ﰡ
ذكر الرؤية ثانيا، جوابا لسؤال مقدّر من " يعقوب " عليه السلام، كأنه قال ليوسف بعد قوله :﴿ إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ﴾ [ يوسف : ٤ ] كيف رأيتها ؟ سائلا عن حال رؤيتها، فقال مجيبا له : رأيتهم لي ساجدين.
وقيل : ذكره توكيدا، وجمع الكواكب في قوله «رأيتهم لي ساجدين » جمع العقلاء، لوصفه لها بما هو من صفات العقلاء، وهو السجود، كقوله تعالى :﴿ قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده... ﴾ [ النمل : ١٨ ].
إن قلتَ : كيف قالوا ذلك وهم أنبياء ؟ !
قلتُ : لم يكونوا أنبياء على الصحيح( ٢ )، وبتقدير أنهم كانوا أنبياء، إنما قالوا ذلك قبل نبوّتهم.
والقول بأن ذلك من الصغائر، أو بأنهم قالوه في صغرهم، ضعيف.
٢ - كيف يكونون أنبياء، وقد أقدموا على أعمال شنيعة، تنافي النبوة والرسالة !! فإن الأنبياء معصومون عن الذنوب، وهؤلاء حسدوا أخاهم يوسف، وعزموا على قتله، وكذبوا على أبيهم حين قالوا ﴿أكله الذئب﴾ ورموا أخاهم في الجبّ، إلى غير ما هنالك من أفعال هي من الكبائر وعظائم الأمور، فالقول بأنهم أنبياء لا يقبله عقل حصيف، وانظر ما قاله العلامة الحافظ ابن كثير في تفسيره الكبير، فقد ردّ بالحجة والبرهان القول بأنهم أنبياء، وذكر القول الحقّ، فتدبره فإنه نفيس..
إن قلتَ : كيف قالوا ذلك، مع أنهم كانوا بالغين عاقلين –وأنبياء أيضا على قوله ؟ - وكيف رضي يعقوب بذلك منهم، على قراءة النون ؟ !
قلتُ : كان لعبُهم المسايفة( ١ ) والمناضلة، يؤيده ﴿ إنا ذهبنا نستبق ﴾ [ يوسف : ١٧ ]، وسمّوه لعبا لأنه في صورة اللعب.
قال الفخر الرازي : ويُرَدّ على أصل السؤال أن يقال : كيف يتورّعون عن اللعب، وهم قد فعلوا ما هو أعظم حرمة من اللعب وأشدّ، وهو إلقاء أخيهم في الجُبّ على قصد القتل ! !
قلتُ : لم يكن وقت إلقاء أخيهم يوسف في الجبّ، وقت طلب تورّعهم عن اللعب ولا قتله، وأصل السؤال إنما وقع على طلب التورّع المتقدّم على الإلقاء، لكن يُطلب الجواب عن إلقائهم له في الجب من أن ذلك من المعاصي ! ؟ ويُجاب بما مرّ في الجواب عن قولهم ﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا ﴾ ! !
﴿ وأوحينا إليه ﴾ أي وحي إلهام لا وحي رسالة، لأنه يومئذ لم يكن بالغا، ووحي الرسالة إنما يكون بعد الأربعين.
كرّر " لعلّ " رعاية للفواصل، إذ لو قال : لعلّي أرجع إلى الناس فيعلموا بحذف النون، جوابا ل " لعلّ " لفاتت الرعاية( ١ ).
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن الأنبياء عليهم السلام أعظم الناس زهدا في الدنيا، ورغبة في الآخرة ؟ !
قلتُ : إنما طلب ذلك ليتوصّل به، إلى إمضاء أحكام الله تعالى، وإقامة الحق، وبسط العدل ونحوه، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك( ١ ).
قاله هنا بالواو، وقاله بعدُ بالفاء( ١ )، لأنه ذكر هنا أول مجيئهم إلى يوسف، فناسبته الواو، الدّالة على الاستئناف.
وذُكر بعدُ عند انصرافهم عنه، عطفا على ﴿ ولما دخلوا ﴾ [ يوسف : ٦٨ ] فناسبته الفاء الدالة على الترتيب والتعقيب.
إن قلتَ : كيف جاز ليوسف أن يأمر المؤذّن بأن يقول ذلك، مع أنّ فيه بهتانا، واتّهام من لم يسرق بأنه سرق ؟ !
قلتُ : إنما قاله " تورية " عما جرى منهم مجرى السرقة( ١ )، من فعلهم بيوسف ما فعلوا أولا.
أو كان ذلك القول من المؤذن، بغير أمر يوسف عليه السلام.
أو أنّ حكم ذلك حكم " الحيل الشرعية " التي يُتوصل بها إلى مصالح دينيّة، كقوله تعالى لأيوب :﴿ وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ﴾ [ ص : ٤٤ ]، وقول إبراهيم في حقّ زوجته ﴿ هي أختي ﴾ لتسلم من يد الكافر( ٢ ).
٢ - لما هاجر إبراهيم عليه السلام إلى مصر، كانت معه زوجته "سارة" وكانت ذات جمال باهر، وأراد حاكم مصر الطاغية الجبار أن يغتصبها، لأنه كان لا يسمع بأن أحدا عنده زوجة جميلة إلا وقهره عليها، وأخذها منه اغتصابا، فلذلك أمرها إبراهيم عليه السلام أن تقول له: أنا أخته لتسلم من كيد الفاجر، وقال لها إبراهيم: إنك أختي في الإسلام، والقصة في البخاري..
إن قلتَ : من المؤمنين من ييأس من روح الله، لشدّة مصيبته، أو كثرة ذنوبه، كما في قصة الذي أمر أهله إذا مات أن يحرقوه... ( ١ ) الحديث ثم إن الله تعالى غفر له ؟ !
قلتُ : إنما ييأس من روح الله الكافر، لا المؤمن، عملا بظاهر الآية، فكلّ من أيس من روح الله فهو كافر، حتى يعود إلى الإيمان، ولا نسلّم أن صاحب القصّة مات آيسا، ولم يُفسَح له الرجوع عن وصيّته.
وقال في هود :﴿ ولما جاءت رسلنا لوطا ﴾ [ هود : ٧٧ ] وفي العنكبوت أولا ﴿ ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ﴾ [ العنكبوت : ٣١ ] بحذفها بينتها على جواز الأمرين.
والقول بأنّ ذكر " أن " يدل على وقوع جواب " لما " حالا، بخلاف ما إذا حُذفت، يردّ بأن آية هود، وآية العنكبوت، التي ذكر فيها " أن " متّحدتان شرطا وجوابا، مع أن " أنْ " ذُكرت في إحداهما، وحذفت من الأخرى. إلا أن يقال إنها إذا لم تُذكر، لم يلزم وقوع جواب " لما " حالا.
إن قلتَ : كيف جاز لهم أن يسجدوا ليوسف، والسجود لغير الله حرام ؟ !
قلتُ : المراد بأنهم جعلوه كالقِبلة، ثم سجدوا لله تعالىن شكرا لنعمة وُجدان يوسف، كما تقول : سجدت وصلّيت للقبلة.
واللام للتعليل( ١ ) أي لأجله سجدوا لله، ومنه قوله تعالى :﴿ رأيتهم لي ساجدين ﴾ [ يوسف : ٤ ] أي إنما سجدت لله، لأجل مصلحتي، والسعي في إعلاء منصبي.
قوله تعالى :﴿ وقد أحسن بي إذ أخرجني من السّجن وجاء بكم من البدو ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ].
إن قلتَ : لم ذكر " يوسف " عليه السلام، نعمة الله عليه في إخراجه من السجن، دون إخراجه من الجبّ، مع أنه أعظم نعمة، لأن وقوعه في الجبّ كان أعظم خطرا ؟ !
قلتُ : لأن مصيبة السجن كانت عنده أعظم، لطول مدّتها، ولمصاحبته الأوباش وأعداء الدين فيه، بخلاف مصيبة الجبّ، لقصر مدّتها، ولكون المؤنس له فيه جبريل عليه السلام، وغيره من الملائكة.
أو لأن في ذكر الجبّ " توبيخا وتقريعا " لإخوته، بعد قوله :﴿ لا تثريب عليكم اليوم ﴾ [ يوسف : ٩٢ ].
إن قلتَ : كيف قال يوسف ذلك، مع علمه بأن كل نبيّ لا يموت إلا مسلما ؟
قلتُ : قاله إظهارا للعبودية والافتقار، وشدّة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة، وتعليما للأمة، وطلبا للثواب.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن الإيمان والشرك لا يجتمعان ؟
قلتُ : معناه : وما يؤمن أكثرهم بأن الله خالقه ورازقه، وخالق كل شيء قولا، إلا وهو مشرك بعبادة الأصنام فعلا( ١ ).
أو أن المراد به المنافقون، يؤمنون بألسنتهم قولا، ويشركون بقلوبهم اعتقاداً.
لأن ما في الثلاثة الأول، تقدّمه التعبير في الإنكار بالفاء في قوله هنا ﴿ أفأمنوا أن تأتيهم غاشية ﴾ [ يوسف : ١٠٧ ] وفي الحج ﴿ فهي خاوية على عروشها ﴾ [ الحج : ٤٥ ] وفي آخر غافر ﴿ فأيّ آيات الله تنكرون ﴾ ؟ [ غافر : ٨١ ].
وما في الثلاثة الأخيرة، تقدّمه التعبير بالواو في قوله في الروم :﴿ أولم يتفكروا في أنفسهم ﴾ [ الروم : ٨ ] وفي فاطر ﴿ أو لم نعمّرهم مّا يتذكر فيه من تذكّر ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] وفي أول غافر ﴿ وأنذرهم يوم الآزفة ﴾ [ غافر : ١٨ ] ﴿ وما تخفي الصدور ﴾ [ غافر : ١٩ ] ﴿ والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء ﴾ [ غافر : ٢٠ ].
٢ - في غافر: ﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم... ﴾ آية (٨٢)..
٣ - في الروم: ﴿أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم... ﴾ آية (٩)..
٤ - في فاطر: ﴿أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم... ﴾ آية (٤٤)..
٥ - في أول غافر: ﴿أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا هم أشدّ منهم قوة... ﴾ آية (٢١)..