تفسير سورة يوسف

الدر المصون
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قد تَقَدَّم الكلامُ على نحوِ قولِه «تلك آياتُ» في أول يونس.
قوله تعالى: ﴿قُرْآناً﴾ : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ بدلاً من ضمير «أَنْزَلْناه»، أو حالاً مُوَطِّئةً منه، والضميرُ في «أَنْزَلْناه» على هذين القولين يعودُ على «الكتاب». وقيل: «قُرْآناً» مفعولاٌ به والضميرُ في «أَنْزلْناه» ضميرُ المصدر.
و «عربيَّاً» نعتٌ للقرآن. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ حالاً مِنَ الضمير في «قُرْآناً» إذا تحمَّل ضميراً، يعني إذا جَعَلْناه حالاً مُؤَوَّلاً بمشتق، أي: أَنْزَلْناه مُجْتَمِعاً في حال كونِ عربيَّاً. والعربيُّ منسوب للعرب لأنه نَزلَ بلغتِهم. وواحدُ العَرَبِ عربيٌ، كما أن واحدَ الرومِ روميٌّ. وعَرَبةُ بفتح الراء ناحيةُ دارِ إسماعيلَ النبيِّ عيله السلام. قال الشاعر:
429
٢٣٧٧ - وعَرْبَةُ أرضٌ ما يُحِلُّ حرامَها مِنَ الناسِ إلا اللَّوْذَعِيُّ الحُلاحِلُ
سكَّن راءَها ضرورةً، فيجوز أن يكونَ العربيُّ منسوباً إلى هذه البقعة.
430
قوله تعالى: ﴿أَحْسَنَ القصص﴾ : في انتصاب «أحسنَ» وجهان، [أحدهما] : أن يكونَ/ منصوباً على المفعول به، ولكنْ إذا جَعَلْتَ القصصَ مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ كالخَلْق بمعنى المَخْلوق، أو جعَلْتَه فَعَلاً بمعنى مفعول كالقَبَضِ والنَّقَص بمعنى المَنْقُوص والمقبوض، أي: نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الأشياءِ المقتصَّة. والثاني: أن يكونَ منصوباً على المصدرِ المُبَيِّنِ، إذا جَعَلْتَ القصصَ مصدراً غيرَ مرادٍ به المفعولُ، ويكون المقصوصُ على هذا محذوفاً، أي: نَقُصُّ عليك أحسنَ الاقتصاص. و «أَحْسَنَ» يجوز أن تكونَ أفْعَل تفضيلٍ على بابها، وأن تكونَ لمجرَّدِ الوصفِ بالحُسْن، وتكون من بابِ إضافة الصفةِ لموصوفِها، أي: القصص الحسن.
قوله: ﴿بِمَآ أَوْحَيْنَآ﴾ الباءُ سببيةٌ، وهي متعلقةٌ ب «نَقُصُّ» و «ما» مصدريةٌ، أي: بسبب إيحائنا.
قوله: ﴿هذا القرآن﴾ يجوز فيه وجهان، أحدهما: وهو الظاهرُ أن ينتصبَ على المفعولِ به ب «أَوْحَيْنا». والثاني: أن تكون المسألةُ من بابِ التنازع، أعني بين «نَقُصُّ» وبين «أَوْحَيْنا» فإنَّ كلاًّ منهما يطلبُ «هذا القرآن»، وتكونُ المسألةُ من إعمال الثاني، وهذا إنما يتأتى على جَعْلِنا «أَحْسَنَ» منصوباً على المصدرِ، ولم نُقَدِّرْ ل «نَقُصُّ» مفعولاً محذوفاً.
430
قوله: «وَإِن كُنتَ» إلى آخره تقدَّمه نظيرُه.
431
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ﴾ : في العاملِ فيه أوجهٌ، أظهرها: أنه منصوبٌ ب ﴿قَالَ يابني﴾ [يوسف: ٥]، أي: قال يعقوب: يا بُنَيَّ، وقتَ قولِ يوسفَ له كيت وكيت، وهذا أسهلُ الوجوهِ، إذ فيه إبقاءُ «إذ» على كونِه ظرفاً ماضياً. وقيل: الناصبُ له «الغافلين» قاله مكي. وقيل: هو منصوبٌ ب «نَقُصُّ»، أي: نَقُصُّ عليك وقتَ قولِه كيت وكيت، وهذا فيه إخراجُ «إذ» عن المضيِّ وعن الظرفية، وإن قَدَّرْتَ المفعولَ محذوفاً، أي: نَقُصُّ عليك الحالَ وقتَ قولِه، لزم إخراجها عن المُضِيّ. وقيل: هو منصوبٌ بمضمر، أي: اذكر. وقيل: هو منصوب على أنه بدلٌ مِنْ «أَحْسَنَ القصص» بدلُ اشتمال. قال الزمخشري: «لأنَّ الوقتَ يَشْمل على القصص وهو المقصوص».
قوله: ﴿ياأبت﴾ قرأ ابن عامر بفتح التاء، والباقون بكسرِها. وهذه التاءُ عوضٌ من ياء المتكلم، ولذلك لا يجوز الجمعُ بينهما إلا ضرورةً، وهذا يختصُّ بلفظتين. يا أبت، ويا أَمَتِ ولا يجوز في غيرهما من الأسماء لو قلت: «يا صاحِبَتِ» لم يَجُز البتة، كما اختصَّتْ لفظةُ الأمِّ والعمِّ بحكمٍ في نحو «يا بن أُمّ». ويجوز الجمعُ بين هذه التاءِ وبين كلٍ مِنَ الياءِ والألفِ ضرورةً
431
كقوله:
٢٧٣٤ - يا أَبَتا عَلَّكَ أو عَساكا... وقول الآخر:
٢٧٣٥ - أيا أَبَتا لا تَزَلْ عندَنا فإنَّا نخافُ بأنْ نُخْتَرَمْ
وقول الآخر:
٢٧٣٦ - أيا أبتي لا زِلْتَ فينا فإنَّما لنا أَمَلٌ في العيشِ ما دُمْتَ عائِشا
وكلام الزمخشري يُؤْذِنُ بأنَّ الجمعَ بين التاءِ والألفِ ليس ضرورةً فإنه قال: «فإن قلت: فما هذه الكسرةُ؟ قلت: هي الكسرةُ التي كانت قبل الياءِ في قولِك» يا أبي «فَزُحْلِقَتْ إلى التاء لاقتضاءِ تاءِ التأنيثِ أن يكونَ ما قبلها مفتوحاً. فإن قُلْتَ: فما بالُ الكسرةِ لم تَسْقُطْ بالفتحة التي اقْتَضَتْها التاءُ، وتبقى التاءُ ساكنة؟ قلت: امتنع ذلك فيها لأنها اسمٌ، والأسماءُ حقُّها التحريكُ لأصالتِها في الإِعراب، وإنما جاز تسكينُ الياء وأصلُها أن تُحَرَّك تخفيفاً لأنها حرف لين، وأمَّا التاءُ فحرفٌ صحيحٌ نحو كاف الضمير، فلزم تحريكُها. فإنْ قلت: يُشْبه الجمعُ بين هذه التاءِ وبين هذه الكسرةِ الجمعَ بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه؛ لأنها في حكم الياءِ إذا قلتَ: يا غلامِ، فكما لا يجوزُ» يا أبتي «لا يجوز» يا أبتِ «. قلت: الياء والكسرةُ قبلها شيئان، والتاءُ
432
عوضٌ من أحد الشيئين وهو الياءُ، والكسرةُ غيرُ مُتَعَرَّضٍ لها، فلا يُجْمَعُ بين العِوَض والمُعَوَّض منه، إلا إذا جُمِعَ بين التاءِ والياءِ لا غير. ألا ترى إلى قولهم:» يا أبتا «مع كونِ الألفِ فيه بدلاً من الياء كيف جاز الجمعُ بينها وبين التاء، ولم يُعَدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوض منه؟ فالكسرة أبعدُ من ذلك.
فإن قلتَ: قد دَلَّتِ الكسرةُ في «يا غلامِ»
على الإِضافة لأنها قرينةُ الياءِ ولصيقتُها، فإن دَلَّت على مِثْلِ ذلك في «يا أبت» فالتاء المعوَّضَةُ لَغْوٌ، وجودُها كعَدَمِها. قلت: بل حالُها مع التاءِ كحالِها مع الياءِ إذا قلت: يا أبي «.
وكذا عبارة الشيخ فإنه قال:»
وهذه التاءُ عوضٌ من ياء الإِضافة فلا تجتمعان، وتجامعُ الألفَ التي هي بدلٌ من الياء قال:
٢٧٣٧ - يا أَبَتا عَلَّكَ أو عَسَاكا... / وفيه نظرٌ من حيث إنَّ الألفَ كالياءِ لكونها بدلاً منها، فينبغي أن لا يُجْمَعَ بينهما.
وهذ التاءُ أصلُها للتأنيث قال الزمخشري: «فإن قلت: ما هذه التاءُ؟ قلت: تاءُ تأنيثٍ وقعت عوضاً من ياء الإِضافة، والدليلُ على أنَّها تاءُ تأنيثٍ قَلْبُها هاءً في الوقف». قلت: وما ذَكَرَه مِنْ كونها تُقْلَبُ هاءً في الوقف قرأ به ابنُ كثير وابنُ عامر، والباقون وقفوا عليها بالتاء، كأنهم أَجْرَوْها مُجْرى تاء الإِلحاق في بنت وأخت، ومِمَّنْ نَصَّ على كونِها للتأنيث سيبويه فإنه قال: «سألتُ الخليل عن التاء في» يا أبت «فقال:» هي بمنزلة التاء في تاء خالة
433
وعمَّة «يعني أنها للتأنيث، ويدلُّ على كونِها للتأنيث أيضاً كَتْبُهم إياها هاءً، وقياس مَنْ وَقَفَ بالتاءِ أن يكتَبها تاءً كبنت وأخت.
ثم قال الزمخشري:»
فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر؟ قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذَكَر وشاةٌ ذَكَر ورجلٌ رَبْعَة وغلام يَفَعَة «. قلت: يعني أنها جِيْءَ بها لمجردِ تأنيث اللفظ كما في الألفاظِ المستشهد بها. ثم قال الزمخشري:» فإن قلتَ: فلِمَ ساغ تعويضُ تاءِ التأنيث من ياءِ الإِضافة؟ قلت: لأنَّ التأنيثَ والإِضافةَ يتناسبان في أنَّ كلِّ واحدٍ منهما زيادةٌ مضمومةٌ إلى الاسم في آخره «. قلت: وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يُعمل به عند الحُذَّاق، فإنه يُسَمَّى الشَّبَه الطردي، يني أنه شَبَهٌ في الصورة.
وقال الزمخشري:»
إنه قُرىء «يا أَبَت» بالحركات الثلاث «. فأمَّا الفتحُ والكسر فقد عَزَيْتُهما لقارئهما، وأمَّا الضمُّ فغريبٌ جداً، وهو يُشْبِهُ مَنْ يَبْني المنادى المضافَ لياء المتكلم على الضم كقراءةِ مَنْ قرأ وستأتي إن شاء اللَّه ﴿قَالَ رَبُّ احكم﴾ [الأنبياء: ١١٢] بضم الباء، ويأتي توجيهها هناك، ولِمَ قُلْنا إنه مضافٌ للياء ولم نجعلْه مفرداً من غير إضافة؟.
وقد تقدَّم توجيهُ كَسْرِ هذه التاء بما ذكره الزمخشري من كونِها هي الكسرةَ التي قبل الياء زُحْلِقَتْ إلى التاء. وهذا أحد المَذْهَبَيْنِ، والمذهب
434
الآخر: أنها كسرةٌ أجنبية جيء بها لتدلَّ على الياء المعوَّض منها، وليس بخلافٍ طائل.
وأمَّا الفتحُ ففيه أربعةُ أوجه، ذكر الفارسي منها وجهين، أحدهما: أنه اجْتَزَأَ بالفتحة عن الألف، يعني عن الألف المنقلبة عن الياء، كما اجتزأ عنها الآخر بقوله:
٢٧٣٨ - ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ منِّي بلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لَوَنِّي
وكما اجتُرِىء بها عنها في يا بن أمَّ، ويا بنَ عمَّ كما تقدم. والثاني: أنَّه رُخِّم بحذف التاء، ثم أقحمت التاء مفتوحة، وهذا كما قال النابغة:
٢٧٣٩ - كِليْني لِهَمٍّ يا أُمَيمَةَ ناصِبِ وليلٍ أقاسِيه بطيءِ الكواكبِ
بفتح تاء «أُمَيْمة» على ما ذَكَرْت لك.
الثالث: ما ذكره الفراء وأبو عبيد وأبو حاتم وقطرب في أحد قوليه وهو أنَّ الألفَ في «با أبتا» للندبة، ثم حَذَفها مُجْتَزِئاً عنها بالفتحة. وهذا قد يَنْفَعُ في الجواب عن الجمع بين العِوَض والمُعَوَّض منه. وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهبَ بأنَّ الموضع ليس موضعَ ندبة.
الرابع: أنَّ الأصلَ: يا أبةً بالتنوين، فحذف التنوين لأنَّ النداءَ بابُ
435
حَذْفٍ، وإلى هذا ذهب قطرب في القول الثاني. وقد رُدَّ هذا عليه بأن التنوينَ لا يُحْذَفُ من المنادى المنصوب نحو: «يا ضارباً رجلاً».
وقرأ أبو جعفر «يا أبي» بالياء، ولم يُعَوِّض منها التاء.
وقرأ الحسن وطلحة بن سليمان: «أحدَ عْشر» بسكون العين، كأنهم قصدوا التنبيه بهذا التخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً.
وقوله: ﴿والشمس والقمر﴾ يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن تكونَ الواوُ عاطفةً، وحينئد يحتمل أن يكون ذلك من باب ذِكْر الخاص بعد العام تفصيلاً؛ لأن الشمسُ والقمر دخلا في قوله ﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾ فهو كقوله: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨] بعد قوله: «وملائكتِه»، ويُحْتمل أن لا يكون كذلك، وتكون الواوُ لعطفِ المُغَاير، فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادةً على الأحدَ عشرَ بخلاف الأول، فإنه يكون رأى الأحدَ عشرَ، ومِنْ جملتها الشمس والقمر، والاحتمالان منقولان عن أهل التفسير، وممَّنْ نَقَلهما الزمخشري.
والوجه الثاني: أن تكونَ الواوُ بمعنى مع، إلا أنه مرجوحٌ، لأنه متى أمكن العطفُ من غير ضعفٍ ولا إخلالِ معنىً رَجَح على المعيَّة، وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله بمعنى أنه رأى الشمسَ والقمرَ زيادةً على الأحد عشر كوكباً.
وقوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ يحتمل وجهين، أحدهما: أنها جملةُ كُرِّرَتْ للتوكيد لمَّا طال الفصلُ بالمفاعيل كُرِّرَتْ كما كُررت «أنكم» في قوله: {
436
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ / إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} [المؤمنون: ٣٥] كذا قاله الشيخ، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء اللَّه تعالى. والثاني: أنه ليس بتأكيدٍ، وإليه نحا الزمخشري: فإنه قال: «فإن قُلْتَ: ما معنى تكرارِ» رأيتُهم «؟ قلت: ليس بتكرارٍ، إنما هو كلامٌ مستأنفٌ على تقديرِ سؤالٍ وقع جواباً له، كأنَّ يعقوبَ عليه السلام قال له عند قوله: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر﴾ كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها، فقال: رأيتهم لي ساجدين».
قلت: وهذا أظهرُ لأنه متى دار الكلامُ بين الحَمْل على التأكيد أو التأسيس فَحَمْلُه على الثاني أولى.
و «ساجدين» صفةٌ جُمِعَ جَمْعَ العقلاء. فقيل: لأنه لمَّا عامَلَهم معاملةَ العقلاء في إسنادِ فِعْلَهم إليهم جَمَعَهم جَمْعَهم، والشيءُ قد يُعامَلُ معاملةَ شيءٍ آخرَ إذا شاركه في صفةٍ ما.
والرؤيةُ هنا منامِيَّةٌ، وقد تقدَّم أنها تنصب مفعولين كالعِلْمية، وعلى هذا يكون قد حَذَفَ المفعولَ الثاني من قوله ﴿رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾ ولكنَّ حَذْفَه اقتصاراً ممتنعٌ، فلم يَبْقَ إلا اختصاراً، وهو قليل أو ممتنع عند بعضهم.
437
قوله تعالى: ﴿لاَ تَقْصُصْ﴾ : قرأ العامَّة بفكِّ الصادّيْن وهي لغةُ الحجاز. وقرأ زيد بن علي بصادٍ واحدة مشدَّدة، والإِدغامُ لغةُ تميمٍ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في المائدة عند قوله ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: ٥٤].
437
والرؤيا مصدرٌ كالبُقْيا. وقال الزمخشري: «الرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصةٌ بما كان في النوم دون اليقظة، فرَّق بينهما بحَرْفَي التأنيث كما قيل القُرْبَةُ والقربى».
وقرأ العامَّة «الرُّؤْيا» بهمزٍ مِنْ غير إمالة، وقرأها الكسائي في رواية الدُّوري عنه بالإِمالة. وأمَّا الرؤيا ورؤياي الاثنتان في هذه السورة فأمالهما الكسائي من غير خلافٍ في المشهور، وأبو عمرو يُبْدِلُ هذه الهمزةَ واواً في طريق السوسي. وقال الزمخشري: «وسمع الكسائي» رُيَّاك «و» رِيَّاك «بالإِدغام وضم الراء وكسرها، وهي ضعيفةٌ لأنَّ الواو في تقدير الهمزة فلم يَقْوَ إدغامها كما لم يَقْوَ إدغام» اتَّزر «من الإِزار واتَّجَرَ من الأَجْر» يعني أنَّ العارض لا يُعْتَدُّ به، وهذا هو الغالب. وقد اعتدَّ القُرّاءُ بالعارض في مواضع ستقف بها على أشياءَ إن شاء اللَّهُ نحو «رِيَّا» في قوله ﴿أَثَاثاً وَرِءْياً﴾ [مريم: ٧٤] عند حمزة، و ﴿عَاداً الأولى﴾ [النجم: ٥٠].
438
وأمَّا كسرُ «رِيَّاك» فلئلاَّ يؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمة، وأمَّا الضمُّ فهو الأصل، والياءُ صد اسْتُهْلِكَتْ بالإِدغام.
قوله: ﴿فَيَكِيدُواْ﴾ منصوبٌ في جواب النهي وهو في تقدير شرط وجزاء، ولذلك قدَّره الزمخشري بقوله: «إنْ قصصتها عليهم كادوك». و «كَيْداً» فيه وجهان، أحدهما: وهو الظاهر أنه مصدرٌ مؤكدٌ، وعلى هذا ففي اللام في قوله «لك» خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكون «يكيد» ضُمِّن «معنى ما يتعدَّى باللام؛ لأنه في الأصل متعدٍّ بنفسه قال تعالى: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً﴾ [هود: ٥٥] والتقدير: فيحتالوا لك بالكيد. قال الزمخشري مقرراً لهذا الوجه:» فإنْ قلتَ: هلاَّ قيل: فيكيدوك كما قيل فكيدوني. قلت: ضُمِّن معنى فعلٍ يتعدى باللام ليفيدَ معنى فعلِ الكيد مع إفادة معنى الفعل المضمَّن فيكون آكدَ وأَبْلَغَ في التخويف وذلك نحو: فيحتالوا لك، ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر «.
الوجه الثاني من أوجهِ اللام: أن تكونَ مُعَدِّيةً، ويكون هذا الفعلُ ممَّا يتعدى بحرفِ الجر تارةً، وبنفسهِ أخرى كنصح وشكر، كذا قاله الشيخ وفيه نظرٌ، لأنَّ ذاك بابٌ لا يَنْقاس إنما يُقْتصر فيه على ما ذكره النحاةُ ولم يَذْكروا منه»
كاد «.
الثالث: أن اللامَ زائدةٌ في المفعول به كزيادتها في قوله ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ قاله أبو البقاء وهو ضعيف؛ لأنَّ اللامَ لا تُزاد إلا بأحد شرطين: تقديم المعمولِ أو كونِ العاملِ فرعاً.
439
الرابع: أن تكونَ اللامُ للعلة، أي: فيكيدوا من أجلك، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ اقتصاراً أو اختصاراً. /
الخامس: أن تتعلَّق بمحذوفٍ، لأنها حالٌ مِنْ: «كَيْداً» إذ هي في الأصلِ يجوزُ أن تكونَ صفةً لو تأخَّرَتْ «.
الوجه الثاني مِنْ وَجْهَيْ»
كَيْداً «أن يكونَ مفعولاً به، أي: فيصنعوا لك كيداً، أي: أمراً يكيدونَك به، وهو مصدرٌ في موضع الاسمِ ومنه ﴿فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ﴾ [طه: ٦٤]، أي: ما تكيدون به، ذكره أبو البقاء وليس بالبيِّن، وعلى هذا ففي اللامِ في» لك «وجهان فقط: كونُها صفةً في الأصل ثم صارَتْ حالاً، أو هي للعلة، وأمَّا الثلاثةُ الباقيةُ فلا تتأتى وامتناعُها واضح.
440
قوله تعالى: ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّك﴾ الكاف في موضع نصبٍ أو رفعٍ، فالنصبُ: إمَّا على الحال من ضمير المصدر المقدَّر، وقد تقدم أنه رأيُ سيبويه، وإمَّا على النعتِ لمصدرٍ محذوف والمعنى: مثلَ ذلك الاجتباء العظيم يَجْتبيك. والرفعُ على خبر ابتداء مضمر أي: الأمرُ كذلك. وقد تقدَّم له نظائر.
قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكَ﴾ مستأنفٌ ليس داخلاً في حَيِّز التشبيه، والتقدير: وهو يُعَلِّمك. والأحاديث: جمع تكسير، فقيل: لواحدٍ ملفوظٍ به وهو «حديث» ولكنه شَذَّ جمعُه على أحاديث، وله أخواتٌ في الشذوذ كأباطيل وأقاطيع وأعاريض في باطل وقطيع وعَرُوض. وزعم أبو زيد أن لها واحداً مقدراً وهو أُحْدُوثة ونحوه، وليس باسم جمعٍ؛ لأنَّ هذه الصيغةَ مختصة بالتكسير،
440
وإذا كانوا قد التزموا ذلك فيما لم يُصَرَّح له بمفردٍ مِنْ لفظه نحو: عباديد وشماطيط وأبابيل ففي «أحاديث» أَوْلى، ولهذا رُدَّ على الزمخشري قولُه: «وهي اسم جمعٍ للحديث وليس بجمعِ أُحْدوثة» بما ذكرته، ولكنَّ قولَه «ليس بجمعِ أُحْدوثة» صحيحٌ؛ لأن مذهبَ الجمهور خلافُه، على أنَّ كلامَه قد يريد به غيرَ ظاهرِه مِنْ قوله اسم جمع.
وقوله: ﴿عَلَيْكَ﴾ يجوز أَنْ يتعلَّق ب «يُتِمَّ»، وأن يتعلَّقَ ب «نعمته». وكرَّر «على» في قوله: «وعلى آل» ليمكنَ العطفُ على الضمير المجرور. هذا مذهبُ البصريين، وتقدَّم بيانه. وقوله: «مِنْ قبلُ» أي مِنْ قبلك.
قوله: ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ يجوز أن يكونَ بدلاً من «أبويك» أو عطف بيان، أو على إضمارِ أَعْني.
441
وقرأ ابن كثير «آية» بالإِفراد، والمرادُ بها الجنسُ، والباقون بالجمع تصريحاً بالمرادِ لأنها كانت علاماتٍ كثيرة. وزعم بعضُهم أنَّ ثَمَّ معطوفاً محذوفاً تقديرُه: للسائلين ولغيرهم، ولا حاجةَ إليه. و «للسائلين» متعلقٌ بمحذوف نعتاً لآيات.
قوله تعالى: ﴿أَحَبُّ إلى أَبِينَا﴾ :«أحبُّ» أفعل تفضيل، وهو مبنيٌّ مِنْ «حُبَّ» المبني للمفعول وهو شاذ. وإذا بَنَيْتَ أفعل التفضيل مِنْ مادة الحب والبغض تعدَّى إلى الفاعل المعنوي ب «إلى»، وإلى المفعولِ المعنويّ باللام أو ب «في»، فإذا قلت: «زيدٌ أحبُ إليَّ مِنْ بكر» يعني أنك
441
تحب زيداً أكثر من بكر فالمتكلم هو الفاعلُ، وكذلك: «هو أبغض إليَّ منه» أنت المُبْغِض، وإذا قلت: زيدٌ أحبُّ لي مِنْ عَمْروٍ، أو أَحَبُّ فيَّ منه، أي: إنَّ زيداً يحبُّني أكثر من عمرو. وقال امرؤ القيس:
٢٧٤٠ - لَعَمْري لَسَعْدٌ حيث حُلَّت ديارُه أحبُّ إلينا منكَ فافرسٍ حَمِرْ
وعلى هذا جاءَتِ الآيةُ الكريمة، فإنَّ الأبَ هو فاعل المحبَّة. واللام في «ليوسف» لامُ الابتداء أفادَتْ توكيداً لمضمون الجملة، وقوله: «أحبُّ» خبر المثنى، وإنما لم يطابِقْ لِما عَرَفْتَ مِنْ حكم أفعلَ التفضيل.
والواو في «ونحن عصبةٌ» للحال، فالجملةُ بعدها في محل نصب على الحال. والعامَّةُ على رفع «عُصْبة» خبراً ل «نحن». وقرأ أمير المؤمنين بنصبها على أن الخبر محذوف، والتقدير: نحن نُرى أو نجتمع فيكون «عصبة» حالاً، إلا أنه قليلٌ جداً، وذلك لأن الحال لا تَسُدُّ مَسَدَّ الخبر إلا بشروطٍ ذكرها النحاة نحو «ضَرْبي زيداً قائماً»، و «أكثر شُرْبي السَّوِيْقَ ملتوتاً». قال ابن الأنباري: «هذا كما تقول العرب:» إنما العامريُّ عِمَّتَه «أي: يتعمَّم عِمَّته».
قال الشيخ: «وليس مثلَه لأنَّ» عصبة «ليس بمصدرٍ ولا هيئةٍ، فالأجودُ أن يكونَ من باب» حُكْمُك مُسَمَّطاً «. قلت: ليس مرادُ ابنِ الأنباري إلا التشبيهَ من حيث إنه حَذَف الخبر وسَدَّ شيءٌ آخرُ مَسَدَّه في غير المواضع
442
المنقاسِ فيها ذلك، ولا نَظَر لكونِ المنصوب مصدراً أو غيرَه. وقال المبرد:» هو من باب «حُكْمُك مُسَمَّطاً» أي: / لك حكمُك مُسَمَّطاً، قال الفرزدق: «يا لَهْذَمُ حُكمك مُسَمَّطاً» أراد: لك حكمُك مُسَمَّطاً، قال: «واسْتُعْمل هذا فَكَثُرَ حتى حُذِف استخفافاً لعلم ما يريد القائل كقولك:» الهلالُ واللَّهِ «أي: هذا الهلال». والمُسَمَّط: المُرْسَلُ غير المردودِ. وقدَّره غيرُ المبرد: حُكْمُك ثَبَتَ مُسَمَّطاً. وفي هذا المثالِ نظرٌ؛ لأنَّ النحويين يجعلون مِنْ شَرْط سَدِّ الحالِ مَسَدَّ الخبرِ أن لا يَصْلُحَ جَعْلُ الحال خبراً لذلك المبتدأ نحو: «ضربي زيداً قائماً» بخلاف: «ضربي زيداً شديدٌ»، فإنها تُرْفع على الخبرية، وتَخْرج المسألة من ذلك، وهذه الحال أعني مُسَمَّطاً يَصْلُحُ جَعْلُها خبراً للمبتدأ، إذ التقدير: حُكْمُكَ مُرْسَلٌ لا مَرْدُود، فيكون هذا المَثَلُ على ما قَرَّرْتُه مِنْ كلامهم شاذاً.
والعُصْبة: ما زاد على عشرة، عن ابن عباس، وعنه: ما بين عشرةٍ إلى أربعين. وقيل: الثلاثة نفر، فإذا زاد على ذلك إلى تسعة فهم رَهْط، فإذا بلغوا العشرة فصاعداً فعُصْبة. وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة. وقيل من عشرة إلى خمسة عشر. وقيل: ستة. وقيل: سبعة. والمادة تدلُّ على الإِحاطة من العِصابة لإِحاطتها بالرأس.
443
قوله تعالى: ﴿أَرْضاً﴾ : فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً أي: في أرضٍ كقوله تعالى: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ﴾ [الأعراف: ١٦]، وقوله:
٢٧٤١ -.......................
443
كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
وإليه ذهب الحوفيُّ وابن عطية. والثاني: النصب على الظرفية. قال الزمخشري: «أرضاً منكورةً مجهولةً بعيدةً من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائِها من الناس، ولإِبهامِها من هذا الوجه نُصِبَتْ نَصْبَ الظروفِ المبهمة». وقد رَدَّ ابن عطية هذا الوجه فقال: «وذلك خطأ؛ لأنَّ الظرفَ ينبغي أن يكون مبهماً، وهذه ليست كذلك بل هي أرضٌ مقيَّدة بأنها بعيدة أو قاصِيَةٌ أو نحو ذلك، فزال بذلك إبهامُها ومعلومٌ أنَّ يوسفَ لم يَخْلُ مِن الكون في أرضٍ، فتبيَّن أنهم أرادوا أرضاً بعيدة غيرَ التي هو فيها قريبٌ مِنْ أبيه».
واستحسن الشيخ هذا الردَ وقال: «وهذا الردُّ صحيح لو قلت: جلست داراً بعيدة أو مكاناً بعيداً لم يصحَّ إلا بواسطة» في «، ولا يجوز حَذْفُها إلا في ضرورةِ شعرٍ، أو مع» دَخَلْت «على الخلاف في» دَخَلْت «أهي لازمةٌ أم متعديةٌ؟».
قلت: وفي الكلامَيْن نظرٌ؛ إذ الظرفُ المبهم عبارة عَمَّا ليس له حدودٌ تَحْصُره ولا أقطارٌ تحويه، و «أرضاً» في الآية الكريمة من هذا القبيل.
الثالث: أنها مفعولٌ ثانٍ، وذلك إنْ تَضَمَّن «اطرحوه» أَنْزِلوه، وأَنْزِلوه يتعدَّى لاثنين قال تعالى: ﴿أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً﴾ [المؤمنون: ٢٩]. وتقول: أَنْزَلْت زيداً الدار.
444
والطَّرْح: الرَّمْي، ويُعَبَّر به عن الاقتحام في المخاوف. قال عُرْوة بن الورد:
٢٧٤٢ - ومَنْ يَكُ مثلي ذا عيالٍ ومُقْتِراً من المال يَطْرَحْ نفسَه كلَّ مَطْرَحِ
و «يَخْلُ لكم» جوابُ الأمر، وفيه الإِدغام والإِظهار، وقد تقدَّم تحقيقُهما عند قوله تعالى: ﴿يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام﴾ [آل عمران: ٨٥].
445
قوله تعالى: ﴿فِي غَيَابَةِ﴾ : قرأ نافع «غَيابات بالجمع في الحرفين مِنْ هذه السورة، جُعِل ذلك المكانُ أجزاءً، وسُمِّي كلُّ جزء غَيَابَة، والباقون بالإِفراد وهو واضحٌ. وابن هرمز. كنافع إلا أنه شَدَّد الياءَ. والأظهرُ في هذه القراءة أن يكون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة فهو وصفٌ في الأصل. وألحقه الفارسيُّ بالاسم الجائي على فَعَّال نحو ما ذكر سيبويه من» الفَيَّاد «. قال ابن جني:» ووجَدْت من ذلك «الفَخَّار» : الخَزَف «. وقال صاحب» اللوامح: «يجوز أن يكون على فَعَّالات كحَمَّامات، ويجوز أن يكونَ على فَيْعالات كشيطانات جمع شَيْطانة، وكلٌّ للمبالغة».
وقرأ الحسن: «غَيَبَة» بفتح الياء، وفيها احتمالان، أحدهما: أَنْ تكونَ
445
في الأصل مصدراً كالغَلَبة. والثاني: أن يكونَ جمع غائب نحو: صانع وصَنَعَة. قال الشيخ: «وفي حرف أُبَيّ» غَيْبة «بسكون الياء، وهي ظلمة الرَّكِيَّة». قلت: والضبطُ أمرٌ حادثٌ فكيف يُعرف ذلك في المصحف؟ وقد تقدَّم نحوٌ من ذلك فيما تقدم.
والغَيَابة: قال الهرويٌّ: «شِبْهُ لَجَفٍ أو طاقٍ في البئر فُوَيْق الماء يغيب ما فيه عن العيون. وقال الكلبي:» الغَيَابة تكون في قَعْر الجُبِّ؛ لانَّ أسفله واسعٌ ورأسَه ضيق فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه «. وقال الزمخشري:» هي غَوْرُه وما غابَ منه عن عَيْن الناظر وأظلمُ مِنْ أسفلِه، قال المنخل: /
٢٧٤٣ - فإنْ أنا يَوْماً غَيَّبَتْني غَيابتي فسِيْروا بسَيْري في العَشيرة والأهلِ
أراد: غَيابةَ حُفْرته التي يُدْفن فيها. والجُبُّ: البئر التي لم تُطْوَ، وتَسْمِيتُه بذلك: إمَّا لكونه محفوراً في جَبُوب الأرض أي: ما غَلُظ منها، وإمَّا لأنه قُطِعُ في الأرض، ومنه الجَبُّ في الذَّكَر.
وقال الأعشى:
٢٧٤٤ - لَئِنْ كنت في جُبٍّ ثمانين قامَةً ورُمِّيْتَ أَسْبابَ السماء بسُلَّمِ
ويُجْمع على جِبَبَة وجِباب وأَجْباب.
قوله: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ [السيارة] ﴾ قرأ العامَّة «يَلْتَقِطُه» بالياء من تحت
446
وهو الأصل. وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة بالتاء مِنْ فوق لتأنيث المعنى، ولإِضافته إلى مؤنث، وقالوا: «قُطِعت بعض أصابعه»، وقال الشاعر:
٢٧٤٥ - إذا بعضُ السنينَ تَعَرَّقَتْنا كفى الأيتامَ فَقْدَ أبي اليتيمِ
وقد تقدَّمَ الكلامُ بأوسعَ مِنْ هذا في الأنعام والأعراف. ومفعول «فاعلين» محذوفٌ أي: فاعلين ما يُحَصِّل غَرَضَكم.
والسَّيَّارة، جمع «سَيَّار»، وهو مثالُ مبالغة.
والالتقاط: تَنَاوُلُ الشيءِ المطروحِ، ومنه: «اللُّقَطة» واللَّقِيط. وقال الشاعر:
٢٧٤٦ - ومَنْهَلٍ وَرَدْتُهُ التِقاطا...
447
قوله تعالى: ﴿لاَ تَأْمَنَّا﴾ : حالٌ وتقدَّم نظيرُه. وقرأ العامَّة «تأمَنَّا» بالإِخفاء، وهو عبارةٌ عن تضعيفِ الصوت بالحركة والفصل بين النونين، لا أنَّ النونَ تُسَكَّن رَأْساً، فيكون ذلك إخفاءً لا إدغاماً. قال الداني: «وهو قولُ عامَّةِ أئمَّتنا وهو الصوابُ لتأكيد دلالته وصحته في القياس».
447
وقرأ بعضُهم ذلك بالإِشمام، وهو عبارةٌ عن ضمِّ الشفتين إشارةً إلى حركة الفعل مع الإِدغامِ الصريح كما يشير إليها الواقف، وفيه عُسْرٌ كبير قالوا: وتكون الإِشارة إلى الضمة بعد الإِدغام أو قبل كمالِه، والإِشمامُ يقع بإزاء معانٍ هذا مِنْ جُمْلتها، ومنها إشراب الكسرةِ شيئاً مِن الضم نحو: ﴿قِيلَ﴾ [البقرة: ١١] و ﴿وَغِيضَ﴾ [هود: ٤٤] وبابه، وقد تقدم أولَ البقرة. ومنها إشمامُ أحدِ حرفين شيئاً من الآخر كإشمام الصاد زاياً في ﴿الصراط﴾ [الفاتحة: ٥] :﴿وَمَنْ أَصْدَقُ﴾ [النساء: ٧٨] وبابهما، وقد تقدم ذلك أيضاً في الفاتحة والنساء. فهذا خَلْطُ حرفٍ بحرف، كما أنَّ ما قبله خَلْطُ حركة بحركة. ومنها الإِشارةُ إلى الضمة في الوقفِ خاصةً، وإنما يراه البصير دونَ الأعمى.
وقرأ أبو جعفر بالإِدغامِ الصريح من غير إشمامٍ. وقرأ الحسن ذلك بالإِظهار مبالغةً في بيان إِعراب الفعل وللمحافظة على حركة الإِعراب. اتفق الجمهورُ على الإِخفاء أو الإِشمام كما تقدم تحقيقه.
وقرأ ابن هرمز «لا تَأْمُنَّا» بضم الميم، نَقَل حركةَ النون الأولى عند إرادةِ إدغامها بعد سَلْب الميمِ حركَتها، وخطُّ المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها.
وقرأ أبو رزين وابن وثاب «لا تِيْمَنَّا» بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابنَ وثَّابٍ سَهَّل الهمزةَ. قال الشيخ: «ومجيئُه بعد» مالك «والمعنى يُرْشد إلى أنه نَفْيٌ لا نَهْيٌ وليس كقولهم» ما أَحْسَنَنا «في التعجب؛ لأنه لو أدغم لالتبسَ
448
بالنفي». قلت: وما أبعد هذا عن تَوَهُّم النهي حتى يَنُصَّ عليه. وقوله «لالتبس بالنفي» صحيح.
449
قوله تعالى: ﴿يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ : فيها أربعَ عَشَرَة قراءةً إحداها: قراءةُ نافعٍ بالياء مِنْ تحت وكسرِ العين. الثانية: قراءةُ البزي عن ابن كثير «نَرْتَع ونلعب» بالنونِ وكسرِ العين. الثالثة: قراءةُ قنبل، وقد اخْتُلِفَ عليه فنُقِل عنه ثبوتُ الياء بعد العين وَصْلاً وَوَقْفاً وحَذْفُها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزيَّ في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان. الخامسة: قراءة أبي عمرو وابن عامر «نرتَعْ ونلعبْ» بالنون وسكون العين والباء. السادسة: قراءة الكوفيين: «يرتعْ ويلعبْ» بالياء من تحت وسكون العين والباء.
وقرأ جعفر بن محمد «نرتع» بالنون «ويلعب» بالياء، ورُوِيَتْ عن ابن كثير. وقرأ العلاء بن سيابة «يَرْتَع ويلعبُ» بالياء فيهما وكسر العين وضم الباء. وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن «نُرْتَعْ» بضم النون وسكون العين والباء. وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنه بالياء مِنْ تحت فيهما. والنخعي ويعقوب «نرتع» بالنون و «يلعب» بالياء. والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيُّ للفاعل.
وقرأ زيد بن علي «يُرْتَع ويُلْعَب» بالياء مِنْ تحت مبنيّين للمفعول. وقرىء «نرتعي ونلعبُ» بثبوت الياء ورفع الباء. وقرأ ابن أبي عبلة «نَرْعي ونلعب» فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً، منها ستٌّ في السبع المتواتِر وثمانٍ في الشاذ.
فَمَنْ قرأ بالنون أسند الفعلَ إلى إخوة يوسف، ومَنْ قرأ بالياء أسند الفعل إليه دونهم، ومَنْ كسَر العين اعتقد أنه جزم بحذف حرفِ العلة، وجعله مأخوذاً [مِنْ] يَفْتَعِل من الرَّعْي كيرتمي مِن الرمي. ومَنْ سَكَّن العينَ اعتقد
449
أنه جَزَمَهَ بحذف الحركة وجعله مأخوذاً مِنْ رتعَ يَرْتَعُ إذا اتِّسع في الخِصْب قال:
٢٧٤٧ -................. وإذا يَخْلُو له لَحْمي رَتَعْ
ومَنْ سكَّن الباءَ جعله مجزوماً، ومَنْ رفعها جعله مرفوعاً على الاستئناف أي: وهو يلعب، ومَنْ غاير بين الفعلين فقرأ بالياء مِنْ تحت في «يلعب» دون «نرتع» فلأنَّ اللعبَ مُناسب للصغار. ومَنْ قَرَأَ: «نُرْتِع» رباعياً جعل مفعوله محذوفاً، أي: نُرْعي مواشِينَا، ومَنْ بناها للمفعول فالوجهُ أنه أضمر/ المفعولَ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه وهو ضمير الغد، والأصل: نرتع فيه ونلعب فيه، ثم اتُّسع فيه فَحُذِفَ حرفُ الجر فتعدَّى إليه الفعلُ بنفسه فصار: نرتعه ونلعبه، فلمَّا بناه للمفعول قام الضمير المنصوب مقام فاعله فانقلب مرفوعاً واستتر في رافعه، فهو في الاتساع كقوله:
٢٧٤٨ - ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامراً ....................
ومَنْ رفع الفعلين جعلَهما حالَيْن، وتكون حالاً مقدرة. وأمَّا إثبات الياء في «نَرْتعي» مع جزم «نلعب» وهي قراءةُ قنبل فقد تجرأ بعض الناس ورَدَّها، وقال ابن عطية: «هي قراءةٌ ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر» وقيل: هي لغةُ مَنْ يجزم بالحركة المقدرة وأنشد:
450
وقد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مستوفاةً.
و «نَرْتع» يحتمل أنْ يكونَ وزنُه تَفْتَعِلْ مِن الرعي وهو أَكْلُ المَرْعَى، ويكون على حَذْف مضاف: نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء قال:
٢٧٤٩ - ألم يَأْتيك والأنباءُ تَنْمي .................
٢٧٥٠ - تَرْتَعِي السَّفْحَ فالكَثيبَ فَذَاقا رٍ فَرَوْضَ القطا فَذَاتَ الرِّئالِ
ويحتمل أن يكونَ وزنُه نَفْعَل مِنْ: رَتَعَ يَرْتَعُ إذا أقام في خِصْب وسَعَة، ومنه قول الغضبان بن القبعثرى: «القَيْدُ والرَّتَعَةُ وقِلَّةُ المَنَعَة» وقال الشاعر:
٢٧٥١ - أكفراً بعد رَدِّ الموت عني وبعد عطائِك المِئَةَ الرِّتاعا
قوله: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ جملة حالية، والعامل فيها أحدُ شيئين: إمَّا الأمر، وإمَّا جوابه. فإن قلت: هل يجوز أن تكون المسألةُ من الإِعمال لأنَّ كلاً من العاملين يصحُّ تَسَلُّطُه على الحال؟ فالجواب: ذلك لا يجوز، لأن الإِعمالَ يَسْتَلْزم الإِضمار، والحال لا تُضْمر؛ لأنها لا تكون إلا نكرةً أو مؤولةً بها.
451
قوله تعالى: ﴿أَن تَذْهَبُواْ﴾ : فاعل «يَحْزُنني»، أي: يَحْزنني ذهابُكم. وفي هذه الآيةِ دلالةٌ على أنَّ المضارعَ المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً، والنحاةُ جَعَلوها مِن القرائن المخصصة للحال، ووجه الدلالة أنَّ «أَنْ تَذْهبوا» مستقبلٌ لاقترانه بحرفِ الاستقبال وهي «أنْ»، وما في حيزها فاعلٌ،
451
فلو جَعَلْنا «لَيَحْزُنني» حالاً لزم سَبْقُ الفعل لفاعله وهو محالٌ. وأجيب عن ذلك بأنَّ الفاعلَ في الحقيقة مقدرٌ حُذِف هو وقام المضافُ إليه مَقامه، والتقدير: ليحزنني تَوَقُّعُ ذهابِكم.
وقرأ زيد بن علي وابن هرمز وابن محيصن: «لَيَحْزُنِّي» بالإِدغام. وقرأ زيد بن علي وحده «تُذْهبوا» بضم التاء مِنْ أذهب، وهو كقوله: ﴿تُنْبُتُ بالدهن﴾ [المؤمنون: ٢٠] في قراءة مَنْ ضم التاء فتكون الباءُ زائدةً أو حالية.
و «الذئب» يُهْمَز ولا يُهْمز، وبعدم الهمزة قرأ السوسي والكسائي وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا: وهو مشتقٌّ مِنْ «تذاءَبَتِ الرِّيح» : إذا هَبَّتْ مِنْ كل جهة لأنه يأتي كذلك، ويُجْمع على ذِئاب وذُؤبان وأَذْئُب قال:
٢٧٥٢ - وأَزْوَرَ يَمْطُو في بلادٍ بعيدةٍ تعاوى به ذُؤْبانه وثعالِبُهْ
وأرضٌ مَذْأَبة: كثيرة الذئاب، وذُؤابة الشعر لتحرُّكِها وتَقَلُّبها، مِنْ ذلك.
وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ جملة حالية العامل فيها «يأكله».
452
قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ : جملةٌ حالية أو معترضة، و ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ﴾ جواب القسم وحُذِف جوابُ الشرط. و «إذن» حرفُ
452
جوابٍ، وقد تَقَدَّم القولُ في ذلك مُشْبعاً، ونقل أبو البقاء أنه قُرىء «عُصْبَةً» بالنصب، وقدَّر ما قدَّمْتُه في الآية الأولى.
453
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ﴾ : يجوز في جوابها أوجه، أحدها: أنه محذوفٌ، أي: عَرَّفْناه وأَوْصَلْنا إليه الطمأنينة. وقدَّره الزمخشري: «فَعَلُوا به ما فَعَلوا مِن الأذى» وذكر حكايةً طويلة. وقدَّره غيرُه: عَظُمَتْ فِتْنَتُهم. وآخرون «جَعَلوه فيها». وهذا أَوْلَى لدلالة الكلام عليه.
الثاني: أنَّ الجوابُ مثبتٌ، وهو قولُه ﴿قَالُواْ ياأبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا﴾، أي: لمَّا كان كيت وكيت قالوا. وهذا فيه بُعْدٌ لبُعْدِ الكلامِ مِنْ بعضه.
والثالث: أنَّ الجوابَ هو قولُه «وأَوْحَيْنا» والواو فيه زائدةٌ، أي: فلمَّا ذهبوا به أَوْحَينا، وهو رأيُ الكوفيين، وجعلوا مِنْ ذلك قولَه تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ﴾ [الصافات: ١٠٣]، أي: تَلَّه. وقوله: ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ﴾ [الزمر: ٧١] وقولَ امرئ القيس:
٢٧٥٣ - فلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحيِّ وانتحى بنا بَطْنَ حِقْفٍ ذي رُكامٍ عَقَنِقْلِ
أي: فلمَّا أَجَزْنَا انتحى. وهو كثيرٌ عندهم بعدَ «لَمَّا».
وقوله: ﴿أَن يَجْعَلُوهُ﴾ مفعول «أَجْمعوا»، أي: عَزَموا على أن يَجْعلوه، أو عَزَموا أنْ يجعلوه، لأنه يتعدى بنفسه وبعلى، ف «أنْ» يُحْتمل أن تكونَ على
453
حذف الحرف، وأن لا تكون، فعلى الأولِ يَحْتمل موضعَها النصبُ والجرُّ، وعلى الثاني يتعيَّن النصبُ.
والجَعْل يجوز أن يكونَ بمعنى الإِلقاء، وأن يكونَ بمعنى التصيير، فعلى الأولِ يتعلَّق «في غيابة» بنفس الفعل قبله، وعلى الثاني بمحذوفٍ. والفعلُ مِنْ قوله: «وأَجْمعوا» يجوزُ أن يكونَ معطوفاً على ما قبله، وأن يكون حالاً، و «قد» معه مضمرةٌ عند بعضهم. والضمير في «إليه» الظاهر عَوْدُه على يوسف. وقيل: يعود على يعقوب.
وقرأ العامَّةُ: «لَتُنَبِّئنَّهُمْ» بتاء الخطاب. وقرأ ابن عمر بياء الغيبة، أي: اللَّه تعالى. قال الشيخ: «وكذا في بعض مصاحف البصرة» وقد تقدَّم أن النَّقْطَ حادثٌ، فإن قال: مصحفٌ حادثٌ غيرُ مصحفِ عثمان فليس الكلام في ذلك.
وقرأ سَلاَّم: «لنُنَبِّئَنَّهم» بالنون. و «هذا» صفةٌ لأَمْرهم. وقيل: بدلٌ. وقيل: بيان.
قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ جملةٌ حالية، يجوز أن يكونَ العاملُ فيها «أَوْحَيْنا» /، أي: أوحينا إليه من غير شعور بالوحي، وأن يكونَ العاملُ فيها «لَنُنَبِّئَنَّهم»، أي: تُخْبرهم وهم لا يعرفونك لبُعْد المدَّة وتغيُّرِ الأحوال.
454
قوله تعالى: ﴿عِشَآءً﴾ : يجوز فيه وجهان، أحدهما: وهو الذي لا ينبغي أن يُقال غيرُه أنه ظرف زمان، أي: جاؤوه في هذا الوقت و «يبكون» جملة حالية، أي: جاؤوه باكين. والثاني: أن يكون «عشاء»
454
جمع عاشٍ كقائم وقيام. قال أبو البقاء: «ويُقرأ بضم العين، والأصل: عُشاة مثل غازٍ وغُزاة، فَحُذِفَتْ الهاءُ وزِيْدت الألف عوضاً منها، ثم قُلبت الألفُ همزةً، وفيه كلامٌ قد ذُكر في آل عمران عند قوله: ﴿أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ [الآية: ١٥٦]، ويجوز أن يكون جمعَ فاعِل على فُعال، كما جُمع فعيل على فُعال لقُرْب ما بين الكسر والضم، ويجوز أن يكون كنُؤام ورُباب وهو شاذٌّ». قلت: وهذه القراءة قراءةُ الحسن البصري، وهي من العِشْوة والعُشْوَة وهي الظلام.
وقرأ الحسن أيضاً: «عُشَا» على وزن دُجَى نحو: غازٍ وغُزاة، ثم حُذف منه تاءُ التأنيث، وهذا كما حذفوا تاء التأنيث مِنْ «مَأْلُكة»، فقالوا: مَأْلُك، وعلى هذه الأوجهِ يكون منصوباً على الحال، وقرأ الحسن أيضاً «عُشِيَّاً» مصغَّراً «.
455
وقوله تعالى: ﴿نَسْتَبِقُ﴾ : نَتَسابق، والافتعال والتفاعل يشتركان نحو قولهم: نَنْتَضِل ونتناضَلُ، ونَرْتمي ونترامى. و «نَسْتبق» في محل نصب على الحال. و «تَرَكْنا» حال مِنْ «نَسْتبق» و «قد» معه مضمرةٌ عند بعضهم.
قوله: ﴿وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ جملة حالية، أي: ما أنت مصدقاً لنا في كل حال حتى في حال صِدْقِنا لِما غَلَبَ على ظنِّك في تُهْمتنا ببغضِ يوسفَ وكراهتنا له.
قوله تعالى: ﴿على قَمِيصِهِ﴾ : في محل نصبٍ على الحال من «الدم». قال أبو البقاء: «لأنَّ التقدير: جاؤوا بدمٍ كذبٍ على قميصه»، يعني أنه لو تأخَّر لكان صفةً للنكرة. وهذا الوجهُ قد ردَّه الزمخشري فقال: «فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة؟ قلت: لا، لأنَّ حال المجرور لا تتقدَّم عليه». وهذا الذي رَدَّ به الزمخشريُّ أحدُ قولَي النحاة، وقد صحَّح جماعةٌ جوازَه وأنشدوا:
٢٧٥٤ -................... فَلَنْ يذهبوا فَرْغاً بقَتْلِ حِبال
وقولَ الآخر:
٢٧٥٥ - لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صادِياً إليَّ حبيباً إنَّها لحبيبُ
وقول الآخر:
٢٧٥٦ - غافلاً تَعْرِضُ المنيَّةُ لِلْمَرْ ءِ فيدعى ولاتَ حينَ إباءُ
وقال الحوفي: «إنَّ» على قميصه «متعلقٌ ب» جاؤوا «، وفيه نظر؛ لأن مجيئَهم لا يصحُّ أن يكونَ على القميص.
وقال الزمخشري:»
فإن قلتَ «على قميصه» ما محلُّه؟ قلت: محلُّه النصبُ على الظرف، كأنه قيل: وجاؤوا فوق قميصه بدم، كما تقول: جاء على جِماله بأَحْمال «. قال الشيخ:» ولا يساعد المعنى على نصب «على»
456
على الظرف بمعنى فوق، لأنَّ العامل فيه إذ ذاك «جاؤوا»، وليس الفوقُ ظرفاً لهم، بل يستحيل أن يكونَ ظرفاً لهم «. وهذا الردُّ هو الذي رَدَدْت به على الحوفي قولَه إنَّ» على «متعلقةٌ ب» جاؤوا «. ثم قال الشيخ:» وأمَّا المثال الذي ذكره الزمخشري وهو «جاء على جِماله بأَحْمال» فيمكن أن يكونَ ظرفاً للجائي لأنه تمكَّن الظرف فيه باعتبار تبدُّلِه مِنْ جملٍ إلى جمل، وتكون «بأَحْمال» في موضع الحال، أي: مضموماً بأحمال «.
وقرأ العامَّةُ:»
كَذِب «بالذال المعجمة، وهو من الوصف بالمصادر فيمكن أن يكونَ على سبيل المبالغة نحو: رجلٌ عَدْلٌ أو على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذي كذب، نَسَبَ فِعْلَ فاعله إليه. وقرأ زيد بن علي» كَذِباً «فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله واحتمل أن يكونَ مصدراً في موضع الحال، وهو قليلٌ أعني مجيءَ الحالِ من النكرة.
وقرأ عائشة والحسن:»
كَدِب «بالدال المهملة. وقال صاحبُ اللوامح:» معناه: ذي كَدِب، أي: أثر؛ لأنَّ الكَدِبَ هو بياضٌ يَخْرُجُ في أظافير الشباب ويؤثِّر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياضُ «الفُوْف» فيكون هذا استعارةً لتأثيره في القميص كتأثير ذلك في الأظافير «. وقيل: هو الدمُ الكَدِر. وقيل: الطريُّ. وقيل: اليابس.
قوله: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ قبل هذه الجملةِ جملةٌ محذوفة تقديره: لم يأكلْه الذئب، بل سَوَّلَتْ.
وسوَّلت، أي: زيَّنَتْ وسَهَّلَتْ.
قوله: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ يجوز أن يكونَ مبتدأً وخبره محذوفٌ، أي: صبر
457
جميل أَمْثَلُ بي. ويجوز أن يكون خبراً محذوفَ المبتدأ، أي: أمري صبرٌ جميل. وهل يجب حَذْفُ مبتدأ هذا الخبر/ أو خبر هذا المبتدأ؟ وضابطُه أن يكونَ مصدراً في الأصل بدلاً مِن اللفظ بفعله، وعبارة بعضِهم تقتضي الوجوبَ، وعبارة آخرين الجواز. ومن التصريح بخبر هذا النوعِ. ولكنه في ضرورة شعر قولُه:
٢٧٥٧ - فقالَتْ على اسمِ اللَّهِ أَمْرُك طاعةٌ وإن كنتُ قد كُلِّفْتُ ما لم أُعَوَّدِ
وقولُ الشاعر:
٢٧٥٨ - يَشْكو إليَّ جَمَلي طولَ السُّرى صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مبتلى
يحتمل أن يكونَ مبتدأً أو خبراً كما تقدَّم.
وقرأ أُبَيّ وعيسى بن عمر: «فصبراً جميلاً» [نصباً، ورُويت عن الكسائي، وكذلك هي في] مصحف أنس بن مالك، وتخريجها على المصدر الخبري، أي: أصبرُ أنا صبراً، وهذه قراءة ضعيفة إن خُرِّجَتْ هذا التخريجَ، فإن سيبويه لا ينقاس ذلك عنده إلا في الطلب، فالأَوْلى أن يُجعل التقدير: إنَّ يعقوب رَجَعَ وأَمَر نفسَه فكأنه قال: اصبري يا نفسُ صبراً. ورُوري البيتُ أيضاً بالرفع والنصب على ما تقدَّم، والأمر فيه ظاهر.
458
قوله تعالى: ﴿فأدلى دَلْوَهُ﴾ : يُقال: أدلى دَلْوَه، أي: أرسلها في البئر. و «دَلاها» إذا أَخْرجها ملأى، قال:
٢٧٥٩ - لا تَقْلَوها وادْلُواها دَلْوا إنَّ مع اليوم أخاه غَدْوا
والدَّلْوُ مؤنثةٌ فتصغَّر على دُلِيَّة، وتُجمع على دِلاء وأَدْلٍ والأصل: دِلاو فقُلبت الواوُ همزةً نحو كساء، وأَدْلِوٌ فأُعِلَّ إعلالَ قاضٍِ، ودُلُوْوٌ بواوين فَقُلِبتا ياءَيْن نحو: عِصِيّ.
قوله: ﴿يابشراى﴾ قرأ الكوفيون بحذف ياء الإِضافة، وأمال ألفَ فعلى الأخوان، وأمالها ورش بين بين على أصله، وعن أبي عمرو الوجهان، ولكن الأشهرَ عنه عدمُ الإِمالة، وليس ذلك مِنْ أصله على ما قُرِّر في علم القراءات. وقرأ الباقون «يا بشراي» مضافة لياء المتكلم، ونداء البشرى على حدِّ قولِه: ﴿ياحسرتا على﴾ [الزمر: ٥٦] ﴿ياحسرة عَلَى العباد﴾ [يس: ٣٠] كأنه يقول: يا بشرى هذا وقتُ أوانِ أن تُنادَيْ ويُصاحَ بكِ. ومَنْ زعم أنَّ «بشرى» اسم رجل كالسدِّي فقد أَبْعَدَ.
وقرأ ورش عن نافع «يا بُشْراْيْ» بسكون الياء، وهو جمعٌ بين ساكنين في الوصل، وهذا كما تقدم في ﴿وَمَحْيَايَ﴾ [الأنعام: ١٦٢]، فعليك بالالتفات إليه. وقال
459
الزمخشري: «وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حَدِّه إلا أن يَقْصِدَ الوقف».
وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق والحسن: «يا بُشْرَيَّ» بقلبِ الألفِ ياءً وإدغامها في ياء الإِضافة وهي لغة هُذَلِيَّة تقدَّم الكلامُ عليها في البقرة عند قوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَيَّ﴾ [البقرة: ٣٨]. وقال الزمخشري: «وفي قراءة الحسن يا بُشْرَيَّ بالياء مكان الألف جُعِلَتْ الياءُ بمنزلة الكسرة قبل ياء الإِضافة وهي لغة للعرب مشهورة، سمعت أهلَ السروات يقولون في دعائهم: يا سيدي ومَوْلَيَّ».
قوله: ﴿وَأَسَرُّوهُ﴾ الضمير المرفوع الظاهر أنه يعود على «السَّيَّارة». وقيل: هو ضميرُ إخوتِه. و «بضاعةً» نصب على الحال، أو مفعول ثانٍ على أن يُضَمَّن «أَسَرُّوه» معنى صَيَّروه بالسرِّ. والبضاعة قطعةٌ من المال تُعَدُّ للتجارة مِنْ «بَضَعْت»، أي: قَطَعْتُ، ومنه المِبْضع لِما يُقْطَعُ به.
460
قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ﴾ : شرى بمعنى اشترى، ومنه قول الشاعر:
٢٧٦٠ - ولو أنَّ هذا الموتَ يَقْبَلُ فِدْيَةً شَرَيْتُ أبا زيدٍ بما مَلَكَتْ يَدي
وبمعنى باع ومنه قولُ الشاعر:
460
فإن جَعَلْنا الضمير في «شَرَوْه» عائداً على إخوة يوسف كان «شرى» بمعنى باع، وإن جَعَلْناه عائداً على السيارة كانت بمعنى اشتروا.
والبَخْسُ: النَّاقصُ، وهو في الأصل مصدرٌ وُصِف به مبالغةً. وقيل: هو بمعنى مفعول. و «دراهم» بدل مِنْ «بثمن» و «فيه» متعلقٌ بما بعده، واغْتُفِر ذلك للاتساع في الظروف والجار، أو بمحذوفٍ وتقدَّم مثلُه.
461
قوله تعالى: ﴿مِن مِّصْرَ﴾ : يجوز فيه أوجه، أحدها: أن يتعلق بنفسِ الفعل قبله، أي: اشتراه مِنْ مصر كقولك: اشتريت الثوب مِنْ بغداد فهي لابتداء الغاية، وقولُ أبي البقاء: «أي: فيها، أو بها» لا حاجةَ إليه. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من «الذي». والثالث: أنه حالٌ من الضمير المرفوع في «اشتراه» فيتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً. وفي هذين نظر إذ لا طائل في هذا المعنى. و «لأمرأتِه» متعلقٌ ب «قال» فهي للتبليغ، وليست متعلقةً ب «اشتراه».
قوله: ﴿وكذلك﴾ الكاف كما تقدم في نظائره حال من ضميرٍ المصدر أو نعتٌ له، أي: ومثلَ ذلك الإِنجاء والعطف مكَّنَّا له، أي: كما أَنْجَيْناه وعَطَفْنا عليه العزيز مكَّنَّا له في أرض مصر.
قوله: ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ﴾ فيه أوجه، أحدُها، أن يتعلق بمحذوف قبله، أي: وفَعَلْنا ذلك لنعلِّمه. والثاني: أن يتعلَّق بما بعده، أي: ولنعلِّمه فَعَلْنا كيت وكيت. الثالث: أن يتعلقَ ب «مكَّنَّا» على زيادة الواو والهاء في «أمره» يجوز أن تعود على الجلالة، وأن تعودَ على يوسف، فالمعنى على الأول: لا نُمْنَعُ عمَّا نشاء، ولا نُنازَعُ عَمَّا نريد، وعلى الثاني: نُدَبِّره ولا نَكِلُه إلى غيره فقد كادوه إخوتُه فلم يَضُرُّوه بشيء.
قوله تعالى: ﴿أَشُدَّهُ﴾ : فيه ثلاثة أقوال، أحدها: وهو قول سيبويه أنه جمعٌ مفردُه «شِدَّة» نحو: نِعْمة وأنْعُم. الثاني: قول الكسائي: أن مفردَه «شَدّ» بزنةِ فَعْل نحو صَكّ وأصُكّ، ويؤيِّده قولُ الشاعر:
٢٧٦١ - وشَرَيْتُ بُرْداً ليتني مِنْ بعدِ بُرْدٍ كنتُ هامَهْ
٢٧٦٢ - عَهْدي به شَدَّ النهارِ كأنما خُضِبَ البَنانُ ورأسُه بالعِظْلِمِ
الثالث: أنه جمعٌ لا واحدَ له من لفظه قاله أبو عبيدة، وخالفه الناسُ في ذلك، إذ قد سمع «شدَّة» و «شَدَ» وهما صالحان له وهو مِن الشَّدِّ وهو الربطُ على الشيء والعقدُ عليه. قال الراغب: «وقولُه تعالى ﴿حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ فيه تنبيهُ أن الإِنسان إذا بلغ هذا القَدْرَ يتقوى خُلُقُه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله، وما أحسنَ ما تنبَّه له الشاعرُ حيث يقول:
٢٧٦٣ - إذا المَرْءُ وافى الأربعينَ ولم يكنْ له دونَ ما يهوى حَياءٌ ولا سِتْرُ
فَدَعْه ولا تَنْفِسْ عليه الذي مضى وإنْ جَرَّ أسبابَ الحياةِ له العُمْرُ
وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ إمَّا نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ من ضمير المصدر وتقدَّم نظائره.
قوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ﴾ : أي: طالَبَتْه برفقٍ ولين قولٍ، والمُراوَدَةُ المصدر، والرِّيادة: طَلَبُ النِّكاح، ومشى رُوَيْداً، أي: ترفَّق في
462
مِشْيتِه، والرَّوْدُ، الرِّفْقُ في الأمور والتأنِّي فيها، ورادَتِ المرأةُ في مَشْيها تَرُوْدُ رَوَدَاناً من ذلك، والمِرْوَدُ هذه الآلةُ منه، والإرادةُ منقولةٌ مِنْ راد يرود إذا سعى في طلب حاجة، وقد تقدَّم ذلك في البقرة، وتعدى هنا ب «عن» لأنه ضُمِّن معنى خادَعَتْ، أي: خادَعَتْه عن نفسه، والمفاعلةُ هنا من الواحد نحو: داوَيْتُ المريض، ويحتمل أن تكون على بابها، فإنَّ كلاً منهما كان يطلبُ مِنْ صاحبه شيئاً برفق، هي تطلُب منه الفعلَ وهو يطلبُ منها التركَ. والتشديد في «غَلَّقَتْ» للتكثير لتعدُّد المجال.
قوله: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ اختلف أهلُ النحوِ في هذه اللفظة: هل هي عربيةٌ أم معرَّبةٌ، فقيل: معربةٌ من القبطية بمعنى هلمَّ لك، قاله السدي. وقيل: من السريانية، قاله ابن عباس والحسن. وقيل: هي من العبرانية وأصلها هَيْتَلَخ، أي: تعالَه فأعربه القرآن، قاله أبو زيد الأنصاري. وقيل: هل لغة حَوْرانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلَّموا بها ومعناها تعال، قاله الكسائي والفراء، وهو منقولٌ عن عكرمة. والجمهور على أنها عربية، قال مجاهد: «هي كلمة حَثٍّ وإقبال، ثم هي في بعض اللغات تَتَعَيَّن فعليَّتُها، وفي بعضها اسميتُها، وفي بعضها يجوز الأمران، وستعرف ذلك من القراءات المذكورة فيها:
فقرأ نافع وابن ذكوان»
هِيْتَ «بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مفتوحة. وقرأ» هَيْتُ «بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاء مضمومة ابنُ كثير. وقرأ» هِئْتَ «بكسر الهاء وهمزةٍ ساكنة وتاءٍ مفتوحةٍ أو مضمومةٍ هشامٌ. وقرأ» هَيْتَ «بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاءٍ مفتوحةٍ الباقون، فهذه خمس قراءات في السبع.
463
وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن وابن محيصن بفتح الهاء وياء ساكنة وتاء مكسورة. وحكى النحاس أنه قُرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة. وقرأ ابن عباس أيضاً» هُيِيْتُ «بضم الهاء وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة حُيِيْتُ. وقرأ زيد بن علي وابن أبي إسحاق بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مضمومة. فهذه أربع في الشاذ فصارت تسع قراءات. فيتعيَّن كونُها اسمَ فعل في غير قراءة ابن عباس» هُيِيْتُ «بزنة حُيِيْتُ. وفي غيرِ قراءة كسر الهاء سواءً كان ذلك بالياء أم بالهمز: فَمَنْ فَتَحَ التاء بناها على الفتح تخفيفاً نحو: أيْنَ وكَيْفَ، ومَنْ ضَمَّها كابن كثير فتشبيهاً ب» حيث «، ومَنْ كسر فعلى أصلِ التقاء الساكنين كجَيْرِ، وفَتْحُ الهاء وكَسْرُها لغتان.
ويَتَعَيَّنُ فعليَّتُها في قراءة ابن عباس»
هُيِيْتُ «بزنة» حُيِيْت «فإنها فيها فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول مسندٌ لضمير المتكلم مِنْ هَيَّأْتُ الشيءَ، ويحتمل الأمرين في قراءةِ مَنْ كسر الهاء وضمَّ التاء، فيحتملُ أن تكونَ فيه اسمَ فعلٍ بُنِيَتْ على الضمِّ كحَيْثُ، وأن تكونَ فعلاً مسنداً لضمير المتكلم مِنْ هاءَ الرجلُ يَهِيءُ كجاء يَجيء وله حينئذٍ معنيان، أحدهما: أن يكون بمعنى حَسُنَ هَيْئَةً.
والثاني: أن يكونَ بمعنى تهيَّأ، يُقال: هِئْتُ، أي: حَسُنَتْ هيئتي أو تهيَّأْتُ. وجوَّز أبو البقاء أن تكون «هِئْتُ»
هذه مِنْ: هاءَ يَهاء، كشاء يشاء.
وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام التي بالهمز وفتح التاء، فقال الفارسي: «يشبه أن [يكون] الهمز وفَتْحُ التاء وَهْماً من الراوي، لأنَّ الخطاب مِن المرأة ليوسف ولم يتهيَّأْ لها بدليل قوله:» وراوَدَتْه «و {أَنِّي
464
لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: ٥٢] وتابعه على ذلك جماعة. وقال مكي بن أبي طالب:» يجب أن يكون اللفظُ «هِئْتِ لي» ولم يَقْرأ بذلك أحدٌ «وأيضاً فإن المعنى على خلافِه لأنه لم يَزَلْ/ يَفِرُّ منها ويتباعد عنها، وهي تراوِدُه وتطلبه وتَقُدُّ قميصه، فكيف يُخْبر أنها تهيَّأ لها؟
وقد أجاب بعضهُم عن هذين الإِشكالين بأن المعنى: تهيَّأ لي أمرُك، لأنها لم تكنْ تقدِر على الخَلْوَة به في كل وقت، أو يكون المعنى: حَسُنَتْ هيئتك.
و»
لك «متعلقٌ بمحذوف على سبيل البيان كأنها قالت: القول لك أو الخطاب لك، كهي في» سقياً لك ورعياً لك «. قلت: واللامُ متعلقةٌ بمحذوف على كل قراءة إلا قراءةً ثبت فيها كونُها فعلاً، فإنها حينئذٍ تتعلَّقُ بالفعل، إذ لا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ.
وقال أبو البقاء:»
والأشبهُ أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من الياء، أو تكونَ لغةً في الكلمة التي هي اسم للفعل، وليست فعلاً لأن ذلك يوجب أن يكونَ الخطابُ ليوسف عليه السلام، وهو فاسدٌ لوجهين، أحدهما: أنه لم يتهيَّأ لها وإنما هي تهيَّأَتْ له. والثاني: أنه قال لك، ولو أرادَ الخطابَ لكان هِئْتَ لي «. قلت: قد تقدَّم جوابُه. وقوله:» إن الهمزة بدلٌ من الياء «هذا عكسُ لغة العرب إذ قد عَهِدْناهم يُبْدلون الهمزة الساكنة ياءً إذا انكسر ما قبلها نحو: بير وذيب، ولا يَقْبلون الياءَ المكسورَ ما قبلها همزةً نحو: مِيل ودِيك، وأيضاً فإن غيرَه جعل الياءَ الصريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع وابن ذكوان
465
محتملةً لأَنْ تكونَ بدلاً من الهمزة، قالوا: فيعود الكلام فيها كالكلام في قراءة هشام. واعلم أنَّ القراءةَ التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشام، وأمَّا ضمُّ التاءِ فغيرُ مشهورٍ عنه، وهذا قد أَتْقَنْتُه في شرح» حِرْز الأماني «.
قوله: ﴿مَعَاذَ الله﴾ منصوبٌ على المصدر بفعلٍ محذوف، أي: أعوذُ باللَّه مَعاذاً: يُقال: عاذ يَعُوذ عِياذاً وعِياذة ومَعاذاً وعَوْذاً، قال:
٢٧٦٤ - معاذَ الإِله أن تكونَ كظَبْيَةٍ ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةِ رَبْرَبِ
قوله: ﴿إِنَّهُ﴾ يجوز أن تكونَ الهاءُ ضميرُ الشأن وما بعده جملةٌ خبريةٌ له، ومرادُه بربه سيِّدُه، ويحتمل أن تكونَ الهاء ضمير الباري تعالى. و «ربِّي»
يحتمل أن يكونَ خبرَها، و «أَحْسَنَ» جملةٌ حاليةٌ لازمة، وأن تكون مبتدأً، و «أحسن» جملة خبرية له، والجملةُ خبرٌ ل «إنَّ». وقد أنكر جماعةٌ الأولَ، قال مجاهد والسدي وابن إسحاق. يبعد جداً أن يُطْلِق نبيٌّ كريمٌ على مخلوقٍ أنه ربه، ولا بمعنى السيد لأنه ليس مملوكاً في الحقيقة.
وقرأ الجحدري وأبو الطفيل الغنوي «مَثْوَيَّ» بقَلْبِ الألف ياءً وإدغامها كبُشْرَيّ وهُدَيّ.
و ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ﴾ هذه الهاءُ ضمير الشأن ليس إلا.
466
قوله تعالى: ﴿لولا أَن رَّأَى﴾ : جوابُ لولا: إمَّا متقدِّمٌ عليها وهو قوله: «وَهَمَّ بها» عند مَنْ يُجيز تقديمَ جوابِ أدواتِ الشرط عليها،
466
وإمَّا محذوفٌ لدلالة هذا عليه عند مَنْ لا يرى ذلك، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبينِ ومَنْ عُزِيا إليه غيرَ مرة كقولهم: «أنت ظالمٌ إن فعلْتَ»، أي: إنْ فَعَلْتَ فأنت ظالمٌ، ولا تقول: إنَّ «أنت ظالمٌ» هو الجوابُ بل دالٌّ عليه، وعلى هذا فالوقفُ عند قوله: «برهان ربه» والمعنى: لولا رؤيتُه برهانَ ربه لهمَّ بها لكنه امتنع هَمُّه بها لوجودِ رؤيةِ برهان ربه، فلم يَحْصُل منه هَمٌّ البتة كقولك: «لولا زيدٌ لأكرمتك» فالمعنى أن الإِكرام ممتنعٌ لوجود زيد، بهذا يُتَخَلَّص من الأشكال الذي يورَدُ وهو: كيف يليق بنبيٍّ أن يَهُمَّ بامرأة؟.
قال الزمخشري: فإن قلت: قوله «وهمَّ بها» داخلٌ تحت القَسَم في قوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ أم خارجٌ عنه؟ قلت: الأمران جائزان، ومِنْ حَقِّ القارىء إذا قَصَدَ خروجَه من حكم القَسَم وجَعَلَه كلاماً برأسه أن يَقِفَ على قوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ ويبتدىء قولَه: ﴿وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رأى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرق بين الهَمَّيْن. فإن قُلْتَ: لِمَ جَعَلْتَ جَوابَ «لولا» محذوفاً يدلُّ عليه «وهَمَّ بها» وهَلاَّ جَعَلْتَه هو الجوابَ مقدَّماً. قلت. لأنَّ «لولا» لا يتقدَّم عليها جوابُها مِنْ قِبَلِ أنه في حكم الشرط، وللشرط صدرُ الكلام وهو [مع] ما في حَيِّزه من الجملتين مثلُ كلمةٍ واحدة، ولا يجوز تقديمُ بعضِ الكلمة على بعض، وأمَّا حَذْفُ بعضها إذا دَلَّ عليه الدليل فهو جائز «.
قلت: قوله»
وأمَّا حَذْفُ بعضها «إلى آخره جواب عن سؤالٍ مقدرٍ وهو: فإذا كان جوابُ الشرط مع الجملتين بمنزلةِ كلمةٍ فينبغي أنْ لا يُحْذَفَ منهما شيءٌ، لأن الكلمةَ لا يُحذف منها شيءٌ. فأجاب بأنه يجوز إذا دلَّ دليلٌ على ذلك. وهو كما قال.
467
ثم قال:» فإن قلت: لِمَ جَعَلْتَ «لولا» متعلقةً ب «هَمَّ بها» وحدَه، ولم تَجْعَلْها متعلقةً بجملةِ قوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ ؟ لأنَّ الهمَّ لا يتعلَّق بالجواهر ولكن بالمعاني، فلا بد من تقدير المخالطة، والمخالطةُ لا تكون إلا بين اثنين معاً، فكأنه قيل: / ولقد هَمَّا بالمخالطة لولا أنْ مَنَعَ مَانعُ أحدِهما. قلت: نِعْم ما قلت، ولكن اللَّه سبحانه قد جاء بالهمَّين على سبيل التفصيل حيث قال: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾.
قلت: والزَّجَّاج لم يرتضِ هذه المقالة، أعني كون قوله: «لولا» متعلقةً ب «همَّ بها» فإنه قال: «ولو كان الكلامُ» ولهمَّ بها «لكان بعيداً، فكيف مع سقوط اللام» ؟ يعني الزجاج أنه لا جائزٌ أن يكونَ «وهمَّ بها» جواباً ل «لولا» ؛ لأنه لو كان جوابَها لاقترن باللام لأنه مثبت، وعلى تقدير أنه كان مقترناً باللام كان يَبْعُدُ مِنْ جهةٍ أخرى وهي تقديمُ الجوابِ عليها.
وجواب ما قاله الزجاج ما قدَّمْتُه عن الزمخشري من أَنَّ الجوابَ محذوف مدلولٌ عليه بما تقدَّم. وأمَّا قولُه: «ولو كان الكلام» ولهمَّ بها «فغيرُ لازمٍ» ؛ لأنه متى كان جوابُ «لو» و «لولا» مثبتاً جاز فيه الأمران: اللامُ وعَدَمُها، وإن كان الإِتيان باللامِ وهو الأكثر.
وتابع ابنُ عطية الزجاجَ أيضاً في هذا المعنى فقال: «قولُ مَنْ قال: إنَّ الكلام قد تَمَّ في قوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتَ بِهِ﴾ وإنَّ جوابَ» لولا «في قوله:» وهمَّ بها «، وإن المعنى: لولا أن رأى البرهانَ لهَمَّ بها، فلم يَهُمَّ يوسفُ عليه السلام» قال: «وهذا قول يردُّه لسان العرب وأقوال السلف» أمَّا قولُه: «يردُّه لسان العرب» فليس كذا؛ لأنَّ وِزانَ هذه الآية وِزانُ قولِه: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ
468
لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} [القصص: ١٠] فقوله إن كادَتْ: إمَّا أن يكون جواباً عند مَنْ يرى ذلك، وإمَّا أن يكونَ دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلام العرب. هذا معنى ما ردَّ به عليه الشيخ. قلت: وكأن ابن عطية إنما يعني بالخروج عن لسانِ العرب تجرُّدَ الجوابِ من اللام على تقدير جواز تقديمِه، والغرض أن اللامَ لم تُوْجد.
قوله: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ﴾ في هذه الكافِ أوجهٌ أحدُها: أنَّها في محلِّ نصب، فقدَّره الزمخشري: «مثل ذلك التثبيت ثَبَّتناه». وقَدَّره الحوفي: «أَرَيْناه البراهين بذلك» وقَدَّره ابن عطية: «جَرَتْ أفعالُنا وأقدارُنا كذلك لِنَصْرِفَ»، وقدَّره أبو البقاء «نُراعيهِ كذلك».
الثاني: أن الكاف في محلِّ رفعٍ، فقدَّره الزمخشري وأبو البقاء: «الأمر مثل ذلك». وقدَّره ابن عطية «عِصْمَتُه كذلك». وقال الحوفي: «أَمْرُ البراهين كذلك»، ثم قال: «والنصبُ أجودُ لمطالبة حروف الجرِّ للأفعال أو معانيها».
الثالث: أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: هَمَّتْ به وهمَّ بها كذلك، ثم قال: «لولا أن رأى برهان ربه لنصرِفَ عنه ما همَّ بها» هذا نصٌّ
469
ابن عطية. وليس بشيءٍ، إذ مع تسليمِ جواز التقديم والتأخير لا معنى لِما ذكره.
وقال الشيخ: «وأقولُ إن التقدير: مثلَ تلك الرؤية أو مثل ذلك الرأي نُرِي براهينَنا لِنَصْرِفَ عنه، فتجعل الإِشارة إلى الرأي أو الرؤية، والناصبُ للكاف ممَّا دَلْ عليه قولُه: ﴿لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ ولِنَصْرِفَ متعلِّقٌ بذلك الفعلِ الناصب للكاف.
ومصدرُ «رأى»
رُؤْية ورَأْي. قال:
٢٧٦٥ - ورأْيُ عَيْنَيَّ الفتى أباكا يُعطي الجزيلَ فعليك ذاكا «
وقرأ الأعمش» ليَصْرِفَ «بياء الغَيبة، والفاعلُ هو اللَّه تعالى.
قوله: ﴿المخلصين﴾ قرأ هذه اللفظةَ حيث وَرَدَتْ إذا كانت معرَّفةً ب أل مكسورةَ اللامِ ابنُ كثير وأبو عمرو وابن عامر، والباقون بفتحها، فالكسرُ على اسم الفاعل، والمفعولُ محذوف تقديره: المخلِصين أنفسَهم أو دينَهم، والفتح على أنه اسم مفعول مِنْ أَخْلصهم اللَّه، أي: اجتباهم واختارهم، أو أَخْلصهم مِنْ كل سوء.
وقرأ الكوفيون في مريم ﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً﴾ [مريم: ٥١] بفتح اللام بالمعنى المتقدم، والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم.
470
قوله تعالى: ﴿واستبقا الباب﴾ : منصوب: إمَّا على إسقاط
470
الخافض اتِّساعاً، إذ أصلُ «استبق» أن تتعدَّى ب إلى، وإمَّا على تضمين «استبقا» معنى «ابتدرا» فتنصب مفعولاً به.
قوله: ﴿وَقَدَّتْ﴾ يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على «استبقا»، أي: اسْتَبَقَا وقَدَّتْ، ويحتمل أن تكون في محل نصب على الحال، أي: وقد قَدَّتْ. والقَدُّ: الشَّقُّ مطلقاً. وقال بعضهم: «القَدُّ فيما كان يُشَقُّ طولاً، والقَطُّ فيما كان يُشَقُّ عَرْضاً».
471
وقال ابن عطية: «وقرأت فرقة» قُطَّ «. قال أبو الفضل ابن حرب:» رأيت في مصحفٍ «قُطَّ مِنْ دُبُر»، أي: شُقَّ «. قال يعقوب:» القَطُّ في الجلدِ الصحيح والثوبِ الصحيح «. وقال الشاعر:
٢٧٦٦ - تَقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُهُ وتُوْقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُبَاحِبِ
قوله: ﴿مَا جَزَآءُ﴾ يجوز في»
ما «هذه أن تكونَ نافيةً، وأن تكونَ استفهاميةً، و» مَنْ «يجوز أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً، وقوله: ﴿إِلاَّ أَن يُسْجَنَ﴾ خبرُ المبتدأ، ولمَّا كان» أَن يُسجن «في قوة المصدر عَطَف عليه المصدر وهو قوله: ﴿أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. و» أو «تُحْمل معانيها، وأظهرُها التنويع.
471
وقرأ زيد بن علي: ﴿أَوْ عَذَابٌ أَلِيماً﴾ بالنصب. وخرجَّه الكسائي على إضمار فعلٍ، أي: أو أَنْ يُعَذَّبَ عذاباً أليماً.
قوله: ﴿هِيَ﴾ ولم يَقُل» هذه «ولا» تلك «لفرط استحيائه وهو أدبٌ حسن، حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور. و» مِنْ أهلها «صفة ل» شاهد «، وهو المُسَوِّغ لمجيءِ الفاعل من لفظِ الفعل إذ لا يجوزُ: قام القائم، ولا قعد القاعد لعدم الفائدة.
قوله: ﴿إِن كَانَ﴾ هذه الجملةُ الشرطيةُ: إمَّا معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديرُه: فقال: إن كان، عند البصريين، وإمَّا معمولة ل»
شَهِد «لأنه بمعنى القول عند الكوفيين.
472
قوله تعالى: ﴿مِن دُبُرٍ﴾ و ﴿مِن قُبُلٍ﴾ : قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين والجرِّ والتنوين، بمعنى مِنْ خلف ومن قُدَّام أي: مِنْ خلف القميص وقدَّامه، أو يوسف. وقرأ الحسن وأبو عمرو في روايةٍ بتسكين العين تخفيفاً وهي لغة الحجاز وأسد. وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، ورُوي عن الجارود وابن أبي إسحاق وابن يعمر وأيضاً بسكون العين وبنائهما على الضم، ووجه ضمِّهما أنهم جعلوهما كقبل وبعد في بنائهما على الضم عند قطعهما عن الإِضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية أن يُجعل المضافُ غايةَ نفسِه بعدما كان المضافُ إليه غايتَه، والأصلُ إعرابُهما لأنهما اسمان متمكنان وليسا بظرفَيْن. قال أبو حاتم: «وهذا رديءٌ في العربية وإنما يقع هذا البناءُ في الظروف».
وقال الزمخشري: «والمعنى: مِنْ قُبُل القميص ومِنْ دُبُره، وأمَّا التنكير
472
فمعناه مِنْ جهةٍ يُقال لها قُبُل ومِنْ جهة يُقال لها دُبُر، وعن ابن أبي إسحاق أنه قرأ» مِنْ قبلَ ومِنْ دبرَ «بالفتح كأنه جعلهما عَلَميْن للجهتين، فَمَنْعُهما الصرفَ للعلمية والتأنيث». وقد تقدَّم الخلافُ في «كان» الواقعة في حَيِّز الشرط: هل تبقى على معناها مِن المُضيّ وإليه ذهب المبرد، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعال، وأن المعنى على التبيين؟
وقوله: ﴿فَكَذَبَتْ﴾ و ﴿فَصَدَقتْ﴾ على إضمار «قد» لأنها تُقَرِّب الماضي من الحالة، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاً، أما إذا كان جامداً فلا يحتاج إلى «قد» لا لفظاً ولا تقديراً.
473
قوله تعالى: ﴿يُوسُفُ﴾ منادى محذوفٌ منه حرفُ النداء. قال الزمخشري: «لأنه منادى قريبٌ مُفاطِن للحديث، وفيه تقريبٌ له وتلطيف بمحلِّه» انتهى. وكلُّ منادى يجوز حَذْفُ حرفِ النداء منه إلا الجلالةَ المعظمة واسمَ الجنس غالباً والمستغاثَ والمندوبَ واسمَ الإِشارة عند البصريين والمضمَر إذا نُودي.
والجمهور على ضمِّ فاء «يوسف» لكونه مفرداً معرفة. وقرأ الأعمش بفتحها. وقيل: لم تَثْبُتْ هذه القراءةُ عنه، وعلى تقدير ثبوتها فقال أبو البقاء فيها وجهين، أحدهما: أن يكون أخرجه على أصل المنادى كما جاء في الشعر:
٢٧٦٧ -....................
473
يا عَدِيَّاً لقد وَقَتْكَ الأوَاقي
يريد بأصل المنادى أنه مفعولٌ به فَحَقُّه النصبُ كالبيت الذي أنشده، واتفق أن يوسُفَ لا يَنْصرف فَفَتْحَتُه فتحةُ إعراب. والثاني وجعله الأَشْبَه: أن يكونَ وقف على الكلمة ثم وَصَل وأَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف، فألقى حركة الهمزة على الفاء وحَذَفَها فصار اللفظ بها «يوسُفَ اعْرض» وهذا كما حُكِي «اللَّهَ اكبرَ اشْهدَ الاَّ» بالوصل والفتح. قلت: يعني بالفتح في الجلالة، وفي أكبر، وفي اشهد، وذلك أنه قدَّر الوقفَ على كل كلمة مِنْ هذه الكلم، وألقى حركة الهمزة من كلٍ من الكلمِ الثلاثِ على الساكن قبله، وأجرى الوصلَ مُجرى الوقف في ذلك، والذي حَكَوه الناس إنما هو في «أكبر» خاصة لأنها مَظِنَّةُ الوقف، وقد تقدَّم ذلك في أول آل عمران.
وقرىء «يوسُفُ أَعْرَضَ» بضم الفاء و «أعرض» فعلاً ماضياً، وتخريجُها أن يكون «يوسف» مبتدأً، و «أَعْرض» جملة مِنْ فعل وفاعل خبره. قال أبو البقاء: «وفيه ضعف لقوله» واستغفِري «، وكان الأشبهُ أن يكون بالفاء: فاستغفري».
474
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾ النسوةُ فيها أقوالُ، المشهور أنها جمعُ تكسير للقلة على فِعْله كالصِّبْيَة والغِلْمَة. ونصَّ بعضُهم على عَدَمِ اطِّرادها وليس لها واحدٌ مِنْ لفظها. والثاني: أنها اسمٌ مفردٌ لجمع المرأة، قاله الزمخشري. والثالث: أنها اسمُ جمعٍ/ قاله أبو بكر بن السراج
474
وكذلك أخواتها كالصِّيْبَة والفِتْية. وعلى كل قولٍ فتأنيثها غير حقيقي باعتبار الجماعة، ولذلك لم يلحق فعلَها تاءُ التأنيث، والمشهورُ كسرُ نونها، ويجوز ضمُّها في لغةٍ، ونقلها أبو البقاء قراءةً ولم أَحْفَظْه، وإذا ضُمَّتْ نونُه كان اسمَ جمع بلا خلاف، ويُكسَّر في الكثرة على نِسْوان، والنساء جمع كثرة أيضاً ولا واحدَ له من لفظه، كذا قال الشيخ، ومقتضى ذلك أن لا يكونَ النساءُ جمعاً لنسوة لقوله: «لا واحد له من لفظه».
و «في المدينة» يجوز تعلُّقه بمحذوفٍ صفةً لنسوة وهو الظاهر، وب «قال» وليس بظاهر.
قوله: ﴿تُرَاوِدُ﴾ خبر «امرأة العزيز»، وجيء بالمضارع تنبيهاً على أن المراوَدَةَ صارَتْ سَجِيَّةً لها ودَيْدَناً، دون الماضي، فلم يَقُلن «راوَدَتْ». ولام «الفتى» ياء لقولهم الفتيان وفُتَيّ، وعلى هذا فقولُهم «الفتوَّة» في المصدر شاذ.
قوله: ﴿قَدْ شَغَفَهَا﴾ هذه الجملةُ يجوز أن [تكون] خبراً ثانياً، وأن تكونَ مستأنفة، وأن تكونَ حالاً: إمَّا من فاعل «تُراوِدُ» وإمَّا مِنْ مفعوله. و «حبَّاً» تمييزٌ، وهو منقولٌ من الفاعلية، والأصل: قد شَغَفها حبُّه. والعامَّة على «شَغَفها» بالغين المعجمة مفتوحةً بمعنى خَرَقَ شِغاف قلبها، وهو مأخوذ من الشَّغاف والشَّغاف: حجاب القلب جُليْدَة رقيقة. وقيل: سويداء القلب. وقيل: داءٌ يَصل إلى القلب من أجل الحب وقيل: جُلَيْدَةٌ رقيقة يقال لها لسان القلب ليسَتْ محيطةً به، ومعنى شَغَفَ قلبَه، أي: خرق حجابَه أو أصابه فأحرقه بحرارة الحبِّ، وهو مِنْ شَغَفَ البعيرَ بالهِناء إذا طَلاَه بالقَطِران فأحرقه. والمَشْغوف: مَنْ وصل الحبُّ لقلبه، قال الأعشى:
475
٢٧٦٨ - تَعْصِي الوُشاةَ وكان الحُبُّ آوِنَةً مِمَّا يُزَيِّنُ للمَشْغوف ما صنعا
وقال النابغة الذبياني:
٢٧٦٩ - وقد حالَ هَمٌّ دونَ ذلك والِجٌ مكانَ الشَّغافِ تَبْتَغيه الأصابعُ
وقرأ ثابت البناني بكسر الغين. قيل: وهي لغة تميم.
وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر والشعبي وقتادة بفتح العين المهملة، وروي عن ثابت البناني وأبي رجاء كَسْرُ المهملة أيضاً. واختلف الناس في ذلك فقيل: هو مِنْ شَعَفَ البعيرَ إذا هَنَأَ فأحرقه بالقَطِران، قاله الزمخشري، وأنشد:
٢٧٧٠ -........................ كما شَعَفَ المَهْنُؤْءَةَ الرجلُ الطالي
والناسُ إنما يَرْوونه بالمعجمة ويُفَسِّرونه بأنه أصاب حبي شَغَافَ قلبها أي أحرق حجابَه، وهي جُلَيْدَة رقيقة دونه، «كما شَغَفَ»، أي: كما أَحْرق وبالغ المهنوءة، أي: المَطْلِيَّة بالهِناء وهو القَطِران، ولا ينشدونه بالمهملة.
وقال أبو البقاء لمَّا حكى هذه القراءة: «مِنْ قولك: فلان مَشْعوفٌ
476
بكذا، أي: مغرى به، وعلى هذه الأقوال فمعناها متقارب. وفرَّق بعضُهم بينهما فقال ابن زيد:» الشَّغَف يعني بالمعجمة في الحب، والشَّعَفُ في البغض «. وقال الشعبي:» الشَّغَف والمَشْغوف بالغين منقوطةً في الحُبِّ، والشَّعَفُ الجنون، والمَشْعوف: المجنون «.
قوله: ﴿مُتَّكَئاً﴾ العامَّةُ على ضم الميم وتشديدِ التاءِ وفَتْحِ الكاف والهمز، وهو مفعولٌ به بأَعْتَدَتْ، أي: هَيَّأَتْ وأَحْضَرَتْ. والمتَّكأ الشيءُ الذي يُتَّكَأُ عليه من وسادةٍ ونحوها. وقيل: المتكأ: مكان الاتِّكاء. وقيل: طعام يُحَزُّ حَزَّاً وهو قول مجاهد. قال القتبيُّ:»
يُقال: اتَّكَأْنا عند فلانٍ، أي: أَكَلْنا «.
قال الزمخشري:»
مِنْ قولك: اتَّكَأْنا عند فلان: طَعِمنا، على سبيل الكناية؛ لأنه مِنْ «دَعَوْتَه ليَطْعَمَ عندك» : اتخذتَ له تُكَأَة يتكِىء عليها. قال جميل:
٢٧٧١ - فَظَلِلْنا بنعمةٍ واتَّكَأْنا وشَرِبْنا الحَلالَ مِنْ قُلَلِهْ «
انتهى. قلت: فقوله:» وشَرِبْنا «مُرَشِّح لمعنى اتَّكَأْنا بأكلنا.
وقرأ أبو جعفر والزهري»
مُتَّكَا «مشدد التاء دون همزٍ وفيه وجهان، أحدهما: أن يكونَ أصلُه مُتَّكأ كقراءة العامَّة وإنما خُفِّفَ همزُه كقولهم تَوَضَّيْتُ في تَوَضَّأْتُ، فصار بزنة مُتَّقَى. والثاني: أن يكونَ مُفْتَعَلاً مِنْ أَوْكَيْتُ القِرْبة إذا شَدَدْتَ فاها بالوِكاء، فالمعنى: أَعْتَدَتْ شيئاً يَشْتَدِدْن عليه: إمَّا بالاتِّكاء وإمَّا
477
بالقطع بالسكين، وهذا الثاني تخريج أبي الفتح.
وقرأ الحسن وابن هرمز» مُتَّكاءً «بالتشديد والمدِّ، وهي كقراءةِ العامَّة إلا أنه أشبع الفتحة فتولَّد منها ألفٌ كقوله:
٢٧٧٢ -........................ ومِنْ ذَمِّ الرجالِ بمنتزاحِ
وقوله:
٢٧٧٣ - يَنْباع مِنْ ذفرى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ .........................
وقوله:
٢٧٧٤ - أَعوذُ باللَّه مِنَ العَقْرابِ الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنابِ
أي: بمنتزح ويَنْبَع والعقرب الشائلة.
وقرأ ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة/ والضحاك والجحدري وأبان بن تغلب»
مُتْكَاً «بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وكذلك قرأ ابن هرمز وعبد اللَّه ومعاذ، إلا أنهما فتحا الميم. والمُتْكُ بالضم والفتح الأُتْرُجُّ، ويقال الأُتْرُنْجُ لغتان، وأنشدوا:
478
وقيل: بل هو اسم لجميع ما يُقطع بالسكين كالأُتْرُجِّ وغيره من الفواكه، ونشدوا:
٢٧٧٥ - فَأَهْدَتْ مُتْكَةً لبني أبيها تَخُبُّ بها العَثَمْثَمَةُ الوَقاحُ
٢٧٧٦ - نَشْرَبُ الإِثمَ بالصُّواعِ جِهاراً وترى المُتْكَ بيننا مُسْتعارا
قيل: وهو مِنْ مَتَك بمعنى بَتَك الشيءَ، أي: قطعه، فعلى هذا يحتمل أن تكونَ الميم بدلاً من الباء وهو بدل مُطَّرد في لغة قومٍ، واحتُمِل أن يكونَ من مادةٍ أخرى وافَقَتْ هذه. وقيل: بالضم العسلُ الخالص عند الخليل، والأُتْرُجُّ عند الأصمعي. ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث، أعني ضمَّ الميمِ وفتحَها وكسرَها قال: وهو الشرابُ الخالص.
وقال المفضل: هو بالضم المائدة، أو الخمر في لغة كِنْدة.
وقوله: ﴿لَهُنَّ مُتَّكَئاً﴾ : إمَّا أَنْ يريدَ كل واحدةٍ مُتَّكَأً، ويَدُلُّ له قوله: ﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً﴾، وإمَّا أن يريدَ الجنس.
والسِّكِّين يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ، قاله الكسائي والفراء، وأنكر الأصمعي تأنيثه. والسَّكِينة فَعِيلة من السكون. وقال الراغب: «سُمِّي به لإِزالتهِ حركةَ المذبوح».
قوله: ﴿أَكْبَرْنَهُ﴾ الظاهر أن الهاء ضمير يوسف. ومعنى أَكْبَرْنَه عَظَّمْنه ودُهِشْن مِنْ حُسْنه. وقيل: هي هاء السكت. قال الزمخشري: «وقيل: أَكْبَرْنَ بمعنى» حِضْنَ «والهاء للسكت، يقال: أَكْبَرَتِ المرأةُ إذا حاضَتْ، وحقيقتُه: دَخَلَتْ في الكِبَر؛ لأنها بالحيض تخرُجُ مِنْ حَدِّ الصِّغَرِ إلى الكِبَرِ،
479
وكأنَّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قولَه:
٢٧٧٧ - خَفِ اللَّهَ واسْتُرْ ذا الجمالَ ببُرْقُعٍ فإنْ لُحْتَ حاضَتْ في الخُدورِ العواتِقُ
انتهى. وكونُ الهاء للسكتِ يَرُدُّه ضمُّ الهاءِ، ولو كانت للسكت لَسَكَنَتْ وقد يقال: إنه أَجْراها مُجْرى هاء الضمير، وأَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف في إثباتها. قال الشيخ:» وإجماعُ القَّراء على ضمِّ الهاء في الوصل دليلٌ على أنها ليسَتْ هاءَ السكت؛ إذ لو كانت هاءَ السكت وكان من إجراء الوصلِ مُجْرى الوقفِ لم يضمَّ الهاء «. قلت: وهاء السكت تُحَرَّك بحركةِ هاءِ الضمير إجراءً لها مُجْراها، وقد حَقَّقْتُ هذا في الأنعام، وقد قالوا ذلك في قول المتنبي أيضاً:
٢٧٧٨ - واحَرَّ قلباه مِمِّنْ قَلْبُه شَبِمُ ........................
فإنه رُوِي بضمِّ الهاء في»
قلبها «وجعلوها هاءَ سكتٍ. ويمكن أن يكون» أَكْبَرْنَ «بمعنى حِضْنَ ولا تكون الهاءُ للسَّكْت، بل تُجْعل ضميرَ المصدرِ المدلولِ عليه بفعله أي: أَكْبَرْنَ الإِكبار، وأنشدوا على أن الإِكبارَ بمعنى الحيض قولَه:
٢٧٧٩ - يأتي النساءَ على أَطْهارِهِنَّ ولا يأتي النساءَ إذا أَكْبَرْن إكبارا
قال الطبري:»
البيت مصنوعٌ «.
480
قوله: ﴿حَاشَ للَّهِ﴾ » حاشى «عَدَّها النحويون من الأدوات المترددةِ بين الحرفية والفعلية فإنْ جَرَّتْ فهي حرفٌ، وإنْ نَصَبَتْ فهي فعلٌ، وهي من أدواتِ الاستثناء ولم يَعْرف سيبويه فعليَّتها وعَرَفَها غيرُه، وحَكَوا عن العرب» غَفَر اللَّه لي ولِمنْ سمع دعائي حاشى الشيطانَ وابنَ الأصبغ «بالنصب، وأنشدوا:
٢٧٨٠ - حشى رَهْطَ النبيِّ فإنَّ منهمْ بُحوراً لا تكدِّرُها الدِّلاءُ
بنصب»
رَهْط «. و» حشى «لغةٌ في حاشى كما سيأتي. وقال الزمخشري:» حاشى كلمةٌ تفيد التنزيه في باب الاستثناء تقول: أساءَ القومُ حاشى زيدٍ قال:
٢٧٨١ - حاشى أبي ثوبانَ إنَّ بهِ ضِنَّاً عنِ المَلْحاة والشَّتْم
وهي حرفٌ من حروف الجر فوُضِعَتْ موضعَ التنزيه والبراءة، فمعنى حاشى اللَّهِ: براءة اللَّهِ وتنزيه اللَّه، وهي قراءة ابن مسعود «. قال الشيخ:» وما ذكر أنها تفيد التنزيهَ في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين، لا فرقَ بين قولك: «قام القومُ إلا زيداً» و «قام القوم حاشى زيدٍ»، ولَمَّا مَثَّل بقوله: «
481
أساء القومُ حاشى زيدٍ» وفَهِم هو من هذا التمثيلِ براءةَ زيدٍ من الإِساءة جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ، وأمَّا ما أنشده مِنْ قوله: حاشا أبي ثوبان، فهكذا ينشده ابن عطية وأكثرُ النحاة، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدرَ بيتٍ على عجز آخَرَ وَهْماً من بيتين، وهما: /
٢٧٨٢ - حاشى أبي ثَوْبان إنَّ أبا ثَوْبانَ ليس ببُكْمَةٍ فَدْمِ
عمرَو بنَ عبدِ اللَّه إنَّ به ضِنَّاً عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ
قلت: قوله «إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشري لا يعرفه النحاة لم ينكروه وإنما لم يذكروه في كتبهم؛ لأنهم غالبُ فنهم في صناعة الألفاظ دون المعاني، ولمَّا ذكروا مع أدواتِ الاستثناء» ليس «و» لا يكون «و» غير «لم يذكروا معانيهَا، إذ مرادُهم مساواتُها ل» إلا «في الإِخراج وذلك لا يمنعُ من زيادةِ معنى في تلك الأدوات.
وزعم المبرد وغيره كابن عطية أنها تتعيَّنُ فعليَّتُها إذا وقع بعدها حرفُ جر كالآية الكريمة، قالوا لأن حرفَ الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً كقوله:
482
وقول الآخر:
٢٧٨٣ -......................... ولا لِلِما بهم أبداً دواءُ
٢٧٨٤ - فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به ..........................
فتعيَّن أن تكونَ فعلاً، فاعلُه ضمير يوسف أي: حاشى يوسف، و» للَّه «جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بالفعل قبله، واللامُ تفيد العلةَ أي: حاشى يوسفَ أن يقارِفَ ما رَمَتْه به لطاعة اللَّه ولمكانه منه أو لترفيع اللَّه أن يرمى بما رَمَتْه به، أي: جانَبَ المعصيةَ لأجل اللَّه.
وأجاب الناسُ عن ذلك بأنَّ حاشى في الآية الكريمة ليست حرفاً ولا فعلاً، وإنما هي اسمُ مصدرٍ بدلٌ من اللفظة بفعله كأنه قيل: تنزيهاً للَّه وبراءةً له، وإنما لم يُنَوَّنْ مراعاةً لأصله الذي نُقِل منه وهو الحرف، ألا تراهم قالوا: مِنْ عن يمينه فجعلوا»
عن «اسماً ولم يُعْربوه، وقالوا» مِنْ عليه «فلم يُثْبتوا ألفه مع المضمر، بل أَبْقَوا» عن «على بنائه، وقلبوا ألف» على «مع المضمر، مراعاةً لأصلها، كذا أجاب الزمخشري، وتابعه الشيخُ ولم يَعْزُ له الجواب. وفيه نظر.
أمَّا قوله:»
مراعاة لأصله «فيقتضي أنه نُقِل من الحرفية إلى الاسمية، وليس ذلك إلا في جانب الأعلام، يعني أنهم يُسَمُّون الشخصَ بالحرف، ولهم في ذلك مذهبان: الإِعرابُ والحكاية، أمَّا أنَّهم ينقلون الحرف إلى الاسم، أي: يجعلونه اسماً فهذا غيرُ معروفٍ. وأمَّا استشهادُه ب» عن «و» على «فلا يفيده ذلك؛ لأنَّ» عن «حالَ كونِها اسماً إنما بُنيت لشبهها بالحرفِ في الوضع على حرفين لا أنها باقيةٌ على بنائها.
وأمَّا قَلْبُ ألفِ «
483
على» مع الضمير فلا دلالة فيه لأنَّا عَهدنا ذلك فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق ك «لدى».
والأَوْلى أن يقال: الذي يظهر في الجواب عن قراءةِ العامة أنها اسمُ منصوبٌ كما تقدَّم تقريره، ويدلُّ عليه قراءة أبي السمَّال «حاشاً للَّه» منصوباً، ولكنهم أَبْدلوا التنوين ألفاً كما يبدلونه في الوقف، ثم إنهم أَجْروا الوصل مجرى الوقف كما فعلوا ذلك في مواضعَ كثيرةٍ تقدَّم منها جملةٌ وسيمر بك مثلها.
وقيل في الجواب عن ذلك: بل بُنيت «حاشا» في حال اسميتها لشبهها ب «حاشا» في حال حرفيَّتها لفظاً ومعنى، كما بُنِيَتْ «عن» و «على» لما ذكرنا.
وقال بعضُهم: إنَّ اللامَ زائدةٌ. وهذا ضعيفٌ جداً بابُه الشعرُ. واسْتَدَلَّ المبرد وأتباعُه على فعليتها بمجيء المضارعِ منها. قال النابغة الذبياني:
٢٧٨٥ - ولا أرى فاعِلاً في الناسِ يُشْبِهُهُ ولا أُحاشي من الأقوامِ مِنْ أَحَدِ
قالوا: وتَصَرُّفُ الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل دليلُ فعليَّتها لا محالةَ.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك: بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظِ الحرفِ كما قالوا: «سَوَّفْتُ بزيد» و «لَوْلَيْت له»، أي: قلت له: سوف أفعلُ. وقلت له: لو كان ولو كان، وهذا من ذلك، وهو محتمل.
وممَّن رَجَّح جانبَ الفعلية أبو علي الفارسي قال: «لا تَخْلو» حاش «
484
في قوله:» حاش للَّه «من أن تكونَ الحرفَ الجارَّ في الاستثناء، أو تكون فعلاً على فاعَل، ولا يجوز أن تكونَ الحرفَ الجارَّ لأنه لا يدخل على مثله، ولأن الحروفَ لا يُحْذَفُ منها إذ لم يكن فيها تضعيف، فثبت أنه فاعَل مِن الحشا الذي يُراد به الناحية، والمعنى: أنه صار في حَشَاً، أي في ناحية، وفاعل» حاش «» يوسف «والتقدير: بَعُدَ من هذا الأمرِ للَّه، أي: لخوفِه».
قوله: «حرفُ الجر لا يدخل على مثله» مُسَلَّم، ولكن ليس هو هنا حرفَ جر كما تقدَّم تقريرُه. وقوله: «لا يُحْذف من الحرفِ إلا إذا كان مضعفاً» ممنوع، ويدلُّ له قولهم «مُنْ» في «منذ» إذا جُرَّ بها، فحذفوا عينها ولا تضعيفَ. قالوا: ويدلُّ على أنَّ أصلَها «منذ» بالنون تصغيرُها على «مُنَيْذ» وهذا مقرَّر في بابه.
وقرأ أبو عمرو وحده «حاشى» بألفين: ألفٍ بعد الحاء، وألف بعد الشين في كلمتي هذه السورة وصلاً، وبحذفها وقفاً إتباعاً للرسم كما سننبِّه عليه. والباقون بحذف الألفِ الأخيرةِ وصلاً ووقفاً.
فأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فإنه جاء فيها بالكلمة على أصلها. وأمَّا الباقون فإنهم اتَّبعوا في ذلك الرسمَ ولمَّا طال اللفظ حَسُن تخفيفُه بالحذف ولا سيما على قول مَنْ يَدَّعي فعليَّتَها، كالفارسي.
قال الفارسي: «وأمَّا حذفُ الألف فعلى» لم يَكُ «و» لا أَدْرِ «و» أصاب الناسَ جُهْدٌ، ولَوْ تَرَ أهلَ مكة «، و [قوله] :
٢٧٨٦ - وصَّانيَ العجَّاجُ فيما وَصَّني/...
485
في شعر رؤبة، يريد: لم يكن، ولا أدري، ولو ترى، ووصَّاني. وقال أبو عبيد:» رأيتُها في الذي يقال: إنه الإِمام مصحف عثمان رضي اللَّه عنه: «حاش للَّه» بغير ألف، والأخرى «مثلُها». وحكى الكسائي أنها رآها في مصحف عبد اللَّه كذلك، قالوا: فعلى ما قال أبو عبيد والكسائي تُرَجَّح هذه القراءةُ، ولأنَّ عليها ستةً من السبعة، ونقل الفراء أن الإِتمامَ لغةُ بعض العرب، والحذفُ لغة أهل الحجاز قال: «ومِنْ العرب من يقول:» حشى زيد «أراد حشى لزيد». فقد نقل الفراءُ أن اللغاتِ الثلاثَ مسموعةٌ، ولكنَّ لغةَ الحجازِ مُرَجَّحَةٌ عندهم.
وقرأ الأعمش في طائفة «حشى للَّه» بحذف الألفين وقد تقدَّم أن الفراء حكاها لغةً عن بعض العرب، وعليه قوله:
٢٧٨٧ - حشى رَهْطِ النبيِّ..... ...........................
البيت. وقرأ أُبَي وعبد اللَّه «حاشى اللَّهِ» بجرِّ الجلالة، وفيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ اسماً مضافاً للجلالة [نحو: «سبحان اللَّه» وهو اختيارُ الزمخشري. الثاني: أنه حرفُ استثناء جُرَّ به ما بعده، وإليه ذهب الفارسي،] وفي جَعْلِهِ «حاشى» حرفَ جرٍّ مُراداً به الاستثناءُ نظرٌ،
486
إذ لم يتقدَّم في الكلام شيءٌ يستثنى منه الاسمُ المعظَّم بخلافِ «قام القومُ حاشى زيد».
واعلمْ أنَّ النحويين لمَّا ذكروا هذا الحرفَ جعلوه من المتردد بين الفعلية والحرفية، عند مَنْ أثبتَ فعليَّتَه، وجعله في ذلك كخلا وعدا، عند مَنْ أثبت حرفيَّة «عدا»، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسميةِ والفعلية والحرفية، كما فعلوا ذلك في «على» فقالوا: يكون حرف جر في «عليك»، واسماً في قوله: «مِنْ عليه»، وفعلاً في قوله:
٢٧٨٨ - عَلاَ زيدُنا يومَ النَّقا..... ..........................
وإن كان فيه نظرٌ ذكرتُه مستوفىً في غير هذا المكان، ملخصُه أن «على» حالَ كونها فعلاً غير «على» حال كونها غيرَ فعل، بدليل أنَّ ألف الفعلية منقلبة عن واو، ويدخلها التصريف والاشتقاق دون ذَيْنَكَ. وقد يتعلَّق مَنْ ينتصر للفارسي بهذا فيقول: لو كانت «حاشى» في قراءة العامَّة اسماً لذكر ذلك النحويون عند تردُّدِها بين الحرفية والفعلية، فلمَّا لم يذكروه دَلَّ على عدمِ اسميتها.
وقرأ الحسن «حاشْ» بسكون الشين وصلاً ووقفاً كأنه أجرى الوصلَ مجرى الوقف. ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ: «حاشى الإِله» قال: «محذوفاً مِنْ حاشى» يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرة، ويدلُّ على ذلك ما صرَّح به صاحب «اللوامح» فإنه قال: «بحذف الألف» ثم قال: وهذا يدلُّ
487
على أنه حرفُ جرٍ يَجُرُّ ما بعده، فأما «الإِله» فإنه فكَّه عن الإِدغامِ، وهو مصدرٌ أقيم مُقام المفعول، ومعناه المعبود، وحُذِفت الألف من «حاشى» للتخفيف «
قال الشيخ:»
وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحبُ «اللوامح» من أنَّ الألف في «حاشى» في قراءة الحسن محذوفةُ الألف لا يتعيَّنُ، إلا إنْ نَقَل عنه أنه يقف في هذه القراءةِ بسكون الشين، فإن لم يُنْقَلْ عنه في ذلك شيءٌ فاحتمل أن تكونَ الألفُ حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ إذا الأصلُ: «حاشى الإِله» ثم نَقَل فحذف الهمزة وحَرَّك اللام بحركتها، ولم يَعْتَدَّ بهذا التحريك لأنه عارض، كما تنحذف في «يَخْشى الإِله»، ولو اعتدَّ بالحركة لم تُحْذف الألف «.
قلت: الظاهر أن الحسنَ يقف في هذه القراءة بسكون الشين، ويُسْتأنس له بأنه سكَّن الشين في الرواية الأخرى عنه، فلمَّا جِيءَ بشيءٍ يُحْتَمَلُ ينبغي أن يُحْمَلَ على ما صُرِّح به. وقول صاحب «اللوامح» :«وهذا يدلُّ على أنه حرف جر يُجَرُّ به ما بعده» لا يصحُّ لِما تقدم مِنْ أنه لو كان حرف جر لكان مستثنى به ولم يتقدَّمْ ما يستثنى منه بمجروره.
واعلمْ أنَّ اللامَ الداخلةَ على الجلالة متعلقة بمحذوف على سبيل البيان، كهي في «سقياً لك ورعياً لزيد» عند الجمهور، وأمَّا عند المبرد والفارسي فإنها متعلقة بنفس «حاشى» لأنها فعلٌ صريحٌ عندهما، وقد تقدم أن بعضَهم ادعى زيادتَها.
قوله: ﴿مَا هذا بَشَراً﴾ العامَّة على إعمال «ما» على اللغة الحجازية،
488
وهي اللغة الفصحى، ولغةُ تميم الإِهمالُ، وقد تقدَّم تحقيق هذا أول البقرة وما أنشدتُه عليه من قوله:
٢٧٨٩ - وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ ..........................
البيتين. ونقل ابن عطية أنه لم يَقْرأ أحد إلا بلغة الحجاز. وقال الزمخشري: «ومَنْ قرأ على سليقته من بني تميم قرأ» بشرٌ «بالرفع وهي قراءةُ ابن مسعود». قلت: فادِّعاء ابن عطية أنه لم يُقرأ به غير مُسَلَّم.
وقرأ العامَّة «بَشَراً» بفتح الباء على أنها كلمة واحدة. وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي «بشرى» بكسر الباء، وهي باء الجر دخلت على «شِرى» فهما كلمتان جار ومجرور، وفيها تأويلات، أحدُهما: ما هذا بمشترى، فوضع المصدرَ موضع المفعول به كضَرْب الأمير. الثاني: ما هذا بمُباعٍ، فهو أيضاً مصدر واقع موقع المفعول به إلا أن المعنى يختلف.
الثالث: ما هذا بثمن، يَعْنِين أنه أَرْفَعُ مِنْ أنْ يجرى عليه شيءٌ من هذه الأشياء.
وروى عبد الوارث عن أبي عمرو كقراءة الحسن وأبي الحويرث إلا أنه قرأ عنه «إلا مَلِك» بكسر اللام واحد الملوك، نَفَوا عنه ذُلَّ المماليك/ وأثبتوا له عِزَّ الملوك.
489
وذكر ابن عطية كسرَ اللام عن الحسن وأبي الحويرث. وقال أبو البقاء: «وعلى هذا قُرىء» مَلِك «بكسر اللام» كأنه فهم أنَّ مَنْ قرأ بكسر الياء قرأ بكسر اللام أيضاً للمناسبة بين المعنيين، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءةَ مع كسر الباء البتة، بل يُفهم من كلامِه أنه لم يَطَّلع عليها فإنه قال: «وقرىء، ما هذا بشرى أي ما هو بعبدٍ مملوكٍ لئيم، إنْ هذا إلا مَلَك كريم، تقول:» هذا بشرى «أي: حاصلٌ بشرى بمعنى يشترى، وتقول: هذا لك بشرى أم بِكِرا؟ والقراءةُ هي الأَوْلى لموافقتها المصحف ومطابقة» بشر «ل» ملك «.
قوله:»
لموافقتها المصحفَ «يعني أنَّ الرسم» بشراً «بالألف لا بالياء، ولو كان المعنى على» بشرى «لَرُسِمَ بالياء. وقوله:» ومطابقة «دليلُ على أنه لم يَطَّلِعْ على كسر اللام عن مَنْ قرأ بكسر الباء.
490
قوله تعالى: ﴿فذلكن﴾ : مبتدأ والموصول خبره، أشارت إليه إشارة البعيد وإن كان حاضراً تعظيماً له ورفعاً منه لتُظْهِرَ عُذْرَها في شَغَفها.
وجَوَّز ابنُ عطية أن يكونَ «ذلك» [إشارةً إلى] حُبِّ يوسف، والضميرُ في «فيه» عائدٌ على الحبِّ فيكون «ذلك» إشارة إلى غائب على بابه. قلت: يعني بالغائب البعيدَ، وإلا فالإِشارةُ لا تكون إلا لحاضر مطلقاً.
490
قوله: ﴿مَآ آمُرُهُ﴾ في «ما» وجهان، أحدُهما: أنها مصدرية. والثاني: أنها موصولةٌ، وهي مفعولٌ بها بقوله: «يفعلْ» والهاءُ في «آمُرُه» تحتمل وجهين، أحدُهما: العَوْد على «ما» الموصولة إذا جعلناها بمعنى الذي. والثاني: العَوْد على يوسف. ولم يُجَوِّزْ الزمخشري عَوْدَها على يوسف إلا إذا جُعِلت «ما» مصدرية «فإنه قال:» فإن قلت: الضمير في «آمُره» راجعٌ إلى الموصول أم إلى يوسف؟ قلت: بل إلى الموصول والمعنى: ما آمُرُ به فحذف الجارَّ كما في قوله:
٢٧٩٠ - أَمَرْتُكَ الخيرَ........ ....................
ويجوز أن تُجْعَلَ «ما» مصدريةً فيعود على يوسف، ومعناه: ولَئِنْ لم يفعلْ أمري إياه، أي: مُوْجِبَ أمري ومقتضاه «. قلت: وعلى هذا فالمفعولُ الأولُ محذوفٌ تقديره: ما آمُره به وهو ضميرُ يوسف.
والسين في»
استعصم « [فيها وجهان، أحدهما: أنها] ليست على بابها مِن الطلب، بل استفعل هنا بمعنى افتعل، فاستعصم واعتصم واحد. وقال الزمخشري:» الاستعصامُ بناءُ مبالغةٍ يدلُّ على الامتناع البليغ والتحفُّظِ الشديدِ، كأنه في عِصْمةٍ وهو يجتهدُ في الاستزادةِ منها، ونحو: استمسك واستوسع الفَتْقُ، استجمع الرأيَ، واستفحل الخطبُ «، فردَّ السين إلى بابها من الطلب وهو معنىً حسنٌ، ولذلك قال ابن عطية:» طلب العِصْمة واستمسك بها وعصاني «.
491
قال الشيخ:» والذي ذكره التصريفيون في «استعصم» أنه موافقٌ ل «اعتصم» فاستفعل فيه موافقٌ ل «افتعل»، وهذا أجودُ مِنْ جَعْلِ استفعل فيه للطلب لأنَّ «اعتصم» يدلُّ على وجود اعتصامه، وطلب العصمة لا يدلُّ على حصولها، وأمَّا أنه بناءُ مبالغةٍ يَدُلُّ على الاجتهاد في الاستزادة من العصمة فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى ل «استفعل»، وأمَّا استمسك واستوسع واستجمع الرأي فاستفعل فيه لموافقة افْتَعَل، والمعنى: امتسك واتَّسع واجتمع، وأمَّا «استفحل الخطبُ» فاستفعل فيه موافِقَةٌ لتفعَّل، أي: تَفَحَّل الخطب، نحو استكبر وتكبَّرَ «.
وقرأ العامَّةُ بتخفيف نون»
وليَكونَنْ «، ويَقِفون عليها بالألف إجراءً لها مجرى التنوين، ولذلك يَحْذفونها بعد ضمةٍ أو كسرةٍ نحو:» هل تقومون «و» هل تقومين «في:» هل تَقُومُن «و» هل تقومِن «، والنونُ الموجودةُ في الوقف نونُ الرفعِ رَجَعوا بها عند عدمِ ما يقتضي حَذْفَها، وقد قَرَّرْتُ ذلك فيما تقدم.
وقرأت فرقةٌ بتشديدها، وفيها مخالفةٌ لسواد المصحف لكَتْبِها فيه ألفاً، لأنَّ الوقفَ عليها كذلك كقوله:
٢٧٩١ - وإياكَ والمَيْتاتِ لا تَقْرَبَنَّها ولا تَعْبُدِ الشيطانَ واللَّهَ فاعبدا
أي: فاعبدَنْ فَأَبْدَلها ألفاً، وهو أحدُ الأقوال في قول امرىء القيس:
492
وأجرى الوَصْل مجرى الوقفِ.
493
قوله تعالى: ﴿رَبِّ السجن﴾ : العامَّة على كسر الباء لأنه مضافٌ لياء المتكلم، اجتُزِىءَ عنها بالكسرةِ وهي الفصحى. و «السجن» بكسر السين ورفعِ النون على أنه مبتدأ، والخبر «أحبُّ». والسِّجْن الحبس، والمعنى: دخول السجن.
وقرأ بعضهم: «رَبُّ» بضمِّ الباء وجَرِّ النون على أنَّ «ربُّ» مبتدأ و «السجنِ» خفض بالإِضافة، و «أحبُّ» خبرُه، والمعنى: ملاقاةُ صاحبِ السجن ومقاساتُه أحبُّ إليّ.
وقرأ عثمان ومولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي إسحاق وابن هرمز ويعقوب بفتح السين، وفي الباقي كالعامَّة. والسَّجْن مصدر، أي: الحَبْس أحبُّ إلي، و «إليَّ» متعلقٌ ب «أحبُّ» وقد تقدَّم أن الفاعل هنا يُجَرُّ ب «إلى» والمفعول باللام، / وفي الحقيقة ليست هنا أَفْعَل على بابها من التفضيل لأنه لم يُحبَّ ما يدعونه إليه قط، وإنما هذان شَرَّان فآثر أحدَ الشَّرين على الآخر.
قوله: ﴿أَصْبُ﴾ قرأ العامة بتخفيف الباء مِنْ صَبا يَصْبو أي: رَقَّ شَوْقُه. والصَّبْوة: المَيْلُ إلى الهوى، ومنه «الصَّبا» لأنَّ النفوس تَصْبو إليها أي: تميل، لطيب نسميِها ورَوْحِها يقال: صَبَا يَصْبُو صَباءً وصُبُوَّاً، وصَبِيَ يصبى صَبَاً، والصِّبا بالكسر اللَّهْوُ واللعب.
493
وقرأت فرقة «أَصَبُّ» بتشديدها مِنْ صَبْبتُ صَبابة فأنا صَبٌّ، والصَّبابَةُ: رِقَّةُ الشوق وإفراطه كأنه لفرط حبه ينصبُّ فيما يَهْواه كما ينصبُّ الماء.
494
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا﴾ : في فاعله أربعة أوجه، أحسنها: أنه ضمير يعود على السَّجن بفتح السين أي: ظهر لهم حَبْسُه، ويدل على ذلك لفظة «السِّجن» في قراءة العامة، وهو بطريق اللازم، ولفظُ «السَّجن» في قراءة مَنْ فتح السين. والثاني: أن الفاعل ضمير المصدر المفهوم مِنْ الفعل وهو «بدا» أي: بَدا لهم بداءٌ، وقد صَرَّح الشاعرُ به في قوله:
٢٧٩٢ - قِفا نَبْكِ.................. ......................
٢٧٩٣ -................ بَدا لك في تلك القَلوص بداءُ
والثالث: أن الفاعلَ مضمرٌ يدلُّ عليه السياق، أي: بدا لهم رأيٌ. والرابع: أنَّ نفسَ الجملة مِنْ «لَيَسْجُنُنَّه» هي الفاعل، وهذا من أصول الكوفيين.
و «حتى» غايةٌ لما قبله. وقوله: «لَيَسْجُنُنَّه» على قول الجمهور جوابٌ لقسم محذوف، وذلك القسمُ وجوابه معمول لقولٍ مضمر، وذلك القولُ المضمر في محلِّ نصب على الحال، أي: ظهر لهم كذا قائلين: واللَّه لَيَسْجُنُنَّه حتى حين.
وقرأ الحسن «لَتَسْجُنُنَّه» بتاء الخطاب، وفيه تأويلان، أحدهما: أن يكونَ خاطب بعضُهم بعضاً بذلك. والثاني: أن يكونَ خوطب به العزيز تعظيماً له.
494
وقرأ ابن مسعود «عتى» بإبدال حاء «حتى» عيناً وأقرأ بها غيرَه فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب فكتب إليه: «إن هذا القرآن نزل بلغة قريش، فَأَقْرِىء الناسَ بلغتهم». قلت: وإبدال الحاء عيناً لغة هُذَليَّة.
495
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَحَدُهُمَآ﴾ : مستأنف لا محل له، ولا يجوز أن يكونَ حالاً؛ لأنهما لم يقولا ذلك حال الدخول. ولا جائز أن تكونَ مقدرةً؛ لأن الدخول لا يَؤُول إلى الرؤيا. و «إني» وما في حَيِّزه في محلِّ نصب بالقول.
و «أراني» هنا متعديةٌ لمفعولين عند بعضِهم إجراءً للحُلُميَّة مجرى العِلْمِيَّة، فتكون الجملة مِنْ قوله: «أَعْصِرُ» في محلِّ المفعول الثاني، ومَنْ منع كانت عنده في محل الحال. وجرت الحُلُمية مَجْرى العِلْمية أيضاً في اتِّحاد فاعلها ومفعولِها ضميرين متصلين، ومنه الآيةُ الكريمة؛ فإن الفاعلَ والمفعولَ متحدان في المعنى؛ إذ هما للمتكلم، وهما ضميران متصلان. ومثلُه: «رَأَيْتُك في المنام قائماً» و «زيدٌ رآه قائماً»، ولا يجوز ذلك في غير ما ذُكر، لا تقول: أَكْرَمْتُني، ولا أكرمْتُك، ولا زيد أكرمه، فإن أردت ذلك قل: أكرمتُ نفسي، أو إياي ونفسك، أو إياك ونفسَه، أو إياه، وقد تقدَّم تحقيق هذا.
وإذا دَخَلَتْ همزةُ النقل على هذه الحُلُمِيَّة تعدَّت لثالث، وقد تقدَّم هذا
495
في قوله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً﴾ [الأنفال: ٤٣]، ولو أراكهم كثيراً.
والخَمْر: العِنَب أُطلق عليه ذلك مجازاً، لأنه آيل إليه كما يُطْلق الشيءُ على الشيء باعتبار ما كان عليه كقوله: ﴿وَآتُواْ اليتامى﴾ [النساء: ٢] ومجازُ هذا أقربُ: وقيل: بل الخمر: العنب حقيقة في لغة غسان وأزد عمان. وعن المعتمر: «لقيت أعرابياً حاملاً عنباً في وعاءٍ فقلت: ما تحمل؟ فقال: خمراً.
وقراءة أُبَيّ وعبد اللَّه»
أَعْصِر عنباً «لا تدل على الترادف لإِرادتها التفسيرَ لا التلاوة، وهذا كما في مصحف عبد اللَّه» فوق رأسي ثريداً «فإنه أراد التفسير فقط.
و»
تأكل الطير «صفةٌ لخبزاً. و» فوق «يجوز أن يكون ظرفاً للحمل، وأن يتعلق بمحذوف حالاً من» خبزاً «لأنه في الأصل صفةٌ له. والضمير في قوله:» نَبِّئْنا بتأويله «قال الشيخ:» عائدٌ على ما قَصَّا عليه، أُجري مُجْرى اسم الإِشارة كأنه قيل بتأويل ذلك «وهذا قد سبقه إليه الزمخشري، وجعله سؤالاً وجواباً. وقال غيره:» إنما وَحَّد الضمير لأنَّ كل واحد سأل عن رؤياه، فكأن كل واحد منهما قال: نَبِّئْنا بتأويل ما رأيت.
496
و «تُرْزَقانه» صفة ل «طعام». وقوله: إلا نَبَّأْتُكما «استثناءُ مفرَّغ. وفي موضع الجملة بعده وجهان أحدُهما: أنها في محل نصبٍ على الحال، وساغ ذلك من النكرة لتخصُّصها بالوصف. / والثاني: أن تكونَ
496
في محل رفع نعتاً ثانياً ل» طعام «، والتقدير: لا يأتيكما طعامٌ مرزوقٌ إلا حال كونه منبِّئاً بتأويلهِ أو مُنَبَّأً بتأويله. و» قبل «الظاهرُ أنها ظرفٌ ل» نَبَّأْتكما «، ويجوز أن يتعلق ب» تأويله «، أي: نَبَّأْتكما بتأويله الواقع قبل إتيانِه.
قوله: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ﴾ يجوز أن تكونَ هذه مستأنفةً أخبر بذلك عن نفسه. ويجوز أن تكونَ تعليلاً لقوله ﴿ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي﴾، أي: تَرْكي عبادةَ غيرِ اللَّه سببٌ لتعليمه إياي ذلك، وعلى الوجهين لا محلَّ لها من الإِعراب. و»
لا يؤمنون «صفة ل» قوم «. وكرَّر» هم «في قوله ﴿وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ﴾ قال الزمخشري:» للدلالةِ على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة، وأن غيرَهم مؤمنون بها «. قال الشيخ:» وليست «هم» عندنا تدل على الخصوص «. قلت: لم يَقُل الزمخشري إن» هم تدل على الخصوص. وإنما قال «تكرير» هم «للدلالة، فالتكرير هو الذي أفاد الخصوصَ، وهو معنىً حَسَنٌ فهمه أهلُ البيان.
497
وسَكَّن الكوفيون الياء من «آبائي»، ورُوِيَتْ عن أبي عمروٍ أيضاً. و «إبراهيم» وما بعده بدلٌ أو عطفُ بيان، أو منصوب على المدح.
قوله تعالى: ﴿ياصاحبي السجن﴾ : يجوز أن يكون من باب الإِضافة للظرف، إذ الأصل يا صاحبي في السجن. ويجوز أن تكون
497
من باب الإِضافة إلى المشبه بالمفعول به، والمعنى: يا ساكني السجن كقوله: ﴿أَصْحَابُ النار﴾ [البقرة: ٣٩].
قوله ﴿مِن شَيْءٍ﴾ [يوسف: ٣٨] يجوز أن يكون مصدراً، أي: شيئاً من الإِشراك. ويجوز أن يكون واقعاً على المُشْرَك، أي: ما كان لنا أَنْ نُشْرك شيئاً غيرَه مِنْ مَلَك وإنْسِيّ وجني فكيف بصنم؟ و «مِنْ» مزيدة على التقديرين لوجودِ الشرطين.
قوله: ﴿أَمِ الله﴾ هنا متصلةٌ عطفت الجلالة على «أرباب».
498
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَسْمَآءً﴾ : إمَّا أن يُراد بها المُسَمَّياتُ أو على حذف مضاف، أي: ذوات لمُسَمَّيات. و «سَمَّيْتموها» صفةٌ، وهي متعدية لاثنين حُذِف ثانيهما، أي: سمَّيْتموها آلهة و «ما أنزل» صفةٌ ل «أسماء» و «مِنْ» زائدة في «منْ سلطان»، أي: حُجَّة. و «إنِ الحكم» :«إنْ» نافية. ولا يجوز الإِتباعُ لضمة الحاء كقوله: قالتُ اخْرُجْ «ونحوه، لأنَّ الألف واللامَ كلمةٌ مستقلة فهي فاصلةٌ بينهما.
قوله: ﴿أَمَرَ أَلاَّ﴾ يجوز في»
أَمَر «أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، وأن يكون حالاً و» قد «معه مرادةٌ عند بعضهم. قال أبو البقاء:» وهو ضعيفٌ لضعف العامل فيه «قلت: يعني بالعامل ما تضمَّنه الجارُّ في قولِه:» إلا للَّه «من الاستقرار.
قوله تعالى: ﴿فَيَسْقِي﴾ : العامَّةُ على فتح الياء، مِنْ سقاه يَسْقيه. وقرأ عكرمة في رواية «فَيُسْقي» بضم حرف المضارعة مِنْ أسقى وهما لغتان، يقال: سَقَاه وأَسْقاه، وسيأتي أنهما قراءتان في السبعة: «نَسْقيكم ونُسْقيكم مما [في] بطونه». وهل هما بمعنىً أم بينهما فرق؟ ونقل ابن عطية عن عكرمة والجحدري أنهما قرآ «فَيُسقَى ربُّه» مبنياً للمفعول ورفع «ربُّه». ونسبه الزمخشري لعكرمة فقط.
قوله: ﴿قُضِيَ الأمر﴾ قال الزمخشري: «ما اسْتَفْتَيَا في أمرٍ واحد. بل في أمرين مختلفين، فما وجه التوحيد؟ قلت: المراد بالأمر ما اتُّهما به من سَمِّ المَلِك وما سُجِنا من أجله».
قوله تعالى: ﴿لِلَّذِي ظَنَّ﴾ : فاعلُ «ظنَّ» يجوز أن يكون يوسف عليه السلام إن كان تأويلُه بطريقة الاجتهاد، وأن يكون الشرَّابيُّ إن كان تأويله بطريق الوحي، أو يكون الظنُّ بمعنى اليقين، قاله الزمخشري.
قلت: يعني أنه إنْ كان الظنُّ على بابه فلا يستقيم إسناده إلى يوسفَ إلا أن يكون تأويلُه بطريق الاجتهاد؛ لأنه متى كان بطريق الوحي كان يقيناً فيُنْسَب الظن حينئذ للشَّرابي لا له عليه السلام، وأمَّا إذا كان الظنُّ بمعنى
499
اليقين فتصِحُّ نسبتُه إلى يوسف وإن كان تأويله بطريق الوحي، وهو حَسَنٌ وإلى كونِ الظنِّ على بابه وهو مسندٌ ليوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ذهب قتادة، فإنه قال: «الظنُّ هنا على بابه لأنَّ عبارة الرؤيا ظنٌّ».
قوله: ﴿مِّنْهُمَا﴾ يجوز أن يكونَ صفةً ل «ناج»، وأن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال من الموصول. قال أبو البقاء: «ولا يكون متعلقاً ب» ناجٍ «لأنه ليس المعنى عليه» قلت: لو تعلَّق ب «ناجٍ» لأَفْهَمَ أنَّ غيرَهما نجا منهما، أي: انفلت منهما، والمعنى: أنَّ أحدهما هو الناجي، وهذا المعنى الذي نبَّه عليه بعيدٌ تَوَهُّمُه. والضمير في «فَأَنْساه» يعود على الشرَّابي. وقيل: على يوسف، وهو ضعيفٌ.
قوله: ﴿بِضْعَ سِنِينَ﴾ منصوبٌ على الظرف الزماني وفيه خلافٌ: فقال قتادة: «هو بين الثلاث إلى التسع». وقال أبو عبيد: «البِضْعُ لا يَبلُغُ العِقْدَ ولا نصفَ العقدِ، وإنما هو من الواحد إلى العشر». وقال مجاهد: «هو من الثلاثة إلى السبعة». وقال الفراء: «لا يُذكر البِضْعُ إلا مع العشرات ولا يُذكر مع مِئَة ولا ألف». وقال الراغب: / «البِضْع: بالكسر المُقَتَطَعُ من العشرة، ويقال ذلك لِما بين الثلاثة إلى العشرة وقيل: بل هو فوق الخمسة ودون العشرة». قلت: فَجَعَلَه مشتقاً مِنْ مادة البَضْع وهي القَطْع، ومنه: بَضَعْتُ اللحمَ، أي: قَطَعْتُه، والبِضاعة: قطعةُ مالٍ للتجارة، والمِبْضَعُ: ما يُبْضَعُ به، والبَعْض قد تقدَّم أنه من هذا المعنى عند ذكر «البعوضة».
500
قوله تعالى: ﴿سِمَانٍ﴾ : صفة لبقرات وهو جمع سمينة، ويُجْمع سمين أيضاً عليه يقال: رجال سِمان كما يقال نِساء كِرام ورجال كِرام. و «السِّمَنُ» مصدرُ سَمِن يَسْمَن فهو سمين فالمصدر واسم [الفاعل] جاءا على غير قياس، إذ قياسُهما «سَمَن» بفتح الميم، فهو سَمِن بكسرها، نحو فَرِح فَرَحاً فهو فَرِح.
قال الزمخشري: «هل مِنْ فرقٍ بين إيقاع» سمان «صفة للمميِّز وهو» بقراتٍ «دون المُمَيَّز وهو» سبعَ «، وأن يقال: سبعَ بقراتٍ سِماناً؟ قلت: إذا أوقَعْتَها صفةً ل» بقرات «فقد قَصَدْتَ إلى أَنْ تُمَيِّز السبعَ بنوع من البقرات وهو السِّمانُ منهنَّ لا بجنسهنَّ، ولو وَصَفْتَ بها السبع لَقَصَدْت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوعٍ منها، ثم رَجَعْتَ فَوَصَفْتَ المميَّز بالجنس بالسِّمَنِ. فإن قلت: هَلاَّ قيل» سبعَ عجافٍ «على الإِضافة. قلت: التمييزُ موضوعٌ لبيان الجنس، والعِجافُ وصفٌ لا يقع البيانُ به وحدَه. فإن قلت فقد يقولون: ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب. قلت: الفارس والصاحب والراكب ونحوها صفاتٌ جَرَتْ مَجْرى الأسماء فأخَذَتْ حُكْمَها، وجاز فيها ما لم يَجُزْ في غيرها. ألا تراك لا تقول: عندي ثلاثةُ ضخامٍ ولا أربعةُ غلاظٍ. فإن قلت: ذاك مِمَّا يُشْكِلُ وما نحن بسبيلهِ لا إشكال فيه ألا ترى أنه لم يَقُلْ» وبقرات سبعَ عجافٍ «لوقوع العلم بأن المرادَ البقرات. قلت: تَرْكُ الأصلِ لا يجوز مع وقوع الاستغناء عَمَّا ليس بأصلٍ، وقد وقع الاستغناء عن قولك» سبع عجافٍ «عمَّا تقترحه من التمييز بالوصف».
501
قلت: وهي أسئلة وأجوبة حسنة. وتحقيق السؤال الأول وجوابه: أنه يلزم مِنْ وَصْفِ التمييز بشيء وَصْفُ المميَّزِ به، ولا يلزم من وصف المُمَيَّز وَصْفُ التمييز بذلك الشيءِ، بيانُه أنك إذا قلت: «عندي أربعةُ رجالٍ حسانٍ» بالجرِّ كان معناه: أربعة من الرجال الحسان، فيلزم حُسْنُ الأربعة؛ لأنهم بعض الرجال الحسان، وإذا قلت: «عندي أربعةُ رجالٍ حسانٌ» برفع «حسان» كان معناه: أربعة من الرجال حِسان، وليس فيه دلالةٌ على وَصْف الرجال بالحُسْن.
وتحقيقُ الثاني وجوابه: أن أسماءَ العدد لا تُضاف إلى الأوصاف إلا في ضرورة، وإنما يُجاء بها تابعةً لأسماء العدد فيقال: «عندي ثلاثة قرشيون» ولا يُقال: ثلاثةُ قرشيين بالإِضافة إلا في شعر. ثم اعترض بثلاثة فرسان وأجاب بجريان ذلك مجرى الأسماء.
وتحقيق الثالث: أنه إنما امتنع «ثلاثةُ ضِخام» ونحوه لأنه لا يُعْلَمُ موصوفُه، بخلاف الآية الكريمة فإنَّ الموصوفَ معلومٌ ولذلك لم يُصَرِّحْ به. وأجاب عن ذلك بأن الأصلَ عدمُ إضافةٍ العددِ إلى الصفة كما تقدَّم فلا يُتْرك هذا الأصلُ مع الاستغناءِ بالفرع، وعلى الجملة ففي هذه العبارة قلق هذا ملخصها، ولم يذكر الشيخُ نصَّه ولا اعترض عليه، بل لَخَّصَ بعضَ معانيه وتركه على إشكاله.
وجَمْعُ عَجْفاء على عِجاف. والقياس: عُجُف نحو: حمراء وحُمُر، حَمْلاً له على «سِمان» لأنه نقيضُه، ومِنْ دَأْبهم حَمْل النظير على النظير والنقيض على النقيض، قاله الزمخشري: «والعَجَفُ شِدَّة الهُزالِ الذي ليس بعده قال:
502
٢٧٩٤ - عمرُو الذي هَشَم الثريدَ لقومِه ورجالُ مكةَ مُسْنِتون عِجافُ
وقال الراغب:» هو من قولهم نَصْلٌ أعجفُ، أي: دقيق، وعَجَفَتْ نفسي عن الطعام، وعن فلان إذا نَبَتْ عنهما، وأَعْجف الرجلُ، أي: صادف ماشِيَتَه عِجافاً «.
قوله: ﴿وَأُخَرَ﴾ »
أُخَرَ «نسقٌ على» سبعَ «لا على» سنبلات «، ويكون قد حَذَف اسمَ العددِ من قوله» وأُخَر يابسات «والتقدير: وسبعاً أُخَرَ، وإنما حَذَف لأنَّ التقسيمَ في البقرات يقتضي التقسيمَ في السنبلات.
قال الزمخشري:»
فإنْ قلت: هل في الآية دليل على أنَّ السنبلاتِ اليابسةَ كانت سبعاً كالخضر؟ قلت: الكلامُ مبنيٌّ على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعِجافِ والنسبلاتِ الخُضْر، فَوَجَبَ أن يتناول معنى الأُخر السبع، ويكون قوله «وأُخَرَ يابسات» بمعنى وسبعاً أُخَرَ «انتهى. وإنما لم يَجُزْ عَطْفُ» أُخر «على التمييز وهو» سنبلات «فيكون/» أُخَر «مجروراً لا منصوباً؛ لأنه من حيث العطفُ عليه يكونُ مِنْ جملة مُمَيَّز» سبعَ «، ومِنْ جهةِ كونه آخر يكون مبايناً ل» سبع «فتدافعا، ولو كان تركيبُ الآية الكريمة:» سبع سنبلاتٍ خضرٍ ويابسات «لصَحَّ العطفُ، ويكون مِنْ توزيع السنبلات إلى هذين الوصفين أعني الاخضرارَ واليُبْس.
وقد أوضح الزمخشري هذا حيث قال:»
فإن قلتَ: هل يجوز أن يُعْطَفَ قولُه «وأُخَرَ يابساتٍ» على «سنبلاتٍ خَضْرٍ» فيكون مجرورَ المحل؟ قلت: يؤدي إلى تدافُعٍ، وهو أنَّ عَطْفَها على «سنبلات خضر» يقتضي أن
503
يكونَ داخلاً في حكمها، فتكون معها مميِّزاً للسبع المذكور، ولفظُ الأُخَر يقتضي أن تكونَ غيرَ السبع. بيانُه أنك تقول: «عنده سبعة رجالٍ قيامٍ وقعودٍ بالجرِّ؛ فيصحُّ لأنك مَيَّزْتَ السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود، على أنَّ بعضَهم قيامٌ وبعضَهم قعودٌ، فلو قلت:» عنده سبعةٌ رجال قيام وآخرين قعود «تدافعَ ففسد».
قوله ﴿لِلرُّؤْيَا﴾ : فيه أربعة أوجه، أحدها: أن اللام فيه مزيدةٌ فلا تَعَلٌّق لها بشيء، وزِيْدت لتقدُّم المعمولِ مقويةً للعامل، كما زِيْدَتْ فيه إذا كان العامل فرعاً كقوله: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧]، ولا تُزاد فيما عدا ذينك إلا ضرورةَ كقوله:
٢٧٩٥ - فَلَمَّا أَنْ تواقَفْنا قليلاً أَنَخْنا للكلاكلِ فارْتَمَيْنا
يريد: أنخنا الكلاكل، فزيدت مع فقدان الشرطين، هكذا عبارة بعضهم يقول إلا في ضرورة، وبعضُهم يقول: الأكثر ألاَّ تُزادَ، ويتُحَرَّزُ مِنْ قوله تعالى ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢] فإن الأصلَ: رَدِفَكم فزيدت فيه اللام، ولا تَقَدُّم ولا فرعية، ومَنْ أطلق ذلك جَعَل الآية من باب التضمين، وسيأتي في مكانِه، وقد تقدَّم لك من هذا طرفٌ جيدٌ في تضاعيف هذا التصنيف.
الثاني: أن يُضَمَّن «تَعْبُرون» معنى ما يتعدى باللام، تقديره: إن كنتم تَنْتَدِبون لعبارة الرؤيا.
الثالث: أن يكونَ «للرُّؤْيا» هو خبر «كنتم» كما تقول: «كان فلان لهذا الأمر» إذا كان مستقلاًّ به متمكِّناً منه، وعلى هذا فيكون في «تعبرُون» وجهان،
504
أحدهما: أنه خبرٌ ثانٍ ل «كنتم» والثاني: أنه حالٌ مِن الضمير المرتفع بالجار لوقوعه خبراً.
الرابع: أنْ تتعلَّقَ اللامُ بمحذوفٍ على أنها للبيانِ كقوله تعالى: ﴿وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾ [يوسف: ٢٠] تقديرُه: أعني فيه، وكذلك هذا، تقديرُه: أعني للرؤيا، وعلى هذا فيكون مفعول «تعبُرون» محذوفاً تقديرُه: تعْبُرونها.
وقرأ أبو جعفر «الرُّؤْيا» وبابَها «الرُّيَّا» بالإِدغام، وذلك أنه قَلَبَ الهمزةَ واواً لسكونِها بعد ضمةٍ فاجتمعت ياءٌ وواو، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلِبَتْ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ الياءُ في الياء. وهذه القراءةُ عندهم ضعيفةٌ؛ لأنَّ البدلَ غيرُ لازمٍ فكأنه لم تُوْجَدْ واو نظراً إلى الهمزة.
وعَبَرْتُ الرؤيا بالتخفيف قال الزمخشري: «هو الذي اعتمده الأثباتُ، ورَأَيْتُهم يُنْكرون» عَبَّرت «بالتشديد والتعبير والمعبِّر» قال: «وقد عَثَرْتُ على بيت أنشده المبرد في كتاب» الكامل «لبعض الأعراب:
٢٧٩٦ - رَأَيْتُ رُؤْيا ثم عَبَّرْتُها وكنتُ للأحلام عَبَّارا
قال:»
وحقيقةُ عبرت الرؤيا: ذكرتَ عاقبَتها وآخر أمرها كما تقول: عَبَرْتُ النهر إذا قطعتَه حتى تبلغَ آخرَ عَرْضه «.
505
قوله تعالى: ﴿أَضْغَاثُ﴾ :«أَضْغاث» خبر مبتدأ مضمر، أي: هي أضغاث، يَعْنُون ما قَصَصْته علينا، والجملةُ منصوبةٌ بالقول.
505
والأضغاث جمع «ضِغْث» بكسر الضاد، وهو ما جُمِع من النبات سواء كان جنساً واحداً أو أجناساً مختلطة وهو أصغرُ مِن الحُزْمة وأكبر من القَبْضة، فمِنْ مجيئه من جنسٍ واحد قولُه تعالى: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً﴾ [ص: ٤٤] رُوِي في التفسير أنه أخذ عِثْكالاً مِنْ نخلة. وفي الحديث: «أنه أُتي بمريض وَجَبَ عليه حَدٌّ ففُعِل به ذلك». وقال ابن مقبل:
٢٧٩٧ - خَوْدٌ كأن فِراشَها وُضِعَتْ به أضغاثُ رَيْحانٍ غَداةَ شَمَالٍ
ومِنْ مجيئه مِنْ أخلاط النبات قولهم في أمثالهم: «ضِغْثٌ على إبَّالة»، وقد خَصَّصه الزمخشري بما جُمِع مِنْ أخلاط النبات، فقال: «وأصلُ الأَضْغاث ما جُمِع مِنْ أخلاط النبات، وحِزَم الواحِد ضِغْثٌ». وقال الراغب: «الضِّغْث قَبْضَةُ رَيْحانٍ أو حَشيش أو قُضْبان». قلت: وقد تقدَّم أنه أكثرُ من القَبْضة، واستعمالُ الأَضْغاث هنا من باب الاستعارة. والإِضافة في «أَضْغاث أحلام» إضافةٌ بمعنى «مِنْ» إذ التقديرُ: أضغاثٌ من أحلام.
والأَحْلام جمع حُلُم. والباء في «بتأويل» متعلقةٌ ب «عالمين»، وفي «بعالمين» لا تعلُّقَ لها لأنها زائدةٌ: إمَّا في خبرِ الحجازيَّة أو التميمية.
506
وقولهم ذلك يُحتمل أن يكونَ نفياً للعلم بالرؤيا مطلقاً، وأن يكونَ نفياً للعلم بتأويل الأضغاث منها خاصةً دونَ المنام الصحيح. وقال أبو البقاء: «بتأويل أضغاث الأحلام لا بد من ذلك [لأنهم لم يَدَّعوا الجهلَ بعبارة الرؤيا» انتهى. وقوله «الأحلام» وإنما كان واحداً، قال الزمخشري كما تقول: «فلان يركب الخيل ويلبس عَمائم الخَزِّ، لمَنْ لا يركب إلا فرساً واحداً ولا يتعمَّم إلا بعمامة واحدة] تَزَيُّداً في الوصف»، ويجوز أن يكونَ قَصَّ عليهم مع هذه الرؤيا غيرها.
507
قوله تعالى: ﴿وادكر﴾ : فيه وجهان، أظهرهما: أنها جملةٌ حاليةٌ: إمَّا مِن الموصول، وإمَّا مِنْ عائده وهو فاعل «نجا». والثاني: أنها عطفٌ على «نجا» فلا مَحَلَّ لها لنسَقِها على ما لا محلًّ له.
والعامَّةُ على «ادَّكَرَ» بدالٍ مهملة مشددة وأصلها: اذْتَكَرَ افتعل مِنْ الذِّكر، فوقعت تاءُ الافتعال بعد الذال فأُبْدِلت دالاً فاجتمع متقاربان فأُبْدِلَ الأول مِنْ جنس الثاني وأُدغم. وقرأ الحسن البصري بذالٍ معجمة. ووجَّهوها بأنه أبدل التاءَ ذالاً مِنْ جنس الأولى وأدغم، وكذا الحكم في ﴿مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٥] كما سيأتي في سورته إنْ شاء اللَّه تعالى.
والعامَّةُ على «أُمَّة» بضم الهمزة وتشديد الميم وتاء منونة، وهي المدة الطويلة. وقرأ الأشهب العقيلي بكسر الهمزة، وفسَّروها بالنعمة، أي: بعد
507
نعمةٍ أنعم بها عليه وهي خَلاصُه من السجن ونجاتُه من القتل، وأنشد الزمخشري لعديّ:
٢٧٩٨ - ثم بعد الفَلاَح والمُلْكِ والإِمْ مَةِ وارَتْهُمُ هناك القبورُ
وأنشد غيره:
٢٧٩٩ - ألا لا أرى ذا إمَّةٍ أصبحَتْ به فَتَتْركه الأيامُ وهي كما هيا
وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وقتادة والضحاك وأبو رجاء «أَمَهٍ» بفتح الهمزة وتخفيف الميم وهاء منونة من الأَمَهِ، وهو النسيان، يقال: أَمِهَ يَأْمَهُ أَمَهاً وأمْهاً بفتح الميم وسكونها، والسكونُ غيرُ مَقيسٍ.
وقرأ مجاهد وعكرمة وشُبَيْل بن عَزْرَة: «بعد أَمْهٍ» بسكون الميم، وقد تقدَّم أنه مصدرٌ لأَمِه على غير قياس. قال الزمخشري: «ومَنْ قرأ بسكون الميم فقد خُطِّىء». قال الشيخ: «وهذا على عادتِه في نسبته الخطأ إلى القراء» قلت: لم يَنْسِبْ هو إليهم خطأً؛ وإنما حكى أنَّ بعضَهم خطَّأ هذا القارىء فإنه قال: «خُطِّىء» بلفظِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، ولم يقل فقد أخطأ، على أنه إذا صَحَّ أنَّ مَنْ ذكره قرأ بذلك فلا سبيلَ إلى الخطأ إليه البتةَ. و «بعد» منصوب ب «ادَّكر».
قوله: ﴿أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ﴾ هذه الجملةُ هي المحكية بالقول. وقرأ العامَّةُ من
508
الإِنباء. والحسن «أنا آتيكم» مضارع أتى من الإِتيان، وهو قريبٌ من معنى الأول.
509
والصِّدِّيق بناء مبالغة كالشِّرِّيب.
قوله تعالى: ﴿تَزْرَعُونَ﴾ : ظاهرُه أن هذا إخبارٌ من يوسف عليه السلام بذلك. وقال الزمخشري: «تَزْرعون» خبر في معنى الأمر كقوله: ﴿تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ﴾ [الصف: ١١] وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب المأمورِ المأمورَ به، فَيُجعل كأنه وُجِد فهو يُخْبر عنه، والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ﴾. قال الشيخ: «ولا يدلُّ الأمرُ بتَرْكِه في سنبلِه على أنَّ» تزرعون «في معنى ازرعوا، بل تَزْرعون إخبار غيبٍ، وأمَّا» فَذَرُوه «فهو أمرُ إشارةٍ بما ينبغي أنْ يَفْعلوه». قلت: هذا هو الظاهرُ، ولا مَدْخَلَ لأمره لهم بالزِّراعة؛ لأنهم يَزْرعون على عادتهم، أَمَرَهم أو لم يأمرهم، وإنما يحتاج إلى الأمر فيما لم يكن من عادة الإِنسان أن يفعلَه كتَرْكِه في سُنْبله.
قوله: ﴿دَأَباً﴾ قرأ حفص بفتح الهمزة، والباقون بسكونها، وهما لغتان في مصدر دَأَب يَدْأَبُ، أي: داوَمَ على الشيء ولازَمَه. وهذا كما قالوا: ضَأْن وضَأَن، ومَعْز ومَعَز بفتح العين وسكونها. وفي انتصابه أوجهٌ، أحدها وهو قول
509
سيبويه: أنه منصوبٌ بفعل مقدر تقديره تَدْأَبون. والثاني وهو قول أبي العباس: أنه منصوب بتزرعون لأنه من معناه، فهو من باب «قَعَدْتُ القُرْفُصاء». وفيه نظر لأنه ليس نوعاً خاصاً به بخلاف القرفصاء مع القعود. / والثالث: أنه واقعٌ موقع الحال فيكون فيه الأوجه المعروفة: إمَّا المبالغةُ، وإمَّا وقوعُه موقعَ الصفة، وإمَّا على حذف مضاف، أي: دائِبين أو ذوي دأب، أو جَعَلهم نفسَ الدَأَب مبالغة. وقد تقدَّم الكلامُ على «الدأب» في آل عمران عند قوله: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [الآية: ١١].
قوله: ﴿فَمَا حَصَدتُّمْ﴾ «ما» يجوز أن تكونَ شرطيةً أو موصولةً. وقرأ أبو عبد الرحمن «يأكلون» بالغَيْبة، أي: الناس، ويجوز أن يكونَ التفاتاً.
510
وقوله تعالى: ﴿سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ : حُذِف المميِّز وهو الموصوف لدلالة ما تقدَّم عليه. ونَسَبَ الأكلَ إليهنَّ مجازاً كقوله: ﴿والنهار مُبْصِراً﴾ [يونس: ٦٧] لمَّا كان الأكلُ والإِبصارُ فيهما جُعِلا كأنهما واقعان فيهما.
قوله تعالى: ﴿يُغَاثُ الناس﴾ : يجوز أن تكون الألف عن واو، وأن تكون عن ياء: إمَّا مِن الغَوْث وهو الفَرَج، وفعلُه رباعيٌّ يُقال: أغاثَنا اللَّه، مِن الغَوْث، وإمَّا مِن الغَيْث وهو المطرُ يُقال: «غِيْثَتِ البلاد»، أي: مُطِرَتْ، وفعلُه ثلاثي يقال: غاثنا اللَّه مِن الغَيْث. وقالت أعرابية: «غِثْنا ما شِئْنا»، أي: مُطِرْنا ما أَرَدْنا «.
510
قوله: ﴿يَعْصِرُونَ﴾ قرأ الأخوان» تَعْصِرون «بالخطاب، والباقون بياء الغيبة، وهما واضحتان، لتقدُّم مخاطبٍ وغائب، فكلُّ قراءةٍ تَرْجِعُ إلى ما يليق به. و» يَعْصِرون «يحتمل أوجهاً، أظهرُها: أنه مِنْ عَصَرَ العِنَبَ أو الزيتون أو نحو ذلك. والثاني: أنه مِنْ عَصَر الضَّرْع إذا حَلَبَه. والثالث: أنه من العُصْرة وهي النجاة، والعَصَر: المَنْجى. وقال أبو زبيد في عثمان رضي اللَّه عنه:
٢٨٠٠ - صادِياً يَسْتغيث غيرَ مُغَاثٍ ولقد كان عُصْرَة المَنْجودِ
ويَعْضُد هذا الوجهَ مطابقةُ قولِه ﴿فِيهِ يُغَاثُ الناس﴾ يُقال: عَصَره يَعْصِرُه، أي: أنجاه.
وقرأ جعفر بن محمد والأعرج:»
يُعْصَرون «بالياء من تحت، وعيسى البصرة بالتاء من فوق، وهو في كلتا القراءتين مبنيٌّ للمفعول. وفي هاتين القراءتين تأويلان، أحدهما: أنها مِنْ عَصَره، إذا أنجاه، قال الزمخشري:» وهو مطابِقٌ للإِغاثة «. والثاني: قاله قطرب أنها من الإِعصار، وهو إمطار السحابة الماءَ كقولِه: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات﴾ [النبأ: ١٤]. قال الزمخشري:» وقرىء «يُعْصَرون» : يُمْطَرون مِنْ أَعْصَرَتِ السَّحابة، وفيه وجهان: إمَّا أن يُضَمَّن أَعْصَرت معنى مُطِرَتْ فيُعَدَّى تعديتَه، وإمَّا أن يقال: الأصل: أُعْصِرَتْ
511
عليهم فَحَذَفَ الجارَّ وأوصل الفعلَ [إلى ضميرهم، أو يُسْنَدُ الإِعصارُ إليهم مجازاً فجُعِلوا مُعْصَرين «].
وقرأ زيد بن علي:»
تِعِصِّرون «بكسر التاء والعين والصادِ مشددَّة، وأصلها تَعْتصرون فأدغم التاء في الصاد، وأتبع العينَ للصاد، ثم أتبع التاء للعين، وتقدَّم تحريره في ﴿أَمَّن لاَّ يهدي﴾ [يونس: ٣٥].
ونقل النقاش قراءةَ»
يُعَصِّرون «بضم الياء وفتح العين وكسر الصادِ مشددةً مِنْ» عَصَّر «للتكثير. وهذه القراءةُ وقراءةُ زيدٍ المتقدمة تحتملان أن يكونا مِن العَصْر للنبات أو الضرع، أو النجاة كقول الآخر:
٢٨٠١ - لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ كنت كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري
أي: نجاتي.
512
قوله تعالى: ﴿مَا بَالُ النسوة﴾ : العامَّةُ على كسر نون النسوة، وضَمَّها عاصم في روايةِ أبي بكرٍ عنه، وليست بالمشهورة، وكذلك قرأها أبو حيوة. وقُرِىء «اللائي» وكلاهما جمعٌ ل «التي».
والخَطْبُ: الأمر والشأن الذي فيه خطرٌ. قال امرؤ القيس:
512
وهو في الأصلِ مصدرُ خَطَب يَخْطُبُ، وإنما يُخْطب في الأمور العظام.
قوله: ﴿إِذْ رَاوَدتُنَّ﴾ هذا الظرفُ منصوبٌ بقوله «خَطْبُكُنَّ» لأنه في معنى الفعل؛ إذ المعنى: ما فعلتنَّ وما أَرَدْتُنَّ به في ذلك الوقتِ؟
قوله: ﴿الآن حَصْحَصَ﴾ «الآن» منصوبٌ بما بعدَه، وحَصْحَصَ معناه تَبيَّنَ وظهر بعدَ خَفَاءٍ، قاله الخليل. قال بعضهم: هو مأخوذٌ مِن الحِصَّة والمعنى: بانَتْ حِصَّةُ الحَقِّ مِنْ حِصَّةِ الباطل كما تتميَّز حِصَصُ الأراضي وغيرِها. وقيل: بمعنى ثبت واستقرَّ. وقال الراغب: «حَصْحَصَ الحقُّ، وذلك بانكشافِ ما يَغْمُره، وحَصَّ وحَصْحَصَ نحو: كَفَّ وكَفْكَفَ وكَبَّ وكَبْكَبَ، وحَصَّه: قَطَعه: إمَّا بالمباشرة وإمَّا بالحكم، فمِنَ الأول قولُ/ الشاعر:
٢٨٠٢ - وما المَرْءُ ما دامَتْ حُشاشَةُ نفسِه بمُدْرِكِ أَطْرافِ الخُطوبِ ولا آلِ
٢٨٠٣ - قد حَصَّتِ البيضة رأسي...... ...................
ومنه رَجُلٌ أَحَصُّ: انقطع بعضُ شَعْره، وامرأة حَصَّاءُ، والحِصَّة القطعةُ من الجملة ويُسْتعمل استعمالَ النصيب. وقيل: هو مِنْ» حَصْحَصَ البعير «إذا أَلْقَى ثَفِناتِه للإِناخِةِ، قال الشاعر:
513
514
قوله تعالى: ﴿ذلك﴾ : خبر مبتدأ مضمر، أي: الأمر ذلك. و «ليعلم» متعلقٌ بمضمرٍ، أي: أظهر اللَّه ذلك ليعلم، أو مبتدأ وخبره محذوفٌ، أي: ذلك الذي صَرَّحْتُ به عن براءته أمرٌ من اللَّه لا بدَّ منه، و «لِيَعْلمَ» متعلقٌ بذلك الخبرِ، أو يكون «ذلك» مفعولاً لفعلٍ مقدر يتعلَّقُ به هذا الجارُّ أيضاً، أي: فَعَلَ اللَّه ذلك، أو فَعَلْتُه أنا بتيسير اللَّه ليعلمَ.
قوله: ﴿بالغيب﴾ يجوز أن تكونَ الباءُ ظرفيةً. قال الزمخشري: «أي» : بمكان الغَيْب وهو الخَفَاءُ والاستتار وراءَ الأبوابِ السبعة المُغَلَّقة «. ويجوز أن تكون الباء للحال: إمَّا مِنَ الفاعل على معنى: وأنا غائب عنه خفيٌّ عن عينه، وإمَّا من المفعول على معنى: وهو غائب عني خفيٌّ عن عيني، وهذا مِنْ كلامِ يوسُفَ، وبه بدأ الزمخشري كالمختار له. وقال غيرُه: إنه مِنْ كلامِ امرأة العزيز وهو الظاهر. وقوله:» وأنَّ اللَّه «نَسَقٌ على» أني «أي ليَعلمَ الأمرين.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ﴾ : فيه أوجه، أحدُها: أنه مستثنى من الضمير المستكنِّ في «أمَّارَةٌ» كأنه قيل: إن النفس لأمَّارة بالسوءِ إلا نَفْساً رحمها ربِّي، فيكون أراد بالنفس الجنسَ، فلذلك ساغ الاستثناء منها كقولِه تعالى: ﴿إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ﴾ [العصر: ٢-٣]، وإلى هذا نحا الزمخشري فإنه قال: «إلا البعضَ الذي رحمه ربي بالعِصْمة كالملائكة» وفيه نظرٌ مِنْ حيث إيقاعُ «ما» على مَنْ يَعْقِلُ والمشهورُ خِلافُه.
514
والثاني: أنَّ «ما» في معنى الزمان فيكون مستثنى من الزمن العام المقدَّر. والمعنى: إنَّ النفس لأمَّارَةٌ بالسوء في كلِّ وقتٍ وأوانٍ إلا وقتَ رحمةِ ربي إياها بالعِصْمة. ونظرَّه أبو البقاء بقوله تعالى: ﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ﴾ [النساء: ٩٢]. وقد تقدَّم أن الجمهورَ لا يُجيزون أن تكون «أنْ» واقعةً موقعَ ظرفِ الزمان.
والثالث: أنه مستثنى من مفعول «أمَّارة»، أي: لأمَّارةٌ صاحبَها بالسوءِ إلا الذي رَحِمه اللَّه. وفيه إيقاعُ «ما» على العاقل.
والرابع: أنه استثناءٌ منقطعٌ. قال ابن عطية: «وهو قولُ الجمهور». وقال الزمخشري: «ويجوز أن يكونَ استثناءً منقطعاً، أي: ولكنْ رحمةُ ربي هي التي تَصْرِف الإِساءةَ كقوله: ﴿وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا﴾ [يس: ٢٣].
515
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ﴾ : يجوز أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ المَلِك، والمفعول ضميرَ يوسفَ عليه السلام وهو الظاهر، ويجوز العكس.
قوله تعالى: ﴿لِيُوسُفَ﴾ : يجوز في هذه اللامِ أنْ تكونَ متعلقةً ب «مَكَّنَّا» على أن يكون مفعولُ «مَكَّنَّا» محذوفاً تقديره: مَكَّنَّا لِيوسفَ الأمورَ، أو على أن يكونَ المفعولُ به «حيث» كما سيأتي. ويجوز أن تكونَ زائدةً عند مَنْ يرى ذلك، وقد تقدم أنَّ الجمهورَ يَأْبَوْن ذلك إلا في موضعين.
515
قوله: ﴿يَتَبَوَّأُ﴾ جملةٌ حاليةٌ من «يوسف». و «منها» يجوز أنْ تتعلَّق ب «يَتَبوَّأ». وأجاز أبو البقاء أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنْ «حيث».
و «حيث» يجوزُ أن يكونَ ظرفاً ل «يَتَبَوَّأ»، ويجوز أنْ يكونَ مفعولاً به وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنعام.
وقرأ ابن كثير «نَشَاء» بالنون على أنها نونُ العظمةِ للَّه تعالى. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ يوسف قال: «لأنَّ مشيئته مِنْ مشيئة اللَّه» وفيه نظرٌ لأنَّ نَظْم الكلامِ يَأْباه. والباقون بالياء على أنه ضمير يوسف. ولا خلاف في قول ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ﴾ أنها بالنون. وجَوَّز الشيخ أن يكونَ الفاعلُ في قراءة الياء ضميرَ اللَّهِ تعالى، ويكون التفاتاً.
516
قوله تعالى: ﴿بِجَهَازِهِمْ﴾ : العامَّةُ على فتح الجيم، وقُرىء بكسرِها، وهما لغتان فيما يحتاجه الإِنسانُ مِنْ زاد ومتاعٍ ومنه «جهاز العروس» و «جهاز البيت».
وقوله: ﴿بِأَخٍ لَّكُمْ﴾ ولم يَقُلْ بأخيكم بالإِضافة؛ مبالغةً في عَدَم تَعَرُّفِه بهم؛ ولذلك فَرَّقوا بين «مررت بغلامك» و «بغلامٍ لك» فإنَّ الأولَ يَقْتضي عِرْفانك بالغلام، وأن بينك وبين مخاطِبك نوعَ عَهْدٍ، والثاني لا يَقْتَضي ذلك،
516
وقد تُخْبر عن المعرفة إخبارَ النكرة فتقول: «قال رجل كذا» وأنت تعرفه لصِدْق إطلاقِ النكرةِ على المعرفة.
517
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُونِ﴾ : يُحْتمل أنْ تكونَ «لا» ناهيةً فيكونَ «تَقْربون» مجزوماً، ويُحْتمل أن تكونَ «لا» نافيةً وفيه وجهان، أحدهما: أن يكونَ داخلاً في حَيِّز الجزاء معطوفاً عليه، فيكونَ أيضاً مجزوماً على ما تقدم. والثاني: أنه نفيٌّ مستقلٌّ غيرُ معطوف على جزاءِ الشرط، وهو خبر في معنى النهي كقوله: ﴿فَلاَ رَفَثَ﴾ [البقرة: ١٩٧]. /
قوله تعالى: ﴿لِفِتْيَانِهِ﴾ : قرأ الأخوان وحفص: «لفتيانه»، والباقون: «لفِتْيَتِه»، والفِتْيان جمع كثرة، والفِتْية جمعُ قلَّة، فالتكثير بالنسبة إلى المأمورين، والقلَّة بالنسبة إلى المتناولين. و «فتى» يُجْمع على فِتْيان وفِتْيَة وقد تقدَّم: هل فِعْلَة في الجموع اسمُ جمعٍ أو جمعُ تكسير، ومثله «أخ» فإنه جُمِع على إخْوَة وإخوان.
و «يَرْجِعون» يحتمل أن يكونَ متعدِّياً وحُذِف مفعوله، أي: يَرْجعون البضاعةَ لأنه عَرَف من دينهم ذلك، وأن يكونَ قاصراً بمعنى يرجعون إلينا.
وقرأ الأخوان «يَكْتَلْ» بالياء من تحت، أي: يكتل أخونا، والباقون بالنون، أي: نكتل نحن، وهو مجزومٌ على جواب الأمر.
ويُحكى أنه جرى بحضرةِ المتوكلِ أو وزيرِه ابن الزياتِ بين المازني وابن السكيت مسألةٌ: وهي ما وزنُ «نَكْتَلْ» ؟ فقال يعقوب: نَفْتَل، فَسَخِر به
517
المازني وقال: إنما وزنُها نَفْتَعِل، هكذا رأيتُ في بعض الكتب، وهذا ليس بخطأ؛ لأنَّ التصريفيين نَصُّوا على أنه إذا كان في الكلمة حَذْفٌ أو قَلْبٌ حُذِفَتْ في الزِّنَة وقُلِبَتْ فنقول: وزن بِعْتُ وقُمْتُ: فِعْتُ وفُعْتُ، ووزنُ عِد، عِل، ووزنُ ناءَ: فَلَعَ، وإن شِئْتَ أَتَيْتَ بالأصل، فعلى هذا لا خطأَ في قوله: وزن نَكْتَلْ نَفْتَلْ، لأنه اعتُبر اللفظُ لا الأصلُ. ورأيت في بعض الكتب أنه قال: نَفْعَل بالعين وهذا خطأ مَحْضٌ، على أن الظاهر من أمرِ يعقوب أنه لم يُتْقِنْ هذا، ولو أَتْقَنَه لقال: وزنُه على الأصل كذا، وعلى اللفظ كذا، ولذلك أنحى عليه المازني فلم يَرُدُّ عليه بشيء.
518
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ﴾ : منصوبٌ على نعتِ مصدرٍ محذوف أو على الحال منه، أي: ائتماناً كائتِماني لكم على أخيه، شبَّه ائتِمانَه لهم على هذا بائتمانِه على ذلك. و «من قبلُ» متعلق ب «أمِنْتُكم».
قوله: ﴿فالله خَيْرٌ حَافِظاً﴾ قرأ الأخَوان وحفص «حافظاً» وفيه وجهان، أظهرهما: أنه تمييز، قال أبو البقاء: «ومثل هذا يجوز إضافته». قلت: قد قرأ بذلك الأعمش: ﴿فاللَّه خيرُ حافظٍ﴾، واللَّه تعالى متَّصِفٌ بأنَّ حِفْظَه يزيد على حِفْظِ غيرِه كقولك: هو أفضل عالم. والثاني: أنه حال، ذكر ذلك الزمخشري وأبو البقاء وغيرُهما. قال الشيخ وقد نقله عن
518
الزمخشري وحده: «وليس بجيد؛ لأنَّ فيه تقييدَ» خير «بهذه الحال». قلت: ولا محذورَ فإن هذه الحالَ لازمةٌ لأنها مؤكدةٌ لا مبيِّنَة، وليس هذا بأولِ حالٍ وَرَدَتْ لازمةً.
وقرأ الباقون «حِفْظاً»، ولم يُجيزوا فيها غير التمييز؛ لأنهم لو جعلوها حالاً لكانت مِنْ صفةِ ما يَصْدُق عليه «خير»، ولا يَصْدُق ذلك على ما يَصْدُق عليه «خير» ؛ لأن الحِفْظ معنى من المعاني، ومَنْ يَتَأَوَّلْ «زيدٌ عَدْلٌ» على المبالغة، أو على حذف المضاف، أو على وقوعِ المصدرِ موقعَ الوصفِ يُجِزْ في «حِفْظاً» أيضاً الحالية بالتأويلات المذكورة، وفيه تَعَسُّف.
519
قوله تعالى: ﴿رُدَّتْ إِلَيْهِمْ﴾ : قرأ علقمة ويحيى والأعمش «رِدَّتْ» بكسر الراء على نَقْلِ حركةِ الدالِ المدغمة إلى الراء بعد تَوَهُّم خُلُوِّها مِنْ حركتها، وهي لغةُ بني ضَبَّة، على أن قطرباً حكى عن العرب نَقْلَ حركةِ العين إلى الفاء في الصحيح فيقولون: «ضِرْب زيدٌ» بمعنى ضُرِب زيد، وقد تقدَّم ذلك في قوله: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ﴾ [الآية: ٢٨] في الأنعام.
قوله: ﴿مَا نَبْغِي﴾ في «ما» هذه وجهان، أظهرهما: أنها استفهاميةٌ فهي مفعولٌ مقدمٌ واجبُ التقديم؛ لأن لها صدرَ الكلام، أي: أيَّ شيءٍ نبغي. والثاني: أَنْ تكونَ نافيةً ولها معنيان، أحدهما: ما بقي لنا ما نطلب، قاله الزجاج. والثاني: ما نبغي، من البغي، أي: ما افْتَرَيْناه ولا كَذَبْنا على هذا المَلِكِ في إكرامه وإحسانه. قال الزمخشري: «ما نبغي في القول وما نتزيَّد فيما وَصَفْنا لك من إحسان المَلِك».
519
وأَثْبَتَ القرَّاءُ هذه الياءَ في «نبغي» وَصْلاً ووقفاً ولم يَجْعلوها من الزوائد بخلاف التي في الكهف كما سيأتي: ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾ [الكهف: ٦٤]. والفرق أنَّ «ما» هناك موصولةٌ فحُذِفَ عائدُها، والحذفُ يُؤْنِسُ بالحذف، وهذه عبارة مستفيضة عند أهلِ هذه الصناعةِ يقولون: التغيير يُؤْنس بالتغيير بخلافها هنا فإنها: إمَّا استفهاميةٌ، وإمَّا نافيةٌ، ولا حَذْفَ على القولين حتى يُؤْنَسَ بالحذف.
وقرأ عبد اللَّه وأبو حيوة ورَوَتْها عائشة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ما تبغي» بالخطاب. و «ما» تحتمل الوجهين أيضاً في هذه القراءة.
والجملةُ مِنْ قوله: ﴿هذه بِضَاعَتُنَا﴾ تحتمل أنْ تكونَ مفسِّرةً لقولهم «ما نبغي»، وأن تكونَ مستأنفةً.
قوله: ﴿وَنَمِيرُ﴾ معطوفٌ على الجملة الاسمية قبلها، وإذا كانت «ما» نافيةً جاز أن تُعْطَفَ على «نَبْغي»، فيكونَ عَطْفَ جملةٍ فعلية على مثلِها. وقرأت عائشة وأبو عبد الرحمن: «ونُمير» مِنْ «أماره» إذا جَعَلَ له المِيرة يُقال: ماره يَميره، وأماره يُمِيْره. والمِيرة: جَلْبُ الخير قال:
٢٨٠٤ - فَحَصْحَصَ في صُمِّ الصَّفَا ثَفِناتِه وناءَ بسلمى نَوُءَةً ثم صَمَّما
٢٨٠٥ - بَعَثْتُكَ مائِراً فمكَثْت حَوْلاً متى يأتي غِياثُكَ مَنْ تُغِيْثُ
والبعيرُ لغةً يقع على الذَّكَر خاصةً، وأطلقه بعضُهم على الناقة أيضاً، وجعله نظيرَ «إنسان»، ويجوز كَسْرُ بائه إتباعاً لعينه، ويُجمع في القلة على أبْعِرَة، وفي الكثرة على بُعْران.
520
قوله تعالى: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ﴾ : هذا جوابٌ للقسم المضمرِ في قوله: «مَوْثِقاً» لأنه في معنى: حتى تحلفوا لي لتأتُنَّني به.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾ في هذا الاستثناء أوجه أحدُها: أنه منقطع، قاله أبو البقاء، يعني فيكون/ تقديرُ الكلام: لكن إذا أحيط بكم خَرَجْتُمْ مِنْ عَتَبي وغضبي عليكم إن لم تَأْتوني به لوضوح عُذْركم.
الثاني: أنه متصل وهو استثناء مِن المفعول له العامِّ. قال الزمخشري: «فإن قلت أخبرْني عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال. قلت: ﴿أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾ مفعولٌ له، والكلامُ المثبت الذي هو قولُه» لَتأْتُنَّني به «في معنى النفي معناه: لا تَمْتنعون من الإِتيان به إلا للإِحاطة بكم، أو لا تمتنعون منه لعلةٍ من العلل إلا لعلة واحدة وهي أنْ يُحاط بكم، فهو استثناءٌ مِنْ أَعَمِّ العامِّ في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده، فلا بد مِنْ تأويله بالنفي، ونظيرُه في الإِثبات المتأوَّل بمعنى النفي قولهم:» أقسمتُ باللَّه لمَّا فعلتَ وإلا فعلت «، تريد: ما أطلبُ منك إلا الفعلَ» ولوضوح هذا الوجهِ لم يذكر غيره.
والثالث: أن مستثنى مِنْ أعمِّ العامِّ في الأحوال. قال أبو البقاء: «تقديره: لَتَأْتُنَّني به على كل حال إلا في حال الإِحاطة بكم». قلت: قد نَصُّوا على أنَّ «أنْ» الناصبة للفعل لا تقع موقعَ الحال، وإن كانَتْ مؤولةً بمصدر يجوز أن تقع موقع الحال، لأنهم لم يَغْتفروا في المُؤَول ما يَغْتفرونه في
521
الصريح فيجيزون: جئتُك رَكْضاً، ولا يُجيزون: جئتك أن أركضَ، وإن كان في تأويله.
الرابع: أنه مستثنى من أعم العام في الأزمان والتقدير: لَتَأْتُنَّني به في كلِّ وقتٍ لا في وقت الإِحاطة بكم. وهذه المسألة تَقدَّم فيها خلافٌ، وأن أبا الفتح أجاز ذلك، كما يُجَوِّزه في المصدر الصريح، فكما تقول: «أتيتُكَ صِياحَ الدِّيك» يُجيز «أنْ يَصيح الديك» وجعل من ذلك قول تأبط شراً:
٢٨٠٦ - وقالوا لا تَنْكِحيهِ فإنَّه لأَِوَّلِ نَصْلٍ أن يُلاقِيَ مَجْمعا
وقولَ أبي ذؤيب الهذلي:
٢٨٠٧ - وتاللَّهِ ما إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واجدٍ بأوجدَ مني أن يُهانَ صغيرُها
قال: «تقديره: وقتَ ملاقاتِه الجمعَ، ووقت إهانةِ صغيرها». قال الشيخ: «فعلى ما قاله يجوز تخريجُ الآية، ويبقى» لتأتُنَّني به «على ظاهره من الإِثبات». قلت: الظاهر من هذا أنه استثناءٌ مفرغ، ومتى كان مفرَّغاً وَجَبَ تأويلُه بالنفي.
ومنع ابن الأنباري مِنْ ذلك في «أنْ» وفي «ما» أيضاً قال: «فيجوز أن تقولَ: خروجُنا صياح الديك، ولا يجوز خروجُنا أن يصيحَ، أو: ما يصيح الديك: فاغتُفِر في الصريح ما لم يُغْتفر في المؤول». وهذا قياس ما قدَّمْتُه في مَنْع وقوع «أنْ» وما في حَيِّزها موقعَ الحال، ولك أَنْ تُفَرِّق ما بينهما بأن الحال تلزمُ التنكيرَ، وأنْ وما في حَيِّزها نَصُّوا على أنها في رتبة المضمر في
522
التعريف، فيُنافي وقوعَها موقعَ الحال بخلاف الظرف، فإنه لا يُشْترط تنكيرُه، فلا يَمْتنع وقوعُ «أَنْ» وما في حيزها موقعَه.
523
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ﴾ : في جواب «لمَّا» هذه ثلاثة أوجه، أحدها: وهو الظاهر أنه الجملةُ المنفية من قوله: ﴿مَّا كَانَ يُغْنِي﴾. وفيه حجةٌ لمَنْ يَدَّعي كونَ «لمَّا» حرفاً لا ظرفاً، إذ لو كانت ظرفاً لعمل فيها جوابُها، إذ لا يَصْلح للعملِ سواه، لكن ما بعد «ما» النافية لا يَعْمل فيما قبلها، لا يجوز: «حين قام أخوك ما قام أبوك»، مع جواز «لمَّا قام أخوك ما قام أبوك».
والثاني: أنَّ جوابَها محذوفٌ، فقدَّره أبو البقاء: «امتثلوا وقَضَوا حاجةَ أبيهم»، وإليه نحَا ابن عطية أيضاً، وهو تَعَسُّفٌ لأنَّ في الكلامِ ما هو جوابٌ صريحٌ كما قَدَّمْتُه.
والثالث: أنَّ الجوابَ هو قولُه: «آوى» قال أبو البقاء: «وهو جوابُ» لمَّا «الأولى والثانية كقولك:» لمَّا جِئْتني، ولمَّا كَلَّمْتك أَجَبْتَني «، وحَسَّن ذلك أنَّ دخولَهم على يوسف عليه السلام يَعْقُبُ دخولهم من الأبواب» يعني أنَّ «آوى» جوابُ الأولى والثانية، وهو واضح.
قوله: ﴿إِلاَّ حَاجَةً﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطع تقديرُه: ولكنَّ حاجةً في نفس يعقوب قضاها، ولم يذكر الزمخشري غيره. والثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجله، ولم يذكر أبو البقاء غيره، ويكون التقدير: ما كان
523
التعريف، فيُنافي وقوعَها موقعَ الحال بخلاف الظرف، فإنه لا يُشْترط تنكيرُه، فلا يَمْتنع وقوعُ «أَنْ» وما في حيزها موقعَه.
524
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ﴾ : في جواب «لمَّا» هذه ثلاثة أوجه، أحدها: وهو الظاهر أنه الجملةُ المنفية من قوله: ﴿مَّا كَانَ يُغْنِي﴾. وفيه حجةٌ لمَنْ يَدَّعي كونَ «لمَّا» حرفاً لا ظرفاً، إذ لو كانت ظرفاً لعمل فيها جوابُها، إذ لا يَصْلح للعملِ سواه، لكن ما بعد «ما» النافية لا يَعْمل فيما قبلها، لا يجوز: «حين قام أخوك ما قام أبوك»، مع جواز «لمَّا قام أخوك ما قام أبوك».
والثاني: أنَّ جوابَها محذوفٌ، فقدَّره أبو البقاء: «امتثلوا وقَضَوا حاجةَ أبيهم»، وإليه نحَا ابن عطية أيضاً، وهو تَعَسُّفٌ لأنَّ في الكلامِ ما هو جوابٌ صريحٌ كما قَدَّمْتُه.
والثالث: أنَّ الجوابَ هو قولُه: «آوى» قال أبو البقاء: «وهو جوابُ» لمَّا «الأولى والثانية كقولك:» لمَّا جِئْتني، ولمَّا كَلَّمْتك أَجَبْتَني «، وحَسَّن ذلك أنَّ دخولَهم على يوسف عليه السلام يَعْقُبُ دخولهم من الأبواب» يعني أنَّ «آوى» جوابُ الأولى والثانية، وهو واضح.
قوله: ﴿إِلاَّ حَاجَةً﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطع تقديرُه: ولكنَّ حاجةً في نفس يعقوب قضاها، ولم يذكر الزمخشري غيره. والثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجله، ولم يذكر أبو البقاء غيره، ويكون التقدير: ما كان
524
يُغْني عنهم لشي من الأشياء إلا لأجلِ حاجةٍ كانت في نفس يعقوب. وفاعل «يُغْني» ضميرُ التفرقِ المدلولِ عليه من الكلام المتقدم. وفيما أجازه أبو البقاء نظرٌ من حيث المعنى لا يَخْفَى على متأمِّله. و «قضاها» صفةٌ ل «حاجةً».
525
قوله تعالى: ﴿جَعَلَ السقاية﴾ : العامَّة على «جَعَل» دون زيادة واو قبلها. وقرأ عبد اللَّه «وجَعَلَ»، وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أنَّ الجوابَ محذوفٌ. والثاني: أن الواوَ مزيدةٌ في الجواب على رأيِ مَنْ يَرى ذلك، وهم الكوفيون والأخفش. / وقال الشيخ: «وقرأ عبد اللَّه فيما نقل الزمخشري» وجعل السِّقاية في رَحْل أخيه: أمهلهم حتى انطلقوا ثم أذَّن مؤذِّن «، وفي نَقْل ابن عطية» وجعل «بزيادة واوٍ في» جَعَل «، دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله: ﴿فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾، فاحتمل أن تكونَ الواوُ زائدةً على مذهب الكوفيين، واحتمل أن يكونَ جوابُ» لمَّا «محذوفاً تقديره: فَقَدها حافظُها، كما قيل: إنما أوحيَ إلى يوسفَ أن يَجْعل السقاية فقط، ثم إنَّ حافِظَها فَقَدَها فنادى برأيه فيما ظهر له، ورجَّحه الطبري. وتفتيشُ الأوعية يَرُدُّ هذا القول».
قلت: لم ينقلِ الزمخشري هذه الزيادةَ كلَّها قراءةً عن عبد اللَّه، إنما جعل الزيادةَ المذكورةَ بعد قوله: «رَحْل أخيه» تقديرَ جوابٍ مِنْ عنده، وهذا نصُّه: قال الزمخشري: «وقرأ ابن مسعود» وجَعَل السِّقاية «على حَذْفِ جواب» لمَّا «كأنه قيل: فلمَّا جَهَّزهم بجهَازهم وجعل السِّقاية في رَحْل أخيه أمهلهم حتى انطلقوا ثم أذَّن مؤذِّن» فهذا من الزمخشري إنما هو تقديرٌ لا تلاوةٌ منقولة عن عبد اللَّه، ولعله وقع للشيخِ نسخةٌ سقيمة.
والسِّقاية: إناءٌ مستطيل يسقى به وهو الصُّواع، وللمفسرين فيه خلافٌ طويل.
قوله: ﴿أَيَّتُهَا العير﴾ منادى حُذِفَ منه حرفُ النداء والعِيْر مؤنث، ولذلك أتَتْ «أيّ» المُتَوَصَّلُ بها إلى ندائه. والعِيْر فيها قولان، أحدهما: أنها في الأصلِ جماعةُ الإِبل سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَعِيْر، أي: تَذْهَبُ وتجيء به. والثاني: أنها في الأصل قافلة الحمير كأنها جمع عَيْر، والعَيْر: والعَيْر: الحمار. قال:
٢٨٠٨ - ولا يُقيم على ضَيْمٍ يُرادُ به إلا الأَذَلاَّن عَيْرُ الحَيِّ والوَتِدُ
والأصل: عَيْر وعُيْر بضم العين ثم فَعِل به ما فُعِل ب «بِيض»، والأصل: بُيْض بضم الأول، ثم أُطْلِقَ العِير على كل قافلة حميراً كنَّ أو غيرَها، وعلى كل تقدير فنسبةُ النداء إليها على سبيل المجاز، لأنَّ المنادى في الحقيقة أهلُها. ونَظَّره الزمخشري بقوله: «يا خيلَ اللَّهِ اركبي»، إلا أنه في هذه الآية التفت إلى المضاف المحذوف في قوله: «إنكم لسارقون» ولم يَلْتفت إليه في «يا خيل اللَّه اركبي»، ولو التفت لقال: اركبوا. ويجوزُ أن يُعَبَّر عن أهلها للمجاورة فلا يكونُ مِنْ مجازِ الحَذْف، بل من مجازِ العَلاقة.
وتجمعه العرب قاطبةً، على عَيَرات بفتح الياء، وهذا ممَّا اتُّفِقَ على شذوذه؛ لأن فِعْلَة
525
المعتلةَ بالعين حقُّها في جمعها بالألف والتاء أن تُسَكَّن عينُها نحو: قِيمة وقِيْمات ودِيْمة ودِيْمات، وكذلك فَعْل دون ياء إذا جُمِعَ حَقُّه أن تُسَكَّن عينُه. وقال امرؤ القيس:
٢٨٠٩ - غَشِيْتُ ديارَ الحي بالبَكَرَاتِ فعارِمَةٍ فبُرْقَةِ العِيَراتِ
وقال الأعلم الشنتمري: «العِيَرات هنا: مواضع الأَعْيار وهي الحُمُر» قلت: وفي عِيَرات شذوذٌ آخرُ وهو جَمْعُها بالألف والتاء مع جَمْعِها على «أعْيار» أيضاً جمعَ تكسير، وقد نَصُّوا على ذلك. قيل: ولذلك لُحِّن المتنبي في قوله:
٢٨١٠ - إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ ففي الناسِ بُوْقاتُ لهم وطبولُ
قالوا: فجمع بوقاً على بوقات مع تكسيرهم له على أبواق.
526
قوله تعالى: ﴿وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ﴾ : هذه الجملة حالية من فاعل «قالوا»، أي: قالوا وقد أقبلوا، يعني في حال إقبالهم عليهم.
قوله: ﴿مَّاذَا تَفْقِدُونَ﴾ تقدَّمَ الكلامُ على هذه المسألةِ أولَ هذا الموضوع. وقرأ العامَّةُ «تَفْقِدون» بفتح حرف المضارعة؛ لأنَّ المستعملَ منه «فَقَد» ثلاثياً. وقرأ السُّلَمي بضمِّه مِنْ أَفْقَدْتُه إذا وجدتَه مفقوداً كَأَحْمَدْته وأَبْخَلْتُه، أي: وَجَدْتُه محموداً بخيلاً. وضَعَّف أبو حاتم هذه القراءةَ، ووَجْهُها ما ذَكَرْتُه.
قوله تعالى: ﴿صُوَاعَ﴾ : هو المِكْيال وهو السِّقاية المتقدمة
526
سَمَّاه تارةً كذا وتارةً كذا، وإنما اتُّخِذ هذا الإِناء مكيالاً لعِزَّة ما يُكال به في ذلك الوقت. وفيه قراءاتُ كثيرةٌ كلُّها لغاتٌ في هذا الحرفِ، ويذكَّر ويؤنَّث:
فالعامَّةُ «صُواع» بزنة غُراب، والعين مهملة. وقرأ ابن جبير والحسن كذلك إلا أنه بالغين معجمةً. وقرأ يحيى بن يعمر كذلك، إلا أنه حَذَفَ الألف وسكَّن الواو، وقرأ زيد/ بن علي «صَوْغ» كذلك، إلا أنه فتح الصاد جعله مصدراً لصاغ يَصُوغ، والقراءتان قبله مشتقتان منه، وهو واقع موقعَ مفعولٍ، أي: مَصُوغ المَلِك. وقرأ أبو حيوة وابن جبير والحسن في روايةٍ عنهما «صِواع» كالعامَّة لا أنهم كسروا الفاء.
وقرأ أبو هريرة ومجاهد «صَاعَ» بزنة باب، وألفه كألفه في كونِها منقلبةً عن واوٍ مفتوحة. وقرأ أبو رجاء «صَوْعَ» بزنة «قَوْسٍ». وقرأ عبد اللَّه بن عون كذلك إلا أنه ضمَّ الفاءَ فهذه ثمانِ قراءات متواتِرُها واحدةٌ.
527
قوله تعالى: ﴿تالله﴾ : التاءُ حرفُ قسمٍ، وهي عند الجمهور بدلٌ من واو القسم، ولذلك لا تدخُل إلا على الجلالةِ المقدسة أو الرب مضافاً للكعبة أو الرحمن في قولٍ ضعيف. ولو قلت: تالرحيم لم يَجُزْ. وهي فرع الفرع. هذا مذهبُ الجمهور، وزعم السهيلي أنها أصل
527
بنفسها ويلازِمُها التعجبُ غالباً كقوله تعالى: ﴿تَالله تَفْتَؤُاْ﴾ [يوسف: ٨٥].
وقال ابن عطية: «والتاء في» تاللَّه «بدلٌ من واو، كما أُبْدِلت في» تُراث «وفي» التوراة «وفي» التُّخَمَة «، ولا تدخل التاء في القسم، إلا في المكتوبة من أسماء اللَّه تعالى وغيره ذلك، لا تقول: تالرحمن، وتالرحيم». وقد عرفْتَ أنَّ السهيلي خالَفَ في كونها بدلاً من واو. وأمَّا قولُه: «وفي التوراة» يريد عند البصريين. وزَعَمَ بعضُهم أنَّ التاء فيها زائدة. وأمَّا قوله: «إلا في المكتوبة» هذا هو المشهور. وقد تقدَّم دخولُها على غير ذلك.
قوله: ﴿وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾ يُحْتمل أن يكونَ جواباً للقسم، فيكونون قد أَقْسموا على شيئين: نَفْيِ الفساد ونَفْيِ السَّرِقة.
وقوله: ﴿مَّا جِئْنَا﴾ يجوز أَنْ يكونَ مُعَلِّقاً للعلم، ويجوز أن يُضَمَّنَ العلمُ نفسُه معنى القسم فيجاب بما يُجاب القسم. وقيل: هذان الوجهان في قولِ الشاعر:
528
قوله تعالى: ﴿فَمَا جَزَآؤُهُ﴾ : الهاء تعودُ على الصُّواع، ولا بد
528
من حَذْفِ مضاف أي: فما جزاءُ سَرِقته. و «إنْ كنتم» يجوز أن يكونَ جوابُه محذوفاً أو متقدِّماً.
529
قوله تعالى: ﴿جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ﴾ : أربعةُ أوجه، أحدها: أن يكونَ «جزاؤه» مبتدأً والضميرُ للسارق، و «مَنْ» شرطية أو موصولةٌ مبتدأٌ ثانٍ، والفاءُ جوابُ الشرط أو مزيدةٌ في خبر الموصول لشبهه بالشرط، و «مَنْ» وما في حَيِّزها على وَجْهَيْها خبر المبتدأ الأول، قاله ابن عطية، وهو مردودٌ بعدم رابطٍ بين المبتدأ وبين الجملةِ الواقعةِ خبراً عنه، هكذا رَدَّه الشيخُ عليه. وليس بظاهر؛ لأنه يُجاب عنه بأنَّ هذه المسألةَ من باب إقامة الظاهرِ مُقامَ المضمرِ، وَيَتَّضِحُ هذا بتقرير الزمخشري قال رحمه اللَّه: «ويجوز أن يكونَ» جزاؤه «مبتدأً، والجملةُ الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر فيها مُقَامَ المضمر. والأصل: جزاؤه مَنْ وُجِدَ في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضِعَ» هو «كما تقول لصاحبك: مَنْ أخو زيد؟ فيقول لك:» أخوه مَنْ يقعد إلى جنبه، فهو هو «يرجع الضمير الأول إلى» مَنْ «والثاني [إلى] الأخ، ثم تقول: فهو أخوه، مقيماً للمظهر مقام المضمر».
والشيخ جعل هذا الذي حكيته عن الزمخشري وجهاً ثانياً بعد الأول ولم يَعْتقدْ أنه هو بعينه، ولا أنَّه جوابٌ عَمَّا رَدَّ به على ابن عطية. ثم قال: «ووَضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتأويل، وغير فصيحٍ فيما سوى ذلك نحو: زيدٌ قام زيد، ويُنَزَّه عنه القرآنُ، قال سيبويه:» لو قلت: «كان زيدٌ منطلقاً زيد» لم يكن حَدَّ الكلام، وكان
529
ههنا ضعيفاً ولم يكنْ كقولِك: ما زيدٌ منطلقاً هو لأنك قد اسْتَغْنَيْتَ عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تُضْمِرَه «. قلت: ومذهب الأخفش أنه جائزٌ مطلقاً وعليه بنى الزمخشري.
وقد جَوَّز أبو البقاء ما تَوَهَّم أنه جواب عن ذلك فقال:»
والوجه الثالث: أن يكونَ «جزاؤه» مبتدأً، و «مَنْ وُجد» مبتدأ ثان، و «فهو» مبتدأٌ ثالث، و «جزاؤه» خبر الثالث، والعائد على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة، وعلى الثاني «هو» انتهى. وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يَصِحُّ، إذ يصير التقديرُ: فالذي وُجِدَ في رَحْله جزاء الجزاء؛ لأنه جَعَل «هو» عبارةً عن المبتدأ الثاني، وهو ﴿مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ﴾، وجعل الهاءَ الأخيرةَ وهي التي في «جزاؤه» الأخير عائدةً على «جزاؤه» الأولِ، وصار التقديرُ كما ذكَرْتُه لك.
الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة: أن يكون «جزاؤه» مبتدأً، والهاءُ تعود على المسروق، و ﴿مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ﴾ خبره، و «مَنْ» بمعنى الذي، والتقدير: جزاء الصُّواع الذي وُجد في رَحْله، كذلك كانت شريعتُهم: يُسْتَرَقُّ السارق، فلذلك اسْتُفْتوا في جزائه.
وقوله «فهو جزاؤه» تقرير للحكم أي: فَأَخْذُ السارقِ نفسِه هو جزاؤه لا غير كقولك: حَقُّ زيدٍ أن يكسى ويُطْعَمَ ويُنْعَمَ عليه، فذلك حَقُّه «أي فهو حَقُّه لِتُقَرِّرَ/ ما ذكرْتَه مِن استحقاق وتُلْزِمَه، قاله الزمخشري. ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قال:» والتقدير استعبادُ مَنْ وُجِد في رَحْله، وقوله: «فهو جزاؤه» مبتدأ وخبر، مؤكِّد لمعنى الأول «.
ولمَّا ذَكَر الشيخُ هذا الوجهَ ناقلاً له عن الزمخشري قال:»
وقال معناه
530
ابن عطية، إلا أنه جعل القول الواحد قولين، قال: «ويَصِحُّ أن يكونَ» مَنْ «خبراً على أن المعنى: جزاءُ السارق مَنْ وُجِد في رَحْله، عائد على» مَنْ «ويكون قوله:» فهو جزاؤه «زيادةَ بيانٍ وتأكيدٍ»، ثم قال: «ويُحتمل أن يكونَ التقدير: جزاؤُه استرقاقُ مَنْ وجِد في رَحْلِه، وفيما قبله لا بد مِنْ تقديره؛ لأنَّ الذاتَ لا تكونُ خبراً عن المصدر، فالتقدير في القول قبله: جزاؤه أَخْذُ مَنْ وُجِد في رَحْله أو استرقاقه، هذا لا بد منه على هذا الإِعراب» قلت: وهذا كما قال الشيخُ ظاهره أنه جَعَل القول الواحد قولين.
الوجه الثالث مِن الأوجه المتقدِّمة: أن يكون «جزاؤه» خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: المسؤول عنه جزاؤه، ثم أَفْتَوا بقولهم: «مَنْ وُجِد في رَحْله فهو جزاؤه» كما يقول مَنْ يَسْتفتي في جزاء صيد المُحْرِم: جزاءُ صيد المُحْرِم، ثم يقول: ﴿وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم﴾ [المائدة: ٩٥]، قاله الزمخشري. قال الشيخ: «وهو متكلف إذ تصير الجملة من قوله:» المسؤول عنه جزاؤه «على هذا التقدير ليس فيه كبيرُ فائدة؛ إذ قد عُلِمَ مِنْ قوله:» فما جزاؤه «أن الشيء المسؤولَ عنه جزاءُ سَرِقته، فأيُّ فائدةٍ في نُطْقهم بذلك؛ وكذلك القول في المثال الذي مَثَّل به مِنْ قول المستفتي».
قلت: قوله: «ليس فيه كبيرُ فائدة» ممنوعٌ بل فيه فائدةُ الإِضمار المذكور في علم البيان، وفي القرآن أمثالُ ذلك.
531
الوجه الرابع: أن يكونَ «جزاؤه» مبتدأ، وخبرُه محذوف تقديره: جزاؤه عندنا كجزائِه عندكم، والهاءُ تعودُ على السارق أو على المسروق، وفي الكلام المتقدم دليلٌ عليهما، ويكون قولُه: «مَنْ وُجِدَ في رَحْله فهو جزاؤه على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء، ولم يذكرْه الشيخ، فقد جَعَلَ في الآية الكريمة أربعة أوجهٍ، وتقدَّم أن الأولَ والثاني وَجْهٌ كما بَيَّنْتُه، فإذا ضَمَمْنا هذا الوجهَ الأخيرَ الذي بدأ به أو البقاء إلى الأربعةِ التي ذكرها الشيخُ صارت خمسةً، ولكن لا تحقيقَ لذلك، وكذلك إذا التفَتْنا إلى قول ابن عطية في جَعْلِه القولَ الواحدَ قولين تصيرُ ستةً في اللفظ، فإذا حَقَّقَتْها لم تجِىءْ إلا أربعةً كما ذكرتها لك.
قوله: ﴿كذلك نَجْزِي الظالمين﴾ محل الكاف نصب: إمَّا على أنها نعتٌ لمصدر محذوف، وإمَّا حالٌ من ضميره، أي: مثلَ ذلك الجزاءِ الفظيع نجزي الظالمين.
532
وقرأ العامَّة: «وِعاء» بكسر الواو، وقرأ الحسن بضمها، وهي لغةٌ نُقِلَتْ عن نافع أيضاً. وقرأ سعيد بن جبير «مِنْ إعاء» بإبدالِ الواوِ همزةً، وهي لغة هُذَيْلية: يُبْدلون من الواو المكسورة أولَ الكلمة همزة فيقولون:
532
إشاح وإسادة وإعاء في: وشاحٍ ووِسادة ووِعاء. وقد تقدَّم ذلك في الجلالةِ المعظمة أولَ هذا الموضع.
قوله: ﴿ثُمَّ استخرجها﴾ في الضمير المنصوب قولان، أحدهما: أنه عائدٌ على الصُّواع، لأنَّ فيه التذكيرَ والتأنيثَ كما تقدم. وقيل: بل لأنه حُمِل على معنى السقاية. وقال أبو عبيد: «يؤنَّث الصُّواع من حيث يُسَمَّى» سقاية «، ويُذكَّر من حيث هو صُواع». قالوا: وكأنَّ أبا عبيد لم يَحْفظْ في الصُّواع التأنيثَ. وقال الزمخشري: «قالوا: رَجَع بالتأنيث على السِّقاية» ثم قال: «ولعل يوسف كان يُسَمِّيه» سِقاية «وعبيدَهُ» صُواعاً «فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية، وفيما يتصل بهم صواع». قلت: هذا الأخيرُ حَسَنٌ.
الثاني: أن الضميرَ عائدٌ على السَّرِقة. وفيه نظر؛ لأن السِّرقة لا تُسْتخرج، إلا بمجازٍ.
قوله: ﴿كذلك كِدْنَا﴾ الكلامُ في الكاف كالكلام فيما قبلها أي: مثلَ ذلك الكَيْدِ العظيم كِدْنا ليوسُفَ أي: عَلَّمْناه إياه. وقوله: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ﴾ تفسيرُ للكيد وبيان له، وذلك أنه كان في دينِ مَلِك مِصْرَ أن يُغَرَّمَ السارقُ مِثْلَيْ ما أَخَذَ، لا أنه يُلْزَمُ ويُسْتَعْبَدُ.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ فيه وجهان أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ تقديرُه: ولكن بمشيئة اللَّه أَخَذَه في دين غيرِ الملك، وهو دينُ آلِ/ يعقوب: أن الاسترقاقَ جزاءُ السارق. الثاني: أنه مفرغٌ من الأحوال العامة، والتقدير: ما كان ليأخذَه في كل حال إلا في حال التباسِه بمشيئة اللَّه أي إذنه في ذلك.
533
وكلامُ ابنِ عطية مُحْتَمِلٌ فإنه قال: «والاستثناء حكاية حال، التقدير: إلا أن يَشاء اللَّه ما وقع من هذه الحيلة».
وتقدَّم القراءتان في ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ﴾ [الآية: ٨٣] في الأنعام. وقرأ يعقوب بالياء مِنْ تحت في «يرفع» و «يشاء»، والفاعل اللَّه تعالى: وقرأ عيسى البصرة «نَرْفع» بالنون «درجات» منونة، «يشاء» بالياء. قال صاحب «اللوامح» :«وهذه قراءةٌ مرغوبٌ عنها تلاوةً وجملة، وإن لم يمكنْ إنكارُها» قلت: وتوجيهُها: أنه التفتَ في قولِه «يشاء» من التكلم إلى الغَيْبة، والمرادُ واحد.
قوله: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ قرأ عبد اللَّه بن مسعود «وفوق كل ذي عالم» وفيها ثلاثةُ أوجه، أحدها: أن يكون «عالم» هنا مصدراً، قالوا: مثل «الباطل» فإنه مصدرٌ فهي كالقراءة المشهورة. الثاني: أنَّ ثَمَّ مضافاً محذوفاً تقديرُه: وفوقَ كلِّ ذي مُسَمَّى عالم، كقول لبيد:
٢٨١١ - ولقد عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتي إنَّ المَنايا لا تَطيشُ سِهامُها
٢٨١٢ - إلى الحَوْلِ ثم اسمِ السَّلامِ عليكما ...................
أي: مُسَمَّى السلام. الثالث: أنَّ «ذو» زائدة، كقول الكميت:
534
٢٨١٣ - إليكم ذوي آلِ النبيِّ...... .................
البيت.
535
قوله تعالى: ﴿فَقَدْ سَرَقَ﴾ : الجمهور على «سَرَق» مخففاً مبيناً للفاعل. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي وابن أبي شريح عن الكسائي والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين «سُرِّق» مشدداً مبنياً للمفعول أي: نُسِب إلى السَّرِقة. وفي التفسير: أنَّ عَمَّته رَبَّتْه فأخذه أبوه منها، فَشَدَّت في وَسَطِه مِنْطَقَة كانوا يتوارثونها من إبراهيم عليه السلام ففتَّشوا فوجدوها تحت ثيابه. فقال: هو لي فَأَخَذَتْه كما في شريعتهم، وهذه القراءةُ منطبقة على هذا.
قوله: ﴿فَأَسَرَّهَا﴾ الضميرُ المنصوبُ مفسَّر بسياق الكلام أي: فَأَسَرَّ الحزازة التي حَصَلَتْ له مِنْ قولهم ﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ﴾ كقول الشاعر:
٢٨١٤ - أما وِيَّ ما يُغْني الثَّراء عن الفتى إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاق بها الصدرُ
والضمير في «حَشْرَجَتْ» يعود على النفس، كذا ذكره الشيخ، وقد جعل البيتَ مِمَّا فُسِّر فيه الضميرُ بذِكْر ما هو كلٌّ لصاحب الضمير، فلا يكون مما فُسِّر فيه بالسياق. ولتحقيق هذا موضعٌ آخرُ.
وقال الزمخشري: «إضمارٌ على شريطة التفسير، تفسيره {أَنْتُمْ شَرٌّ
535
مَّكَاناً}، وإنما أنَّثَ لأنَّ قولَه» شَرٌ مكاناً «جملة أو كلمةٌ على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة، كأنه قيل: فَأَسَرَّ الجملةَ أو الكلمةَ التي هي قولُه: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾، لأنَّ قولَه: ﴿قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ بدلٌ مِنْ أَسَرَّها». قلت: وهذا عندَ مَنْ يُبْدل الظاهرَ من المضمر في غير المرفوع نحو: ضربته زيداً، والصحيح وقوعه، كقوله:
٢٨١٥ - فلا تَلُمْهُ أن يَخافَ البائسا... وقرأ عبد اللَّه وابن أبي عبلة: «فَأَسَرَّه» بالتذكير. قال الزمخشري: «يريد القول أو الكلام». وقال أبو البقاء: «المضمر يعود إلى نِسْبتهم إياه إلى السَّرقة، وقد دَلَّ عليه الكلامُ، وقيل: في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ تقديرهُ: قال في نفسه: أنتم شرٌّ مكاناً، وأَسَرَّها أيْ هذه الكلمةَ». قلت: ومِثْلُ هذا يَنْبغي أن لا يُقال: فإنَّ القرآنَ يُنَزَّهُ عنه.
قوله: ﴿مَّكَاناً﴾ تمييزٌ أي: منزلةً من غيركم.
536
قوله تعالى: ﴿مَكَانَهُ﴾ : فيه وجهان أحدهما: وهو الظاهر أنَّ «مكانَه» نصب على الظرفِ، والعامل فيه «خُذْ». والثاني: أنه ضَمَّن «خُذْ» معنى «اجْعَلْ» فيكونُ «مكانَه» في محل المفعول الثاني. وقال الزمخشري: «فَخُذْه بَدَلَه على جهةِ الاسترهان أو الاستبعاد».
قوله تعالى: ﴿إِنَّآ إِذاً﴾ : هذه حرفُ جوابٍ وجزاء، وتقدم الكلامُ على أحكامِها.
قوله تعالى: ﴿استيأسوا﴾ : استفعل هنا بمعنى فَعِل المجرد يقال: يَئِس واستيئس بمعنىً، نحو عَجِب واستعجب، وسَخِر واستخسر. وقال الزمخشري: «وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مَرَّ في» استعصم «.
وقرأ البزي عن ابن كثير بخلافٍ عنه»
اسْتَاْيَسوا «بألفٍ بعد التاء ثم ياء، وكذلك في هذه السورة:» لا تايَسوا «، إنه لا يايَس (إذا اسْتايَسَ الرسلُ)، وفي الرعد: (أفلم يايَسِ الذين) الخلافُ واحد. فأمَّا قراءةُ العامة فهي الأصل إذ يُقال: يَئِس، فالفاء ياء، والعين همزة، وفيه لغةٌ أخرى وهي القلبُ بتقديم العين على الفاء فيقال: أَيِس، ويدلُّ على ذلك شيئان، أحدُهما: المصدرُ الذي هو اليَأْس. والثاني: أنه لو لم يكنْ مقلوباً لَلَزِم قَلْبُ الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولكنْ مَنَعَ من ذلك كونُ الياء في موضعٍ لا تُعَلَّ فيه ما وقعَتْ موقعَه، وقراءةُ ابن كثير من هذا، ولمَّا قَلَبَ الكلمةَ أَبْدَلَ مِن الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة إذ صارَتْ كهمزة رَأْس وكأس، / وإنْ لم يكنْ مِنْ أصله قَلْبُ الهمزة الساكنة حرفَ علة، وهذا كما تقدم أنه يقرأ» القرآن «بالألف، وأنه يُحْتمل أنْ يكون نَقَل حركة الهمزة وإن لم يكنْ من أصلِه النقلُ.
537
وقال أبو شامة بعد أن ذكر هذه الكلماتِ الخمسَ التي وقع فيها الخلافُ:» وكذلك رُسِمَتْ في المصحف «يعني كما قرأها البزي، يعني بألفٍ مكان الياء وبياء مكان الهمزة. وقال أبو عبد اللَّه:» واختلفَتْ هذه الكلمات في الرسم فَرُسِمَ «يابَس» «ولا تايَسُوا» بالألف، ورُسِم الباقي بغير ألف «قلت: وهذا هو الصوابُ، وكأنها غَفْلَةٌ حَصَلَتْ من أبي شامة رحمه اللَّه.
قوله: ﴿نَجِيَّاً﴾ حال مِنْ فاعل»
خَلَصوا «أي: اعتزلوا في هذه الحالِ، وإنما أُفْرِدَت الحالُ وصاحبُها جَمْعٌ: إمَّا لأنَّ النَّجِيَّ فَعِيل بمعنى مُفاعِل كالعشير والخليط بمعنى المُخالطِ والمُعاشِر، كقوله: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾ [مريم: ٥٢] أي: مُناجِياً، وهذا في الاستعمال يُفْرَدُ مطلقاً، يقال: هم خليطُكَ وعَشيرُكَ أي: مُخالِطوك ومُعاشِروك، وإمَّا لأنَّه صفةٌ على فَعِيل بمنزلة صَديق، وصديق وبابُه يُوحَّدُ لأنه بزِنَةِ المصادر كالصَّهيل والوَجيب والذَّمِيل، وإمَّا لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل: النجوى بمعناه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ هُمْ نجوى﴾ [الإسراء: ٤٧]، وحينئذ يكون فيه التأويلاتُ المذكورةُ في» رجل عَدْل «وبابه، ويُجمع على» أَنْجيَة «، وكان مِنْ حَقِّه إذا جُعِل وصفاً أن يُجْمع على أفْعِلاء كغَنِيّ وأَغْنِياء وشَقِيّ وأَشْقِياء. ومِنْ مجيئه على أَنْجية قولُ الشاعر:
538
٢٨١٦ - إنِّي إذا ما القومُ كانوا أَنْجِيَهْ... وقول الآخر وهو لبيد:
٢٨١٧ - وشَهِدْتُ أَنْجِيَةَ الأَفَاقةِ عالياً كَعْبي وأَرْدَافُ المُلوكِ شُهودُ
وجَمْعُه كذلك يُقَوِّي كونَه جامداً، إذ يصير كرغيف وأَرْغِفَة.
قوله: ﴿وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ﴾ في هذه الآيةِ وجوهٌ ستة، أحدها: وهو الأظهر أنَّ «ما» مزيدةٌ، فيتعلَّقُ الظرفُ بالفعل بعدها، والتقدير: ومِنْ قبلِ هذا فَرَّطْتم، أي: قَصَّرْتُمْ في حَقِّ يوسف وشأنِه، وزيادةُ «ما» كثيرةٌ، وبه بدأ الزمخشري وغيرُه.
الثاني: أن تكونَ «ما» مصدريةً في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ الظرف المتقدم. قال الزمخشري: «على أنَّ محلَّ المصدرِ الرفعُ بالابتداء، والخبرُ الظرفُ، وهو» مِنْ قبل «، والمعنى: وقع مِنْ قَبْل تفريطكم في يوسف، وإلى هذا نحا ابنُ عطية أيضاً فإنه قال:» ولا يجوز أن يكونَ قوله «مِنْ قَبلُ» متعلقاً ب «ما فَرَّطْتُمْ»، وإنما تكونُ على هذا مصدريةً، والتقدير: مِنْ قبلُ تفريطُكم في يوسف واقعٌ أو مستقرٌ، وبهذا المقدرِ يتعلَّقُ قولُه «مِنْ قبل». قال الشيخ: «وهذا وقولُ الزمخشري راجعان إلى معنى واحد وهو أنَّ» ما فَرَّطْتُمْ «يُقَّدرُ
539
بمصدرٍ مرفوعٍ بالابتداء، و» مِنْ قبل «في موضعِ الخبرِ، وذَهِلا عن قاعدةٍ عربية وحُقَّ لهما أن يَذْهَلا وهو أن هذه الظروفَ التي هي غاياتُ إذا بُنِيَتْ لا تقع أخباراً للمبتدأ جَرَّتْ أو لم تجرَّ تقول:» يومُ السبت مباركٌ، والسفر بعده «، ولا تقول:» والسفر بعدُ، وعمرو وزيد خلفَه «، ولا يجوز:» زيد وعمرو خلفُ «وعلى ما ذكراه يكون» تفريطكم «مبتدأً، و» من قبل «خبر [وهو مبني] وذلك لا يجوز، وهو مقرر في علم العربية».
قلت: قوله «وحُقَّ لهما أن يَذْهلا» تحاملٌ على هذين الرجلين المعروفِ موضعُهما من العلم. وأمَّا قولُه «إنَّ الظرف المقطوعَ لا يقع خبراً فمُسَلَّمٌ، قالوا لأنه لا يفيد، وما لا يفيد فلا يقع خبراً، ولذا لا يقع صلةً ولا صفةً ولا حالاً، لو قلت:» جاء الذي قبلُ «، أو» مررت برجل قبلُ «لم يجز لِما ذكرت. ولقائلٍ أن يقولَ: إنما امتنع ذلك لعدمِ الفائدة، وعدمُ الفائدة لعدمِ العلمِ بالمضاف إليه المحذوف، فينبغي إذا كان المضاف إليه معلوماً مَدْلولاً عليه أن يقع ذلك الظرفُ المضافُ إلى ذلك المحذوفِ خبراً وصفةً وصلةً وحالاً، والآيةُ الكريمة من هذا القبيل، أعني ممَّا عُلِم فيه المضافُ إليه كما مرَّ تقريره. ثم هذا الردُّ الذي رَدَّ به الشيخ سبقه إليه أبو البقاء فقال:» وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ «قبل» إذا وقعت خبراً أو صلة لا تُقْطع عن الإِضافة لئلا تبقى ناقصة «.
الثالث: أنَّها مصدريةٌ أيضاً في محلِّ رفع بالابتداء، والخبر هو قولُه:»
في يوسف «، أي: وتفريطكم كائن أو مستقر في يوسف، وإلى هذا ذهب الفارسي، كأنه اسْتَشْعر أن الظرفَ المقطوعَ/ لا يقع خبراً فعدل إلى هذا،
540
وفيه نظر؛ لأنَّ السياقَ والمعنى يجريان إلى تعلُّق» في يوسف «ب» فَرَّطْتُم «فالقولُ بما قاله الفارسي يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقَطْعِه عنه.
الرابع: أنها مصدريةٌ أيضاً، ولكن محلَّها النصبُ على أنها منسوقةٌ على ﴿أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ﴾، أي: ألم تعلموا أَخْذَ أبيكم الميثاقَ وتفريطكَم في يوسف. قال الزمخشري: «كأنه قيل: ألم تعلموا أخْذَ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطَكم مِنْ قبلُ في يوسف»
. وإلى هذا ذهب ابن عطية أيضاً.
قال الشيخ: «وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد، لأنَّ فيه الفصلَ بالجارِّ والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرفٍ واحد وبين المعطوف، فصار نظير:» ضربتُ زيداً وبسيفٍ عمراً «، وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر». قلت: «هذا الردُّ أيضاً سبقه إليه أبو البقاء ولم يَرْتَضِه وقال:» وقيل: هو ضعيف لأنَّ فيه الفصلَ بين حرف العطف والمعطوف، وقد بَيَّنَّا في سورة النساء أنَّ هذا ليس بشيء «. قلت: يعني أنَّ مَنْعَ الفصل بين حرف العطف والمعطوف ليس بشيء، وقد تقدَّم إيضاح ذلك وتقريرُه في سورة النساء كما أشار إليه أبو البقاء.
ثم قال الشيخ:»
وأمَّا تقديرُ الزمخشري «وتفريطكم من قبل في يوسف» فلا يجوزُ لأنَّ فيه تقديمَ معمولِ المصدر المنحلِّ لحرفٍ مصدري والفعل عليه، وهو لا يجوز «. قلت: ليس في تقدير الزمخشري شيءٌ من ذلك؛ لأنه لَمَّا صَرَّح بالمقدَّر أخَّر الجارَّيْن والمجرورَيْن عن لفظِ المصدر المقدر
541
كما ترى، وكذا هو في سائر النسخ، وكذا ما نقله الشيخ عنه بخطه، فأين تقديم المعمول على المصدر؟ ولو رَدَّ عليه وعلى ابن عطية بأنه يلزم مِنْ ذلك تقديمُ معمولِ الصلة على الموصول لكان رَدَّاً واضحاً، فإنَّ» من قبلُ «متعلقٌ بفَرَّطْتُم، وقد تقدم على» ما «المصدرية، وفيه خلافٌ مشهور.
الخامس: أن تكونَ مصدريةً أيضاً، ومحلُّها نصبٌ عطفاً على اسم»
أنَّ «، أي: ألم تعلموا أنَّ أباكم وأنَّ تفريطكم من قبل في يوسف، وحينئذٍ يكون في خبر» أنَّ «هذه المقدرة وجهان، أحدهما وهو» من قبلُ «، والثاني هو» في يوسف «، واختاره أبو البقاء، وقد تقدَّم ما في كلٍ منهما. ويُرَدُّ على هذا الوجه الخامسِ بما رُدَّ به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف والمعطوف وقد عُرِف ما فيه.
السادس: أن تكونَ موصولةً اسميةً، ومحلُّها الرفع أو النَصبُ على ما تقدَّم في المصدرية، قال الزمخشري:»
بمعنى: ومِنْ قبل هذا ما فرَّطتموه، أي: قَدَّمتموه في حَقِّ يوسف من الجناية، ومحلُّها الرفع أو النصب على الوجهين «.
قلت: يعني بالوجهين رفعَها بالابتداء وخبرها «من قبل»
، ونصبَها عطفاً على مفعول «ألم تعلموا»، فإنه لم يَذْكر في المصدرية غيرَهما. وقد عرْفْتَ ما اعتُرِض به عليهما وما قيل في جوابه. فتحصَّل في «ما» ثلاثة أوجه: الزيادةُ، وكونُها مصدريةً، أو بمعنى الذي، وأنَّ في محلِّها وجهين: الرفعَ أو النصبَ، وقد تقدم تفصيلُ ذلك كلِّه.
قوله: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض﴾ «بَرِحَ» هنا تامة ضُمِّنت معنى «أفارق» ف «الأرض» مفعولٌ به، ولا يجوز أن تكون تامةً من غيرِ تضمين، لأنها إذا
542
كانت كذلك كان معناها ظهر أو ذهب، ومنه «بَرِح الخَفاء»، أي: ظهر أو ذهب ومعنى الظهور لا يليق، والذهابُ لا يَصِلُ إلى الظرف المخصوص إلا بواسطة «في» تقول: ذهبت في الأرض، ولا يجوز: ذهبت الأرض، وقد جاء شيءٌ لا يُقاس عليه. وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ ظرفاً». قلت: ويحتمل أن يكونَ سقط من النسخ لفظةُ «لا»، وكان: «ولا يجوز أن تكون ظرفاً».
واعلمْ أنه لا يجوز في «أبرح» هنا أن تكونَ ناقصة لأنه لا يَنْتَظِم من الضمير الذي فيها ومن «الأرض» مبتدأ أو خبر، ألا ترى أنك لو قلت: «أنا الأرض» لم يَجُزْ من غير «في» ؛ بخلاف «أنا في الأرض» و «زيد في الأرض».
قوله: ﴿أَوْ يَحْكُمَ الله﴾ في نصبه وجهان، أحدهما: وهو/ الظاهر عَطْفُه على «يَأْذَن». والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار «أنْ» في جواب النفي وهو قوله «فلن أبرح»، أي: لن أبرحَ الأرضَ إلا أَنْ يَحْكُم كقولهم: «لأَلْزَمَنَّكَ أو تقضيني حقي»، أي: إلا أن تقضيني. قال الشيخ: «ومعناه ومعنى الغاية متقاربان». قلت: وليس المعنى على الثاني، بل سياقُ المعنى على عطفِه على «يَأْذن» فإنه غيى الأمرَ بغايتين، أحدهما خاصة، وهي إِذْن اللَّه، والثانية عامة؛ لأن إذْنَ اللَّهِ له في الانصراف هو مِنْ حكم اللَّه.
543
وقرأ العامَّةُ «سَرَقَ» مبنياً للفاعل مخففاً، وابن عباس وأبو رزين والكسائي في ورايةٍ «سُرِّق» مبنياً للمفعول مشدداً، وقد تقدَّم توجيههُما.
وقرأ الضحاك «سارِق» جعله اسم فاعل.
قوله تعالى: ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ : يحتمل ثلاثة أوجه، أحدها: وهو المشهور أنه على حَذْفِ مضاف تقديره: واسأل أهلَ القرية وأهلَ والعير، وهو مجازٌ شائع. قاله ابن عطية وغيره. قلت: وهذا على خلافٍ في المسألة: هل الإِضمارُ من باب المجاز أو غيرِه؟ المشهورُ أنه قسم منه وعليه أكثر الناس. قال أبو المعالي: «قال بعض المتكلمين:» هذا من الحذفِ وليس من المجاز، [وإنما المجاز] : لفظةٌ استُعِيرَتْ لغير ما هي له «قال:» وحَذْفُ المضاف هو عينُ المجازِ وعُظْمُه، هذا مذهب سيبويه وغيره «، وحكى أنه قولُ الجمهور. وقال فخر الدين الرازي:» إنَّ المجازَ والإِضمارَ قسمان لا قسيمان، فهما متباينان «.
الثاني: أنه مجازٌ، ولكنه من باب إطلاق اسمِ المحلِّ على الحالِّ للمجاورة كالزاوية.
الثالث: أنه حقيقةٌ لا مجاز فيه، وذلك أنه يجوز أن يسألَ القريةَ نفسَها والإِبل فتجيبه، لأنه نبيٌّ يجوز أن ينطق له الجماد والبهائم.
قوله تعالى: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ : هذا الإِضراب لا بد له من
544
كلامٍ قبلَه متقدَّمٍ عليه يُضْرِب هذا عليه، والتقدير: ليس الأمر كما ذكرتُمْ حقيقةً بل سَوَّلَتْ. وتقدَّم تفسيرُ مثلِ هذا وما بعده.
545
قوله تعالى: ﴿ياأسفى﴾ : الألف منقلبة عن ياء المتكلم وإنما قُلِبَتْ ألفاً؛ لأن الصوتَ معها أَتَمُّ، ونداؤه على سبيل المجاز، كأنه قال: هذا أوانكَ فاحضر نحو ﴿ياحسرتا﴾ [الزمر: ٥٦] : وقيل: هذه ألفُ الندبة، وحُذِفَتْ هاءُ السكت وصلاً. قال الزمخشري: «والتجانسُ بين لفظَتَي الأسف ويوسف ممَّا يقع مطبوعاً غيرَ مُتَعَمَّل فَيَمْلُح ويَبْدُع، ونحوه: ﴿اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ﴾ [التوبة: ٣٨] ﴿يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] ﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ﴾ [الكهف: ١٠٤] ﴿مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ [النمل: ٢٢]. قلت: ويُسَمَّى هذا النوع» تجنيس التصريف، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظٍ ويُفَرَّق بينهما بحرفٍ ليس في الأخرى، وقد تقدَّم.
وقرأ ابن عباس ومجاهد «مِن الحَزَن» بفتحتين، وقتادة بضمتين، والعامَّةُ بضمة وسكون، فالحُزْن والحَزَن كالعُدْم والعَدَم، والبُخْل والبَخَل، وأمَّا الضمتان فالثانية إتباعٌ.
و «كظيم» : يجوز أن يكون مبالغةً بمعنى فاعِل، وأن يكونَ بمعنى مفعول كقولِه: ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ [القلم: ٤٨] وبه فسَّره الزمخشري.
قوله تعالى: ﴿تَفْتَؤُاْ﴾ : هذا جوابُ القسم في قوله: «تاللَّهِ» وهو على حذفِ «لا»، أي: لا تَفْتَأ، ويدلُّ على حَذْفها أنه لو كان مثبتاً لاقترن بلامِ الابتداء ونون التوكيد معاً عند البصريين، أو إحداهما عند الكوفيين وتقول: «واللَّهِ أحبُّك» تريد: لا أحبك، وهو من التورية فإن كثيراً من الناسِ مبادِرٌ ذهنَه إلى إثبات المحبة. و «تَفْتأ» هنا ناقصة بمعنى لا تزال فترفع الاسمِ وهو الضمير، وتنصِبُ الخبر وهو الجملة من قوله «تَذْكُرُ»، أي: لا تزال ذاكراً له، يقال: ما فتىء زيدٌ ذاهباً. قال أوس بن حجر:
٢٨١٨ - فما فَتِئَتْ حتى كأنَّ غبارَها سُرادِق يومٍ ذي رياحٍ تُرَفَّعُ
وقال أيضاً:
٢٨١٩ - فما فَتِئَتْ خيلٌ تَثُوْبُ وتَدَّعي ويَلْحَقُ منها لاحِقٌ وتُقَطَّعُ
وعن مجاهد: «لا تَفْتُر»، قال الزمخشري: «كأنه جعل الفُتوء والفُتور أخوين».
وفيها لغتان: فَتَأَ على وزن ضَرَب، وأَفْتَأَ على وزن أكرم، وتكون تامةً بمعنى سَكَّن وأطفأ كذا قاله ابن مالك، وزعم الشيخ أنه تصحيف منه، وإنما هي هي «فَثَأ» بالثاء المثلثة. ورُسِمَتْ هذه اللفظةُ «تفتؤ» / بالواو والقياس «تفتأ» بالألف، ولذلك يُوْقَفُ لحمزة بالوجهين اعتباراً بالخط الكريم أو القياس.
546
قوله: ﴿حَرَضاً﴾ الحَرَضُ: الإِشفاء على الموت يُقال منه: حَرَضَ الرجلُ يَحْرُض حَرَضاً بفتح الراء، فهو حَرِض بكسرها، فالحَرَضُ مصدر، فيجيء في الآية الأوجهُ في «رجل عَدْل» وقد تقدَّم مراراً، ويُطْلَق المصدر من هذه المادة على الجُثَث إطلاقاً شائعاً، ولذلك يَسْتوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث تقول: هو حَرَضٌ، وهما حَرَض، وهم حَرَض، وهنَّ حَرَض، وهي حَرَض، ويقال: رجل حُرُض بضمتين نحو: جُنُب وشُلُل ويقال: أَحْرضه كذا، أي: أهلكه. قال الشاعر:
٢٨٢٠ - إني امرؤٌ لَجَّ بيْ حُبٌّ فَأَحْرَضَني حتى بَلِيْتُ وحتى شَفَّني السَّقَمُ
فهو مُحْرَض قال:
٢٨٢١ - أرى المَرْءَ كالأذْوادِ يُصبح مُحْرَضاً كإحراض بِكْرٍ في الديار مريضِ
وقرأ بعضهم: «حَرِضاً» بكسر الراء. قال الزمخشري: «وجاءَتِ القراءةُ بهما جميعاً». يعني بفتح الراء وكَسْرِها «وقرأ الحسن بضمتين، وقد تقدم أنه كجُنُب وشُلُل، وزاد الزمخشري» وغُرُب «قال الراغب:» الحَرَض: ما لا يُعْتَدُّ به ولا خيرَ فيه، ولذلك يقال لِما أشرف على الهلاك
547
حَرِض، قال تعالى: ﴿حتى تَكُونَ حَرَضاً﴾ وقد أحرضه كذا، قال الشاعر: «أني امرؤ لجَّ» البيت. والحُرْضَةُ: مَنْ لا يأكل إلا لحمَ المَيْسِر لنذالتِه، والتحريض: الحَثُّ على الشيء بكثرةِ التنزيين وتسهيل الخَطْبِ فيه كأنه إزالةُ الحَرَضِ نحو: «قَدَّيْتُه»، أي: أَزَلْتُ عنه القذى، وأَحْرَضْتُه: أَفْسَدْتُه نحو: أَفْذَيْتُه، أي: جَعَلْتَ فيه القذى «انتهى.
والحُرُض: الأُشْنان لإِزالته الفسادَ، والمِحْرَضَةُ وعاؤُه، وشُذوذُها كشذوذ مُنْخُل ومُسْعُط ومُكْحُلَة.
548
والبَثُّ أشدُّ الحزن كأنه لقوته لا يُطاق حَمْلُه فيبثُّه الإِنسان، أي: يُفَرِّقُه ويُذيعه، وقد تقدم أنَّ أصلَ هذه المادةِ الدلالةُ على الانتشار. وجَوَّز فيه الراغب هنا وجهين، أحدهما: أنه مصدرٌ في معنى المفعول، قال: «أي غَمِّي الذي بَثَثْته عن كتمان، فهو مصدر في تقدير مفعول أو يعني غَمِّي الذي بَثَّ فكري فيكون في معنى الفاعل.
وقرأ الحسن وعيسى»
وحَزَني «بفتحتين، وقتادة بضمتين وقد تقدم.
قوله تعالى: ﴿فَتَحَسَّسُواْ﴾ : أي: استقصوا خبره
548
بحواسِّكم، ويكون في الخير والشر. وقيل: بالحاء في الخير، وبالجيم في الشر، ولذلك قال هنا «فتحسَّسُوا»، وفي الحجرات: ﴿وَلاَ تَجَسَّسُواْ﴾ [الآية: ١٢]، وليس كذلك، فإنه قد قرىء بالجيم هنا. وتقدَّم الخلاف في قوله «وَلاَ تَيْأَسُواْ». وقرأ الأعرج: «تَيْئَسوا».
والعامَّةُ على «رَوْح اللَّه» بالفتح وهو رحمتُه وتنفيسُه وقرأ الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة بضم الراء. قال الزمخشري، «أي: مِنْ رحمتِه التي يحيا بها العباد». وقال ابن عطية: «وكأن معنى هذه القراءة: لا تَيْئَسوا مِنْ حَيٍّ معه رُوح اللَّه الذي وهبه، فإنَّ مَنْ بقي روحُه يُرْجَى، ومِنْ هذا قول الشاعر:
٢٨٢٢ - وفي غيرِ مَنْ قدوارَتِ الأرضُ فاطْمَعِ .....................
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص:
٢٨٢٣ - وكلُّ ذي غَيْبَةٍ يَؤُوْبُ وغائبُ الموتِ لا يَؤُوبُ
وقراءة أُبَيّ رحمه اللَّه: ﴿مِن رَّحْمَةِ الله﴾ و ﴿عِنْدِ الله﴾ ﴿مِن فَضْلِ الله﴾ تفسيرُ لا تلاوة.
549
وقال أبو البقاء:» الجمهورُ على فتح الراء، وهو مصدر في معنى الرحمة، إلا أنَّ استعمالَ الفعل منه قليل، وإنما يُسْتَعمل بالزيادة مثل أراح ورَوَّح، ويُقرأ بضم الراء وهي لغةٌ فيه. وقيل: هو اسمُ مصدرٍ مثل الشِّرْب والشُّرْب «.
550
قوله تعالى: ﴿مُّزْجَاةٍ﴾ : أي: مَدْفُوعة يَدْفَعها كلُّ أحدٍ عنه لزهادته فيها، ومنه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً﴾ [النور: ٤٣]، أي: يَسُوقها بالريح. وقال حاتم الطائي:
٢٨٢٤ - لِيَبْكِ على مِلْحانَ ضَيْفٌ مُدَفَّعٌ وأَرمَلَةٌ تُزْجي مع الليل أَرْمَلا
ويقال: أَزْجَيْتُ رديءَ الدرهم فَزُجِيَ، ومنه استعير «زَجَا الخراج يَزْجُو زَجَاءً»، وخَراجٌ زاجٍ، وقولُ الشاعر:
٢٨٢٥ -................... وحاجةٍ غيرِ مُزْجاةٍ من الحاجِ
أي: غير يسيرةً يمكن دَفْعُها وصَرْفها لقلة الاعتداد بها/ فألف «مُزْجاةٌ» منقلبة عن واو.
550
وقوله: ﴿فَأَوْفِ لَنَا الكيل﴾ يجوز أن يُراد به حقيقته من الآلة، وأن يُرادَ به المَكِيل فيكونَ مصدراً.
551
وقوله تعالى: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ﴾ : يجوزُ أن يكونَ استفهاماً للتوبيخ وهو الأظهرُ. وقيل: هو خبر، و «هل» بمعنى قد.
قوله تعالى: ﴿أَإِنَّكَ﴾ : قرأ ابن كثير، إنَّك «بهمزة واحدة والباقون بهمزتين استفهاماً، وقد عَرَفْتَ قراءاتهم في هاتين الهمزتين تخفيفاً وتسهيلاً وغيرَ ذلك. فأمَّا قراءة ابن كثير فيحتمل أن تكون خبراً محضاً، واستُبْعِد هذا مِنْ حيث تخالُفُ القراءتين مع أن القائلَ واحد، وقد أجيب عن ذلك بأنَّ بعضَهم قاله استفهاماً، وبعضهم قاله خبراً، ويحتمل أن تكونَ استفهاماً حُذِفَت منه الأداة لدلالة السياق، والقراءةُ الأخرى عليه. وقد تقدَّم لك نحوٌ من هذا في الأعراف. و» لأَنْتَ «يجوز أن تكونَ» أنت «مبتدأً و» يوسف «خبرُه، والجملةُ خبر» إنَّ «دَخَلَتْ عليها لامُ الابتداء. ويجوز أن يكونَ فصلاً، ولا يجوز أن يكونَ تأكيداً لاسم إنَّ؛ لأنَّ هذه اللامَ لا تَدْخُل على التوكيد.
وقرأ أُبَيّ:»
أإنك أو أنت يوسف «، وفيها وجهان، أحدهما ما قاله أبو الفتح: من أن الأصل أإنك لغيرُ يوسف أو أنت يوسفُ، فحذف خبر» إن «لدلالة المعنى عليه. الثاني ما قاله الزمخشري: وهو إنك يوسفُ أو أنت يوسف» فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، وهذا كلامُ متعجبٍ مُسْتَغْرِبٍ لِما يَسْمع فهو يكرِّر الاستثباتَ «.
551
قوله: ﴿يَتَّقِ﴾ قرأ قنبل» يَتَّقي «بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، والباقون بحذفها فيهما. وأمَّا قراءةُ الجماعة فواضحة لأنه مجزوم. وأما قراءةُ قنبل فاخْتَلَفَ فيها الناسُ على قولين، أجودهما: أنَّ إثباتَ حرفِ العلة في الحركة لغةٌ لبعض العرب، وأنشدوا على ذلك قولَ قيس ابن زهير:
٢٨٢٦ - ألم يأتيك والأنباء تَنْمي بما لاقَتْ لَبونُ بني زيادِ
وقول الآخر:
٢٨٢٧ - هَجَوْت زَبَّانَ ثم جِئْتَ مُعْتَذِراً مِنْ هَجْوِ زَبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ
وقول الآخر:
٢٨٢٨ - إذا العجوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ ولا تَرَضَّاها ولا تَمَلَّقِ
ومذهبُ سيبويه أنَّ الجزمَ بحذف الحركة المقدرة، وإنما تبعها حرفُ العلة في الحذف تَفْرِقةً بين المرفوع والجزوم. واعتُرض عليه بأنَّ الجازم يُبَيِّن أنه مجزوم، وعَدَمَه يبيَّن أنه غير مجزوم. وأجيب بأنه في بعض الصور يُلْبِس فاطَّرَدَ الحَذْفُ، بيانُه أنك إذا قلت:»
زُرْني أعطيك «بثبوت الياء احتمل أن يكون» أعطيك «جزاءً لزيارته، وأن يكونَ خبراً مستأنفاً، فإذا قلت:» أُعْطك «
552
بحذفها تعيَّن أن يكونَ جزاءً له، فقد وقَع اللَّبْسُ بثبوت حرف العلة وفُقِد بحَذْفِه، فيقال: حرفُ العلةُ يُحذف عند الجازم لا به. ومذهب ابن السَّراج أن الجازم أَثرَّ في نفسِ الحرف فحذفه، وفيه البحث المتقدم.
الثاني: أنه مرفوعٌ غير مجزومٍ، و» مَنْ «موصولةٌ والفعل صلتُها، فلذلك لم يَحْذف لامَه. واعْتُرِض على هذا بأنه قد عُطِف عليه مجزومٌ وهو قولُه» ويَصْبِرْ «فإنَّ قنبلاً لم يَقْرأه إلا ساكنَ الراء.
وأجيب عن ذلك بأنَّ التسكين لتوالي الحركات. وإنْ كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو: ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ [آل عمران: ١٦٠] ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة: ٦٧]. وأُجيب أيضاً بأنه جُزِم على التوهُّم، يعني لَمَّا كانت «مَنْ»
الموصولةُ تُشْبه «مَنْ» الشرطية. وهذه عبارةٌ فيها غَلَطٌ على القرآن فينبغي أن يُقال: فيها مراعاةٌ للشبه اللفظي، ولا يقال للتوهُّم. وأجيب أيضاً بأنه سُكِّن للوقف ثم أُجري الوصلُ مجرى الوقفِ. وأُجيب أيضاً بأنه إنما جُزم حملاً ل «مَنْ» الموصولة على «مَنْ» الشرطية؛ لأنها مثلُها في المعنى ولذلك دَخَلَتِ الفاءُ في خبرها.
قلت: وقد يُقال على هذا: يجوز أن تكونَ «مَنْ» شرطيةً، وإنما ثَبَتَت الياءُ، ولم تَجْزِمْ «مَنْ» لشببها ب «مَنْ» الموصولة، ثم لم يُعْتبر هذا الشبهُ في قوله «ويَصْبر» فلذلك جَزَمَه إلا أنه يَبْعُدُ مِنْ جهة أنَّ العامل لم يؤثِّر فيما بعده، ويليه ويؤثرِّ فيما هو بعيدٌ منه. وقد تقدَّم الكلامُ على مثل هذه المسألة أولَ السورة في قوله ﴿يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ [يوسف: ١٢].
وقوله ﴿فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ﴾ الرابطُ بين جملة الشرط وبين جوابها:
553
أمَّا العمومُ في «المحسنين»، وإمَّا الضميرُ المحذوف، أي: المحسنين منهم، وإمَّا لقيام أل مُقامه والأصل: مُحْسِنيهم، قامَتْ أل مُقام ذلك الضمير.
554
قوله تعالى: ﴿آثَرَكَ﴾ : أي: «تَفَضَّل عليك، والإِيثار: التفضيلُ/ بجميع أنواع العطايا، آثَره يُؤْثِره إيثاراً، وأصلُه مِن الأَثَر وهو تَتَبُّع الشيءِ فكأنه يَسْتقصي جميعَ أنواع المكارم، وفي الحديث» ستكون بعدي أثَرة «، أي: يَسْتأثر بعضكُم على بعض، ويقال: استأثر بكذا، أي: اختصَّ به، واستأثر اللَّه بفلانٍ كنايةٌ عن اصطفائه، قال الشاعر:
قوله تعالى: ﴿لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾ :«عليكم» يجوز أن يكون خبراً ل «لا»، و «اليومَ» : يُحتمل أن يتعلَّقَ بما تعلَّق به هذا الخبر، أي: لا تثريبَ مستقرٌّ عليكم اليومَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «اليوم» خبرَ «لا» و «عليكم» متعلقٌ بما تعلَّق به هذا الظرفُ. ويجوز أن يكون «عليكم» صفةً لاسم «لا»، و «اليوم» خبرُها أيضاً، ولا يجوز أن يتعلق كلٌّ مِن الظرف والجارِّ ب «تَثْريب» لأنه يصير مُطَولاً شبيهاً بالمضاف، ومتى كان كذلك أُعْرِب ونُوِّن نحو: «لا خيراً مِنْ زيد عندك»، ويزيدُ عليه الظرفُ: بأنه يَلْزم الفصلُ بين المصدرِ المؤول بالموصولِ ومعموله بأجنبي وهو «عليكم» لأنه: إمَّا خبر وإمَّا صفة.
وقد جَوَّز الزمخشري أن يكونَ الظرفُ متعلقاً ب «تَثْريب» فقال: «فإنْ قلت: بِمَ يتعلَّق» اليوم «؟ قلت: بالتثريب أو بالمقدَّر في» عليكم «من معنى الاستقرار، أو ب» يَغْفر «. قلت: فَجَعْلُه أنَّه متعلقٌ ب» تَثْريب «فيه ما تقدم. وقد
554
أَجْرَى بعضُهم الاسمَ العاملَ مُجرى المضافِ لشبهه به فَيُنْزَع ما فيه من تنوينٍ أو نون، وجعل الفارسي من ذلك قوله:
٢٨٢٩ - واللَّه أَسْماك سُماً مبارَكا آثرك اللَّه به إيثارَكا
٢٨٣٠ - أراني ولا كُفْرانَ للَّه أيَّةً لنفسي، لقد طالَبْتُ غيرَ مُنِيْلِ
قال:» فأيَّةً منصوب بكُفْران، أي: لا أكفر اللَّهَ رحمة لنفسي. ولا يجوزُ أن تُنْصب «أيَّةً» بأَوَيْت مضمراً؛ لئلا يَلْزمَ الفصلُ بين مفعولي «أرى» بجملتين: أي ب «لا» وما في حَيِّزها، وب «أَوَيْت» المقدرة. ومعنى أَوَيْت رَقَقْت. وجعل منه الشيخ جمال الدين بن مالك ما جاء في الحديث «لا صَمْتَ يومٌ إلى الليل» برفع «يومٌ» على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحلِّ لحرفٍ مصدري وفعل مبني للمفعول، وفي بعض ما تقدم خلافٌ لا يَليقُ التعرُّضُ له هنا.
وأمَّا تعليقُه بالاستقرار المقدر فواضِحٌ، ولذلك وقف أكثرُ القراءِ عليه، وابتدأ ب ﴿يَغْفِرُ الله لَكُمْ﴾، وأمَّا تعليقُه ب «يَغْفر» فواضِحٌ أيضاً ولذلك وقف بعضُ القرَّاء على «عليكم» وابتدأ ﴿اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ﴾، وجوَّزوا أن يكونَ «عليكم» بياناً ك «لك» في نحو «سقياً لك»، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوف، ويجوز أن يكونَ خبرُ «لا» محذوفاً، و «عليكم» و «اليوم» كلاهما متعلقان بمحذوفٍ آخر يدل عليه «تثريب»، والتقدير: لا تثريب يَثْرِبُ عليكم اليومَ، كما قَدَّروا في
﴿لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله﴾ [هود: ٤٣] لا عاصمَ يَعْصِم اليومَ. قال الشيخ: «لو قيل به لكان قوياً».
وقد يُفرَّق بينهما بأنَّ هنا يلزم كثرةُ المجاز، وذلك أنَّك تَحْذف الخبر،
555
وتَحْذف هذا الذي تَعَلَّق به الظرفُ وحرفُ الجر وتَنسِب الفعل إليه؛ لأن التثريب لا يَثْرِب إلا مجازاً كقولهم: «شعرٌ شاعر» بخلاف «عاصم يَعْصِم» فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة، فهناك حَذْف شيءٍ واحدٍ من غير مجاز، وهنا حَذْف شيئين مع مجاز.
والتَّثْريبُ العَتْب والتأنيب، وعَبَّر بعضُهم عنه بالتعيير، مِنْ عَيَّرته بكذا إذا عِبْته به، وفي الحديث: «إذا زَنَتْ أَمَةُ أحدِكم فَلْيَجْلِدْها ولا يُثَرِّبْ»، أي: لا يُعَيِّر، وأصله مِن الثَّرْب وهو ما يَغْشى الكَرْش من الشحم، ومعناه إزالة الثَّرْب كما أن التجليدَ إزالة الجِلْد، فإذا قلت: «ثَرّبْتُ فلاناً» فكأنك لشدة عَيْبَتِك له أَزَلْت ثَرْبَه فضُرِب مَثَلاً في تمزيق الأعراض.
وقال الراغب: «ولا يُعْرف مِنْ لَفْظِه إلا قولُهم» الثَّرْب «وهو شَحْمة رقيقة، وقولُه تعالى: ﴿ياأهل يَثْرِبَ﴾ [الأحزاب: ١٣] يَصِحُّ أن يكونَ أصلُه من هذا الباب والياءُ في مزيدة».
556
قوله تعالى: ﴿بِقَمِيصِي﴾ : يجوز أن يتعلق بما قبله على أنَّ الباءَ مُعَدِّيَةٌ/ كهي في «ذهبْتُ به»، وأن تكون للحال فتتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي: اذهبوا معكم قميصي. و «هذا» نعت له أو بيان أو بدل، و «بصيراً» حال. و «أجمعين» تأكيدٌ، وقد أُكِّد بها دون «كل»، ويجوز أن تكونَ حالاً.
قوله تعالى: ﴿تُفَنِّدُونِ﴾ : التَّفْنيد: الإِفساد، يقال: فَنَّدت فلاناً، أي: أَفْسَدْت رأيَه ورَدَدْته، قال:
556
٢٨٣١ - يا صاحِبيَّ دَعَا لَوْمي وتَفْنيدي فليسَ ما قُلْتُ من أمرٍ بمَرْدُوْدِ
ومنه «أَفْنَدَ الدهرُ فلاناً» قال:
٢٨٣٢ - دَعِ الدهرَ يَفْعَلُ ما أرادَ فإنه إذا كُلِّفَ الإِفنادَ بالناسِ أفندا
والفَنَدُ: الفساد، قال النابغة:
٢٨٣٣ - إلاَّ سليمانَ إذ قال الإِلهُ له قُمْ في البرِيَّةِ فاحْدُدْها عن الفَنَد
والفِنْد: شِمْراخ الجبل وبه سُمِّي الرجل فِنْداً، والفِنْدُ الزمانيُّ أحدُ شعراء الحماسة من ذلك. وقال الزمخشري: «يقال: شيخ مُفَنَّد ولا يقال: عجوز مُفَنَّدة لأنهما لم تكن في شبيبتها ذاتَ رأي فتُفَنَّد في كبرها» وهو غريبٌ. وجوابُ «لولا» الامتناعية محذوفٌ تقديرُه لَصَدَّقْتُموني. ويجوز أن يكونَ تقديرُه: لأَخْبَرْتكم.
557
وقوله تعالى: ﴿أَلْقَاهُ﴾ : الظاهر أنَّ الفاعلَ هو ضمير البشير. وقيل: هو ضميرُ يعقوب. وفي «بصيراً» وجهان، أحدهما: أنه حال أي: رَجَع في هذه الحال. والثاني: أنه خبرها لأنها بمعنى صار عند بعضهم. وبَصير مِنْ بَصُر بالشيء، كظريف مِنْ ظَرُف. وقيل: هو مثالُ مبالغةٍ كعليم. وفيه دلالةٌ على أنه لم يذهب بَصَرُه بالكليَّة.
وقوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ﴾ : من باب التغليب، يريد
557
أباه وأمَّه أو خالتَه. و «سُجَّداً» حال. قال أبو البقاء: «حالٌ مقدرة؛ لأنَّ السجود يكون بعد الخُرور» وفيه نظرٌ لأنه متصلٌ به غيرُ متراخٍ عنه.
قوله: ﴿مِن قَبْلُ﴾ يجوز أنْ يتعلق ب «رُؤْياي»، أي: تأويل رُؤْياي في ذلك الوقت. ويجوز أنْ يكونَ العاملُ فيه «تَأْويل» لأنَّ التأويلَ كان مِنْ حينِ وقوعِها هكذا، والآن ظهرَ له، ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ «رُؤْياي» قاله أبو البقاء، وقد تقدم أنَّ المقطوعَ عن الإِضافةِ لا يقع حالاً.
قوله: ﴿قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي﴾ حالٌ من «رؤياي» ويجوز أن تكون مستأنفة. وفي «حقاً» وجوه أحدُها: أنه حال. والثاني: أنه مفعولٌ ثان. والثالث: أنه مصدرٌ مؤكد للفعل من حيث المعنى، أي: حَقَّقها ربي حَقَّاً بجَعْلِه.
قوله: ﴿أَحْسَنَ بي﴾ «أَحْسَنَ» أصله أن يتعدَّى ب «إلى». قال: ﴿وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ﴾ [القصص: ٧٧] فقيل: ضُمِّن معنى لَطُف فتعدى بالباء كقوله: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ [البقرة: ٨٣] وقولِ كثيِّر عَزَّة:
٢٨٣٤ - أَسِيْئِي بنا أو أَحْسِني لا مَلُوْمَةً لَدَيْنَا ولا مَقْلِيَّةً إنْ تَقَلَّتِ
وقيل: بل يتعدى بها أيضاً. وقيل: هي بمعنى «إلى». وقيل: المفعولُ محذوفٌ: «أَحْسَنَ صُنْعَه بي»، ف «بي» يتعلَّق بذلك المحذوفِ، وهو تقدير أبي البقاء. وفيه نظر؛ من حيث حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معموله، وهو ممنوعٌ عند البصريين. و «إذ» منصوبٌ ب «أَحْسَنَ» أو المصدرِ المحذوف قاله
558
أبو البقاء، وفيه النظر المتقدم.
والبَدْوُ: ضد الحضارة وهو مِن الظهور، بدا يبدو: إذا سكن البادية، «إذا بَدَوْنا جَفَوْنا» يروى عن عمر، أي: تخلَّقْنا بأخلاقِ البدويين.
قوله: ﴿لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ﴾ لَطُفَ أصلُه أن يتعدَّى بالباء، وإنما تعدى باللام لتضمُّنِه معنى مُدَبِّر، أي: أنت مُدَبِّر بلطفك لِما تَشاء.
559
وقرأ عبد اللَّه: «آتَيْتَنِ» و «عَلَّمْتَنِ» بغير ياءٍ فيهما، وحكى ابن عطية: أنَّ أبا ذر قرأ: «أتيتني» بغير ألفٍ بعد الهمزة و «مِنْ» في «مِن المُلْك» وفي «مِنْ تأويل» للتبعيض، والمفعولُ محذوفٌ، أي: عظيماً من الملك فهي صفة لذلك المحذوفِ وقيل: زائدة. وقيل: لبيان الجنس، وهذان بعيدان.
و «فاطر» يجوز أن يكونَ نعتاً لربّ، ويجوز أنْ يكون بدلاً أو بياناً أو منصوباً بإضمار أَعْني أو نداءً ثانياً.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ : مبتدأ، و ﴿مِنْ أَنْبَآءِ الغيب﴾ خبره، و «نُوحيه» حال. ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً، أو حالاً من الضمير في الخبر. وجَوَّز الزمخشري أن يكونَ موصولاً بمعنى الذي. وقد تقدَّم نظيرُه. و «هم يَمْكُرون» حال.
[قوله:] ﴿وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ : معترضٌ بين «ما» وخبرها. وجوابُ «لو» محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه.
و [قوله] :﴿إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ﴾ : حال.
وقوله تعالى: ﴿مِّنْ عَذَابِ الله﴾ : صفةٌ ل «غاشية»، و «بَغْتة» حال وهو في الأصلِ مصدر، وتقدَّم نظيره.
والجمهور على جَرِّ «الأرض» عطفاً على «السماوات» والضمير في «عليها» للآية فيكون «يمرُّون» صفة للآية أو حالاً لتخصُّصها بالوصفِ بالجار. وقيل: يعود الضمير في «عليها» على الأرض فيكون «يمرون» حالاً منها. وقال أبو البقاء: «وقيل منها ومن السماوات»، أي: تكون الحال من الشيئين جميعاً، وهذا لا يجوز إذ كان يجب أن يقال «عليهما»، وأيضاً فإنهم لا يَمُرُّون في السماوات، / إلا أن يُراد: يمرُّون على آياتهما، فيعودُ المعنى إلى عَوْد الضمير للآية. وقد يُجاب عن الأول بأنه مِنْ باب الحذف كقوله تعالى: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢].
وقرأ السدِّي «والأرضَ» بالنصب، ووجهُه أنه من باب الاشتغال، ويُفَسَّر الفعلُ بما يوافقه معنى أي: يطؤون الأرض، أو يسلكون الأرضَ يمرون عليها كقولك: «زيداً مررت به».
وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد: «والأرضُ» بالرفع على الابتداء، وخبرُه الجملةُ بعده، والضمير في هاتين القراءتين يعودُ على الأرض فقط.
560
وقرأ أبو حفص ومبشر بن عبيد: أو «يَأْتيهم الساعة» بالياء من تحت لأنه مؤنث مجازيٌّ وللفصلِ أيضاً.
561
قوله تعالى: ﴿أَدْعُو إلى الله﴾ : يجوز أن يكونَ مستأنفاً وهو الظاهر، وأن يكونَ حالاً من الياء. و «على بصيرة» حال من فاعل «أدعو» أي: أَدْعو كائناً على بصيرة.
قوله: ﴿وَمَنِ اتبعني﴾ عطفٌ على فاعل «أدعو» ولذلك أكَّد بالضميرِ المنفصل في قوله «أنا»، ويجوز أن يكون مبتدأً والخبرُ محذوف، أي: ومَنِ اتَّبعني يَدْعو أيضاً. ويجوز أن يكون «على بصيرة» خبراً مقدماً، و «أنا» مبتدأ مؤخرٌ، و «ومَن اتَّبعني» عطفٌ عليه، ويجوزُ أن يكونَ «على بصيرة» وحده حالاً، و «أنا» فاعلٌ به، «ومَنِ اتَّبعني» عطف عليه أيضاً. ومفعول «أدعو» يجوز أنْ لا يُراد، أي: أنا مِنْ أهل الدعاء إلى اللَّه، ويجوز أن يُقَدَّر: أنْ أدعوَ الناس.
وقرأ عبد اللَّه «هذا سبيلي» بالتذكير وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر ويؤنَّث.
قوله تعالى: ﴿نوحي﴾ : العامَّةُ على «يوحى» بالياء من
561
تحت مبنياً للمفعول. وقرأ حفص «نوحي» بالنون مبنياً للفاعل اعتباراً بقوله «وما أَرْسَلْنا» وكذلك قرأ ما في النحل وما في أول الأنبياء، ووافقه الأخَوان على قوله: «نوحي إليه» في الأنبياء على ما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى. والجملة صفةٌ ل «رجالاً». و ﴿مِّنْ أَهْلِ القرى﴾ صفة ثانية، وكان تقديمُ هذه الصفةِ على ما قبلها أكثرَ استعمالاً؛ لأنها أقربُ إلى المفردِ وقد تقدَّم تحريرُه في المائدة.
قوله: ﴿وَلَدَارُ الآخرة﴾ وما بعده قد تقدَّم في الأنعام.
562
قوله تعالى: ﴿حتى﴾ : ليس في الكلامِ شيءٌ تكون «حتى» غايةً له، فمِنْ ثَمَّ اختلف الناسُ في تقدير شيءٍ يَصِحُّ تَغْيِيَتُه ب «حتى» : فقدَّره الزمخشري: «وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلك إلا رجالاً فتراخى نَصْرُهُمْ حتى». وقَدَّره القرطبي: «وما أَرْسَلْنا من قبلك يا محمدُ إلا رجالاً لم نعاقِب أُمَمَهم بالعقاب حتى إذا». وقدَّره ابن الجوزي: «وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلك إلا رجالاً فَدَعَوا قومهم فكذَّبوهم وطال دعاؤُهم وتكذيبُ قومِهم حتى إذا». وأَحْسَنُها ما قدَّمْتُه.
562
وتَصَيَّد ابن عطية شيئاً من معنى قوله: «أفلم يسيروا» فقال: «ويتضمَّن قولُه» أفلم يسيروا «إلى» مِنْ قبلِهم «أنَّ الرسلَ الذين بعثهم اللَّه من أهل القرى دَعَوْهم فلم يُؤْمنوا بهم حتى نَزَلَتْ بهم المَثُلاتُ فصبروا في حَيِّز مَنْ يُعْتبر بعاقبته، فلهذا المُضَمَّنِ حَسُن أن تَدْخُل» حتى «في قوله:» حتى إذا «. قال الشيخ:» ولم يتلخَّصْ لنا من كلامِه شيءٌ يكون ما بعد «حتى» غايةً له، لأنه عَلَّق الغايةَ بما ادَّعَى أنه فَهِمَ ذلك مِنْ قوله: «أفلم يَسيروا». الآية «. قلت: دَعَوْهم فلم يؤمنوا هو المغيى.
قوله: ﴿كُذِبُواْ﴾ قرأ الكوفيون»
كُذِبوا «بالتخفيف والباقون بالتثقيل. فأمَّا قراءةُ التخفيف فاضطربت أقوالُ الناسِ فيها، ورُوي إنكارها عن عائشة رضي الله عنها قالت:» معاذَ اللَّه لم يكنِ الرسلُ لِتَظُنُّ ذلك بربها «وهذا ينبغي أن لا يَصِحَّ عنها لتواتُرِ هذه القراءة.
وقد وَجَّهها الناسُ بأربعة أوجه، أجودُها: أن الضميرَ في»
وظنُّوا «عائدٌ على المُرْسَل إليهم لتقدُّمهم في قوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ [يوسف: ١٠٩]، ولأن الرسلَ تَسْتدعي مُرْسَلاً إليه. والضمير في» أنهم «و» كُذِبوا «عائد على الرسل، أي: وظنَّ المُرْسَل إليهم أنَّ الرسَلَ قد كُذِبوا، أي: كذَّبهم مَنْ أُرْسِلوا إليه بالوحي وبنصرهم عليهم.
الثاني: أنَّ الضمائرَ الثلاثةَ عائدة على الرسل. قال الزمخشري في
563
تقرير هذا الوجه» حتى إذا اسْتَيْئَسوا من النصر وظنُّوا أنهم قد كُذِبوا، أي: كَذَّبَهم أنفسُهم حين حَدَّثَتْهم أنهم يُنْصَرون أو رجاؤُهم لقولهم رجاءٌ صادق ورجاءٌ كاذب، والمعنى: أن مدَّة التكذيب والعداوةِ من الكفار، وانتظارَ النصر من اللَّه وتأميلَه قد تطاولت عليهم وتمادَتْ، حتى استشعروا القُنوط، وتَوَهَّموا ألاَّ نَصْرَ لهم في الدنيا فجاءهم نَصْرُنا «انتهى/ فقد جعل الفاعلَ المقدر: إمَّا أنفسُهم، وإمَّا رجاؤُهم، وجعل الظنَّ بمعنى التوهم فأخرجه عن معناه الأصلي وهو تَرَجُّحُ أحدِ الطرفين، وعن مجازه وهو استعمالُه في المُتَيَقَّن.
الثالث: أنَّ الضمائرَ كلَّها أيضاً عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من الترجيح، وإلى هذا نحا ابن عباس وابن مسعود وابن جبير، قالوا: والرسل بَشَرٌ فَضَعُفوا وساءَ ظَنُّهم، وهذا ينبغي ألاَّ يَصِحَّ عن هؤلاء فإنها عبارة غليظة على الأنبياء عليهم السلام، وحاشى الأنبياء من ذلك، ولذلك رَدَّتْ عائشة وجماعةُ كثيرة هذا التأويلَ، وأعظموا أن تُنْسَبَ الأنبياء إلى شيء مِن ذلك.
قال الزمخشري: «إن صَحَّ هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظنِّ ما يَخْطِر بالبال ويَهْجِس في القلب مِنْ شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأمَّا الظنُّ الذي هو ترجيحُ أحدِ الجائزين على الآخر فغير جائز على رجلٍ من المسلمين، فما بالُ رسلِ اللَّه الذين هم أعرفُ بربهم؟»
قلت: ولا يجوز أيضاً أن يقال: خَطَر ببالهم شبهُ الوسوسة؛ فإنَّ الوسوسة من الشيطان وهم مَعْصومون منه.
وقال الفارسي أيضا: «إنْ ذهب ذاهب إلى أن المعنى: ظنَّ الرسلُ
564
الذين وعد اللَّه أمَمَهم على لسانهم قد كُذِبوا فيه فقد أتى عظيماً [لا يجوزُ أَنْ يُنْسَبُ مثلُه] إلى الأنبياء ولا إلى صالحي عبادِ اللَّه، وكذلك مَنْ زعم أنَّ ابنَ عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضَعُفوا فظنوا أنهم قد أُخْلفوا؛ لأن اللَّه تعالى لا يُخْلف الميعاد ولا مُبَدِّل لكلماته». وقد روي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: «معناه وظنُّوا حين ضَعُفوا وغُلبوا أنهم قد أُخْلفوا ما وعدهم اللَّه به من النصر وقال: كانوا بشراً وتلا قوله تعالى: ﴿وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول﴾ [البقرة: ٢١٤].
الرابع: أن الضمائر كلَّها تَرْجِعُ إلى المرسَل إليهم، أي: وظَنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذبوهم فيما ادَّعوه من النبوَّة وفيما يُوْعِدون به مَنْ لم يؤمنْ بهم من العقاب قبلُ، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد قالوا: ولا يجوز عَوْدُ الضمائر على الرسل لأنهم مَعْصومون. ويُحكى أن ابن جبير حين سُئِل عنها قال: نعم إذا استيئسَ الرسل من قومهم أن يُصَدِّقوهم، وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم»
فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضِراً: «لو رَحَلْتُ في هذه إلى اليمن كان قليلاً».
وأمَّا قراءةُ التشديدِ فواضحة وهو أن تعودَ الضمائرُ كلها على الرسل، أي: وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَّبهم أممُهم فيما جاؤوا به لطول البلاءِ عليهم، وفي صحيح البخاري عن عائشة: «أنها قالت: هم أتباعُ الأنبياءِ الذي آمنوا بهم وصَدَّقوا طال عليهم البلاءُ واستأخر عنهم النصرُ حتى إذا استيئس الرسلُ ممَّن كذَّبهم مِنْ قومهم، وظنَّتْ الرسلُ أن قومَهم قد كَذَّبوهم جاءهم نَصْرُ اللَّهِ عند ذلك». قلت: وبهذا يَتَّحد معنى القراءتين، والظنُّ هنا يجوز أن يكون على
565

بابه، وأن يكونَ بمعنى اليقين وأن يكونَ بمعنى التوهُّم حسبما تقدَّم.


وقرأ ابن عباس والضحاك ومجاهد «كَذَبوا» بالتخفيف مبنياً للفاعل، والضمير على هذه القراءة في «ظنُّوا» عائد على الأمم وفي ﴿أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ﴾ عائدٌ على الرسل، أي: ظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم فيما وعدوهم به من النصر أو من العقاب، ويجوز أن يعودَ الضميرُ في «ظنُّوا» على الرسل وفي ﴿أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ﴾ على المُرْسَل [إليهم]، أي: وظنَّ الرسلُ أن الأممَ كَذَبَتْهم فيما وعدوهم به مِنْ أنَّهم يؤمنون به، والظنُّ هنا بمعنى اليقين واضح.
ونقل أبو البقاء أنه قُرِىء مشدَّداً مبنياً للفاعل، وأوَّلَه بأنَّ الرسل ظنُّوا أن الأمم قد كذَّبوهم. وقال الزمخشري: بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل «ولو قرىء بهذا مشدَّداً لكان معناه: وظنَّ الرسلُ أنَّ قومَهم كذَّبوهم في موعدهم» فلم يحفظها قراءةً وهي غريبة، وكان قد جَوَّز في القراءة المتقدمة أنَّ الضمائر كلَّها تعود على الرسل، وأن يعودَ الأولُ على المُرْسَل إليهم وما بعده على الرسل فقال: «وقرأ مجاهد» كَذَبوا «بالتخفيف على البناء للفاعل على: وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَبوا فيما حَدَّثوا به قومهم من النُّصْرة: إمَّا على تأويل ابن عباس، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يَرَوا لموعدهم أثراً قالوا لهم: قد كَذَبْتُمونا فيكونون كاذبين عند قومهم أو: وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أن الرسلَ قد كَذَبوا».
566
قوله: ﴿جَآءَهُمْ﴾ جوابُ الشرط وتقدَّم الكلامُ في «حتى» هذه: ما هي؟
قوله: ﴿فَنُجِّيَ﴾ قرأ ابن عامر وعاصم/ بنونٍ واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على أنَّه فعلٌ ماضٍ مبني للمفعول، و «مَنْ» قائمة مقام الفاعل. والباقون بنونين ثانيتهما ساكنةٌ، والجيم خفيفة، والياء ساكنة على أنه مضارع أنجى و «مَنْ» مفعولةٌ، والفاعل ضمير المتكلم نفسِه. وقرأ الحسنُ والجحدري ومجاهد في آخرين كقراءة عاصم، إلا أنهم سَكَّنوا الياء. والأجودُ في تخريجها كما تقدَّم، وسُكِّنَتْ الياءُ تخفيفاً كقراءة ﴿تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] وقد سُكِّن الماضي الصحيح فكيف بالمعتل؟ كقوله:
٢٨٣٥ -.................... قد خُلِطْ بجُلْجُلان
وتقدَّم معه أمثالُه. وقيل: الأصل: ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم وليس بشيء، إذ النونُ لا تُدْغم في الجيم. على أنه قد قيل بذلك في قوله ﴿نُنجِي المؤمنين﴾ [الأنبياء: ٨٨] كما سيأتي بيانه.
وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنهم فتحوا الياء. قال ابن عطية: «رواها ابنُ هبيرة عن حفص عن عاصم، وهي غلطٌ من ابن هبيرة» قلت: توهَّمَ ابن عطية أنه مضارع باقٍ على رفعه فأنكر فتحَ لامِه وغلَّط راويَها، وليس بغلط؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معاً مضارعٌ مقرونٌ بالفاء جاز فيه أوجهٌ أحدها: نصبُه بإضمار «أنْ» بعد الفاء وقد تقدَّم عند قولِه
{وَإِن تُبْدُواْ
567
مَا في أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: ٢٨٤] إلى أنْ قال: «فيغفر» قرىء بنصبه، وتقدم توجيهه، ولا فرق بين أن تكون أداةُ الشرط جازمة كآية البقرة أو غيرَ جازمة كهذه الآية. وقرأ الحسن أيضاً «فَنُنَجِّي» بنونين والجيم مشددة والياء ساكنة، مضارع نجى مشدداً للتكثير. وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم وأبو حيوة «فنجا» فعلاً ماضياً مخففاً و «مَنْ» فاعله.
ونقل الداني أنه قرأ لابن محيصن كذلك، إلا أنه شَدَّ الجيم والفاعل ضمير النصر، و «مَنْ» مفعوله، ورجَّح بعضُهم قراءة عاصم بأن المصاحف اتفقت على كَتْبها «فنجي» بنونٍ واحدة نقله الداني. وقد نقل مكي أنَّ أكثرَ المصاحفِ عليها، فأشعر هذا بوقوع خلافٍ في الرسل، ورُجِّح أيضاً بأنَّ فيها مناسبةً لِما قبلها من الأفعال الماضية وهي جاريةٌ على طريقةِ كلامِ الملوك والعظماء من حيث بناءُ الفعلِ للمفعول.
وقرأ أبو حيوة «يشاء» بالياء، وقد تقدَّم أنه يقرأ «فنجا» أي فنجا مَنْ يشاء اللَّه نجاته.
وقرأ الحسن «بأسَه»، والضمير للَّه، وفيها مخالفة يسيرةٌ للسواد.
568
وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث والكسائي في رواية الأنطاكي «قِصصهم» بكسر القاف وهو جمع قِصة، وبهذه القراءة رجَّح الزمخشري عَوْدَ الضمير في «قصصهم» في القراءة المشهورة على الرسل
568
وحدهم، وحكى أنه يجوز أن يعودَ على يوسُفَ وإخوته. وحكى غيرُه أنه يجوز أن يعودَ على الرسل وعلى يوسف وإخوته جميعاً. قال الشيخ: «ولا تَنْصُره يعني هذه القراءة إذا قصص يوسف وأبيه وإخوته مشتملٌ على قصصٍ كثيرة وأنباء مختلفة».
قوله: ﴿مَا كَانَ حَدِيثاً﴾ في «كان» ضميرٌ عائد على القرآن، أي: ما كان القرآنُ المتضمِّنُ لهذه القصة الغريبة حديثاً مختلفاً، وقيل: بل هو عائد على القصص أي: ما كان القصص المذكور في قوله «لقد كان في قَصَصِهم». وقال الزمخشري: «فإن قلت: فالإمَ يَرْجِع الضمير في ﴿مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى﴾ فيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى القرآن أي: ما كان القرآن حديثاً». قلت: لأنه لو عاد على «قِصصهم» بكسر القاف لوجب أن يكون «كانت» بالتاء لإِسناد الفعل حينئذ إلى ضمير مؤنث، وإن كان مجازياً.
قوله: ﴿ولكن تَصْدِيقَ﴾ العامَّةُ على نصب «تصديق»، والثلاثة بعده على أنها منسوقةٌ على خبر كان أي: ولكن كان تَصْدِيْقَ. وقرأ حمران بن أعين وعيسى الكوفي وعيسى الثقفي برفع «تصديق» وما بعده على أنها أخبار لمبتدأ مضمر أي: ولكن هو تصديق، أي: الحديث ذو تصديقٍ، وقد سُمع من العرب مثلُ هذا بالنصب والرفع، قال ذو الرمة:
569
٢٨٣٦ - وما كان مالي مِنْ تُراثٍ وَرِثْتُه ولا ديةً كانَتْ ولا كَسْبَ مأثمِ
ولكنْ عطاءَ اللَّه من كل رحلةٍ إلى كل محجوبِ السُّرادِقِ خِضْرَمِ
وقال لوط بن عبيد:
٢٨٣٧ - وإني بحمد اللَّه لا مالَ مسلمٍ أخذْتُ ولا مُعْطي اليمينِ مُحالِفِ
ولكنْ عطاء اللِّهِ مْنِ مالِ فاجرٍ قَصِيِّ المحلِّ مُعْوِرٍ للمَقارفِ
يُرْوى «عطاء اللَّه» في البَيتين منصوباً على «ولكن كان عطاء» ومرفوعاً على: ولكن هو عطاء اللَّه. وتقدَّم نظيرُ ما بقي من السورة فأغنى عن إعادته.
570
Icon