يظهر إلا وعنده علم منهم بحالهم فيقال انه كان يكلمهم من وراء حجاب فرفعه ووضع التاج وتبسم وكان يضيء ما حوله من نور تبسمه ورأوا لمعة بياض كالشامة في فرقة حين وضع التاج وكان مثلها لأبيه وجده وسارة فتوسموا أنه يوسف واستفهموه استفهام استخبار وقيل: استفهام تقرير لأنهم كانوا عرفوه بتلك العلامات التي سبق ذكرها ولما استفهموه أجابهم فقال: أنا يوسف كاشفاً لهم أمره وزادهم في الجواب قوله: وهذا أخي لأنه سبق قوله: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه وكان في ذكر أخيه بيان لما سألوا عنه وإن كان معلوماً عندهم وتوطئة لما ذكر بعد من قوله:﴿ قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ ﴾ أي بالاجتماع بعد الفرقة والأنس بعد الوحشة ثم ذكر أن سبب من الله تعالى هو بالتقوى والصبر والأحسن أن لا يخص التقوى بحالة وإلا الصبر وقرأ قنبل ويتقي فقيل هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة وقيل جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول لم يرمِ زيد وقد حكوا ذلك لغة وقيل هو مرفوع ومن موصولة بمعنى الذي وعطف عليه مجزوم وهو يصبر وذلك على التوهم كأنه توهم أن من شرطية ويتقي مجزوم والمحسنين عام يندرج فيه من تقدم أو وضع موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين فكأنه قيل لا يضيع أجرك وآثرك الله فضلك بالملك أو بالصبر والعلم قالهما ابن عباس.﴿ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ﴾ الآية، التثريب التأنيب والعتب وعبر بعضهم عنه بالتعبير ومنه إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يثرب عليها أي لا يعيرها وأصله من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد والتقريع إزالة لجلد فضرب مثلاً للتقريع الذي يمزق العرض ويذهب بهاء الوجه وتثريب اسم لا وعليكم الخبر واليوم منصوب بالعامل في الخبر أي لا تثريب مستقر عليكم اليوم قال الزمخشري: فإِن قلت بم تعلق اليوم قلت بالتثريب أو المقدر عليكم من معنى الاستقرار أو بيغفر والمعنى لا أثربكم اليوم وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره من الأيام ثم ابتدأ فقال:﴿ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ ﴾ فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم يقال: غفر الله لك ويغفر الله لك على لفظ الماضي والمضارع جميعاً ومنه قول المشمت: يغفر الله لكم ويصلح بالكم أو اليوم يغفر الله لكم بشارة بعاجل الغفران لما تجدد يومئذٍ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم " انتهى ". أما قوله: ان اليوم متعلق بالتثريب فهذا لا يجوز لأن التثريب مصدر وقد فصل بينه وبين معموله بقوله: عليكم وعليكم اما أن يكون خبراً أو صفة لتثريب ولا يجوز الفصل بينهما لأن معمول المصدر من تمامه وأيضاً لو كان اليوم متعلقاً بتثريب لم يجز بناؤه وكان يكون من قبيل المشبه بالمضاف وهو الذي يسمى الممطول ويسمى المطول وكان يكون معرباً منوناً واما تقديره الثاني فتقدير حسن ولذلك وقف على قوله اليوم أكثر القراء وابتدؤا بيغفر الله لكم على جهة الدعاء وهو تأويل ابن إسحاق والطبري. واما تقديره الثالث وهو أن يكون اليوم متعلقاً بيغفر فقول وقد وقف بعض القراء على عليكم وابتدأ اليوم يغفر الله لكم ولما دعا لهم بالمغفرة أخبر عن الله تعالى بالصفة التي هي سبب الغفران وهو أنه تعالى أرحم الراحمين فهو يرجو منه قبول دعائه لهم بالمغفرة والباء في بقميص الظاهر أنها للحال أي مصحوبين أو ملتبسين به والظاهر أنه قميص من ملبوس يوسف عليه السلام بمنزلة قميص كل أحد، قال ابن عطية: وهكذا نبين الغرابة في أن وجد يعقوب ريحه من بعد ولو كان من قمص الجنة كما قيل ما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد وقوله: فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً، يدل على أنه علم أنه عمي من الحزن اما باعلامهم واما بوحي من الله تعالى، وقوله: يأت بصيراً يظهر أنه بوحي من الله تعالى وأهلوه الذين أمر أن يؤتى بهم سبعون وقيل غير ذلك وفي واحد من هذا العدد حلوا بمصر ونموا حتى خرج من ذريتهم مع موسى ستمائة ألف مع قرب المدة عجب عظيم ومعنى يأت يأتيني وانتصب بصيراً على الحال ثم أمرهم بأمرين أحدهما الذهاب بقميصه إذ كان أسر إليه ارتداد بصر أبيه بإِلقاء قميصه على وجهه. والأمر الثاني إتيانهم بأهلهم جميعاً لتكمل مسرته بذلك.﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ الآية، يقال فصل من البلد يفصل فصولاً انفصل منه وجاوز حيطانه وهو لازم وفصل الشىء فصلاً فرق وهو متعد ومعنى فصلت العير انفصلت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب عليه السلام وكان قريباً. من بيت المقدس وهو الصحيح لأن آثارهم وقبورهم هناك إلى الآن وقرأ ابن عباس ولما انفصلت قال ابن عباس: وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام هاجت ريح فحملت عرقه وقيل غير ذلك ومعنى لأجد لأشم فهو وجود حاسة الشم وقال الشاعر: واني لأستشفي بكل غمامة يهب بها من نحو أرضك ريحومعنى: ﴿ تُفَنِّدُونِ ﴾ قال ابن عباس تسفهون وتجهلون وقال منذر بن سعيد البلوطي: يقال شيخ مفند أي: قد فسد رأيه ولا يقال عجوز مفندة لأن المرأة لم يكن لها قط رأي أصيل فيدخله التفنيد ولولا هنا حرف امتناع لوجود وأن تفندون في موضع المبتدأ تقديره لولا تفنيدكم وجوبها محذوف قال الزمخشري: المعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني " انتهى ". وقد يقال تقديره لولا أن تفندون لأخبرتكم بكونه حياً لم يمت لأن وجدان ريحه دال على حياته والمخاطب بقوله: تفندون الظاهر أنه من تناسق الضمائر أنه عائد على من كان بقي عنده من أولاده غيره الذين راحوا يمتارون إذ كان أولاده جماعة وقيل المخاطب ولد ولده ومن كان بحضرته من قرابته والضلال هنا لا يراد به ضد الهدى والرشاد قال ابن عباس: المعنى إنك لفي خطاك وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين.
وذكر هذا القدر من أمر أخوته لأن النعمة إذا جاءت أثر بلاء وشدة كانت أحسن موقعاً.﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ ﴾ أي لطيف التدبير.﴿ لِّمَا يَشَآءُ ﴾ من الأمور رفيق ومن في قوله من الملك وفي من تأويل للتبعيض لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا ولا علم إلا بعض التأويل وانتصب فاطر على الصفة أو على النداء.﴿ أَنتَ وَلِيِّي ﴾ تتولاني بالنعمة في الدارين وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي وذكر كثير من المفسرين أنه لما عدد نعم الله عليه تشوف إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه ورأى أن الدنيا كلها فانية فتمنى الموت والذي يظهر أنه ليس في الآية تمنى الموت وإنما عدد نعمه تعالى عليه ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي توفني إذا حان أجلي على الإِسلام وأجعل لحاقي بالصالحين وإنما تمنى الوفاة على الإِسلام لا الموت والصالحين أهل الجنة وقيل غير ذلك وعلماء التاريخ يزعمون أن يوسف عليه السلام عاش مائة عام وسبعة أعوام وله من الولد أفراثيم ومنشأ ورحمة زوجة أيوب قال الزهري: وولد لافراثيم نون ولنون يوشع وهو فتى موسى وولد لمنشأ موسى وهو قبل موسى بن عمران ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر وكان ابن عباس ينكر ذلك وثبت في الحديث الصحيح أن صاحب الخضر موسى بن عمران وتوارثت الفراعنة ملك مصر ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف عليه السلام وأبيه إلى أن بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم.﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ قال ابن الأنباري: سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت مشروحة شرحاً شافياً وأمل صلى الله عليه وسلم أن يكون سبباً لإِسلامهم فخالفوا تأميله فعزاه الله بقوله: وما أكثر الناس الآيات والإِشارة بذلك إلى ما قصه الله تعالى من قصة يوسف وإخوته.﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ﴾ أي عند بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم على أن يجعلوه في الجب ولا حين ألقوه فيه ولا حين التقطته السيارة ولا حين بيع.﴿ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ أي يبغون الغوائل اليوسف ويتشاورون فيما يفعلون به أو يمكرون بيعقوب حين أتوا بالقميص ملطخاً بالدم وفي هذا تصريح لقريش بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا النوع في علم البيان يسمى بالاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج وتقدم نظير ذلك في آل عمران وفي هود وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من جملة هذا الحديث وأشباهه ولا لقي فيه أحداً يعلمه بشىء من ذلك ولم يسمع منه ولم يكن من علم قومه فإِذا أخبر به وقصه هذا القصص الذي أعجز حملته ورواته لم تقع شبهه من أنه ليس منه وأنه من جهة الوحي فإِذا أنكروه تهكم بهم وقيل لهم قد علمتم أنه لم يكن مشاهداً لمن مضى من القرون الخالية ونحوه﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ ﴾[القصص: ٤٤] فقوله: وما كنت هناك على جهة التهكم بهم لأنه قد علم كل أحد أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان معهم وأجمعوا أمرهم أي عزموا على إلقاء يوسف في الجب وهم يمكرون جملة حالية والمكر أن يدبر على الإِنسان تدبيراً يضره ويؤذيه والناس الظاهر العموم لقوله تعالى:﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾[هود: ١٧] وعن ابن عباس أنهم أهل مكة.﴿ وَلَوْ حَرَصْتَ ﴾ ولو بالغت في طلب إيمانهم لا يؤمنون لفرط عنادهم وتصميمهم على الكفر وجواب لو محذوف أي ولو حرصت لم يؤمنوا إنما يؤمن من يشاء الله إيمانه والضمير في عليه عائد على ما يحدثهم به ويذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى كما يعطي حملة الأحاديث والأخبار إن هو إلا عظة وذكر من الله تعالى للعالمين عامة وحث على طلب النجاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخبر تعالى أنهم لفرط كفرهم يمرون على الآيات التي تكون سبباً للإِيمان فيعرضون عنها ولا تفيد عندهم شيئاً ولا تؤثر فيهم وان تلك الآيات هي في العالم العلوي وفي العالم السفلي ومعنى يمرون عليها أي يمشون عليها والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر.﴿ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ جملة حالية أي إيمانهم ملتبس بالشرك قال ابن عباس: هم أهل الكتاب أشركوا بالله من حيث كفروا بنبيه صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ ﴾ داخل تحت قوله: قل أي قل وتنزيه الله من الشركاء أي براءة الله من أن يكون له شريك ولما أمر بأن يخبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم أنه يدعو وهو ومن اتبعه إلى الله وأمر أن يخبر أنه تنزه الله تعالى عن الشركاء أمر أيضاً أن يخبر أنه في خاصة نفسه منتف عن الشرك وأنه ليس ممن أشرك وهو نفي عام في الأزمان لم يكن منه ولا في وقت من الأوقات.﴿ إِلاَّ رِجَالاً ﴾ حصر في المرسل دعاة إلى الله فلا يكون ملكاً قال ابن عباس: رجالاً يعني لا نساء فلا رسول إمرأة والقرى المدن.﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ﴾ الضمير في أفلم يسيروا عائد على من أنكر إرسال الرسل من البشر ومن عاند الرسول وأنكر رسالته وكفر أي هلا يسيرون في الأرض فيعلمون بالتواتر اخبار الرسل السابقة ويرون مصارع الأمم المكذبة فيعتبرون بذلك.﴿ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ ﴾ هذه حض على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها واتقاء المهلكات ومن هذه الاضافة تخريجان أحدهما أنها من إضافة الموصوف إلى صفته وأصله وللدار الآخرة خير وهو تخريج كوفي والثاني أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه وأصله ولدار المدة الأخيرة أو النشأة الأخيرة خير وهو تخريج بصري وحتى غاية لما قبلها وليس في اللفظ ما يكون له غاية فاحتيج إلى تقدير فقدره الزمخشري وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً فتراخى نصرهم حتى إذا استيئسوا عن النصر، وقال ابن عطية: ويتضمن قوله: أفلم يسيروا، إلى من قبلهم أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم الثلاث فصاروا من حيز من يعتبر بعاقبته فلهذا المضمر حسن أن يدخل حتى في قوله: حتى إذا استيأس الرسل، " انتهى ". ولم يتلخص لنا من كلامه شىء يكون ما بعد حتى غاية له لأنه علق الغاية بما ادعى أنه فهم ذلك من قوله: أفلم يسيروا الآية، وقال أبو الفرج بن الجوزي: المعنى متعلق بالآية الأولى فتقديره وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً فدعوا قومهم فكذبوهم وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل وهو نوع من كلام الزمخشري، وقال القرطبي في تفسيره: المعنى وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتى إذا استيأس الرسل وقرىء: كذبوا بالتشديد مبنياً للمفعول والضمير في وظنوا أو في أنهم عائد على الرسل والظن بمعنى اليقين والمعنى وأيقنت الرسل أنهم قد كذبهم قومهم وقرىء: كذبوا بالتخفيف في الذال مبنياً للمفعول أيضاً والضمائر في ظنوا وفي أنهم عائدة على المرسل إليهم والمعنى وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبهم من جاءهم بالوحي، وقرىء: فنحن بنونين مضارع أنجى، وقرىء: فنجى بنون واحدة وشد الجيم وفتح الباء مبنياً للمفعول وقرأت فرقة فننجي بنونين مضارع أنجى وفتح الباء قال ابن عطية: رواها هبيرة عن حفص عن عاصم وهي غلط من هبيرة انتهى وليست غلطاً ولها وجه في العربية وهو أن الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوباً بإضمار أن بعد الفاء كقراءة من قرأ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ ﴾[البقرة: ٢٨٤] بإِضمار أن بعد الفاء ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة أو غير جازمة ومفعول نشاء محذوف تقديره ننجيه.﴿ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ والبأس هنا الهلاك وهذه الجملة فيها وعيد وتهديد لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم.﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ ﴾ الآية، الضمير في قصصهم عائد على الرسل والمرسل إليهم واندرجت فيه قصة يوسف وغيره وقرأ في قصصهم بكسر القاف أحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي والقصي عن عبد الوارث عن أبي عمرو جمع قصة والعبرة الدلالة التي يعبر بها إلى العلم والعبرة الاتعاظ والظاهر أن اسم كان مضمر يعود على القصص أي ما كان القصص حديثاً مختلقاً بل هو حديث صدق ناطق بالحق جاء به من لم يقرأ الكتب ولا تتلمذ لأحد ولا خالط العلماء وانتصب تصديق على أنه خبر كان المحذوفة تقديره ولكن كان أي الحديث المشتمل على قصص الأنبياء تصديق الذي بين يديه أي بين يدي الحديث ومعنى بين يديه أي الكتب المنزلة الإِلهية وتفصيل كل شىء مما يحتاج إليه في الشريعة وقرأ حمدان بن أعين وعيسى الكوفي تصديق وتفصيل وهدى ورحمة برفع الأربعة أي ولكن هو تصديق والجمهور بنصب الأربعة وقال ذو الرمة: وما كان لي من تراث ورثته ولا دية كانت ولا كسب مأثمولكن عطاء الله من كل رحلة إلى كل محجوب السرادق خضرمبرفع إعطاء على إضمار هو ونصبه على إضمار كان وهدى ورحمة أي سبب هداية في الدنيا وسبب حصول الرحمة في الآخرة وحض المؤمنون بذلك لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك كما قال تعالى:﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾[البقرة: ٢] وتقدم أول السورة قوله تعالى:﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾[يوسف: ٢] وقوله:﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ ﴾[يوسف: ٣] وفي آخرها ما كان حديثاً يفترى فلذلك احتمل أن يعود الضمير على القرآن وأن يعود على القصص والله تعالى أعلم.