تفسير سورة يوسف

المنتخب في تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه المنتخب . المتوفي سنة 2008 هـ
هذه السورة مكية، وآياتها مائة وإحدى عشرة آية : قص اله فيها قصة يوسف في ثمان وتسعين آية، وقد لها بثلاث آيات ذكر فيها هذا الوحي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، فسماه في الآية الأولى كتابا مبينا، وفي الثانية قرآنا عربيا : إشارة إلى أن من حقه أن يحفظ في السطور والصدور معا. ثم ذكر في الآية الثالثة ما اشتمل عليه من أحسن القصص، وذكر النبي بأنه لم يكن يعلمه قبل تنزل الوحي به عليه، وذلك دليل على أنه من عند الله.
وقد ختمت القصة والسورة بتأكيد ما بدئت به، فوجه الله نظر نبيه في عشر آيات إلى أن هذه القصة من أنباء الغيب، لم يكن صلى الله عليه وسلم يعلمها ويعلم حقائقها ودقائقها، قبل أن ينزل عليه الوحي بها، ولم يكن عند إخوة يوسف حين أجمعوا أمرهم ودبروا الشر لأخيهم من أبيهم، ثم أخبره بأن العناد والحسد يحمل أكثر الناس على الكفر، وإن حرصه عليه السلام على إيمان أكثرهم لا يجديه. وعزاه عن ذلك بأنه لا يطلب أجرا، وإنما يحمل إليهم القرآن هدى وذكرى للناس أجمعين. وأشار في ختام السورة إلى الرسل الذين ذكر له قصصهم ومواقف أقوامهم منهم، وانتصارهم في النهاية على الكافرين المجرمين، وأكد أن في قصص هؤلاء الأنبياء عبرا لأصحاب العقول، وأن هذا القرآن الذي تحدث بهذه القصص وغيرها ما كان حديثا يختلق وينسب إلى الله كذبا. وإنما هو الحق والصدق، والكتاب المصدق لما بين يديه من الكتب السماوية، والهدى والرحمة لقوم يفكرون ويعتبرون ويؤمنون.
وأظهر خصائص هذه السورة أنها ذكرت قصة يوسف بتمامها، وأظهرت شيوع الحسد في الأسرة إذ ظهرت المحبة لبعضهم، فكان حسد أولاد يعقوب لأخيهم قد حملهم على إلقائه في غيابة الجب، ولكن الله حفظه من مكرهم. كما حفظه من إغراء امرأة العزيز حين بلغ أشده في بيت العزيز، ومكن له أرض مصر، وجعله ملاذ الذين ائتمروا به... وكذلك شأنه سبحانه مع أنبيائه وأوليائه ينصرهم على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض، ما تمسكوا بالحق، وآمنوا به، واعتصموا بحبله.

١- ألف. لام. راء. تلك الحروف وأمثالها يتكون منها كلامكم - أيها العرب - هي التي تتكون منها آيات الكتاب المعجز بكل ما فيه. الواضح الموضح لمن يسترشد به، ويستهديه. وفي هذه الحروف الصوتية تنبيه لهم، فيستمعوا ولو اتفقوا على عدم السماع.
٢- إنا أنزلنا على رسولنا بلغتكم - أيها العرب - كلاماً عربياً يُقرأ ويحفظ، لكي تفهموه وتبلغوا الناس ما فيه.
٣- نحن نلقى عليك - أيها النبي - أحسن القصص بإيحائنا إليك هذا الكتاب، وقد كنت قبل تلقيه من الذين غفلوا عما فيه، وعما اشتمل عليه من عظات وآيات بينات.
٤- من ذلك القصص - أيها النبي - قصة يوسف١، إذ قال لأبيه : يا أبت، إني رأيت في منامي أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر، رأيتهم جميعاً خاضعين لي ساجدين أمامي.
١ يوسف ـ عليه السلام ـ هو ولد يعقوب العبراني الكنعاني وقد بيع في مصر في عهد الغزاة الأجانب الذين يسمون بالهكسوس وهم فيما يبدو ساميون قدموا إلى مصر من بلاد الشام حيث احتلوا دلتا النيل حوالي عام ١٧٣٠ ق. م. قبل نهاية الأسرة الثالثة عشرة وحكموا مصر حوالي قرن ونصف قرن من الزمان حيث طردوا حوالي عام ١٥٨٠ ق. م. على يد أحمس الأول مؤسس الأسرة الثامنة عشرة إلى ما وراء الحدود المصرية..
٥- قال أبوه : يا بُني، لا تَحْك لإخوتك هذه الرؤيا، فإنها تثير في نفوسهم الحسد، فيغريهم الشيطان بتدبير الحيل ضدك. يحتالون للكيد لك ويمكرون بك، إن الشيطان للإنسان عدو ظاهر العداوة.
٦- وكما رأيت نفسك في المنام سيداً مطاعاً، ذا شرف وسلطان، يصطفيك ربك ويختارك ويعلمك تفسير الرؤى، وبيان ما تؤول إليه، فيعظم قدرك وذكرك، ويتم الله نعمته عليك، وعلى آل يعقوب، بالنبوة والرسالة كما أتمها على أبويك من قبل أبيك يعقوب، وهما إبراهيم وإسحاق، إن ربك كثير الحكمة فلا يخطئ، كثير العلم فيصطفي من عباده من يعلم أنه أهل للاصطفاء.
٧- لقد كان في قصة يوسف وإخوته دلائل وعبر، للسائلين عنها والراغبين في معرفتها.
٨- إذ قال إخوة يوسف لأبيه فيما بينهم : لَيوسف وأخوه الشقيق أحب إلى أبينا منا، ونحن جماعة قوية هي أنفع له منهما، إن أبانا بإيثاره يوسف وأخاه علينا لفي خطأ وبعد عن الحق، والصواب واضح، ظاهر الوضوح.
٩- اقتلوا يوسف أو ألقوا به في أرض بعيدة عن أبيه، لا يصل إليها، يخلص لكم حب أبيكم وإقباله عليكم، وتكونوا من بعد إبعاد يوسف عنه بالقتل أو النفي قوماً صالحين إذ يقبل الله توبتكم، ويقبل أبوكم اعتذاركم.
١٠- قال أحد المتحدثين منهم : لا تقتلوا يوسف، فإن ذلك جرم عظيم، وألقوه فيما يغيب عن العيون من غور البئر، يلتقطه بعض السائرين في الطريق، إذا ألقى دلوه في البئر، فيذهب به بعيداً عنكم وعن أبيه، إن كنتم مصرين على إبعاده وتحقيق غرضكم بالفعل.
١١- قالوا بعد أن تم اتفاقهم على إبعاد يوسف : يا أبانا ما الذي رابك منا حتى تبعد يوسف عنا، ولا تشعر بالأمن إذا كان معنا ؟ نحن نؤكد لك أننا نحبه، ونشفق عليه، ونريد له الخير، ونرشده إليه، وما وجد منا غير الحب وخالص النصح.
١٢- أرسله معنا إلى المراعى غداً، يتمتع بالأكل الطيب، ويلعب ويمرح وإنا لحريصون على المحافظة عليه، ودفع الأذى عنه.
١٣- قال : إنني لأشعر بالحزن إذا ذهبتم بعيداً عنى.. وأخاف إذا أمنتكم عليه أن يأكله الذئب وأنتم في غفلة عنه.
١٤- قالوا : نقسم لك، لئن أكله الذئب، ونحن جماعة قوية، ليكونن ذلك العار والخسار، إنا إذا حدث هذا الذي تخشاه، لخاسرون لكل ما يجب الحرص عليه وعدم التفريط فيه. فاطمئن فلن نتهاون في المحافظة عليه لأننا بذلك نعرّض أنفسنا للضياع والهوان.
١٥- فلما مضوا به بعيداً عن أبيه، وأجمعوا رأيهم في إلقائه في غور البئر، أنفذوا ما عزموا عليه، وألهمناه الاطمئنان والثقة بالله وأنه سيخبرهم بأمرهم هذا الذي دَبَّروه وقدموا عليه، وهم لا يشعرون حين تخبرهم أنك أخوهم يوسف الذي ائتمروا به، وظنوا أنهم قضوا عليه واستراحوا منه.
١٦- ورجعوا إلى أبيهم وقت العشاء، يظهرون الحزن ويرفعون أصواتهم بالبكاء.
١٧- قالوا : يا أبانا، إننا مضينا نتسابق في الرمي والجري، وتركنا يوسف عند متاعنا ليحرسه، فأكله الذئب ونحن بعيدون عنه، مشغولون بالتسابق دونه، وما أنت بمصدق لنا فيما نقوله لك، ولو كان ما نقوله الحق والصدق.
١٨- وأحضروا قميصه وعليه دم يشهد بادعائهم، إذ زعموا أنه دم يوسف ليصدقهم أبوهم، ولكنه قال : إن الذئب لم يأكله كما زعمتم، بل قد سولت لكم أنفسكم أمراً عظيماً فأقدمتم عليه، فشأني صبر جميل لا يصحبه الجزع على ما أصابني منكم، والله - وحده - الذي يُطْلَب منه العون على ما تزعمون وتدعون من الباطل.
١٩- وجاءت جهة البئر جماعة كانت تسرع في السير إلى مصر، فأرسلوا مَن يرد الماء منهم ويعود إليهم من البئر بما يسقيهم، فألقى دلوه فيه ورفعه منه فإذا يوسف متعلق به.. قال واردهم يعلن ابتهاجه وفرحه : يا للخير ويا للخبر السار.. هذا غلام.. وأخفوه في أمتعتهم، وجعلوه بضاعة تُباع، والله محيط علمه بما كانوا يعملون.
٢٠- وباعوه في مصر بثمن دون قيمته، كان الثمن دراهم قليلة، وكانوا في يوسف من الزاهدين الراغبين عنه، لخوفهم أن يدركهم أهله ويعرفوه بينهم وينتزعوه منهم.
٢١- وقال الذي اشتراه من مصر لزوجته : أحسنى معاملته وأكرميه حتى تطيب له الإقامة معنا، لعله ينفعنا أو نتبناه ونتخذه ولداً لنا، وكما كانت هذه المكانة عظيمة وهذه الإقامة كريمة جعلنا ليوسف في أرض مصر مكانة أخرى كبرى، ليتصرف فيها بالعدل وحسن التدبير، لنعلمه تفسير الأحاديث والرؤى فيعرف منها ما سيقع قبل أن يقع ويستعد له، والله قوى قادر على تنفيذ كل أمر يريده، لا يُعجزه شيء عن شيء، ولكن أكثر الناس لا يعلمون خفايا حكمته ولطف تدبيره.
٢٢- ولما بلغ يوسف أقصى قوته أعطيناه حكماً صائباً، وعلماً نافعاً، ومثل هذا الجزاء الذي أعطيناه إياه على إحسانه، نجزى المحسنين على إحسانهم.
٢٣- وأرادت التي هي كان هو يعيش في بيتها، ويشعر بسلطانها، أن تغريه بنفسها، لتصرفه عن نفسه الطاهرة إلى مواقعتها، فأخذت تذهب وتجئ أمامه، وتعرض عليه محاسنها ومفاتنها، وأوصدت الأبواب الكثيرة، وأحكمت إغلاقها، وقالت : أقبل علّى فقد هيأت لك نفسي، قال : إني ألجأ إلى الله ليحميني من الشر، وكيف أرتكبه معك وزوجك العزيز سيدي الذي أحسن مقامي ؟ إنه لا يفوز الذين يظلمون الناس بالغدر والخيانة فيوقعون أنفسهم في معصية الزنا.
٢٤- ولقد عزمت أن تخالطه ونازعته نفسه إليها، لولا أن رأي نور الله الحق نُصْبَ عينيه قد استضاء به، ولم يطاوع ميل النفس، وارتفع عن الهوى، فامتنع عن المعصية والخيانة وثبت على طهره وعفته. وهكذا ثبتنا يوسف على الطهر والعفاف لنصرف عنه سوء الخيانة ومعصية الزنا، إنه من عباد الله الذين أخلصوا دينهم لله.
٢٥- وأسرع يوسف إلى الباب يريد الخروج منه، فأسرعت تحاول أن تسبقه إليه، لتحول دون خروجه، وجذبت قميصه من خلفه تمنعه، وقطعته.. ووجدا عند الباب زوجها، قالت تثيره عليه : لا جزاء لمن أراد بزوجك ما يسوؤك إلا السجن يوضع فيه، أو عذاب مؤلم يقع عليه.
٢٦- قال يوسف يدافع عن نفسه : هي طلبتني، وحاولت أن تخدعني عن نفسي، وتخاصما في الاتهام، فحكم حكَم من أهلها فقال : إن كان قميصه شق من أمام، فقد صدقت في ادعائها، وهو من الكاذبين فيما أخبر به.
٢٧- وإن كان قميصه شق من خلف، فقد كذبت في قولها، وهو من الصادقين فيما قال.
٢٨- فلما رأي الزوج قميص يوسف قُدَّ مِن خلف، قال لزوجته : إن اتهامك له بما وقعت أنت فيه مع براءته هو من كيدكن - معشر النسوة - إن مكركن عظيم.
٢٩- يا يوسف أعرض عن هذا الأمر، واكتمه ولا تذكره، واستغفري أنت لذنبك، إنك كنتِ من الآثمين الذين تعمدوا الوقوع في الخطأ وارتكاب الإثم، واتهموا غيرهم بما أثموا هم به.
٣٠- وانتهي الخبر إلى جماعة من النساء في المدينة، فتحدثن وقلن : إن امرأة العزيز تغرى خادمها وتخدعه عن نفسه ليطيعها فيما تريده منه، قد خالط حبُّه شغاف قلبها حتى وصل إلى صميمه، إنا نعتقد أنها بمسلكها معه في ضلال واضح وخطأ بيِّن.
٣١- فلما سمعت باغتيابهن وسوء كلامهن فيها، دعتهن إلى بيتها، وأعدت لهن ما يتكئن عليه من الوسائد والنمارق، وأعطت كل واحدة منهن سكيناً، بعد أن حضرن وجلسن متكئات، وقُدِّم لهن الطعام ليأكلن بالسكاكين ما تناله منه أيديهن. وقالت ليوسف : اخرج عليهن، فلما ظهر ورأينه أعظمنه وأخذهن حسنُه الرائع وجماله البارع، فجرحن أيديهن من فرط الدهشة والذهول، وهن يأكلنْ طعامهن، قلن متعجبات مندهشات : تنزيهاً لله، ما هذا الذي نراه بشراً ؛ لأن البشر لا يكون على هذا الحسن والجمال والصفاء والنقاء، ما هذا إلا ملك كثير المحاسن طيب الشمائل، سخي الصفات.
٣٢- قالت امرأة العزيز تُعقّب على كلامهن : فذلك الفتى الذي بهركن حسنه، وأذهلكن عن أنفسكن حتى حصل ما حصل، هو الذي لُمْتُنَّني في شأنه، ولقد طلبته وحاولت إغراءه ليستجيب لي فامتنع وتأبى، كأنه في عصمة كان يستزيد منها، وأٌقسم إن لم يفعل ما آمره به ليعاقبن بالسجن وليكونَنّ من الأذلاء المهينين.
٣٣- قال يوسف - وقد سمع منها التهديد والوعيد، وسمع منهن النصح بمطاوعتها - يا رب : السجن أحب إلى نفسي مما يطلبنه منى لأن في هذا معصيتك، وإن لم تحوّل عنى شر مكرهن وكيدهن أمِل إليهن، وأكن من السفهاء الطائشين.
٣٤- فاستجاب الله له، فصرف عنه شر مكرهن، إنه هو - وحده - السميع لدعوات الملتجئين إليه، العليم بأحوالهم وبما يصلحهم.
٣٥- ثم ظهر رأي للعزيز وأهله، من بعد ما رأوا الدلائل الواضحة على براءة يوسف فأجمعوا على هذا الرأي، وأقسموا على تنفيذه، وهو أن يدخلوه السجن إلى زمن يقصر أو يطول، لكي يدفع مقالة السوء عن امرأته ويُبْعدها عن الغواية.
٣٦- ودخل السجن مع يوسف فتيان من خدام الملك، قال له أحدهما : لقد رأيت في منامي إني أعصر عنباً ليكون خمراً، وقال له الآخر : لقد رأيت إني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل منه الطير، خبّرنا يا يوسف بتفسير هذا الذي رأيناه ومآل أمرنا على هداه. إنا نعتقد أنك من الذين يتصفون بالإحسان وإجادة تفسير الرؤى.
٣٧- قال لهما - يؤكد ما علماه عنه - لا يأتيكما طعام يُساق إليكما رزقاً مقدراً لكما إلا أخبرتكما بمآله إليكما قبل أن يأتيكما، وذكرت لكما صنعته وكيفيته، ذلكما التأويل للرؤيا والإخبار بالمغيبات مما علمني ربي وأوحى به إليّ. لأني أخلصت له عبادتي، ورفضت أن أشرك به شيئاً، وابتعدت عن دين قوم لا يصدقون بالله، ولا يؤمنون به على وجه صحيح، وهم بالآخرة وحسابها منكرون كافرون.
٣٨- إني تركت ملة هؤلاء الكافرين، واتبعت دين آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فعبدت الله - وحده - فما صح لنا أن نجعل لله أي شريك من أي شيء كان، من مَلَك أو جني أو إنسي، فضلا عن الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر، ذلك التوحيد مما تفضل به الله علينا وعلى الناس، إذ أُمرنا بتبليغه إليهم، ولكن أكثر الناس لا يتلقون هذا الفضل بالشكر بل بالكفر.
٣٩- يا صاحبي في السجن : أأرباب شتى كثيرة يخضع المرء لكل واحد منها خير، أم الله الواحد الذي لا يغالب ؟.
٤٠- ما تعبدون من غير الله إلا أسماء أطلقتموها أنتم وآباؤكم على أوهام لا وجود لها، ما أنزل الله بتسميتها آلهة من حُجة وبرهان، ما الحكم في أمر العبادة وفيما يصح أن يعبد وما لا تصح عبادته، إلا لله أمر ألا تخضعوا لغيره وأن تعبدوه - وحده - ذلك الدين السليم القويم الذي تهدي إليه الأدلة والبراهين، ولكن أكثر الناس لا يسترشدون بهذه الأدلة، ولا يعلمون ما هم عليه من جهل وضلال.
٤١- يا صاحبي في السجن، إليكما تفسير مناميكما : أمَّا أحدكما الذي عصر العنب في رؤياه فيخرج من السجن ويكون ساقي الخمر للملك، وأما الثاني فيُصلَب ويُترك مصلوباً فتقع عليه الطير وتأكل من رأسه، تم الأمر على الوجه الذي بينته فيما تطلبان فيه تأويل الرؤيا.
٤٢- وقال للذي توقع النجاة منهما : اذكرني عند الملك - بصفتي وقصتي - عساه ينصفني وينقذني مما أعانيه، فشغله الشيطان وأنساه أن يذكر للملك قصة يوسف، فمكث يوسف في السجن سنين لا تقل عن ثلاث.
٤٣- وقال الملك : إني رأيت في منامي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ضعاف، ورأيت سبع سنبلات خضر، وسبع سنبلات أخر يابسات.. يا أيها الكبراء من العلماء والحكماء أفتوني في رؤياي هذه إن كنتم تعرفون تفسير الرؤى وتفتون فيها.
٤٤- قالوا : هذه أخلاط أحلام باطلة، ووساوس تهجس في النفس، وما نحن بتفسير الأحلام الباطلة بعالمين.
٤٥- وقال الذي نجا من صاحبي يوسف في السجن، وتذكَّر بعد مضى مدة طويلة وصية يوسف، أنا أخبركم بتأويل الحديث الذي ذكره الملك، فأرسلوني إلى من عنده علم بتأويله آتكم بنبئه.
٤٦- مضى الساقي إلى يوسف حتى جاءه فناداه : يوسف - أيها الحريص على الصدق - أفتنا في رؤيا سبع بقرات سمان يأكلهن سبع ضعاف، وفي رؤيا سبع سنبلات خضر وأخر يابسات. أرجو أن أرجع إلى الناس بفتواك عساهم يعلمون معناها، ويعرفون لك علمك وفضلك.
٤٧- قال يوسف : تفسير هذه الرؤيا أنكم تزرعون الأرض قمحاً وشعيراً سبع سنين متواليات دائبين على العمل في الزراعة، فما تحصدونه احفظوه فاتركوه في سنبله، إلا قليلا مما تأكلونه في هذه السنين، مع الحرص على الاقتصاد١.
١ تتفق هذه الآية مع ما وصل إليه العلم من أن ترك الحب في سنابله عند تخزينه وقاية له من التلف بالعوامل الجوية والآفات، وفوق ذلك يبقيه محافظا على محتوياته الغذائية كاملة..
٤٨- ثم يأتي بعد هذه السنين المخصبة سبع سنين مجدبة، تأكل ما ادخرتم لها، إلا قليلا مما تخبئونه وتحفظونه، ليكون بذراً لما تزرعونه بعد ذلك.
٤٩- ثم يأتي بعد هذه السنين المجدبة عام يغاث فيه الناس بالمطر، ويعصرون فيه العنب والزيتون وكل ما يعصر.
٥٠- تنبه الملك إلى يوسف بسبب تعبيره لرؤياه، وعزم على استدعائه فأمر أعوانه أن يحضروه، فلما أتاه من يبلغه رغبة الملك لم يستخِفَّه الخبر، رغم ما يحمل من بشرى الفرج ولم تزعزع حلمه لهفة السجين على الخلاص من ضيق السجن ووحشته، وآثر التمهل حتى تظهر براءته، على التعجل بالخروج وآثار التهمة عالقة بأردافه، فقال للرسول : عُدْ إلى سيدك واطلب منه أن يعود إلى تحقيق تهمتي، فيسأل النسوة اللواتي جمعتهن امرأة العزيز كيداً لي، فغلبهن الدهش وقطعن أيديهن : هل خرجن من التجربة معتقدات براءتي وطهري، أو دنسي وعهري ؟ إني أطلب ذلك كشفاً للحقيقة في عيون الناس، أما ربي فإنه راسخ العلم باحتيالهن.
٥١- فاستحضر الملك النسوة وسألهن : ماذا كان حالكن حين حاولتن خداع يوسف ليغفل عن عصمته وطهارة نفسه ؟ هل وجدتن منه ميلا إليكن ؟ فأجبنه : تنزه الله عن أن يكون نسى عبده حتى تلوث طهره، فما لمسنا فيه شيئاً يشين. وحينئذٍ قويت نزعة الخير في نفس امرأة العزيز، فاندفعت تقول : الآن وضح الحق وظهر. أنا التي خاتَلْته وحاولت فتنته عن نفسه بالإغراء فاستمسك بعصمته، وأؤكد أنه من أهل الصدق والحق حين رد التهمة علىّ ونسبها إلىّ.
٥٢- هذا اعتراف منى بالحق أُقَدِّمه، ليستيقن يوسف إني لم أستغل غيبته في السجن، وأتمادى في الخيانة، وأعول على تثبيت اتهامه، ولأن الله لا ينجح تدبير الخائنين.
٥٣- وما أدَّعى عَصمةَ نفسي من الزلل، فإن النفس تميل بطبعها إلى الشهوات وتزيين السوء والشر، إلا نفس من حفظه الله وصرفه عن السوء. وإني لأطمع في رحمة الله وغفرانه، لأنه واسع الغفران لذنوب التائبين، قريب لا ينجح تدبير الخائنين.
٥٤- فلما ظهرت براءة يوسف عند الملك، صمم على استدعائه، وكلف رجاله أن يحضروه ليجعله من خاصته وخلصائه، فلما حضر إليه وجرى بينهما الحديث، تجلى له من يوسف ما تجلى من طهارة النفس وثقوب الرأي فقال له : إن لك في نفسي لمقاماً كريماً ثابتاً وأنت الأمين الموثوق به.
٥٥- وعلم الملك منه حسن التدبير وكفاءته لما يقوم به، وأحسَّ يوسف بذلك، وحينئذ طلب منه أن يستوزره قائلا له : وَلّني على خزائن ملكك ومستودعات غلات أرضك، لأني كما تأكد لديك ضابط لأمور المملكة، حافظ لها، خبير بالتدبير وتصريف الأمور.
٥٦- وقبل الملك عرضه، فاستوزره، وبذلك أنعم الله على يوسف نعمة جليلة، فجعل له سلطاناً وقدرة في أرض مصر، ينزل منها بأي مكان يريد. وهذا شأن الله في عباده، يهب نعمته لمن يختاره منهم، ولا يهدر ثوابهم وإنما يؤتيهم أجورهم على الإحسان بالإحسان في الدنيا.
٥٧- وأن ثوابه في الآخرة لأفضل وأوفي لمن صدقوا به وبرسله، وكانوا يراقبونه ويخافون يوم الحساب.
٥٨- واشتد القحط بما حول مصر، ونزل بآل يعقوب ما نزل بغيرهم من الشدة، وقصد الناس مصر من كل مكان، بعد ما علموا من تدبير يوسف للمؤن، واستعداده لسنوات الجدب. فبعث يعقوب إليها أبناءه طلباً للطعام، واحتجز معه ابنه شقيق يوسف خوفاً عليه، فلما بلغ أبناؤه مصر توجهوا من فورهم إلى يوسف، فعرفهم دون أن يعرفوه.
٥٩- وأمر يوسف أن يُكرَّموا في ضيافته، ويُدفع لهم من الميرة ما طلبوه فتم لهم ذلك، وأخذ يُحدثهم، ويسأل عن أحوالهم سؤال الجاهل بها، وهو بها عليم، فأخبروه أنهم تركوا أخا لهم حرص أبوهم ألا يفارقه، وهو بنيامين شقيق يوسف، فقال : ليحضر معكم أخوكم، ولا تخافوا شيئاً، فقد رأيتم إيفاء كيلكم وإكرامي لكم في نزولكم.
٦٠- فإن لم تحضروا أخاكم هذا، فليس عندي لكم طعام، ولا تحاولوا أن تأتوني مرة أخرى.
٦١- قال إخواته : سنحتال على أبيه لينزل عن إرادته ولا يخاف عليه، ونؤكد لك أننا لن نقصر في ذلك أو نتوانى فيه.
٦٢- ولما هموا بالرحيل، قال لأتباعه : ضعوا ما قدَّموه من ثمن بضاعتهم في أمتعتهم، عساهم يرونها إذا عادوا إلى أهلهم، فيكون ذلك أرجى لعودتهم مؤملين في إعطائهم الطعام، واثقين بالوفاء بالعهد، وآمنين على أخيهم وليبعثوا الطمأنينة في نفس أبيهم.
٦٣- فلما عادوا إلى أبيهم قصوا عليه قصتهم مع عزيز مصر، وتلطفه بهم، وأنه أنذرهم بمنع الكيل لهم في المستقبل إن لم يكن معهم بنيامين، وواعدهم بوفاء الكيل لهم، وإكرام منزلتهم إن عادوا إليه بأخيهم، وقالوا له : ابعث معنا أخانا فإنك إن بعثته اكْتلنا ما نحتاج إليه من الطعام وافياً، ونعدك وعداً مؤكداً أنا سنبذل الجهد في المحافظة عليه.
٦٤- وثارت في نفس يعقوب ذكريات الماضي، فربطها بالحاضر، وقال لبنيه : إن أمري إذا استجبت لكم لعجيب فلن تكون حالي حين آمنكم على أخيكم إلا مثل حالي حين ائتمنتكم على يوسف فأخذتموه، ثم عدتم تقولون : أكله الذئب، فالله حسبي في حماية ابني، ولا أعتمد إلا عليه، فهو أقوى حافظ، ورحمته أوسع من أن يفجعني بعد يوسف في أخيه.
٦٥- وكان إخوة يوسف يجهلون أن يوسف وضع أموالهم في حقائبهم، فلما فتحوها ووجدوا الأموال عرفوا جميل ما صنع بهم يوسف، وتذرعوا بذلك إلى بث الطمأنينة في قلب يعقوب، وإقناعه بالاستجابة إلى ما طلب العزيز وبالغوا في استمالته، فذكروه بما بينه وبينهم من رباط الأبوة، فقالوا : يا أبانا أي شيء تريده أجمل مما جرى وينتظر أن تجرى به الأحداث ؟ هذه أموالنا أعيدت إلينا دون أن يحتجز منها شيء، فنسافر مع أخينا ونجلب الميرة لأهلنا، ونرعى أخانا، ويزيد ميرتنا حمل بعير لحق أخينا، فقد رسم العزيز أن يعطى الرجل حمل بعير.
٦٦- ونجحت محاولة أبناء يعقوب في إقناعه، وأثَّر مقالهم فيه، فنزل عن التشدد في احتجاز ابنه وحبسه عن الذهاب مع إخوته إلى مصر، ولكن قلبه لا يزال في حاجة إلى ما يزيد اطمئنانه ولذلك قال لهم : لن أبعثه معكم إلا بعد أن تعطوني ضماناً قوياً، فتعاهدوا الله عهداً موثقاً أن تعيدوه إلىّ، وألا يمنعكم عن ردِّه إلا أن تُهلكوا أو يحيط بكم عدو يغلبكم عليه. فاستجابوا له، وقدَّموا ما طلب من المواثيق، وعندئذ أشهد الله على عهودهم وأيمانهم بقوله : الله على ما دار بيننا مطلع رقيب.
٦٧- اطمأن يعقوب إلى عهد أبنائه، ثم دفعته الشفقة عليهم إلا أن يوصيهم عند دخولهم مصر بأن يدخلوا من أبواب متفرقة، لكيلا يلفتوا الأنظار عند دخولهم، ولا تترقبهم الأعين، وقد يكون ما يسيئهم، وليس في قدرتي أن أدفع عنكم أذى، فالدافع للأذى هو الله وله - وحده - الحكم، وقد توكلت عليه وفوضت إليه أمري وأمركم، وعليه - وحده - يتوكل الذين يفوضون أمورهم إليه مؤمنين به.
٦٨- لقد استجابوا لوصية أبيهم، فدخلوا من أبواب متفرقة، وما كان ذلك ليدفع عنهم أذى كتبه الله لهم، وإن يعقوب ليعلم ذلك، فإنه ذو علم علَّمناه إيَّاه، ولكن وصيته كانت لحاجة في نفسه، وهي شفقة الأب على أبنائه أعلنها في هذه الوصية، وأن أكثر الناس لا يعلمون مثل علم يعقوب، فيفوضون لله ويحترسون.
٦٩- ولما دخلوا على يوسف أنزلهم منزلاً كريماً، واختص أخاه شقيقه بأن آواه إليه، وأسرَّ إليه قائلاً : إني أخوك يوسف، فلا تحزن بما كانوا يصنعون معك وما صنعوه معي.
٧٠- فبعد أن أكرم وفادتهم، وكالهم الطعام، وزادهم حملا لأخيه، أعد رحالهم للسفر، ثم أمر أعوانه أن يدسوا إناء شرب الماء في حمل بنيامين، ثم نادى أحد أعوان يوسف :- أيها الركب القافلون بأحمالكم - قفوا إنكم لسارقون.
٧١- فارتاع إخوة يوسف للنداء، واتجهوا إلى المنادين يسألونهم، ما الذي ضاع منكم وعم تبحثون ؟
٧٢- فأجابهم الأعوان : نبحث عن الصواع، وهو إناء الملك الذي يشرب به، ومكافأة من يأتي به حمل جمل من الطعام، وأكد رئيسهم ذلك، فقال : وأنا بهذا الوعد ضامن وكفيل.
٧٣- قال إخوة يوسف : إن اتهامكم إيّانا بالسرقة لعجيب، ونؤكد بالقسم أن فيما ظهر لكم من أخلاقنا وتمسكنا بديننا في مرتي مجيئنا ما يؤكد علمكم أننا لم نأت بغية الإفساد في بلادكم، وما كان من أخلاقنا أن نكون من السارقين.
٧٤- وكان يوسف قد أوحى إلى أتباعه أن يكلوا إلى إخوته تقدير الجزاء الذي يستحقه من وجد الصواع عنده، تمهيداً لأخذ أخيه منهم بحكمهم، وليكون قضاؤهم مبرماً لا وجه للشفاعة فيه، فقالوا لهم : فماذا يكون جزاء السارقين عندكم إن ظهر أنه منكم ؟
٧٥- ولوثوق أبناء يعقوب بأنهم لم يسرقوا الصواع، قالوا غير متلجلجين : جزاء من أخذ الصواع أن يؤخذ رقيقاً، فبمثل هذا الجزاء نجازى الظالمين الذين يأخذون أموال الناس.
٧٦- وانتهي الأمر إلى تفتيش الرحال، وكان لا بد من الأحكام حتى لا يظهر في تنفيذ الخطة افتعال، وتولى يوسف التفتيش بنفسه، بعد أن مهّد الأمر، فبدأ بتفتيش أوعية العشرة الأشقاء، ثم انتهي إلى تفتيش وعاء أخيه، فأخرج السقاية منه، وبذلك نجحت حيلته، وحق له بقضاء إخوته أن يحتجز بنيامين، وهكذا دبَّر الله الأمر ليوسف فما كان في استطاعته أخذ أخيه بمقتضى شريعة ملك مصر إلا بإرادة الله، وقد أرادها، فدبَّرنا الأمر ليوسف ووفقناه إلى ترتيب الأسباب وإحكام التدبير والتلطف في الاحتيال، وهذا من فضل الله الذي يعلى في العلم منازل من أراد، وفوق كل صاحب علم مَن هو أعظم، فهناك من يفوقه في علمه.
٧٧- وكان إخراج الصواع من حقيبة أخيه مفاجأة أخجلت إخوته، فتنصلوا باعتذار يبرئ جماعتهم دونه، ويطعنه هو ويوسف، ويوحي بأن السرقة طبع ورثاه من قبل الأم، وقالوا : ليس بعجيب أن تقع منه سرقة إذ سبقه إلى ذلك أخوه الشقيق، وفطن يوسف إلى طعنهم الخفي، فساءه، ولكنه كتم ذلك، وأضمر في نفسه جواباً لو صارحهم به لكان هذا الجواب : أنتم أسوأ منزلة وأحط قدرا، والله أعلم وأصدق علماً بكلامكم الذي تصفون به أخاه بوصمة السرقة.
٧٨- ولم يكن بد من محاولة لتخليص أخيهم أو افتدائه، رجاء أن تصدق مواثيقهم ليعقوب، فاتجهوا إلى ترقيق قلب يوسف بحديث الأبوة في شيخوختها وقالوا له :- أيها العزيز - إن لأخينا أباً طاعناً في السن، فإن رحمته قبلت واحداً منا ليلقى الجزاء بدل ابنه هذا الذي تعلق به قلبه، وأملنا أن تقبل الرجاء، فقد جربنا عادتك الكريمة، وتأكد لنا انطباعكم عن حب الإحسان وعمل المعروف.
٧٩- وما كان ليوسف أن ينقض تدبيرا وفَّقه الله إليه، ويفلت من يده أخاه، ولذلك لم يلنه استعطافهم، وردَّهم ردَّاً حاسماً، وقال لهم : إني ألجأ إلى الله منزهاً نفسي عن الظلم فأحتجز غير من عثرنا على ما لنا معه، إذ لو أخذنا سواه بعقوبته لكنا من المعتدين الذين يأخذون البريء بذنب المسيء.
٨٠- فلما انقطع منهم الأمل، ويئسوا من قبول الرجاء، اختلوا بأنفسهم يتشاورون في موقفهم من أبيهم، فلما انتهى الرأي إلى كبيرهم المدبر لشئونهم قال لهم : ما كان ينبغي أن تنسوا عهدكم الموثق بيمين الله لأبيكم أن تحافظوا على أخيكم حتى تردوه إليه، ولأنكم عاقدتموه من قبل على صيانة يوسف ثم ضيعتموه، ولذلك سأبقى بمصر لا أفارقها، إلا إذا فهم أبي الوضع على حقيقته، وسمح لي بالرجوع إليه، أو قضى الله لي بالرجوع الكريم، ويسره لي بسبب من الأسباب، وهو أعدل الحاكمين.
٨١- عودوا - أنتم - إلى أبيكم وقصوا له القصة، وقولوا له : إن يد ابنك امتدت إلى صواع الملك فسرقها وقد ضبطت في حقيبته، وعوقب على ذلك باسترقاقه، وما أخبرناك إلا بما عايناه، وما كنا مطلعين على المستور من قضاء الله حين طلبناه وأعطيناك على حفظه وردِّه إليك العهود والمواثيق وهو أعدل الحاكمين.
٨٢- وإن كنت في شك مما بلغناك، فأرسل من يأتيك بشهادة أهل مصر واستشهد أنت بنفسك رفاقنا الذين عدنا معهم في القافلة، لتظهر لك براءتنا، ونؤكد لك أننا صادقون فيما نقول.
٨٣- فرجع بقية الأبناء إلى يعقوب، وخبَّروه كما وصَّاهم أخوهم الكبير فَهَيَّج الخبر أحزانه، وضاعف منها فقد ابنه الثاني، ولم تطب نفسه ببراءتهم من التسبب في ضياعه وهو المفجوع بما صنعوا من قبل في يوسف، وصرح باتهامهم قائلا لهم : ما سلمت نيتكم في المحافظة على ابني، ولكن زينت لكم نفوسكم أن تخلصتم منه مثلما تخلصتم من أخيه، فلولا فتواكم وحكمكم أن يؤخذ السارق رقيقاً عقوبة له على السرقة، ما أخذ العزيز ابني، ولا تخلف أخوكم الكبير بمصر، ولا حيلة لي إلا أن أتجمل في مصيبتي بالعزاء الحميد، راجياً أن يرد الله على جميع أبنائي، فهو صاحب العلم المحيط بحالي وحالهم، وله الحكمة البالغة، فيما يصنع لي ويُدبِّر.
٨٤- وضاق بما قالوا فأعرض عنهم خالياً بنفسه، مشغولا بأساه وأسفه على فَقْد يوسف، فذهب سواد عينيه من شدة الحزن، وقد كظم غيظه وألمه أشد الكظم١.
١ ينشأ عن الحزن العميق حال نفسية يزداد بسببها الضغط على العينين فتصاب العين ببعض الأمراض وضعف البصر شيئا فشيئا قد يزول نهائيا وتبدو العين بيضاء..
٨٥- وتوالت الأيام ويعقوب مسترسل في لوعته، وخشي أبناؤه سوء العاقبة، فاتجهوا إلى مراجعته وحمله على التخفيف من شدة حزنه، وقالوا له - وهم بين الإشفاق عليه والغيظ من دوام ذكره ليوسف - : لئن لم تخفف عن نفسك لتزيدن ذكرى يوسف آلامك وأوجاعك، إلى أن يذيبك الغم فتشرف على الموت، أو تصبح في عداد الميتين.
٨٦- ولم يؤثر قولهم فيه، فردهم قائلاً : ما شكوت لكم، ولا طلبت منكم تخفيف لوعتي، وليس لي إلا اللَّه أضرع إليه وأشكو له همومي صعبها وسهلها، وما أستطيع كتمانه منها وما لا أستطيع، لأني أدرك من حسن صنعه وسعة رحمته ما لا تدركون.
٨٧- والثقة في اللَّه تحيى الأمل ولذلك لم يذهب الغم برجاء يعقوب في عودة ولديه إليه، وألقى في روعه أنهما من الأحياء، وأن موعد التقائه بهما قد حان، فأمر بنيه أن ينقبوا عنهما، قائلا لهم : يا بني ارجعوا إلى مصر فانضموا إلى أخيكم الكبير، وابحثوا عن يوسف وأخيه وتطلَّبوا أخبارهما في رفق لا يشعر به الناس، ولا تقنطوا من أن يرحمنا اللَّه بردهما، لأنه لا يقنط من رحمة اللَّه غير الجاحدين.
٨٨- واستجاب إخوة يوسف لطلب أبيهم، فذهبوا إلى مصر، وتحايلوا لمقابلة حاكمها الذي ظهر لهم من بعد أنه يوسف، فلما دخلوا عليه، قالوا :- يا أيها العزيز - مسَّنا نحن وعشيرتنا الجوع وما يتبعه من ضر الأجسام والنفوس، وجئنا إليك بأموال قليلة هي بضاعتنا وهي ترد لقلتها ورداءتها، وليست كفاء ما نرجوه منك، لأننا نرجو منك وفاء الكيل فأوفه لنا، واجعل الزائد عن حقنا صدقة علينا، إن اللَّه تعالى يثيب المتصدقين بأحسن الثواب.
٨٩- أخذت يوسف الشفقة الأخوية الرحيمة التي تعفو عن الإساءة، وابتدأ يكشف أمره لهم قائلا في عتب، هل أدركتم قبح ما فعلتموه بيوسف من إلقائه في الجب، وبأخيه من أذى. مندفعين في ذلك بجهل أنساكم الرحمة والأخوة ؟
٩٠- نبهتهم تلك المفاجأة السارة إلى إدراك أن هذا يوسف، فتفحصوه، ثم قالوا مؤكدين : إنك لأنت يوسف حقا وصدقا، فقال يوسف الكريم مصدقا لهم : أنا يوسف، وهذا أخي، قد مَنَّ اللَّه علينا بالسلامة من المهالك، وبالكرامة والسلطان، وكان ذلك جزاء من اللَّه لإخلاصي وإحساني، وإن اللَّه لا يضيع أجر من يُحسن ويستمر على الإحسان.
٩١- فقالوا : صدقت فيما قلت، ونؤكد لك بالقسم أن الله فضَّلك بالتقوى والصبر وحسن السيرة وأثابك بالملك وعلو المكانه، وإنما كنا آثمين فيما فعلنا بك وبأخيك، فأذلنا اللَّه لك، وجزانا جزاء الآثمين.
٩٢- فرد عليهم - النبي الكريم - قائلاً : لا لوم عليكم اليوم، ولا تأنيب، ولكم عندي الصفح الجميل لحرمة النسب وحق الأخوة، وأدعوا اللَّه لكم بالعفو والغفران، وهو صاحب الرحمة العظمى.
٩٣- ثم سألهم يوسف عن أبيه، فلما أخبروه عن سوء حاله وسوء بصره من كثرة غمه وبكائه ؛ أعطاهم قميصه، وقال لهم : عودوا به إلى أبى فاطرحوه على وجهه، فسيؤكد له ذلك سلامتي، وتملأ قلبه الفرحة، ويجعله اللَّه سببا لعودة بصره، وحينئذ تعالوا إلىَّ به، وبأهلكم أجمعين.
٩٤- وارتحلوا بالقميص، وكان قلب يعقوب مستغرقا في ترقب ما تأتى به رحلة بنيه، وكان اللَّه معه في هذا الترقب فوصل روحه بأرواحهم، فحين تجاوزت قافلتهم أرض مصر في طريقها إليه، شرح اللَّه صدره بالأمل، وأحاطه بجو من الطمأنينة إلى اقتراب البشرى بسلامة يوسف، وأخبر أهله بذلك إذ يقول : إني أشعر برائحة يوسف المحبوبة تغمرني، ولولا خشية أن تتهموني في قولي لأنبأتكم عن يوسف بأكثر من الشعور والوجدان.
٩٥- فرد عليه أهله ردا خشنا، حالفين باللَّه أنه لا يزال ذاهبا عن صوابه هائما في خياله، فتهيأ له ما تهيأ من فرط محبته ليوسف، ولهجه بذكراه، ورجائه للقياه.
٩٦- واستمر على أمله منتظرا رحمة اللَّه، واستمر أهله على سوء الظن به إلى أن أتاه منْ يحمل القميص ويبشره بسلامة يوسف، فحين طرح القميص على وجه يعقوب نفحته رائحة يوسف وغمرت قلبه الفرحة، فعاد إليه بصره، ولما حدثه الرسول بحال يوسف، وأنه يطلب رحلته إليه بأهله، اتجه إلى من حوله يذكرهم بنبوءته، ويُعاتبهم على تكذيبه، ويوجه أذهانهم إلى ذكر ما أكده لهم آنفا من أنه يدرك من رحمة اللَّه وفضله ما لا يُدْرِكون.
٩٧- فقبلوا عليه معتذرين عمَّا كان منهم، راجين أن يصفح عنهم، وأن يطلب من اللَّه التجاوز عن آثامهم، لأنهم كما أكدوا في اعتذارهم كانوا آثمين.
٩٨- فقال يعقوب : سأداوم طلب العفو من اللَّه عن سيئاتكم، إنه - وحده - صاحب المغفرة الثابتة والرحمة الدائمة.
٩٩- رحل يعقوب إلى مصر، وسار بأهله حتى بلغها، فحين دخلوا على يوسف - وكان قد استقبلهم في مدخل مصر - عجَّل به الحنان والشوق إلى أبيه وأمه، فقربهما إليه، وطلب منهما ومن أهله أن يقيموا في مصر آمنين سالمين بإذن اللَّه.
١٠٠- وسار الركب داخل مصر حتى بلغ دار يوسف، فدخلوها وصدَّر يوسف أبويه، فأجلسهما على سرير، وغمر يعقوب وأهله شعور بجليل ما هيأ اللَّه لهم على يدي يوسف، إذ جمع به شمل الأسرة بعد الشتات ونقلها إلى مكان عظيم من العزة والتكريم، فحيَّوه تحية مألوفة تعارف الناس عليها في القديم للرؤساء والحاكمين، وأظهروا الخضوع لحكمه، فأثار ذلك في نفس يوسف ذكرى حلمه وهو صغير، فقال لأبيه : هذا تفسير ما قصصت عليك من قبل من رؤيا، حين رأيت في المنام أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين لي، قد حققه ربي، وقد أكرمني وأحسن إلىَّ، فأظهر براءتي، وخلصني من السجن، وأتى بكم من البادية لنلتقي من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي، وأغراهم بي، وما كان لهذا كله أن يتم بغير صنع اللَّه، فهو رفيق التدبير والتسخير لتنفيذ ما يريد، وهو المحيط علما بكل شيء، البالغ حكمه في كل تصرف وقضاء.
١٠١- واتجه يوسف إلى اللَّه، يشكره بإحصاء نعمه عليه، ويرجوه المزيد من فضله، قائلا : يا رب ما أكثر نعمك علىَّ، وما أعظمها، لقد منحتني من الملك ما أحمدك عليه، ووهبتني من العلم بتفسير الأحلام ما وهبت، يا خالق السماوات والأرض وبارئهما، أنت مالك أمري ومتولي نعمتي في محياي وبعد مماتي، اقبضني إليك على ما ارتضيت لأنبيائك من دين الإسلام، وأدخلني في زمرة من هديتهم إلى الصلاح من آبائي وعبادك الصالحين المخلصين.
١٠٢- ذلك الذي قصصنا عليك - أيها النبي - من أخبار الماضي السحيق، لم يأتك إلا بإيحاء منا، وما كنت حاضرا إخوة يوسف وهم يدبرون له من المكائد وما علمت بكيدهم إلا عن طريقنا.
١٠٣- وفي أغلب الطباع مرض يجعلها غير قابلة لتصديق ما أوحى إليك مهما تعلق قلبك بأن يؤمنوا أو أجهدت نفسك أن يكونوا من المهتدين.
١٠٤- وما نقصد بما تحدثهم به من أحاديث الهدى نيل الجزاء أو منفعة، فإن لم يهتدوا فلا تحزن عليهم، وسيهدى اللَّه قوما غيرهم، فما أنزلناه إليهم خاصة، وما هو إلا موعظة وعبرة لكل من خلق اللَّه في السماوات والأرض.
١٠٥- وما أكثر الدلائل على وجود الخالق ووحدانيته وكماله، الثابتة في السماوات والأرض، يشاهدها قومك ويتولون عنها مكابرين غير معتبرين.
١٠٦- وفيهم مصدقون باللَّه معترفون بربوبيته وأنه خالق كل شيء، ولكن إيمان أكثرهم لا يقوم على أساس سليم من التوحيد، فلا يعترفون بوحدانية اللَّه اعترافاً خالصاً، ولكنه مقترن في نفوسهم بشوائب تسلكهم في مسلك المشركين.
١٠٧- أتَّخذوا عند اللَّه عهدا بعدم تعذيبهم، فضمنوا الأمن والسلامة من أن يصيبهم اللَّه بعذاب غامر، ويغشاهم بنقمته، كما فعل بأسلافهم من قبل ؟ أو أن تفاجئهم القيامة وتبغتهم وهم مقيمون على الشرك والكفر ثم يكون مصيرهم إلى النار ؟ !.
١٠٨- نبِّههم - يا محمد - إلى سمو غايتك، وبصِّرهم بنبل مهمتك، فقل لهم : هذه سنتي وطريقتي، أدعو الناس إلى طريق اللَّه وأنا متثبت من أمري، وكذلك يدعو إليها كل من تبعني وآمن بشريعتي، وأنزِّه اللَّه عما لا يليق به، ولست مشركاً به أحداً سواه.
١٠٩- وما تحولنا عن سنتنا في اختبار الرسل حين اخترناك - أيها النبي - ولا خرجت حال قومك عن أحوال الأمم السابقة فما بعثنا من قبلك ملائكة، وإنما اخترنا رجالا من أهل الأمصار ننزل عليهم الوحي، ونرسلهم مبشرين ومنذرين، فيستجيب لهم المهتدون، ويعاندهم الضالون ! فهل غفل قومك عن هذه الحقيقة، وهل قعد بهم العجز عن السعي فأهلكناهم في الدنيا ومصيرهم إلى النار، وآمن من آمن فنجيناهم ونصرناهم في الدنيا، ولثواب الآخرة أفضل لمن خافوا اللَّه فلم يشركوا به ولم يعصوه، أسلبت عقولكم - أيها المعاندون - فلا تفكروا ولا تتدبروا ؟ !.
١١٠- ولا تستبطئ يا محمد نصري، فإن نصري قريب أكيد، وقد أرسلنا من قبلك رسلا فاقتضت حكمتنا أن يتراخى عنهم نصرنا، ويتطاول عليهم التكذيب من قومهم، حتى إذا زلزلت نفوس واستشعرت القنوط أدركهم نصرنا، فأنعمنا بالنجاة والسلامة على الذين يستأهلون منا إرادة النجاة وهم المؤمنون، وأدرنا دائرة السوء على الذين أجرموا بالعناد وأصروا على الشرك، ولا يدفع عذابنا وبطشنا دافع عن القوم المجرمين.
١١١- وقد أوحينا إليك ما أوحينا من قصص الأنبياء، تثبيتا لفؤادك، وهداية لقومك، وأودعناه من العبر والعظات ما يستنير به أصحاب العقول والفطن ويدركون أن القرآن حق وصدق، فما كان حديثاً مختلقاً ولا أساطير مفتراة، وإنما هو حق ووحي، ويؤكد صدق ما سبق من كتب السماء ومن جاء بها من الرسل، ويبين كل ما يحتاج إلى تفصيله من أمور الدين، ويهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ويفتح أبواب رحمة اللَّه لمن اهتدى بهديه وكان من المؤمنين الصادقين.
Icon