قد تقدَّم الكلامُ على هذا مشعباً، ولكنْ نَقَل الجرجانيُّ هنا أن «ألم» إشارةٌ إلى حروفِ المعجمِ كأنه يقول: هذه الحروفُ كتابُك أو نحوُ هذا، ويدلُّ: ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ [آل عمران: ٢-٣] على ما تَرَكَ ذِكْرَه من خبرِ هذه الحروفِ، وذلك في نَظْمِه مثلُ قولِه تعالى: ﴿أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ [الزمر: ٢٢] وتركَ الجوابَ لدلالةِ قولِه: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله﴾ [الزمر: ٢٢] عليه تقديرُه: كَمَنْ قسا قلبُه، ومنه قَولُ الشاعر:
١١٥٦ - فلا تَدْفِنوني إنَّ دَفْني مُحَرَّمٌ
عليكم ولكنْ خامِري أمُّ عامرِ
أي: ولكن اتركوني للتي يقال لها «خامري أم عامر». انتهى.
قال ابنُ عطية: يَحْسُن في هذا القول - يعني قولَ الجرجاني - أن
5
يكون «نَزَّل» خبرَ قولِه «الله» حتى يرتبطَ الكلامُ إلى هذا المعنى. قال الشيخ «وهذا الذي ذكره الجرجاني فيه نظرٌ، لأنَّ مُثُلَه ليست صحيحة الشبهِ بالمعنى الذي نحا إليه، وما قاله في الآية محتملٌ، ولكنَّ الأبرعَ في الآية أن» ألم «لا تَضُمُّ ما بعدها إلى نفسها في المعنى، وأن يكونَ قولُه: ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾ [آل عمران: ٢] كلاماً مبتدأً جزماً جملةً رادَّةً على نصارى نَجْران». قلت: هذا الذي ردَّه الشيخ على القاضي الجرجاني هو الذي اختاره الجرجاني وتبجَّج به، وجَعَله أحسنَ الأقوالِ التي حكاها في كتابه «نظم القرآن».
قوله تعالى: ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ : يجوزُ أَنْ تكون هذه الجملةُ خبَر الجلالة و «نَزَّل عليك» خبرٌ آخرُ، ويجوزُ أن تكونَ ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ معترضةً بين المبتدأ وخبرِه، ويجوزُ أن تكونَ حالاً. وفي صاحبها احتمالان، أحدهما: أن يكونَ الجلالةَ، والثاني: أن يكونَ الضميرَ في «نَزَّل» تقديره نزَّل عليكم الكتاب متوحِّداً بالربوبية. ذكره مكي. وأولُ الأقوال أَوْلاها.
وقرأ جمهورُ الناس: «ألمَ الله» بفتح الميم وإسقاطِ همزةِ الجلالةِ، واختلفوا في فتحةِ هذه الميم [علىأقوالٍ] أحدُها: أنها حركةُ التقاءِ ساكنين، وهو مذهبُ سيبويه وجمهورِ الناسِ. فإنْ قيلَ: أصلُ التقاءِ الساكنين الكسرُ فلِمَ عَدَلَ عنه؟ فالجوابُ أنهم لو كسروا لكانَ ذلك مُفْضِياً إلى ترقيقِ لامِ الجلالةِ والمقصودُ تفخيمُها للتعظيمِ فأُوثر الفتحُ لذلك. وأيضاً فقبلَ الميمِ ياءٌ وهي أختُ الكسرةِ، وأيضاً فقبل الياءِ كسرةٌ فلو كَسَرْنا
6
الميمَ الأخيرةَ لالتقاءِ الساكنينِ لتوالَى ثلاثةُ متجانساتٍ فحرَّكوها بالفتحِ كما حَرَّكوا في نحو «مِنَ الله»، وأمَّا سقوطُ الهمزةِ فواضحٌ وبسقوطها التقى الساكنان.
الثاني: أنَّ الفتحةَ لالتقاءِ الساكنين أيضاً، ولكنْ الساكنان هما الياء التي قبلَ الميمِ والميمُ الأخيرةُ، فحُرِّكت بالفتحِ لئلا يلتقي ساكنان، ومثلُه: أين وكيف وكَيْتَ وذَيْتَ وما أشبهه، وهذا على قولِنا إنه لم يُنْوَ الوقفُ على هذه الحروفِ المقطَّعة، وهذا بخلاِف القولِ الأولِ فإنّه مَنْوِيٌّ فيه الوقفُ على الحروفِ المقطَّعةِ فَسَكَنَتْ أواخُرها وبعدها ساكنٌ آخرُ وهو لامُ الجلالةِ، وعلى هذا القولِ الثاني ليس لإِسقاطِ الهمزةِ تأثيرٌ في التقاءِ الساكنين بخلافِ الأولِ فإنَّ التقاءَ الساكنينِ إنما نَشَأَ مِنْ حَذْفِها دَرْجاً.
الثالث: أنَّ هذه الفتحةَ ليسَتْ لالتقاء الساكنين، بل هي حركةُ نقل أي: نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ التي قبلَ لامِ التعريفِ على الميمِ الساكنةِ نحو: ﴿قَدَ أفلح﴾ [المؤمنون: ١] وهي قراءةُ ورشٍ وحمزةَ في بعض طُرُقه في الوَقْفِ وهو مذهبُ الفراء، واحتجَّ على ذلك بأن هذه الحروفَ النيةُ بها الوقفُ، وإذا كان النيةُ بها الوقفَ فَتَسْكُنُ أواخُرها، والنيةُ بما بعدها الابتداءُ والاستئنافُ، فكأنَّ همزةَ الوصلِ جَرَتْ مجرىهمزةِ القطعِ إذ النيةُ بها الابتداءُ وهي تَثْبُتُ ابتداءً ليس إلاَّ، فلمَّا كانت الهمزةُ في حكمِ الثابتةِ وما قبلها ساكنٌ صحيحٌ قابلٌ لحركتها خَفَّفوها بأَنْ ألقَوا حركتها على الساكنِ قبلها.
وقد رَدَّ بعضُهم قولَ الفراء بأنَّ وَضْع هذه الحروفِ على الوَقْف لا يُوجِبُ قَطْعَ ألفِ الوصلِ وإثباتها في المواضعِ التي تسقُط فيها، وأنتَ إذا
7
أَلْقَيْتَ حركتها على الساكنِ قبلَها فقد وَصَلْتَ الكلمةَ التي هي فيها بما قبلَها وإنْ كان ما قبلها موضوعاً على الوقفِ، فقولُك: «ألقيتُ حركته عليه» بمنزلة قولِك «وصلتُه» ألا ترى أنك إذا خَفَّفْتَ «مَنْ أَبوك» قلت: «مَنَ بُوك» فوصَلْتَ، ولو وقفْتَ لم تُلْقِ الحركةَ عليها، وإذا وصلْتَها بما قبلها لَزِم إسقاطِها، وكان إثباتُها مخالفاً لأحكامِها في سائِر متصرَّفاتها.
قلت: هذا الردُّ مردودٌ بأنَّ ذلك مُعَامَلٌ معاملة الموقوفِ عليه والابتداءُ بما بعده، لا أنه موقوفٌ عليه ومبتدأٌ بما بَعده حقيقةً حتى يَرُدَّ عليه بما ذكره. وقد قَوَّى جماعةٌ قولَ الفراءِ بما حكاه سيبويه مِنْ قولهم: «ثَلَثَهَرْبَعَة» والأصلُ: ثلاثة أربعة، فلمَّا وُقِف على «ثلاثة» أُبْدِلَتِ التاءُ هاءً كما هو اللغةُ المشهورةُ، ثم أُجْري الوصلُ مُجْرى الوقفِ، فَتَرَك الهاءَ على حالِها في الوصل، ثم نَقَل حركةَ/ الهمزةِ إلى الهاءِ فكذلك هذا.
وقد رَدَّ بعضُهم هذا الدليلَ، وقال: الهمزةُ في «أربعة» همزةُ قطعٍ، فهي ثابتةٌ ابتداءً ودَرْجاً، فلذلك نُقِلَتْ حركتُها بخلافِ همزةِ الجلالة فإنها واجبةُ السقوطِ فلا تستحقُّ نَقْلَ حركتها إلى ما قبلها، فليس وِزان ما نَحْن فيه.
قلتُ: وهذا من هذه الحيثيةِ صحيحٌ، والفرقُ لائحٌ؛ إلا أَنَّ حظَّ الفراء منه أنه أَجْرى فيه الوصلَ مُجْرى الوقفِ من حيث بقيت الهاءُ المنقلبةُ عن التاءِ وَصْلاً لا وقفاً واعتدَّ بذلك، ونَقَلَ إليها حركةَ الهمزةِ وإنْ كانَتْ همزةَ قطعٍ.
وقد اختار الزمخشري مذهبَ الفراء، وسَأَلَ وأجابَ فقال: «ميم حقُّها أن يُوقَفَ عليها كما يُوقَفُ على ألف ولام، وأَنْ يُبتدأ ما بعدها كما تقول: واحدْ إثنان، وهي قراءةُ عاصم، وأمَّا فتحُها فهي حركةُ الهمزةِ أُلْقِيَتْ عليها حين
8
أُسْقِطَتْ للتخفيفِ. فإنْ قلت: كيف جازَ إلقاءُ حركتِها عليها وهي همزةُ وصلٍ، لا تَثْبُتُ في دَرْجِ الكلام فلا تَثْبُتُ حركتُها لأنَّ ثباتَ حركتِها كثباتِها؟ قلت: هذا ليسَ بدَرْجٍ، لأنَّ ميم في حكمِ الوَقْف والسكونِ، والهمزةُ في حكمِ الثابتِ، وإنما حُذفت تخفيفاً، وأُلْقِيَتْ حركتُها على الساكنِ قبلَها لتدلَّ عليها، ونظيره:» واحدِ اثنان «بإلقائهم حركةَ الهمزةِ على الدالِ».
قال الشيخ: «وجوابُه ليس بشيءٍ لأنه ادَّعى أنَّ الميمَ حين حُرِّكتْ موقوفٌ عليها، وأن ذلك ليس بدَرْجٍ؛ بل هو وقفٌ، وهذا خلافُ ما أَجْمعت عليه العربُ والنحاةُ من أنه لا يُوقف على متحركٍ البتةَ سواءً كانت حركتُه إعرابيةً أم بنائيةً أم نقليةً أم لالتقاءِ الساكنين أم للإِتباع أم للحكايةِ، فلا يجوزُ في» قد أفلح «إذا حَذَفْتَ الهمزة ونَقَلْتَ حركتها إلى دالِ» قد «أَنْ تَقِفَ على دال» قد «بالفتحةِ، بل تُسَكِّنها قولاً واحداً. وأمَّا قوله:» ونظيرُ ذلك «» واحدِ اثنان «بإلقاءِ حركة الهمزة على الدالِ، فإنَّ سيبويه ذكر أنهم يُشِمُّونَ آخر» واحدٍ «لتمكُّنِه، ولم يَحِكْ الكسرَ لغةً، فإنْ صَحَّ الكسرُ فليس» واحد «موقوفاً عليه كما زعم الزمخشري، ولا حركتُه حركةُ نقلٍ من همزة الوصلِ، ولكنه موصولٌ بقولِهم: اثنان، فالتقى ساكنان: دالُ واحد وثاءُ اثنين فكُسِرتِ الدالُ لالتقاءِ الساكنين، وحُذِفتْ همزةُ الوصل لأنها لا تَثْبُتُ في الوصل».
قلت: ومتى ادَّعى الزمخشري أنه يُوقف على ميم مِنْ: ألف لام ميم وهي متحركةٌ، حتى يُلْزِمَه بمخالفةِ إجماعِ العربِ والنحاةِ، وإنما ادَّعى الرجلُ أن هذا في نيةِ الموقوفِ عليه قبلَ تحريكِه بحركة النقلِ، لا أنه نُقِل إليه، ثم
9
وُقِف عليه، وهذا لم يَقُلْه البتةَ ولم يَخْطُرْ له، ثم قال الزمخشري: «فإنْ قلت: هَلاَّ زعمتَ أنها حركةٌ لالتقاء الساكنين. قلت: لأنَّ التقاءَ الساكنين لا يُبالى به في بابِ الوقف، وذلك قولك: هذا إبراهيمُ وداود وإسحاق، ولو كان التقاء الساكنين في حالِ الوقفِ بوجِبُ التحريكَ لحُرِّكَ الميمان في ألف لام ميم لالتقاء الساكنين ولَما انتُظر ساكنٌ آخرُ».
قال الشيخ: «وهو سؤالٌ صحيحٌ وجوابٌ صحيحٌ، لكن الذي قال:» إنَّ الحركةَ هي لالتقاءِ الساكنين «لا يَتَوَهَّم أنه أرادَ التقاء الياء والميم من» ألم «في الوقفِ، وإنّما عَنَى التقاءَ الساكنين اللذيْن هما ميم ميم الأخيرة ولامُ التعريف كالتقاءِ نون» مِنْ «ولامِ الرجل إذا قلت: من الرجل». قلت: هذا الوجهُ هو الذي قَدَّمُتْه عن بعضهم وهو مكيٌّ وغيرُه.
ثم قال الزمخشري: «فإنْ قلت: إنما لم يُحَرِّكوا لالتقاء الساكنين في ميم؛ لأنهم أرادوا الوقفَ وأَمْكنهم النطقُ بساكنين، فإذا جاء ساكنٌ ثالثٌ لم يكن إلا التحريكُ فحرَّكوا. قلت: الدليلُ على أنَّ الحركةَ ليست لملاقاة الساكنِ أنه كان يمكِنُهم أَنْ يقولوا: واحدْ اثنان بسكونِ الدالِ مع طَرْحِ الهمزةِ فجمعوا بين ساكنين كما قالوا:» أُصَيْمٌّ «و» مُدَيْقٌّ «فلمّا حَرَّكوا الدالَ عُلِم أّنَّ حَرَكَتها هي حركةُ الهمزةِ الساقطة لا غيرُ، وأنها ليسَتْ لالتقاءِ ساكنين».
قال الشيخ: «وفي سؤاله تعميةٌ في قوله:» فإنْ قلتَ: لم يُحَرِّكوا
10
لالتقاءِ الساكنين «ويَعْني بالساكنين: الياء والميم، وحينئذٍ يجيءُ التعليلُ بقولِه:» لأنهم أردوا الوقفَ وأمكَنهم النطقُ بساكنين «يعني الياء والميم. ثم قال:» فإذا جاء ساكنٌ ثالثٌ يعني لامَ التعريف لم يكُنْ إلا التحريكُ يعني في الميم، فحرَّكوا يعني الميم لالتقائِها ساكنةً مع لامِ التعريفِ، إذ لو لم يحرِّكوا لاجتمعَ ثلاثةُ سواكنَ وهو لا يمكنُ. هذا شرحُ السؤال، وأمَّا جوابُ الزمخشري عن سؤالِه فلا يُطابق، لأنه استدلَّ على أنَّ الحركةَ ليسَتْ لملاقاةِ ساكنٍ بإمكانيةِ الجَمْعِ بين ساكنين في قولهم: واحدْ اثنان بأَنْ سكَّنوا الدالَ والثاءُ ساكنةٌ وتسقطُ الهمزةُ، فعدَلوا عن هذا الإمكان إلى نقلِ حركةِ الهمزةِ على الدال، وهذه مكابرةٌ في المحسوسِ لا يمكنُ ذلك أَصْلاً، ولا هو في قدرةِ البشر أن يَجْمعوا في النطقِ بين سكونِ الدالِ وسكونِ الثاء وطرحِ الهمزة.
وأمّا قوله: «فجَمعوا بين ساكنين» فلا يُمكن الجَمْعُ كما قلناه. وأمّا قوله كما قالوا: «أُصَيْمُّ ومُدَيْقٌّ» فهذا ممكنٌ، كما هو في: رادٌّ وضالٌّ؛ لأنَّ في ذلك التقاءَ الساكنين: على حدِّهما المشروطِ في النحوِ فَأَمْكَنَ ذلك، وليس مثلَ «واحدْ اثنان» ؛ لأنَّ الساكنَ الأولَ ليسَ حرفَ مد ولا الثاني مدغمٌ فلا يمكنُ الجمعُ بينهما. وأمَّا قولُه «فلمَّا حركوا الدالَ عُلِمَ أَّنَّ حركتها هي حركةُ الهمزةِ الساقطةِ لا غيرُ وليسَتْ لالتقاءِ الساكنين» لَمَّا بَنى على أنَّ الجمعَ بين الساكنين في «واحدْ اثنان» ممكنٌ، وحركةُ التقاءِ السكانين إنما هي فيما لا يمكِنُ أن يجتمعا فيه في اللفظ، ادَّعى أنَّ حركةَ الدالِ هي حركةُ الهمزةِ الساقطةِ.
قلت: هذا الذي رَدَّ به عليه صحيحٌ، وهو معلومٌ بالضرورة إذ لا يمكن النطقُ بما ذَكَر. وقد انتصر بعضُهم لرأي الفرَّاء واختيارِ الزمخشري بأنَّ هذه الحروفَ جيء بها لمعنًى في غيرها كما تقدَّم في أولِ البقرة عند بعضهم
11
فأواخِرها موقوفةٌ، والنيةُ بما بعدها الاستئنافُ، فالهمزةُ في حكمِ الثَّباتِ كما في أنصاف الأبيات كقول حسان:
١١٥٧ - لَتَسْمَعَُنَّ وشيكاً في ديارِهُمُ
أللهُ أكبرُ يا ثاراتِ عثمانا
ورجَّحَهُ بعضُهم أيضاً بما حُكي عم المبردِ أنه يجيز: «الله أكبرَ الله أكبر» بفتحِ الراء الأولى قال: «لأنهم في نيةِ الوقف على» أكبر «والابتداءِ بما بعده، فلمَّا وصلوا مع قَصْدِهم التنبيهَ على الوقفِ على آخرِ كلِّ كلمةٍ من كلماتِ التكبير نقلوا حركةَ الهمزةِ الداخلةِ على لام التعريف إلى الساكنِ قبلها التفاتاً لما ذَكَر من قصدهم، وإذا كانوا قد فَعَلوا ذلك في حركاتِ الإعرابِ وأتوا بغيرها مع احتياجهم إلى الحركةِ مِنْ حيثُ هي فلأنْ يفعلوا ذلك فيما كان موقوفَ الأخيرِ من بابٍ أَوْلى وأَحْرى.
الرابع: أن تكونَ الفتحةُ فتحةَ إعرابٍ على أنه مفعولٌ بفعلٍ مقدر أي: اقرؤوا ألم، وإنما منعه من الصرفِ للعلَمِيَّةِ والتأنيثِ المعنوي إذا أُريد به اسمُ السورة نحو: قرأت هود، وقد قالوا هذا الوجهَ بعيِنِه في قراءةِ مَنْ قرأ:» صادَ والقرآن «بفتحِ الدال، فهذا يجوزُ أن يكونَ مثلَه.
الخامس: أنَّ الفتحةَ علامةُ الجر والمرادُ بألف لام ميم أيضاً السورةُ، وأنها مُقسَمٌ بها، فَحُذِفَ حرفُ القسم وبقي عملُه امتنعَ من الصرفِ لِمَا تقدَّم، وهذا الوجهُ أيضاً مقولٌ في قراءةِ مَنْ قرأ: صادَ بفتح الدال، إلا أنَّ
12
القراءةَ هناك شاذةٌ وهنا متواترةٌ، والظاهرُ أنها حركةُ التقاءِ الساكنين؛ كماهو مذهبُ سيبويه وأتباعِه.
السادس: قال ابن كيسان:» ألفُ الله، وكلُّ ألفِ مع لامِ التعريف ألفُ قطْعٍ بمنزلة «قد»، وإنما وُصِلَتْ لكثرة الاستعمالِ، فَمَنْ حَرَّك الميمَ ألقى عليها حركةَ الهمزةِ التي بمنزلةِ القاف من «قد» من «الله» ففتحها بفتحةِ الهمزةِ، نقله عنه مكي.
فعلى هذا هذه حركةُ نقلٍ من همزةِ قطع، وهذا المذهبُ هو مشهورٌ عن الخليلِ بن أحمد، حيث يَعْتقد أنَّ التعريف حَصَلَ بمجموعِ «أل» كالاستفهامِ يَحْصُل بمجموع هل، وأنَّ الهمزةَ ليست مزيدةً، لكنه مع اعتقادِه ذلك يوافِقُ على سقوطها في الدَّرْج إجراءً لها مُجْرى همزة الوصل لكثرة الاستعمالِ، ولذلك قد ثبتَتْ ضرورةً، لأنَّ الضرورةَ تَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها. وللبحثِ في ذلك مكانٌ هو أليقُ به منه منا.
ولَمَّا نَقَل أبو البقاء هذا القولَ ولم يَعْزُه قال: «وهذا يَصِحُّ على قولِ مَنْ جَعَل أداةَ التعريف» أل «يعني الخليل لأنه هو المشهورُ بهذه المقالةِ. وقد تقدَّم النقلُ عن عاصم أنه يقرأ بالوقف على ميم، ويبتدىء بالله لا إله إلا هو، كما هو ظاهرُ عبارةِ الزمخشري عنه، وغيرُه يَحْكي عنه أنه يُسَكِّنُ الميمَ ويقطَعُ الهمزةَ من غير وقفٍ منه على الميم، كأنه يُجْري الوصلَ مُجْرى الوقفِ، وهذا هو الموافقُ لغالبِ نقلِ القُرَّاء عنه.
13
وقرأ عمرو بن عبيد فيما نَقَل الزمخشري، والرؤاسي فيما نَقَل ابن عطية، وأبو حيوة:» المِ الله «بكسرِ الميم. قال الزمخشري:» وما هي بمقبولةٍ «والعجبُ منه كيف تَجرَّأَ على عمرو بن عبيد وهو عندَه معروفُ المنزلة، وكأنه يريد وما هي مقبولةً عنه أي: لم تَصِحَّ عنه، وكأن الأخفش لم يَطَّلِعَ على أنها قراءةً فقال:» لو كُسِرَتْ الميمُ لالتقاءِ الساكنين فقيل: «ألمِ الله» لجاز «.
قال الزجاج:» وهذا غلطٌ من أبي الحسن، لأنَّ قبلَ الميمِ ياءً مكسوراً ما قبلها فحقُّها الفتحُ لالتقاءِ الساكنين لِثقَل الكسرِ مع الياء، وهذا وإنْ كان كما قاله، إلاَّ أنَّ الفارسيّ انتصر لأبي الحسن، وردَّ على أبي إسحاق رَدَّه فقال: «كسرُ الميمِ لو وَرَدَ بذلك سماعُ لم يَدْفَعْه قياسٌ، بل كان يُثْبته ويُقَوِّيه لأنَّ الأَصلَ في التحريكِ لالتقاءِ الساكنين الكسرُ، وإنما يُبْدَلُ إلى غير ذلك لما يَعْرِضُ من علةٍ وكراهةٍ، فإذا جاء الشيء على بابه فلا وجه لردِّه ولا مساغَ لدَفْعِه، وقولُ أبي إسحاق» إنَّ ما قبلَ الميم ياءٌ مكسورٌ ما قبلها فَحقُّها الفتحُ «منقوضٌ بقولِهم:» جَيْرِ «و» كان من الأمر ذَيْتِ وذِيْتِ وكَيْتِ وكِيْتِ «فَحُرِّك الساكنُ بعد الياءِ بالكسرِ، كما حُرِّكَ بعدَها بالفتحِ في» أَيْنَ «، وكما جاز الفتحُ بعد الياء في قولهم:» أَيْنَ «كذلك يجوز الكسرُ بعدها كقولهم جَيْر، ويدلُّ على جوازِ التحريكِ لالتقاءِ الساكنين بالكسرِ فيما كان قبله ياءٌ جوازٌ تحريكه بالضم نحو قولِهم: حيثُ، وإذا جازَ الضمُّ كان الكسرُ أجوزَ وأسهلَ.
قوله تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ : العامَّةُ على التشديدِ في «نَزَّل» ونصبِ «الكتاب». وقرأ الأعمش والنخعيّ وابن أبي عبلة: نَزَلَ بتخفيف الزاي ورفعِ الكتاب، فأمّا القراءة الأولى فقد تقدَّم أن هذه الجملةَ/ يُحتمل أن تكونَ خبراً وأن تكونَ مستأنفةً. وأمّا القراءةُ الثانيةُ فالظاهرُ أنَّ الجملة فيها مستأنفةٌ، ويجوزُ أن تكونَ خبراً، والعائدُ حينئذٍ محذوفٌ، تقديرُه: نَزَل الكتابُ من عنده.
قوله: ﴿بالحق﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أن تتعلَّق الباءُ بالفعل قبلها والباءُ حينئذٍ للسببية، أي: نَزَّله بسبب الحق. والثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ: إمَّا من الفاعلِ أي: نَزّله مُحِقّاً، أو من المفعولِ أي: نَزَّله ملتبساً بالحقِّ نحو: جاء بكرٌ بثيابه أي: ملتبساً بها.
وقال مكيّ: «ولا تتعلَّقُ الباءُ بنَزَّلَ لأنه قد تَعَدَّى إلى مفعولين، أحدُهما بحرفٍ فلا يتعدى إلى ثالثٍ» وهذا الذي ذَكَرَه مكيٌّ غيرُ ظاهر، فإنَّ الفعلَ يتعدَّى إلى متعلِّقاته بحروفٍ مختلفة على حَسَب ما يكونُ، وقد تقدم أنَّ معنى الباء السببيةُ، فأيُّ مانع يمنع من ذلك؟.
قوله: ﴿مُصَدِّقاً﴾ فيه أوجه، أحدُهما: أَنْ يَنْتَصِبَ على الحالِ من «الكتاب»، فإنْ قيل إنَّ «بالحق» حالٌ كانَتْ هذه حالاً ثانية عند مَنْ يُجيز تعدُّد الحالِ، وإنْ لم يُقَلْ ذلك كانت حالاً أولى. والثاني: أن ينتصِب على الحالِ على سبيلِ البدلية من محلِّ «بالحق» وذلك عند مَنْ يمنعُ تعدُّد الحالِ في غير عطفٍ ولا بدلية. الثالث: أن ينتصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في «بالحق» إذا جعلناه حالاً، لأنه حينئذٍ يتحمَّلُ ضميراً لقيامِه مقامَ الحالِ التي
15
تتحمَّلُه، وتكونُ حالاً متداخلةً أي: إنها حالٌ من حال، وعلى هذه الأقوال كلِّها فهي حالٌ مؤكِّدةٌ، لأنه لا يكون إلا كذلك، فالانتقال غيرُ متصوَّرٍ فيه، وهو نظير قوله:
١١٥٨ - أنا ابنُ دارةَ معروفاً بها نسبي
وهَلْ بدارَةَ يا لَلْناسِ مِنْ عارِ
قوله: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ مفعولٌ لمصدِّقا، وزيدت اللامُ في المفعول تقويةً للعامل لأنه فرعٌ، إذ هو اسمُ فاعل كقوله تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧] وإنما ادَّعْينا ذلك لأنَّ هذه المادةَ متعدِّية بنفسِها.
قوله: ﴿التوراة والإنجيل﴾ اختلفَ الناسُ في هاتين اللفظتين: هل يَدْخُلُهما الاشتقاق والتصريف أم لا يدخلانِهما لكونِهما؟ أعجميين؟ فذهب جماعةٌ كالزمخشري وغيرُه إلى الثاني. قالوا: لأنَّ هذين اللفظين اسمان عِبرانيَّان لهذينِ الكتابَيْنِ الشريفين. قال الزمخشري: «وتَكَلُّفُ اشتقاقِهِما من الوَرَىْ والنَّجْل، ووزنُهما بتَفْعِلة وإفْعِيل إنما يَثْبُتُ بعد كونهما عربيين». [قال الشيخ: «وكلامُه صحيح، إلا أن فيه استدراكاً وهو قوله: تَفْعِلَة، ولم يذكُرْ مذهب البصريين] وهو أنَّ وزنَها فَوْعَلة، ولم ينبِّه على تَفْعِلَة: هل هي بكسر العين أو فتحها» قلت: لم يَحْتج إلى التنبيه لشهرتِهما، وإنما ذكر المستغربَ.
ويؤيدُ ما قاله الزمشخري من كونها أعجميةً ما نقله الواحدي،
16
وهو أنَّ التوراة والإِنجيل والزبور سريانيةُ فَعَرَّبوها قال: «ولذلك يقولون فيها بالسريانية: تُوري ايكليونُ زَفوتا» فعرَّبوها إلى ما ترى.
ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا: فقال بعضُهم: التَوْرَاة مشتقة من قولهم: ورِي الزَّنْدُ إذا قَدَح فظهرَ منه نارٌ. يقال «وَرِيَ الزَّنْدُ» و «أَوْرَيْتُه أنا». قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ﴾ [الواقعة: ٧١] فثلاثيُّهُ قاصرٌ ورباعيةُ متعدٍّ. وقال تعالى: ﴿فالموريات قَدْحاً﴾ [العاديات: ٢]، ويقال أيضا: «وَرَيْتُ بكل زِنادي» فاستُعْمِلَ الثلاثيُّ متعدياً، إلا أن المازني يزعم أنه لا يُتجاوز به هذا اللفظ، يعني فلا يُقاس عليه، فيقال: «وَرَيْتُ النارَ» مثلاً. إذا تقرر ذلك فلما كانت التوراة فيها ضياءٌ ونورٌ يُخْرَجُ به من الضلال [إلى] الهدى، كما يُخْرَج بالنور من الظلام إلى النور سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة، وهذا هو قولُ الفراء، وهو مذهبُ جمهور الناس.
وقال آخرون: بل هي مشتقةٌ من «وَرَّيْتُ في كلامي» من التورية وهي التعريض. وفي الحديث: «كان إذا أراد سفراً وَرَّى بغيره» وسُمِّيَت التوراة بذلك لأنَّ أكثَرها تلويحاتٌ ومعاريضُ، وإلى هذا ذهبَ المؤرج السدوسي وجماعة.
وفي وزنها ثلاثةُ أقوالٍ أحدُها: وهو قولُ الخليل وسيبويه أن
17
وزنَها فَوْعَلَة، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو: الدَّوْخَلة والقَوْصرة والدَّوْسَرة والصَّوْمَعَة، والأصل: وَوْرَيَة بواوين، لأنها إمَّا من وَرِي الزَّنْدُ، وإمَّا من وَرَيْتُ في كلامي، فأُبدلت الواو الأولى تاءً وتحرَّك حرفُ العلةِ وانفتح ما قبلَه فقُلب ألفاً فصار اللفظُ: تَوْرَاة كما ترى، وكُتبت بالياءِ مُنْبَهَةً على الأصل، كما أُميلت لذلك، وقد أَبْدَلتْ العربُ التاءَ من الواو في ألفاظ نحو: تَوْلَج وتَيْقور وتُخَمَة وتُكَأَة وتُراث وتُجاه وتُكْلان من: الوُلوج والوَقار والوَخَامة والوِكاء والوِراثة والوَجْه والوَكالة. ونظيرُ إبدال الواو تاءً في التوراة إبدالُها أيضاً في قولهم لِما تَراه المرأة في الطهر بعد الحيض: «التَّرِيَّة» هي فَعِيْلَة من لفظ الوراء لأنها تُرى بعد الصُّفْرَة والكُدْرَة.
الثاني: وهو قولُ الفراء أن وزنَها تَفْعِلَة بكسر العين، فأُبْدِلَت الكسرةُ فتحةً، وهي لغةٌ طائية، يقولون في الناصية: ناصَاة، وفي بَقِي: بَقَى قال الشاعر:
١١٥٩ -....................... بحِرْبٍ كناصاة الأغَرِّ المُشَهَّرِ
وقال آخر:
١١٦٠ -..........................
18
نفوساً بُنَتْ على الكَرَمِ
وأنشد الفراء:
١١٦١ - وما الدنيا بباقاةٍ علينا
وما حيٌّ على الدنيا بباقٍ
وقد ردَّ البصريون ذلك بوجهين، أحدُهما: أنَّ هذا البناءَ قليلٌ جداً أعني بناءَ تَفْعِلة بخلاف فَوْعَلة فإنه كثير، فالحَمْلُ على الأكثر أولى. والثاني: أنه يلزمُ منه زيادةُ التاءِ أولاً والتاء لم تُزَدْ أولاً إلا في مواضِعَ ليس هذا منها بخلافِ قَلْبِها في أولِ الكلمة فإنه ثابت، وذلك أنَّ الواو إذا وَقَعَتْ أولاً قُلِبَتْ: إمَّا همزةً نحو: أُجوه وأُقِّتَتْ وأَحَدَ وأَناة وإشاح وإعاء في: وجوه ووُقِّتَتْ ووَحَدَ ووَنَاة ووِشاح ووِعاء، وإمَّا تاء نحو: تُجاه وتُخَمة.
.. الخ، فاتِّباع ما عَهِدَ أولى من اتِّباع ما لم يُعْهَدُ.
الثالث: أنَّ وزنَها تَفْعَلَة بفتحِ العين وهو مذهبُ الكوفيين، كما يقولون في: تَتْفُلة بالضمِّ/ تَتْفَلَة بالفتح، وهذا لا حاجة إليه وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها.
وأمال التوراةَ حيث وردَتْ في القرآن إمالة مَحْضَة أبو عمرو والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وأمالها بينَ بينَ حمزةُ وورش عن نافع، واختُلف عن قالون: فرُوِيَ عنه بينَ بينَ والفتحُ، وقرأها الباقون بالفتح فقط. وَوَجْهُ الإِمالة إن قلنا بأنَّ ألفَها منقلبةٌ عن ياء ظاهرٌ، وإنْ قلنا إنها أعجمية لا اشتقاق لها فوجهُ الإِمالة شبهُ ألفها لألف التأنيث من حيث وقوعُها رابعةً فسببُ إمالتها: إمَّا الانقلابُ وإما شبهُ ألفِ التأنيثِ.
19
والإِنجيل: قيل: إفعيل كإجْفيل. وفي وزنه أقوال، أحدها: أنه مشتقٌّ من النَّجْل وهو الماء الذي يَنُزُّ من الأرض ويَخْرُج منها، ومنه: النَّجْلُ للولد، وسُمِّي الإِنجيل لأنه مستخرجٌ من اللوح المحفوظ. وقيل: من النَّجْل وهو الأصلُ، ومنه «النَّجْلُ» للوالدِ فهو من الأضداد، إذ يُطْلق على الولد والوالد، قال الأعشى:
١١٦٢ - أَنْجَبَ أيَّامُ والِداهُ به
إذ نَجَلاه فنِعْمَ ما نَجَلا
وقيل: من النَّجَل وهو التوسِعَة، ومنه: العَيْنُ النجلاءُ لسَعَتها، وسُمِّي الإِنجيلُ بذلك؛ لأن فيه توسعةً لم تَكن في التوراة، إذ حُلِّل فيه أشياءُ كانت مُحَرَّمةً.
وقيل: هو مشتقٌّ من التَناجل وهو التنازُع، يقال: تَنَاجل الناسُ أي: تنازعوا، وسُمِّي الإِنجيلُ بذلك لاختلاف الناسِ فيه قاله أبو عمرو الشيباني.
والعامَّةُ على كَسْرِ الهمزةِ من «إنجيل». وقرأ الحسنُ بفتحِها. قال الزمخشري: «وهذا يَدُلُّ على أنه أعجمي لأنَّ» أفعيلا «بفتح الهمزة عديمٌ في أوزان العرب». قلت: بخلاف إفعيل بكسرها فإنه موجود نحو: إِجْفيل وإخْريط وإصْليت.
20
وفَرَّق الزمخشري بين «نَزَّل» و «أنزل» على عادتِه فقال: «فإنْ قلت: لِمَ قيل: نَزَّل الكتابَ، وأنزل التوراة والإِنجيل؟ قلت: لأن القرآن نَزَل منجَّماً ونَزَل الكتابان جملةً». قال الشيخ: «قد تقدَّم الردُّ عل هذا القول في البقرة، وأنَّ التعديةَ بالتضعيف لا تَدُلُّ على التكثير ولا على التنجيم، وقد جاء في القرآن: أَنْزَل ونَزَّل، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر﴾ [النحل: ٤٤] و ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ [آل عمران: ٣] ويدلُّ على أنهما بمعنى واحد قراءةُ مَنْ قرأ ما كان من» يُنَزِّلُ «مشدداً بالتخفيف إلا ما استُثْنِيَ، ولو كان أحدُهما يدلُّ على التنجيم والآخر على النزولِ دفعةً واحدةً لتناقض الإِخبار وهو مُحالٌ». قلت: وقد سَبَقَ الزمخشري إلى هذا الفرقِ بعينِه الواحديُّ.
قوله تعالى: ﴿مِن قَبْلُ﴾ : متعلِّقٌ بأَنْزَل، والمضافُ إليه الظرفُ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرهُ: مِنْ قبلِك ِأو من قبلِ الكتاب. والكتابُ غَلَب على القرآن كالثريا. وهو في الأصْلِ مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي: المكتوبَ، وذكَر المنزَّلَ في قوله «نَزَّل عليك» ولم يذكره في قوله: ﴿وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل﴾ تشريفاً لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: ﴿هُدًى﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المفعولِ من أجله، والعاملُ فيه أنْزَل أي: أَنْزَلَ هذين الكتابين لأجلِ هداية. ويجوز أن يكونَ متعلقاً من حيث المعنى بنَزَّلَ وأنزل معاً، وتكونُ المسألةُ من بابِ التنازع على إعمال الثاني، والحذفُ من الأولِ تقديرُه: نَزَّلَ عليك له أي: للهدى،
21
فَحَذَفَه، ويجوزُ أَنْ يتعلَّق بالفعلين معاً تعلُّقاً صناعياً لا على وجه التنازع، بل بمعنى أنه علةً للفعلين معاً، كما تقول: «أكرمْتُ زيداً وضربْتُ عمراً إكراماً لك» يعني أن الإكرام علةٌ للإِكرامِ وللضرب.
والثاني: ان ينتصِبَ على الحالِ من التوراةِ والانجيلِ، ولم يُثنَّ لأنه مصدرٌ وفيه الأوجُه المشهورةُ من حَذْف المضافِ أي: ذوي هدىً أو على المبالغةِ بأَن جُعِلا نفسَ الهُدَى أو على جَعْلِهما بمعنى هاديين. وقيل: إنه حال من الكتاب والتوارة والإِنجيل، وقيل: حالٌ من الإِنجيل فقط وحُذِف مِمَّا قبله لدلالة هذا عليه. وقال بعضُهم: تَمَّ الكلامُ عند قولِه تعالى: ﴿مِن قَبْلُ﴾ فَيُوقَفُ عليه ويُبْتَدَأُ قولِه ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان﴾ أي: وأَنْزَل الفرقانَ هدىً للناس. وهذا التقديرُ غيرُ صحيحٍ لأنه يُؤدِّي إلى تقديم المعمولِ على حرفِ النسقِ وهو ممتنعٌ، لو قلت: «قام زيد مكتوفةً وضُرِبَتْ هندٌ» تعني: «وضُرِبَت هند مكتوفةً» لم يَصِحَّ البتة فكذلك هذا.
قوله: ﴿لِّلنَّاسِ﴾ يُحْتمل أن يتعلَّقَ بنفسِ «هُدَى» لأنَّ هذه المادة تتعدَّى باللامِ كقولِه تعالى: ﴿يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩] وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لهدىً.
قوله: ﴿وَأَنزَلَ الفرقان﴾ يُحْتَمل أن يرادَ به جميعُ الكتب السماوية، ولم يُجمع لأنه مصدرٌ بمعنى الفَرْق كالغفران والكفران، وهو يَحْتملُ أن يكونَ مصدراً واقعاً موقع الفاعلِ أو المفعول والأولُ أظهرُ. وقال الزمخشري: «أو كَرَّر/ ذِكْرَ القران بما هو نعتٌ له ومُدِحَ مِنْ كونِه فارقاً بين الحقِّ والباطل بعد ما ذكَره باسم الجنس تعظيماً لشأنِه وإظهاراً لفضلِه». قلت: قد يعتقد معتقدٌ
22
أنّ في كلامِه هذا رَدَّاً لقولِه الأول حيث قال: «إن» نَزَّل «يقتضي التنجيم و» أنزل «يقتضي الإنزال الدَّفْعيَّ، لأنه جَوَّز أن يُراد بالفرقان القرآنُ، وقد جاء معه» أنزل «، ولكن لا ينبغي أَنْ يُعْتَقد ذلك لأنه لم يَقُل: إنَّ» أَنْزل «للإِنزال الدفعيِّ فقط، بل يقول إن» نَزَّل «بالتشديد يقتضي التفريق و» أَنْزل «يحتمل ذلك ويَحْتمل الإنزالَ الدفعيَّ.
قوله: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ﴾ يَحْتمل أنْ يرتفع» عذابٌ «بالفاعليةِ بالجارِّ قبلَه لوقوعه خبراً عن» إنَّ «، ويُحْتمل أن يرتفع على الابتداء، والجملةُ خبرٌ» إنَّ «والأولُ أَوْلَى، لأنه من قبيلِ الإِخبار بما يَقْرُبُ من المفردات. وانتقام: افتعال من النِّقْمة وهي السَّطْوَةُ والتسلطُ، ولذلك عَبَّر بعضُهم عنها بالمعاقبة يقال: نَقَم ونَقِمَ، بالفتح وهو الأفصحُ وبالكسرِ، وقد قُرىء بهما، وسيأتي مزيدٌ بيانٍ في المائدة.
قوله تعالى: ﴿فِي الأرحام﴾ : يجوزُ أن يتعلَّق بَيُصَوِّرُكم وهو الظاهُر، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من مفعولِ «يُصَوِّركم» أي: يُصَوِّركم وأنتم في الأرحامِ مُضَغُ.
وقرأ طاووس: «تَصَوَّركم» فعلاً ماضياً ومعناه صَوَّركم لنفسِه ولتعبُّدِه، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعَّل كقولهم: «تأثَّلْثُ مالاً وأثَّلته» أي جعلتُه أَثْلَةً أي أصلاً، ونحُوه: وَلَّى وتَوَلَّى. والتصويرُ: تَفْعِيل من صارَه يَصُوره أي: أماله وثَنَاه، ومعنى صَوَّره أي: جعل له صورةً. والصورة: الهيئة يكون عليها الشيءُ من تأليفٍ خاصٍ وتركيبٍ منضبطٍ.
23
قوله: ﴿كَيْفَ يَشَآءُ﴾ في هذه الآية أوجهٌ، أظهُرها: أن «كيف» للجزاءِ، وقد جُوزي بها في لسانهم في قولِهم: «كيفَ تَصْنَعُ أصنعُ، وكيف تكونَ أكونُ» إلا أنه لا يجزم بها، وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ ما قبلَها، وكذلك مفعولٌ «يشاء» لِما تقدَّم أنه لا يُذْكَرُ إلا لغرابةٍ، والتقديرُ: كيف يشاء تصويرَكم يصوِّرُكم، فَحُذِف «تصويركم» لأنه مفعولُ يشاء، و «يصوركم» لدلالة «يصوركم» الأول عليه، ونظيره قولُهم: «أنت ظالم إنْ فعلْتَ» تقديره: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم. وعند مَنْ يُجيز تقديمَ الجزاء في الشرط الصريح يَجْعَلُ «يصوِّركم» المتقدم هو الجزاء.
و «كيف» منصوبٌ على الحال بالفعلِ بعدَه، والمعنى: على أيِّ حال شاءَ أنْ يُصَوِّركم صوَّركم، وتقدَّم الكلام على ذلك في قولِه: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٨]. ولا جائزٌ أن تكون «كيف» معمولةً ليُصَوِّركم لأنَّ لها صدرَ الكلام، وما له صدُر الكلام لا يعملُ فيه إلا أحدُ شيئين: إمَّا حرفُ الجر نحو: بمَنْ تمر؟ وإمَّا المضافُ نحو: «غلامُ مَنْ عندك؟» الثاني: أن تكون «كيف» ظرفاً ليشاء، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير اسم الله تعالى تقديرُه: يصوِّركم على مشيئة أي مريداً. الثالث: كذلك إلا أنه حالٌ من مفعول «يصوِّركم» تقديرُه: يصوركم متقلبين على مشيئته. ذَكَر الوجهين أبو البقاء، ولَمَّا ذَكَرَ غيُره كونَها حالاً من ضمير اسمِ الله قَدَّرها بقولِه: يُصَوِّركم في الأرحامِ قادراً على تصويركم مالكاً ذلك. الرَابعُ: أَنْ تكونَ الجملةُ في موضعِ المصدرِ، المعنى: يُصَوِّركم في الأرحام تصويرَ المشيئة وكما يشاء، هكذا قال الحوفي. وفي قوله: «الجملةُ في موضعِ المصدرِ» تسامحٌ لأنَّ الجملَ لا تقوم مقام المصادر، ومرادُه أنَّ «كيف» دالَّةٌ على ذلك،
24
ولكن لَمَّا كانَتْ في ضمن الجملةِ نَسَبَ ذلكَ إلى الجملة. وقوله ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ﴾ : تحتملُ هذه الجملةُ أن تكونَ مستأنفةً سيقت لمجرد الإِخبار بذلك، وأن تكونَ في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً لإِنَّ.
قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ﴾ : يجوزُ أن تكونَ «آيات» رفعاً بالابتداء والجارُّ خبرُه. وفي الجملةِ على هذا وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من «الكتاب» أي: هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال أي: منقسماً إلى مُحْكَم ومتشابه، ويجوز أن يكونَ «منه» هو الحالَ وحدَه، و «آياتٌ» رفع به على الفاعلية.
و ﴿هُنَّ أُمُّ الكتاب﴾ يجوز أن تكونَ الجملةُ صفةً للنكرة قبلها، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً، وأخْبر بلفظ الواحد وهو «أمُّ» عن جمع، وهو «هُنَّ» : إمَّا لأن المراد كلُّ واحدةٍ منه أمُّ، وإمَّا لأنْ المجموعَ بمنزلةِ آيةٍ واحدة كقوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠]، وإما لأنه مفردٌ واقعٌ موقعَ الجمعِ كقوله: ﴿وعلى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] و:
١١٦٣ - كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا
.........................
[وقوله] :
١١٦٤ -..........................
وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيب
[وقال الأخفشْ: «وَحَّد» أمَّ الكتاب «بالحكاية على تقديرِ الجواب
25
كأنه قيل: ما أمُّ الكتاب؟» ] فقال: هُنَّ أمُّ الكتاب، كما يقال: مَنْ نظير زيد؟ فيقول قوم: «نحنُ نظيرُه» كأنهم حَكَوا ذلك اللفظَ، وهذا على قولهم: «دعني من تمرتان» أي: «مِمَّا يقال له تمرتان». قال ابن الأنباري: «وهذا بعيدٌ من الصواب في الآية، لأن الإِضمارَ لم يَقُمْ عليه دليلٌ، ولم تَدْعُ إليه حاجةٌ» وقيل: لأنه بمعنى أصلِ الكتابِ والأصلُ يُوَحَّدُ.
قوله: «وأُخَرُ» نسقٌ على «آيات»، و «متشابهاتٌ» نعتُ لأُخَر، وفي الحقيقة «أُخَرُ» نعتٌ لمحذوف تقديره: وآياتٌ أُخَرٌ متشابهاتٌ. قال أبو البقاء: «فإنْ قيل: واحدةُ» متشابهات «متشابهة، وواحدة» أُخَر «أُخْرى، والواحدةُ هنا لا يَصِحُّ أن توصف بهذا الواحد فلا يُقال، أخرى متشابهة إلا أن يكونَ بعضُ الواحدةُ يُشبْه بعضاً، وليس المعنى على ذلك/ وإنما المعنى أنَّ كل آيةٍ تشبه آيةً أخرى، فكيف صَحَّ وصفُ هذا الجمعِ بهذا الجمعِ، ولم يَصِحَّ وصفُ مفردهِ بمفرده؟ قيل: التشابهُ لا يكون إلا بين اثنينِ فصاعداً، فإذا اجتمعت الأشياءُ المشابهةُ كان كل واحدٍ منها مشابهاً للآخر، فلمَّا لم يَصِحَّ التشابُه إلا في حالةِ الاجتماع وَصَفَ الجمعَ بالجمع لأنَّ كلَّ واحدٍ منها يشابه باقيها، فأمَّا الواحدُ فلا يَصِحُّ فيه هذا المعنى، ونظيرُه قوله: ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ﴾ [القصص: ١٥] فثنَّى الضميرَ وإن كان الواحدُ لا يَقْتَتِلُ. قلت: يعني أنه ليس من شرطِ صحةِ الوصفِ في التثنية أو الجمعِ صحةُ انبساطِ مفرداتِ الأوصاف على مفرداتِ الموصوفاتِ، وإنْ كان الأصلُ ذلك، كما أنه لا يُشْتَرط في إسناد الفعلِ إلى المثنَّى والمجموعِ صحةُ إسنادِه لى كلِّ واحدٍ على حِدَتِه.
وقريب من ذلك قوله: ﴿حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش﴾ [الزمر: ٧٥] قيل: ليس لحافِّين مفردٌ
26
لأنه لو قيل: «حافّ» لم يَصِحَّ، إذ لا يتحقق الحُفوفُ في واحد فقط، وإنما يتحقق بجمعِ يُحيطون بذلك الشيء المحفوفِ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في موضعِهِ.
قوله: ﴿زَيْغٌ﴾ يجوز أن يكون مرفوعاً بالفاعلية لأنَّ الجارَّ قبله صلةٌ لموصول ويجوز أن يكونَ مبتدأ وخبُره الجارُّ قبله.
والزَّيْغُ: قيل: المَيْلُ، وقال بعضُهم: هو أخصُّ مِنْ مُطْلق الميل، فإنَّ الزيغَ لا يُقال إلاَّ لِما كان من حقٍ إلى باطل. قال الراغب: «الزَّيْغُ: الميلُ على الاستقامةِ إلى أحدِ الجانبين، وزاغَ وزالَ ومالَ تتقارب، لكن» زاغ «لا يُقال إلا فيما كان عن حق إلى باطل» انتهى. يقال: زاغَ يزيغُ زَيْغاً وزيغوغَةً وزَيَغاناً وزُيوغاً. قال الفراء: «والعربُ تقول في عامةِ ذواتِ الياء مِمَّا يشبه زِغْتُ مثل: سِرْتُ وصِرْتُ وطِرْتُ: سَيْرورةً وصَيْرورةً وطَيْرورةً، وحِدْتُ حَيْدودة، ومِلْتُ مَيْلولة، لا أُحصي ذلك كثرةً، فأما ذوات الواو مثل: قُلت ورضِيت فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في أربعة ألفاظ: الكَيْنونة والدَّيْمومة من دام، والهَيْعُوعة من الهُواع، والسَّيدودة من سُدْت». ثم ذكر كلاماً كثيراً غيرَ متعلقٍ بما نحن فيه، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا المصدر، وما ذكر الناس فيه، وأنه قد سُمِع فيه الأصل وهو «كَيَّنونة» في قول الشاعر:
١١٦٥ -.......................
حَتَّى يعودَ البحرُ كَيَّنونَهْ
قوله: ﴿مَا تَشَابَهَ﴾ مفعولُ الاتباع، وهي موصولةٌ أو موصوفة، ولا تكون مصدريةً لعَوْدِ الضمير مِنْ «تَشَابَه» عليها إلاَّ على رأي ضعيفٍ. و «منه» حالٌ من فاعل «تشابه» أي: تشابه حالَ كونِه بعضَه.
27
قوله: «ابتغاءَ» منصوبٌ على المفعولِ له أي: لأجلِ الابتغاء، وهو مصدرٌ مضافٌ لمفعوله. والتأويلُ: مصدرُ أَوَّل يُؤَوِّل. وفي اشتقاقِه قولان أحدهما: أنه من آل يَؤُول أَوْلاً ومَآلاً. أي: عادَ ورجَع، و «آلُ الرجل» من هذا عند بعضِهم، لأنهم يَرْجِعون إليه في مُهِمَّاتهم، ويقولون: أَوَّلْتُ الشيءَ فآلَ، أي: صَرَفْتُه لوجهٍ لائقٍ به فانصرفَ، قال الشاعر:
١١٦٦ - أُؤَوِّلُ الحكمَ على وجهه
ليس قضائي بالهَوى الجائر
وقال بعضُهم: أَوَّلْتُ الشيءَ فتأوَّل، فجعل مطاوِعَه تَفَعَّل، وعلى الأول مطاوعه فَعَل، وأنشد للأعشى:
١١٦٧ - على أنها كانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّها
تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابَ فَأَصْحَبَا
يعني أنَّ حبَّها كان صغيراً قليلاً فآل إلى العِظَم، كما يَؤُول السَّقْبُ إلى الكِبَر. ثم قد يُطْلق على العاقبةِ والمَرَدِّ، لأنَّ الأمرَ يَصِير إليهما.
والثاني: أنه مشتقٌ من: الإِيالة وهي السياسة. تقول العرب: «قد إلْنا وإيل علينا» أي: سُسْنا وساسَنا غيرُنا، وكأنَّ المؤوِّلَ للكلامِ سائِسُه والقادرُ عليه وواضعُه موضعَه، نُقل ذلك عن النضر بن شميل. وفَرَّق النَاس بين التأويل والتفسير في الاصطلاح: بأن التفسيرَ مقتصَرٌ به على ما لا يُعْلم إلا بالتوقيف كأسباب النزول ومدلولاتِ الألفاظ، وليس للرأي فيه مَدْخَلٌ، والتأويل يجوز لمَنْ حَصَلَتْ عنده صفاتُ أهلِ العلم وأدواتٌ يَقْدِرُ أن يتكلَّم بها إذا رَجَع بها إلى أصولٍ وقواعدَ.
28
وقوله: ﴿والراسخون﴾ يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنه مبتدأ والوقفُ على الجلالة المعظمة، وعلى هذا فالجملةُ من قوله: «يقولون» خبرُ المبتدأ. والثاني: أنهم منسوقونٌ على الجلالةِ المعظمةِ، فيكونون داخلين في علم التأويل. وعلى هذا فيجوز في الجملةِ القولية وجهان، أحدُهما: أنها حالٌ أي: يعلمون تأويلَه حالَ كوِنهم قائلين ذلك، والثاني: أن تكون خبرَ مبتدأٍ مضمرٍ أي: هم يقولون.
والرُّسوخ: الثُبوتُ والاستقرار ثبوتاً متمكِّناً فهو أخصُّ من مطلقِ الثبات قال الشاعر:
١١٦٨ - لقد رَسَخَتْ في القلبِ مني مودَّةٌ
لِلَيْلَى أَبَتْ آياتُها أَنْ تُغَيَّرا
و ﴿آمَنَّا بِهِ﴾ في محلِّ نصب بالقول، و «كل» مبتدأٌ، أي كله أو كلٌّ منه، والجارُّ بعده خبرهُ، والجملةُ نصبٌ بالقول أيضاً.
قوله تعالى: ﴿لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ : العامَّةُ على ضَمِّ حرفِ المضارعة من: أزاغ يُزيغ. و «قلوبَنا» مفعول به. وقرأ أبو بكر وابن فايد والجراح «لا تَزِغ قلوبُنا» بفتح التاء ورفع «قلوبنا»، وقرأه بعضهم كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وعلى القراءتين فالقلوب فاعلٌ بالفعل المنهيِّ عنه،
29
والتذكير والتأنيث باعتبار تأنيثِ الجمعِ وتذكيرِه، والنهيُ في اللفظ للقلوب، وفي المعنى دعاءٌ لله تعالى، أي: لا تُزِغْ قلوبَنا فَتَزيغَ، فهو من باب «لا أُرَيَنَّك هَهنا» وقولِ النابغة:
١١٦٩ - لا أَعْرِفَنْ رَبْرَباً حُوراً مَدامِعُها
.......................
قوله: ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾«بعد» منصوبٌ ب «لا تُزِغْ» و «إذ» هنا خَرَجَتْ عن الظرفيةِ للإِضافةِ إليها، وقد تقدَّم أنَّ تصرُّفَها قليلَ، وإذا خرجت عن الظرفية فلا يتغَّيرُ حكمُها من لزومِ إضافتها إلى الجملة بعدها كما لم يتغير غيرُها من الظروف في هذا الحكمِ، ألا ترى إلى قوله: ﴿هذا يَوْمُ يَنفَعُ﴾ [المائدة: ١١٩] و ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ﴾ [الانفطار: ١٩] في قراءة من رفع «يوم» في الموضعين، وقول الآخر:
١١٧٠ -.......................
.... على حينِ الكرامُ قليلُ
[وقوله] :
30
١١٧١ - على حينِ مَنْ تَلْبَثْ عليه ذَنُوبُه
.........................
[وقوله] :
١١٧٢ - على حينِ عاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبا
........................
[وقوله] :
١١٧٣ - ألا ليت أيامَ الصفاءِ جديدُ
.......................
كيف خرجَتْ هذه الظروفُ من النَّصبِ إلى الرفعِ والجرِّ والنصبِ ب «ليت» ومع ذلك هي مضافةٌ للجملِ التي بعدها.
قوله: ﴿وَهَبْ﴾ الهِبَةُ: العَطِيَّةُ، حُذِفَتْ فاؤها لِما تقدَّم في «عِدة» ونحوِها، كان حقُّ عينِ المضارع فيها كسرَ العين منه، إلا أنَّ ذلك مَنَعه كونُ العينِ حرفَ حلق، فالكسرةُ مقدرةٌ. فلذلك اعتُبِرت تلك الكسرةُ المقدرة، فحُذِفَت لها الواو، وهذا نحو: يَضَع ويَسَع لكونِ اللامِ حرفَ حلق. ويكون «هَبْ» فعلَ أمرِ بمعنى ظُنَّ، فيتعدَّى لمفعولين كقوله:
١١٧٤ -......................
وإلاَّ فَهَبْنِي أمرَأً هالِكاً
31
وحينئذ لا تتصرَّفُ. ويقال أيضاً: «وَهَبَني اللهُ فداكَ» أي: جَعَلَني، ولا تتصرَّفُ أيضاً عن الماضي بهذا المعهنى.
قوله: ﴿مِن لَدُنْكَ﴾ متعلق ب «هَبْ»، ولَدُنْ: ظرف وهي لأولِ غايةِ زمانٍ أو مكان أو غيرهما من الذوات نحو: مِنْ لَدُن زيد، فليست مرادفةً ل «عند» بل قد تكون بمعناها، وبعضُهم يقيِّدها بظرف المكان، وتُضاف لصريح الزمان، قال:
١١٧٥ - تَنْتَهِضُ الرِّعْدة في ظُهَيْري
من لَدُنِ الظُّهْرِ إلى العُصَيْرِ
ولا تُقْطَعُ عن الإِضافةَ بحالٍ، وأكثرُ ما تضافُ إلى المفرداتِ، وقد تُضَافُ إلى «أن» وصلتها لأنهما بتأويلِ مفردٍ قال:
١١٧٦ - وُلِيْتَ فلم تَقْطَعْ لدُنْ أَنْ وَليْتَنَا
قرابةَ ذي قُرْبى ولا حَقَّ مُسْلِمِ
أي: لدنْ ولايتك إيانا، وقد تُضَاف إلى الجملةِ الاسمية كقوله:
١١٧٧ - تَذَكَّرُ نُعْماه لَدُنْ أنتَ يافعٌ
إلى أنتَ ذو فَوْدَيْنِ أبيضَ كالنسرِ
وقد تُضاف للفعلية كقوله:
١١٧٨ - لَزِمْنا لَدُنْ سالَمْتُمونا وفاقَكم
فلايكُ منكمْ للخِلافِ جُنوحُ
وقال آخر:
١١٧٩ - صريعُ غوانٍ رَاقَهُنَّ ورُقْنَه
لدُنْ شَبَّ حتى شابَ سودَ الذوائبِ
32
وفيها لغتان: الإِعراب وهي لغةُ قيس. وبها قرأ أبو بكر عن عاصم: «مِنْ لَدُنهِ» بجر النون، وقوله:
١١٨٠ - من لَدْنِ الظهرِ إلى العُصَيْرِ
.........................
ولا تخلوا مِنْ «مِنْ» غالبا، قاله ابن جني. ومِنْ غير الغالب ما تقدَّم من قوله «لَدُنْ أَنت يافع»«لَدُنْ سالمتمونا». وإنْ وقع بعدها لفظُ «غدوة» خاصةً جاز نصبُها ورفعُها، فالنصبُ على خبرِ كان أو التمييزِ، والرفعُ على إضمار «كان» التامةِ، ولولا هذا التقديرُ لَزم إفرادِ «لَدُنْ» عن الإِضافة، وقد تقدَّم أنه لا يجوزُ، فَمِنْ نَصْبِ «غدوة» قولُه:
١١٨١ - وما زال مُهْرِي مَزْجَرَ الكلبِ منهم
لَدُنْ غدوةً حتى دَنَتْ لغروبِ
واللغةُ المشهورةُ بناؤُها، وسببُه شَبَهُها بالحَرْف في لزومِ استعمالٍ واحد، وامتناعَ الإِخبار بها بخلافِ عند ولدى، فإنهما لا يَلْزَمان استعمالاً واحداً، إذ يكونان فَضْلةً وعُمْدةً وغايةً وغيرَ غاية بخلاف «لَدُن». وقال بعضهم: «عِلَّةُ بنائِها كونُها دالةً على الملاصَقَةِ صفةً ومختصةً بها بخلافِ» عند «فإنها لا تدلُّ على الملاصقةِ، فصارَ فيها مَعنًى لا يَدُلُّ عليه الظرفُ، بل هو من قبيلِ ما يَدُلُّ عليه الحرفُ، فكأنها مُضَمَّنةٌ معنى حرفٍ، كانَ مِنْ حقِّه أن يُوضَعَ لذلك فَلم يُوْضَعْ، كما قالوا في اسم الإِشارة.
واللغتان المذكورتان من الإِعراب والبناء مختصتان ب» لدن «المفتوحةِ اللامِ المضمومةِ الدالِ، الواقعِ آخرَها نونٌ، وأمَّا بقيةُ لغاتها على ما سنذكره
33
فإنها مبنيةٌ عند جميع العرب. وفيها عشرُ لغات: الأولى وهي المشهورة، ولدَن ولدِن بفتح الدال وكسرِها، ولَدْن ولُدْن بفتح اللام، وضمها مع سكونِ الدال وكسر النون، ولُدْنَ بالضم والسكون وفتح النون، ولَدْ ولُدْ بفتح اللام وضمها مع سكون الدال، ولَدُ بفتح اللام وضم الدال ولَتْ بإبدال الدالِ تاء ساكنة، ومتى أُضيفت المحذوفةُ النونِ إلى ضميرٍ وَجَبَ رَدُّ النونِ.
قوله: ﴿أَنْتَ الوهاب﴾ يُحْتمل أن تكونَ مبتدأً وأَنْ تكونَ ضميرَ الفصلِ وأن تكون تأكيداً لاسمِ» إنَّ «.
قوله تعالى: ﴿جَامِعُ الناس﴾ : قرأ أبو حاتم: «جامعٌ الناسَ» بالتنوينِ والنصبِ.
و ﴿لِيَوْمٍ﴾ اللامُ للعلة أي: لجزاءِ يوم، وقيل: هي بمعنى في، ولم يُذْكَرْ المجموعُ لأجلهِ. و ﴿لاَّ رَيْبَ﴾ صفةٌ ليوم، فالضميرُ في «فيه» عائدٌ عليه. وأبعد مَنْ جَعَلَه عائداً على الجمعِ المدلولِ عليه بجامعٍ، أو على الجزاءِ المدلولِ عليه بالمعنى أو على العَرْض.
قوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد﴾ يجوزُ أن يكونَ من تمامِ حكاية قولِ الراسخين فيكونَ التفاتاً من خطابهِم للباري تعالى بغير الخطاب إلى الإِتيانِ بالاسمِ الظاهرِ دلالةً على تَعْظِيمه، ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً من كلام اللهِ فلا التفاتَ حينئذٍ، والميعادُ: مصدرٌ، وياؤُه عن واو لانكسار ما قبلَها كميِقات.
قوله تعالى: ﴿لَن تُغْنِيَ﴾ : العامَّةُ على «تُغْني» بالتاء من
34
فوق مراعاةً لتأنيث الجمع. وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن بالياء مِنْ تحتِ بالتذكيرِ على الأصل، وسَكَّن الحسن ياء «تُغْني» استثقالاً للحركةِ على حرفِ العلة. وذهاباً به مذهبَ الألف، وبعضُهم يَخُصُّ هذا بالضرورةِ.
قوله: ﴿مِّنَ الله﴾ في «من» هذه أربعة أوجه: أحدها: أنها لابتداءِ الغاية مجازاً أي: مِنْ عذاب الله وجزائه. الثاني: أنها بمعنى عند، قال أبو عبيدة: هي بمعنى عند كقوله: ﴿أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٤] أي: عندَ جوع وعند خوف، وهذا ضعيفٌ عند/ النحويين.
الثالث: أنها بمعنى بدل. قال الزمخشري: «قوله» من الله مثلُ قوله: ﴿إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً﴾ [يونس: ٣٦]، والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعته شيئاً أي: بدلَ رحمتِه وطاعته وبدلَ الحق، ومنه «ولا يَنْفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ» أي: لا ينفعَهُ جَدُّه وحَظُّه من الدنيا بدلك، أي: بدلَ طاعتِك وما عندَك، وفي معناه قولُه تعالى: ﴿وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى﴾ [سبأ: ٣٧]، وهذا الذي ذَكَره من كونِها بمعنى «بدل» جمهورُ النحاة يَأْباه، فإنَّ عامَّة ما أورده مجيزُ ذلك بتأولُه الجمهور، فمنه قولُه:
35
١١٨٢ - جاريةٌ لم تأْكِلِ المُرَقَّقا
ولم تَذُقْ من البقولِ الفُسْتقا
وقول الآخر:
١١٨٣ - أخذوا المَخَاضَ من الفصيلِ غُلُبَّةً
ظُلْماً ويُكتبُ للأميرِ أَفِيلا
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً﴾ [الزخرف: ٦٠] ﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾ [التوبة: ٣٨].
الرابع: أنها تبعيضيةٌ، ألاَّ أنَّ هذا الوجهَ لَمَّا أجازه الشيخ جعله مبنياً على إعرابِ «شيئاً» مفعولاً به، بمعنى: لا يَدْفع ولا يمنع. قالَ: فعلى هذا يجوزُ أن تكونَ «مِنْ» في موضع الحال من شيئاً، لأنه لو تأخَّر لكان في موضع النعتِ له، فلمَّا تقدَّم انتصب على الحال، وتكن «مِنْ» إذ ذاك للتعبيض. وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ البتة، لأنَّ «مِنْ» التبعيضيَّةَ تُؤوَّلُ بلفظ «بعض» مضافةً لِما جَرَّته مِنْ، ألا ترى أنك إذا قلت: «رأيت رجلاً من بني تميم» معناه بعضَ بني تميم، و «أخذت من الدارهم» : بعضَ الدراهم، وهنا لا يُتَصَوَّرُ ذلك أصلاً، وإنما يَصِحُّ جَعْلُه صفةً لشيئاً إذا جعلنا «مِنْ» لابتداء الغايةى كقولك: «عندي درهم من زيد» أي: كائن أو مستقر من زيد، ويمتنع فيها التبعيضُ، والحالُ كالصفةِ في المعنى، فامتنعَ أن تكونَ «مِنْ» للتعبيض مع جَعْلِه «من الله» حالاً من «شيئاً»، والشيخُ تَبعَ في ذلك أبا البقاء، إلاَّ أنَّ أبا البقاء حين قال ذلك
36
قَدَّرَ مضافاً صَحَّ به قَولُه، والتقدير: شيئاً من عذاب الله، فكان ينبغي أن يَتْبَعَه [في هذا الوجه مُصَرِّحاً بما يَدْفَعُ] هذا الردَّ الذي ذكرتُه.
و «شيئاً» : إمَّا منصوبٌ على المفعولِ به، وقد تقدَّم تأويله، وإمَّا على المصدرية أي: شيئاً من الإِغناء. قوله: ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ﴾ هذه الجملةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ مستأنفةً. والثاني: أن تكونَ منسوقةً على خبر إنَّ، و «هم» يحتملُ الابتداءَ والفصلَ. وقرأ العامة: «وَقود» بفتح الواو، والحسن بضمِّها، وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة، وأنَّ المصدريةَ مُحْتَمَلةٌ في المفتوحِ الواوِ أيضاً، وحيث كان مصدراً فلا بد من تأويلِه فلا حاجةً إلى إعادتِه هنا.
قوله تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ : في هذه الكافِ وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ مضمرٍ تقديرُه: دَأْبُهم في ذلك كدأبِ آلِ فرعون، وبه بدأ الزمخشري وابن عطية.
والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ وفي الناصب لها تسعةُ أقوال: أحدها: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، والعاملُ فيه «كفروا» تقديره: «إنَّ الذين كفروا كفراً كدأبِ آل فرعون»، أي: كعادَتِهم في الكفر، وهو رأيُ الفراء. وهذا القولُ مردودٌ بأنه قد أَخْبَرَ عن الموصول قبل تمام صلتِه، فَلَزِمَ الفصلَ بين أبعاضِ الصلةِ بالأجنبي، وهو لا يجوزُ. والثاني: أنه منصوبٌ بكفروا، لكنْ مقدَّراً لدلالةِ
37
هذا الملفوظِ به عليه. الثالث: أن الناصبَ مقدرٌ مدلولٌ عليه بقوله: «لَنْ تُغني» أي بَطَلَ انتفاعُهم بالأموال والأولادِ كعادةِ آل فرعون، في ذلك. الرابع: أنه منصوبٌ بلفظ «وقود» أي: تُوقد النارُ بهم كما توقد بآل فرعون، كما تقول: «إنك لتظلم الناس كدأبِ أبيك» تريد: كظلمِ أبيك، قاله الزمخشري. وفيه نظرٌ لأن الوَقودَ على القراءةِ المشهورةِ الأظهرُ فيه أنه اسمٌ لما يُوْقَدُ به، وإذا كان اسماً فلا عملَ له. فإنْ قيل: إنه مصدرٌ أو على قراءةِ الحسن صَحَّ. الخامس: أنه منصوبٌ بنفس «لن تُغْني» أي: لن تُغْنِي عنهم مثلَ ما لم تَغْنِ عن أولئك، ذَكَره الزمخشري، وضَعَّفه الشيخ بلزوم الفصلِ بين العامل ومعمولِه بالجملةِ التي هي قوله: ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾، قال: «على أيّ التقديرين اللذين قَدَّرْناهما فيها من أن تكونَ معطوفةً على خبر» إنَّ «أو على الجملةِ المؤكَّدةِ بإنَّ. قال:» فإنْ جَعَلْتهَا اعتراضيةً وهو بعيدٌ جاز ما قاله الزمخشري السادس: أن يكونَ العاملُ فيها فعلاً مقدراً مدلولاً عليه بلفظِ الوقودِ تقديرُه: يُوقد بهم كعادةِ آل فِرعون، ويكون التشبيهُ في نفسِ الاحتراق، قاله ابن عطية. السابع: أَنَّ العاملَ «يُعَذَّبون» كعادة آل فرعون، يَدُلُّ عليه سياقُ اكلام. الثامن: أنه منصوبٌ ب: «كَذَّبوا بآياتنا»، والضميرُ في «كَذَّبوا» على هذا لكفار مكة وغيرِهم من معاصري رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي: كَذَّبوا تكذيباً كعادةِ آل فِرعون في ذلك التكذيبِ. التاسع: أنَّ العاملَ فيه قوله ﴿فَأَخَذَهُمُ الله﴾ أي: فأخذهم الله أَخْذاً كأخذِه آلَ فرعون، وهذا مردودٌ، فإنَّ ما بعد الفاءِ العاطفةِ لا يَعْمل فيها قبلها، لا يجوزُ: «قُمْتُ زيداً
38
فضربْتُ» وأما «زيداً فاضربْ» فقد تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة. وقد حكى بعض النحويين عن الكوفيين أنهم يُجيزون تقديمَ المعمولِ على حرف العطف فعلى هذا يجوز هذا القول.
وفي كلام الزمخشري سهوٌ فإنه قال: «ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ مَحَلُّ الكاف ب» لن تُغْني «أو» بخالدون «أي: لن تُغْنيَ عنهم مثلَ ما لم تُغْنِ عن أولئك، أو هم فيها خالدون كما يَخْلُدون»، وليس في لفظ الآية الكريمة «خالدون» إنما نظْمُ القرآن: ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾ ويَبْعُدُ أَنْ يُقال أراد «خالدون» مقدَّراً يَدُلُّ عليه سياقُ الكلام.
قوله: ﴿والذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ يجوزُ أن يكونَ مجروراً نَسَقَاً على آل فرعون وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء، والخبرُ قولُه بعدَ ذلك: ﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله﴾ وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً. وخَصَّ أبو البقاء جوازَ الرفعِ بكونِ الكافِ في محلِّ الرفعِ فقال: «فعلى هذا أي على كونِها مرفوعةَ المحلِّ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ يجوزُ في ﴿والذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ وجهان أحدُهما: هو جرُّ بالعطفِ/ أيضاً، و» كَذَّبوا «في موضعِ الحالِ، و» قد «معه مضمرةٌ، ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً لا موضعَ له، ذُكِر لشَرْحِ حالِهم، والوجهُ الآخرُ أن يكونَ الكلامُ تَمَّ على فرعون و» الذين مِنْ قبلِهم مبتدأُ، وكَذَبوا خبرُه «.
والدَّأْبُ: العادَةُ، يقال: دَأَبَ يَدْأَبُ أي: واظبَ ولازَم، ومنه:» دَأَبا «أي: مداومةً. وقال امرؤ القيس:
39
١١٨٤ - كدَأْبِك من أمِّ الحُوَيْرث قبلها
وجارتِها أمِّ الرَّبابِ بمَأْسَلِ
ويقال: دَأَبَ يدأَبُ دؤُوبا، قال زهير:
١١٨٥ - لأرتَحِلَنْ بالفجر ثم لأدْأَبَنْ
إلى الليلِ إلاَّ أن يُعَرِّجَني طِفْلُ
وقال الواحدي: الدأَبُ: الإِجهاد والتعبُ، يقال: سار فلان يومه كلَّه يدأَبُ فيه فهو دائِبٌ، أي: أُجْهِدَ في سيره، هذا أصلُه في اللغة، ثم يصير الدأبُ عبارةً عن الحالِ والشأن والعادةِ، لاشتمالِ العمل والجُهْدِ على هذا كله، ولذا قال الزمخشري قال:» [الدأب] : مصدرُ دَأَب في العملِ إذا كَدَحَ فيه، فَوُضِعَ مََوْضِعَ ما عليه الإِنسان من شأنِه وحاله «ويقال: دَأْب ودَأَب، بسكون الهمزة وفتحها، وهما لغتان في المصدر كالضَّأْن والضَّأَن، والمَعْز والمَعَز. وقرأ حفص» سَبْعَ سنينَ دَأَبا «، بالفتح، قال الفراء:» والعربُ تُثَقِّل ما كان ثانيه من حروفِ الحلق كالنَّعْل والنَّعَل والنَّهْر والنهَر والشَّأْم والشَّأَم «وأنشد:
١١٨٦ - قد سار شرقيُّهم حتى أَتوا سَبَأً
وانساح غربيُّهم حتى هوى الشَّأَما
قوله: ﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ خبراً عن» الذين «إنْ قيل: إنه مبتدأٌ، وإنْ لم يكن مبتدأ فقد تقدَّم أيضاً أنه يكون بياناً للدأب وتفسيراً له كأنه قيل: ما فَعَلوا وما فُعِل بهم؟ فقيل: كَذَّبوا بآياتنا، فهو جوابُ سؤالٍ مقدر، وأن يكونَ حالاً. وفي قوله» بآياتنا «التفاتٌ؛ لأنَّ قبله» من الله «وهو اسمٌ ظاهر. والباءُ في» بذنوبهم «يجوز أن تكونَ للسببيةِ أي: أَخَذَهم بسبب ما اجترموا، وأن تكونَ للحال أي: أخذهم ملتبسين بالذنوبِ غيرَ تائبين منها.
40
[والذَّنْبُ في الأصل: التِلْوُ والتابعُ، وسُمِّيَتِ الجريمة ذنباً] لأنها يتلو أي يتبع عقابُها فاعلَها؛ والذَّنُوب: الدَّلْو لأنها تتلو الحبلَ في الجَذْب، وأصلُ ذلك من ذَنَبِ الحيوان لأنه يَذْنُبُه أي يَتْلو يقال: ذَنَبه يَذْنُبُه ذَنْباً أي: تَبِعه.
قوله: ﴿شَدِيدُ العقاب﴾ كقوله: ﴿سَرِيعُ الحساب﴾ [البقرة: ٢٠٢] أي: شديدٌ عقابهُ، وقد تقدَّم تحقيقه. وقد اشتملت هذه الآيات من أولِ السورةِ إلى ههنا أنواعاً من علمِ المعاني والبيان والبديع لا تَخْفى على متأمِّلها.
قوله تعالى: ﴿سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ﴾ قرأ الأخَوان هذين الفعلين بالغَيْبة، والباقون بالخطاب، والغيبة والخطاب في مثل هذا التركيب واضحانِ كقولِك: «قل لزيد: قم» على الحكاية، وقل لزيد: يقوم، وقد تقدم نحوٌ من هذا في قولِه: ﴿لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله﴾ [البقرة: ٨٣]. وقال الشيخ في قراءةِ الغَيْبة: «الظاهرُ أنَّ الضميرَ للذين كفروا، وتكونُ الجملةُ إذ ذاك ليست محكيةً بقل، بل محكيةٌ بقول آخر، التقديرُ: قُلْ لهم قَوْلي سَيُغْلَبُون وإخباري أنه ستقعُ عليهم الغَلَبَةُ، كما قال: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨] فبالتاءِ أخبرهم بمعنى ما أُخْبر به من أنهم سَيُغْلبون، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أُخبر به أنهم سَيُغْلبون».
وهذا الذي قاله سبقَه إليه الزمخشري فأخَذَه منه، ولكنَّ عبارةَ
41
أبي القاسم أوضحُ فَلْنوردها، قال رحمه الله: «فإنْ قلت: أيُّ فرق بين القراءتين من حيث المعنى؟ قلت: معنى القراءة بالتاء أي من فوق الأمرُ بأَنْ يُخْبرهم بما سَيَجْري عليهم من الغَلَبة والحَشْر إلى جهنم، فهو إخبار بمعنى سَتُغْلبون وتُحْشَرون فهو كائن من نفسِ المتوعَّدِ به، وهو الذي يدل عليه اللفظُ، ومعنى القراءةِ بالياء الأمرُ بأَنْ يحكي لهم ما أَخْبره به من وعيدِهم بلفظه كأنَّه قال: أدِّ إليهم هذا القولَ الذي هو قَوْلي لك سَيُغْلبون ويُحْشَرُون».
وجَوَّز الفراء وثعلب أن يكونَ الضميرُ في «سَيُغْلبون ويُحْشرون» لكفار قريش، ويرادُ بالذين كفروا اليهودُ، والمعنى: قُلْ لليهود: «سَتُغْلَبُ قريش»، هذا إنما يتجه على قراءة الغيبة فقط. قال مكي: «ويُقَوِّي القراءة بالياء أي: من تحت إجماعُهم على الياء في قوله: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ﴾، قال:» والتاء يعني من فوق أحَبُّ إليَّ لإِجماع الحرميين وعاصم وغيرهم على ذلك «قلت: ومثلُ إجماعهم على قوله: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ﴾ إجماعُهم على قولِه: ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ﴾ [النور: ٣٠] ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ﴾ [الجاثية: ١٤].
وقال الفراء:» مَنْ قرأ بالتاء جَعَل اليهود والمشركين داخلين في الخطاب، ثم يجوزُ في هذا المعنى الياءُ والتاءُ، كما تقول في الكلام: «قل لعبد الله: إنه قائم وإنك قائم»، وفي حرفِ عبد الله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن
42
يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ}، ومَنْ قرأ بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبةِ اليهود، وأنَّ الغلبةَ تقع على المشركين، كأنه قيل: قل يا محمد لليهود سَيُغْلَبُ المشركون ويُحْشرون، فليس يجوزُ في هذا المعنى إلا الياءُ لأنَّ المشركين غَيْبٌ.
قوله: ﴿وَبِئْسَ المهاد﴾ المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: بئس المهاد جهنمُ. والحذفُ للمخصوصِ يدلُّ على صحةِ مذهبِ سيبويه من أنه مبتدأٌ والجملةُ قبلَه خبرُه، ولو كان كما قالَ غيرُه مبتدأً محذوفَ الخبرِ أو بالعكسِ لما حُذِف/ ثانياً للإِجحافِ بحَذْفِ سائِر الجملة.
قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَ﴾ : جوابُ قسمٍ محذوفٍ، و «آيةٌ» اسمُ كان، ولم يؤنِّث الفعلَ لأنَّ تأنيثَ الآيةِ مجازيٌّ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان، ولوجودِ الفصلِ ب «لكم»، فإنَّ الفصلَ مُسَوِّغٌ لذلك مع كونِ التأنيث حقيقاً كقوله:
١١٨٧ - إنَّ امرَأً غَرَّه منكنَّ واحدةٌ
بَعْدي وبعدكِ في الدنيا لمغرورُ
وفي خبر «كان» وجهان أحدُهما: أنه «لكم» و «في فئتين» في محل رفع نعتاً لآية. والثاني: أنه «في فئتين». وفي «لكم» حينئذ وجهان، أحدهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «آية» لأنه في الأصل صفةٌ لآية، فلما قُدِّم نُصِب حالاً. والثاني: أنه متعلِّقٌ بكان، ذكره أبو البقاء، وهذا عند مَنْ يرى أنها تعملُ في الظرف وحرف الجر، ولكنْ في جَعْلِ «في فئتين» الخبرَ إشكالٌ، وهو أن حكمَ اسمِ «كان» حُكْمُ المبتدأِ فلا يجوزُ أن يكونَ اسماً لها
43
إلاَّ ما جاز الابتداءُ به، وهنا لو جُعِلَتْ «آية» مبتدأً وما بعدها خبراً لم يَجُزْ، إذ لا مسوِّغَ للابتداء بهذه النكرة، بخلاف ما إذا جَعلْتَ «لكم» الخبرَ فإنه جائزٌ لوجودِ المسوِّغِ وهو تقدُّمُ الخبرِ حرفَ جر.
قوله: ﴿التقتا﴾ في محلِّ جرٍ صفةً لفئتين أي: فئتين ملتقيتين.
قوله: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ﴾ العامة على رفع «فئة» وفيها أوجهٌ، أحدها: أن يرتفعَ على البدلِ من فاعل «التقتا»، وعلى هذا فلا بدَّ من ضمير محذوفٍ يعودُ على «فئتين» المتقدمتين في الذكر، ليسوغَ الوصفُ بالجملة، إذ لو لم يُقَدَّرْ ذلك لما صَحَّ، لخلوِّ الجملةِ الوصفيةِ من ضميرٍ، والتقديرُ: في فئتين التقَتْ فئةٌ منهما وفئةٌ أخرى كافرة. والثاني: أن يرتفعَ علىخبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: إحداهما فئةٌ تقاتِلُ، فقطع الكلامَ عن أولِه، واستأنفه. ومثلُه ما أنشده الفراء على ذلك:
١١٨٨ - إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفَيْنِ شامتٌ
وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أصنعُ
أي: أحدُهما شامتٌ وآخرٌ مُثْنٍ، أي: وصنفٌ آخرُ مُثْنٍ، ومثلُه في القطع أيضاً قولُ الآخر:
١١٨٩ - حتى إذا ما استقلَّ النجمُ في غَلَسٍ
وغُودر البقلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصودُ
أي: بعضُه مَلْوِيٌّ وبعضُه مَحْصود. وقال أبو البقاء: «فإنْ قلت: فإذا قَدَّرْتَ في الأولى» إحداهما «مبتدأً كان القياسُ أن يكون والأخرى، أي: والفئةُ الأخرى
44
كافرةٌ. قيل: لَمَّا عُلِم أنَّ التفريقَ هنا لنفس الشيءِ المقدَّمِ ذكرُه كان التعريفُ والتنكير واحداً. قلت: ومثلُ الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيتُ المتقدم:» شامتٌ وآخرُ مُثْنٍ «فجاء به نكرةً دون» أل «.
الثالث: أن يرتفعَ على الابتداءِ وخبرُه مضمرٌ تقديرُه: منهما فئة تقاتل، وكذا في البيت اي: منهم شامتٌ ومنهم مُثْنٍ، ومثلُه قولُ النابغة:
١١٩٠ - تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها
لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ
رمادٌ ككحل العينِ لأْياً أُبينُه
ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أثلمُ خاشع
تقديره: منهنَّ أي: ومن الآيات رمادٌ، ومنهن نؤيٌ، ويَحْتَمل البيتُ أن يكونَ كما تقدم من تقديره مبتدأً، و «رمادٌ» خبرُه كما تقدَّم في نظيره.
وقرأ الحسن ومجاهد وحميد: «فئةٍ تقاتل» بالجر على البدل من «فئتين»، ويسمى هذا البدلُ بدلاً تفصيلاً كقولِ كثِّير عزة:
١١٩١ - وكنتُ كذي رجلين رجلٍ صحيحةٍ
ورجلٍ رَمَى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ
وهو بدلُ بعضٍ من كل، وإذا كان كذلك فلا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ على المبدل منه تقديره: فئةٍ منهما.
وقرأ ابن السَّمَيْفَع وابن أبي عَبْلة «فئةً» نصباً. وفيه أربعة أوجه، أحدها: النصبُ بإضمارِ أعني. والثاني: النصبُ على المدح. وتحريرُ هذا القول أن يُقال على المدح في الأول، وعلى الذم في الثاني، وكأنه قيل: أَمْدَحُ
45
فئةً تقاتل في سبيل الله، وأذمُّ أخرى كافرةً. الثالث: أن ينتصبَ على الاختصاص جَوَّزه الزمخشري. قال الشيخ: «وليس بجيد؛ لأنَّ المنصوبَ [على الاختصاص] لا يكونُ نكرةً ولا مبهماً» قلت: لا يعني الزمخشري الاختصاصَ المبوَّبَ له في النحو نحو «نحن معاشرَ الأنبياء لا نُوْرَثُ» إنما عنى النصبَ بإضمارِ فعلٍ لائقٍ، وأهلُ البيانِ يُسَمُّون هذا النحو اختصاصاً. الرابعُ: أن تنتصِبَ «فئةً» على الحالِ من فاعل «التقتا» كأنه قيل: التقتا مؤمنةً وكافرةً، فعلى هذا يكون «فئةً» و «أخرى» توطئةً للحال، لأن المقصود ذِكْرُ وصفها، وهذا كقولهم: جاءني زيدٌ رجلاً صالحاً، ومثلُه في باب الإِخبار: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ [الأعراف: ٨١] ونحوُه.
قوله: ﴿وأخرى كَافِرَةٌ﴾«أُخْرى» : صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ تقديره: «وفئةٌ أخرى كافرةٌ». وقُرِئَتْ «كافرة» بالرفعِ والجَرِّ على حَسَبِ القراءتين المذكورتين في «فئة تقاتل»، وهذه منسوقَةٌ عليها، وكان من حق/ من قرأ «فِئَةً تقاتل» نصباً أن يقرأ: «وأخرى كافرةً» نصباً عطفاً على الأولى، ولكني لم أحفظ فيها ذلك. وفي عبارة الزمخشري ما يُوْهم القراءةَ به فإنه قال: «وقُرىء فئة تقاتل وأخرى كافرة بالجرِّ على البدلِ من فئتين، وبالنصبِ على الاختصاص أو الحال»، فظاهرُ قولِه: «وبالنصب» [أي: في جميعِ ما تقدم وهو: فئة تقاتل وأخرى كافرة]. وقد تقدَّم سؤال أبي البقاء وهو: لم يَقُلْ «والأخرى»
46
بالتعريفِ، أعني حالَ رفعِ «فئةُ تقاتل» على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: «إحداهما»، والجوابُ عنه.
والعامَّةُ على «تقاتل» بالتأنيثِ لإِسنادِ الفعلِ إلى ضميرِ المؤنث، ومتى أُسْنِدَ إلى ضميرِ المؤنث وَجَبَ تأنيثُه، سواءً كان التأنيثُ حقيقةً ِأم مجازاً نحو: «الشمس طَلَعَت» هذا جمهورُ الناسِ عليه، وخالَفَ ابن كيسان فأجاز: «الشمس طَلَع» مستشهداً بقوله الشاعر:
١١٩٢ - فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها
ولا أرضَ أبقلَ إبقالَها
فقال: «أبقل» وهو مسندٌ لضميرِ الأرض ولم يَقُلْ: أبقلَتْ، وغيرُه يَخُصُّهُ بالضرورةِ. وقال هو: «لا ضرورةَ إذ كان يمكنُ أن يَنْقُلَ حركةَ الهمزةِ على تاءِ التأنيثِ الساكنة فيقول: ولا أرضَ أبقلتِ بْقالَها. وقد ردُّوا عليه بأن الضرورةَ ليس معناها ذلك، ولئن سَلَّمنا ذلك فلا نُسَلِّم أن هذا الشاعرَ كان من لغتِه النقلُ، لأنَّ النقلَ ليس لغةً لكلِّ العرب.
وقرأ مجاهد ومقاتل:» يقاتل «بالياء من تحت، وهي مُخَرَّجةٌ على مذهب ابن كيسان ومقويةٌ له. قالوا: والذي حَسَّن ذلك كونُ» فئة «في معنى القومِ والناس؛ فلذلك عاد الضميرُ عليها مذكَّراً.
قوله: ﴿يَرَوْنَهُمْ﴾ قرأ نافع وحده من السبعةِ ويعقوب وسهل:» تَرَوْنهم «بالخطابِ، والباقون من السعبة بالغَيْبة. فأمَّا قراءةُ نافع ففيها ثمانية أوجه،
47
أحدُها: أن الضميرَ في» لكم «والمرفوعَ في» تَرَوْنهم «للمؤمنين، والضميرَ المنصوب في» تَرَوْنهم «والمجرورَ في» مِثْلَيْهم «للكافرين. والمعنى: قد كان لكم أيها المؤمنون آيةٌ في فئتين بأَنْ رأيتم الكفارَ مثلي أنفسهم في العدد وهو أبلغُ في القدرةِ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عددِ الكافرين، ومع ذلك انتصروا عليهم وغَلَبوهم وأَوْقَعوا بهم الأفاعيلَ. ونحُوه: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله﴾ [البقرة: ٢٤٩] واستبَعَدَ بعضُهم هذا التأويلَ لقوله تعالى في الأنفالِ: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً﴾ [الآية: ٤٤]، فالقصةُ واحدةٌ، وهناك تَدُلُّ الآية على أن الله تعالى قَلَّل المشركين في أعين المؤمنين لئلا يَجْبُنوا عنه، وعلى هذا التأويلِ المذكور هنا يكون قد كَثَّرهم في أعينهم. ويمكنُ أن يُجابَ عنه باختلافِ حالَيْنِ، وذلك أنه في وقتٍ أراهم إيَّاهم مثلي عددهم ليمتحنهم ويبتليهم، ثم قَلَّلهم في أعينهم ليقدُموا عليهم، فالإِتيانُ باعتبارين ومثلُه: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ [الرحمن: ٣٩] مع: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٩٢]، ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٤٢] مع: ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥]. وقال الفراء:» المرادُ بالتقليل التهوينُ كقولِك: «رأيتُ كثيرَهم قليلاً» لهوانِهِم عندكَ، وليس من تقليلِ العدد في شيء «.
الثاني: أن يكونَ الخطاب في» تَرَوْنهم «للمؤمنين أيضاً، والضميرُ المنصوبُ في» ترونهم «للكافرين أيضاً، والضميرُ المجرورِ في» مِثْلَيْهم «
48
للمؤمنين، والمعنى: تَرَوْن أيها المؤمنون الكافرين مثلي عددِ أنفسكم، وهذا تقليلٌ للكافرين عند المؤمنين في رأيِ العين، وذلك أنَّ الكفارَ كانوا ألفاً ونَيِّفاً والمسلمونُ على الثلث منهم، فأراهم إياهم مِثْلَيْهم، على ما قَرَّر عليهم من مقاومةِ الواحدِ للاثنين في قوله تعالى: ﴿فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾
[الأنفال: ٦٦] بعد ما كُلِّفوا أن يقاومَ واحدٌ العشرةَ في قوله تعالى: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٥]. قال الزمخشري: «وقراءةُ نافع لا تساعد عليه» عين على هذا التأويلِ المذكور، ولم يُبَيِّنْ وجه عدمِ المساعدةِ، وكأنَّ الوجَه في ذلك والله أعلم أنه كان ينبغي أن يكونَ التركيب: «تَرَوْنهم مثليكم» بالخطاب في «مثليكم» لا بالغَيْبة. وقال أبو عبد الله الفاسي بعد ما ذكرته عن الزمخشري: «قلت: بل يساعِدُ عليه إن كان الخطابُ في الآية للمسلمين، وقد قيل ذلك» انتهى، فلم يأتِ أبو عبد الله بجوابٍ، إذ الإِشكالُ باقٍ.
وقد أجابَ بعضُهم عن ذلك بجوابين، أحدُهما: أنه من باب الالتفات من الخطاب إلى الغَيبة وأن حقَّ الكلام: «مِثْلَيْكم» بالخطاب، إلا أنه التفتَ إلى الغَيْبة، ونظَّره بقوله تعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢]. والثاني: أن الضميرَ في «مِثْلَيْهم» وإن كان المرادُ به المؤمنين إلا أنه عادَ على قوله: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله﴾، والفئةُ المقاتِلة هي عبارةٌ عن المؤمنين المخاطبينَ، والمعنى: تَرَوْن أيها المؤمنون الفئةَ الكافرة مِثْلَيْ الفئةِ المقاتلةِ في سبيل الله، فكأنه قيل: تَرَوْنَهم أيَها المؤمنون مِثْلَيْكُم. وهوَ جوابٌ حسنٌ ومعنى واضحٌ.
49
الثالث: أن يكونَ الخطاب في «لكم» وفي «تَرَوْنَهم» للكفار، وهم قريش، والضميرُ المنصوبُ والمجرور للمؤمنين، أي: قد كان لكم أيها المشركون/ آيةٌ حيث تَرَوْن المؤمنين مِثْلَي أنفسِهم في العدَدِ، فيكون قد كَثَّرهم في أعينِ الكفار ليجبنُوا عنهم، فيعودُ السؤالُ المذكور بين هذه الآية وآية الأنفال، وهي قوله تعالى: ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ﴾ [الأنفال: ٤٤]، فكيف يقال هنا إنه كَثَّرهم فيعودُ الجواب بما تقدَّم من اختلافِ حالتين، وهو أنه قَلَّلهم أولاً ليجترىءَ عليهم الكفارُ، فلمَّا التقى الجمعان كَثَّرهم في أعيِنِهم ليحصُل لهم الخَورُ والفَشَلُ.
الرابع: كالثالث، إلاَّ أنَّ الضميرَ في «مِثْلَيْهم» يعودُ على المشركين فيعودُ ذلك السؤال، وهو أنه كان ينبغي أن يُقال «مِثْليكم» ليتطابق الكلامُ فيعودَ الجوابان وهما: إمَّا الالتفاتُ من الخطاب إلى الغَيْبة، وإمَّا عودُه على لفظِ الفئة الكافرة، لأنها عبارةٌ عن المشركين، كما كان ذلك الضميرُ عبارةً عن الفئةِ المقاتلَةِ، ويكونُ التقديرُ: تَرَوْنَ أيها المشركون المؤمنين مِثْلَيْ فئتِكم الكافرة، وعلى هذا فيكونون قد رَأَوا المؤمنين مِثْلَي أنفسِ المشركين ألفين ونيفاً، وهذا مَدَدٌ من الله تعالى، حيث أرى الكفارَ المؤمنينَ مِثْلَي عددِ المشركين حتى فَشِلوا وجَبُنوا، فَطَمِعَ المسلمون فيهم فانتصروا عليهم، ويؤيِّده: ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾ فالإراءة هنا بمنزلة المَدَدِ بالملائكةِ في النصرةِ بكليهما، ويعودُ السؤالُ حينئذٍ بطريق الأَوْلى: وهو كيف كثَّرهم إلى هذه الغايةِ مع قولِهِ في الأنفال: ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ﴾ ؟ ويعود الجواب.
الخامس: أنَّ الخطابَ في «لكم» و «تَرَوْنهم» لليهود، والضميران المنصوبُ والمجرورُ على هذا عائدان على المسلمين على معنى: تَرَوْنَهم لو رأيتموهم مِثْلَيْهم، وفي هذا التقدير تكلُّفٌ لا حاجةً إليه، وكأن هذا القائلَ
50
اختار أن يكونَ الخطابُ في الآية المنقضية وهي قولُه: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ﴾ لليهود، فَجَعَلهُ في «تَرَوْنَهم» لهم أيضاً، ولكنَّ الخروجَ من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أَوْلى من هذا التقدير المتكلَّفِ، لأنَّ اليهود لم يكونوا حاضري الوقعةِ حتى يُخاطَبوا برؤيتِهم لهم كذلكَ. ويجوز على هذا القولِ أن يكونَ الضميرانِ المنصوبُ والمجرورُ عائِدَيْنِ على الكفار، أي: إنهم كَثَّر في أعينِهم الكفارَ حتى صاروا مِثْلي عددِ الكفارِ، ومع ذلك غلبَهم المؤمنون وانتصروا عليهم، فهو أَبْلَغُ في القدرةِ. ويجوزُ أنْ يعودَ المنصوبُ على المسلمين والمجرورُ على المشركين، أي: تَرَوْنَ أيها اليهودُ المسلمينَ مِثْلَي عددِ المشركين مهابةً لهم وتهويلاً لأمرِ المؤمنين، كما كان ذلك في حق المشركين فيما تقدَّم من الأقوال. ويجوز أن يعودَ المنصوبُ على المشركين والمجرورُ على المسلمين، والمعنى: تَرَوْنَ أيها اليهودُ لو رأيتم المشركينَ مِثْلَي عددِ المسلمين، وذلك أنهم قُلِّلُوا في أعينهم ليحصُل لهم الفزعُ والغَمُّ؛ لأنه كان يَغُمُّهُم قلةُ الكفارِ ويعجبُهم كثرتُهُم ونصرتُهم على المسلمين حسداً وَبَغْياً فهذه ثلاثة أوجهٍ مترتبةٌ على الوجه الخامسِ، فتصيرُ ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع.
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه، أحدُها: أنها كقراءةِ الخطاب، فكلُّ ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا، ولكنه جاء على بابِ الالتفاتِ أي: التفاتٌ من خطاب إلى غيبة. الثاني: أن الخطاب في «لكم» للمؤمنين، والضميرُ المرفوعُ في «يَرَوْنَهم» للكفار، والمنصوبُ والمجرورُ للمسلمين، والمعنى: يَرَى المشركون المؤمنين مِثْلَي عدد المؤمنين ستمئة ونيفاً وعشرين، أراهم الله مع قِلَّتهم إياهم ضِعْفَيْهم ليَهَابُوهم ويَجْبُنوا عنهم. الثالث: أنَّ الخطاب في «لكم» للمؤمنين أيضاً، والمرفوعُ في «يَرَوْنَهم» للكفار، والمنصوبُ للمسلمين والمجرورُ للمشركين، أي: يرى المشركونَ المؤمنين مِثْلَي عددِ المشركين، أراهم الله المؤمنينَ أضعافَهم لِما تَقدَّم في الوجه قبله.
51
الرابع: أن يعودَ الضميرُ المرفوع في «يَرَونهم» على الفئةِ الكافرة؛ لأنها جَمْعٌ في المعنى، والضميرُ المنصوب والمجرورُ على ما تقدم من احتمالِ عودِهما على الكافرينَ أو المسلمين أو أحدِهما لأحدِهم.
والذي تَقَوَّى في هذه الآيةِ من جميعِ ما قَدَّمْتُهُ من حيِث المعنى أَنْ يكونَ مَدارُ الآيةِ على تقليلِ المسلمينَ وتكثيرِ الكافرين، لأنَّ مقصودَ الآية ومساقَها الدلالةُ على قُدْرَةِ الله الباهرةِ وتأييدِهِ بالنصر لعبادِه المؤمنين مع قلةِ عددِهم وخذلانِ الكافرين مع كثرةِ عددِهم، وتحزُّبهم، ليُعْلَمَ أنَّ النصرَ كلَّه من عند الله، وليس سببُه كثرتَكم وقلةَ عدوكم، بل سببُه ما فعلَه تبارك وتعالى من إلقاءِ الرعبِ في قلوبِ أعدائِكم، ويؤيِّده قولُه بعد ذلك/: ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ﴾ وقال في موضع آخر: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً﴾ [التوبة: ٢٥]. قال الشيخ أبو شامة بعد ذِكْره هذا المعنى وَجَعَلَهُ قوياً: «فالهاءُ في تَرَوْنَهم للكفارِ سواءً قُرىء بالغَيْبَةِ أم بالخطاب والهاءُ في» مثليهم «للمسلمين. فإنْ قلت: إن كان المرادُ هذا فهلا قيل: يَرَونْهَم ثلاثةَ أمثالهم. فكان أبلغَ في الآية، وهي نصرُ القليلِ على هذا الكثيرِ، والعُدَّةُ كانت كذلك أو أكثرَ. قلت: أخبرَ عن الواقعِ، وكان آيةً أخرى مضمومةً إلى آية البصرِ، وهي تقليلُ الكفارِ في أعينِ المسلمين وقُلِّلُوا إلى حدٍّ وُعِدَ المسلمونَ النصرَ عليهم فيه، وهو أن الواحدَ من المسلمين يَغْلِبُ الاثنين، فلم تكن حاجةٌ إلى التقليلِ بأكثرَ من هذا، وفيه فائدةٌ: وقوعُ ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه» انتهى. قلت: وإلى هذا المعنى ذهب الفراء، أعني أنهم يَرَوْنَهم ثلاثةَ أمثالهم، فإنه قال: «مِثْليهم: ثلاثةَ أمثالهم، كقول القائل:» عندي ألف وأنا محتاجٌ إلى
52
مثليها «وغَلَّطه أبو إسحاق في هذا، وقال:» مثلُ الشيء ما ساواه، ومِثْلاه ما ساواه مرتين «. قال ابن كيسان:» الذي أَوْقَع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا يومَ بدر ثلاثةَ أمثالِهم، فتوهَّمَ أنه لا يجوزُ أن يَرَوْهم إلا على عُدَّتهم، والمعنى ليس عليه، وإنما أراهم الله على غيرِ عُدَّتهم لجهتين، إحداهما: أنه رأى الصلاحَ في ذلك؛ لأن المؤمين [تُقَوَّى قلوبُهم بذلك، والأخرى] أنه آيةٌ للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والجملةُ على قراءةِ نافع تَحْتَمِلُ أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعراب، ويُحتُمل أن يكونَ لها محلٌّ، وفيه حينئذٍ وجهان، أحدُهما: النصبُ على الحال من «كم» في «لكم» أي: قد كان لكم حالَ كونِكم تَرَوْنهم. والثاني: الجرُّ نعتاً لفئتين، لأنَّ فيها ضميراً يَرْجِع عليهما، قاله أبو البقاء.
وأمَّا على قراءةِ الغَيْبةِ فتحتملُ الاستئنافُ، وتحتملُ الرفعَ صفةً لإِحدى الفئتين، وتحتمل الجرَّ صفةً لفئتين أيضاً، على أَنْ تكونَ الواوُ في «يَرَوْنَهم» تَرْجِعُ إلى اليهود، لأنَّ في الجملة ضميراً يعودُ على الفئتين.
وقرأ ابن عباس وطلحة «تُرَوْنَهم» مبنياً للمفعول على الخطاب. والسلمي كذلك، إلا أنه بالغيبة. وهما واضحتان مما تقدَّم تقريره، والفاعل المحذوفُ هو الله تعالى.
وللناسِ في الرؤية هنا رأيان، أحدُهما: أنها البصرية، ويؤيد ذلك تأكيدُهُ بالمصدرِ الذي هو نصٌّ في ذلك. فهو مصدرٌ مؤكِّدٌ. قال
53
الزمخشري: «رؤيةٌ ظاهرةٌ مكشوفةٌ لا لَبْس فيها» وعلى هذا فتتعدَّى لواحد، و «مثلَيْهم» نصبٌ على الحال. والثاني: أنها من رؤيةِ القلب، فعلى هذا يكون «مِثْليهم» مفعولاً ثانياً.
وقد رَدَّ أبو البقاء هذا فقال: «ولا يجوز أَنْ تكونَ الرؤيةُ من رؤيةِ القلب على كلِّ الأقوال لوجهين، أحدُهما: قولُه» رَأْيَ العين «، والثاني: أن رؤيَةَ القلب عِلْم، ومُحالٌ أن يُعْلَمَ الشيءُ شيئين».
وقد أُجيب عن الوجه الأول بأنَّ انتصابَه انتصابُ المصدر التشبيهي أي: رأياً مثلَ رأي العين، أي: يُشْبِهُ رأيَ العين، فليس إياه على التحقيقِ. وعن الثاني بأنَّ الرؤيةَ هنا يُرادُ بها الاعتقادُ، فلا يَلْزَمُ المُحالُ المذكور، قال: «وإذا كانوا قد أَطْلقوا العلمَ في اللغةِ على الاعتقادِ دونَ اليقينِ فلأَنْ يُطْلقوا عليه الرأيَ أَوْلَى».
ومن إطلاقِ العلمِ على الاعتقادِ قولُه تعالى: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ [الممتحنة: ١٠] ؛ إذ لا سبيلَ إلى العلمِ اليقيني في ذلك، إذ لا يَعْلَمُهُ كذلك إلا اللهُ تعالى، فالمعنى: فإنْ اعتقدتموهن، والاعتقادُ قد يكونُ صحيحاً، وقد يكون فاسداً، ويَدُلُّ على هذا التأويلِ قراءةُ مَنْ قرأ: «تُرَوْنَهم» أو «يُرَوْنَهم» بالتاء أو الياء مبنياً للمفعول؛ لأنَّ قولَهم «أُرِيَ كذا» بضمِّ الهمزة يكون فيما عند المتكلمُ فيه شكٌّ وتخمينٌ لا يقينٌ وعلم، ولمَّا كان اعتقادُ التضعيف في جمع الكفار أو في جمع المؤمين تخميناً وظناً لا يقيناً دَخَلَ الكلاَم ضربٌ من الشك، وأيضاً كما يستحيل حَمْلُ الرؤيةِ هنا على العلِْمِ يستحيل أيضاً حَمْلُها على رؤيةِ البصر بعينِ ما ذَكَرْتُم من المُحالِ، وذلك كما أنه لا يقع
54
العلمُ غيرَ مطابقٍ للمعلوم كذلك لا يَقَعُ النظرُ البصريُّ غيرَ مطابقٍ لذلك الشيءِ المُبْصَرِ المنظورِ إليه، فكان المرادُ التخمينَ والظَّنَّ لا اليقينَ والعلمَ. كذا قيل، وفيه نظرٌ لأنا لا نُسَلِّم أنَّ البصر لا يخالِفُ المُبْصَرَ، لجوازِ أَنْ يَحْصُلَ خَلَلٌ فيه وسوءٌ في النظرِ فيتخيلُ الباصرُ الشيءَ شيئين فأكثرَ وبالعكس.
وفي انتصابِ «رأيَ العين» ثلاثةُ أوجهٍ تقدَّم منها اثنان: النصبُ على المصدر التوكيدي أو النصبُ على المصدر التشبيهي كما عَرَفْتَ تحقيقَه. والثالث: أنه منصوبٌ على ظرفِ المكان، قال الواحدي: «كما تقول:» تَرَوْنَهُم أمامَكم «ومثلُه:» هو مني مَزْجَرَ الكلب ومناطَ العَيُّوق «، وهذا إخراجٌ للفظ عن موضوعِهِ مع عدمِ المساعدِ معنًى وصناعةً.
و» رأى «مشتركٌ بين» رأى «بمعنى أَبْصَرَ، ومصدرُهُ الرَّأْي والرؤيةُ، وبمعنى اعتقد وله الرأي، وبمعنى الحُلْم وله الرؤيا كالدنيا، فوقع الفرقُ بالمصدر، فالرؤيةُ للبصرِ خاصة، والرؤيا للحُلْم فقط، والرأيُ مشترك بين البصريةِ والاعتقاديةِ يقال: هذا رأيُ فلان أي: اعتقادُهُ، قال:
١١٩٣ - رَأَى الناسَ إلا مَنْ رَأَى مثلَ رأيِهِ
خوارجَ تَرَّاكِين قَصْدَ المَخَارِجِ
قلت: وهذه الآية قد أكثرَ الناسُ فيها القولَ فتتبَّعْته وقَرَنْتُ كُلَّ شيء بما يُلاَئِمُهُ.
قوله: ﴿مَن يَشَآءُ﴾ مفعولُ» يشاء «محذوفٌ أي: مَنْ يشاء تأييدَهُ، والباء/ سببية، أي: بسببِ تأييدِه وهو تفعيلٌ من الأََيْدِ وهو القوة.
وقرأه ورش «يُوَيِّدُ» بإبدالِ الهمزةِ واواً محضة وهو تسهيلٌ قياسي قال
55
أبو البقاء وغيره «ولا يجوز أن تُجْعَلَ بينَ بينَ لقربِها من الألف، والألفُ لا يكون ما قبلَها إلا مفتوحاً، ولذلك لم تُجْعَلِ الهمزةُ المبدوءُ بها بينَ بينَ لا ستحالةِ الابتداءِ بالألِفِ». قلت: مذهبُ سيبويه وغيره في الهمزةِ المفتوحةِ بعد كسرةٍ قَلْبُها ياءً محضةً وبعد الضمةُ قلبُها واواً محضةً للعلة المذكورة، وهي قُرْبُ الهمزةِ التي بينَ بينَ من الألِفِ، والألفُ لا تكونُ ضمةً ولا كسرةً.
و ﴿لأُوْلِي الأبصار﴾ صفةً ل «عبرةً» أي: عبرةً كائنةً لأولي الأبصار. والعِبْرة: فِعْلة من العُبور كالرِّكبة والجِلْسة، والعُبور: التجاوزُ، ومنه: عَبَرْتُ النهر، والمَعْبَرُ: السفينة لأنَّ بها يُعْبَرُ إلى الجانبِ الآخر، وعَبْرَة العين: دمْعُها لأنها تجاوِزُهَا، وعَبَّر بالعِبْرة عن الاتِّعاظ والاستيقاظ لأن المُتَّعِظَّ يَعْبُر من الجهلِ إلى العلمِ ومن الهلاكِ إلى النجاة. والاعتبارُ افتعالٌ منه، والعبارة: الكلامُ الموصِلُ إلى الغرضِ لأنَ فيه مجاوزةً، وعَبَرْت الرؤيا وعَبَّرتها مخففاً ومثقلاً، لأنك نَقَلْتَ ما عندكَ من تأويلِها إلى رائيها.
قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ : العامةُ على بنائِهِ للمفعول، والفاعلُ المحذوفُ هو اللهُ تعالى؛ لِمَا رَكَّب في طباع البشر من حُبِّ هذه الأشياء، وقيل: هو الشيطانُ، عن الحسن: «مَنْ زَيَّنَها؟ إنما زيَّنها الشيطان لأنه لا أحدَ أبغضُ لها مِنْ خالقها».
وقرأ مجاهد: «زَيَّن» مبنياً للفاعل، «حُبَّ» مفعول به نصاً، والفاعلُ: إمَّا ضمير الله تعالى لتقدُّم ذكرِهِ الشريفِ في قوله تعالى: {والله يُؤَيِّدُ
56
بِنَصْرِهِ} [آل عمران: ١٣]، وإمَّا ضميرُ الشيطان، أُضْمِرَ وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، لأنه أصلُ ذلك، فَذِكْرُ هذه الأشياءِ مؤذنٌ بِذِكْرِهِ. وأضافَ المصدرَ لمفعولِهِ في «حُبّ الشهوات».
والشَّهوات: جمعُ «شَهْوة» بسكون العين، فَحُرِّكَت في الجمع، ولا يجوزُ التسكينُ إلا في ضرورةٍ كقولهِ:
١١٩٤ - وَحُمِّلْتُ زَفْرَاتِ الضحى فَأَطَقْتُها
ومالي بزَفْرَات العَشِيِّ يَدَانِ
بتسكين الفاء. والشهوةُ: مصدرٌ يُراد به اسمُ المفعولِ أي: المُشْتَهَيَات فهو من باب: رجلٌ عَدْلٍ، حيث جُعِلَتْ نفسَ المصدر مبالغةً، والشهوة: مَيْلُ النفس، ويُجْمَعُ على «شَهَوات»، كالآية الكريمة، وعلى «شُهَى» كغُرَف، قالت امرأة من بني نَضْر بن معاوية:
١١٩٥ - فلولا الشُّهَى واللهِ كنتُ جديرةً
بأَنْ أتركَ اللَّذاتِ في كلِّ مَشْهَدِ
وقال النحويون: لا تُجْمَعُ فَعْله المعتلة اللامِ يَعْنُون بفتحِ الفاء وسكون العين [على فًُعَل] إلا ثلاثةَ ألفاظ: كَوَّة وكُوَى فيمن فَتَحَ كاف «كَوَّة» وقَرْيَة وقُرَى ونَزْوَة ونُزَى، واستدرك الشيخ عليهم هذه اللفظة أيضاً فيَكُنَّ أربعة وأنشد البيت. وقال الراغب: «وقد يُسَمَّى المُشْتَهَى شهوةً، وقد
57
يُقال للقوةِ التي بها تَشْتَهي الشيءَ شهوةً، وقولُه تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات﴾ يحتمل الشهوتين.
قوله: ﴿مِنَ النساء﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال من» الشهوات «والتقدير: حالَ كونِ الشهواتِ من كذا وكذا فهي مفسرةٌ لها في المعنى، ويجوز أَنْ تكونَ» مِنْ «لبيان الجنس، ويَدُلُّ عليه قولُ الزمخشري:» ثم يُفَسِّره بهذه الأجناس «.
قوله: ﴿والقناطير﴾ جمع قِنْطار. وفي نونِهِ قولان أحدُهما: وهو قولُ جماعة أنها أصليةُ، وأنَّ وزنَها فِعْلال كحِمْلاَق وقِرْطاس. والثاني أنها زائدةٌ ووزنه فِنعال كقِنْعَاس وهو الجَمَل الشديد، قيل: واشتقاقه من: قَطَرَ يَقْطُر إذا سال، لأنَّ الذهب والفضةُ يُشَبَّهان بالماء في سرعة الانقلابِ وكثرةِ التقلبِ. وقال الزجاج:» هو مأخوذٌ من قَنْطَرْتُ الشيءَ إذا عَقَدْتَه وأَحْكمته، ومنه: القَنْطَرَةُ لإِحكامِ عَقْدِها «.
قوله: ﴿مِنَ الذهب﴾ كقولِهِ:» مِنْ النساء «وقد تقدَّم. والذهب مؤنَّثٌ، ولذلك يُصَغَّر على» ذُهَيْبة «، ويُجمع على ذَهاب وذُهوب. وقيل:» الذهب «جمعٌ في المعنى ل» ذَهَبة «، واشتقاقُه من الذَّهاب. الفضة يُجْمع على فِضَض.
واشتقاقُها من انفضَّ الشيء إذا تفرَّق، ويقال: «رجل ذَهِب» بكسر الهاء، أي: رأى مَعْدِن الذهب فَدُهِش.
قوله: ﴿والخيل﴾ عطفٌ على «النساء» قال أبو البقاء: «لا على الذهب والفضة لأنها لا تُسَمَّى قنطاراً»، وتَوَهُّمُ مثلِ ذلك بعيدٌ جداً فلا حاجةً إلى التنبيهِ عليه.
58
والخيلُ فيه قولان، أحدُهما أنه جمعٌ ولا واحدَ له من لفظه بل مفردُهُ «فرس» فهو نظيرُ: قوم ورهط ونساء. والثاني: أنَّ واحدَه «خايل» فهو نظير راكب ورَكْب، وتاجِر وتَجْر، وطائِر وطَيْر، وفي هذا خلافٌ بين سيبويه والأخفش، فسيبويهِ يَجْعَلُهُ اسمَ جمعٍ، والأخفشُ يَجْعَلُهُ جمعَ تكسير. وفي اشتقاقِها وجهان، أحدُهُما: من الاختيال وهو العُجْبُ، سُمِّيت بذلك لاختيالِها في مِشْيتها وطولِ أذْنابِها. قال امرؤء القيس:
١١٩٦ - لها ذَنَبٌ مثلُ ذَيْلِ العرو
سِ تَسُدَّ به فرجَها مِنْ دُبُرْ
والثاني: من التخيُّل، قيل: لأنَّها تتخيَّلَ في صورة مَنْ هو أعظمُ منها. وقيل: / أصلُ الاختيالِ من التخيُّل، وهو التشبُّه بالشيء؛ لأنَّ المختالَ يتخيَّل في صورة مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كِبْراً، والأخيلُ: الشِّقْراقُ لأنه يَتَغَيَّر لونُهُ بحسَبِ [المَقام] مرةً أحمرَ، ومرة أخضَرَ، ومرة أصفرَ، وعليه قولُهُ:
١١٩٧ - كأبي براقِشَ كلَّ لَوْ
نٍ لونُهُ يَتَخَيَّلُ
وجَوَّز بعضُهم أَنْ يكون مخففاً من «خَيِّل» بتشديد الياء نحو: «مَيْت» في مَيِّت، و «هَيْن» في هَيِّن. وفيه نظرٌ لأنَّ كل ما سُمِع فيه التخفيف سُمِع [التثقيلُ، وهذا لم يُسْمع إلا مخففاً، وقد تقدَّم نظير] هذا البحثِ في لفظ «الغَيْب».
59
وقال الراغب: «الخَيْلُ في الأصلِ للأفراسِ والفُرْسَان جميعاً، قال تعالى: ﴿وَمِن رِّبَاطِ الخيل﴾ [الأنفال: ٦٠]، ويُستَعْمَل في كل واحدٍ منهما منفرداً، نحو ما رُوي:» يا خَيلَ اللهِ اركبي «فهذا للفُرْسان، وقوله عليه السلام:» عَفَوْتُ لكم عن صَدَقَة الخيل «يعني الأفراس وفيه نظرٌ؛ لأنَّ أهلَ اللغةِ نَصُّوا على أنَّ قوله عليه السلام:» يا خيل الله اركبي «: إمَّا مجازُ إضمار، وإمّا مجازُ علاقةٍ، ولو كان للفُرْسان بطريقِ الحقيقةِ لَمَا ساغَ قولُهم ذلك.
قوله: ﴿المسومة﴾ أصل التسويم: التعليمُ، ومعنى مُسَوَّمة: مُعْلَمَة إمَّا بالكَيّ وإمَّا بالبُلْقِ كما جاءَ ذلك في التفسير. وقيل: بل هو من سَوَّم ماشِيَته أي: رعَاهَا، فمعنى مُسَوَّمة أي: مَرْعِيَّة، يقال:» أَسَمْتُ ماشيتي فسامَتْ «، قال تعالى: ﴿فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ [النحل: ١٠]، وسَوَّمْتها فاستامت، فيكونُ الفعل عُدِّي تارةً بالهمزة وتارةً بالتضعيف. وقيل: بل هو من السيمِياء وهي الحُسْن، فمعنى مُسَوَّمة أي: ذاتُ حسن، قاله عكرمة واختاره النحاس، قال:» لأنه من الوسم «. وقد رَدَّ عليه بعضُهم باختلافِ المادتين. قد أجابَ بعضُهم عنه بأنَّه من بابِ المقلوبِ فيصحُّ ما قاله. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قوله ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] وقوله تعالى: ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٣].
60
قوله: ﴿والأنعام﴾ هي جمع نَعَم، والنَّعَمُ مختصةٌ بثلاثة أنواع: الإِبلِ والبقرِ والغنمِ وقال الهروي: النَّعَمُ تذكَّر وتؤنَّث، وإذا جُمع انطلق على الإِبل والبقر والغنم «. وظاهرُ هذا أنه قبلَ جمعِه على» أنعام «لا يُطْلق على الثلاثةِ الأنواع، بل يختصُّ بواحدٍ منها، وهذا الظاهر الذي أَشَرْتُ إليه قد صَرَّح به الفراء فقال:» النَّعَمُ الإِبلُ فقط، وهو مذكَّرٌ ولا يؤنَّثُ تقول: «هذا نَعَمٌ وارد، وهو جمعٌ لا واحدَ له من لفظه» وقال ابن قتيبة: «الأنعام: الإِبلُ والبقر والغنم، واحده نَعَم، وهو جمعٌ لا واحدَ له من لفظِه، سُمِّيت بذلك لنعومة مَشْيِها ولِينها»، وعلى الجملة فالاشتقاق في أسماءِ الأجناس قليلٌ جداً.
قوله: ﴿والحرث﴾ قد تقدَّم تفسيرُه، وهو هنا مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به، فلذلك وُحِّد ولم يُجْمَع كما جُمِعَت أخواتُه. ويجوزُ إدغام الثاءِ في الذال وإن كان بعضُ الناسِ ضَعَّفَه بأنه يَلْزَمُ الجمعُ بين ساكنين والأولُ ليسَ حرفَ لين، قال: «بخلاف» يَلْهَثُ ذلك «حيث أُدْغِم الثاءُ في الذالِ لانتفاءِ التقاءِ الساكنين، إذ الهاءُ قبلَ الثاءِ متحركةٌ».
وقد تَضَمَّنَتْ هذه الآية الكريمةُ أنواعاً من الفصاحةِ والبلاغةِ فمنها: الإِتيانُ بها مُجْمَلَةً، ومنها: جَعْلُه لها نفس الشهوات مبالغةً في التنفير عنها، ومنها: البَدَاءَةُ بالأهمِّ فالأهمِّ، فَقَدَّم أولاً النساءَ لأنهن أكثرُ امتزاجاً ومخالطةً بالإِنسانِ، وهُنَّ حبائِلُ الشيطان، قال عليه السلام: «ما تَرَكْتُ بعدي فتنةً أَضَرَّ على الرجالِ مِنَ النساءِ»«ما رأيتُ مِنْ ناقصاتِ عقلِ ودينٍ أَسْلَبَ لِلُبِّ الرجلِ منكُنَّ» ويُرْوى: «الحازمِ منكن». وقيل: «فيهن فتنتان، وفي البنين
61
فتنةٌ واحدةٌ؛ وذلك أنهنَّ يَقْطَعْنَ الأرحامَ والصلات بين الأهلِ غالباً وهُنَّ سببٌ في جمع المال من حلالٍ وحرام غالباً، والأولاد يُجْمَع لأجلِهم المالُ، فلذلك ثَنَّى بالبنين، وفي الحديث:» الولد مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ «، ولأنهم فروع منهن وثمرات نشأن عنهن، وفي كلامهم:» المرءُ مفتونٌ بولدِه «. وقُدِّمَتْ على الأموال لأنها أحبُّ إلى المرءِ مِنْ ماله، وأمَّا تقديمُ المالِ على الولد في بعضِ المواضع فإنما ذلك في سياقِ امتنانٍ وإنعامٍ أو نصرةٍ ومعاونة وغلبة، لأنَّ الرجال تُستمال بالأموال، ثم أتى بذكرِ تمام اللذة وهو المركوبُ البهيُّ من بينِ سائر الحيوانات، ثم أتى بِذِكْر ما يَحْصُل به جَمالٌ حين تُريحون وحين تَسْرحون، كما تشهد به الآية الأخرى، ثم ذَكَرَ ما به قِوامُهم وحياةُ بنيهم وهو الزروع والثمار، ويشمل الفواكهَ أيضاً، ومنها: الإِتيانُ بفلظٍ يُشْعر بشدة حب هذه الأشياء حيث قال:» زُيِّن «، والزينةُ محبوبةٌ في الطباع.
ومنها: بناءُ الفعلِ للمفعول؛ لأنَّ الغرضَ الإِعلامُ بحصول ذلك. ومنها: إضافةُ الحُبِّ للشهوات، والشهواتُ هي الميلُ والنزوع إلى الشيء.
ومنها التجنيس: «القناطير المقنطرةِ». ومنها: الجمعُ بين ما يشبه المطابقة في قوله: «والذهب والفضة» لأنهما صارا متقابلين في غالِب العُرف. ومنها: وصفُ القناطيرِ بالمقنطرة الدالةِ على تكثيرها مع كثرتها في ذاتها. ومنها: ذِكْرُ هذا الجنس بمادة الخيل لِما في/ اللفظ من الدلالة على تحسينه، ولم يقل: الأفراس، وكذا قوله: «والأنعام» ولم يَقُل الإبل والبقر والغنم، ولأنه أَخْضَرُ.
62
قوله: ﴿ذلك مَتَاعُ﴾ الإشارةُ ب «ذلك» للمذكور المتقدِّم، فلذلك وَحَّد اسمَ الإِشارة، والمشارُ إليه متعددٌ كقولِه تعالى: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]، وقد تقدَّم شيئان.
قوله: ﴿المآب﴾ هو مَفْعَل من: آب يؤوب أي رَجَع، والأصل: مَأْوَب فَنُقِلت حركةُ الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها، فَقُلِبت الواوُ ألفاً، وهو هنا اسمُ مصدرٍ أي: حَسَنُ الرجوعِ، وقد يقع اسم مكان أو زمان، تقول: آبَ يَؤُوب أَوْباً وإياباً ومآباً، فالأْوْب والإِياب مصدران والمآبُ اسمٌ لهما.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾ : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيقِ الأولى وتسهيل الثانية بينَ بينَ، على ما عُرِفَ من قواعدهم في أول البقرة، والباقون بالتخفيف فيهما. ومَدَّ بين هاتين الهمزتين بلا خلاف قالون عن نافع، وأبو عمرو وهشام عن بان عامر بخلاف عنهما، والباقون بغير مد، وهم على أصولِهم من تحقيقٍ وتسهيل، وورش على أصلِه من نَقْلِ حركة الهمزة إلى لام «قل».
واعلم أنه لا بُدَّ مِنْ ذِكْر اختلاف القراء في هذه اللفظةِ وشِبْهها وتحريرِ مذاهبهم فإنه موضعٌ عَسِرُ الضبط فأقول بعونِ الله تعالى: الواردُ من ذلك القرآن الكريم ثلاثةُ مواضعَ: أعني همزتين أولاهما مفتوحةٌ والثانيةُ مضمومة من كلمةٍ واحدة، الأولُ هذا الموضعُ، والثاني في ص: ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا﴾ [ص: ٨]، الثالث في القمر: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ﴾ [القمر: ٢٥]. والقُرَّاء فيها على خمسِ مراتبَ، إحداها: مرتبة قالون، وهي تسهيلُ الثانيةِ بينَ بينَ، وإدخالُ ألفٍ بين الهمزتين بلا خلافٍ كذا رواه عن نافع. الثانية: مرتبة ورش وابن كثير، وهي
63
تسهيلُ الثانية أيضاً بينَ بينَ من غيرِ إدخال ألف بين الهمزتين بلا خلافٍ كذا روى ورش عن نافع. الثالثة: مرتبة الكوفيين وابن ذكوان عن ابن عامر وهي تحقيق الثانية من غيرِ إدخال ألف بلا خلاف، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر. الرابعة: مرتبةُ هشام، وهي أنه رُوي عن ثلاثة أوجه: الأولُ التحقيقُ وعدمُ إدخالِ ألف بين الهمزتين في ثلاث السور. الوجه الثاني: التحقيقُ وإدخال ألف بينهما في ثلاث السور. والوجه الثالث: التفرقةُ بين السور الثلاث، وهو أنه يُحَقِّق ويَقْصُر في هذه السورة، ويُسَهِّل ويَمُدُّ في السورتين الأُخْرَيَين. الخامسة: مرتبة أبي عمرو وهي تسهيل الثانية مع إدخالِ الألف وعدمه. واجتزأْتُ عن تعليل التخفيف والمد والقصر واعزاً كلَّ واحد منها إلى لغةِ مَنْ تكلم به بما قدمته في أول البقرة، ولله الحمد.
ونقل أبو البقاء أنه قُرىء: «أَوُنَبِّئكم» بواو خالصة بعد الهمزة لانضمامها، وليس ذلك بالوجهِ. وفي قوله «أؤنبئكم» التفاتٌ من الغَيْبَةِ في قوله: «للناس» إلى الخطاب تشريفاً لهم.
قوله: ﴿بِخَيْرٍ﴾ متعلقٌ بالفعل، وهذا الفعلُ لَمَّا لم يُضَمَّنْ معنى «أَعْلم» تعدَّى لاثنين، الأولُ تعدَّى إليه بنفسه وإلى الثاني بالحرف، ولو ضُمِّن معناها لتعدَّى إلى ثلاثة.
و ﴿مِّن ذلكم﴾ متعلِّقٌ بخير؛ لأنه على بابِه من كونِه أَفْعَلَ تفضيلٍ، والإِشارةُ بذلكم إلى ما تقدَّم من ذكرِ الشهوات، وتقدَّم تسويغُ الإِشارة بالمفرد إلى الجمع. ولا يجوزُ أن تكونَ «خير» ليست للتفضيل، ويكونُ المرادُ به خيراً من الخيور، وتكون «مِنْ» صفةً لقولِه: «خير». قال أبو البقاء: «مِنْ» في
64
موضِع نصبٍ بخير تقديرُه: بما يَفْضُل ذلك، ولا يجوز أَنْ تكونَ صفةً لخير؛ لأن ذلك يوجبُ أن تكونَ الجنةُ وما فيها مِمَّا رَغِبوا فيه بعضاً لِما زهدوا فيه من الأموال ونحوها «وتابعه على ذلك الشيخ».
قوله: ﴿لِلَّذِينَ اتقوا﴾ [يجوز فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه متعلق بخير، ويكونُ الكلامُ قد تَمَّ هنا] ويرتفعُ «جنات» على خبر مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: هو جنات، أي: ذلك الذي هوخيرٌ مِمَّا تقدم جناتٌ، والجملةُ بيانٌ وتفسيرٌ للخيريَّة، ومثلُه: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم﴾ ثم قال: ﴿النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ﴾ [الحج: ٧٣]، ويؤيد ذلك قراءة «جنات» بكسر التاء على أنها بدل من «بخير» فهي بيانٌ للخير. والثاني: أن الجارَّ خبرٌ مقدم، و «جنات» مبتدأٌ مؤخرٌ، أو يكونُ «جناتٌ» فاعلاً بالجار قبله، وإنْ لم يعتمد عند مَنْ يرى ذلك. وعلى هذين التقديرين فالكلامُ تَمَّ عند قولِه: «من ذلكم»، ثم ابتدأ بهذه الجملة وهي أيضاً مبيِّنةٌ ومفسرةٌ للخيرية.
وأمَّا الوجهان الآخران فذكرهما مكي مع جر «جنات»، يعني أنه لم يُجِز الوجهين، إلا إذا جَرَرْتَ «جنات» بدلاً مِنْ «بخير». الوجه الأول: أنه متعلقٌ بأؤنبئكم. الوجه الثاني: أنه صفةٌ لخير. ولا بُدَّ من إيرادِ نصه فإنَّ فيه إشكالاً.
قال رحمه الله: بعد أن ذَكَرَ أنَّ «للذين» خبرٌ مقدم و «جناتٌ» مبتدأ «ويجوزُ الخفضُ في» جنات «على البدلِ من» بخير «على أن تَجْعَلَ اللام في» للذين «متعلقةً بأؤنبئكم، أو تجعلَها صفةً لخير، ولو جَعَلْتَ اللامَ متعلقةً
65
بمحذوفٍ قامَتْ مقامَه لم يَجُزْ خَفْضُ» جنات «؛ لأن حروفَ الجرِّ والظروفَ إذا تعلَّقت بمحذوفٍ، وقامَتْ مقامَه صار فيها ضميرٌ مقدرٌ مرفوعٌ، واحتاجت إلى ابتداءٍ يعودُ إليه ذلك الضميرُ كقولك:» لزيدٍ مالٌ، وفي الدار رجلٌ وخلفَك عمروٌ «فلا بُدَّ من رفع» جنات «إذا تعلَّقت اللامُ بمحذوف، ولو تعلَّقت بمحذوف على أَنْ لا ضميرَ فيها لرفَعْتَ» جنات «بفعلِها، وهو مذهبُ الأخفشِ في رفعهِ ما بعدَ الظروفِ وحروفِ الخفض بالاستقرار، وإنما يَحْسُن ذلك عند حُذّاق النحويين إذا كانت الظروفُ أو حروفُ الخفضِ صفةً لما قبلها، فحينئذٍ يتمكَّن ويَحْسُن رَفْعُ الاسمِ بالاستقرار، وقد شرحنا لك وبَيَّنَّاه في أمثلة، وكذلك إذا كانت أحوالاً [مِمّا قبلها] ». انتهى فقد جَوَّز تعلُّق هذه اللام بأونبئكم أو بمحذوف على أنها صفةٌ لخير بشرط أن تُجَرَّ «جنات»، على البدلِ من «بخير»، وظاهرُه أنه لا يجوزُ ذلك مع رفعِ «جنات» وعَلَّل ذلك بأنَّ حروفَ الجر تُعَلَّقُ بمحذوفٍ وتُحَمَّلُ الضميرَ، فوجَب أن يؤتى له بمبتدأ وهو «جنات»، وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزَمُ، إذ لقائلٍ أن يقولَ: أُجُوِّزُ تعليقَ اللام بما ذكرْتُ من الوجهين مع رفع «جنات» على أنَّها خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، لا على الابتداءِ حتى يلزَم ما ذكرْتُ.
ولكنْ الوجهانِ ضعيفان من جهةٍ أخرى: وهو أنَّ المعنى ليس واضحاً على ما ذكر، مع أنَّ جَعْلَه أنَّ اللامَ صفةٌ لخير أقوى مِنْ جَعْلها متعلقةً بأؤنبئكم إذ لا معنى له. وقوله: «في الظروف وحروفِ الجر أنها عند الحُذَّاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفاتٍ» وقوله: «وكذلك إذ كُنَّ أحوالاً» فيه قصورٌ؛ لأنَّ هذا الحكمَ مستقرٌ لها في مواضعَ، منها الموضعان اللذان ذكرهما. ثالثهما: أن يقَعا صلةً. رابعها: أن يقعا خبراً لمبتدأ. خامسها: أن يعتمدا على نفي. سادسها: أن يعتمدا على استفهامٍ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا، وإنَّما أَعدْتُه لبُعْدِ عَهْدِهِ.
قوله: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ فيه أربعةُ أوجه، أحدُها: أنه في محل نصبٍ على
66
الحال من «جنات» لأنه في الأصل صفةٌ لها، فلمَّا قُدِّم نُصِبَ حالاً. الثاني: أنه متعلِّقٌ بما تَعَلَّق به «للذين» من الاستقرار إذا جعلناه خبراً أو رافعاً لجنات بالفاعلية، أمَّا إذا علَّقْتَه ب «خيرٍ» أو ب «أؤنبئكم» فلا، لعدمِ تضمُّنه الاستقرارَ. الثالث: أن يكونَ معمولاً لتجري، وهذا لا يساعِدُ عليه المعنى. الرابع: أنه متعلِّق بخير، كما تعلَّق به «للذين» على قولٍ تقدَّم. ويَضْعُفُ أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه «للذين اتقوا» ثم يُبْتدأ بقوله: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ﴾ على الابتداء والخبرِ، وتكون الجملة مبينةً ومفسرةً للخيرية كما تقدَّم في غيرها.
وقرأ يعقوب «جنات» بكسر التاء، وفيها ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها بدلٌ من لفظ «خير» فتكونُ مجرورةً، وهي بيانٌ له كما تقدم. والثاني أنها بدلٌ من محل «بخير» ومحلُّه النصب، وهو في المعنى كالأول/. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار أعني، وهو نظيرُ الوجهِ الصائرِ إلى رفعه على خبر ابتداءٍ مضمرٍ.
قوله: ﴿تَجْرِي﴾ صفةٌ لجنات، فهو في محلِّ رفعٍ أو نصب أو جر على حَسَب القراءتين والتخاريج فيهما. و ﴿مِن تَحْتِهَا﴾ متعلِّقٌ بتجري، وجَوَّز فيه أبو البقاء أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الأنهار قال: «أي: تَجْرِي الأنهارُ كائنةً تحتها»، وهذا يُشْبِهُ تهيئة العاملِ للعمل في شيء وقَطْعَه عنه.
قوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ حالٌ مقدَّرة، وصاحبُها الضميرُ المستكِنُّ في «للذين» والعاملُ فيها حينئذٍ الاستقرارُ المقدَّرُ. وقال أبو البقاء: «إنْ شِئْتَ من الهاء في» تحتها «. وهذا الذي ذكره إنما يتمشَّى على مذهبِ الكوفيين، وذلك أنَّ
67
جَعْلَها حالاً من» ها «في» تحتها «يؤدِّي إلى جريان الصفةِ على غيرَ مَنْ هي له في المعنى، لأن الخلودَ من أوصافِ الداخلين في الجنةِ لا مِنْ أوصافِ الجنة، ولذلك جَمَعَ هذه الحال جَمْعَ العقلاء، فكان ينبغي أن يُؤتى بضميرٍ مرفوعٍ بارز، هو الذي كان مستتراً في الصفةِ، نحو:» زيدٌ هندٌ ضاربها هو «، والكوفيون يقولون: إنْ أُمِنَ اللَّبْس كهذا لم يجب بروزُ الضميرِ، وإلاَّ يجبْ، والبصريون لا يُفَرِّقون، وتقدَّم البحثُ في ذلك.
قوله: ﴿وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ﴾ مَنْ رفع «جنات» كما هو المشهورُ كان عَطْفُ «أزواج» و «رضوان» سهلاً. ومَنْ كسر التاء فيجب حينئذٍ على قراءته أن يكونَ مرفوعاً على أنه مبتدأٌ خبرُه مضمرٌ، تقديرُه: ولهم أزواجٌ ولهم رضوان، وتقدَّمَ الكلامُ على ﴿أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ في [البقرة: ٢٥].
وفي «رضوان» لغتان: ضَمُّ الراءِ وهي لغةُ تميم، والكسرُ وهي لغةُ الحجاز، وبها قَرَأ العامة إلا أبا بكر عن عاصم فإنه قرأ بلغة تميم في جميع القرآن، إلا في الثانية مِنْ سورة المائدة، وهي: ﴿مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ﴾ [الآية: ١٦] فبعضُهم نَقَل عنه الجزَم بكسرها، وبعضُهم نقل عنه الخلافَ فيها خاصة.
وهل هما بمعنًى واحدٍ أو بينهما فرقٌ؟ قولان، أحدهما: أنهما مصدران بمعنى واحدٍ لرَضي يَرْضَى. والثاني: أنَّ المكسور اسم ومنه: رِضْوان خازنُ الجنة صلى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته، والمضمومُ هو المصدر. و «مِن الله» صفةٌ لرضوان.
قوله تعالى: ﴿الذين يَقُولُونَ﴾ : يَحْتَمِلُ مَحَلُّه الرفعَ والنصبَ والجَّر، فالرفعُ من وجهين، أحدُهما: أنه مبتدأ محذوفٌ الخبرِ، تقديرُه: الذين يقولون كذا مستجابٌ لهم، أو لهم ذلك الخيرُ المذكورُ. والثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، كأنه قيل: مَنْ هم هؤلاء المتقون؟ فقيل: الذينَ يقولون كَيْتَ وكيتَ.
والنصبُ من وجهٍ واحد، وهو النصبُ بإضمار أَعْني أو أمدحُ، وهو نظيرُ الرفعِ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، ويُسَمَّيان الرفعَ على القطعِ والنصبَ على القطعِ. والجَرُّ مِنْ وجهين، أحدهما: النعتُ والثاني البدلُ، ثم لك في جَعْلِه نعتاً أو بدلاً وجهان، أحدُهُما: جَعْلُه نعتاً للذين اتقوا أو بدلاً منه. والثاني: جَعْلُه نعتاً للعباد أو بدلاً منهم. واستضعف أبو البقاء جَعْلَه نعتاً للعباد. قال: «لأنَّ فيه تخصيصاً لعلمِ الله تعالى، وهو جائزٌ على ضَعْفِهِ، ويكون الوجهُ فيه إعلامَهم بأنه عالمٌ بمقدار مشقتهم في العبادة فهو يُجازِيهم عليها كما قال: ﴿والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ﴾ [النساء: ٢٥].
والجملةُ من قوله:» واللهُ بصيرٌ «يجوز أن تكونَ معترضةً لا محلَّ لها إذا جَعَلْتَ ﴿الذين يَقُولُونَ﴾ تابعاً للذين اتقوا نعتاً أو بدلاً، وإنْ جَعَلْتَه مرفوعاً أو منصوباً فلا.
قوله تعالى: ﴿الصابرين﴾ : إنْ قَدَّرْتَ «الذين يقولون» منصوبَ المحل أو مجرورَه على ما تقدَّم كان «الصابرين» نعتاً له على كلا التقديرين، فيجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصب وأن يكون في محل جر، وإنْ قَدَّرْته مرفوع المحل تعيَّن نصب «الصابرين» بإضمار أعني.
69
والأسْحار جمع «سَحَر» بفتح العين وسكونها. واختلف أهل اللغة في السَّحَر: أيُّ وقتٍ هو؟ فقال جماعةٌ منهم الزجاج: «إنه الوقت قبل طلوع الفجر»، ومنه «تَسَحَّر» أي أكل في ذلك الوقت، وأسْحَرَ إذا سار فيه، قال زهير:
١١٩٨ - بَكَرْنَ بُكوراً واسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ
فهنَّ ووادي الرَّسِّ كاليدِ للفَم
قال الراغب: «السَّحَرُ: اختلاطُ ظلامِ آخر الليل بضياءِ النهار، وجُعِل اسماً لذلك الوقت، ويقال:» لَقيته بأعلى سَحَرَيْن «، والمُسْحِرُ: الخارجُ سَحَراً، والسَّحورُ: اسمُ للطعامِ المأكولِ سَحَراً، والتسَحُّرُ أكْلُه». والمُسْتَحِرُ: الطائر الصَّيَّاحُ في السَّحَر، قال:
١١٩٩ - يُعَلُّ به بَرْدُ أنيابِها
إذا غَرَّدَ الطائرُ المُسْتَحِرْ
وقال بعضُهم: «أَسْحَرَ الطَائر أي: صاحَ وتحرَّك في صياحه» وأنشد البيت. وهذا وإنْ كان مطلقاً، وإنما يريد ما ذكرْتُه بالصِّياح في السحر، ويقال: أَسْحَر الرجل: أي دخل في وقتِ السَّحَر كأَظْهَرَ/ أي: دخل في وقت الظُّهر، قال:
١٢٠٠ - وأَدْلَجَ مِنْ طِيْبَةٍ مسرعاً
فجاءَ إلينا وقد أَسْحَرَا
ومثلُه: «اسْتَحَرَ» أيضاً. وقال بعضُهم: «السَّحَرُ من ثلث الليل الأخير
70
إلى طلوع الفجر» وقال بعضهم أيضاً: «السَّحَرُ عند العرب من آخر الليل، ثمَ يَسْتمر حكمُه إلى الإِسفار، كلُّه يقال له: سَحَر». قيل: وسُمِّي السَّحَرُ سَحَراً لخفائِه، ومنه قيل: للسِّحْر: سِحْرِ لِلُطْفِه وخَفَائه.
والسَّحْر بسكون الحاء مُنْتهى قَصَبةِ الرئة، ومنه قولُ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «ماتَ بين سَحْري ونَحْري» سُمِّي بذلك لخفائِه، و «سَحَر» فيه كلام كثير، بالنسبةِ إلى الصرف وعدمه، والتصرفِ وعدمهِ، والإِعرابِ وعدمِه، يأتي تفصيلُها إن شاء الله تعالى عند ذِكْرِهِ إذ هو الأليقُ به.
وقوله: ﴿والصادقين﴾ وما عُطِف عليه. إن قيل: كيف دَخَلَتِ الواوُ على هذه الصفاتِ وكلُّها لقبيلٍ واحد؟ ففيه جوابان، أحدُهما أنَّ الصفاتِ إذا تكرَّرت جازَ أن يُعْطَفَ بعضُها على بعضٍ بالواوِ، وإنُ كانَ الموصوفُ بها واحداً، ودخولُ الواوِ في مثل هذا تفخيمٌ، لأنه يُؤْذِنُ بأن كلَّ صفةٍ مستقلةٌ بالمدحِ. والجوابُ الثاني: أن هذه الصفاتِ متفرقةٌ فيهم، فبعضُهم صابرٌ، وبعضُهم صادِقٌ، فالموصوفُ بها متعدِّدٌ، هذا كلامُ أبي البقاء.
وقال الزمخشري: «الواوُ المتوسطةُ بين الصفاتِ للدلالةِ على كمالهم في كلِّ واحدة منها». قال الشيخ: «ولا نعلمُ العطفَ في الصفة بالواو يَدُّلُّ على الكمالِ» قلت: قد عَلِمَه علماءُ البيان، وقد تقدَّم لك تحقيقُ هذه المسألةِ في أوائلِ سورة البقرة، وما أنشدْتُه على ذلك من لسانِ العرب. والباء في «بالأسحارِ» بمعنى في.
قوله تعالى: ﴿شَهِدَ الله﴾ : العامةُ على «شَهِدَ» فعلاً ماضياً مبنياً للفاعلِ، والجلالةُ الكريمةُ رفعٌ بهِ. وقرأ أبو الشعثاء: «شُهِدَ» مبيناً للمفعول، والجلالةُ المعظمةُ قائمةٌ مقامَ الفاعلِ، وعلى هذه القراءةِ، فيكونُ ﴿أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ في محلِّ رفع بدلاً من اسمِ اللهِ تعالى بدلَ اشتمالٍ، تقديرهُ: شَهِدَ وحدانيةَ اللهِ وألوهيتَه، ولمَّا كان المعنى على هذه القراءةِ كذا أَشْكَل عَطْفُ ﴿والملائكة وَأُوْلُواْ العلم﴾ على الجلالةِ الكريمة، فَخُرِّج ذلك على عَدَمِ العطف، بل: إمَّا على الابتداءِ والخبرُ محذوفٌ لدلالةِ الكلامِ عليه تقديرُه: والملائكةُ وأولو العلمِ يَشهدون بذلك، يَدُلُّ عليه قولُه تعالى: ﴿شَهِدَ الله﴾، وإمَّا على الفاعليةِ بإضمارِ محذوفٍ، تقديرُه: وشَهِدَ الملائكةُ وأولو العلم بذلك، وهو قريبٌ من قولهِ تعالى: ﴿يُسَبَّح لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ﴾ [النور: ٣٦] في قراءةِ مَنْ بناه للمفعول، وقوله:
١٢٠١ - لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ
..........................
في أحد الوجهين.
وقرأ أبو المهلب عمُّ محارب بن دثار: «شهداءَ الله» جمعاً على فُعَلاء
72
كظُرَفاء منصوباً، ورُوي عنه وعن أبي نُهَيْك كذلك، إلا أنه مرفوع، وفي كِلتا القراءتين مضافٌ للجلالة. فأمَّا النصبُ فعلى الحال، وصاحبُها هو الضميرُ المستتر في «المستغفرين» قاله ابن جني، وتَبِعَه غيرُه كالزمخشري وأبي البقاء. وأمَّا الرفعُ فعلى إضمارِ مبتدأ، أي: هم شهداءُ الله. و «شهداء» يَحْتمل أن يكونَ جمع شاهر كشاعِر وشُعَراء، وأَنْ يكونَ جمعَ شهيد كظريف وظُرَفاء.
وقرأ أبو المهلب أيضاً في رواية: «شُهُداً اللهَ» بضم الشين والهاء والتنوين ونصبِ الجلالةِ المعظمةِ، وهو منصوبٌ على الحالِ، جمع شهيد نحو: نَذِير ونُذُر، واسمُ اللهِ منصوبٌ على التعظيم أي: يَشْهدون اللهَ أي: وحدانيتَه.
ورَوى النقاش أنه قُرىء كذلك، إلا أنه قال: «برفعِ الدال ونصبها» والإِضافةُ للجلالةِ المعظمة. فالنصبُ والرفعُ على ما تقدَّم في «شهداء»، وأما الإِضافةُ فتحتملُ أنْ تكونَ محضةً، بمعنى أنك عَرَّفْتهم بإضافتِهم إليه من غير تَعَرُّضٍ لحدوثِ فِعْلٍ، كقولك: عباد الله، وأَنْ تكونَ مِنْ نصبٍ كالقراءةِ قبلَها فتكونَ غيرَ محضةٍ. وقد نقل الزمخشري أنه قُرىء: «شُهَداء لله» جَمْعاً على فُعَلاء وزيادةِ لامِ جر داخلةً على اسمِ اللهِ، وفي الهمزةِ الرفعُ والنصبُ وخَرَّجهما على ما تقدَّم من الحالِ والخبر.
73
وعلى هذه القراءاتِ كلِّها ففي رفعِ «الملائكة» وما بعدَها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها الابتداءُ/ والخبرُ محذوفٌ. والثاني: أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ وقد تَقدَّم تحريرُها. الثالث ذَكَره الزمخشري: وهو النسقُ على الضمير المستكنِّ في «شهداء الله» قال: «وجاز ذلك لوقوعِ الفاصلِ بينهما».
قوله: «أنه» العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ، وإنما فُتِحَتْ لأنها على حَذْفِ حرفِ، الجر، أي: شَهِدَ الله بأنه لا إله إلا هو، فَلَّما حُذِفَ الحرفُ جازَ أن يكونَ محلُّها نصباً وأن يكونَ محلُّها جَرَّاً كما تقدَّم تقديره.
وقرأ ابن عباس: «إنه» بكسرِ الهمزةِ، وفيها تخريجان، أحدُهما: إجراءُ «شَهِدَ» مُجْرى القولِ لأنه بمعناه، وكذَا وقَعَ في التفسير: شَهِد الله أي: قال الله، ويؤيِّده ما نَقَله المؤرِّج أن «شَهِد» بمعنى «قال» لغةُ قيس بن عيلان. والثاني: أنها جملةُ اعتراضٍ بين العامل وهو شهد وبين معمولهِ وهو قولُه ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾، وجازَ ذلك لِما في هذه الجملةِ من التأكيدِ وتقويةِ المعنى، وهذا إنما يتجه على قراءةِ فَتْحِ «أَنَّ» من «أنَّ الدينَ»، وأمَّا على قراءةِ الكسرِ فلا يجوزُ، فيتعيَّنُ الوجهُ الأولُ.
والضميرُ في «أنه» يَحْتمل العَوْدَ على الباري لتقدُّمِ ذكرهِ، ويَحْتمل أن يكونَ ضميرَ الأمر، ويؤيِّدُ ذلك قراءةُ عبد الله: ﴿شَهِدَ الله أَنْ لا إلهَ إلا هو﴾ فأَنْ مخففةٌ في هذه القراءةِ، والمخففةُ لا تعملُ إلاَّ في ضميرِ الشأنِ ويُحْذَفُ حينئذٍ، ولا تَعْمَلُ في غيرِه إلا ضرورةً.
74
وأَدْغم أبو عمرو بخلافٍ عنه واو «هو» في واوِ النسق بعدها وقد تقدَّم تحقيقُ هذه المسألةِ في البقرة عند قوله: ﴿هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ [الآية: ٢٤٩].
قوله: ﴿قَآئِمَاً بالقسط﴾ في نصبِه أربعةُ أوجه أحدُها: أنه منصوبٌ على الحالِ، واختلف القائلُ بذلك: فبعضُهم جَعَلَه حالاً من اسمِ الله، فالعاملُ فيها «شَهِدَ». قال الزمخشري: «وانتصابهُ على أنَه حالٌ مؤكِّدةٌ منه كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً﴾. قال الشيخ:» وليس من بابِ الحالِ المؤكدةِ لأنه ليس من باب: ﴿وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾ [مريم: ١٥] ولا من باب «أنا عبدُ الله شجاعاً» فليس «قائماً بالقسط» بمعنى شَهِد، وليس مؤكداً لمضمونِ الجملةِ السابقةِ في نحو: أنا عبدُ الله شجاعاً وهو زيدٌ شجاعاً، لكنْ في هذا التخريجَ قَلَقٌ في التركيبِ، إذ يصير كقولك: «أَكلَ زيدٌ طعاماً وعائشةُ وفاطمةُ جائعاً» فَيَفْصِل بين المعطوفِ عليه والمعطوفِ بالمفعول، وبين الحالِ وذي الحال بالمفعولِ والمعطوفِ، لكنْ بمشيئةِ كونِها كلِّها معمولةً لعاملٍ واحدٍ «. انتهى.
قلت: مؤاخَذَتُهُ له في قولِهِ:» مؤكدةُ «غيرُ ظاهرٍ، وذلك أنَّ الحالَ على قسمين: إمَّا مؤكدةٌ وإمَّا مُبَيِّنة، وهي الأصلُ، فالمُبَيِّنَةُ لا جائزٌ أن تكونَ ههنا، لأنَّ المبيِّنة تكونُ متنقلةً، والانتقالُ هنا مُحالٌ، إذ عَدْلُ اللهِ تعالى لا يتغيَّرُ، فإنْ قيل لنا قسمٌ ثالثٌ، وهي الحالُ اللازمةُ فكانَ للزمخشري مندوحةٌ عن قوله» مؤكدة «ألى قوله» لازمةٌ «فالجوابُ أنَّ كلَّ مؤكدةٍ لازمةٌ وكلَّ لازمةٍ مؤكدةٌ
75
فلا فرقَ بين العبارتين، وإنْ كان الشيخُ زَعَم أنَّ إصلاحَ العبارةِ يَحْصُل بقولِه:» لازمة «، ويَدُلُّ على ما ذكرتْهُ من ملازَمَةٍِ التأكيدِ للحالِ اللازمةِ وبالعكس الاستقراءُ.
وقولُه: «ليس معنى قائماً بالقسط معنى شهد» ممنوعٌ بل معنى «شَهِد» مع متعلَّقهِ وهو أنه لا إله إلا هو مساوٍ لقولِه «قائماً بالقسط» لانَّ التوحيدَ ملازمٌ للعدلِ.
ثم قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ جاز إفرادهُ بنصبِ الحالِ دون المعطوفَيْنِ عليه، ولو قلت:» جاءني زيدٌ وعمرو راكباً «لم يَجُزْ؟ قلت: إنما جازَ هذا لعدمِ الإِلباسِ كما جاز في قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ [الأنبياء: ٧٢] إن انتصب» نافلةً «حالاً عن» يعقوب «ولو قُلْتَ:» جاءني زيدٌ وهند راكباً «جاز لتميُّزِه بالذُّكورة.
قال الشيخ:» وما ذَكَره مِنْ قوله: «جاءني زيدٌ وعمروٌ راكباً» أنه لا يجوزُ ليس كما ذَكَر، بل هذا جائزٌ لأنَّ الحالَ قَيْدٌ فيمن وَقَعَ منه أو به الفعلُ أو ما أشبهَ ذلك، وإذا كان قيداً فإنه يُحْمَل على أقرب مذكورٍ، ويكون «راكباً» حالاً مِمَّا يَليه، ولا فرقَ في ذلك بين الحالِ والصفِة، لو قلت: «جاءني زيدٌ وعمروٌ الطويلُ» كان «الطويلُ» صفةً لعمرو، ولا تقولُ: لا تجوزُ هذه المسألةُ لِلَّبْس، إذ لا لَبْسَ في هذا وهو جائزٌ، وكذلك الحالِ. وأمَّا قولُه: «إنَّ نافلةً» انتصَب حالاً عن يعقوب «فلا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ حالاً عن يعقوب؛ إذ يُحتمل أَنْ يكونَ» نافلةً «مصدراً كالعاقبة والعافِية، ومعناه: زيادة، فيكونُ ذلك شاملاً/ لإِسحاق ويعقوب لأنهما زيدا لإِبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره» قلت: مرادُ الزمخشري بمنع «جاءني زيد وعمرو راكبا» إذ أُريد أَنَّ الحالََ منهما معاً، أمَّا
76
إذا أريد أنها حالٌ من واحدٍ منهما فإنَّما تُجْعَلُ لِما تليه، لعودِ الضميرِ على أَقْربِ مذكور، وبعضُهم جَعَلَه حالاً من «هو» قال الزمخشري: «فإنْ قلت: قد جَعَلْتَه حالاً من فاعل» شَهِدَ «فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ ينتصِبَ حالاً عن» هو «في» لا إله إلا هو «؟ قلت: نَعَمْ لأنها حالٌ مؤكدةٌ، والحالُ المؤكدةُ لا تَسْتَدْعي أن يكونَ في الجملةِ التي هي زيادةٌ في فائدتِها عاملٌ فيها كقولك:» أنا عبدُ الله شجاعاً «. انتهى. يعني أنَّ الحالَ المؤكِّدَة لا يَكونُ العاملُ فيها النصبَ شيئاً من الجملةِ السابقةِ قبلَها، إنما ينتصبُ بعاملٍ مضمرٍ، فإنْ كان المتكلمُ مُخْبِراً عن نفسه نحو:» أنا عبدُ الله شجاعاً «قَدَّرْتَه: أُحقُّ شجاعاً، مبنياً للمفعول، وإنْ كان مُخْبِراً عن غيره قَدَّرْتَه مبنياً للفاعل نحو:» هذا عبدُ الله شجاعاً «أي: أَحُقُّه، هذا هو المذهبُ المشهورُ في نصبِ مثلِ هذه الحالِ.
وفي المسألةِ قولٌ ثانٍ لأبي إسحاق أنَّ العاملَ فيها هو خبرُ المبتدأ لِما ضُمِّنَ من معنى المشتقِ إذْ هو بمعنى المُسَمَّى. وقولٌ ثالثٌ: أنَّ العاملَ فيها المبتدأ لِما ضُمِّن مِنْ معنى التنبيه، وهي مسألةٌ طويلةٌ. وبعضُهم جَعَلَه حالاً من الجميع على اعتبارِ كلِّ واحدٍ واحدٍ قائماً بالقسط، وهذا مناقضٌ لِما قاله الزمخشري من أنَّ الحالَ مختصةٌ باللهِ تعالى دونَ ما عُطِف عليه. وهذا المذهبُ مردودٌ بأنه لو جازَ ذلك لجازَ «جاء القومُ راكباً» أي: كلُّ واحدٍ منهم راكباً، والعربُ لا تقولُ ذلك البتَة، فَفَسَدَ هذا، فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في صاحبِ الحال.
الوجهُ الثاني من أوجهِ نصبِ «قائماً» نصبُه على النعتِ للمنفيِّ بلا، كأنه قيل: لا إلَه قائماً بالقسطِ إلا هو. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: هَلْي يجوزُ
77
أَنْ يكونَ صفةً للمنفي، كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسطِ إلا هو؟ قلت: لا يَبْعُدُ، فقد رَأَيْناهم يَتَّسِعون في الفصلِ بين الصفةِ والموصوفِ» ثم قال: «وهو أَوْجَهُ مِن انتصابهِ عن فاعلِ» شَهِد «، وكذلك انتصابُه على المَدْح».
قال الشيخ: وكان الزمخشري قد مَثَّل في الفصلِ بين الصفةِ والموصوفِ بقولِه: «لا رجلَ إلا عبدُ الله شجاعاً قال:» وهذا الذي ذَكَره لا يجوزُ لأنه فَصَلَ بين الصفةِ والموصوفِ بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما «والملائكةُ وأولوا العلم» وليسا معمولَيْنِ لشيءٍ من جملةِ «لا إله إلا هو» بل هما معمولان لشَهِدَ، وهو نظيرُ: «عَرَفَ زيدٌ أنَّ هنداً خارجةٌ وعمروٌ وجعفرٌ التميمية» فَيُفْصَلُ بين «هند والتميمية» بأجنبي ليس داخلاً في حَيِّز ما عمل فيها، وذل الأجنبيُّ هو «وعمرو وجعفر» المرفوعان المعطوفان على «زيد». وأمَّا المثالُ الذي مَثَّل به وهو «لا رجلَ إلا عبدُ الله شجاعاً» فليس نظيرَ تخريجِهِ في الآية، لأنَّ قولَك «إلا عبدُ الله» بدلُ على الموضعِ من «لا رجلَ» فهو تابعٌ على الموضعِ، فليس بأجنبي، على أَنَّ في جوازِ هذه التركيبِ نظراً، لأنه بدلٌ و «شجاعاً» وصفٌ، والقاعدةُ أنه إذا اجتمع البدلُ والوصفُ قُدِّم الوصفُ؛ وسَببُ ذلك أنه على نية تكرارِ العامل على الصحيح، فصار من جملة أخرى على هذا المذهب «.
الوجهُ الثالثُ: نصبُه على المدحِ. قال الزمخشري:» فإن قلت: أليس من حقِّ المنتصبِ على المدح أن يكونَ معرفةً، كقولك: «الحمدُ لله الحميدَ»«إنَّا معاشرَ الأنبياء لا نُورَث».
78
[وقوله] :
١٢٠٢ - إنا بني نَهْشَلٍ لا نَدَّعي لأبٍ
......................
قلت قد جاء نكرة كما جاء معرفة، وأنشد سيبويه ممَّا جاءَ منه نكرةً قول الهذلي:
١٢٠٣ - ويَأْوِي إلى نَسْوةٍ عُطَّّلٍ
وشُعْثَاً مَراضيعَ مثلَ السَّعالِي
انتهى.
قال الشيخ: «انتهى هذا السؤال وجوابُه، وفي ذلك تخليط، وذلك أنه لم يُفَرِّق بين المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم، وبين المنصوبِ على الاختصاص، وجَعَل حكمَهما واحداً، وأوردَ مثالاً من المنصوب على المدح وهو:» الحمدُ لله الحميدَ «ومثالين من المنصوبِ على الاختصاص وهما:» إنا معاشر الأنبياء لا نورث «» إنا بني نهشل لا نَدَّعي لأب «. والذي ذَكَره النحويون أنَّ المنصوبَ على المدحِ أو الذم أو الترحم قد يكونُ معرفةً، وقبله معرفةٌ تَصْلُح أن يكونَ تابعاً لها وقد لا تَصْلَحُ، وقد يكونُ نكرةً كذلك، وقد يكونُ نكرة وقبلها معرفةٌ فلا يصلُحُ أن يكونَ نعتاً لها، نحو قول النابغة:
79
١٢٠٤ - أََقارعُ عَوْفٍ لا أُحاولُ غيرَها
وجوهَ قرودٍ تَبْتَغي مَنْ تجادِعُ
فنصب» وجوه قرود «على الذَّمِّ وقبْلَه معرفةٌ وهي» أقارع عوفٍ «، وأمَّا المنصوبُ على الاختصاص/ فنصُّوا على أنه لا يكون نكرةً ولا مُبْهماً، ولا يكونُ إلا معرفاً بالألف واللامِ أو بالإِضافةِ أو بالعلميةِ أو لفظِ» أي «، ولا يكونُ إلا بعد ضمير مختص به أو مشاركٍ فيه، وربما أتى بعد ضميرِ مخاطبٍ». قلت: إنما أراد الزمخشري بالمنصوبِ على الاختصاصِ المنصوبَ على إضمارِ فعلٍ لائقٍ، سواءً كان من الاختصاصِ المبوَّبِ له في النحو أم لا، وهذا اصطلاحُ أهْلِ المعاني والبيان، وقد تقدَّم التنبيهُ على ذلك غيرَ مرة.
الوجه الرابع: نَصْبُه على القطع أي: إنه كان مِنْ حَقِّه أَنْ يَرْتفع نعتاً لله تعالى بعد تعريفِهِ بأل، والأصل: شَهِدَ اللهُ القائمُ بالقسط، فلما نُكِّر امتنع إتباعُهُ فَقُطِعَ إلى النصب. وهذا مذهبُ الكوفيين، ونَقَلَهُ بعضُهم عن الفراء وحدَه، ومنه عندَهم قولُ امرىء القيس:
١٢٠٥ -......................
وعالَيْن قِنْوَاناً من البُسْر أحمرا
الأصل: من البسر الأحمر، وقد تقدَّم ذلك محققاً. ويؤيد هذا الذاهبَ قراءةُ عبد الله «القائم بالقسط» برفع «القائم» تابعاً للجلالة. وخَرَّجه الزمخشري وغيرُهُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوف تقديره: هو القائمُ، [أو بدلاً
80
من هو] «. قال الشيخ:» ولا يجوزُ ذلك لأنَّ فيه فصلاً بين البدلِ والمبدلِ منه بأجنبي، وهو المعطوفان، لأنهما معمولان لغيرِ العاملِ في المبدلِ منه، ولو كان العاملُ في المعطوفِ هو العاملَ في المبدلَ منه لم يَجْزُ ذلك أيضاً؛ لأنه إذا اجتمع العطفُ والبدلُ قُدِّم البدلُ على العطف، لو قلت: «جاء زيدٌ وعائشةُ أخوك» لم يَجُزْ، إنما الكلامُ جاء زيدٌ أخوكَ وعائشةُ «.
فتحصَّل في رفع» القائم «على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه: النعتُ والبدلُ وخبرُ مبتدأٍ محذوفٍ. ونُقِلَ عن عبد الله أيضاً أنه قرأ:» قائمٌ بالقسط «بالتنكير، ورفعُه من وجهي البدل وخبر المبتدأ.
وقرأ أبو حنيفة: «قَيِّماً» بالنصبِ على ما تقدَّم. فهذه أربعةُ أوجه حَرَّرَتْها من كلام القوم.
والظاهر أن رفع «الملائكةُ» وما بعدَهُ عطفٌ على الجلالة المعظمة. وقال بعضُهم: «الكلامُ تَمَّ عند قولِهِ: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ وارتفَعَ» الملائكة «بفعل مضمرٍ تقديرُهُ: وشَهِدَ الملائكة وأولو العلم بذلك» وكأنَّ هذا الذاهبَ يرى أنَّ شهادة اللهِ مغايرةٌ لشهادة الملائكة وأولي العلم، ولا يُجِيزُ إعمال المشترك في معنييه فاحتاجَ من أجلِ ذلك إلى إضمارِ فعلٍ يُوافِقُ هذا المنطوقَ لفظاً ويخالِفُهُ معنى، وهذا يَجِيءُ نظيرُهُ في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي﴾ [الأحزاب: ٥٦]. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: هل دَخَلَ قيامُه بالقسط في حكمِ شهادةِ الله والملائكة وأولي العلم كما دَخَلَتْ الوحدانيةُ؟ قلت: نعم إذا جعلتَهُ
81
حالاً من» هو «أو نصباً على المدحِ منه، أو صفةً للمنفي، كأنه قيل: شَهِدَ الله والملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط».
قوله: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها مكررةٌ للتوكيد. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ كَرَّر قولَه ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ ؟ قلت: ذَكَرَه أولاً للدلالةِ على اختصاصِهِ بالوحدانيةِ، وأنه لا إله إلا تلك الذاتُ المتميِّزَة، ثم ذَكَرَهُ ثانياً بعد ما قَرَن بإثباتِ الوحدانية إثبات العدل للدلالةِ على اختصاصِهِ بالأمرين، كأنه قال: لا إله إلا هو الموصوفُ بالصفتين، ولذلك قَرَنَ به قولَه: ﴿العزيز الحكيم﴾ لتضمُّنِها معنى الوحدانية والعدل».
وقال بعضُهم: «ليس بتكريرٍ؛ لأنَّ الأولَ شهادةُ الله تعالى وحدَه، والثاني شهادة الملائكة وأولي العلم»، وهذا كما تقدَّم عند مَنْ يرفع «الملائكة» بفعلٍ آخرَ مضمرٍ لِمَا ذكرتُهُ من أنه لا يرى إعمالَ المشترك، وأن الشهادتين متغايرتان، وهو مذهبٌ مرجوح. وقال الراغب: «إنما كرَّر لا إله إلا هو لأنَّ صفات التنزيهِ أشرفُ مِنْ صفاتِ التمجيد، لأنَّ أكثرَها مشاركٌ في ألفاظِها العبيدُ فيصِحُّ وَصْفُهم بها، ولذلك وَرَدَتْ ألفاظُ التنزيهِ في حَقِّه أكثرَ وأَبْلَغَ».
قوله: ﴿العزيز الحكيم﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه بدلٌ من «هو». الثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ. الثالث: أنه نعتٌ ل «هو»، وهذا إنَّما يتمَشَّى على مذهبِ الكسائي، فإنه يرى وصفَ الضمير الغائب، ويتقدَّم نحو هذا في قوله: ﴿لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم﴾ [البقرة: ١٦٣].
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله﴾ : قرأ الكسائي بفتحِ الهمزةِ والباقون بكسرِها. فأمَّا قراءةُ الجماعَةِ فعلى الاستئنافِ، وهي مؤكدةٌ للجملة الأولى: قال الزمخشري: «فإنْ قلت: ما فائدةُ هذا التوكيدِ؟ قلتْ: فائدتُهُ أنَّ قولَه:» لا إله إلا هو «توحيدٌ، وقولَه:» قائماً بالقِسْطِ «تعديلٌ، فإذا أَردْفه قولَه: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ فقد آذن أن الإِسلام هو العدلُ والتوحيد، وهو الدينُ عند الله، وماعداه فليس في شيء من الدين عنده».
وأمَّا قراءةُ الكسائي ففيها أوجهٌ، أحدُها: أنها بدلٌ من «أنه لا إله إلا هو» على قراءةِ الجمهور في «أنه لا إله إلا هو» وفيه وجهان، أحدهما: أنه من بدلِ الشيءِ من الشيء، وذلك أنَّ الدين الذي هو الإِسلام يتضمَّنُ العدْلَ والتوحيدَ وهو هو في المعنى. والثاني: أنه بدلُ اشتمالٍ لأنَّ الإِسلامَ يشتمِلُ على التوحيدِ والعَدْلِ.
الثاني من الأوجه السابقة أن يكونَ «أنَّ الدين» بدلاً من قوله «قائماً بالقسط» ثم لك اعتباران، أحدُهما: أَنْ تَجْعَله بدلاً من لفظِهِ فيكونُ محلُّ «أنَّ الدين» الجرَّ. والثاني: أن تجعلَه بدلاً مِنْ مَوْضِعِه فيكونُ محلُّها نصباً. وهذا الثاني لا حاجةَ إليه وإن كان أبو البقاء ذكره، وإنما صَحَّ البدلُ في المعنى؛ لأنَّ الدينَ الذي هو الإِسلامُ قِسْطٌ وعَدْلٌ، فيكونُ أيضاً من بدلِ الشيءِ من الشيء، وهما لعينٍ واحدةٍ/. ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ اشتمال لأنَّ الدينَ مشتملٌ على القسطِ وهو العدلُ. وهذه التخاريجُ لأبي علي الفارسي، وتَبِعَهُ
83
الزمخشري في بَعْضِها. قال الشيخ: «وأبو علي معتزلي فلذلِكَ يشتمل كلامُه على لفظِ المعتزلةِ من العدلِ والتوحيد» قلت: ومَنْ يرغَبُ عن التوحيدِ والعدلِ من أهلِ السنةِ حتى يَخُصَّ به المعتزلَة؟ وإنما رأى في كلامِ الزمخشري هذه الألفاظَ كثيراً، وهو عنده معتزليٌّ، فَمَن تَكَلَّم بالتوحيدِ والعَدْلِ كان عندَه معتزلياً.
ثم قال: «وعلى البدل من» أنه «خَرَّجه هو وغيرُه، وليس بجيد لأنه يُؤَدِّي إلى تركيبٍ بعيدٍ أَنْ يأتيَ مثلُه في كلامِ العربِ وهو:» عَرَف زيدٌ أنه لا شجاعَ إلا هو وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل الحامي أنَّ الخَصْلَةَ الحميدةَ هي البسالةُ «وتقريبُ هذا المثال:» ضرب زيدٌ عائشةً والعُمَران حَنِقاً أختَك «فَحَنِقاً حالٌ من زيد، وأختَك بدلٌ من عائشةً، ففصل بين البدلِ والمبدلِ منه بالعطفِ، وهو لا يجوزُ، وبالحالِ لغيرِ المُبْدَلِ منه، وهو لا يجوزُ، لأنه فُصِلَ بأجنبي بين المُبْدَلِ منه والبدل» انتهى.
قوله: «عرف زيد» هو نظيرُ: «شهد الله» وقوله: «أنه لا شجاع إلا هو» نظير «أنه لا إله إلا هو».
وقوله: «وبنو دارم» نظير قوله: «والملائكة». وقوله: «ملاقياً للحروب» نظيرُ قوله: «قائما بالقسط، وقوله» لا شجاع إلا هو «نظير قوله:» لا إله إلا هو «فجاء به مكرراً كما في الآية، وقوله:» البطل الحامي «نظيرُ قولهِ:» العزيز الحكيم «وقوله» أن الخصلة الحميدة هي البسالة «نظيرُ قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ ولا يَظْهَرُ لي مَنْعُ ذلك ولا عَدَمُ صحةِ تركيبه حتى يقول» ليس بجيد «وبعيد أن يأتي عن العرب مثله». وما ادَّعاه بقولِهِ في المثال الثاني أنَّ فيه الفصلَ بأجنبي فيه نظرٌ، إذ هذه الجملُ صارَتْ كلُّها كالجملة الواحدة لِمَا اشتملت عليه من تقويةِ كلماتٍ
84
بعضِها ببعضٍ، وأبو عليّ وأبو القاسم وغيرُهُما لم يكونوا في محلِّ مَنْ يَجْهَلُ صحةَ تركيبِ بعضِ الكلامِ وفسادِهِ.
ثم قال الشيخ: «قال الزمخشري: وقُرئا مفتوحين على أنَّ الثاني بدلٌ من الأول كأنه قيل: شَهِدَ الله بأنَّ الدينَ عند الله الإِسلامُ، والبدلُ هو المبدلُ منه في المعنى، فكانَ بياناً صريحاً لأنَّ دينَ الإِسلام هو التوحيدُ والعدلُ». قال: «فهذا نَقْلُ كلامِ أبي عليّ دونَ استيفاءٍ».
الثالث من الأوجه: أَنْ يكونَ «أنَّ الدينَ» معطوفاً على «أنه لا إله إلا هو»، حُذِفَ منه حرفُ العطفِ، قاله ابن جرير، وضَعَّفَهُ ابنُ عطيَّة، ولم يبيِّن وجهَ ضَعْفِهِ.
قال الشيخ: «وَجْهُ ضَعفِهِ أنه متنافِرُ التركيب مع إضمارِ حرفِ العطفِ، فَيُفْصَلُ بين المتعاطِفَيْنِ المرفوعَيْن بالمنصوبِ المفعولِ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوعِ وبجملتي الاعتراضِ، وصار في التركيبِ نظيرَ قولِك:» أكل زيدٌ خبزاً وعمروُ سمكاً «يعني فَفَصْلتَ بين» زيد «وبين» عمر «ب» خبزاً «، وفصلْتَ بين» خبزاً «وبين» سمكاً «بعمرٍو، إذ الأصلُ قبل الفصل:» أكل زيدٌ وعمر خبزاً وسمكاً «.
الرابعُ: أَنْ يكونَ معمولاً لقولِهِ:» شهِدَ الله «أي: شَهِدَ الله بأنَّ الدينَ، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ جازَ أَنْ يَحْكُمَ على موضِعِه بالنصب أو بالجرِّ. فإنْ قلت: إنما يتجهُ هذا التخريجُ على قراءةِ ابن عباس، وهي كسرُ إنَّ الأولى، وتكون حينئذٍ الجملةُ اعتراضاً بين» شَهِدَ «وبين معمولِهِ كما قَدَّمْتُهُ، وأمَّا على قراءةِ
85
فَتْحِ» أنَّ «الأولى، وهي قراءةُ العامة فلا يَتَجِهُ ما ذكرْتُهُ من التخريج، لأن الأولى معمولةٌ له استَغْنَى بها. فالجوابُ: أنَّ ذلك متجهٌ أيضاً مع فتحِ الأولى وهو أَنْ تَجْعَلَ الأولى على حَذْفِ لامِ العلة، تقديرُهُ: شهد الله أنَّ الدين عندَ اللهِ الإِسلامُ لأنه لا إله إلا هو، وكان يَحِيك في نفسي هذا التخريجُ مدةً، ولم أَرَهم ذكروه حتى رأيتُ الواحديَّ ذَكَرَه، وقال:» وهذا معنى قول الفراء حيث يقولُ في الاحتجاجِ للكسائي: «إنْ شِئْتَ جَعَلْتَ» أنه «على الشرطِ، وجَعَلْتَ الشهادةَ واقعةً على قولِهِ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ وتكونُ» أنَّ «الأولى يصلُح فيه الخَفْضُ كقولِك:» شهد اللهُ لوحدانيتِهِ أنَّ الدينَ عن اللهِ الإسلامُ «.
وهو كلامٌ مُشْكِلٌ في نفسِهِ، ومعنى قولِهِ: «على الشرط» أي: العلة، سَمَّى العلةَ شرطاً لأنَّ المشروطَ متوقفٌ عليه كتوقُّفِ المعلولِ على علتِهِ، فهو علَّةٌ، إلا أنه خلافُ اصطلاحِ النحويين.
ثم اعترَضَ الواحديُّ على هذا التخريجِ بأنه لو كانَ كذلك لم يَحْسُنْ إعادةُ اسمِ الله ولكانَ التركيبُ ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾، لان الاسمَ قد سَبَقَ فالوجهُ الكنايةُ، ثم أجاب بأنَّ العربَ ربما أعادت الاسمَ موضعَ الكناية وأنشد:
١٢٠٦ - لا أَرَى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ
نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا
يعني أنه من بابِ إيقاعِ الظاهِرِ موقعَ المضمرِ، ويزيدُهُ هنا حُسْناً أنه في/ موضِعِ تعظيمٍ وتفخيمٍ.
الخامس: أَنْ تكونَ على حَذْفِ حرفِ الجر معمولةً لِلَفْظِ «الحكيم» كأنه
86
قيل: الحكيم بأن، أي: الحاكم بأن، فحكيم مثالُ مبالغةُ مُحَوَّلٌ من فاعِل، فهو كالعليم والخبير والبصير، أي: المبالِغُ في هذه الأوصاف، وإنما عَدَلَ عن لفظ «حاكم» إلى «حكيم» مع زيادةِ المبالغة لموافقةِ العزيز. ومعنى المبالغةِ تكرارُ حكمهِ بالنسبة إلى الشرائع أنَّ الدين عند الله هو الإِسلام، أو حَكَمَ في كلِّ شريعة بذلك. وهذا الوجهُ ذكره الشيخ وكأنه من تخريجه ثم قال: «فإن قلت: لِمَ حَمَلْتَ الحكيم على أنه مُحَوَّلٌ من فاعل إلى فعيل للمبالغة، وهلاَّ جَعَلْتَه فعيلاً بمعنى مُفْعِل، فيكون بمعنى مُحْكِم، كما قالوا: أليم بمعنى مُؤْلِم وسميع بمعنى مُسْمِع من قولِ الشاعر:
١٢٠٧ - أَمِنْ ريحانَةَ الداعي السميعُ
.......................
فالجوابُ أَنَّا لا نُسَلِّمُ أَنَّ فعيلاً بمعنى مُفْعِل، وقد يُؤَوَّل أليمِ وسميع علىغير مُفْعِل، ولئن سَلَّمْنَا ذلك فهو من النُّدورِ والشذوذ بحيث لا يَنْقَاسُ، بخلاف فَعيل مُحَوَّلٌ من فاعِل فإنه كثيرٌ جداً خارجٌ عن الحصرِ كعليم فإنَّ العربيَّ القُحَّ الباقي على سَجِيَّتِهِ لم يَفْهَمْ عن» حكيم «إلا أنه مُحَوَّلٌ من فاعل للمبالغةِ، ألا ترى أنه لَمَّا سَمِعَ قارئاً يقرأ:» والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيدَيهما جزاءً بما كَسَبَا نكالاً من الله والله غفور رحيم «أنكر أن تكونَ فاصلةُ هذا التركيبِ السابقِ:» والله غفور رحيم «فقيل له: التلاوةُ:» والله عزيز حكيم «، فقال: هكذا يكون: عَزَّ فحكم فقطع» فَفَهِمَ من حكيم أنه محولٌ للمبالغة السالفة من «حاكم»، وفَهْمُ هذا العربي حجةٌ قاطعةٌ بما قلناه، وهذا تخريجٌ
87
سهل سائغُ جداً، يُزيل تلك التكلفاتِ والتركيباتِ العَقِدَةَ التي يُنَزَّه كتابُ الله عنها.
وأمَّا على قراءة ابنِ عباس فكذلك نقول، ولا نجعل «أنَّ الدين» معمولاً ل «شهد» كما زَعَمُوا وأن «إنه لا إله إلا هو» اعتراضٌ يعني بين الحال وصاحبها وبين «شهد» ومعمولِهِ، وسيأتي إيضاحُ ذلك بل نقولُ: معمولُ «شَهِدَ» هو «إنه» بالكسرِ على تخريجِ مَنْ خَرَّجَ أنَّ «شهد» لَمَّا كان بمعنى القولِ كُسِرَ ما بعدَه إجراءً له مُجْرَى القولِ، أو نقول «إنه» معموله وعُلِّقَتْ، ولم تَدْخُلِ اللامُ في الخبر لأنه منفيٌّ، بخلافِ أَنْ لو كان مثبتاً فإنك تقول: «شهدت إنَّ زيداً لمنطلقٌ» فَتُعَلَّقُ بإنَّ مع وجودِ اللام لأنه لو لم تكن اللامُ لفَتَحْتَ «أنَّ» فقلت: شهدت أنَّ زيداً منطلق، فَمَنْ قرأ بفتح «أنه» فإنه لم يَنْوِ التعليق، ومَنْ كَسَرَ فإنَّه نوى التعليقَ ولم تدْخُل اللامُ في الخبرِ لأنه منفيٌّ كما ذكرنا «انتهى.
وكان الشيخ لَمَّا ذَكَرَ الفصلَ والاعتراضَ بين كلماتِ هذه الآيةِ قال ما نصه:» وأما قراءةُ ابنِ عباس فَخُرِّجَ على ﴿أنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ هو معمولُ شهد، ويكونُ في الكلامِ اعتراضان أحدُهما: بين المعطوفِ عليه والمعطوفِ، وهو «إنه لا إله إلا هو»، والثاني: بين المعطوفِ والحالِ وبين المفعولِ لشَهِدَ وهو: «لا إله إلا هو العزيز الحكيم» وإذا
88
أعْرَبنا «العزيز الحكيم» خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ كان ذلك ثلاثةَ اعتراضات. فانظر إلى هذه التوجيهاتِ البعيدةِ التي لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يأتيَ بنظيرِهِنَّ من كلامِ العرب، وإنما حَمَل على ذلك العجمةُ وعدمُ الإِمعانِ في تراكيب كلام العرب وحفظِ أشعارها، وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب أنه لن يكفيَ النحوُ وحدَه في علم الفصيح من كلام العرب، بل لا بُدَّ من الاطلاع على كلامِ العرب والتطبُّع بطبَاعها والاستكثارِ من ذلك «.
قلت: ونسبتُه كلامَ أعلامِ الأمة إلى العُجْمَةِ وعَدَمِ معرفتِهِم بكلام العرب وحَمْلُهم كلامَ الله على ما لا يجوز، وأنَّ هذا الوجه الذي ذكره هو تخريجُ سهل واضح غير مقبولةٍ ولا مُسَلَّمةٍ، بل المتبادرُ إلى الذهن ما نقله الناس، وتلك الاعتراضاتُ بين أثناء كلماتِ الآية الكريمة موجودٌ نظيرُها في كلامِ العرب، وكيف يَجْهل الفارسي والزمخشري والفراء وأضرابُهم ذلك، وكيف يتبَجَّح باطِّلاعه على ما لم يَطَّلِعْ عليه مثلُ هؤلاء، وكيف يَظُّنُّ بالزمخشري أنه لا يعرِفُ مواقعَ النَّظْم وهو المُسَلَّمُ له في علم المعاني والبيان والبديع، ولا يشك أحد أنه لا بد لمَنْ يتعرَّض إلى علم التفسير أن يعرف جملةً صالحةً/ من هذه العلوم، وانظر إلى ما حكى صاحب» الكشاف «في خطبته عن الجاحظ وما ذَكَرَهُ في حقِّ الجاهل بهذه العلومِ، ولكن الشيخَ يُنْكِرُ ذلك ويَدَّعِي أنه لا يُحْتَاجُ إلى هذه العلومِ البتة، فَمِنْ ثَمَّ صدر ما ذكرته عنه.
قوله: ﴿عِندَ الله﴾ ظرفٌ، العاملُ فيه لفظ «الدين» لِمَاك تَضمَّنه من معنى الفعل. قال أبو البقاء: «ولا يكونُ حالاً، لأن» إنَّ «لا تعمل في الحال»
89
قلت: قد جَوَّزُوا في «ليت» وفي «كأنَّ» وفي «ها» أن تعملَ في الحالِ. قالوا: لِما تَضَمَّنَتْه هذه الأحرفُ من معنى التمني والتشبيه والتنبيه، فإنَّ للتأكيدِ فَلْتعمل في الحالِ أيضاً، فليسَتْ تتباعَدُ عن «ها» التي للتنبيه، بل هي أَوْلَى منها، وذلك أنها عاملةٌ و «ها» لَيْسَتْ بعاملةٍ فهي أقربُ لشِبْهِ الفعلِ من «ها».
قوله: ﴿بَغْياً﴾ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ من أجلِهِ، العامل فيه «اختلف» والاستثناءُ مفرغٌ. والتقدير: وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيرِهِ. والثاني: أنه مصدرٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «الذين» كأنه قيل: «ما اختلفوا إلاَّ في هذه الحالِ، وليس بقوي، والاستثناءُ مفرَّغٌ أيضاً. [الثالث: أنه منصوبٌ على المصدرِ والعامِلُ فيه مقدَّرٌ] كأنه لَمَّا قيل:» وما اختلف «دَلَّ على معنَى:» وما بَغَى «فهو مصدرٌ مؤكِّدٌ، وهذا قولُ الزجاج، والأولُ قولُ الأخفش، ورجَّحه أبو علي. ووقع بعد» إلا «مستثنيان وهما:» مِنْ بعدِ «و» بَغْياً «وقد تقدَّم تخريجُ ذلك وما ذَكَرَ الناسُ فيه.
قوله: ﴿وَمَن يَكْفُرْ﴾ » مَنْ «مبتدأٌ، وفي خبره الأقوالُ الثلاثةُ، أعني فعلَ الشرطِ وَحْدَهُ، أو الجوابَ وحدَه، أو كلاهما. وعلى القولِ بكونِهِ الجوابَ وحده لا بدَّ من ضمير مقدَّرٍ أي: سريعُ الحسابِ له، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
وفَتَح الياءَ مِنْ «وجهي» هنا وفي الأنعام نافع وابن عامر وحفص، وسَكَّنها الباقون.
قوله: ﴿وَمَنِ اتبعن﴾ في محلِّ «مَنْ» أوجهٌ، أحدُها: الرفعُ عطفاً على
90
التاءِ في «أَسْلَمْتُ»، وجاز ذلك لوجودِ الفصلِ بالمفعولِ، قاله الزمخشري وبه بَدَأَ، وكذلك ابنُ عطية. قال الشيخُ: «ولا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على ظاهِرِهِ؛ لأنه إذا عُطِفَ على الضميرِ في نحو:» أُكلتُ رغيفاً وزيدٌ «لَزِمَ مِنْ ذلك أَنْ يَكونا شريكَيْنِ في أكلِ الرغيف، وهنا لا يَسُوغُ [فيه] ذلك لأنَّ المعنى ليس على: أَسْلَمُوا هم وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجهَه الله، بل المعنى على أنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْلَمَ وجهَهُ لله، وهم أَسْلموا وجوهَهم لله، فالذي يَقوَى في الإِعرابِ أنه معطوفٌ على الضمير محذوفٌ منه المفعولُ، لا مشارِكٌ في مفعولِ» أَسْلَمْتُ «والتقديرُ:» وَمَنِ اتَّبَعَنِي وجهَه أو أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ، لدلالةِ المعنى عليه، والتقديرُ: ومَنِ اتَّبعني كذلك أي: أَسْلَموا وجوهَهم لله، كما تقول: «قَضَى زيدٌ نَحْبَهُ وعَمروٌ» أي: وعمروٌ كذلك، أي: قَضَى نَحْبَه «.
قلت: إنَّما صَحَّ في نحوِ:» أكلتُ رغيفاً وزيدٌ «المشاركةُ لإِمكانِ ذلك، وأمَّا نحوُ الآيةِ الكريمةِ فلا يَتَوَهَّمُ أحدٌ فيه المشاركةَ.
الثاني: أنه مرفوعٌ بالابتداءِ والخبرُ محذوفٌ كما تقدَّم تقريرُهُ. الثالث: أنه منصوبٌ على المعيَّة، والواوُ بمعنى مع، أي: أَسْلَمْتُ وجهيَ لله مع مَنِ اتَّبعني، قاله الزمخشري أيضاً. قال الشيخُ:» ومِن الجهة التي امتَنَعَ عَطْفُ «ومَنْ» على الضمير إذا حَمَلَ الكلامَ على ظاهِرِهِ دونَ تأويلٍ يمتنعُ كونُ «
91
مَنْ» منصوباً على أنه مفعولٌ معه، لأنَّك إذا قلت: «أكلتُ رغيفاً وعمراً» أي: مع عمرٍو دَلَّ ذلك على أنه مشارِكٌ لك في أَكْلِ الرغيف، وقد أجاز الزمخشري هذا الوجه، وهو لا يجوزُ لِما ذكرنا على كلِّ حال؛ لأنه لا يجوزُ حَذْفُ المفعولِ مع كونِ الواوِ واوَ «مع» البتة «. قلت: فَهْمُ المعنى وعَدَمُ الإِلباسُ يُسَوِّغُ ما ذكرَهُ الزمخشري، وأيُّ مانِعٍ من أنَّ المعنى: فقل: أسلمتُ وجهيَ لله مصاحباً لِمَنْ أسلمَ وجهَهُ لله أيضاً، وهذا معنًى صحيح مع القولِ بالمعية.
الرابع: أنَّ محلَّ» مَنْ «الخفضُ نَسَقاً على اسمِ الله تبارك وتعالى، وهذا الإِعرابُ وإنْ كان ظاهرُهُ مُشْكلاً، فقد يُؤَوَّلَ على معنى: جَعَلْتُ مَقْصَدِي لله بالإِيمانِ به والطاعةِ له ولِمَنْ اتَّبعني بالحفظِ له، والتحفِّي بعلمه وبرأيه وبصحبته.
وقد أثبت الياءَ في» اتَّبعني «نافع وأبو عمرو وصلاً وَحَذفاها وقفاً، والباقون حَذَفُوها فيهما موافقةً للرسم، وحَسَّن ذلك أيضاً كونُها فاصلةً ورأسَ آية نحو:» أَكْرَمَن وأهانَن «وعليه قولُ الأعشى:
١٢٠٨ - وهل يَمْنَعُني ارتيادِي البلا
دَ مِنْ حَذَرِ الموتِ أَنْ يَأْتِيَنْ
وقال الأعشى أيضاً:
١٢٠٩ - ومِنْ شانِىءٍ كاسِفٍ وجُهه
إذا ما انْتَسَبْتُ له أَنْكَرَنْ
قال بعضُهم: «يكثُرَ حذفُ هذه الياءِ مع نونِ الوقاية خاصة، فإنْ لم تكن نونٌ فالكثيرُ إثباتها».
92
قوله: ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾ صورتُه استفهامٌ ومعناهُ الأمرُ، أي: أَسْلَموا، كقوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ أي: انتهوا، قال الزمخشري: «يعني أنه قد أتاكم من البيِّنات ما يوجِبُ الإِسلامَ ويقتضي حصولَه لا محالَة، فهل أسلمتم بعدُ، أم أنتم على كفركِم؟ وهذا كقولِك لِمَنْ لَخَّصْتَ له المسألةَ ولم تُبْقِ من طرق البيان والكشفِ طريقاً إلاَّ سَلَكْتَه: هل فهمتها أم لا، لا أُمَّ لك؟ ومنه قولُه عز وجل: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١] بعدَ ما ذَكَرَ الصَّوارِفَ عن الخمرِ والميسرِ، وفي هذا الاستفهامِ استقصاءٌ وتعبيرٌ بالمعانَدَةِ وقِلَّةِ الإِنصافِ، لأنَّ المنصفَ إذا تجَلَّتْ لَه الحُجَّةُ لم يتوقَّف إذعانُه للحق» وهو كلامٌ حسنٌ جداً/ وقوله: ﴿فَقَدِ اهتدوا﴾ دَخَلَت «قد على الماضِي مبالغةً في تحقُّق وقوعِ الفعلِ وكأنَّه قد قَرُبَ من الوقوعِ.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ﴾ : لَمَّا ضُمِّن هذا الموصولُ معنى الشرطِ دَخَلَتِ الفاءُ في خبرِه، وهو قولُه: فبشِّرْهُم، وهذا هو الصحيحُ، أعني أنه إذا نُسِخَ المبتدأُ ب «إنَّ» فجوازُ دخولِ الفاءِ باقٍ، لأن المعنى لم يتغيَّرْ، بل ازدادَ تأكيداً، وخَالَف الأخفشُ فمنعَ دخولَها مع نَسْخِة ب «إنَّ»، والسماعُ حُجَّةٌ عليه كهذِه الآية، وكقوله: ﴿إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات﴾ [البروج: ١٠] الآية، وكذلك إذا نُسِخَ ب «لكنَّ» كقوله:
١٢١٠ - فوالله ما فَارَقْتُكُمْ عن مَلالةٍ
ولكنَّ ما يُقْضَى فسوف يكون
وكذلك إذا نُسِخَ ب «أنَّ» المفتوحة كقوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ
93
مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ [خُمُسَهُ] } [الأنفال: ٤١]، أمَّا إذا نُسِخَ بليت ولعل وكان امتنعتِ الفاءُ عند الجميعِ لتغيُّرِ المعنى.
قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ﴾ قرأ حمزة «ويُقاتلِون» من المقاتلة، والباقون: «ويَقْتُلون» كالأولِ، فأمَّا قراءةُ حمزةَ فإنه غايَرَ فيها بين الفعلين وهي موافقةٌ لقراءةِ عبد الله: «وقاتِلوا» من المقاتلة، إلاَّ أنَّه أتى بصيغةِ الماضي، وحمزةُ يُحْتمل أن يكونَ المضارعُ في قراءتِه لحكاية الحالِ ومعناه المضيُّ. وأمَّا الباقون فقيل في قراءتهم: إنما كَرَّر الفعلَ لاختلافِ متعلَّقه، أو كُرِّر تأكيداً، وقيل: المرادُ بأحدِ القَتْلين تفويتُ الروحِ وبالآخرِ الإِهانةُ، فلذلك ذَكَر كلَّ واحدٍ على حِدَتِه، ولولا ذلك لكان التركيبُ «ويقتلون النبيين والذين يَأْمُرون».
وقرأ الحسن: «ويُقَتِّلون» بالتشديد ومعناه التكثيرُ، وجاء هنا «بغيرِ حق» مُنَكَّراً، وفي البقرة ﴿بِغَيْرِ الحق﴾ [الآية: ٦١] مُعَرَّفاً قيل: لأنَّ الجملةَ هنا أُخْرِجَتْ مُخْرَجَ الشرطِ، وهو عامٌ لا يتخصَّصُ فلذلك ناسَبَ أن تُنَكَّر في سياقِ النفي ليعُمَّ، وأمَّا في البقرةِ فجاءَتْ الآيةُ في ناسٍ مَعْهودين مُشَخَّصِين بأعيانِهم، وكانُ الحقُّ الذي يُقْتَلُ به الإِنسانُ معروفاً عندهم فلم يُقْصَدْ هذا العمومُ الذي هنا، فَجِيءَ في كلَّ مكان بما يناسِبُه. قوله: «من الناس» : إمَّا بيانٌ وإمَّا للتبعيض، وكلاهما معلومٌ أنهم من الناسِ، فهو جارٍ مَجْرى التأكيدِ.
قوله تعالى: ﴿يُدْعَوْنَ﴾ : في محلِّ نصب على الحالِ من «الذين أُوتوا». وقولُه «ليحكُمَ» متعلقٌ بيُدْعَوْن. وقوله: «ثم يَتَوَّلى» عطفٌ على «يُدْعَوْن» و «منهم» صفةٌ لفريق.
وقوله: ﴿وَهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ يجوزُ أن تكونَ صفةً معطوفةً على الصفةِ قبلها فتكونُ الواوُ عاطفةً، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير المستتر في «منهم» لوقوعِهِ صفةً فتكونُ الواوُ للحالِ، [ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من «فريق» وجاز ذلك وإنْ كان نكرةً لتخصيصِه بالوصفِ قبلَه] وإذا كانَتْ حالاً فيجوزُ أَنْ تكونَ مؤكدةً، لأَنَّ التولَّيَ والإِعراضَ بمعنى، ويجوزُ أن تكونَ مبيِِّنةً لاختلافِ متعلَّقِهما، قالوا: لأنَّ التولِّيَ عن الداعي، والإِعراضَ عَمَّا دُعِي إليه. وُيحْتمل أن تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً لا محلَّ لها أَخبْر عنهم بذلك.
وقرأ الحسن وأبو جعفر والجحدري، «لِيُحْكَمَ» مبنياً للمفعول والقائمُ مقامَ الفاعلِ هو الظرفُ، أي: ليَقَعَ الحكمُ بينهم.
قوله تعالى: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ﴾ : يجوزُ في «ذلك» وجهان، أًصحُّهما: أنه مبتدأٌ والجارُّ بعده خبرهُ، أي: ذلك التولِّي بسببِ هذه الأقوالِ الباطلةِ التي لا حقيقةَ لها. والثاني: أن «ذلك» خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: الأمرُ ذلك، وهو قولُ الزجاج. وعلى هذا فقولُه: «بأنهم» متعلق بذلك المقدَّر، وهو الأمر ونحوه. وقال أبو البقاء: «فعلى هذا يكون قوله:» بأنهم «في موضعِ نصبٍ على الحال مِمَّا في» ذا «من معنى الإِشارة أي: ذلك الأمرُ مستحقاً بقولِهم»، ثم قال: «وهذا ضعيفٌ». قلت: بل لا يجوزُ البتة.
95
وجاء هنا «معدودات» بصيغة الجمع، وفي البقرة: ﴿مَّعْدُودَةً﴾ [الآية: ٨٠] تفنُّناً في البلاغة، وذلك أنَّ جَمْعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يجوزُ أَنْ يعامَلَ معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً ومعاملةَ جمعِ الإِناث أخرى، فيقال: «هذه جبالٌ راسيةٌ» وإن شئت: «راسيات»، و «جِمال ماشية» وإن شئت: «ما شيات». وخُصَّ الجمعُ بهذا الموضعِ لأنه مكانُ تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا، فأتى بلفظِ الجمعِ مبالغةً في زَجْرِهم وزجرِ مَنْ يعملُ بعملهم.
قوله: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ﴾ الغُرور: الخِداع، يقال منه: غَرَّه يَغِرُّه غُرورا فهو غارٌّ ومغرور، والغَرور بالفتح مثالُ مبالغة، كالضَّروب، والغِرُّ: الصغير، والغَريرة: الصغيرة لأنهما يَنْخَدِعَان والغِرَّةُ مأخوذة من هذا. يقال: «أخَذَه على غِرَّة» أي: تَغَفُّل وخداع، والغُرَّةُ: بياضٌ في الوجهِ، يقال منه: وَجْهٌ أَغرُّ ورجل [أغرُّ] وامرأة «غَرَّاء»، والجمعُ القياسي: غُرٌّ، وغيرُ القياسي: غُرَّان. قال:
١٢١١ - ثيابُ بني عوفٍ طَهارى نَقِيَّةٌ
وأوجُهُهم عند المَشاهِدِ غُرَّانُ
والغُرَّةُ من كلِّ شيء: أَنْفَسُه، وفي الحديث: «وجَعَلَ في الجنين غُرَّةً عبداً أو أَمَة» وقيل: «الغُرَّةُ» الخِيارُ. وقال أبو عمرو بن العلاء في تفسير هذا الحديث: «إنه لا يكون إلا الأبيضُ من الرقيقِ» كأنَّه أَخَذَه من الغُرَّة وهي البياضُ في الوجه.
قوله: ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾«ما» يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: الذي كانوا يَفْتَرُونه.
قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا﴾ :«كيف» منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه: كيف يكونُ حالُهم؟ كذا قدَّره الحوفي، وهذا يَحْتمل أَنْ يكونَ الكونُ تاماً، فيجيء في «كيف» الوجهان المتقدِّمان في قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] من التشبيه بالحال أو الظرف، وأن تكونَ الناقصةَ فتكونَ «كيف» خبرَها، وقَدَّر بعضُهم الفعلَ فقال: «كيف يَصْنعون» ف «كيف» على ما تقدَّم من الوجهين، ويجوز أَنْ تكونَ «كيف» خبراً مقدَّماً، والمبتدأُ محذوفٌ، تقديرُه: فكيف حالُهم؟.
قوله: ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ ظرفٌ مَحْضٌ من غيرِ تضمينِ شرطٍ، والعاملُ فيه العاملُ في «كيف» إنْ قلنا إنَّها منصوبةٌ بفعلٍ مقدَّرٍ كما تقدَّم تقريرُه، وإنْ قلنا: إنَّها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ وهي منصوبَةٌ انتصابَ الظروفِ كانَ العاملُ في «إذا» الاستقرارَ العاملَ في «كيف» لأنها كالظرفِ. وإنْ قلنا: إنها اسمٌ غيرُ ظرفٍ، بل لمجردِ السؤالِ كان العاملُ فيها نفسَ المبتدأ الذي قَدَّرناه، أي: كيف حالُهم في وقت/ جَمْعِهم.
قوله: ﴿لِيَوْمٍ﴾ متعلِّقٌ بجمعناهم «أي: لقضاء يومٍ أو لجزاء يوم و ﴿لاَّ رَيْبَ فِيهِ﴾ في صفةٌ للظرف.
قوله تعالى: ﴿اللهم﴾ : اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظة الكريمة. فقال البصريون: الأصلُ يا الله، فحُذِفَ حرفُ النداء، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة. وهذا خاصٌّ بهذا الاسمِ الشريف فلا يجوزُ تعويضُ الميمِ من حرفِ النداء في غيره، واستدلُّوا على أنَّها عوضٌ من «يا» أنهم لم يَجْمَعوا بينهما فلا يُقال: يا اللهمَّ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله:
97
١٢١٢ - وما عليكِ أَنْ تقولي كلما
سَبَّحْتِ أو هَلَّلْتِ يا اللهم ما
أرْدُدْ علينَا شَيْخَنا مُسَلَّما... وقال الكوفيون: الميمُ المشددةُ بقية فعلٍ محذوفٍ تقديرُه: «أُمَّنا بخير» أي: اقصُدْنا به، مِنْ قولك: «أمَّمْتُ زيداً» أي قصدتُه، ومنه: ﴿ولا آمِّينَ البيت الحرام﴾ [المائدة: ٢] أي: قاصِديه، وعلى هذا فالجمعُ بينَ «يا» والميمِ ليس بضرورةٍ عندهم، إذ ليسَتْ عوضاً منها. وقد رَدَّ عليهم البصريون هذا بأنه قد سُمع «اللهم أُمَّنَا بخير» وقال تعالى: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ﴾ [الأنفال: ٣٢] فقد صَرَّح بالمدعوِّ به، فلو كانَتِ الميمُ بقيةَ «أمَّنا» لفسد المعنى فبان بطلانُه. وهذا من الأسماء التي لَزِمَت النداءَ فلا يجوزُ أَنْ يقعَ في غيرِه، وقد وَقَع في ضرورةِ الشعرِ كونُه فاعِلاً. أنشد الفراء:
١٢١٣ - كحَلْفَةٍ من أبي دِثار
يَسْمَعُها اللهُمَ الكُبارُ
فاستعملَه هنا فاعلاً بقوله: «يَسْمَعُها» ولا يجوزُ تخفيفُ ميمِه، وجَوَّزه الفراء وأنشد البيت: «يَسْمَعُها اللَهُمَ/ الكُبار» بتخفيفِ الميم؛ إذ لا يمكنُه استقامةُ الوزن إلاَّ بذلك. قال بعضُهم: «هذا خطأٌ فاحِشٌ، وذلك لأنَّ الميمَ بقيةُ» أُمَّنا «وهو رأيُ الفراء، فكيف يُجَوِّزُ الفراء؟ وأجاب عن البيت بأنَّ الروايةَ ليسَتْ كذلك، بل الروايةُ: يَسْمَعُها لاهُه الكُبارُ. قلت: وهذا [لا يُعارِضُ الروايةً الأخرى، فإنه كما صَحَّتْ هذه صَحَّتْ] تَيْكَ. وردَّ
98
الزجاج مذهبَ الفراء بأنه لو كان الأصل:» يا لله أُمَّنا «لَلُفِظَ به مَنْبَهَةً على الأصل كما قالوا في: وَيْلُمِّه: ويلٌ لأُمِه.
ومن أحكام هذه اللفظةِ أيضاً أنها كَثُرَ دَوْرُها حتى حُذِفَتْ منها الألف واللامُ في قولِهم:» لاهُمَّ «أي: اللهم، وقال الشاعر:
١٢١٤ - لا هُمَّ إنَّ عامرَ بنَ جَهْمِ
أَحْرَم حَجَّاً في ثيابٍ دُسْمِ
وقال آخر:
١٢١٥ - لا هُمَّ إنَّ جُرْهُما عِبادُكا
الناسُ طَرْفٌ وهمُ بِلادُكا
وفي هذه الكلمةِ أبحاثُ كثيرةٌ موضِعُها غيرُ هذا.
قوله: ﴿مَالِكَ الملك﴾ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ من» اللهم «. الثاني: أنه عطفُ بيان. الثالث: أنه منادى ثانٍ، حُذِفت منه حرفُ النداء، أي: يا مالكَ المُلك، وهذا هو البدلُ في الحقيقةِ، إذ البدلُ على نيةِ تكرارِ العاملِ، إلاَّ أنَّ الفرقَ هذا ليسَ بتابعٍ. الرابع: أنه نعتٌ ل» اللهم «على الموضعِ فلذلك نُصِب، وهذا ليس مذهب سيبويه، فإنَّ سيبويه لا يُجِيزُ نَعْتَ هذه اللفظةِ لوجودِ الميم في آخِرها، لأنها أَخْرَجَتْها عن نظائرها من الأسماءِ، وأجازَ المبرد ذلك، واختارَه الزجاج قالا: لأنَّ الميمَ بدَلٌّ من» يا «
99
والمنادى مع» يا «لا يمتنعُ وَصْفُه فكذا مع ما هو عوضٌ منها، وأيضاً فإنَّ الاسمَ لم يتغيَّرْ عن حكمِه، ألا تَرَى إلى بقائه مبنياً على الضم كما كانَ مبنياً مع» يا «.
وانتصرَ الفارسي [لسيبويه] بأنه ليسَ في الأسماءِ الموصوفةِ شيءٌ على حَدِّ «اللهم» فإذا خالَفَ ما عليه الأسماءَ الموصوفَةَ ودخل في حَيِّزِ ما لا يُوصَفُ من الأصواتِ وَجَبَ ألاَّ يوصَفَ، والأسماءُ المناداةُ المفردةُ المعرفةُ القياسُ ألاَّ توصفَ كما ذهب إليه بعضُ الناسِ لأنها واقعةٌ موقعَ ما لا يوصف. وكما أنه لمَّا وَقَع موقعَ ما لا يُعْرَبُ لم يُعْرَبْ، كذلك لَمَّا وَقَعَ مَوْقِعَ ما لا يُوْصَفُ لم يُوْصَفْ. فأما قوله:
١٢١٦ - يا حكمُ الوارثُ عن عبد الملكْ
.......................
وقوله:
١٢١٧ - يا حَكَمُ بنَ المنذرِ بنَ الجارودْ
سُرادِقُ المجدِ عليك مَمْدُودْ
و [قوله] :
١٢١٨ -.........................
............... يا عُمَرُ الجَوادا
100
فإنَّ الأولَ على «أنت» والثاني على نداءٍ ثانٍ، والثالثُ على إضمارِ «أعني»، فلمَّا كان هذا الاسمُ الأصلُ فيه ألاَّ يوصَفَ لِمَا ذَكَرْنا كان «اللهم» أَوْلى ألاَّ يوصفَ، لأنه قبل ضمِّ الميمِ إليه واقعٌ موقعَ ما لا يوصفُ، فلَّما ضُمَّتْ إليه الميمُ صيغَ معَهَا صياغةً مخصوصةً، وصارَ حكمُه حكمَ الأصوات، وحكُم الأصواتِ ألاَّ توصَفَ نحو: «غاق» وهذا مع ما ضُمَّ إليه من الميمِ بمنزلةِ صوتٍ مضمومٍ إلى صوتٍ نحو: «حَيَّهَلَ» فحقُّه ألاَّ يوصفَ كما لا يُوصف «حيهل». انتهى ما انتصر به أبو علي السيبويه وإن كان لا ينتهضُ مانعاً.
قوله: ﴿تُؤْتِي﴾ هذه الجملةُ وما عُطِفَ عليها يجوزُ أنْ تكونَ مستأنفةً مُبَيِّنَةً لقوله: ﴿مَالِكَ الملك﴾ ويجوزُ أن تكونَ حالاً من المنادى، وفي انتصابِ الحالِ عن المنادى خلافٌ، الصحيحُ جوازُه، لأنه مفعولٌ به، والحالُ كما تكونُ لبيانِ هيئةِ الفاعل تكونُ لبيان هيئةِ المفعولِ، ولذلك أَعْرب الحُذَّاقُ قولَ النابغةَ:
١٢١٩ - يا دارمَيَّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ
أَقْوَت وطالَ عليها سالِفُ الأبدِ
إن «بالعلياء» حالٌ من «دارمَيَّة»، وكذلك «أَقْوت».
والثالث من وجوه «تُؤتي» أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر أي: أنت تُؤتي، فتكونُ الجلمةُ اسميةً، وحينئذ يجوز أن تكونَ مستأنفة وأن تكون حالية.
وقوله: ﴿تَشَآءُ﴾ أي: تشاء إيتاءه، وتشاء انتزاعه، فحذف المفعول بعد المشيئة للعلم به/
أي: ويدُها.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف قال:» بيدِك الخيرُ «فذكرَ الخيرَ دونَ الشر؟ قلت: لأن الكلامِ إنما وقع في الخير الذي يسوقه الله إلى المؤمنين، وهو الذي أنكرَتْه الكفرةُ، فقال: بيدك الخير تؤتيه أولياءَك على رغمٍ مِنْ أعدائك» انتهى.
وهذا جوابٌ حسنٌ جداً، ثم ذكر هو كلاماً آخرَ يُوافق مذهبَه لا حاجةَ لنا به، وقيل: هذا من آداب القرآن حيث لم يصرِّحْ إلا بما هو محبوبٌ لخَلْقِه، ونحوٌ منه قولُه: «والشرُّ ليس إليك» وقولُه: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠].
والنَّزْعُ: الجَذْبُ، يقال: نَزَعَهُ يَنْزِعُه نَزْعاً إذا جَذَبَه عنه، ويُعَبَّر به عن المَيْلِ، ومنه: «نَزَعَتْ نفسُه إلى كذا» كأنَّ جاذباً جَذَبَها، ويُعَبَّر به عن الإِزالَةِ، «نَزَعَ الله عنك الشَّر» أي: أَزاله، ﴿يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا﴾ [الأعراف: ٢٧] أي: أَزاله، وكهذه الآيةِ فإنَّ المعنى: ويُزِيلُ المُلْكَ.
والوُلوجُ: الدخولُ، والإِيلاجُ: الإِدْخال، ومعنى الآية على ذلك. وقول مَنْ قال معناه: النقص فإنما أراد أنه من باب اللازم، لأنه تبارك وتعالى إذا أَدْخَلَ مِنْ هذا في هذا فقد نَقَصَ من المأخوذِ منه المُدْخَلُ في ذلك الآخرِ، وزعم بعضُهم أن «تُولِج» بمعنى ترفع، وأن «في» بمعنى «على» وليس بشيء.
قوله: ﴿مِنَ الميت﴾ اختلف القُرَّاء في هذه اللفظة على مراتب: فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكرٍ عن عاصم لفظ «المَيْت» من غير تاء تأنيث مخففاً في جميع القرآن، وسواءً وُصِفَ به الحيوانُ نحو: ﴿تُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾ أو الجمادُ نحو قوله تعالى: ﴿إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ [فاطر: ٩] ﴿لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ [الأعراف: ٥٧] منكَّراً أو معرَّفاً كما تقدَّم ذكره إلا قولَه تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠]، وقولَه: ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ [الآية: ١٧] في إبراهيم، مما لم يَمُتْ بعدُ فإن الكلَّ ثَقَّلوه، وكذلك لفظُ «الميتة» في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة﴾ [يس: ٣٣] دونَ الميتةِ المذكورةِ مع الدمِ فإنَّ تَيْكَ لم يشددها إلا بعضُ قُرَّاء الشواد، وقد تقدَّم ذكرُها في
103
البقرة، وكذلك قولُهُ: ﴿وَإِن يَكُن مَّيْتَةً﴾ [الأنعام: ١٣٩] و ﴿بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ [الزخرف: ١١] و ﴿إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً﴾ [الأنعام: ١٤٥] فإنها مخففات عند الجميع. وثَقَّل نافع جميعَ ذلك، والأخوان وحفص عن عاصم وافقوا ابن كثير ومَنْ معه في الأنعام في قوله: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الآية: ١٢٢] وفي الحجرات: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً﴾ [الآية: ١٢]، و ﴿الأرض الميتة﴾ في يس، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك، فجَمعوا بين اللغتين إيذاناً بأن كُلاًّ من القراءتين صحيحٌ، وهما بمعنًى، لأنَّ فَيْعِل يجوزُ تخفيفُه في المعتل بحذف إحدى يائيه فيقال: هَيْن وهيِّن ولَيْن وليِّن ومَيْت ومَيِّت، ومنه قولُ الشاعر فَجَمَعَ بين اللغتين:
١٢٢٢ - ليسَ مَنْ ماتَ فاستراحَ بميْتٍ
إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
إنما المَيْتُ مَنْ يعيشُ كئيباً
كاسِفاً بالُهُ قليلُ الرَّجاءِ
وزعم بعضهم أن «مَيْتاً» بالتخفيف لمَنْ وقع به الموت، وأنَّ المشدَّد يُستعمل فيمَنْ ماتَ ومَنْ لم يَمُتْ كقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠] وهذا مردودٌ بما تقدَّم من قراءةِ الأخَوين وحفص، حيث خَفَّفوا في موضعٍ لا يمكِنُ أن يرادَ به الموتُ وهو قولُهُ: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً﴾ [الأنعام: ١٢٢] إذا المرادُ به الكفرُ مجازاً.
104
هذا بالنسبة إلى القُرَّاء، وإن شئت ضَبَطْتَه باعتبار لفظ «الميت» فقلت: هذا اللفظُ بالنسبة إلى قراءة السبعة ثلاثةُ أقسام: قسمٌ لا خلاف في تثقيله وهو ما لم يَمُتْ نحو ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ و ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾، وقسمٌ لا خلافَ في تخفيفه وهو ما تقدم في قوله: ﴿الميتة والدم﴾ و ﴿إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً﴾ وقوله: ﴿وَإِن يَكُن مَّيْتَةً﴾ وقوله ﴿فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ وقسمٌ فيه الخلافُ وهو ما عدا ذلك وقد تقدَّم تفصيلُهُ.
وقد تقدَّم أيضاً أن أصلَ ميِّت: مَيْوِت فأدغم، وأن في وزنِهِ خلافاً: هل وزنه فَيْعِل وهو مذهب البصريين أو فَعِيل وهو مذهب الكوفيين، وأصله: مَوِيت، قالوا: لأنَّ فَيْعِلاً مفقودٌ في الصحيح فالمعتلُّ أَوْلى ألاَّ يوجَد فيه. وأجاب البصريون عن قولهم بأنه لا نظير له في الصحيح بأنَّ قَضاة في جمع «قاض» لا نظير له في الصحيح. وتفسيرُ هذا الجواب أنَّا لا نُسَلِّم أنَّ المعتل يلزم أن يكون له نظيرٌ من الصحيح، ويدل على عدمِ التلازم: «قُضاة» جمع قاضٍ، وفي «قضاة» خلافٌ طويل ليس هذا موضعَ ذكره. واعتراض البصريون عليهم بأنه لو كان وزنه فَعِيلاً لوجَبَ أن يَصِحَّ كما صَحَّتْ نظائره من ذواتِ الواو نحو: طَوِيل وعَوِيل وقَوِيم، فحيثُ اعتلَّ بالقلبِ والإِدغامِ، امتنَعَ أَنْ يُدَّعى أنَّ أصلَه فَعِيل لمخالَفَةِ نظائره. وهو ردٌّ حسنٌ.
قوله: ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل أي: ترزقه وأنت لم تحاسِبْه، أي: لم تُضَيِّقْ عليه، أو من المفعول أي: غيرَ مُضَيِّقٍ عليه/. وقد تقدَّمَ الكلامُ على مثل هذا مشبعاً في البقرة عند قوله تعالى: ﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [البقرة: ٢١٢] فَأَغْنَى عن إعادته.
واشتملت هذه الآيةُ على أنواعٍ من البديع، منها: التجنيس المماثل في
105
قوله: «مالكَ المُلْك» تُؤتي المُلَكْ، وتَنْزِعُ الملك «ومنها: الطباقُ وهو الجمعُ بن متضادَّيْن أو شِبْهِهِمَا، وذلك في قوله:» تُؤْتي الملك وتَنْزِع «وفي» تُعِزُّ وتُذِلٌّ «، وفي قوله:» بيدك الخيرُ «أي: والشرُّ عند بعضهم، وفي قوله:» الليل والنهار «وفي قوله:» الحي والميت «. ومنها ردُّ الأعجازِ على الصدور، والصدور على الأعجاز في قوله: ﴿وَتُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل﴾ وفي قولِهِ: ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾ ونحوُهُ: عاداتُ الساداتِ ساداتُ العاداتِ». وتضمَّنَتِ من المعاني التوكيدَ: بإيقاعِ الظاهِرِ موقعَ المضمر في قوله: «تؤتى الملك إلخ» وفي تجوُّزِهِ بإيقاعِ الحرفِ مَكانَ ما هو بمعناه، والحذفُ لفهمِ المعنى.
قولُهُ تعالى: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون﴾ : العامَّة على قراءتِهِ نهياً، وقرأ الضبي: «لا يتَّخِذُ» برفع الدال نفياً بمعنى لا ينبغي، أو هو خبر بمعنى النهي نحو: ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ﴾ [البقرة: ٢٣٣] و ﴿وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ﴾ [البقرة: ٢٨٢] فيمن رفع الراء. قال أبو البقاء وغيرُه: «وأجاز الكسائي رفعَ الراء على الخبر، والمعنى: لا ينبغي» وهذا موافِقٌ لِما قاله الفراء، فإنه قال: «ولو رُفع على الخبرِ كقراءةِ مَنْ قرأ:» لا تضارُّ والدة «جاز». قال أبو إسحاق: «ويكون المعنى على الرفعِ أنه مَنْ كان مؤمناً فلا ينبغي أن يَتَّخِذَ الكافرُ ولياً» كأنهما لم يَطَّلِعا على قراءةِ الضبّي، أو لم تَثْبُتْ عندهما. و «يَتَّخِذُ» يجوز أن تكونَ المتعديةَ لواحد فيكونُ «أولياء» حالاً، وأن تكونَ المتعدية لاثنين، و «أولياء» هو الثاني.
106
قوله: ﴿مِن دُونِ المؤمنين﴾ فيه وجهان، أظهرهُما: أنَّ «مِنْ» لابتداء الغاية، وهي متعلقةٌ بفعلِ الاِّتخاذ. قال علي بن عيسى: «أي: لا تَجْعَلُوا ابتداءَ الولايةِ من مكانٍ دونَ مكانِ المؤمنين» وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله تعالى: ﴿وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله﴾ [البقرة: ٢٣] في البقرة. والثاني أجازه أبو البقاء أن يكونَ في موضِعِ نصبٍ صفةً لأولياء، فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ. قوله: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك﴾ أدغم الكسائي في رواية الليث عنه اللام في الذال هنا، وفي مواضعَ أُخَرَ تقدَّم التنبيه عليها وعلى علتِها في سورةِ البقرة.
قوله: ﴿مِنَ الله﴾ الظاهِرُ أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحال من «شيء» لأنه لو تأخَّر لكانَ صفةً له. و «في شيء» هو خبرُ ليس، لأن به تستقبلُّ فائدةُ الإِسناد، والتقدير: فليس في شيء كائنٍ من الله، ولا بد من حذف مضاف أي: فليس من ولاية الله، وقيل: مِنْ دِينِ الله. ونَظَّر بعضُهم الآية الكريمة ببيت النابغة:
١٢٢٣ - إذا حاوَلْتَ في أسدٍ فُجُوراً
فإنِّي لَسْتُ منك ولَسْتَ مِنِّي
قال الشيخ: «والتنظير ليس بجيدٍ، لأنَّ» منك «و» مني «خبر» ليس «، تستقل به الفائدة، وفي الآية: الخبرُ قولُه» في شيء «فليس البيت كالآية».
وقد نحا ابنُ عطيةَ هذا المَنْحَى الذي ذكرته عن بعضهم فقال: «
107
فليس من الله في شيء مَرْضِيٍّ على الكمال والصواب، وهذا كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» مَنْ غَشَّنا فليس منا «وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ تقديرُهُ: فليس من التقرُّب إلى الله والثوابِ ونحو هذا، وقولُه:» في شيء «هو في موضِعِ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ الذي في قولِهِ:» ليس مِنَ الله «.
قال الشيخ: «وهو كلامٌ مضطربٌ، لأنَّ تقديرَه: فليس من التقرب إلى الله يقتضي ألاَّ يكونَ» من الله «خبراً لليس، إذ لا يستقلُّ، وقوله:» في شيء «هو في موضعِ نصبٍ على الحال يقتضي ألاَّ يكونَ خبراً، فتبقى» ليس «على قوله ليس لها خبرٌ، وذلك لا يجوز، وتشبيهُهُ الآية الكريمة بقوله عليه السلام:» مَنْ غَشَّنَا فليس منا «ليس بجيدٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا من الفرق بين بيت النابغة وبين الآية الكريمة».
قلت: قد يُجاب عن قوله: «إنَّ» من الله «لا يكونُ خبراً لعدم الاستقلال» بأنَّ في الكلامِ حَذْفَ مضافٍ، تقديرُه: فليسَ من أولياء الله، أو ليس، لأنَّ اتخاذَ الكفارَ أولياءَ ينافي ولايةَ الله تعالى، وكذا قولُ ابن عطية: فليس من التقرب أي: من أهل التقرب، وحينئذ يكون التنظيرُ بين الآية والحديثِ وبيتِ النابغة مستقيماً بالنسبة إلى ما ذَكَر، ونظير تقدير المضاف هنا قوله تعالى: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [إبراهيم: ٣٦] أي: ما أشياعي وأتباعي، وكذا قولُه تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني﴾ [البقرة: ٢٤٩]، وقول العرب: «أنت مني
108
فرسخين» أي: من أشياعي، ما سِرْنا فرسخين. ويجوز أن يكون «من الله» هو خبرَ ليس، و «في شيء» يكون حالاً من الضمير في «ليس» كما ذهب إليه ابن عطية تصريحاً، وغيرُه إيماءً، وقد تقدَّم اعتراضُ الشيخ عليهما وجوابُه.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ﴾ هذا استثناءٌ مفرغٌ من المفعول [من أجله، والعامل فيه: لا يَتَّخِذُ أي] : لا يَتَّخِذُ المؤمنُ الكافر وليّاً لشيءٍ من الأشياء إلا للتَقِيَّة ظاهراً، أي يكونُ مُواليَه في الظاهر ومعادِيَه في الباطن، وعلى هذا فقولُه: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك﴾ وجوابُهُ معترضٌ بين العلة ومعلولِها.
وفي قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ﴾ التفاتٌ من غيبة إلى خطاب، ولو جرى على سَنَنِ الكلام الأولِ لجاء بالكلامِ غيبة، وأَبْدَوا للالتفاتِ هنا معنًى حسناً: وذلك أن موالاة الكفار لَمَّا كانت مستقبحةً لم يواجِه اللهُ عبادَه بخطابِ النهي، بل جاء به في كلام أُسْنِدَ الفعل المنهيُّ عنه لغيب، ولَمَّا كانَتِ المجامَلَةُ في الظاهر والمحاسنةُ جائزةً لعذرٍ وهو اتِّقاءُ شرِّهم حَسُنَ الإِقبالُ إليهم وخطابُهم بِرَفْع الحرج عنهم في ذلك.
قوله: ﴿تُقَاةً﴾ في نصبِها ثلاثة أوجه وذلك مبنيٌّ على تفسير «تقاة» ما هي؟ أحدها: أنها منصوبةٌ على المصدر والتقدير: تَتَّقوا منهم اتقاء، فتقاة واقعة موقع الاتقاء، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها، والأصل: أن تتقوا اتقاءً، نحو: تقتدروا اقتداراً، ولكنهم أَتَوْا بالمصدر على حذف الزوائد كقوله: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧] والأصلُ إنبات ومثله:
١٢٢٤ -.........................
وبعدَ عطائِك المئةَ الرَّتاعا
109
أي: إعطائك، ومن ذلك أيضاً قوله:
١٢٢٥ -.........................
وليس بأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّباعا
قول الآخر:
١٢٢٦ - ولاحَ بجانب الجبلين منه
رُكامٌ يَحْفِرُ الأرضَ احتفارا
وهكذا عكس الآية، إذا جاء بالمصدر مزاداً فيه، والفعل الناصب له مجرَّد من تلك الزوائد. ومن مجيء المصدرِ على غيرِ المصدر قولُه تعالى: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ [المزمل: ٨]، والأصل تََبَتُّلاً، ومثله:
١٢٢٧ - وقد تَطَوَّيْتُ انطواءَ الحِضْبِ
.......................
والأصلُ: تَطَوِّياً، وأصلُ تُقاة: «وُقَيَة» مصدرٌ على فُعَل من الوقاية، وقد تقدَّم تفسير هذه المادة في أول هذا الموضوع، ثم أُبْدلت الواوُ تاءً، ومثلُها تُخَمة وتُكَاة وتُجاه، وتَحَرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلَها فَقُلِبت ألفاً، فصارَ اللفظُ «تُقاة»، كما ترى، ووزنُها فُعَلة، ومجيءُ المصدرِ على فُعَل وفُعَلة قليل نحو: التُّخَمة والتُّهَمة والتُّؤَدة والتكَأَة، وانضمَّ إلى ذلك كونُها جاءت على غيرِ الصدر، والكثيرُ مجيءُ المصدرِ جاريةً على أفعالها قيل: وحَسَّن مجيءَ هذا
110
المصدرِ ثلاثياً كونُ «فُعَلة» قد حُذِفت زوائدُه في كثيرٍ من كلامهم نحو: تَقَى يَتْقِي ومنه:
١٢٢٨ -.........................
تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تتلو
وقد قَدَّمُتْ تحقيق ذلك في أول البقرة.
الثاني: أنها منصوبةٌ على المفعولِ به، وذلك أن يكونَ «تَتَّقوا» بمعنى تخافوا، ويكون «تقاة» مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ به، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال: «إلا أَنْ تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه، وقُرىء» تَقِيَّة «، وقيل للمتقى: تُقاة وتَقِيَّة كقولهم» ضَرْب الأمير «لمضروبه». انتهى فصار تقديرُ الكلام: إلا أن تخافوا منهم أمراً مُتَّقَىً.
الثالث: أنها منصوبةٌ على الحال وصاحبُ الحال فاعل «تتقوا» وعلى هذا تكونُ حالاً مؤكدة، لأنَّ معناه مفهوم من عاملها كقوله: ﴿وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ [مريم: ٣٣] ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: ٦٠]، وهو على هذا جمعُ «فاعِل» وإن لم يُلْفظ بفاعل من هذه المادة فيكون فاعلاً وفُعَلَة نحو: رام ورُماة وغاز وغُزاة، لأنَّ فعلَه يَطَّرد جمعاً لفاعِل الوصفِ المعتلِّ اللامِ، وقيل: بل فُعَلَة جمعٌ لفعيل، أجازَ ذلك كلَّه أبو علي الفارسي. قلت: جمعُ فَعِيل على فُعَلة لا يجوزُ، فإن فَعِيلاً الوصفَ المعتلَّ اللامِ يُجْمع على أَفْعِلاء نحو: غَنِيّ وأغنياء، وتقيّ وأتقياء، وصَفِيّ وأَصْفِياء، فإن قيل: قد جاء فَعِيل الوصفُ مجموعاً على فُعَلة قالوا: كَمِيّ وكُمَاة، فالجواب: أنه من الندور بحيث لا يُقاس عليه.
111
وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو رجاء وقتادة وأبو حيوة ويعقوب وسهل وعاصم في رواية المفضل عنه: «تَتَّقوا منهم تَقِيَّة» بوزن «مَطِيًّة» وهي مصدرٌ أيضاً بمعنى «تُقَاة»، يقال: اتّقى يتَّقي اتقاءً وتَقْوَى وتُقاة وتَقِيَّة وتُقَىً، فيجىء مصدر افْتَعل من هذه المادة على الافتعال وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزان، ويقال أيضاً: تَقَيْتُ أَتْقي ثلاثياً تَقِيَّة وتَقْوى وتُقاة وتُقَىً، والياء في جميعِ هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق.
وأمال الأخوان «تُقاة» هنا، لأنَّ ألفَها منقلبة عن ياء كما تقدم تقريره، ولم يؤثِّرْ حرفُ الاستعلاء في مَنْع الإِمالة لأنَّ السبب غير ظاهر، ألا ترى أن سببَ الإِمالة الياءُ المقدرة بخلافِ «غالب» و «طالب» و «قادم» فإنَّ حرف الاستعلاء عنا مؤثِّرٌ لكونِ سبب الإِمالة ظاهراً وهو الكسرة، وعلى هذا يقال: كيف يُوَثِّرُ مع السببِ الظاهر ولم يؤثِّرْ مع المقدر وكان العكسُ أَوْلى؟ والجوابُ أنَّ الكسرةَ سببٌ منفصل عن الحرف الممال ليس موجوداً فيه بخلاف الألف المنقلبة عن باءٍ فإنها نفسَها مقتضيةٌ للإِمالة، فلذلك لم يُقاومها حرفُ الاستعلاء.
وأمال الكسائي وحده ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢]، فخرج حمزة عن أصله، وكان الفرق أَنَّ «تُقاة» هذه رُسِمت بالياء فلذلك وافق حمزةُ الكسائيَّ عليه، ولذلك قرأ بعضهم «تَقِيَّة» بوزن مطيَّة كما تقدم/ لظاهر الرسم، بخلافِ «حَقَّ تقاته»، وإنما أمعنتُ في سبب الإِمالة هنا لأنَّ بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذ لأجل حرفِ الاستعلاء، وأنَّ سيبويه حكى عن قوم أنهم يُميلون شيئاً
112
لا يجوز إمالتُه نحو: «رأيت عِرْقَى» بالإِمالة، وليس هذا من ذاك لِما تقدَّم لك من أن سبب الإِمالة في «عِرْقى» كسرةٌ ظاهرة.
وقوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلِّقٌ ب «تتقوا»، أو بمحذوف على أنه حال من «تقاة» لأنه في الأصل يجوزُ أن يكونَ صفةً لها، فلما قُدِّم نُصِب حالاً. هذا إذا لم تجعل «تُقاة» حالاً، فأمّا إذا جَعَلْناها حالاً تعيَّن أن يتعلق «منهم» بالفعل قبله، ولا يجوز أن يكون حالاً من «تقاة» لفساد المعنى لأنَّ المخاطبين ليسُوا من الكافرين.
قوله: ﴿نَفْسَهُ﴾ مفعولٌ ثان لحَذَّر؛ لأنه في الأصل متعدٍّ بنفسه لواحد فازدادَ بالتضعيفَ آخرَ، وقدَّر بعضُهم حَذْفَ مضافٍ أي: عقاب نفسه. وصَرَّح بعضُهم بعدم الاحتياج إليه، كذا نقله أبو البقاء عن بعضهم، وليس بشيء، إذ لا بدَّ من تقديرِ هذا المضافِ لصحة المعنى، ألا ترى إلى غير ما نحن فيه في نحو قولك: «حَذَّرتك نفس زيد» أنه لا بد من شيء تُحَذِّر منه كالعقاب والسَّطْوة، لأن الذواتِ لا يُتَصَوَّر الحذرُ منها نفسها، إنما يُتَصَوَّر من أفعالِها وما يَصْدُر عنها. وعَبَّر هنا بالنفسِ عن الذات جرياً على عادة العرب، كما قال الأعشى:
١٢٢٩ - يَوْماً بأجودَ نائلاً منه إذا
نفسُ الجَبانِ تَجَهَّمَتْ سُؤَّالها
وقال بعضهم: الهاء في «نفسه» تعود على المصدر المفهوم من قوله: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ﴾ أي: ويحذِّرُكم الله نفسَ الاتخاذ، والنفسُ عبارة عن وجود الشيء وذاته.
قوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ﴾ مستأنف، وليس منسوقاً على جواب الشرط، وذلك أنَّ عِلْمَه بما في السماوات وما في الأرض غيرُ متوقفٍ
113
على شرط فلذلك جِيء به مستأنفاً، وفي قوله ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ من باب ذِكْرِ العام بعد الخاص وهو ﴿مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾.
وقَدَّم هنا الإِخفاء على الإِبداء وجَعَلَ محلَّهما الصدورَ وجعل جواب الشرطِ العلمَ بخلافِ ما في البقرة، فإنه قَدَّم فيها الإِبداءَ على الإِخفاء، وجَعَل محملهما النفسَ، وجَعَل جوابَ الشرط المحاسبةً، وكلُّ ذلك تفنُّنٌ في البلاغة وتنوع في الفصاحة.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾ : في ناصِبة أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوب بقدير، أي قديرٌ في ذلك اليوم العظيم، لا يقال: يَلْزَمُ من ذلك تقييدُ قدرتِه بزمانٍ، لأنَّه إذا قَدَر في ذلك اليومِ الذي يَسْلُب كلَّ أحد قدرته فلأَنْ يَقْدِرَ في غيرِه بطريقٍ أولى وأَحْرى، وإلى هذا ذهب أبو بكر ابن الأنباري.
الثاني: أنه منصوبٌ بيُحَذِّركم أي: يُخَوِّفكم عقابَه في ذلك اليوم، وإلى [هذا] نحا أبو إسحاق، ورجَّحه. ولا يجوز أن ينتصبَ بيحذِّركم المتأخرةِ. قال ابن الأنباري: «لأنه لا يجوزُ أن يكونَ» اليوم منصوباً بيحذِّركم المذكورِ في هذه الآية، لأنَّ واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرفِ وناصبِه معترضاً، وهو كلامٌ طويل، والفصلُ بمثله مستبعدٌ، هذا من جهة الصناعة، وأما من جهة المعنى فلا يَصِحُّ، لأن التخويف موجودٌ، واليومَ موعودٌ فكيف يتلاقيان «.
الثالث: أن يكونَ بالمصير، وإليه نحا الزجاج أيضاً وابن الأنباري
114
ومكي وغيرُهم، وهذا ضعيفٌ على قواعد البصريين، للزومِ الفصلِ بين المصدرِ ومعمولِه بكلامٍ طويل، وقد يقال: إنَّ جُمَل الاعتراض لا نبالي بها فاصلةً، وهذا من ذاك.
الرابع: أن ينتصبَ ب» اذكر «مقدراً مفعولاً به لا ظرفاً. وقَدَّر الطبري الناصبَ له» اتقوا «، وفي التقدير ما فيه من كونِه على خلافِ الأصل مع الاستغناء عنه.
الخامس: أنَّ العامل فيه ذلك المضافُ المقدَّر قبل» نفسَه «أي: يحذركم الله عقابَ نفسِه يومَ تجد، فالعاملُ فيه» عقاب «لا» يحذركم «، قاله أبو البقاء. وفي قوله ﴿لا يحذِّركم﴾ فرارٌ مِمَّا أَوْردته على أبي إسحاق كما تقدّم تحقيقه.
السادس: أنه منصوبٌ بتودُّ، قال الزمخشري:» يومَ تجد منصوب بتود، والضمير في «بينه» لليوم، أي: يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرَها وشرَّها [حاضرين]، تتمنَّى لو أنَّ بينها وبين ذلك اليوم وَهوْلِهِ أمداً بعيداً «. وهذا الذي ذكره الزمخشري وجهٌ ظاهرٌ لا خفاء بحسنه، ولكنْ في هذه المسألة خلافٌ ضعيف: جمهور البصريين والكوفيين على جوازها، وذهب الأخفش والفراء إلى مَنْعها، وضابطُ هذه المسألة: أنه إذا كان الفاعل ضميراً عائداً على شيء متصلٍ بمعمول الفعل نحو: ثوبي أخويك يلبَسان» فالفاعلُ هو الألف، وهو ضمير عائد على «أخويك» المتصلين بمفعول يلبسان، ومثله: «غلامَ هند ضربَتْ» ففاعل «ضربَتْ» ضمير عائدٌ على «هند» المتصلةِ بغلام المنصوب بضرَبتْ، والآيةُ من هذا القبيل: فإن فاعل «تودُّ» ضميرٌ عائد على «
115
نفس» المتصلةِ بيوم لأنها في جملة، أُضيف الظرفُ إلى تلك الجملة، والظرفُ منصوبٌ بتودُّ، والتقدير: يوم وجدانِ كلِّ نفسٍ خيرَها وشَرَّها مُحْضَرين تَوَدُّ كذا.
احتج الجمهور على الجواز بالسماع وهو قول الشاعر:
١٢٣٠ - أَجَلُ المرءِ يستحِثُّ ولا يَدْ
ري إذا يبتغي حصولَ الأماني
ففاعل «يستحثُّ» ضمير عائد على «المرء» المتصل ب «أجَل» المنصوب ب «يستحثُّ» واحتج المانعون بأنَّ المعمول فَضْلة يجوز الاستغناء عنه، وعودُ الضمير عليه في هذه المسائل يقتضي لزومَ ذِكْره فيتنافى هذان السببان، ولذلك أُجْمع على منع: «زيداً ضرب» و «زيداً ظَنَّ قائماً» أي: ضرب نفسه وظنها، وهو دليل واضح للمانع لولا ما يردُّه من السماع كما أنشدتك البيت آنفاً. وفي الفرق بين «غلام زيدٍ ضَرَبَ» وبين «زيداً ضرب» حيث جاز الأول وامتنع الثاني بمقتضى العلةِ المذكورة غموضٌ وعُسْرٌ ليس هذا محلَّ ذِكْرِه.
قوله: ﴿تَجِدُ﴾ يجوزُ أَنْ تكون المتعديةَ لواحد بمعنى تصيب، ويكون «مُحْضراً» على هذا منصوباً على الحال، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن تكونَ عِلْميةً، فتتعدَّى لاثنين أولهما «ما عَمِلَتْ» والثاني: «مُحْضَراً» وليس بالقويِّ في المعنى.
و «ما» يجوز فيها وجهان، أظهرُهما: أنها بمعنى الذي، فالعائدُ على هذا مقدَّرٌ أي: ما عملته، فَحُذِف لاستكمال الشروط، و «من خير» حالٌ: إمّا من الموصول وإمَّا من عائده، ويجوز أن تكون «من» لبيان الجنس. ويجوزُ أن تكونَ «ما» مصدريةً، ويكونُ المصدر حينئذ واقعاً موقعَ المفعول تقديرُه: يوم تجد كلُّ نفس عَمَلها أي: معمولها، فلا عائد حينئذ عند الجمهور.
116
قوله: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ﴾ : يجوزُ في «ما» هذه أن تكونَ منسوقةً على «ما» التي قبلها بالاعتبارين المذكورَيْن فيها أي: وتَجِدُ الذي عملته أو: وتجدُ عملَها أي: معمولَها من سوء، فإنْ جَعَلْنا «تجد» متعدية لاثنين فالثاني محذوفٌ، أي: وتجد الذي عملته من سوء محضراً، أو تجد عملها محضراً نحو: «علمت زيداً ذاهباً وبكراً» أي: وبكراً ذاهباً، فَحَذَفْتَ مفعوله الثاني للدلالة عليه بذكره مع الأول، وإنْ جعلناها متعديةً لواحدٍ فالحالُ من الموصول أيضاً محذوفةٌ أي: تجدُه مُحْضراً؛ أي: في هذه الحال، وهذا نظيرُ قولِك: «أكرمْتُ زيداً ضاحكاً وعمراً» أي: وعمراً ضاحكاً، حَذَفْتَ حالَ الثاني لدلالةِ حالِ الأول عليه، وعلى هذا فيكون في الجملةِ من قوله «تودُّ» وجهان، أحدهما: أن تكونَ في محل نصب على الحال من فاعل «عَمِلَتْ» أي: وما عَمِلَتْه حالَ كونها وادَّةً أي: متمنية البُعْدَ من السوء. الثاني: أن تكونَ مستأنفة، أَخْبر الله عنها بذلك، ويجوز أن تكونَ «ما» مرفوعةً بالابتداء، والخبرُ الجملةُ من قوله: «تود» أي: والذي عملته أو وعملُها تودُّ لو أن بينها وبينه أَمَداً بعيداً.
والضمير في «بينه» فيه وجهان، أحدُهما وهو الظاهر عَوْدُه على «ما عَمِلَتْ»، وأعادَه الزمخشري على «اليوم» قال الشيخ: «وأَبْعَدَ الزمخشري في عودِه على» اليوم «لأنَّ أحدَ القِسْمين اللذين أُحْضِروا في ذلك له هو الخيرُ الذي عمله، ولا يُطلب تباعُدُ وقتِ إحضارِ الخير إلا بتجوُّز، إذ كان يشتمل على إحضار الخير والشر فتودُّ تباعدَه لتسلم من الشر، ودَعْه لا يحصُل له الخيرُ، والأَوْلى عَوْدُه إلى ما عملت من السوء لأنه أقرب مذكور. ولأن المعنى: أن السوء يُتَمَنَّى في ذلك اليوم التباعُدُ منه».
117
فإن قيل: هل يجوز أن تكونَ «ما» هذه شرطيةً؟ فالجواب أن الزمخشري وابن عطية منعا من ذلك، وجَعَلا علة المنع عدم [جزم] الفعل الواقع جواباً وهو «تودُّ»، وهذا ليس بشيءٍ، لأنَّ الناس نَصُّوا علىأنه إذا وقع فعلُ الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً جاز في ذلك المضارع وجهان: الجزمُ والرفع، وقد سُمعا من لسان العرب، ومنه بيت زهير:
١٢٣١ - وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ
يقولُ لا غائِبٌ مالي ولا حَرِمُ
ومن الجزم قولُه تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ﴾ [هود: ١٥]، ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [الشورى: ٢٠] فدَّل ذلك على أن المانعَ من شرطيتها ليس هو رفع «تود»، وأجاب الشيخ بانها ليست شرطيةً لا لما ذكره الزمخشري وابن عطية بل لعلةٍ أخرى. ولنذكر هنا ما ذكره قال: «كنت سُئِلْتُ عن قول الزمخشري» فذكره ثم قال: «ولنذكر ههنا ما تمسُّ إليه الحاجةُ بعد أن نُقَدِّم ما ينبغي تقديمُه في هذه المسألة فنقول: إذا كان فعلُ الشرط ماضياً وبعده مضارعٌ تَتِمُّ به جملة الشرط والجزاء جازَ في ذلك المضارعِ الجزمُ وجاز فيه الرفعُ، مثال ذلك:» إن قام زيد يقمْ ويقومُ وعمرو «فأما الجزم فعلى جواب الشرط، ولا نعلم في ذلك خلافاً وأنه فصيحٌ إلا ما ذكره صاحب كتاب» الإِعراب «عن بعض النحويين
118
أنه لا يجيء في الكلامِ الفصيح، وإنما يجيء مع» كان «كقوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ﴾ لأنها أصل الأفعالِ ولا يجوز ذلك مع غيرها، وظاهر كلام سيبويه وكلامِ الجماعة أنه لا يختصُّ ذلك ب» كان «بل سائرُ الأفعال في ذلك مثلُ» كان «، وأنشد سيبويه للفرزدق:
١٢٣٢ - دَسَّتْ رسولاً بأنَّ القوم إنْ قَدَروا
عليك يَشْفُوا صدرواً ذاتَ توْغيرِ
وقال أيضاً:
١٢٣٣ - تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتني لا تخونُني
نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبان
وأما الرفع فإنه مسموعٌ من لسان العرب كثيراً، وقال بعضُ أصحابنا: هو أحسنُ من الجزم، ومنه بيتُ زهير السابق إنشادُه، ومثله أيضاً قولُه:
١٢٣٤ - وإنْ شُلَّ رَيْعانُ الجميعِ مخافةً
نَقُولُ جِهارا وَيْلَكم لا تُنَفِّروا
وقولُ أبي صخر:
١٢٣٥ - ولا بالذي إنْ بان عنه حبيبُه
يقولُ ويُخْفي الصبرَ إني لجازعُ
وقال آخر:
١٢٣٦ - وإن بَعُدُوا لا يأمَنُون اقترابَه
تَشَوُّفَ أهلِ الغائبِ المُتَنَظَّرِ
119
وقال آخر:
١٢٣٧ - فإنْ كان لا يُرضيك حتى تَردَّني
إلى قطريٍّ لا إخالُك راضياً
وقال آخر:
١٢٣٨ - إنْ يَسْألوا الخيرَ يُعْطُوه وإنْ خَبِروا
في الجَهْد أُدْرِكُ منهم طيبُ أَخْبارِ
قلت: هكذا ساق هذا البيت في جملة الأبيات الدالةِ على رفع المضارع، ويدل على قصده ذلك أنه قال بعد إنشاده هذه الأبياتَ كلَّها: «فهذا الرفع كما رأيتُ كثيرٌ» انتهى، وهذا البيت ليس/ من ذلك في وِرْدٍ ولا صَدْر لأن [المضارع فيه مجزومٌ وهو «يُعْطُوه» وعلامة جزمِه سقوط النون فكان ينبغي] أن ينشده حين أنشد: «دَسَّت رسولاً» وقوله: «تَعالَ فإن عاهَدْتني» البيتين.
ثم قال: «فهذا الرفعُ كثير كما رأيتَ، ونصوص الأئمة على جوازِهِ في الكلامِ وإن اختلفتْ تأويلاتُهم كما سنذكره، وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد ابن عبد النور بن رشيد المالَقي وهو مصنف كتاب» رصف المباني «رحمه الله:» لا أعلم منه شيئاً «جاء في الكلام، وإذا جاء فقياسُهُ الجَزْمُ، لأنه أصلُ العملِ
120
في المضارعِ، تقدَّم الماضي أو تأَخَّر»، وتأوَّل هذا المسموعَ على إضمارِ الفاء وَجَعَلَهُ مثلَ قول الشاعر:
١٢٣٩ -.....................
إنَّك إِنْ يُصْرَعْ أخوك تُصْرَعُ
على مذهب مَنْ جعل أن الفاء منه محذوفةٌ. وأمَّا المتقدمون فاختلفوا في تخريج الرفع: فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم وأن جواب الشرط ليس مذكوراً عنده. وذهب المبرد والكوفيون إلى أنه هو الجواب. وإنما حُذِفَتْ منه الفاء، والفاءُ ما بعدها كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥]، فأُعْطِيَتْ في الإِضمار حكمَها في الإِظهار. وذهب غيرهما إلى أن المضارعَ هو الجواب بنفسه أيضاً كالقولِ قبله، إلا أنه ليس معه فاءٌ مقدّرة قالوا: لكنْ لمّا كان فعلُ الشرط ماضياً لا يظهر لأداة الشرط فيه عملٌ ظاهر استضعفوا أداةَ الشرط فلم يُعْملوها في الجواب لضعفها، فالمضارعُ المرفوعُ عند هذا القائلِ جوابٌ بنفسه من غير نيَّة تقديم ولا على إضمار الفاء، وإنما لم يُجْزَم لِما ذُكِرَ، وهذا المذهب والذي قبله ضعيفان.
وتلخص من هذا الذي قلناه أنَّ رَفْعَ المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً لكن امتنع أن يكونَ «وما عملت» شرطاً لعلة أخرى، لا لكون «تود»
121
مرفوعاً، وذلك على ما نقرره على مذهب سيبويه من أن النيةَ بالمرفوعِ التقديمُ، ويكون إذ ذاك دليلاً على الجوابِ لا نفسَ الجواب فنقول: إذا كان «تود» منويّاً به التقديمُ أدَّى إلى تقدُّم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية، ألا ترى أن الضمير في قوله «وبينه» عائدٌ على اسمِ الشرط الذي هو «ما» فيصيرُ التقدير: «تود كلُّ نفسٍِ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عَمِلت من سوء» فَلَزِمَ من هذا التقديرِ تقديمُ المضمر على الظاهر وذلك لا يجوز.
فإن قلت: لِمَ لا يجوز ذلك والضميرُ قد تأخَّر عن اسم الشرط وإن كانت النيةُ به التقديمَ، فقد حَصَلَ عَوْدُ الضميرِ على الاسم الظاهرِ قبله، وذلك نظيرُ: «ضربَ زيداً غلامهُ» فالفاعلُ رتبته التقديم ووجب تأخُّره لصحةِ عَوْدِ الضمير؟ فالجواب أن اشتمالَ الدليل على ضميرِ اسم الشرط يوجب تأخيرَه عنه لعَوْدِ الضمير فيلزَمُ من ذلك اقتضاءُ جملة الشرط لجملة الدليل، وجملةُ الشرط إنما تقتضي جملةَ الجزاء لا دليلَه، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل، بل إنها تعمل في جملة الجزاء، وجملةُ الدليل لا موضعَ لها من الإِعراب، وإذا كان كذلك تدافعَ الأمرُ، لأنها من حيثُ هي جملةُ دليلٍ لا يقتضيها فعلُ الشرط، ومن حيث عَوْدُ الضميرِ على اسم الشرط اقتضاها فتدافَعا، وهذا بخلافِ «ضرب زيداً غلامهُ» فإنها جملةٌ واحدة، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً، فكلَّ واحدٍ منهما يقتضي صاحبَه، ولذلك جاز عند بعضِهم «ضرب غلامُها هنداً» لاشتراكِ الفاعل المضاف إلى الضميرِ والمفعولِ الذي عاد عليه الضمير في العامل، وامتنع «ضربَ غلامُها جارَ هِندٍ» لعدم الاشتراك في العامل، فهذا فرقُ ما بين المسألتين، ولا يُحْفظ من لسان العرب: «
122
أودُّ لو أَنْ أكرمَه أياً ضربَتْ هندٌ» لأنه يلزم منه تقديمُ المضمرِِ على مفسَّره في غير المواضِعِ التي ذكرها النحويون، فلذلك لا يجوز تأخيره. انتهى «.
وقد جَوَّز أبو البقاء كونَها شرطيةً، ولم يَلْتَفِتْ لِما مَنعوا به ذلك فقال:» والثاني: أنها شرط، وارتفع «تودُّ» على إرادة الفاء. أي: فهي تودُّ، ويجوز أن يرتفعَ من غير تقديرِ حرف لأن الشرطَ هنا ماضٍ، وإذا لم يظهر في الشرطِ لفظُ الجزم جاز في الجزاء الوجهان: الجزمُ والرفع «. انتهى وقد تقدَّم تحقيق القول في ذلك، والظاهرُ موافقتُهُ للقول الثالث في تخريج الرفع في المضارع كما تقدَّم تحقيقه.
وقرأ عبد الله وابنُ أبي عبلة» وَدَّت «بلفظ الماضي، وعلى هذه القراءةِ يجوزُ في» ما «وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطية، وفي محلِّها حينئذٍ احتمالان: الأولُ النصبُ بالفعلِ بعدها، والتقدير: أيَّ شيء عَمِلَتْ من سوء وَدَّتْ، فودَّتْ جوابُ الشرط. والاحتمالُ الثاني: الرفعُ على الابتداء، والعائدُ على المبتدأ محذوفٌ تقديرُهُ: وما عملته، وهذا جائزٌ في اسم الشرط خاصةً عند الفراء في فصيحِ الكلام، أعني حَذْفَ عائد المبتدأ إذا كان منصوباً بفعلٍ نحو:» أيُّهم تَضْرِبْ أُكْرمه «برفع أيهم، وإذا كان المبتدأ غيرَ ذلك ضَعُفَ نحو:» زيدٌ ضربْتُ «.
وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في موضعين من القرآن، أحدُهما قراءةُ مَنْ قرأ: ﴿أَفَحُكْمُ الجاهلية يَبْغُونَ﴾ [المائدة: ٥٠]. والثاني: ﴿وَكُلٌّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ [الآية: ١٠] في الحديد، واختلافُ الناس في ذلك.
123
الوجه الثاني من وجهي «ما» أن تكون موصولةً بمعنى: الذي عملته من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ومَحَلُّها على هذا رفع بالابتِداء، و «وَدَّتْ» الخبرُ، واختاره الزمخشري فإنه قال: «لكنَّ الحملَ على الابتداءِ والخبرِ أوقعُ في المعنى لأنه حكايةُ الكائن في ذلك اليوم، وأَثْبَتُ لموافقةِ قراءة العامة». انتهى.
فإن قلت لِمَ لَمْ يمتنع أن تكونَ «ما» شرطيةً على هذه القراءة كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة؟ فالجوابُ أنَّ العلة إنْ كانت رفعَ الفعل وعَدَمَ جزمِهِ كما قال به الزمخشري وابن عطية فهي مفقودةٌ في هذه القراءة لأن الماضي مبنيٌّ اللفظ/ لا يظهر فيه لأداةِ الشرط عملٌ، وإن كانت العلةُ أنَّ النيةَ به التقديمُ فليزمُ عودُ الضميرِ على متأخرٍ لفظاً ورتبة، فهي أيضاً مفقودةٌ فيها؛ إذ لا داعي يدعو لذلك.
و «لو» هنا على بابِها من كونِها حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره، وعلى هذا ففي الكلام حَذْفان، أَحدهما: حذفُ مفعولِ «يود»، والثاني: حَذْفُ جواب «لو»، والتقدير فيهما: تود تباعدَ ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسُرَّتْ بذلك، أو لفرِحَتْ ونحوُهُ. والخلافُ في «لو» بعد فعل الوَدادة وما بمعناه أنها تكونَ مصدريةً كما تقدم تحريره في البقرة يَبْعُدُ مجيئُهُ هنا، لأنَّ بعدها حرفاً مصدرياً وهو أَنْ. قال الشيخ: «ولا يباشِر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلا قليلاً، كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ [الذاريات: ٢٣] قلت: قوله» إلا قليلاً «يُشْعر بجوازه وهو لا يجوزُ البتة، فَأمَّا
124
ما أَوْرَدَهُ من الآية الكريمة فقد نصَّ النحاة على أن» ما «زائدةٌ. وقد تقدَّم الكلام في» أَنَّ «الواقعة بعد» لو «هذه: هل محلُّها الرفع على الابتداء والخبرُ محذوف كما ذهب إليه سبيويه، أو أنها في محل رفعٍ بالفاعلية بفعلٍ مقدر أي: لو ثَبَتَ أَنَّ بينها؟ وما قالَ الناس في ذلك.
وقد زعم بعضُهم أَنَّ» لو «هنا مصدريةٌ، هي وما في حَيِّزها في موضع المفعول ل» تود «، أي: تود تباعُدَ ما بينها وبينه، وفيه ذلك الإِشكالُ، وهو دُخول حرف مصدري على مثله، ولكنَّ المعنى على تسلُّطِ الوَدادة على» لو «وما في حيِّزها لولا المانعُ الصناعي.
والأَمَدُ: غايةُ الشيء ومنتهاه وجمعه آماد نحو: جَبَل وأَجْبال فَأُبْدِلَتْ الهمزة ألفاً لوقوعِها ساكنةً بعد همزة» أَفْعال «. وقال الراغب:» الأمدُ والأَبَدُ يتقاربان، لكنَّ الأَبَدَ عبارةٌ عن مدة الزمان التي ليس لها حَدٌّ محدودٌ، ولا يتقيَّد فلا يقال: أبدَ كذا، والأمدُ مدةٌ لها حَدٌّ مجهولٌ إذا أُطْلِقَ، وينحصِرُ إذا قيل: أمدَ كذا، كما يقال: زمانَ كذا، والفرق بين الأمد والزمان: أنَّ الأمدَ يُقال باعتبارِ الغاية، والزمانُ عام في المبدأ والغاية، ولذلك قال بعضُهم: المَدَى والأمد يتقاربان «.
قوله تعالى: ﴿تُحِبُّونَ الله﴾ : قرأ العامة: «تُحِبون» بضم حرف المضارعة مِنْ أَحَبَّ، وكذلك «يُحْبِبْكُم الله». وقرأ أبو رجاء العطاردي: تَحُبُّون، يَحْببكم بفتح حرف المضارعة وهما لغتان: يقال حَبَّه يَحِبُّه
125
بضم الحاء وكسرها في المضارع، وأَحَبَّه يُحِبُّه، وقد تقدم القول في ذلك في البقرة. ونقل الزمخشري أنه قرىء «يَحِبَّكم» بفتح الباء والإِدغام وهو ظاهرٌ، لأنه متى سَكَّن المِثْلَيْنِ جزماً أو وقفاً جاز فيه لغتان: الفكُّ والإِدغام، وسيأتي تحقيق ذلك في المائدة.
وقرأ الجمهور: «فاتِّبعوني» بتخفيف النون وهي للوقاية، وقرأ الزهري بتشديدها، وخُرِّجَت على أنه أَلْحَقَ الفعلَ نونَ التوكيد وأدغمها في نونِ الوقاية، وكان ينبغي له أن يَحْذِفَ واو الضمير لالتقاء الساكنين، إلا أنه شَبَّه ذلك بقوله: ﴿أتحاجواني﴾ [الأنعام: ٨٠] وهو توجيهُ ضعيف، ولكنْ هو يصلح لتخريج هذا الشذوذ.
وقد طعن الزجاج على مَنْ روى عن ابي عمرو إدغامَ الراء من «يغفر» في لام «لكم» وقال: «هو خطأٌ وغلطٌ على أبي عمرو» وقد تقدَّم تحقيق ذلك وأنه لا خطأٌ ولا غلطٌ، بل هذه لغةٌ للعرب نقلَها الناس، وإن كان البصريون كما يقول الزجاج لا يُجيزون ذلك.
قوله تعالى: ﴿فإِن تَوَلَّوْاْ﴾ : هذا يَحْتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ مضارعاً والأصلُ: «تتولَّوا» فَحَذَفَ إحدى التاءين، وقد تقدم الكلامُ على ذلك، وعلى هذا فالكلامُ جارٍ على نسقٍ واحد وهو الخطاب. والثاني:
126
أن يكون فعلاً ماضياً مسنداً لضميرِ غيب، فيجوزُ أن يكونَ من باب الالتفات، ويكونُ المرادُ بالغيب المخاطَبين في المعنى، وهو نظيرُ قولِهِ تعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢].
قوله: ﴿وَنُوحاً﴾ :«نوح» اسم أعجمي لا اشتقاق له عند محققي النحويين، وزعم بعضُهم أنه مشتق من النُّواح، وهذا كما تقدم لهم في آدم وإسحاق ويعقوب، وهو منصرفٌ وإن كان فيه علتان فرعيتان: العلمية والعجمة الشخصية لخفةِ بنائه بكونه ثلاثياً ساكنَ الوسط، وقد جَوَّزَ بعضهم منعَه قياساً على «هند» وبابِها لا سماعاً إذ لم يُسْمع إلا مصروفاً.
وادَّعى الفراء أن في الكلام حذفَ مضاف تقديرُهُ: «إن الله اصطفى دين آدم». قال التبريزي: «وهذا ليسَ بشيء، لأنه لو كان الأمر على ذلك لقيل:» ونوحٍ «إذ الأصل: دين آدمَ ودين نوحٍ، وهذه سَقْطَةٌ فاحشة من التبريزي، إذ لا يلزم أنه إذا حُذف المضافُ بقي المضاف إليه مجروراً حتى يَرُدَّ على الفراء بذلك، بل المشهورُ الذي لا تَعْرِفُ الفصحاء غيرَه إعرابُ المضاف إليه بإعرابِ المضاف حين حَذْفِه، ولا يجوز بقاؤُهُ على جَرِّه إلا في قليل من الكلام بشرطٍ ذُكِرَ في النحو، وسيأتي لك في الأنفال، وكان ينبغي على رأي التبريزي أن يكون قولُه تعالى: ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢] بجر» القرية «لأنَّ الكل هو وغيرُه يقولون: هذا على حَذْفٍ تقديرُه:» أهلَ القرية «.
127
و» عِمْران «اسم أعجمي/. وقيل: عربي مشتق من العَمْر، وعلى كلا القولين فهو ممنوعُ الصرف: إمَّا للعلَميَّة والعجمة الشخصية، وإمَّا للعلَمية وزيادة الألف والنون.
قوله تعالى: ﴿عَلَى العالمين﴾ متعلقٌ باصطفى، فإن قيل: اصطفى يتعدَّى بمن نحو:» اصطفيتك مِنَ الناس «فالجواب أنه ضُمِّنَ معنى» فَضَّل «أي: فَضَّلهم بالاصطفاء.
قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً﴾ : في نصبها وجهان، أحدهما: أنها منصوبةٌ على البدل مِمَّا قبلها، وفي المبدلِ منه على هذا ثلاثة أوجه، أحدها: أنها بدل من «آدم» ومَنْ عُطِفَ عليه، وهذا إنما يتأتى على قولِ مَنْ يطلق «الذرية» على الآباء وعلى الأبناء، وإليه ذهب جماعة. قال الجرجاني: «الآية تُوجِبُ أن يكونَ الآباء ذريةً للأبناء والأبناء ذريةً للآباء، وجاز ذلك لأنه من» ذَرَأَ الخَلْقَ «فالأبُ ذُرِيَ منه الولد، والولد ذُرِيَ من الأب» وقال الراغب: «الذرية تقال للواحد والجمع والأصلِ والنسل، كقوله: ﴿حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [يس: ٤١] أي: آباءهم، ويقال للنساء: الذَّراري، فعلى هذين الوجهين يَصِحُّ جَعْلُ» ذرية «بدلاً من آدم ومن عُطِف عليه. قال أبو البقاء:» ولا يجوز أَنْ يكونَ بدلاً من آدم لأنه ليس بذرية «وهذا الذي قاله ظاهرٌ إنْ أراد آدمَ وحدَهُ دونَ مَنْ عُطِفَ عليه، وإن أراد آدمَ ومَنْ ذُكِرَ معه فيكونُ المانع عنده عدمَ جوازَ إطلاق الذرية على الآباء.
الثاني: من أوجه البدل: أنها بدلٌ من» نوح «ومَنْ عُطِفَ عليه، وإليه نحا
128
أبو البقاء. الثالث: أنها بدلٌ من الآلَيْن: أعني آل إبراهيم وآل عمران، وإليه نحا الزمخشري، يريد أن الآلَيْن ذريةٌ واحدة.
الوجه الثاني من وجهي نصب» ذرية «: النَصْبُ على الحال، تقديره: اصطفاهم حالَ كونِهِم بعضَهم من بعض، والعاملُ فيها: اصطفى. وقد تقدَّم القول في اشتقاق هذه اللفظة ووزنِها ومدلولِها مشبعاً فأغنى عن إعادته.
قوله: ﴿بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ هذه الجملةُ في موضِع النصب نعتاً لذرية.
قولُه تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ﴾ : في الناصبِ له أوجهٌ، أحدُها: أنه «اذكر» مقدراً، فيكونُ مفعولاً به لا ظرفاً أي: اذكر لهم وقتَ قول امرأة عمران كيتَ وكيتَ، وإليه ذهب أبو الحسن وأبو العباس. الثاني: أن الناصبَ له معنى الاصطفاء أي ب «اصطفى» مقدراً مدلولاً عليه باصطفى الأول، والتقدير: واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران، وعلى هذا يكون قوله: «وآلَ عمران» من باب عطفِ الجمل لا من باب عطف المفردات، إذا لو جُعِلَ من عَطْف المفردات لَزِمَ أن يكون وقتُ اصطفاء آدم وقتَ قول امرأة عمران كيتَ وكيتَ، وليس كذلك لتغايُرِ الزمانين، فلذلك اضطُررنا إلى تقديرِ عاملٍ غير هذا الملفوظِ به، وإلى هذا ذهبَ الزجاج وغيره.
129
الثالث: أنه منصوبٌ ب «سميع» وبه صَرَّح ابن جرير الطبري. وإليه نحا الزمخشري ظاهراً فإنه قال: «أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيِتها، و» إذ «منصوبٌ به». قال الشيخ: «ولا يَصِحُّ ذلك لأن قوله» عليم «: إمَّا أن يكونَ خبراً بعد خبر أو وصفاً لقوله:» سميع «، فإن كان خبراً فلا يجوزُ الفصلُ بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما، وإن كان وصفاً فلا يجوزُ أن يعملَ» سميع «في الظرف لأنه قد وُصف، واسمُ الفاعلِ وما جَرى مجراه إذا وُصف قبل أَخْذِ معمولِهِ لا يجوزُ له إذ ذاك أن يعملَ، على خلافٍ لبعض الكوفيين في ذلك، ولأنَّ اتصافَه تعالى بسميع عليم لا يتقيَّد بذلك الوقت» قلت: وهذا العُذْرُ غيرُ مانع لأنه يُتَّسع في الظرفِ وعديله ما لا يُتَّسع في غيره، ولذلك يُقَدَّم على ما في حيز «أل» الموصولة وما في حيز «أَنْ» المصدرية.
الرابع: أن تكونَ «إذ» زائدةً وهو قول أبي عبيدة، والتقدير: قالت امرأة، وهذا عند النحويين غلطٌ، وكان أبو عبيدة يُضَعَّف في النحو.
قوله: ﴿مُحَرَّراً﴾ في نصبه أوجه، أحدُها: أنه حالٌ من الموصول وهو «ما في بطني»، فالعاملُ فيها «نَذَرْتُ». الثاني: أنه حال من الضمير المرفوع بالجار لوقوعِهِ صلةً ل «ما»، وهو قريبٌ من الأول، فالعامل في هذه الحال الاستقرارُ الذي تضمَّنه الجارُّ والمجرور. الثالث: أن ينتصِبَ على المصدر؛ لأن المصدرَ يأتي على زِنَةِ اسم المفعولِ من الفعل الزائدِ على ثلاثةِ أحرفٍ، وعلى هذا فيجوز أن يكونَ في الكلامِ حَذْفُ مضاف تقديرُهُ:
130
نذرتُ لك ما في بطني نَذْرَ تحرير، ويحوز أن يكون ممَّا انتصب على المعنى؛ لأن معنى «نَذَرْتُ لك» حَرَّرْت ما في بطني تحريراً.
ومن مجيء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قولُه تعالى: ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: ١٩]، وقوله: ﴿وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرَمٍ﴾ [الحج: ١٨] في قراءة من فتح الراء، أي: كلَّ تمزيق، وفما له من إكرام، ومثله قول الشاعر:
١٢٤٠ - ألم تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القوافي
فلاعِيَّاً بهنَّ ولا اجْتِلاَبا
أي: تسريحي القوافي. الرابع: أن يكونَ نعتَ مفعولٍ محذوفٍ تقديره: غلاماً محرراً، قاله مكي بن أبي طالب. وجَعَلَ ابنُ عطية في هذا القولِ نظراً. قلت: / وجهُ النظر فيه أن «نَذَرَ» قد أخذ مفعوله وهو قوله: ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ فلم يتعدَّ إلى مفعولٍ آخر؟ وهو نظرٌ صحيح. وعلى القولِ بأنها حالٌ يجوز أن تكونَ حالاً مقارنةً إن أريد بالتحرير معنى العِتْقِ، ومقدَّرةً إنْ أُريد به معنى خدمة الكنيسة كما جاء في التفسير.
ووقف أبو عمرو والكسائي على «امرأة» بالهاء دون التاء، وقد كتبوا امرأة بالتاء وقياسُها الهاء هنا وفي يوسف: ﴿امرأة العزيز﴾ [الآية: ٣٠] [في] موضعين،
131
و ﴿امرأة نُوحٍ﴾ [التحريم: ١٠] و ﴿امرأة لُوطٍ﴾ [التحريم: ١٠] و ﴿امرأة فِرْعَوْنَ﴾ [القصص: ٩]، وأهلُ المدينة يقفون بالتاء اتِّباعاً لرسم المصحف، وهي لغةٌ للعرب يقولون في حمزة: حَمْزَتْ، وأنشدوا:
١٢٤١ - اللهُ نَجَّاكَ بكَفَّيْ مَسْلَمَتْ
مِنْ بعدِما وبعدِما وبعدِمَتْ
وقوله: ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ أتى ب «ما» التي لغير العاقِل لأن ما فيه بطنِها مُبْهَمٌ أمرُهُ، والمبهمُ أمرهُ يجوز أن يُعَبَّر عنه ب «ما»، ومثاله إذا رأيت شيخاً من بعيد لا تدري أأنسانٌ هو أم غيرُه: ما هذا؟ ولو عرفت أنه إنسان وجَهِلْتَ كونَه ذَكراً أم أنثى قلت: ما هو. أيضاً، والآيةُ من هذا القبيل هذا عند مَنْ يرى أن «ما» مخصوصةٌ بغير العاقل، وأمَّا مَنْ يرى وقوعَها على العقلاء فلا يتأوَّل شيئاً. وقيل: إنه لما كان ما في البطن لا تمييزَ له ولا عقلَ عَبَّر ب «ما» التي لغير العقلاء.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ : الضمير في «وضعَتْها» يعود على «ما» من حيث المعنى، لأن الذي في بطنها أنثى في علم الله تعالى، فعاد الضميرُ على معناها، دونَ لفظها. وقيل: إنما أنَّثه حَمْلاً على معنى النَّسَمَةِ أو الحَبْلة أو النفسِ، قاله الزمخشري وقال ابن عطية: «حَمْلاً على الموجودة [ورفعاً لِلَفْظِ» ما «في قوله: ﴿ما في بطني] محرّراً﴾.
132
قوله: ﴿أنثى﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنها منصوبةٌ على الحال وهي حال مؤكدة لأن التأنيثَ مفهومٌ من تأنيث الضمير، فجاءت» أنثى «مؤكدة، قال الزمخشري» فإنْ قلت: كيف جاز انتصاب «أنثى» حالاً من الضمير في «وضَعَتْها» وهو كقولك: «وضَعَتِ الأنثى أنثى» ؟ قلت: الأصل وضَعَتْه أنثى، وإنما أُنِّث لتأنيث الحال، لأن الحال وذا الحال لشيء واحد كما أَنَّث الاسمَ في «مَنْ كانت أمَّك» لتأنيث الخبر. ونظيرُه قولُه تعالى: ﴿فَإِن كَانَتَا اثنتين﴾ [النساء: ١٧٦]، وأمَّا على تأويل النَّسَمَة والحَبْلة فهو ظاهرٌ، كأنه قيل: إني وضَعْتُ الحَبْلَةَ والنَّسَمة أنثى «يعني أنَّ الحال على الجوابِ الثاني تكون مبيَّنةً لا مؤكدةً، وذلك لأن النسمة والحبلة تصدُق على الذَّكر وعلى الأنثى، فلمَّا حَصَل فيها الاشتراكُ جاءت الحالُ مبينة لها.
ألاَّ أنَّ الشيخَ ناقشه في الجواب الأول فقال:» وآل قَوْلُه يعني الزمخشري إلى أنها حال مؤكدة، ولا يُخْرِجُه تأنيثُه لتأنيث الحال عن أن تكون حالاً مؤكِّدة. وأمَّا تشبيهُه ذلك بقوله: «مَنْ كانت أمَّك» حيث عادَ الضميرُ على معنى «مَنْ» فليس ذلك نظيرَ «وضَعَتْها أنثى» لأن ذلك حُمِل على معنى «مَنْ» إذ المعنى: أيةُ امرأة كانَتْ أمَّك، أي: كانت هي أي أمَّك، فالتأنيثُ ليس لتأنيث الخبر، وإنما هو من باب الحَمْل على معنى مَنْ، ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظيرَ «وضَعَتْها أنثى» لأنَّ الخبرَ تخصَّص بالإِضافة إلى الضميرِ، فاستُفيد من الخبرِ ما لا يُسْتفاد من الاسم، بخلافِ «أنثى» فإنه لمجردِ التوكيدِ. وأمَّا تنظيرُه بقولِهِ: ﴿فَإِن كَانَتَا اثنتين﴾ فيعني أنه ثَنَّى الاسم لتثنيةِ الخبرِ، والكلامُ عليه يأتي في مكانه، فإنه من
133
المُشْكلات، فالأحسن أن يُجْعَلَ الضميرُ في «وضعَتْها أنثى» عائداً على النَّسَمَة أو النفس، فتكون الحالُ مبينةً لا مؤكدةً «.
قلت: قوله» ليس نظيرَه، لأنَّ «مَنْ كانت أمَّك» حُمِل فيه على معنى [مَنْ]، وهذا أُنِّث لتأنيث الخبر «ليس كما قال، بل هو نظيرهُ، وذلك أنه في الآية الكريمةُ حُمِل على معنى» ما «كما حُمِل هناك على معنى» مَنْ «، وقول الزمخشري:» لتأنيث الخبرِ «أي: لأنَّ المراد ب» مَنْ «التأنيثُ بدليل تأنيثِ الخبرِ، فتأنيثُ الخبرَ بيَّن لنا أن المراد ب» مَنْ «المؤنث، كذلك تأنيثُ الحال وهي أنثى بَيَّن لنا أن المراد ب» ما «في قوله: ﴿ما في بطني﴾ أنه شيء مؤنث، وهذا واضح لا يَحتاج إلى فكر.
وأما قوله: «فقد استُفيد من الخبر ما لا يُسْتفاد من الاسم بخلاف» وضَعَتْها أنثى «فإنه لمجردِ التوكيد» فليس بظاهرٍ أيضاً؛ وذلك لأنَّ الزمخشري إنما أراد بكونه نظيرَه من حيث إنَّ التأنيث في كلٍّ من المثالَيْنِ مفهومٌ قبلَ مجيءِ الحال في الآية، وقبلَ مجيءِ الخبرِ في النظير المذكور. أمَّا كونُه يفارقه في شيء آخرَ لعارضٍ فلا يَضُرُّ ذلك في التنظيرِ، ولا يُخْرِجُه عن كونه يُشْبِهُه من هذه الجهة.
وقد تحصَّل لك في هذه الحال وجهان، أحدُهما: أنها مؤكدةٌ إنْ قلنا إنَّ الضمير في «وضعَتهْا» عائدٌ على معنى «ما». والثاني: أنها مبيِّنة إنْ قلنا: إنَّ الضميرَ عائدٌ على معنى الحَبْلة أو النَّسَمة أو النفس، لصِدْقِ كلٍّ من هذه الألفاظِ الثلاثةِ على الذكرِ والأنثى.
الوجه الثاني من وجهي «أنثى» : أنها بدلٌ من «ها» في «وضَعَتْها» بدلُ كلٍ من كلٍ، قاله أبو البقاء، ويكونُ في هذا البدلِ بيانُ ما المرادُ بهذا
134
الضمير، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه لفظاً ورتبةً. فإنْ كان الضمير مرفوعاً نحو: ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾ [الأنبياء: ٣] على أحدِ الأوجه، فالكلُّ يجيزون فيه البدلَ. وإنْ كان غيرَ مرفوعٍ نحو/: «ضربْتُه زيداً» ومَرَرْتُ به زيدٍ، فاخْتُلِف فيه، والصحيح جوازُه كقول الشاعر:
١٢٤٢ - على حالةٍ لو أنَّ في القوم حاتماً
على جودِه لضنَّ بالماءِ حاتمِ
بجرِّ «حاتم» الأخيرِ، بدلاً من الهاء في «جودِه».
قوله: ﴿بِمَا وَضَعَتْ﴾ قرأ ابن عامر وأبو بكر: «وَضَعْتُ» بتاء المتكلم، وهو من كلام أم مريم عليها السلام خاطَبَتْ بذلك نفسها تَسَلِّياً لها، واعتذاراً لله تعالى حيث أتَتْ بمولود لا يَصْلُح لمِا نَذَرَتْه من سِدانة بيتِ المقدس. قال الزمخشري وقد ذكر هذه القراءة: «تعني ولَعلَّ لله تعالى فيه سراً وحكمة، ولعلَّ هذه الأنثى خيرٌ من الذكر تسليةً لنفسها». وفي قولهِا ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة، إذ لو جَرَتْ على مقتضى قولِها: «ربِّ» لقالت: «وأنت أعلم».
وقرأ الباقون: «وضَعَتْ» بتاءُ التأنثي الساكنة على إسناد الفعل لضميرِ مريم عليها السلام، وهو من كلامِ الباري تبارك وتعالى، وفيه تنبيهٌ على عِظَمِ قَدْر هذا المولودِ، وأنَّ له شأْناً لم تعرفيه، ولم تَعْرفي إلا كونه أنثى لا غير، دونَ ما يَؤُول إليه من أمورٍ عظامٍ وآياتٍ واضحةٍ، قال الزمخشري: «
135
ولتكلُّمِها بذلك على وجه التَحزُّنِ والتحسُّرِ قال الله تعالى: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ تعظيماً لموضوعِها وتجهيلاً لها بقدْر ما وَهَبَ لها منه، ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعَتْ وما عَلِق من عظائم الأمور، وأَنْ يجعلَه وولدَه آيةً للعالمين، وهي جاهلةٌ بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تَحَسَّرت».
وقد رجَّح بعضُهم القراءةَ الثانية على الأولى بقوله: ﴿والله أَعْلَمُ﴾ قال: «لو كان من كلامِ أم مريم لكانَ التركيبُ: وأنت أعلمُ» وقد تقدَّم جوابُ هذا وأنه التفات.
وقرأ ابنُ عباس: «وضَعْتِ» بكسر التاء على أنها تاءُ المخاطبة، خاطبها الله تعالى بذلك بمعنى: أنك لا تعلمين قَدْر هذه المولودة، ولا قَدْر ما عَلِمه الله فيها من عظائم الأمور.
قوله: ﴿وَلَيْسَ الذكر كالأنثى﴾ هذه الجملةُ تحتمل أن تكونَ معترضة، وأن يكونَ لها محلٌّ، وذلك بحسَبِ القراءات المذكورة في «وضعت»، كما سيمرُّ بك تفصيله. والألفُ واللام في «الذَّكَر» يُحْتمل أن تكونَ للعهد، والمعنى: ليس الذكرُ الذي طلبَتْ كالأنثى التي وُهِبَتْ لها. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: فما معنى قولِها:» وليس الذكر كالأنثى «؟ قلت: هو بيانٌ ل» ما «في قوله: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ من التعظيم للموضوعِ والرفعِ منه، ومعناه: وليس الذكر الذي طَلَبَتْ كالأنثى التي وُهِبت لها، والألفُ واللام فيهما للعهد» وأن تكون للجنس على أن مرادها أنَّ الذكر ليس كالأنثى في الفَضْلِ والمزيَّة؛ إذ هو صالح لخدمةِ المُتَعبِّدات وللتحرير ولمخالطةِ الأجانب بخلاف
136
الأنثى، وكان سياقُ الكلام على هذا يَقْتضي أن يَدْخُلَ النفي على ما استقرَّ وحَصَلَ عندها وانتفَتْ عنه صفاتُ الكمالِ للغرضِ المقصودِ منه، فكان التركيب: وليس الأنثى كالذكر، وإنما عَدَلَ عن ذلك لأنها بَدَأَتْ بالأهمِّ بما كانت تريده. وهو المتلَجْلجُ في صدرِها والحائكُ في نفسها فلم يَجْرِ لسانُها في ابتداء النطق إلا به فصار التقديرُ: وليس جنسُ الذكر مثلَ جنس الأنثى لِما بينهما من التفاوتِ فيما ذكَر. ولولا هذه المعاني التي استنبَطَها العلماءُ وفهموها عن الله تعالى لم يكنْ لمجردِ الإِخبارِ بالجملةِ الليسية معنًى؛ إذ كلُّ أحدٍ يعلم أنَّ الذكرَ ليس كالأنثى.
وقوله: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ هذه الجملةُ معطوفةٌ على قولِه: ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَآ﴾ على قراءةِ مَنْ ضَمَّ التاء في قوله «وضَعْتُ» فتكونُ هي وما قبلها من محلِّ نصب بالقول، والتقدير: قالت إني وضعتُها، وقالت: والله أعلم بما وضعتُ، وقالَتْ: وليس الذكر كالأنثى، وقالت: إني سميتها مريم. وأما على قراءة مَنْ سكن التاء أو كسرها فيكون «إني سَمَّيْتُها» أيضاً معطوفاً على «إني وضعتُها»، ويكون قد فَصَل بين المتعاطفين بجملتي اعتراض كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٦] قاله الزمخشري.
قال الشيخ: «ولا يتعيَّن ما ذَكَر من كونِهما جملتين معترضتين، لأنه يُحْتمل أن يكون ﴿وَلَيْسَ الذكر كالأنثى﴾ في هذه القراءةِ مِنْ كلامِها، ويكون المعترضُ جملةً واحدة كما كان من كلامها في قراءة من قرأ:» وضعْتُ «بضم التاء، بل ينبغي أن يكونَ هذا المتعيِّن لثبوتِ كونه من كلامها في هذه القراءةِ، ولأنَّ في اعتراضِ جملتين خلافاً، مذهبُ أبي علي أنه لا تعْتَرِضُ جملتان،
137
وأيضاً تشبيهُه هاتين الجملتين اللتين اعترَض بهما على زَعْمِه بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ/ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ ليس تشبيهاً مطابقاً للآية لأنه لم تَعْتَرضْ جملتان بين طالب ومطلوب، بل اعتُرِض بين القسمِ الذي هو: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم﴾ وبين جوابه الذي هو: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ بجملةٍ واحدة، وهي قولُه: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ لكنه جاء في جملة الاعتراضِ بين بعضِ أجزائهِ وبعضٍ اعتراضُ بجملة وهو قوله:» لو تعلمون «اعترضَ به بين المنعوتِ الذي هو» لقسمٌ «وبين نعتهِ الذي هو» عظيم «، فهذا اعتراضٌ في اعتراضٌ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى﴾ قلت: والمُشَاحَّةُ بمثل هذه الأشياء ليست طائلة، وقولُه:» ليس فصلاً بجملتي اعتراض «ممنوعٌ، بل هو فصلٌ بمجملتي اعتراض، وكونُه جاء اعتراضٌ في اعتراض لا يَضُرُّ ذلك ولا يَقْدَّحُ في قوله:» فَصَل بجملتين «.
و» سَمَّى «يتعدَّى لاثنين. أحدُهما بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر، ويجوزُ حَذْفُه، تقول: سمَّيت ابني زيداً والأصل: يزيد، قال الشاعر فجمع بين الأصل والفرع:
١٢٤٣ - وسُمِّيْتَ كَعْباً بشَرِّ العِظَامِ
وكان أبوكَ يُسَمَّى الجُعَلْ
أي: يُسَمَّى بالجُعَلْ. وقد تقدَّم الكلامُ في» مريم «واشتقاقِها ومعناها وكونِها من الشاذ عن نظائره.
قوله: ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا﴾ عطفٌ على» إني سَمَّيْتُها «، وأتى هنا بخبرِ»
138
إنَّ «فعلاً مضارعاً دلالةً على طلبِها استمرارَ الاستعاذة دونَ انقطاعِها، بخلافِ قولِه:» وضَعْتُها وسَمَّيْتُها «حيث أتى بالخبرين ماضِيَيْن لانقطاعِهما، وقَدَّم المعاذَ به على المعطوف اهتماماً به.
وفَتَح نافع ياءَ المتكلم قبل هذه الهمزةِ المضمومةِ، وكذلك كلُّ ياء وقعَ بعدَها همزةٌ مضمومةً إلا موضعين، فإنَّ الكلَّ اتفقوا على سكونها فيهما: ﴿بعهدي أُوفِ﴾ [البقرة: ٤٠] ﴿آتوني أُفْرِغْ﴾ [الكهف: ٩٦]، والباقي عشرة مواضع، هذا الذي في هذه السورة أحدها.
قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا﴾ : الجمهور على «تَقَبَّلها» فعلاً ماضياً على تَفَعَّل بتشديدِ العين، و «ربُّها» فاعل بِهِ. وتفعَّل يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ بمعنى المجرد أي: فَقَبِلها، بمعنى رَضِيها مكانَ الذَّكَر المنذور، ولم يَقْبَلْ أنثى منذورةً مثلَ مريم، كذا جاء في التفسير، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعِل مجرداً نحو: تَعَجَّب وعَجِب من كذا، وتبرَّأ وبَرِىء منه. والثاني: أن تفعَّل بمعنى استفعل، أي: فاستقبلها ربُّها يقال: استقبلْتُ الشيء أي: أخذْتُه أولَ مرة، والمعنى: أنَّ الله تولاها في أول أمرها وحين ولادتِها ومنه قوله هو القطامي:
١٢٤٤ - وخيرُ الأمرِ ما استقبَلْتَ منه
وليس بأَنْ تَتَبَّعَه اتِّباعاً
139
ومنه المَثَلُ: «خُذِ الأمر بقَوابله». وتفعَّل بمعنى استفعل كثير نحو: تَعَظَّم واستعظم، وتكبَّر واستكبر، وتَقَصَّيْت الشيء، واستقصَيْتُه وتَعَجَّلَته واستَعْجَلْتُه.
والباءُ في قولِه: ﴿بِقَبُولٍ﴾ فيها وجهان، أحدُهما. أنها زائدة أي: قَبولاً، وعلى هذا فينتصب، «قبولاً» على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد؛ إذ لو جاء على تقبُّل لقيل: تَقَبُّلا نحو: تكبَّر تكبُّرا. وقَبول من المصادر التي جَاءَتْ على فَعُول بفتح الفاء، وقد تقدَّم ذكرُها أول البقرة، يقال: قَبِلْتُ الشيء قَبولاً. وأجاز الفراء والزجاج ضمَّ القاف من «قبول»، وهو القياسُ كالدُّخول والخُروج، وحكاها ابن الأعرابي عن العرب: قبلته قَبولاً وقُبولاً فتح القاف وضمِّها سماعاً عن العرب، و «على وجهه قُبول» لا غيرُ، يعني لم يُقَلْ هنا إلا بالضم، وأنشدوا:
١٢٤٥ -...............................
...... والوجه عليه القُبول
بضم القاف كذا حكاهُ بعضُهم.
وقال الزجاج: «إن» قبولاً هذا ليس منصوباً بهذا الفعل حتى يكون مصدراً على غير الصدر، بل هو منصوبٌ بفعل موافقٍ له أي: مجردٍ قال: «والتقدير: فتقبَّلَها يتقبُّل حسن وقَبِلها قَبولاً حسناً أي: رضيها وفيه بُعْدٌ.
140
والوجه الثاني: أن الباءَ ليست زائدةً، بل هي على حالها، ويكون المرادُ بالقَبول هنا اسماً لِما يُقْبل به الشيءُ نحو:» اللَّدود «لِما يُلَدُّ به، والسَّعوطِ: لما يُسْعَطُ به، والمعنى بذلك اختصاصهُ لها بإقامتها مقامَ الذكَرِ في النَّذْر.
وقوله: ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً﴾ نبات أيضاً مصدرٌ على غير الصدر؛ إذ القياسُ: إنبات. وقيل: بل هو منصوبٌ بمضمرٍ موافقٍ له أيضاً تقديرُه: فنبتَتْ نباتاً حسناً.
وقوله: ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ قرأ الكوفيون:» وكَفَّلَها «بتشديد العين،» زكريا «بالقصر، إلا أبا بكر فإنه قرأه بالمدِّ كالباقين، ولكنه يَنْصِبُه، والباقون يرفعونه كما سيأتي.
وقرأ مجاهد:» فتقبَّلْها «بسكون اللام،» ربَّها «منصوباً، و» أنبِتها «بكسر الباء وسكون التاء، و» كَفِّلْها «بكسر الفاء وسكون اللام، وقرأ أُبَيٌّ:» وأَكْفَلَها «ك» أَكْرَمَها «فعلاً ماضياً.
وقرأ عبد الله المزني «وكَفِلَها» بكسر الفاء والتخفيف.
فأمَّا قراءةُ الكوفيين فإنهم عَدَّوا الفعلَ بالتضعيف إلى مفعولين، ثانيهما «
141
زكريا» فَمَنْ قَصَره كالأخوين وحفص عنده مقدَّر النصبِ، ومن مدَّه كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة، وهكذا قَرَأْتُه.
وأمَّا قراءة بقية السبعة فَكَفَلَ مخففٌ عندهم متعدٍّ لواحد وهو ضمير مريم، وفاعله «زكريا»، ولا مخالفةَ بين القراءتين؛ لأنَّ الله لَمَّا كَفَّلها إياه كَفَلها، وهو في قراءتهم ممدودٌ مرفوعٌ بالفاعلية.
وأمَّا قراءةُ «أَكْفَلَها» فإنه عَدَّاه بالهمزة كما عَدَّاه غيرُه بالتضعيف نحو: خَرَّجْته/ وأَخْرجته، وكَرَّمته وأَكْرمته، وهذه كقراءة الكوفيين في المعنى والإِعراب، فإنَّ الفاعل هو الله تعالى، والمفعولُ الأول هو ضمير مريم والثاني هو «زكريا».
وأمَّا قراءة: «وكَفِلها» بكسر الفاء فإنها لغةٌ في كَفَلَ، يقال: كَفَلَ يَكْفُل، كَقَتَل يقتُل، وهي الفاشية، وكَفِلَ يَكْفَلَ كَعلِمَ يَعْلَم، وعليها هذه القراءة، وإعرابُها كإعرابِ قراءةِ الجماعة في كون «زكريا» فاعلاً.
وأَمَّا قراءةُ مجاهد فإنها كلَّها على لفظِ الدعاءِ مِنْ أُمِّ مريم لله تعالى بأَنْ يفعلَ لها ما سألته. و «ربَّها» منصوب على النداء أي: فتقبَّلْها يا ربَّها وأَنْبِتْها وكَفِّلْها يا ربَّها. و «زكريا» في هذه القراءةِ مفعولٌ ثانٍ أيضاً كقراءةِ الكوفيين.
وقرأ حفص والأخوان: «زكريا» بالقَصْرِ حيث وَرَدَ في القرآن، وباقي السبعة بالمدِّ، والمدُّ والقصرُ في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهلِ الحجاز. وهو اسمٌ أعجمي فكانَ مِنْ حَقِّه أنْ يقولوا فيه: مُنِعَ من الصرفِ للعلَميَّة والعُجْمة كنظائره، وإنما قالوا: مُنع من الصرف لوجود ألف التأنيث فيه. إمَّا الممدودةِ كحَمْراء أو المقصورةِ كَحُبْلى، وكأن الذي اضطرهم إلى
142
ذلك أنهم رأَوْهُ ممنوعاً معرفةً ونكرةً، قالوا: فلو كان منعُه للعلمية والعجمة لانصرفَ نكرةً لزوالِ أحدِ سَبَبَيْ المنع، لكن العرب منَعَتْهُ نكرةً، فَعَلِمْنَا أنَّ المانعَ غيرُ ذلك، وليس معنا هنا ما يصلُح مانعاً من صرفه إلا ألفُ التأنيث، يَعْنُون التشبيهَ بألف التأنيث، وإلاَّ فهذا اسم أعجمي لا يُعْرف له اشتقاقٌ حتى يُدَّعى فيه أن الألفَ فيه للتأنيث. على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صرفه نكرةً، وكأنه لَحَظَ فيه ما قَدَّمتْهُ من العجمة والعلمية لكنهم غَلَّطوه وخَطَّؤوه في ذلك.
وقال الفارسي فأَشْبع فيه القول: «لا يخلو من أن يكونَ الهمزة فيه: للتأنيث أو للإِلحاق أو منقلبةً، ولا يجوز أن تكونَ منقلبةً؛ لأنَّ الانقلاب لا يخلو من أن يكونَ من حرفٍ أصلي أو من حرفِ الإِلحاق، ولا يجوزُ أَنْ يكون من حرف أصلي لأنَّ الياء والواو لا يكونان أصلاً فيما كان على أربعة أحرف، ولا أَنْ يكونَ من حرف الإِلحاق لأنه ليس في الأصولِ شيءٌ يكونُ هذا ملحقاً به وإذا ثبت ذلك ثَبَتَ أنها للتأنيث، وكذلك القولُ في الألف المقصورة».
وهذا الذي قاله أبو علي صحيحٌ لو كان فيما يُعْرَفُ له اشتقاقٌ ويَدْخله تصريفٌ، ولكنهم يُجرون الأسماء الأعجمية مُجْرى العربية بمعنى أن هذا لو وَرَدَ في لسانِ العرب كيف يكون حكمُهُ؟
وفيه بعد ذلك لغتان أُخْرَيان، إحداهما: زَكَرِيٌّ بياء مشددة في آخره فقد دونَ ألف، وهو في هذه اللغة منصرف. ووجَّهَ أبو علي ذلك فقال: «القولُ فيه أنه حُذِفَ منه الياءان اللتانِ كانتا فيه ممدوداً ومقصوراً وما بعدهما وأَلْحَقَ ياءي النسب» قال: يَدُلُّ على ذلك صَرْفُ الاسم، ولو كانت الياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرفَ للعجمة والتعريف «، وهذه اللغةُ التي
143
ذكرتُها لغةُ أهلِ نجد ومَنْ والاهم. والثانية:» زَكْرٍ «بزنة عَمْرٍو، حكاها الأخفش».
والكَفالَةُ: الضمان في الأصلِ، ثم يستعار للضم والأخذ، يقال منه: كَفَل يكفُل، وكَفِلَ يكفَل كعَلِمَ يعلَم كَفالة وكَفْلاً فهو كافِلٌ وكفيل.
قوله: ﴿المحراب﴾ فيه وجهان مشهوران، أحدهما وهو مذهب سيبويه أنه منصوبٌ على الظرف، وشذَّ عن سائر إخوانه بعد «دخل» خاصة، يعني أن كلَّ ظرفِ مكان مختص لا يصل إليه الفعلُ إلا بواسطة «في» نحو: «صَلَّيْت في المحراب» ولا تقول: المحرابَ، ونمت في السوق، ولا تقول: السوقَ، إلا مع «دخل» خاصة، نحو: دَخَلْتُ السوقَ والبيت، وإلا ألفاظاً أُخَرَ ذكرْتُها في كتب النحو. والثاني: مذهب الأخفش، هو نصبُ ما بعد «دخل» على المفعول به لا على الظرف، فقولك: «دخلت البيت» كقولك: «هَدَمْتُ البيت» في نصب كلٍّ منهما على المفعول به. وهو قولٌ مرجوحٌ بدليل أنَّ «دخل» لو سُلِّط على غير الظرف المختص وجب وصولُه بوساطةِ «في» تقول: «دخلْتُ في الأمر» ولا تقول: دخلت الأمر، فدلَّ ذلك على عدم تعدِّيه للمفعول به بنفسه.
والمحراب: قال أبو عبيدة: «هو أشرف المجالس ومقدَّمُها، وهو كذلك من المسجدِ». وقال ابو عمرو بن العلاء: «هو القَصْرُ لعلوِّه وشَرَفِه». وقال الأصمعي: «هو الغرفةُ» وأنشد لامرىء القيس:
144
١٢٤٦ - وماذا عليه أَنْ ذكرتُ أوانساً
كغِزْلانِ رملٍ في محاريبِ أَقْيالِ
قالوا: معناه في غُرَفِ أقيال. وأنشد غيرُه لعمر بن أبي ربعية:
١٢٤٧ - رَبَّةُ مِحْرابٍ إذا جئتُها
لم أدْنُ حتى أَرْتَقِي سُلَّما
وقيل: هو المحرابُ من المسجدِ المعهودِ وهو الأليقُ بالآية. وأمَّا ما ذكرْتُه عمَّن تقدَّم فإنما يَعْنُون به المحرابَ مِنْ حيث هو، وأمَّا في هذه الآية فلا يَظْهَرُ بينهم خلافٌ [في] أنه المحرابُ المتعارَفُ، قيل: واشتقاقه من الحَرْب لتحارُبِ الناس عليه.
وأمال ابن ذكوان عن ابن عامر «المحراب» في هذه السورة موضعين بلا خلافٍ، لكونه قَوِيَ فيه سببُ الإِمالة، وذلك أن الألف تقدَّمَها كسرةٌ وتأخَّرت عنها كسرةٌ أخرى فقَوِيَ داعي الإِمالة، وهذا بخلاف/ «المحراب» غيرِ المجرور فإنه نُقِلَ عن ابن ذكوان فيه الوجهان: الإِمالةُ وعدمُها نحو قوله: ﴿إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب﴾ [ص: ٢١]، فوجهُ الإِمالة تقدُّمُ الكسرة، ووجهُ التفخيمِ أنه الأصلُ، وقد تقدَّم لك الفرقُ بين كونِهِ مجروراً فلم يُخْبَرْ عنه فيه خلاف وبين كونِهِ غيرَ مجرورٍ فجرى فيه الخلافُ، وكذلك جرى عنه الخلاف أيضاً في «عمران» لِما ذكرْتُ لكل من تقدُّم الكسر.
قوله: ﴿وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً﴾ هذه «وَجَدَ» بمعنى أصاب ولقي وصادف فتتعدَّى لواحدٍ وهو «رزقاً»، و «عندَها» الظاهرُ أنه ظرفٌ للوِجْدَان. وأجاز
145
أبو البقاء أن يكونَ حالاً من «رزقاً» لأنه يصلُح أن يكونَ صفةً له في الأصل، وعلى هذا فيتعلَّقُ بمحذوف، و «وَجَدَ» هو الناصبُ لكلما، لأنها ظرفيةٌ، وقد تقدَّم تحقيقُه. وأبو البقاء سَمَّاه جوابها؛ لأنها عنده تشبه الشرطَ كما سيأتي.
قوله: «قال: يا مريم» فيه وجهان، أحدُهما: أنه مستأنف، قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من» وَجَدَ «لأنه ليس بمعناه». والثاني: أنه معطوفٌ بالفاء، فَحُذِفَ العاطِفُ، قال أبو البقاء: «كما حُذِفَتْ في جواب الشرط كقوله: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٢١]، وكذلك قولُ الشاعر:
١٢٤٨ - مَنْ يَفعلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكرها
............................
وهذا الموضِعُ يشبِهُ جوابَ الشرط؛ لأنَّ» كلما «تُشْبه الشرط في اقتضائِها الجواب» انتهى. قلت: وهذا الذي قاله فيه نظرٌ من حيث إنه تخيَّل أنَّ قوله تعالى ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ أنَّ جوابَ الشرط هو نفس «إنكم لمشركون» حُذفت منه الفاء، وليس كذلك، بل جوابُ الشرط محذوفٌ، و «إنكم لمشركون» جوابُ قسمٍ مقدر قبل الشرط، وقد تقدَّم تحقيقُ هذه المسألة، فليس هذا مِمَّا حُذِفَتْ منه فاءُ الجزاء البتَةَ، وكيف يَدَّعي ذلك ويُسَوِّيه بالبيت المذكور وهو لا يجوز إلا في ضرورة، ثم الذي يَظْهَرُ أنَّ الجملةَ من قوله: «وَجَدَ» في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «دخل»، ويكون جوابُ «كلما» هو نفسَ «
146
قال» والتقدير: كلما دخل عليها زكريا واجداً عندها الرزقَ قال، وهذا بيِّنٌ جداً. ونَكَّر «رزقاً» تعظيماً له أو ليدلَّ به على نوعِ ما منه.
قوله: ﴿أنى لَكِ هذا﴾ أنَّى خبر مقدم، و «هذا» مبتدأ مؤخر، ومعنى «أنى» هنا: مِنْ أين، كذا فَسَّرها أبو عبيدة، وقيل: ويجوز أن يكون سؤالاً عن الكيفية أي: كيف تهيَّأ لك هذا، قال الكميت:
١٢٤٩ - أنَّى ومِنْ أين آبَكَ الطربُ
مِنْ حيثُ لا صبوةٌ ولا رِيَبُ
وجَوَّزَ أبو البقاء في «أَنَّى» أن ينتصِبَ على الظرف بالاستقرار الذي في «لك»، و «لك» رافع ل «هذا» يعني بالفاعلية ولا حاجة إلى ذلك. وقد تقدّم الكلام على «أنَّى» في البقرة. ﴿إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ﴾ تقدَّم نظيرُه، ويُحْتَمَلُ أن يكونَ مستأنفاً [مِنْ كلامِ اللهِ تعالى، وأن يكونَ من كلامِ مريم فيكونَ منصوباً].
قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا﴾ :«هنا» هو الاسمُ واللامُ للبعد والكافُ حرفُ، وهو وِزانُ «ذلك»، وهو منصوبٌ على الظرفِ المكاني ب «دعا»، أي: في ذلك المكان الذي رأى فيه ما رأى مِنْ أَمْرِ مريم، وهو ظرفٌ لا يتصرَّفُ بل يلزم النصبَ على الظرفية، وقد يُجَرُّ ب «مِنْ» و «إلى» قال الشاعر:
147
١٢٥٠ - قد وَرَدَتْ مِنْ أَمْكِنَهْ
مِنْ ههنا ومِنْ هُنَهْ
وحكمُه حكمُ «ذا» مِنْ كونِهِ يُجَرَّد من حرف التنبيه ومن الكاف واللام نحو: هنا، وقد تصحبه «ها» التنبيه نحو: ههنا، ومع الكافِ قليلاً نحو: «ها هناك»، ويمتنعُ الجمعُ بين ها واللام. وأخواتُهُ: هَنَّا بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها، وثَمَّ بفتح الثاء، وقد يقال هَنَّتْ، ولا يُشار بهذه إلا للبعيد خاصة، ولا يشار بهنالك وما ذُكِرَ معه إلا للأمكنة.
وقد زعم بعضُهم أنَّ «هناك» و «هنالك» و «هَنَّا» للزمان، فمِنْ ورودِ «هنالك» بمعنى الزمان عند بعضِهم هذه الآية أي: في ذلك الزمان، ومثلُه: ﴿هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون﴾ [الأحزاب: ١١] ومنه قولُ زهير:
١٢٥١ - هنالك إنْ يُسْتَخْبَلُوا المالَ يُخْبِلُوا
.......................
والظاهر أنه على مكانِيَّتِه. ومن ورود «هناك» قوله:
١٢٥٢ - وإذا الأمورُ تعاظَمَتْ وتشابَهَتْ
فهناك يعترفون أين المفزَعُ
ومن ورود هَنَّا قوله:
١٢٥٣ - حَنَّتْ نَوارِ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ
وبدا الذي كانت نوارِ أَجَنَّتِ
148
لأن «لات» لا تعمل إلا في الأحيان، وفي البيت كلامٌ أطولُ من هذا. وفي عبارة السجاوندي أن «هناك» في المكان و «هنالك» في الزمان، وهو سهوٌ، لأنها للمكان سواءً تجردت أم اتصلت بالكاف واللام معاً أم بالكاف دون اللام.
قوله: ﴿مِن لَّدُنْكَ﴾ يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق ب «هَبْ» وتكونُ «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً أي: هَبْ لي من عندِك، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنه في الأصل صفةٌ لذرية، فلما قُدِّم عليها انتصبَ حالاً. وقد تقدَّم الكلامُ على لدن وأحكامِها ولغاتِها. وقوله: ﴿سَمِيعُ الدعآء﴾ مثالُ مبالغة مُحَوَّل من «سامِع» وليس بمعنى «مُسْمِع» لفسادِ المعنى.
وقوله: ﴿طَيِّبَةً﴾ نْ أرادَ ب «ذرية» الجنسَ فيكونُ التأنيثُ في «طيبة» باعتبارِ تأنيثِ الجماعة، وإنْ أرادَ به ذَكَراً واحداً فالتأنيث باعتبار اللفظ. قال: الفراء: «وأَنَّث» طيبة «لتأنيثِ لفظِ» الذرية «كما قال الشاعر:
١٢٥٤ - أبوكَ خليفةٌ وَلَدَتْهُ أخرى
وأنت خليفةٌ، ذاك الكمالُ
وهذا فيما لم يُقْصَدُ به واحدٌ معيَّنٌ، أمَّا لو قُصِدَ به واحدٌ معيَّنٌ امتَنَعَ اعتبارُ اللفظِ نحو: طلحة وحمزة، وقد جَمَعَ الشاعرُ بين التذكيرِ والتأنيث في قوله:
قولُه تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الملائكة﴾ : قرأ الأخَوان: «فناداه» من غيرِ تاء تأنيث، والباقون: «فنادَتْه» بتاء التأنيث. والتذكيرُ والتأنيث باعتبار الجمع المكسر، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكيرُ باعتبار الجمع، والتأنيثُ باعتبار الجماعة، ومثل هذا: ﴿إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة﴾ [الأنفال: ٥٠] يُقرأ بالتاء والياء، وكذا قوله: ﴿تَعْرُجُ الملائكة﴾ [المعارج: ٤]. قال الزجاج: «يَلْحقها التأنيثُ للفظ الجماعة، ويجوزُ أَنْ يُعَبِّر عنها بلفظ التذكير لأنه يقال: جَمْعُ الملائكة، وهذا كقوله: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾ [يوسف: ٣٠] انتهى وإنما حَسَّنَ الحذفَ هنا الفصلُ بين الفعلِ وفاعِله.
وقد تَجَرَّأ بعضُهم على قراءة العامة فقال:» أكرهُ التأنيث لِمَا فيه من مو-افقة دعوى الجاهلية؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث. وتجرَّأ/ أبو البقاء على قراءة الأخوين فقال: «وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية، فلذلك قرأ مَنْ قرأ:» فناداه «بغير تاءٍ، والقراءةُ به غيرُ جيدة لأنَّ الملائكةَ جمعٌ، وما اعتلُّوا به ليس بشيء، لأنَّ الإِجماع على إثبات التاء في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة﴾ [آل عمران: ٤٢]. وهذان القولان الصادران من أبي البقاء وغيرِه ليسا بجيدين، لأنهما قراءتان متواترتان، فلا ينبغي أن تُرَدَّ إحداهما البتة.
150
والأخَوان على أصلِهما مِنْ إمالةِ» فناداه «، والرسمُ يَحتمل القراءتين معاً أعني التذكيرَ والتأنيثَ.
والجمهورُ على أنَّ الملائكةَ المرادُ بهم واحدٌ وهو جبريلُ. قال الزجاج:» أتاه النداء من هذا الجِنس الذين هم الملائكةُ كقولِك: «فلان يركب السفنَ» أي: هذا الجنسَ «ومثلُه: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس﴾ [آل عمران: ١٧٣] وهم نعيم بن مسعود. وقوله» إنَّ الناس «يعني أبا سفيان، ولَمَّا كان جبريل رئيسَ الملائكة أَخْبَرَ عنه إخبارَ الجماعة تعظيماً له. وقيل:» الرئيس لا بُدَّ له من أتباع، فلذلك أَخْبَر عنه وعنهم، وإنْ كان النداءُ إنما صدر منه «، ويؤيِّدُ كونَ المنادى جبريلَ وحدَه قراءةُ عبدِ الله، وكذا في مصحفه:» فناداه جبريل «، والعطفُ بالفاء في قوله: ﴿فَنَادَتْهُ﴾ مُؤْذِنٌ بأنَّ الدعاء مُعْتَقِبٌ بالتبشير.
قوله: ﴿وَهُوَ قَائِمٌ﴾ جملةٌ حالية من مفعولِ النداء، و» يصلي «يحتمل أوجهاً، أحدها: أن يكونَ خبراً ثانياً عند مَنْ يرى تعدُّدَهُ مطلقاً نحو:» زيدٌ شاعرٌ فقيه «. الثاني: أنه حالٌ ثانية من مفعول النداء، وذلك أيضاً عند مَنْ يُجَوِّز تعدُّدَ الحال. الثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في» قائم «فيكونُ حالاً من حال. الرابع: أن يكونَ صفةً لقائم.
قوله: ﴿فِي المحراب﴾ متعلقٌ بيُصَلِّي، ويجوزُ أنْ يتعلَّقَ بقائم إذا جَعَلْنا» يُصَلِّي «حالاً من الضمير في» قائم «؛ لأنَّ العامِلَ فيه حينئذٍ وفي الحالِ شيءٌ واحدٌ فلا يلزَمُ منه فصلٌ، أمَّا إذا جَعَلْناهُ خبراً ثانياً أو صفةً لقائم أو حالاً من المفعولِ لَزِمَ الفصلُ بين العامِلِ ومعمولِه بأجنبي، هذا معنى كلامِ
151
الشيخ، والذي يظهر أنه يجوز أن تكونَ المسألةُ من باب التنازع، فإنَّ كلاً من قائم ويصلِّي يَصِحُّ أَنْ يتسَلَّطَ على» في المحراب «، وذلك جائِزٌ على أيِّ وجهٍ تَقَدَّم من وجوهِ الإِعرابِ.
قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ قرأ نافع وحمزة وابن عامر بكسر «إنَّ»، والباقون بفتحها. فالكسرُ عند الكوفيين لإِجراء النداء مُجْرى القول فلْيُكْسَرْ معه، وعند البصريين على إضمارِ القول، أي: فنادَتْهُ فقالت. والفتح على حَذْفِ حرف الجر تقديرُهُ: فنادَتْهُ بأن الله، فلمَّا حُذِفَ الخافض جرى الوجهان المشهوران في محلها.
وفي قراءة عبد الله «فنادَتْه الملائكة: يا زكريا» فقوله «يا زكريا» هو مفعولُ النداء، وعلى هذه القراءةِ يتعيَّنُ كسرُ «إنَّ» ولا يجوز فتحُها لاستيفاءِ الفعل معموليه، وهما: الضميرُ وما نُودِي به زكريا.
قوله: «نُبَشِّرُك» قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم الخمسة في هذه السورة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ﴾ موضعان، وفي سورة الإِسراء: ﴿وَيُبَشِّرَ المؤمنين﴾ [الآية: ٩]، وفي سورة الكهف: ﴿وَيُبَشِّرَ المؤمنين﴾ [الآية: ٢] أيضاً بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين مشددةً من: بَشَّره يُبَشِّره. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ثلاثتهم كذلك في سورة الشورى وهو {ذَلِكَ الذي
152
يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ} [الآية: ٢٣]، وقرأ الجميع دون حمزة كذلك في سورة براءة: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ﴾ [الآية: ٢١] وفي أول الحجر في قوله: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ [الآية: ٥٣]، ولا خلاف في الثاني وهو قوله: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر: ٥٤] أنه بالتثقيل، وكذلك قرأ الجميع دون حمزة في سورة مريم موضعين: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ﴾ [مريم: ٧] ﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين﴾ [مريم: ٩٧]، وكلُّ مَنْ لم يُذْكَرْ مع هؤلاء مَنْ قرأ بالتقييد المذكور فإنه يَقْرأ بفتح حرف المضارعة وسكونِ الباء وضَمِّ الشين.
وإذا أردت معرفة ضبطِ هذا الفصل فاعلَمْ أنَّ المواضعَ التي وقع فيها الخلافُ المذكور تسعُ كلمات، والقرَّاءُ فيها على مراتبَ: فنافع وابن عامر وعاصم ثَقَّلوا الجميع وحمزة خَفَّف الجميع، وابن كثير وأبو عمرو ثَقَّلا الجميع إلا التي في سورة الشورى فإنهما وافقا فيها حمزة، والكسائي خَفَّف خمساً منها وثقَّل أربعاً، فخفَّف كلمتَيْ هذه السورة وكلماتِ الإِسراء والكهف والشورى.
وقد تقدَّم أن في هذا الفعل ثلاثَ لغات: «بَشَّر» بالتشديد، وبَشَر بالتخفيف، وعليه ما أنشده الفراء:
١٢٥٦ - بَشَرْتُ عيالي إذ رأيتُ صحيفةً
أَتَتْكَ من الحَجَّاجِ يُتْلَى كتابُها
والثالثة: «أَبْشَرْتُ» رباعياً، وعليه قراءةُ بعضهم «يُبْشِرُك» بضم الياء، ومن التبشير قول الآخر:
153
١٢٥٧ - يا بِشْرُ حُقَّ لوجهِك التَّبْشِيرُ
هَلاَّ غَضِبْت لنا وأنتَ أَميرُ
وقد أُجْمِعَ على مواضعَ من هذه اللغات نحو: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ﴾ [آل عمران: ٢١]. ﴿وَأَبْشِرُواْ﴾ [فصلت: ٣٠]، ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾ [هود: ٧١]، فلم يَرِدِ الخلافُ إلا في المضارعِ دونَ الماضي والأمرِ، وقد تقدَّمَ معنى البِشارَة واشتقاقُها في سورة البقرة.
قوله تعالى: ﴿بيحيى﴾ متعلق ب يُبَشِّرُكَ، ولا بد من حذف مضاف أي: بولادة يحيى، لأن الذواتِ ليست متعلقةً للبشارة ولا بد في الكلامِ من [شيء] عادَ إليه السياقُ تقديرهُ: بولادةِ يحيى منك ومن امرأتِك، دَلَّ على ذلك قرينةُ الحالِ وسياقُ الكلام.
و «يحيى فيه قولان أحدُهما: وهو المشهورُ عند أهل التفسير أنه منقولٌ من الفعلِ المضارع، وقد سَمُّوا بالأفعال كثيراً نحو: يعيش ويعمر ويَمُوت، قال قتادة:» سُمِّي يَحْيى لأنَّ الله أَحياه بالإِيمان «وقال الزجاج:» حَيِيَ بالعلم «وعلى هذا فهو ممنوعُ الصرف للعملية ووزن الفعل نحو:» يزيد ويشكر وتغلب «. والثاني: أنه أعجمي لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهرُ فامتناعُه للعمليةِ والعجمةِ الشخصية. وعلى كلا القولين فيُجْمع على يَحْيَوْن بحذف الألف نحو:» مُوسَوْن «بحذف الألف وبقاء الفتحة تدلُّ عليها. وقال الكوفيون:» إن كان عربياً منقولاً من الفعلِ فالأمرُ كذلك، وإنْ كان أعجمياً ضُمَّ ما قبل الواو وكُسِر ما قبل الياء إجراء له مُجْرى المنقوص نحو: جاء
154
القاضون، ورأيت القاضين «هذا نَقْلُ الشيخ عنهم. ونقل ابن مالك عنهم أن الاسم إنْ كانت ألفُه زائدةً ضُمَّ ما قبل الواو وكُسِر ما قبل الياء نحو: جاء حُبْلُون ورأيت حُبْلِين، وإن كانت أصليةً نحو:» رَجَوْن «وجب فتح ما قبل الحرفين، قالوا:» فإن كان أعجمياً جاز الوجهان، لاحتمالِ أن تكون ألفُه أصليةً أو زائدة، إذ لا يُعْرَفُ له اشتقاق «ويُصَغَّر يَحْيى على» يُحَيَّى «وأنشدت للشيخ أبي عمرو ابن الحاجب في ذلك:
١٢٥٨ - أيُّها العالم بالتصريفِ لا زلت تُحَيَّا... إنَّ يَحْيى إنْ يُصَغَّرْ فيُحَيَّا... وأبى قومٌ وقالوا ليسَ هذا الرأيُ حَيّا... إنما كان صواباً أَنْ يُجيبوا بيُحَيَّا... كيف قد رَدُّوا يُحَيَّا... والذي اختارُوا يُحَيَّا... أتراهم في ضلالٍ أم ترى وجهاً يُحَيَّا... قلت: هذا جارٍ مَجْرى الألغاز في تصغيرِ هذه اللفظةِ، وذلك يختلف بالتصريفِ والعمل، وهو أنه إذا اجتَمَع في آخر الاسم المصغَّر ثلاثُ ياءات
155
جَرَى فيه خلافٌ بين النحاة بالنسبة إلى الحذف والإِثبات وأصلُ المسألة تصغير» أَحْوى «وقد أتقنت هذه الأبيات وحرَّرْتُ مذاهب التصريفين فيها حين سُئِلت عنها في غير هذا الموضوع إذ لا يَحْتمله.
ويُنْسَبُ إلى يَحْيى: يَحْيِيُّ بحذف الألف تشبيهاً لها بالزائد نحو: حُبْلِيّ في: حُبْلى، ويَحْيَويّ بالقلب لأنها أصلٌ كألف مَلْهَويٌّ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجمياً، ويَحْياوي بزيادة ألف قبل قلب ألفه واواً.
والنداء: رفعُ الصوت، يقال: نادى نُداءً ونداء بضم النون وكسرها، والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم نحو: البُكاء والصُّراخ والدُّعاء والرُّغاء. وقيل: المكسورُ مصدر والمضموم اسم، ولوعُكِسَ هذا لكان أَبْيَنَ لموافقتِه نظائرَه من المصادر. وقال يعقوب بن السكيت:» إذا ضَمَمْتَ نونَه قَصَرْتَه وإن كسرتها مددَته «وأصلُ المادةِ يَدُلُّ على الرفع.
ومنه المُنْتدى والنادي لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم. وقالت قريش: دار الندوة، لارتفاعِ أصواتِهم عند المشاورة والمحاورةِ فيها، وفلان أَنْدى صوتاً من فلان أي: أَرْفَع، هذا أصلُه في اللغةِ، وفي العُرْف صار ذلك لأحسنِهما نغماً وصوتاً، والنَّدى: المطرُ، ومنه: نَدِيَ يَنْدَى، ويُعَبَّر به عن الجود، كما يُعَبَّر بالمطرِ والغيثِ وأخواتهِما عنه استعارةً.
قوله: ﴿مُصَدِّقاً﴾ حالٌ من «يحيى» وهذه حالٌ مقدَّرة، وقال ابن عطية: «
156
هي حالٌ مؤكدة بحَسَب حال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام». و «بكلمة» متعلِّقٌ ب «مصدقاً». وقرأ أبو السَّمَّال: «بكِلْمَةٍ» بكسر الكاف وسكون اللام، وهي لغة فصيحة، وذلك أنه أَتْبَع الفاءَ للعين في حركتها فالتقى بذلك كسرتان، فَحَذف الثانيةَ لأجل الاستثقال. والكلمة قيل: المراد بها الجمع؛ إذ المقصودُ التوراةُ والإِنجيل وغيرهما من كتب الله تعالى المُنَزَّلة، فَعَبَّر عن الجمعِ ببعضه، ومثلُ هذا قوله عليه السلام: «أصدقُ كلمةٍ قالها الشاعر كلمةُ لبيد» يريدُ قولَه:
١٢٥٩ - ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطِلُ
وكلُّ نعيمٍ لا مَحَالَةَ زائِلُ
وذُكِر لحسان رضي الله عنه الحُوَيْدِرة الشاعر فقال: «لعن الله كلمته» يعني قصيدته، وسيأتي لهذا مزيدُ بيان عند قوله تعالى: ﴿إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ﴾ [آل عمران: ٦٤].
قوله: ﴿مِّنَ الله﴾ في محلِّ جر صفة لكملة فيتعلَّقٌ بمحذوف أي: بكلمة كائنة من الله. و ﴿وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً﴾ أحوالٌ أيضاً كمصدِّقاً. السيِّد فَيْعِل. والأصلُ: سَيْوِد فَفُعِل [به] ما فُعِل بميت، وقد تقدَّم كيفية ذلك، واشتِقاقُه من سادَ يسود سِيادة وسُؤْدُدَاً أي: فاقَ نُظَراءَه في الشرف والسؤُدد، ومنه قولهم:
١٢٦٠ - نفسُ عصامٍ سَوَّدَتْ عِصَاما
وعَلَّمَتْه الكَرَّ والإِقداما
وصَيَّرتَهُ بَطَلاً هُمَاما...
157
وقال بعضهم: سُمِّي سيِّداً لأنه يَسُود سَوادَ الناس أي: عظيمهم وجُلَّهم، وجمعُه على فَعَلة شاذ قياساً فصيح استعمالاً، قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا﴾ [الأحزاب: ٦٧] والأصل: سَوَدَة، و «فَعَلة» إنما يكثر لفاعِل نحو: كافِر وكَفَرة وفاجِر وفَجَرة وبار وبَرَرة.
والحَصور فَعُول للمبالغة مُحَوَّلٌ من «حاصِر» كضَرُوب في قوله:
١٢٦١ - ضَروبٌ بنصْلِ السيفِ سُوقَ سِمانِها
إذا عَدِموا زاداً فإنَّك عاقِرُ
وقيل: بل هو فَعُول بمعنى مَفْعول أي: محصور، ومثله رَكوب بمعنى مركوب وحَلوب بمعنى مَحْلوب. والحَصُور: الذي يكتُم سِرَّه. قال جرير:
١٢٦٢ - ولقد تَسَقَّطَني الوشاةُ فصادَفوا
حَصِراً بسِرِّك يا أُمَيْمُ ضَنِيناً
[وهو البخيل أيضاً] قال:
١٢٦٣ -............................
لا بالحَصورِ ولا فيها بِسَآَّرِ
وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة، وأصلُه مأخوذٌ من المَنْع، وذلك أن الحَصُور هو الذي لا يأتي النساءَ: إمَّا لطَبْعِه على ذلك وإمَّا لمغالبتِه نفسَه. و «من الصالحين» صفةٌ لقوله «نبياً» فهو في محل نصب.
قوله تعالى: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ : يجوز أن تكون الناقصة، وفي خبرها حينئذ وجهان، أحدهما: «أنَّى» لأنها بمعنى كيف، أو بمعنى مِنْ أين: و «لي» على هذا تبيينٌ. والثاني: أنَّ الخبرَ الجار و «كيف» منصوبٌ على الظرف. ويجوزُ أَنْ تكونَ التامَّة فيكونُ الظرفُ والجار كلاهما متعلِّقَيْنِ ب «يكون» لأنه تام، أي: كيف يحدث لي غلام، ويجوز أن يتعلَّقَ/ بمحذوفٍ على أنه حال من «غلام» لأنه لو تأخَّر لكان صفةً له.
وقوله: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر﴾ جملةُ حاليةٌ، وفي موضع آخرَ ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر﴾ [مريم: ٨] لأنَّ ما بَلَغَكَ فقد بَلَغْتَه. وقيل: لأنَّ الحوادثَ تَطْلُب الإِنسانَ. وقيل: هو من المَقْلوب كقوله:
١٢٦٤ - مثلُ القنافِذِ هَدَّاجون قد بَلَغَتْ
نجرانُ أو بُلِّغَتْ سَوْءاتِهِمْ هَجَرُ
ولا حاجةَ إليه.
وقدَّم في هذه السورة حالَ نفسه، وأخَّر حالَ امرأته، وفي مريم عَكَس، فقيل: صدرُ الآيات في مريم مطابِقٌ لهذا التركيبِ لأنه قَدَّمَ وَهْنَ عظمِه واشتعالَ شَيْبِه وخِيفَةَ مواليهِ من ورائه، وقال: ﴿وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً﴾ فلمَّا أعَاد ذِكْرهما في استفهامٍ آخر ذَكَر الكِبَر ليوافِق «عِتِيَّاً» رؤوسَ الآي، وهو باب مقصود في الفصاحة، والعطفُ بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانياً، فلذلك لم يُبالَ بتقديم ولا تأخير.
159
والغلامُ: الفتيُّ السنِّ من الناسِ وهو الذي... شاربُه، وإطلاقُه على الطفلِ وعلى الكهلِ مجاز، أمَّا الطفلُ فللتفاؤل بما يَؤُول إليه، وأمَّا الكهلُ فباعتبارِ ما كانَ عليه. قالت ليلى الأخيلية:
١٢٦٥ - شَفاها من الداءِ العُضالِ الذي بها
غلامٌ إذا هَزَّ القناةَ شَفاها
وقال بعضُهم: ما دام الولدُ في بطن أمه سُمِّي «جنيناً». قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ﴾ [النجم: ٣٢]، سُمِّي بذلك لاجتنانِه في الرَّحمِ، فإذا وُلِد سُمِّي «صبياً» فإذا فُطِمَ سُمِّي «غُلاماً» إلى سبع سنين، ثم سُمِّي يافعاً إلى أن يَبْلُغَ عشر سنين، ثم يُطْلق عليه «حزَوَّر» إلى خمس عشرة، ثم يصير «قُمُدَّاً» إلى خمسٍ وعشرين سنة، ثم، «عَنَطْنَطَا» إلى ثلاثين قال:
١٢٦٦ - وبالجَعْدِ حتى صارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً
إذا قامَ ساوى غاربَ الفحلِ غارِبُهْ
ثم «حُمُلا» إلى أربعين ثم «كَهْلاً» إلى خمسين، ثم «شيخاً» إلى ثمانين ثم «هَمٌّ» بعد ذلك.
واشتقاق الغُلام من الغُلْمة والاغتِلام، وهو طَلَبُ النكاح، لَمَّا كان مسبَّباً عنه أُخِذَ منه لفظُه، ويقال: «اغتَلَم الفحلُ» أي: اشتدَّتْ شهوتُه إلى طَلَبِ النكاح، واغتلَم البحر أي: هاجَ وتلاطَمَتْ أمواجه مستعار منه، وقياسُه في القلةِ أَغْلِمة، وفي الكثرة: غِلْمان، وقد جُمع على غِلْمَة شذوذاً، وهل هذه الصيغةُ جمعُ تكسير أم اسم جمع؟ قال الفراء: «يقال غلامٌ بيِّنُ الغُلومَة والغُلومِيَّة والغُلامِيَّة» قال: «والعربُ تجعلُ مصدرَ كلِّ اسمٍ ليسَ له فعلٌ
160
معروفٌ على هذا المثالِ، فيقولون: عَبْدٌ بَيِّنُ العُبودة والعُبودِيَّة والعُبادِيَّة» يعني لم تتكلم العرب من هذا بِفِعْلٍ.
والكِبَرُ: مصدرُ كَبِرَ يكبَر كِبَراً أي: طَعَن في السن، قال:
١٢٦٧ - صغيرَيْنِ نَرْعَى البَهْمَ يا ليتَ أَنَّنا
إلى اليومِ لم نَكْبَرْ ولم تَكْبَر البَهْمُ
قوله: ﴿وامرأتي عَاقِرٌ﴾ جملةٌ حاليةٌ: إمَّا من الياء في «لي» فتعدَّدُ الحالُ عند مَنْ يراه، وإمَّا من الياءِ في «بلغَنَي». والعاقر: مَنْ لا يُولد له رجلاً كان أو امرأةً، مشتقاً من العَقْر وهو القتل، كأنهم تخيَّلوا فيه قَتْل أولادِه والفعل بهذا المعنى لازمٌ، وأمَّا عَقَرْتُ بمعنى نَحَرْتُ فمتعدٍّ، قال تعالى: ﴿فَعَقَرُواْ الناقة﴾ [الأعراف: ٧٧]، وقال:
١٢٦٨ -.......................
عَقَرْتَ بعيري يا امرأ القيسِ فانْزِلِ
وقيل: «عاقِر» على النسب أي: ذاتُ عُقْر، وهي بمعنى مَفْعول أي: معقورة، ولذلك لم تُلْحَقْ تاءَ التأنيث.
والعُقر العَقْر بضم العين وفتحها: أصلُ الشيء، ومنه: عُقْر الدار وعُقْر الحوض، وفي الحديث: «ما غُزِي قومٌ قط في عُقر دارِهم إلا ذُلُّوا» وعَقَرْتُه: أَصَبْتُ عُقْره أي: أصلَه نحو: رَأَسْته أي: أصبتُ رأسَه، والعُقْر أيضاً: آخر الولد، وكذلك بيضةُ العُقْر، والعُقار: الخمرُ لأنها تَعْقِر العقلَ مجازاً وفي
161
كلامهم: «رَفَعَ فلانٌ عقيرَتَه» أي: صوته، وذلك أنَّ رجلا عَقَر رجله فرفعَ صوتَه فاستُعير ذلك لكلِّ من رفَع صوَته. وقال بعضُهم: «يُقال: عَقُرَتْ المرأةَ تَعْقُر عَقْراً وعقارةً» أنشد الفراء:
١٢٦٩ - أرزامُ بابٍ عَقُرَتْ أَعْواما
فَعَلَّقَتْ بُنَيَّها تَسْماما
ويقال: عَقَر الرجل وعَقُر وعَقِر إذا لم تَحْبَلْ زوجته فَجَعلوا الفعلَ المسندَ إلى الرجل أوسعَ من المسندِ إلى المرأة، قال الزجاج: «عاقِر» : بمعنى ذات عُقْر، قال: «لأنَّ فَعُلْتُ أسماءُ الفاعلين منه على فَعيلة نحو: طريفة وكريمة، وإنما» عاقر «على ذات عُقْر» قلت: وهذا نصٌّ في أن الفعلَ المسند للمرأةِ لا يُقال فيه إلا عَقُرت بضم القاف إذا لو جازَ فتحُها أو كسرُها لجاز منها «فاعِل» من غير تأويلٍ على النسب. ومن ورودِ «عاقر» وصفاً للرجل قولُ عامر بن الطفيل:
١٢٧٠ - لَبِئْسَ الفتى إنْ كنُت أعوَر عاقِراً
جَباناً فما عُذْري لدى كلِّ مَحْضَرِ
قوله: ﴿كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ في الكافِ وجهان: أحدهما: أنها في محلِّ نصب وفيه التخريجان المشهوران، أحدُهما وعليه أكثرُ المعربين أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه: يفعلُ الله ما يشاء من الأفعالِ العجيبة مثلَ ذلك الفعلِ، وهو خَلْقُ الولدِ بين شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقِرٍ.
162
والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدر أي: يفعلُ الفعلَ حالَ كونه مِثلَ ذلك، وهو مذهبُ سيبويه وقد تقدَّم إيضاحُه.
والثاني: من وجهي الكاف أنَّها في محلِّ رفعٍ على أنها خبر مقدم، والجلالةُ مبتدأٌ مؤخرٌ، فقدَّره الزمخشري «على نحوِ هذه الصفة اللهُ»، ويفعل ما يشاء بيانٌ له، وقدَّره ابن عطية: كهذه القدرة المستغرَبة هي قدرة الله، وقدَّره الشيخ فقال: «وذلك على حَذْفِ مضافٍ أي: صُنْعُ اللهِ الغريبُ مثلُ ذلك الصنعِ، فيكون» يفعل ما يشاء «شرحاً للإِبهامِ الذي في اسم الإِشارة» فالكلامُ على الأول جملةٌ واحدةٌ وعلى الثاني جملتان.
وقال ابن عطية: «ويُحتمل أن تكونَ الإِشارةُ بذلك إلى حال زكريا وحالِ امرأته، كأنه قال: ربِّ على أيّ وجه يكونُ لنا غلامٌ ونحن بحالِ كذا؟ فقال له: كما أنتما يكون لكما الغلامُ، والكلامُ تامٌّ على هذا التأويلِ في قوله:» كذلك «وقولُه: ﴿الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ جملةٌ مبينة مقرِّرةٌ في النفس وقوعَ هذ الأمر المستغرب» انتهى. وعلى هذا الذي ذكرَه يكون «كذلك» متعلقاً بمحذوفَ، و «الله يفعل» جملةٌ منعقدةٌ من مبتدأ وخبرٍ.
قوله تعالى: ﴿اجعل لي آيَةً﴾ يجوزْ أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى التصيير فيتعدَّى لاثنينِ أوَّلهما «آية» والثاني: الجارُّ قبلَه. والتقديمُ هنا واجبٌ، لأنه لا مُسَوِّغ للابتداء بهذه النكرة وهي «آية» / لو انحلَّتْ إلى مبتدأ وخبر إلا تقدُّمُ هذا الجارِّ، وحكمُهما بعد دخول الناسخِ حكمُهما قبلَه، والتقديرُ: صَيِّرْ آيةً من الآياتِ لي. ويجوز أَنْ يكونَ بمعنى الخَلَقْ والاتِّخاذ
163
أي: اخلُقْ لي آيةً فتعدَّى لواحدٍ، وفي «لي» على هذا وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بالجَعْلِ، والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «آية» لأنه لو تأخر لجازَ أن يقعَ صفةً لها، ويجوزُ أن يكونَ للبيانِ. وحَرَّك الياءَ بالفتح نافع وأبو عمرو، وأسكنها الباقون.
قوله: ﴿أَلاَّ تُكَلِّمَ﴾ أَنْ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً لقوله: «آيتُك» أي: آيتُك عدمُ كلامِك للناس. والجمهورُ على نصبِ «تُكَلِّم» بأَنْ المصدريةِ. وقرأ ابن أبي عبلة برفعِه، وفيه وجهان، أحدهما: أن تكونَ «أَنْ» مخففةً من الثقيلةِ، واسمُها حينئذٍ ضميرُ شأنٍ محذوفٍ، والجملةُ المنفيَّةُ بعدَها في محلِّ رفع خبراً ل «أَنْ»، ومثلُه: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ﴾ [طه: ٨٩] ﴿وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [المائدة: ٧١]، ووقعَ الفاصلُ بين أَنْ والفعلِ الواقعِ خبَرَها بحرف نفي، ولكنْ يُضْعِفُ كونَها مخففةً عدمُ وقوعِها بعد فعلِ يقين. الثاني: أَنْ تكونَ الناصبَةُ حُمِلَتْ على «ما» أختِها، ومثلُه: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾ [البقرة: ٢٣٣]، وأَنْ وما في حَيِّزها أيضاً في محلِّ رفعٍ خبراً ل «آيتُك».
قوله تعالى: ﴿ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ﴾ الصحيحُ أنَّ هذا النحوَ وهو ما كان من الأزمنة يستغرقُ جميعُه الحدثَ الواقعَ فيه منصوبٌ على الظرفِ خلافاً للكوفيين فإنَّهم يَنْصِبونه نصبَ المفعولِ به، وقيل: «وثَمَّ معطوفٌ محذوفٌ تقديرُه: ثلاثةَ أيام وليالِيها، فحُذِفَ كقولِه تعالى: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] ونظائِره،
164
يَدُلُّ على ذلك قولُه في سورة مريم: ﴿ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ [مريم: ١٠]، وقد يُقَال: إنَّه يُؤْخَذُ المجموعُ من المجموعِ فلا حاجةَ إلى ادَّعاءِ حَذفٍ، فإنَّا على هذا التقديرِ الذي ذكرتموه نَحْتاجَ إلى تقديرِ معطوفٍ في. الآية الأخرى تقديرُه: ثلاثَ ليالٍ وأيامَها.
قوله: ﴿إِلاَّ رَمْزاً﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه استثناءٌ منقطع لأنَّ الرمزَ ليس من جنسِ الكلام، إذ الرمز: الإِشارةُ بعينٍ أو حاجبٍ، أو نحوهما، ولم يَذْكُر أبو البقاء غيرَه، واختارَه ابنُ عطية بادِئاً به فإنه قال:» والكلامُ المرادُ في الآية إنما هو النطقُ باللسان لا الإِعلامُ بما في النفسِ، فحقيقةُ هذا الاستثناءِ أنه استثناءٌ منقطعٌ «ثم قال:» وذهب الفقهاءُ إلى أنَّ الإِشارةَ ونحوَها في حكمِ الكلامِ في الأَيْمان ونحوِها، فعلى هذا يَجِيءُ الاستثناءُ متصلاً «.
والوجه الثاني: أنه متصلٌ؛ لأنَّ الكلامَ لغةً يُطلقُ بإزاء معانٍ، الرمزُ والإِشارةُ من جملتها، وأنشدوا على ذلك:
١٢٧١ - إذا كَلَّمَتْني بالعيونِ الفواترِ
رَدَدْتُ عليها بالدموعِ البوادِرِ
وقال آخر:
١٢٧٢ - أرادَتْ كلاماً فاتَّقَتْ من رقيبها
فلم يَكُ إلا وَمْؤُها بالحواجبِ
وقد استعمل الناسُ ذلك فقال حبيب:
165
١٢٧٣ - كَلَّمْتُه بجفونٍ غيرِ ناطقة
فكانَ مِنْ رَدِّهِ ما قالَ حاجِبُهْ
وبهذا الوجه بدأ الزمخشري مختاراً له قال: «لمَّا أُدِّي مُؤَدَّى الكلام وفُهِم منه ما يُفْهَمُ منه سُمِّي كلاماً، ويجوز أَنْ يكونَ استثناء منقطعاً».
والرَّمْزُ: الإِشارةُ والإِيماءُ بعينٍ أو حاجبٍ أو يَدٍ، ومنه قيلَ للفاجِرَةِ: الرامِزَة والرَّمَّازة، وفي الحديث: «نَهَى عن كَسْبٍ الرَّمَّازة» يقال فيه: رَمَزَت تَرْمُزُ وتَرْمِزِ بضم العين وكسرها في المضارع، وأصل الرَّمْز: التحرك يقال: رَمَزَ وارتَمَزَ أي: تحرَّك، ومنه قيل للبحر: الراموز لتحرُّكه واضطرابه. وقال الراغب: «الرَّمْز: إشارةُ بالشفة، والصوتُ الخفي والغمزُ بالحاجبِ، وما ارمازَّ أي: لم يتكلَّم رمزاً، وكتيبةَ رمَّازة: أي لم يُسْمَعْ منها إلا رمْزٌ لكثرتِها» قلت: ويؤيِّدُ كونَه الصوتَ الخفي كما قال الراغب ما جاء في التفسيرِ أنه كان ممنوعاً من رفعِ الصوتِ.
والعامَّةُ قرؤوا: رَمْزاً بفتحِ الراءِ وسكونِ الميم. وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة بن قيس: «رُمُزاً» بضمِّهما وفيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدر على فُعْل بتسكينِ العينِ في الأصلِ، ثم ضُمَّتِ العينُ إتباعاً كقولهم: اليُسْر والعُسْر في: اليُسُر والعُسُر، وقد تقدَّم في هذا كلامٌ لأهلِ التصريف. والثاني: أنه جمعُ رَمُوز كرُسُل في جمع رسول، ولم يَذْكر الزمخشري غيره. وقال أبو البقاء: «وقُرِىء بضمِّها أي الراء وهو جمع رُمُزَة بضمتين، وأُقِرَّ ذلك في الجمعِ، ويجوز أَن يكونَ سَكَّن الميمَ في الأصل، وإنما أَتْبَعَ الضَّمَّ
166
الضَّمَّ، ويجوزُ أن يكونَ مصدراً غيرَ جمعٍ وضُمَّ إتباعاً كاليُسْر واليُسُر» قلت: قوله: «جمعُ رُمُزة» إلى قوله «في الأصل» كلام مُثْبَجٌ لا يُفْهَمُ منه معنًى صحيحٌ. وقرأ الأعمش: «رَمَزاً» بفتحِهِما. وخرَّجها الزمخشري على أنه جمعُ رامِزِ كخادِمِ وخَدَم.
وانتصابُهُ على هذا على الحالِ من الفاعِلِ وهو ضميرُ زكريا، والمفعولِ معاً وهو الناس كأنه: إلا مترامزين كقوله:
١٢٧٤ - متى ما تَلْقَني فَرْدَيْن تَرْجُفْ
رَوانِفُ إليَتَيْكَ وتُسْتَطارا
وكقوله:
١٢٧٥ - فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ
أيِّي وأيُّك فارسُ الأَحْزَابِ
قوله تعالى: ﴿كَثِيراً﴾ نعتٌ لمصدر محذوفٍ أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ وقد عُرِفَ. أو نَعْتٌ لزمانٍ محذوفٍ تقديرُهُ: ذِكْراً كثيراً أو زماناً كثيراً.
والباءُ في قوله: ﴿بالعشي﴾ بمعنى «في» أي: في العشي والإِبكار. والعَشِيُّ يُقال من وقت زوال الشمس إلى مَغِيبِها، كذا قال الزمخشري. وقال الراغب: «العَشِيُّ: من زوال الشمس إلى الصباح» والأولُ هو المعروفُ. وقال الواحدي: «العَشِيُّ: جمع عَشِيَّة وهي آخر النهار».
167
والعامة قرؤوا: «والإِبكار» بكسر الهمزة، وهو مصدرُ بَكَّر يُبَكِّر إبكاراً أي: خرج بُكْرة، ومثله بَكَر بالتخفيف وابْتَكَر. قال عمر بن أبي ربيعة:
١٢٧٦ - أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غادٍ فَمُبْكِرُ
..........................
فهذا من أَبْكر. وقال أيضاً:
١٢٧٧ - أيها الرائحُ المُجِدُّ ابتكاراً
..........................
وقال الآخر:
١٢٧٨ - بَكَرْنَ بُكوراً واسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ
فهنَّ ووادي الرَّسِّ كاليدِ في الفم
وقُرىء شاذاً: «والأَبْكار» بفتح الهمزةِ، وهو جمعُ «بَكَر» بفتح الفاء والعين. ومتى أُريد به هذا الوقتُ من يومٍ بعينِهِ امتنع من الصرف والتصرُّف فلا يُستعمل غيرَ ظرف. تقول: «أتيتُك يومَ الجمعة بَكَر»، وسببُ منع صرفه التعريفُ والعدلُ من «أل»، فلو أُريد به وقتُ مبهمٌ انصرفَ نحو: «أتيتكَ بَكَراً من الأبكار»، ونظيره: سَحَرَ وأَسْحار في جميعِ ما تقدَّم، وهذه القراءةُ تناسِبُ قولَه «العشيّ» عند مَنْ يَجْعَلُهَا جمعَ «عَشِيََّة» ليتقابَلَ الجمعان.
ووقتُ الإِبكارِ من طلوعِ الفجرِ إلى وقتِ الضُّحى وقال الراغب: «
168
أصلُ الكلمةِ هي البُكْرَةُ أولَ النهارِ، فاشْتُقَّ من لفظِهِ لفظُ الفعل فقيل: بَكَر فلانٌ بُكوراً إذا خَرَجَ بُكْرة، والبَكُور: المبالغُ في البُكور، وبَكَّر في حاجته وابتَكَر وباكَرَ، وتُصُوِّر فيها معنى التعجيل لتقدُّمِها على سائِر أوقاتِ النهار، فقيل لكل متعجِّلٍ: بَكِر» قلت: ظاهرُ هذه العبارة وكذا عبارةُ غيره أنَّ البَكَرَ مختصٌّ بطلوعِ الشمسِ إلى الضحى، فإنْ أريد به من أول طلوعِ الفجر إلى الضحى، فإنه على خلاف الأصلِ. وقد صَرَّح الواحدي بذلك فقال: هذا معنى الإِبكار، ثم يُسَمَّى ما بين طلوعِ الفجرِ إلى الضحى إبكاراً كما يُسَمَّى إصْباحاً.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة﴾ : إنْ شِئْتَ جَعَلْتَ هذا الظرفَ نَسَقاً على الظرفِ قبلَه وهو قولُهُ: ﴿إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ﴾ وإنْ شِئْتَ جَعَلْته منصوباً بمقدَّر قاله أبو البقاء.
وقرأ عبدُ الله بن مسعود وابن عمر: «وإذ قال الملائكة» دونَ تاءِ تأنيث، وتوجيهُ ذلك تقدَّم في ﴿فَنَادَاهُ الملائكة﴾. ومعمولُ القولِ الجملةُ المؤكَّدَةُ بإنَّ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الله اصطفاك﴾، وكَرَّر الاصطفاءَ رفعاً مِنْ شأنِهِا.
قال الزمخشري: «اصطفاكِ أولاً حين تَقَبَّلَكِ مِنْ أُمِّك ورَبَّاك واخْتَصَّكِ بالكرامَةِ السَّنِيَّة، واصطفاكِ آخِراً على نساءِ العالمين بأَنْ وَهَبَ لكِ عيسى من غَيْرِ أَبٍ ولم يكنْ ذلك لأحدٍ من النساء»
واصْطَفَى: افْتَعَلَ من الصَّفْوَة، أُبْدِلَتْ التاءُ طاءً لأجلِ حرفِ الإِطْبَاقِ
169
وقد تقدَّم تقريرُه في البقرة، وتقدَّم سببُ تعدِّية ب «على»، وإن كان أصلُ تعديتِهِ ب «مِنْ». وقال أبو البقاء: «وكَرَّر اصطفى: [إمَّا] توكيداً، وإمَّا ليبيِّن مَنِ اصطفاها عليهنَّ»، وقال الواحدي: «وكَرَّر الاصطفاءَ لأنَّ كِلا الاصطفائين يختلفُ معناهما، فالاصطفاء الأول عمومٌ يدخُل فيه صوالحُ النساءِ، والثاني اصطفاء بما اختصَّتْ به من خصائِصِها.
قوله: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ﴾ : يجوزُ فيه أوجه، أحدُها: أَنْ يكونَ «ذلك» خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ: الأمر ذلك. و «مِنْ أنباءِ الغيب» على هذا يجوزُ أن يكونَ مِنْ تتمةِ هذا الكلامِ حالاً من اسمِ الإِشارةِ، ويجوزُ أنْ يكونَ الوقفُ على «ذلك»، ويكونُ «مِنْ أنباء الغيبِ» متعلِّقاً بما بعَده وتكونُ الجملةُ من «نوحيه» إذ ذاك: إمَّا مبينةً وشارحةً للجملةِ قبلَها وإمَّا حالاً.
الثاني: أن يكونَ «ذلك» مبتدأً، و «من أنباء الغيب» خبرَه والجملةُ من «نوحيه» مستأنفةً، والضميرُ في «نوحيه» عائدٌ على الغيب، أي: الأمرُ والشأنُ أنَّا نوحي إليك الغيبَ ونُعْلِمُك به ونُظْهِرُكَ على قصصِ مَنْ تقدَّمك مع عدمِ مدارستكِ لأهلِ العلمِ والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في «نُوحيه»، وهذا أحسنُ مِنْ عَوْدِهِ على «ذلك» ؛ لأنَّ عَوْدَهُ على الغيبِ يَشْمَلُ ما تقدَّم من القصص وما لَم يتقدَّمْ منها، ولو أَعَدْتَه على «ذلك» اختصَّ بما مضى وتقدَّم.
الثالث: أن يكونَ «نوحيه» هو الخبرَ، و «من أنباء الغيب» على وجهيه المتقدِّمين مِنْ كَوْنِهِ حالاً من «ذلك» أو متعلِّقاً بنوحيه، ويجوز في وجهُ ثالثٌ على هذا/ وهو أَنْ يُجْعَلَ حالاً من مفعول «نوحيه» أي: نوحيه حالَ كونِهِ بعضَ أنباءِ الغيبِ.
170
قوله: ﴿إِذْ يُلْقُون﴾ فيه وجهان أحدُهما: وهو الظاهر أنه منصوب بالاستقرار العاملِ في الظرفِ الواقِعِ خبراً. والثاني وإليه ذهب الفارسي أنه منصوبٌ بكنت، وهو عجيبٌ منه لأنه يزعمُ أنَّها مسلوبةُ الدلالة على الحَدَثِ فكيف تعملُ في الظرفِ والظرفُ وِعاءٌ للأحداثِ؟ والذي يظهر أن الفارسي إنما جَوَّز ذلك بناءً منه على ما يَجُوزُ أَنْ يكونَ مراداً في الآية، وهو أَنْ تكونَ «كان» تامةً بمعنى: وما وُجِد في ذلك الوقتِ.
والضميرُ في «لديهم» عائدٌ على المتنازِعَيْنِ في مريم وإنْ لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ، لأنَّ السياقَ قَد دَلَّ عليهم، وهذا الكلامُ ونحوُه كقولِهِ تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور﴾ [القصص: ٤٦] ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ﴾ [يوسف: ١٠٢] وإن كانَ معلوماً انتفاؤه بالضرورةِ جارٍ مَجْرى التهكم بمنكري الوَحْي، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تعاصِرْ أولئك ولم تُدَارِس أحداً في العلمِ فلم يَبْقَ اطلاعُك عليه إلا مِنْ جِهَةِ الوحي.
والأقلام جمع «قَلَم» وهو فَعَل بمعنى مفعول أي: مَقْلوم، والقَلْم القَطْع، ومثلُه القبض والنقص بمعنى المقبوض والمنقوص، وقيل له: قَلَم؛ لأنه يُقْلَمُ، ومنه «قَلَّمْتُ ظُفْرِي» أي: قَطَعْتُهُ وَسَوَّيْتُهُ، قال زهير:
١٢٧٩ - لدى أَسَدٍ شاكي السلاحِ مُقَذَّفٍ
له لِبَدٌ أضفارُهُ لمْ تُقَلَّمِ
وقيل: سُمِّي القلمُ قَلَماً تشبيهاً له بالقُلامَةِ وهي نبتُ ضعيف؛ وذلك أنه يُرَقَّق فيضْعُفُ. وفي المرادِ بالأقلام هنا خلافٌ: هل هي التي يُكْتَبُ بها أو قِداحٌ يُسْتَهَمُ بها كالأزلام؟
171
قوله: ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ هذه الجملةُ منصوبةُ المَحَلِّ؛ لأنها متعلقة بفعلٍ محذوفٍ، ذلك الفعل في محلِّ نصبٍ على الحالِ تقديرُهُ: يُلْقونَ أقلامَهم يَنظُرون: أيُّهم يَكْفُل مريم أو يَعْلَمُون، وجَوَّز الزمخشري أن يُقَدَّر «يقولون»، فيكونَ محكياً به، ودَلَّ على ذلك قولُه: ﴿يُلْقُون﴾. وقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ كقوله: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون﴾.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الملائكة﴾ : في هذا الظرفِ أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ منصوباً بيختصمون. الثاني: أنه بدلٌ من «إذ يختصمون» وهو قولُ الزجاج. وفي هذين الوجهين بُعْدٌ، من حيثُ إنه يلزمُ اتحادُ زمانِ الاختصامِ وزمانِ قولِ الكلام، ولم يَكُنْ ذلك لأنَّ وقتَ الاختصامِ كان صغيراً جداً ووقتَ قولِ الملائكةِ بعد ذلك بأحيانٍ. وقد اسْتَشْعَرَ الزمخشري هذا السؤالَ فأجابَ بأنَّ الاختصامَ والبِشَارةَ وقعا في زمان واسعٍ كما تقول: «لَقِيتُهُ سنةَ كذا» يعني أنَّ اللقاء إنما يقع في بعض السنةِ فكذا هذا. الثالث: أن يكونَ بدلاً من «إذ قالت الملائكة» أولاً، وبه بدأَ الزمخشري كالمختارِ له، وفيه بُعْدٌ لكثرةِ الفاصلِ بين البدلِ والمُبْدَلِ منه. الرابع: نصبُه بإضمارِ فعلٍ.
والوَحْيُ: الإِشارةُ السريعةُ، ولتضمُّنِ السرعةِ قيل: «أمرٌ وَحْيٌ»
172
وقيل: إلقاءُ معنى الكلام إلى مَنْ يريدُ إعلامَهُ، والوحيُ يكونُ بالرمز والإِشارة قال:
١٢٨٠ - لأوْحَتْ إلينا والأنامِلُ رُسْلُها
...........................
وقولُه تعالى: ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ﴾ أي: أشارَ إليهم، ويكون بالكتابَةِ، قال زهير:
١٢٨١ - أتى العُجْمَ والآفاقَ منه قصائدٌ
بَقَيْنَ بقاءَ الوَحْي في الحَجَر الأَصَمِّ
ويُطْلَقُ الوَحْيُ على الشيءِ المكتوبِ، قال:
١٢٨٢ - فَمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّي رَسْمُها
خَلَقاً كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
قيل: الوُحِيُّ جمعُ: وَحْي كَفَلْس وفُلُوس، وكُسِرَت الحاءُ إتباعاً. والوَحْيُ: الإِلهامُ: ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل﴾ [النحل: ٦٨]، والوَحي للرسل يكون بأنواع مذكورةٍ في التفسير.
قوله: ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ في محلِّ جرٍ صفةً لكلمة، والمرادُ بالكلمة هنا عيسى، وسُمِّيَ كلمةً لوجودهِ بها وهو قوله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ فهو من باب إطلاق السبب على المُسَبَّب. و «اسمه» مبتدأ، و «المسيح» خبرُهُ. و «عيسى» بدلٌ منه أو عطفُ بيان. قال أبو البقاء: «ولا يكونُ خبراً ثانياً لأنَّ تَعَدُّدُ الأخبارِ يُوجِبُ
173
تعَدُّدَ المبتدأ، والمبتدأُ هنا مفردٌ، وهو قولُه:» اسمهُ «ولو كان عيسى خبراً آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها على تأنيث الكلمة» قلت: هذا على رأي، وأما من يجيز ذلك فقد أعرب عيسى خبراً ثانياً، وأعرَبه بعضُهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هو عيسى، فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في «عيسى»، ويجوز على الوجهِ الثالث وجهٌ رابعٌ وهو النصبُ بإضمار «أَعْني» لأنَّ كلَّ ما جازَ قَطْعُهُ رَفْعاً جازَ قطعُهُ نصباً.
والألفُ واللامُ في «المسيح» للغلبَةِ كهي في الصَّعِق والعَيُّوق وفيه وجهان، أحدُهما: أنه فَعِيل بمعنى فاعِل مُحَوّل منه مبالغة، فقيل: لأنه مَسَحَ الأرض بالسِّياحة، وقيل: لأنه يَمْسَح ذا العاهة فيبرأُ، وقيل: بمعنى مَفْعول لأنه مُسِحَ بالبركةِ أو لأنه مَسِيحُ القدمِ، قال:
١٢٨٣ - باتَ يُقاسيها غلامٌ كالزَلَمْ
خَدَلَّجُ الساقَيْنِ ممسوحُ القَدَمْ
أو لِمَسْحِ وجهِهِ بالمَلاحة، قال:
١٢٨٤ - على وَجْهِ مَيٍّ مَسْحَةٌ من مَلاحة
............................
والثاني: أنَّ وَزْنَهُ مَفْعِل من السياحةِ وعلى هذا كله فهو منقولٌ من الصفة. وقال أبو عبيد: أصلُه بالعبرانية: «مسيخاً» فَغُيِّر، قال الشيخ: «
174
فعلى هذا يكونُ/ اسماً مرتجلاً ليس مشتقاً من المَسْح ولا من السِّياحة» قلت: قولُه «ليس مشتقاً» صحيحٌ، ولكنْ لا يَلْزَمُ من ذلك أن يكونَ مرتجلاً ولا بُدَّ، لاحتمالِ أن يكونَ في لغتِهِم منقولاً من شيء عندهم.
وأتى بالضمير في قوله: «اسمُه» مذكَّراً وإنْ كان عائداً على الكلمة مراعاةً للمعنى، إذ المرادُ بها مذكر.
و «ابنُ مريم» يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً لعيسى، قال ابن عطية: «وعيسى خبرُ مبتدأٍ محذوف، ويَدْعُو إلى هذا كونُ قولِهِ» ابنُ مريم «صفةً لعيسى، إذ قد أَجْمَعَ الناسُ على كَتْبِه دونَ ألفٍ، وأمَّا على البدل أو عطفِ البيان فلا يجوزُ أن يكونَ» ابنُ مريم «صفةً لعيسى، لأنَّ الاسمَ هنا لم يُرَدْ به الشخصُ. هذه النزعةُ لأبي عليّ، وفي صدرِ الكلام نظَرٌ» انتهى. قلتُ: فقد حَتَّمَ كونَه صفةً لأجلِ كَتْبِهِ بدونِ ألف، ثم قال: «وأمَّا على البدلِ أو عطفِ البيان فلا يكونُ ابنُ مريم صفةً لعيسى» يعني بدلَ عيسى من المسيح، فَجَعَلَهُ غيرَ صفةٍ له مع وجودِ الدليلِ الذي ذكره وهو كَتْبُه بغير ألف.
وقد مَنَعَ أبو البقاء أن يكونَ «ابنُ مريم» بدلاً أو صفة لعيسى قال: «لأنَّ ابنَ مريم ليس باسمٍ، ألا ترى أنَّك لا تقولُ:» هذا الرجلُ ابنُ عمرو «إلا إذا كان قد عَلِقَ عليه علماً» قلت: وهذا التعليلُ الذي ذكره إنما ينهَضُ في عَدَمِ كَوْنِهِ بدلاً، وأمَّا كونُه صفةً فلا يمنعُ ذلك، بل إذا كان اسماً امتنع كونُه صفةً، إذ يصيرُ في حكمِ الأعلامِ، والأعلامُ لا تُوصَفُ به، ألا ترى أنك إذا سَمَّيْتَ رجلاً بابن عمرو امتنعَ أن يقَع «ابن عمرو» صفةً والحالةُ هذه.
وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ قيل: اسمُه المسيح عيسى ابن
175
مريم، وهذه ثلاثةُ أشياءَ: الاسمُ منها عيسى، وأمَّا المسيحُ والابنُ فَلَقَبٌ وصفةٌ؟ قلت: الاسمُ للمُسَمَّى علامةٌ يُعْرَفُ بها ويتميَّز مِنْ غيرِه، فكأنه قيل: الذي يُعْرف ويتميَّز مِمَّن سواه بمجموعِ هذه الثلاثةِ» انتهى فَظَهَرَ من كلامِهِ أَنَّ مجموعَ الألفاظ الثلاثةِ إخبار عن اسمِهِ، بمعنى أنَّ كلاً منها ليس مستقلاً بالخبرية بل هو من باب: هذا حلوٌ حامِض، وهذا أَعْسَرُ يَسَرٌ ونظيرُهُ قولُ الشاعر:
١٢٨٥ - كيف أصبحْتَ كيف أمسَيْتَ مِمَّا
يزرعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريمِ
أي: مجموعُ كيف أصبحْتَ، وكيف أمسيْتَ، فكما جاز تعدُّدُ المبتدأ لفظاً مِنْ غيرِ عاطف والمعنى على المجموعِ فكذلك في الخبرِ، وقد أَنْشَدْتُ عليه أبياتاً كقوله:
١٢٨٦ -.................. فهذا بَتِّي
مُقَيِّظٌ مُصَيِّفٌ مُشَتِّي
وقد زعم بعضُهم أنَّ «المسيح» ليس باسمِ لقبٍ له بل هو صفةٌ كالضارب والظريف، قال: «وعلى هذا ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، إذا المسيح صفة لعيسى والتقدير: اسمُه عيسى المسيحُ». وهذا لا يجوزُ، أعني تقديمَ الصفةِ على الموصوفِ، لكنه يعني هو صفةٌ له في الأصل، والعربُ إذا قَدَّمَتْ ماهو صفةٌ في الأصل جَعَلوه مبنيَّاً على العاملِ قبلَه وجعلوا الموصوفَ بدلاً مِنْ صفتِهِ في الأصلِ نحو قولِه:
176
١٢٨٧ - وبالطوِيلِ العمْر... عُمْراً حَيْدَرا
الأصل: وبالعمرِ الطويلِ، هذا في المعارف، وأمَّا في النكراتِ فينصِبون الصفةَ حالاً.
وقال الشيخ: «ولا يَصِحُّ أَنْ يكون» المسيح «في هذا التركيب صفةً لأن المُخْبَرَ به على هذا لُفِظَ، والمسيحُ من صفةِ المدلولِ لا من صفةِ الدالِّ، إذ لفظُ عيسى ليس المسيح، ومَنْ قال: إنهما اسمان قال: فَقُدِّمَ المسيحُ على عيسى لشهرتِهِ. قال ابن الأنباري:» وإِنَّما قُدِّمَ بُدِىء بلقبه لأن المسيحَ أشهرُ من عيسى لأنه قَلَّ أن يقعَ على سُمَىً يَشْتَبِهُ به، وعيسى قد يقع على عدد كثير فقدَّمه لشهرتِهِ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهرُ من أسمائِهِم «، فهذا يَدُلُّ على أنَّ المسيحَ عند ابن الأنباري [لقبٌ] لا اسمٌ. وقال أبو إسحاق:» وعيسى مُعَرَّبٌ من أَيْسوع وإنْ جَعَلْتَه عربياً لم تَصْرِفْهُ في معرفةٍ ولا نكرةٍ، لأنَّ فيه ألفَ التأنيث، ويكون مشتقاً مِنْ عاسَه يَعُوسه إذا سَاسَه، وقام عليه «، وقال الزمخشري:» ومُشْتَقُّهُما يعني المسيح وعيسى من المَسْح والعَيْس كالراقمِ على الماء «. وقد تقدَّم الكلامُ على عيسى ومريم واشتقاقِهما وما ذَكَرَ الناسُ في ذلك في سورة البقرة فَأَغْنى عن إعادته.
قوله: ﴿وَجِيهاً﴾ حالٌ وكذلك قولُه: ﴿وَمِنَ المقربين﴾.
قولُه: ﴿وَيُكَلِّمُ﴾ وقوله: ﴿مِنَ الصالحين﴾ فهذه أربعةُ أحوالٍ انتصبَتْ عن قوله «بكلمة»، وإنما ذَكَّره الحالَ حَمْلاً على المعنى، إذ المرادُ بها الولَدُ والمُكَوَّن، كما ذكَّر الضميرَ في «اسمهُ»، فالحالُ الأولى جِيء بها على الأصلِ اسماً
177
صريحاً، والباقيةُ في تأويِلِهِ: فالثانيةُ جار ومجرور، وأُتِيَ بها هكذا لِوُقوعِها فاصلةً في الكلامِ، ولو جِيءَ بها اسماً صريحاً لفاتَ مناسبةٌ الفواصلِ، والثالثة/ جملةٌ فعليةٌ، وعطفُ الفعلِ على الاسمِ لتأويله به وهو كقولِهِ تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ [الملك: ١٩] أي: وقابضاتٍ، ومثلُه في عَطْفِ الاسمِ على الفعلِ لأنه في تأويلِهِ قولُ النابغة:
١٢٨٨ - فأَلْفَيْتُه يوماً يُبيرُ عدوَّه
وبَحْرَ عطاءٍ يَسْتَخِفُّ المعابِرا
ويقرب منه:
١٢٨٩ - باتَ يُغَشِّيها بعَضْبٍ باتِرٍ
يَقْصِدُ في أَسْوُقِها وجائِرُ
إذ المعنى: مبيراً عدوَّه، وقاصدٍ، وجاءَ بالثالثةِ فعليةً لأنَّها في رتبتِها، إذ الحالُ وصفٌ في المعنى، وقد تقدَّم أنه إذا اجتمع صفاتٌ مختلفة في الصراحةِ والتأويلِ قُدِّم الاسمُ ثم الظرفُ أو عديلُه ثم الجملةُ، فكذا فَعَل هنا، قَدَّم الاسمَ وهو «وجيهاً» ثم الجارَّ والمجرورَ ثم الفعلَ، وأتى به مضارِعاً لدلالتِهِ على التجدُّد وقتاً فوقتاً، بخلافِ الوجاهةِ فإنَّ المرادَ ثبوتُها واستقرارُها والاسمُ مكتفِّلٌ بذلك، والجارُّ قريبٌ من المفردِ فلذلك ثَنَّى به إذ المقصودُ ثبوتُ تقريبه. والتضعيفُ في «المقرَّبين» للتعديةِ لا للمبالغةِ لِمَا تقدَّم من أنَّ التضعيفَ للمبالغةِ لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً، وهذا قد أَكْسَبَهُ مفعولاً كما ترى بخلافِ: «قَطَّعْتُ الأثوابَ» فإنَّ التعدِّيَ حاصلٌ قبلَ ذلك، وجيء بالرابعةِ بقوله ﴿مِنَ الصالحين﴾ مراعاةً للفاصلةِ كما تقدَّم في «المقرَّبين» والمعنى: أنَّ الله يُبَشِّركِ بهذه الكلمةِ موصوفةً بهذه الصفاتِ الجميلةِ.
178
وَمَنَع أبو البقاء أن تكونَ أحوالاً من المسيح أو من عيسى أو من ابن مريم، قال: «لأنها أخبارٌ والعاملُ فيها الابتداءُ أو المبتدأُ أو هما، وليس شيءٌ من ذلك يَعْمَلُ في الحال» وَمَنَع أيضاً كونَها حالاً من الهاء في «اسمُه» قال: «للفصلِ الواقِعِ بينهما، ولعدمِ العاملِ في الحال» قلت: ومذهبُهُ أيضاً أنَّ الحالَ لا تجيءُ من المضافِ إليه وهو مرادُهُ بقولِهِ: «ولعدمِ العاملِ» وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لتخصُّصِها بالصفةِ بعدَها. وظاهرُ كلامِ الواحدي فيما نقلَهُ عن الفراء، أنه يجوزُ أن تكونَ أحوالاً من عيسى فإنَّه قال: «والفراء يُسَمِّي هذا قطعاً كأنه قال: عيسى ابن مريم الوجيهَ، قَطَعَ منه التعريفَ» فظاهِرُ هذا يُؤْذِنُ بأنَّ «وجيهاً» من صفة عيسى في الأصل فَقُطِعَ عنه، والحالُ وصفٌ في المعنى.
قوله: ﴿فِي الدنيا﴾ متعلق بوجيهاً، لِما فيه من معنى الفعل. والوجيه: ذو الجاه وهو القوة والمَنَعَةُ والشرف، يقال: وَجُه الرجلُ يَوْجُه وَجَاهَةً، واشتقاقُهُ من الوجه لأنه أشرفُ الأعضاءِ، والجاه مقلوبٌ منه فوزنُه عَفَل.
وقوله تعالى: ﴿فِي المهد﴾ : يجوزُ فيه وجهان: أحدهما: وهو الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الضميرِ في «يُكَلِّم» ِأي: يكلِّمُهم صغيراً وكهلاً، فَكَهْلاً على هذا نَسَقٌ على هذه الحالِ المؤولةِ. والثاني: أنه ظرفٌ للتكليم كسائرِ الفَضَلات، فَكَهْلاً على هذا نسق على وجيهاً فعلى هذا يكون خمسةُ أَحوالٍ.
والكَهْلُ: مَنْ بَلَغَ سنَّ الكهولةِ وأولُها ثلاثون، وقيل: اثنان، وقيل: ثلاثٌ وثلاثون. وقيل: أربعون، وآخرُها ستون، ثم يدخُلُ في سن الشيخوخة واشتقاقه مِنْ اكْتَهَلَ النبات: إذا علا وَأَرْبَعَ، ومنه: الكاهلُ، وقال صاحب
179
المُجْمل: «اكتهل الرجلُ: وخَطه الشيب من قولهم: اكْتَهلت الروضةُ إذا عَمَّها النُّوْر، والمرأةُ: كَهْلَة». وقال الراغب: «والكَهْلُ مَنْ وَخَطَه الشيبُ، واكتهلَ النبات: إذا شارف اليَبُوسة مشارَفَةَ الكَهْلِ الشيبَ، وأنشد قولَ الأعشى في وصفِ روضة:
١٢٩٠ - يُضاحِكُ الشمسَ منها كوكبٌ شَرِقٌ
مُؤَزَّرٌ بعميمِ النبتِ مُكْتَهِلُ
وقد تقدَّم الكلامُ في تنقُّلِ أحوالِ الوَلَد من لَدُنْ كونِهِ في البطن إلى شيخوختِهِ عند ذِكْرِ» غُلام «فلا نُعِيدُه.
وقال بعضُهم:» ما دَامَ في بَطْنِ أمه فهو جنينٌ، فإذا وُلِدَ فَولِيد، فإذا لم يَسْتَتِمَّ الأسبوع فصديعٌ، وما دام يَرْضَعُ فَهُوَ رضيع، ثم هو فطيم عند الفِطام، وإذا لم يَرْضَع فَمَحوش، فإذا دَبَّ فدارج، فإذا سقطت رواضعُه فَثَغُور، فإذا نَبَتَتْ بعد إسقاطِهِ فَمَثْغور ومَتْغور، فإذا جاوَزَ العشرَ فمترعرعٌ وناشِىء، فإذا لم يبلُغ الحُلُمَ فيافعٌ ومراهق، فإذا احتلَمَ فَحَزُوُّرٌ، والغلامُ يُطْلَقُ عليه في جميعِ أحوالِهِ بعد الولادة، فإذا اخضرَّ شاربُهُ وسالَ عِذارُهُ فباقِلٌ، فإذا صارَ ذا لحيةٍ ففَتِيٌّ وشارِخٌ، فإذا مَا كَمَلَتْ لحيته فمتَجَمِّع، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شاب، ومن الأربعين إلى ستين كهل «ولأهلِ اللغةِ عباراتٌ مختلفة/ في ذلك، هذا أشهرُها.
180
فإنْ قيل: [المُسْتَغرَبُ إنما هو كلامُ الطفلِ في] المهدِ، وأمَّا كلامُ الكهولِ فغيرُ مُسْتَغرَبٍ، فالجوابُ أنهم قالوا: لم يتكلم صبيٌّ في المَهْدِ وعاش، أو لم يتكلَّمْ أصلاً بل يبقى أخرسَ أبداً، فبشَّر اللهُ مريم بأنَّ هذا يتكلم طفلاً ويعيشُ ويتكلم في حالِ كهولته، ففيه تطمينٌ لخاطِرها بما يخالِفُ العادةَ. وقال الزمخشَري:» بمعنى يُكلِّمُ الناسَ طفلاً وكهلاً، ومعناهُ يُكَلِّمُ الناسَ في هاتين الحالتين كلامَ الأنبياءِ من غير تفاوتٍ بين الحالتين: حالةِ الطفولة وحالةِ الكُهولة «.
والمَهْدُ: ما يُهَيَّأُ للصبي أَنْ يُرَبَّى فيه، مِنْ مَهَّدْتُ له المكانَ أي: وَطَّأْته وَلَيَّنْتُه له، وفيه احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ أصلُه المصدرَ، فَسُمِّيَ به المكانُ، وأن يكونَ بنفسِه اسمَ مكانٍ غيرَ مصدرٍ، وقد قُرِيءَ مَهْداً ومِهاداً في طه كما سيأتي.
وقوله تعالى: ﴿قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ : قد تقدَّم إعرابُ هذه الجملِ في قصةِ زكريا فلا معنى لإِعادتِهِ إلاَّ أنَّ هناك «يَفْعل ما يشاء» وهنا «يَخْلُق» قيل: لأنَّ قصتَّها أغربُ من قصتِهِ، وذلك أنه لم يُعْهَدْ ولدٌ مِنْ عذراءَ لم يَمَسَّها بشرٌ البَتَة، بخلافِ الولدِ بينَ الشيخِ والعجوزِ فإنه مستبعدٌ، وقد يُعْهَدُ مثلُه وإنْ كان قليلاً، فلذلك أتى بيخلُق المقتضي الإِيجادَ والاختراعَ من غيرِ إحالةٍ على سببٍ ظاهر، وإن كانتِ الأشياءُ كلُّها بخَلْقِهِ وإيجادِهِ وإنْ كان لها أسبابٌ ظاهرةٌ.
والجملةُ من قولِهِ: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي﴾ حاليةٌ. [والبَشَرُ في الأصلِ مصدرٌ
181
كالخَلْق، ولذلك يَسْتوي فيه] المذكرُ والمؤنثُ والمفَردُ والمثنى والمجموعُ، تقولُ: هذه بَشَرٌ، وهذان بَشَرٌ، وهؤلاء بشر، كقولك: هؤلاء خَلْق. قيل: [واشتقاقُهُ من البَشَرة وهو ظاهرُ الجِلْد، لأنه الذي من شأنِهِ أَنْ يَظْهَرَ الفرحُ] والغَمُّ في بَشَرَتِهِ. «ويكون» يَحْتَمِلُ التمامَ والنقصَانَ، وقد تقدَّم تحريرُه، وتقدَّم أيضاً اختلاف القراء في «فيكون» وما ذُكِرَ في توجيهِه.
قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُ﴾ : قرأ نافع وعاصم: «ويُعَلِّمُه» بياء الغَيْبَة، والباقون بنونِ المتكلمِ المعظِّمِ نفسَه، وعلى كلتا القراءتين ففي محلِّ هذه الجملة أوجهٌ، أَحَدُها: أنها معطوفةٌ على «يُبَشِّرُكِ» أي: إن الله يبشرك بكلمةُ ويُعَلِّمُ ذلك المولودَ المعبَّرَ عنه بالكلمةِ. الثاني: أنها معطوفةٌ على «يَخْلُق» أي: كذلك اللهُ يَخْلُق ما يشاء ويعلمه، وإلى هذين الوجهين ذهب جماعةٌ منهم الزمخشري وأبو عليّ الفارسي. وهذا الوجهان ظاهران على قراءة الياء. وأمَّا قراءةُ النون فلا يظهرُ هذان الوجهان عليها إلا بتأويلِ الالتفاتِ من ضمير الغَيْبة إلى ضميرِ المتكلم إيذاناً بالفخامةِ والتعظيم. فأمَّا عطفُهُ على «يُبَشِّرُكِ» فقد استبعَدَه الشيخ جداً قال: «لطولِ الفصلِ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه» وأمَّا عطفُه على «يَخْلُق» فقال الشيخ: «وهو معطوفٌ عليه سواءً كانت يعني يخلق خبراً عن اللهِ تعالى أم تفسيراً لما قبلها، إذا أَعْرَبْتَ لفظ» الله «مبتدأً، وما قبلَه الخبرُ» يعني أنه قد تقدَّم في
182
إعرابِ «كذلك اللهُ» في قصة زكريا أوجهٌ أحدُها: ما ذَكر، ف «يُعَلِّمُه معطوفٌ على» يَخْلُق «بالاعتبارينِ المذكورينِ، إذ لا مانعَ من ذلك. وعلى هذا الذي ذكرَه الشيخُ وغيرُه تكون الجملةُ الشرطيةُ معترضةً بين المعطوفِ والمعطوف عليه، والجملةُ من» يُعَلِّمُهُ «في الوجهينِ المتقدِّمين مرفوعةُ المحلِّ لرفعِ محلِّ ما عَطَفَتْ عليه.
الثالث: أَنْ يُعْطَفَ على» يُكَلِّمُ «فيكون منصوباً على الحالِ، والتقديرُ: يُبَشِّرُكِ بكلمةٍ مُكَلِّماً ومُعَلِّماً الكتابَ، وهذا الوجهُ جَوَّزه ابنُ عطية وغيره.
الرابع: أن يكونَ معطوفاً على» وجيهاً «لأنه في تأويلِ اسمٍ منصوب على الحالِ، كما تقدَّم تقريرُهُ في قوله:» ويكلِّم «. وهذا الوجهُ جَوزَّه الزمخشري واستبعدَ الشيخُ هذين الوجهين الأخيرين أعني الثالث والرابع قال:» لطولِ الفصلِ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، ومثلُه لا يُوجَدُ في لسانِ العرب «.
الخامس: أَنْ يَكُون معطوفاً على الجملةِ المحكية بالقولِ، وهي:» كذلك الله يخلق «قال الشيخ:» وعلى كلتا القراءتين هي معطوفةٌ على الجملةِ المَقُولَةِ، وذلك أنَّ الضميرَ في قوله: «قال كذلك» الله تعالى، والجملةُ بعدَه هي المقولةُ، وسواءً كانَ لفظُ «الله» مبتدأً خبرُهُ ما قبلَه أم مبتدأً وخبرُه «يَخلق» على ما مَرَّ إعرابُهُ في «قال: كذلك اللهُ يفعل ما يشاء» فيكونُ هذا من المقولِ لمريم على سبيلِ الاغتباطِ والتبشيرِ بهذا الولدِ الذي يُوجِدُهُ اللهُ منها.
183
السادس: أن يكونَ مستأنفاً لا محلَّ له من الإِعراب، قال الزمخشري بعد أَنْ ذَكَرَ فيه أنه يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على «نبشِّرك» أو «يَخْلُق» أو «وجيهاً» :«أو هو كلامٌ مبتدأٌ» يعني مستأنفاً.
قال الشيخ: «فإنْ عنى أنه استنئافُ إخبار من الله أو عن الله على اختلاف القراءتين، فمن حيث ثبوتُ الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله، فلا يكون ابتداءَ كلام، إلا أن يُدَّعَى زيادةُ الواو في» ويُعَلِّمه «فحينئذٍ يَصِحُّ أن يكونَ ابتداءَ كلام، وإنْ عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر فكان ينبغي أن يبيِّن ما عُطِفَ عليه، وأن يكونَ الذي عُطِفَ عليه ابتداءَ كلامٍ حتى يكونَ المعطوفُ كذلك» قلت: وهذا الاعتراضُ غيرُ لازمٍ لأنه لا يلزم مِنْ جَعْلِهِ كلاماً مستأنفاً أَنْ يُدَّعَى زيادةُ الواو، ولا أنه لا بد من معطوف عليه، لأنَّ النحْويين وأهلَ البيان نَصُّوا على أن الواو تكون للاستئناف، بدليلِ أنَّ الشعراءَ يأتُونَ بها في أوائلِ أشعارهم من غير تقدُّم شيء يكون ما بعدَها معطوفاً عليه، والأشعارُ مشحونةٌ/ بذلك، ويُسَمُّونَها واوَ الاستئنافِ، ومَنْ مَنَع ذلكَ قَدَّر أنَّ الشاعِرَ عَطَفَ كلامه على شيء مَنْوِيٍّ في نفسهِ، ولكنَّ الأولَ أشهرُ القولين.
وقال الطبري: «قراءةُ الياءِ عَطْفٌ على قولِهِ» يَخْلُقُ ما يشاء «، وقراءةُ النونِ عطفٌ على قولِهِ» نُوحِيهِ إِلَيكَ «. قال ابن عطية:» وهذا القولُ الذي قاله في الوجهين مُفْسِدٌ للمعنى «ولم يبيِّن أو محمد جهةَ إفسادِ المعنى: قال الشيخ:» أمَّا قراءةُ النونِ فظاهِرٌ فسادٌ عطفِهِ على «نُوحيه» من حيثُ اللفظُ ومن حيثُ المعنى: أمَّا من حيث اللفظُ فمثلُه لا يَقْعُ في لسانِ العرب لبُعْدِ
184
الفصلِ المُفْرِطِ وتعقيدِ التركيبِ وتنافرِ الكلامِ، وأمَّا من حيث المعنى فإنَّ المعطوفَ بالواوِ شريكُ المعطوف عليه فيصيرُ المعنى بقوله: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب﴾ أي: إخبارُك يا محمد بقصةِ امرأةِ عمران وودلاتِها لمريم وكفالتِها زكريا، وقصتُه في ولادةِ يَحْيى له وتبشيرُ الملائكةِ لمريمَ بالاصطفاءِ والتطهيرِ، كلُّ ذلك مِنْ أخبارِ الغيب نُعَلِّمه، أي: نُعَلِّم عيسى الكتابَ، فهذا كلامٌ لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله. وأمَّا قراءةُ الياءِ وعطفُ «ويعلِّمه» على «يَخْلُق» فليست مُفسِدَةً للمعنى، بل هو أَوْلَى وأَصَحُّ ما يُحْمل عليه عَطْفُ «ويُعَلِّمه» لقرب لفظِهِ وصحةِ معناه، وقد ذَكَرْنَا جوازَهُ قبلُ، ويكونُ الله أَخْبَرَ مريمَ بأنه تعالى يَخْلُقُ الأشياءَ الغريبةَ التي لم تَجْرِ العادةُ بمثلِها مثلَ ما خلق لك ولداً من غير أبٍ، وأنه تعالى يُعَلِّم هَذا الولدَ الذي يَخْلُقه ما لم يُعَلِّمه مَنْ قَبْلَه مِن الكتاب والحكمة والتوراة والإِنجيل، فيكونُ في هذا الإِخبار أعظمُ تبشيرٍ لها بهذا الولدِ وإظهارٌ لبركته، وأنه ليس مُشْبِهاً أولادَ الناس من بني إسرائيل، بل هو مخالِفٌ لهم في أصلِ النشأةِ، وفيما يُعَلِّمه تعالى من العلمِ، وهذا يَظْهَرُ لي أنه أحسنُ ما يُحْمَلُ عَطْفُ «ويُعَلِّمه».
انتهى.
وقال أبو البقاء: «ويُقْرَأُ بالنونِ حَمْلاً على قولِهِ: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ﴾، ويُقْرَأُ بالياءِ حَمْلاً على» يُبَشِّرك «وموضعُهُ حالٌ معطوفَةٌ على» وجيهاً «. قال الشيخ:» وقالَ بعضُهم: ونُعَلِّمُه بالنون حَمْلاً على «نُوحيه». إنْ عنى بالحَمْلِ العطفَ فلا شيءَ أبعدُ من هذا التقديرِ، وإنْ عنى بالحَمْل أنه من بابِ الالتفاتِ فهو صحيح «. قلت: يتعيَّن أَنْ يَعني بقولِهِ» حَمْلاً «الالتفاتَ ليس إلا، ولا يجوز أنْ يَعْني به العطفَ لقوله:» وموضعُهُ حالٌ معطوفةٌ
185
على وجيهاً «كيف يَسْتقيم أن يريدَ عطفَهُ على» نبشرك «أو» نوحيه «مع حُكْمِه. عليه بأنه معطوفٌ على» وجيهاً «؟ هذا ما لا يَسْتقيم أبداً.
قوله تعالى: ﴿وَرَسُولاً﴾ : في «رسول» وجهان، أحدُهما: أنه صفةٌ بمعنى مُرْسَل فهو صفةٌ على فُعُول كالصبور والشكور. والثاني: أنه في الأصلِ مصدرٌ، ومن مجيءِ «رسول» مصدراً قولُه:
١٢٩١ - لقد كَذَبَ الواشُون ما بُحْتُ عندَهم
بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهمْ برسولِ
أي: برسالة، وقال آخر:
١٢٩٢ - أُبَلِّغْ أبا سلمى رسولاً تَرُوعه
.........................
أي: أُبَلِّغُه رسالةً، ومنه قولُه تعالى: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٦] على أحدِ التأولين، أي: إنَّا ذوا رسالةِ رب العالمين، وعلى الوجهين يترتَّبُ الكلامُ في إعراب «رسول» :
فعلى الأولِ يكونُ في نصبهِ ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على «يُعَلِّمه» إذا أعربناه حالاً معطوفاً على «وجيهاً» إذ التقديرُ: وجيها ومُعَلِّماً ومُرْسَلاً، قاله الزمخشري وابن عطية. قال الشيخ: «وهو مَبْنِيٌّ على
186
إعراب» ويُعَلِّمه «، وقد بَيَّنَّا ضعفَ إعرابِ مَنْ يقولُ إنَّ» ويُعَلِّمه «معطوفٌ على» وجيهاً «للفصلِ المُفْرِطِ بين المتعاطِفَيْن».
الثاني: أن يكونَ نسقاً على «كَهْلاً» الذي هو حالٌ من الضميرِ المستتر في «ويُكَلِّم» أي: يُكَلِّم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيل، جَوَّز ذلك ابنُ عطية. واستبعده الشيخُ لطولِ الفصلِ بين المعطوف والمعطوف عليه. قلت: ويظهرُ أن ذلك لا يجوز من حيث المعنى، إذ يصيرُ التقديرُ: يُكَلِّمُ الناسَ في حالِ كونِه رسولاً إليهم، وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ، فإن قيل: هي حالٌ مقدَّرة كقولهم: «مررت برجل معه صقرٌ صائداً به غداً» وقوله: ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣]، قيل: الأصلُ في الحالِ أن تكونَ مقارنةً، ولا تكونُ مقدرةً إلا حيث لا لَبْسَ.
الثالث: أن يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ لائقٍ بالمعنى، تقديرُه: ونجعلُه رسولاً، لَمَّا رأَوه لا يَصِحُّ عَطْفُه على مفاعيلِ التعليم أضمروا له عاملاً يناسبه، وهذا كما قالوا في قوله تعالى: ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩] وقوله:
١٢٩٣ - يا ليتَ زوجَك قد غدا
متقلِّداً سيفاً ورمحا
وقول الآخر:
١٢٩٤ - عَلَفْتُها تِبْناً وماءً باردا
.......................
187
وقوله:
١٢٩٥ -....................
وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعُيونا
أي: واعتقدوا الإِيمانَ، ومعتقلاً رمحاً، وسَقَيْتُها ماءً بارداً، وكَحَّلْنَ العيونَ، وهذا على أحدِ التأويلين في هذه الأمثلةِ.
الرابع: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ من لفظِ «رسول»، ويكون ذلك الفعلُ معمولاً لقولٍ مضمر أيضاً هو من قولِ عيسى.
الخامس: أنَّ الرسولَ فيه معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم. ويُوَضِّح هذين الوجهين الأخيرين ما قاله الزمخشري، قاله رحمه الله: «فإن قلت: علامَ تَحْمِلُ» ورسولاً ومصدقاً «من المنصوبات المتقدمة، وقوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ و ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ يأبى حَمْلَه عليها؟ قلت: هو من المُضايِق، وفيه وجهان، أحدهما: أن تُضْمِرَ له» وأُرْسِلْتُ «على إرادة القول، تقديرُه: ويُعَلِّمه الكتابَ والحكمة ويقول: أُرْسِلْتُ رسولاً باني قد جئتكم ومُصَدِّقاً لِما بين يديَّ.
والثاني: أن الرسول والمُصَدِّق فيهما معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم ومصدقاً لما بين يديّ «انتهى. إنما احتاج إلى إضمار ذلك كلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ، وذلك أنَّ ما قبله / من المنصوبات لا يَصِحُّ عطفُه عليه في الظاهر؛ لأنَّ الضمائر المتقدمة غيبٌ،
188
والضميران المصاحبان لهذين المنصوبين للمتكلم، فاحتاج إلى ذلك التقدير لتتناسَبَ الضمائرُ. قال الشيخ:» وهذا الوجهُ ضعيفٌ؛ إذ فيه إضمارُ شيئين: القولِ ومعمولهِ الذي هو «أُرْسِلْتُ»، والاستغناءُ عنهما باسم منصوبٍ على الحال المؤكِّدة، إذ يُفْهَمُ من قوله «وأُرْسِلْتُ» أنه رسولٌ فهي حال مؤكِّدة «. واختار الشيخُ الوجَه الثالث قال:» إذ ليس فيه إلا إضمارُ فعلٍ يَدُلُّ عليه المعنى، ويكون قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ معمولاً لرسول أي: ناطقاً بأني قد جئتكم، على قراءة ِ الجمهور.
السادس: أن يكونَ حالاً من مفعولِ «ويُعَلِّمه» وذلك على زيادة الواو، كأنه قيل: ويُعَلِّمه الكتابَ حالَ كونِه رسولاً، قاله الأخفش، وهذا على أصلِ مذهبهِ من تجويزِه زيادةَ الواوِ، وهو مذهبُ مرجوحٌ.
وعلى الثاني في نصبِه وجهان، أنه مفعولٌ به عطفاً على المفعولِ الثاني ليُعَلِّمه أي: ويُعَلِّمه الكتابَ ورسالةً أي: يعلمه الرسالة أيضاً، والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، وفيه التأويلاتُ المشهورةُ في: رجلٌ عَدْلٌ.
وقرأ اليزيدي: «ورسولٍ» بالجر، وخَرَّجها الزمخشري على أنها منسوقةٌ على قوله: «بكلمة» أي: نبشِّرك بكلمة وبرسولٍ. وفيه بُعْدٌ لكثرةِ الفصلِ بين المتعاطِفَيْنِ، ولكن لا يَظْهَر لهذه القراءةِ الشاذة غيرُ هذا التخريجِ.
189
وقوله: ﴿إلى بني إِسْرَائِيلَ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يتعلَّقَ بنفس «رسولاً» إذ فعلُه يتعدَّى بإلى، والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لرسولاً، فيكونَ منصوبَ المحلِّ في قراءةِ الجمهور، مجروره في قراءة اليزيدي.
قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ قرأ العامة: «أني» بفتح الهمزة وفيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُهما: أنَّ موضعَها جر بعد إسقاطِ الخافض، إذ الأصل: بأني، ف «بأني» متعلِّقٌ برسولاً، وهذا مذهبُ الشيخين: الخليلِ والكسائي. والثاني: أن موضعَها نصبٌ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، الأول: أنه نصبٌ بعد إسقاط الخافض، وهو الباء، وهذا مذهب التلميذين: سيبويه والفراء. الثاني: أنه منصوبٌ بفعل مقدر أي: يذكر أني، فيذكرُ صفةٌ لرسولا، حُذِفَتِ الصفةُ وبقي معمولُها. الثالث: أنه منصوب على البدل من «رسولاً» أي: إذا جعلته مصدراً مفعولاً به، تقديرُه: ويُعَلِّمه الكتابَ ويعلِّمه أني قد جئتكم، جَوَّزه أبو البقاء وهو بعيد في المعنى.
الثالث: من الأوجِهِ الأُوَلِ: أنَّ موضعَه رفعٌ على خبرِ متبدأٍ محذوفٍ أي: هو أني قد جِئْتُكم.
وقرأ بعضُ القرَّاء بكسر هذه الهمزة وفيها تأويلان، أحدهما: أنها على إضمارِ القول أي: قائِلاً إني قد جئتكم، فَحَذَفَ القولَ الذي هو حالٌ في المعنى وأَبْقَى معمولَه.
والثاني: أن «رسولاً» بمعنى ناطِق، فهو مُضَمَّنٌ معنى
190
القول، وما كان مُضَمَّناً معنى [القول] أُعْطِي حكمَ القولِ، وهذا مذهبُ الكوفيين.
وقوله: ﴿بِآيَةٍ﴾ يُحتمل أن تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ على أنها حالٌ من فاعل «جئتكم» أي: جِئْتُكم ملتبساً بآية. والثاني: أنها متعلقةُ بنفسِ المجيءِ ِأي: إجاءَتَكم الآية. وقوله: ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ صفةٌ لآية فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: بآيةٍ من عند ربكم، ف «مِنْ» للابتداءِ مجازاً، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ «من ربكم» بنفسِ المجيء أيضاً. وقَدَّر أبو البقاء الحال في قولِه ﴿بِآيَةٍ﴾ بقوله: محتجَّاً بآية، إنْ عنى من جهةِ المعنى صَحَّ، وإن عَنَى من جهة الصناعةِ لم يَصِحَّ، إذ لم يُضْمَرْ في هذه الأماكنِ إلا الأكوان المطلقةُ.
وقرأ الجمهور: «بآيةٍ» بالإِفرادِ في الموضِعَيْن، وابن مسعود: «بآياتٍ» جمعاً في الموضعين.
قوله: ﴿أني أَخْلُقُ﴾ قرأ نافع بكسر الهمزة، والباقون بفتحها. فالكسرُ من ثلاثة أوجه، الأول: على إضمارِ القولِ أي: فقلت: إني أخلق. الثاني: أنه على الاستئناف. الثالث: على التفسير، فَسَّر بهذه الجملةِ قولَه: «بآية» كأنَّ قائِلاً قال: وما الآيةُ؟ فقال هذا الكلامَ، ونظيرُه ما سيأتي: «إنَّ مثل عيسى عند اللهِ كمثلِ آدمَ» ثم قال: ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩] فخلقه مفسرةٌ للمثل، ونظيرُه أيضاً قولُه تعالى: ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ ثم فَسَّر الوعدَ بقولِه: ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ [المائدة: ٩]، وهذا الوجهُ هو الوجه الصائرُ إلى الاستئنافِ، فإنَّ
191
المستأنَفَ يُؤْتى به تفسيراً لما قبله، إلا أنَّ الفرقَ بينه وبين ما قبله أنّ الوجهَ الذي قبلَه لا تَجْعَلُ له تعلُّقاً بما تقدَّم البتةَ، بل جيء به لمجردِ الإِخبارِ بما تضمَّنه، والوجه الثالث تقول: إنه متعلِّقٌ بما تقدَّمه، مُفَسِّر له.
وأمَّا قراءةُ الجماعةِ ففيها أربعةُ أوجهٍ أحدُها: أنها بدلٌ من «أني قد جئتكم» فيجيءُ فيها ما تقدَّم في تلك لأنَّ حكمَها حكمُها. الثاني: أنها بدلٌ من «آية» فتكونُ محلَّها، أي: وجئتكم بأني أخلقُ لكم، وهذا نفسُه آيةٌ من الآيات، وهذا البدلُ يَحْتمل أن يكونَ كلاً مِنْ كل إنْ أُريد بالآية شيءٌ خاص، وأَنْ يكونَ بدلَ بعضٍ من كل إنْ أُريد بالآيةِ الجنس. الثالث: أنها خبرٌ مبتدأٍ مضمرٍ تقديرُه: هي أني أخلق أي: الآيةُ التي جئت بها أني أخلُقُ، وهذه الجملةُ في الحقيقةِ جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر كأن قائلاً قال: وما الآيةُ؟ فقال: ذلك. الرابعُ: أن تكونَ منصوبةً بإضمارِ فعلٍ، وهو أيضاً جوابٌ لذلك السؤالِ كأنه قال: أعني أنِّي أخلق، وهذان الوجهان يلاقيان في المعنى قراءةَ نافع على بعضِ الوجوهِ فإنهما استئناف.
و «لكم» متعلِّقٌ بأخلُقُ، واللامُ للعلة، أي: لأجلكم بمعنى: لتحصيل إيمانِكم ودَفْعِ تكذيبِكم إياي، وإلاَّ فالذواتُ لا تكونُ عِلَلاً بل أحداثُها.
و «من الطين» متعلقٌ به أيضاً، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية، وقولُ مَنْ قال: إنها للبيان «تساهلٌ، إذ لم يَسْبِقْ منهم تبيُّنه.
قوله: ﴿كَهَيْئَةِ الطير﴾ في موضع هذه الكافِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها نعتٌ لمفعول محذوف تقديره: أني أخلُق لكم هيئةً مثلَ هيئةِ الطير، والهيئةُ: إمَّا مصدرٌ في الأصل/ ثم أُطْلِقَتْ على المفعولِ أي المُهَيّأ كالخَلْق بمعنى المخلوق، وإمَّا اسمٌ لحال الشيء، وليست مصدراً، والمصدرُ: التهَيُّؤُ والتَّهْيِيءُ والتَّهْيِئَةُ، ويُقال: [هاءَ الشيءُ يَهِيْءُ هَيْئَاً وهَيْئَِةً إذا تَرَتَّب واستقرّ على
192
حالة مخصوصة]، ويتعدَّى بالتضعيف، قال تعالى: ﴿وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً﴾ [الكهف: ١٦]. والطينُ: معروف، طانَه الله على كذا وطامه بإبدال النون ميماً أي: جَبَله عليه، والنفخُ معروفٌ.
الثاني: أنَّ الكافَ هي المفعولُ به لأنَّها اسمٌ كسائرِ الأسماءِ وهذا رأيُ الأخفشِ، يجعلُ الكافَ اسماً حيث وَقَعَتْ، وغيرُه من النحاة لا يقولُ بذلك إلا إذا اضْطُرَّ إليه كوقوعِها مجرورةً بحرفٍ أو بإضافةٍ أو تقع فاعلةً أو مبتدأ، وقد تقدَّمَ جميعُ أمثلةِ ذلك مسبوقاً فأغنى عن إعادتِه هنا.
والثالث: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، قاله الواحدي نَقْلاً عن أبي علي بعد كلامٍ طويلٍ، قال» وتكونُ الكافُ في موضعِ نصبٍ على أنه صفةٌ للمصدرِ المُرَادِ، تقديرُه: أني أخلُق لكم من الطين خلقاً مثلَ هيئة الطير «. وفيما قالَه نظرٌ من حيث المعنى؛ لأنَّ التحدِّي إنَما يقعُ في أثرِ الخَلْق، وهو ما يَنْشأ عنه من المخلوقاتِ لا في نفس الخَلْق، اللهم إلا أن تقولَ: المرادُ بهذا المصدرِ المفعولُ به فَيَؤُول إلى ما تقدَّم.
وقال الزمخشري:» إني أُقَدِّر لكم شيئاً مثلَ هيئةِ الطير «فهذا تصريحٌ منه بأنها صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ، وقولُه» أُقَدِّر «تفسيرٌ للخلق، لأن الخَلْق هنا التقدير، كقول الشاعر:
١٢٩٦ - وَلأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وَبعْ
ضُ القوم يَخْلُق ثم لا يَفْري
193
إذ ليس المرادُ الاختراعُ فإنه مختص بالباري تعالى. وقرأ الزهري:» كَهَيَةِ «بنقلِ حركة الهمزة إلى الياء وهي فصيحةٌ. وقرأ أبو جعفر: كهيئة الطائرِ.
قوله: ﴿فَأَنفُخُ فِيهِ﴾ في هذا الضميرِ ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه عائدٌ على الكافِ، لأنها اسمٌ عند مَنْ يَرى ذلك أي: أَنفُخ في مثلِ هيئةِ الطيرِ. الثاني: أنه عائدٌ على» هيئةِ «لأنها في معنى الشيءِ المُهَيَّأ، فلذلك عادَ الضميرُ عليها مذكَّراً، وإنْ كانَتْ مؤنثةً، اعتباراً بمعناها دونَ لفظِها، ونظيرُه قولُه تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ القسمة﴾ [النساء: ٨] ثم قال: ﴿فارزقوهم مِّنْهُ﴾ فأعادَ الضمير في:» منه «على القسمةِ لمَّا كانَتْ بمعنى المقسومِ. الثالث: أنه عائدٌ على ذلك المفعولِ المحذوفِ أي: فَأَنْفُخُ في ذلك الشيءِ المماثلِ لهيئة الطير.
الرابع: أنه عائدٌ على ما وَقَعَتِ الدلالةُ عليه في اللفظ وهو «أني أخلقُ» ويكونُ الخَلْقُ بمنزلةِ المخلوق. الخامس: أنه عائدٌ على ما دَلَّت عليه الكافُ مِنْ معنى المِثْل، لأنَّ المعنى: أخلُق من الطين مثلَ هيئةِ الطير، وتكونُ الكافُ في موضعِ نصبٍ على أنه صفةٌ للمصدرِ المرادِ تقديرُه: أني أخلُق لكم خلقاً مثلَ هيئةِ الطيرِ، قاله الفارسي وقد تقَدَّم الكلامُ معه في ذلك. السادس: أنه عائدٌ على الطينِ قاله أبو البقاء. وهذا الوجهُ قد أفسده الواحدي فإنه قال: «ولا يجوزُ أَنْ تعودَ الكناية على الطينِ لأنَّ النفخَ إنما يكونُ في طينٍ مخصوص، وهو ما كانَ مُهَيَّأً منه، والطينُ المتقدِّم ذكرُه عام فلا تعودُ إليه الكناية، ألا ترى أنه لا ينفخ جميعَ الطين، وفي هذا الردِّ نظرٌ، إذ لقائلٍ أن يقولَ: لا نُسَلِّم عمومَ الطينِ المتقدِّم، بل المرادُ بعضُه، ولذلك أدخلَ عليه» مِنْ «التي تقتضي التبعيضَ، وإذا صارَ المعنى:» أني أخلقُ بعض الطين «عاد الضميرُ عليه من
194
غير إشكال، ولكن الواحدي جَعَلَ» مِنْ «في» من الطين «لابتداءِ الغاية وهو الظاهرُ. قال الشيخ:» وقد قرأ بعضُ القراء: «فأنفخُها» أعادَ الضميرَ على الهيئة المحذوفة، إذ يكونُ التقدير: هيئةً كهيئةِ الطيرِ، أو على الكاف على المعنى، إذ هي بمعنى: مماثلةً هيئةَ الطيرِ، فيكونُ التأنيثُ هنا كما هو في آية المائدة في قوله: ﴿فَتَنفُخُ فِيهَا﴾ فتكونُ هذه القراءةُ قد حُذِفَ حرفُ الجرِّ منها كقولِه:
١٢٩٧ - ما شُقَّ جيبٌ ولا قامَتْكَ نائحةٌ
ولا بَكَتْكَ جيادٌ عند إسْلابِ
وقول النابغة:
١٢٩٨ -.......................
كالهِبْرِقيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الفَحْما
يريد: ولا قامَتْ عليك، وينفخُ في الفحم، وقال: «وهي قراءةُ شاذة نقلها الفراء»، وعجبت منه كيف لم يَعْزُها، وقد عَزاها صاحبُ «الكشاف» إلى عبد الله قال: وقرأ عبد الله: «فأنفخُها» وأنشد: «كالهِبْرِقيِّ تَنَحَّى»... قوله: «فيكون» في «يكون» وجهان أحدُهما: أنها تامة أي: فيوجدُ
195
ويكونُ «طيراً» على هذا حالاً، والثاني: أنها الناقصةُ و «طيراً» خبرُها، وهذا هو الذي ينبغي أن يكونَ، لأنَّ في وقوعِ اسمِ الجنس حالاً بُعْداً مُحْوجاً إلى تأويلٍ، وإنما يظهرُ ذلك على قراءةِ نافع: «طائراً» لأنه حينئذ اسمٌ مشتقٌّ، وإذا قيل بنقصانِها فيجوزُ أن تكونَ على بابها ويجوزُ أن تكونَ بمعنى صار الناقصة كقولِهِ:
١٢٩٩ - بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنَّها
قَطا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخاً بيوضُها
أي: صارَتْ، وقال أبو البقاء: «فيكون» أي: يصيرُ، فيجوزُ أَنْ تكونَ «كان» هنا التامة لأنَّ معناها «صار»، وصار بمعنى انتقل، ويجوز أن تكونَ الناقصة، و «طائراً» على الأول حالٌ وعلى الثاني خبرٌ «.
قلت: لا حاجةَ إلى جَعْلِه إياها في حالِ تمامِها بمعنى «صار» التامة التي معناها معنى انتقل، بل النحويون إنما يُقَدِّرون التامةَ بمعنى حَدَثَ ووَجَدَ وحَصَل وشبهِها، وإذا جَعَلُوها بمعنى «صار» فإنما يَعْنُون صارَ الناقصةَ.
وقرأ نافع ويعقوب: «فيكون طائراً» هنا وفي المائدة، والباقون: «طَيْراً» في الموضعين. فأمَّا قراءةُ نافع فوجَّهَها بعضُهم بأنَّ المعنى على التوحِيد، والتقديرُ: فكيونُ ما أنفخ فيه طائراً، ولا يُعْتَرض عليه بأنَّ الرسمَ الكريمَ إنما هو «طير» دون ألفٍ، لأنَّ الرسمَ يُجَوِّزُ حَذْفَ مثلِ هذه الألفِ تخفيفاً، ويَدُلُّ على ذلك أنه رُسِمَ قولُه تعالى: ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] :«
196
ولا طيرٍ» دونَ ألف، ولم يقرَأْه أحدٌ إلا «طائر» بالألف، فالرسمُ محتملٌ لا منافٍ.
وقال بعضُهم كالشارح لِما قَدَّمْتُه: «ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير لأنه لم يَخْلُق غيرَ الخفاش». وزعم آخرون أنَّ معنى قراءتِهِ: يكونُ كلُّ واحدٍ مما أنفخ فيه طائراً، قال: كقولِهِ تعالى: ﴿فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤] أي: اجلِدوا كلَّ واحدٍ منهم، وهو كثيرٌ في كلامهم.
وأما قراءةُ الباقين فمعناها يُحتمل أَنْ يُراد به اسمُ الجنس، أي: جنسِ الطير، فيُحتْمل أَنْ يُرادَ به الواحدُ فما فوقَه، ويُحتمل أن يُرادَ به الجمعُ، ولا سيما عند مَنْ يرى أنَّ «طيراً» صيغتُه جمعٌ نحو: / رَكْب وصَحْب وتَجْر جمعَ راكب وصاحب وتاجر وهو الأخفش، وأمَّا سيبويه فهي عنده أسماءُ جموعٍ لا جموعٌ صريحةٌ، وقد تقدَّم لنا الكلامُ على ذلك في البقرة. وحَسَّنَ قراءةَ الجماعةِ موافقتُه لِما قبله في قوله: «من الطيرِ» ولموافقةِ الرسم لفظاً ومعنى.
قوله: ﴿بِإِذْنِ الله﴾ يجوزُ أَنُ يتعلَّقَ ب «طائراً» وهذا على قراءةِ نافع، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به، لأِنَّ طيراً اسمُ جنسٍ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لطير، أي: طيراً ملتبساً بإذن اللهِ ِأي: بتمكينهِ وإقرارِهِ. وقال أبو البقاء: «متعلِّقٌ بيكون»، وهذا إنَّما يَظْهَرُ إذا جَعَلَ «كان» تامةً، وأما إذا جَعَلها ناقصةً ففي تعلُّقِ الظرفِ بها الخلافُ المشهور.
قوله: ﴿وَأُبْرِىءُ الأكمه﴾ وأُبْرىء عطفٌ على «أَخْلُق» فهو داخلٌ في حَيِّز «أني»، ويقال: أَبْرَأْتُ زيداً من العاهةِ ومِن الدَّيْنِ، وبَرَّاتُكَ من الدَّين
197
بالتضعيف، وبَرِئْتُ من المرض أَبْرَأُ، وَبَرَأْتُ أيضاً، وأما بَرِئْتُ من الدَّين ومِن الذنب فبرِئْتُ لا غير. وقال الأصمعي: «بَرِئْتُ من المرض لغةُ تميم وَبَرَأْتُ لغة الحجاز». وقال الراغب: «بَرَأْتُ من المرضِ وبَرِئْتُ، وبَرَأْتُ من فلان» فظاهر هذا أنه لا يقال الوجهان: أعني فتح الراء وكسرها إلا في البراءة من المرض ونحوه، وأمَّا الدَّيْنُ والذنب ونحوهما فالفتحُ ليس إلاَّ.
والبراءَةُ: التغَصِّي من الشيء المكروهِ مجاوَزَتُه وكذلك: التبرِّي والبُرْء.
والأكمهُ: مَنْ وُلِدَ أَعْمَى يقال: كَمِه يَكْمَهُ كَمَهَاً فهو أكمه قال رؤبة:
١٣٠٠ - فارتدَّ عنها كارتدادِ الأكمهِ... ويُقال كَمِهْتُها أنا أي: أعميتها. وقال الزمخشري والراغب وغيرهما: «الأكمهُ مَنْ وُلِدَ مطموسَ العَيْن». قال الزمخشري: «ولم يُوجَدْ في هذه الأمةِ أكمَهُ غيرُ قتادةَ صاحبِ التفسير». وقال الراغب: «وقد يُقال لمَنْ ذَهَبَتْ عينُه: أكمهُ، قال سويد:
١٣٠١ - كَمِهَتْ عيناه حتى ابْيَضَّتا
.......................
198
والبَرَصُ داءٌ معروفٌ وهو بياضٌ يَعْتَرِي الإِنسانَ، ولم تكن العرب تَنْفِرُ مِنْ شيءٍ نَفْرَتَها منه، يُقال: بَرِصَ يَبْرَصُ بَرَصاً، أي: أصابه ذلك، ويُقال لَه: الوَضَح، وفي الحديث:» وكان بها وضَح «والوضَّاح مِنْ ملوك العرب هابُوا أَنْ يقولوا له الأبرصَ، ويقال للقمر: أبرصُ لشدةِ بياضِهِ. وقال الراغب:» للنكتةِ التي عليه «وليس بظاهرٍ، فإنَّ النكتةَ التي عليه سوداءُ، والوَزَغُ: سامٌّ أبرصَ لبياضِهِ، والتبريص: الذي يلمع لَمَعان البرصِ ويُقارِبُ البصيصَ.
قوله: ﴿بِمَا تَأْكُلُونَ﴾ يجوزُ في» ما «أن تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً أو نكرةً موصوفةً، فعلى الأولى والثالثِ يَحْتاج إلى عائدٍ بخلافِ الثاني عند الجمهورِ، وكذلك» ما «في قولِهِ:» وما تَدَّخِرُون «محتملةٌ لِما ذُكِرَ.
وأَتَى بهذه الخوارِق الأربعِ بلفظِ المضارعِ دلالةً على تجدُّدِ ذلك كلَّ وقتٍ طُلِبَ منه، وقَيَّد قولَهُ:» أني أخلُق «إلى آخرِهِ» بإذن الله «لأنه خارقٌ عظيمٌ، فأتى به دَفْعاً لتوهُّمِ الإِلهيةِ، ولم يأتِ به فيما عُطِفَ عليه في قوله:» وأُبْرِىء «، ثم قَيَّدَ الخارِقَ الثالثَ أيضاً» بإذنِ الله «لأنه خارقٌ عظيمٌ أيضاً، وعَطَفَ عليه قولَهُ:» وأنبِّئكم «من غيرِ تقييدٍ له مَنْبَهَةً على عِظَمِ ما قبلَه ودَفْعاً لوَهْمِ مَنْ يَتَوهَّم فيه الإِلهية، أو يكون قد حَذَفَ القَيْدَ من المعطوفَيْنِ اكتفاءً به في الأولِ، وما قَدَّمْتُه أحسنُ.
وتَدَّخِرون: قراءةُ العامة بدالٍ مشددةٍ مهملةٍ، وأصلُه تَذْتَخِرُون تَفْتَعِلُون من الذُّخْر وهو التخبِئَةُ، يقال: ذَخَر الشيءَ يَذْخَرُه ذُخْراً فهو ذاخِر ومَذْخُور أي: خَبَّاه، قال الشاعر:
199
١٣٠٢ - لها أَشَارِيرُ مِنْ لحمٍ تُتَمِّرُه
من الثَّعالِي وذُخْرٌ من أَرانيها
الذُّخْر: فُعْل بمعنى المَذْخور نحو: الأَكْل بمعنى المأكول، وبعضُ النحْويين يُصَحِّفُ هذا البيت فيقول:» وَوَخْزٌ «بالواو والزاي، وقوله:» من الثَّعالي وأَرانيها «يريدُ: من الثعالب وأرانبها، فَأَّبْدَلَ الباءً الموحدةَ ياءً بثِنْتَيْنِ من تحت، وَلمَّا كان أصلُهُ» تّذْتَخِرون «اجتمعت الذالُ المعجمةُ مع التاءِ أي تاءِ الافتعال أُبدِلَتْ تاءُ الافتعال دالاً مهملةً فالتقى بذلك متقاربانِ: الذالُ والدالُ، فَأَدْغَم الذالَ المعجمةَ في المهملةِ فصارَ اللفظُ: تَدَّخِرون كما ترى.
وقد قرأ السوسي في رواية عن أبي عمرو: تَذْدَخِرون بقَلْبِ تاءِ الافتعالِ دالاً مهملةً من غيرِ إدغامٍ، وهو وإِنْ كانَ جائزاً إلاَّ أنَّ الإِدغامَ هو الفصيحُ.
وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السَّمَّال وأيوب السختياني «تَذْخَرون» بسكونِ الذالِ المعجمةِ وفتحِ الخاءِ، جاؤوا به مجرداً على فَعَل، يقال: ذَخَرْتُه أي: خَبَّأْتُه، ومن العرب من يَقْلِبُ تاء الافتعال في هذا النحو ذالاً معجمة فيقول: اذَّخَر، يَذَّخِر بذالٍ معجمة مشددةٍ، ومثلُه اذَّكر فهو مُذَّكِر، وسيأتي إنْ شاء الله.
وقال أبو البقاء: «والأصلُ في تَدَّخِرون: تَذْتَخِرون، إلاَّ أنَّ الذالَ مهجورةٌ والتاءَ مهموسةٌ فلم يجتمعا، فأُبدلت التاءُ دالاً لأنها من مَخْرَجها لتقربَ من الذالِ، ثم أُبدلت الذالُ دالاً وأُدْغِمَتْ». و «في بيوتِكم» متعلِّقٌ بتدَّخرون.
200
قوله: ﴿إِنَّ فِي ذلك﴾«ذلك» إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم من الخوارق، وأُشير إليها بلفظِ الأفراد وإنْ كانت جمعاً في المعنَى، بتأويل «ما ذُكِرَ ما تَقَدَّم». وقد تقدَّم أن في مصحف عبد الله وقراءته: «لآياتٍ» بالجمع مراعاةً لِما ذكرته من معنى/ الجمع. وهذه الجملةُ تحتمل أَنْ تكون من كلامِ عيسى وأَنْ تَكُونَ من كلام الله تعالى.
و ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ جوابُهُ محذوفٌ أي: إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآيةِ وتدبَّرتموها. وقَدَّر بعضُهم صفةً محذوفة لآية، أي لآيةً نافعةً، قال الشيخ: «حتى يتَّجِه التعلُّقُ بهذا الشرط» وفيه نظرٌ، إذ يَصِحُّ التعلُّقُ بالشرطِ دونَ تقديرِ هذه الصفةِ.
قوله تعالى: ﴿وَمُصَدِّقاً﴾ : نَسَقٌ على محلِّ «بآية» ؛ لأنَّ «بآية» في محلِّ نصبٍ على الحال إذ التقديرُ: وجئتكم ملتبساً بآية ومصدقاً. وقال الفراء والزجاج: «نصب مصدقاً على الحال، المعنى: وجئتُكم مصدقاً لما بين يديَّ، وجاز إضمار» جئتُكم «لدلالةِ أولِ الكلامِ عليه، وهو قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾، ومثلُه في الكلام:» جئته بما يحب ومكرماً له «. قال الفراء:» ولا يجوزُ أَنْ يكون «ومصدقاً» معطوفاً على «وجيهاً» لأنه لو كان ذلك لقال: «ومُصَدِّقاً لِما بين يديه» يعني أنه لو كان معطوفاً عليه لأتى معه بضميرِ الغيبةِ لا بضمير التكلم، وكذلك ذَكَرَ غيرُ الفراء، ومَنَع أيضاً أن يكونَ منسوقاً على «رسولاً» قال: «لأنه لو كان مردوداً عليه لقال:» وَمُصَدِّقاً لِما بين يديك «لأنه خَاطَبَ بذلك مريم، أو قال: بين يديه» يعني أنه لو كان معطوفاً على «رسولاً» لكان ينبغي أن يُؤْتى بضميرِ الخطاب مراعاةً لمريم أو بضميرِ
201
الغَيْبة مراعاةً للاسم الظاهر. قال الشيخ: «وقد ذَكَرْنا أنه يجوزُ في» ورسولاً «أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ أي: وأُرْسِلْتُ رسولاً» فعلى هذا التقديرِ يكون «مصدقاً» معطوفاً على «رسولاً».
قوله: ﴿مِنَ التوراة﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ من «ما» الموصولةِ أي: الذين بين يديَّ حالَ كونِهِ من التوراةِ، فالعامِلُ فيه «مصدقاً» لأنه عاملٌ في صاحبِ الحال، والثاني: أنه حالٌ من الضمير المستترِ في الظرفِ الواقِعِ صلةً، والعامِلُ فيه الاستقرارُ المضمرُ في الظرفِ أو نفسُ الظرفِ لقيامِهِ مقامَ الفعلِ.
قوله: ﴿وَلأُحِلَّ﴾ فيه أوجه أحدها: أنه معطوفٌ على معنى «مصدقاً» إذ المعنى: جئتُكم لأصدِّقَ ما بين يديّ ولأُحِلَّ لكم، ومثلُه من الكلام: «جئتُه معتذراً إليه ولأجتلِبَ رضاه، أي: جئتُ لأعتذرَ ولأجتلبَ، كذا قال الواحدي وفيه نظرٌ، لأن المعطوفَ عليه حال، وهذا تعليلٌ. قال الشيخ بعد أَنْ ذَكَرَ هذا الوجهَ:» وهذا هو العطفُ على التوهُّمِ وليس هذا منه، لأن معقوليةَ الحالِ مخالفةٌ لمعقوليةِ التعليلِ، والعطفُ على التوهم لا بد أَنْ يكونَ المعنى مُتَّحِداً في المعطوفِ والمعطوفِ عليه، ألا ترى إلى قوله: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن﴾ [المنافقون: ١٠] كيف اتَّحد المعنى من حيث الصلاحيةُ لجوابِ التخضيض، وكذلك قولُه:
١٣٠٣ - تَقِيٌّ نَقِيٌّ لم يُكَثِّرْ غنيمةً
بنَهْكَةٍ ذي قُرْبى ولا بِحَقَلِّدِ
202
كيف اتَّحد معنى النفي في قولِه: «لم يُكَثِّرْ» وفي قوله: «ولا بحقلَّد» أي: ليس بمكثرٍ ولا بحقلدٍ، وكذلك ما جاء منه «.
قلت: ويمكن أَنْ يُريدَ هذا القائلُ أنه معطوفٌ على معنى «مصدقاً» أي: بسببِ دلالتِهِ على علةٍ محذوفةٍ هي موافقةٌ له في اللفظِ فَنَسَبَ العطفَ على معناه باعتبارِ دلالته على العلةِ المحذوفةِ لأنها تشاركه في أصلِ معناه، أعني مدلولَ المادةِ وإنْ كانت دلالةُ الحالِ غيرَ دلالةِ العلةِ.
الثاني: أنه معطوفٌ على علةٍ مقدرةٍ أي: جئتُكم بآيةٍ لأوسِّعَ عليكم ولأُِحِلَّ، أو لأِخَفِّفَ عنكم ولأُِحِلَّ ونحوُ ذلك.
الثالث: أنه معمولٌ لفعلٍ مضمرٍ لدلالةِ ما تقدَّم عليه أي: وجئتُكم لأُِحِلَّ، فحُذِفَ العاملُ بعد الواوِ.
الرابع: أنه متعلِّقٌ بقولِهِ: ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ والمعنى: اتِّبعوني لأُِحِل لكم، وهذا بعيدٌ جداً أو ممتنعٌ.
الخامس: أن يكونَ «ولأِحِلَّ» ردَّاً على قولِهِ: «بآية»، قال الزمخشري: «ولأِحِلَّ» ردٌّ على قولِه: ﴿بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي «جئتكم بآيةٍ من ربكم ولأِحلَّ». قال الشيخ: «ولا يَسْتَقِيم أن يكونَ» ولإِحلَّ لكم «ردَّاً على» بآيةٍ «؛ لأنَّ» بآية «في موضِعِ حالٍ، و» لأِحِلَّ «تعليلٌ ولا يَصِحُّ عطفُ التعليلِ على الحالِ؛ لأنَّ العطفَ بالحرفِ المُشَرِّك في الحكم يُوجِبُ التشريكَ في جنسِ المعطوفِ عليه، فإنْ عَطَفْتَ على مصدرٍ أو مفعولٍ به أو ظرفٍ أو حالٍ أو تعَليلٍ أو غيرِ ذلك شارَكَهُ في ذلك المعطوفِ» قلت: ويُحتمل أن يكونَ جوابُه ما تقدَّم من أنه أرادَ رَدًّاً على «بآية» من حيث دلالتُها على عاملٍ مقدَّرٍ.
203
قوله: ﴿بَعْضَ الذي حُرِّمَ﴾ المرادُ ببعض مدلولُهُ الأصلي، وقال أبو عبيدة «إنها هنا بمعنى» كل «مستدلاً بقولِ لبيد:
١٣٠٤ - تَرَّاكُ أمكنةٍ إذا لم أَرْضَها
أو يَرْتَبِطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها
وقد رَدَّ الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الربا والسرقة والقتل لأنها كانت مُحَرَّمةً عليهم، فلو كان المعنى: ولأِحِلَّ لكم كلَّ الذي حُرِّم عليكم لأَحَلَّ لهم ذلك كله. واستَدَلَّ بعضُهم على أنَّ» بعضاً «بمعنى» كل «بقولِ الآخر:
١٣٠٥ - أبا منذرٍ أَفْنَيْتَ فاستَبِقْ بعضَنَا
حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ من بعضِ
أي: أهونُ من كل الشرِّ، واستدلَّ آخرون بقولِ الآخر:
١٣٠٦ - إنَّ الأمورَ إذا الأحداثُ دَبَّرها
دونَ الشيوخِ تَرى في بعضِها خَلَلا
أي: في كلِّها خَلَلاً، ولا حاجةً إلى إخراجِ اللفظِ عن مدلولِهِ مع إمكان صحة معناه، إذ مرادُ لبيد ببعضٍ النفوس نفسُه هو، والتبعيضُ في البيتين الآخرين واضحٌ فإنَّ الشرَّ بعضُه أهونُ من بعضٍ آخرَ لا مِنْ كله، وكذلك ليس كلُّ أمرٍ دَبَّره الأحداثُ كان فيه خَلَلٌ، بل قد يأتي تدبيرُهُ أحسنَ من تدبيرِ الشيخ.
204
وقرأ العامةُ:» حُرِّمَ «مبنياً للمفعول والفاعلُ هو الله تعالى. وقرأ عكرمة:» حَرَّم «مبنياً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو الموصولُ في قوله: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ لأنه كتابٌ مُنَزَّلٌ، أو موسى لأنه هو صاحبُ التوراةِ، فَأَضْمَر للدلالةِ عليه بِذِكْرِ كتابِهِ.
وقرأ إبراهيم النخعي: «حَرُمَ» بوزن شَرُف وظَرُف، نَسَبَ الفعل إليه/ مجازاً للعلمِ أنَّ المُحَرِّم هو الله تعالى.
قوله: ﴿وَجِئْتُكُمْ﴾ هذه الجملةُ يُحْتمل أن تكونَ تأكيداً للأولى لتقدُّم معناها ولفظِها قبلَ ذلك. قال أبو البقاء: «هذا تكريرٌ للتوكيد لأنه سَبَقَ هذا المعنى في الآيةِ التي قبلَها» ويُحْتَمل أَنْ تكونَ للتأسيس لاختلافِ متعلِّقِها ومتعلَّقِ ما قبلَها. قال الشيخ: «وجِئْتُكم بآيةٍ من ربكم للتأسيس لا للتوكيد لقوله:» قد جِئْتكم «، وتكون هذه الآيةُ قولَهُ: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه﴾ لأنَّ هذا القولَ شاهِدٌ على صحةِ رسالتِهِ؛ إذ جميعُ الرسلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجَعَلَ هذا القولَ آيةً وعلامةً لأنه رسولٌ كسائِرِ الرسلِ حيث هَداه للنظرِ في أدلةِ العقلِ والاستدلالِ، قاله الزمخشري.
وقرأ العامة: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ : بكسرِ الهمزةِ على الإِخبار المستأنفِ، وهذا ظاهِرٌ على قولِنا إنَّ «جئتكم» تأكيدٌ، أمَّا إذا جَعَلْتَه تأسيساً وَجَعَلْتَ الآيةَ هي قولَه: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ بالمعنى الذي ذَكَرْتُه أولاً فلا يَصِحُّ الاستئنافُ، بل يكونُ الكسرُ على إضمارِ القولِ وذلك القولُ بدلٌ من الآية، كأنَّ التقدير: وجئتُكم بآيةٍ من ربِّكم قَوْلي إنَّ الله، فقولي بدلٌ من «آية»، و «إنَّ» وما في حَيِّزها معمولةٌ لقولي، ويكون قوله: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ اعتراضاً بين البدلِ والمبدلِ منه.
205
وقُرىء بفتحِ الهمزة وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ من «آية» كأنَّ التقديرَ: وجِئْتُكم بأنَّ الله ربي وربكم، أي: جِئْتُكم بالتوحيدِ، وقوله: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ اعتراضٌ أيضاً. الثاني: أنَّ ذلك على إضمار لامِ العلة، ولامُ العلة متعلقةٌ بما بعدَها من قوله: «فاعبدوه» والتقديرُ: فاعبدوه لأنَّ الله ربي وربُّكم كقولِه تعالى: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ [قريش: ١] إلى أن قال «فَلْيعبدوا» إذ التقديرُ: فليعبدوا لإِيلافِ قريش، وهذا عند سيبويه وأَتْباعِهِ ممنوعٌ؛ لأنه متى كان المعمولُ أَنَّ وما في صلتِها امتنَع تقديمُها على عاملِها، لا يُجيزونَ: «أنَّ زيداً منطلقٌ عَرَفْتُ» تريد: «عَرَفْتُ أنَّ زيداً منطلقٌ» للقبحِ اللفظي، إذ تَصَدُّرُها لفظاً يقتضي كسرَها. الثالث: أن يكونَ «أن الله» على إسقاطِ الخافض وهو «على» و «على» يتعلِّق بآية نفسِها، والتقديرُ: وجِئْتُكم بآيةٍ على أن الله، كأنه قيل: بعلامةٍ ودلالةٍ على توحيدِ الله تعالى، قاله ابن عطية، وعلى هذا فالجملتان الأمريِتَّان اعتراضٌ إيضاً وفيه بُعْدٌ.
وقوله: ﴿هذا صِرَاطٌ﴾ هذا إشارةُ إلى التوحيدِ المَدْلُولِ عليه بقولِهِ: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ أو إلى نفسِ «إنَّ الله» باعتبار هذا اللفظِ هو الصراطَ المستقيمَ.
قال سيبويه: «وَمِمَّا شَذَّ من المضاعَفِ يعني في الحذفِ شبيهُ بباب أقمت وليس بمتلئِبٍّ، وذلك قولهم: أَحَسْتُ واَحَسْنَ، يريدون: أَحْسَسْتُ وأَحْسَسْنَ، وكذلك يُفْعَل بكل بناءٍ بُنِي الفعلُ فيه ولا تَصِلُ إليه الحركةُ، فإذا قلت: لم أُحِسَّ لم تَحذِفْ». وقيل: الإِحساسُ: الوجودُ والرؤيةُ يقال: هل أَحْسَسْتَ صاحبكَ أي: وَجَدْتَه أو رأيته.
قوله: ﴿مَنْ أنصاري﴾ أنصار جمع نصير نحو: شَريف وأَشْراف. وقال قوم: هو جمع «نَصْر» المرادُ به المصدر، ويَحتاج إلى حَذْف مضاف أي: مَنْ أصحابُ نُصْرَتي. و «إلى» على بابها، وتتعلَّق بمحذوف، لأنها حالٌ تقديرُه: مَنْ أنصاري مضافِين إلى الله، كذا قَدَّره أبو البقاء. وقال قوم: إنَّ «إلى» بمعنى مع أي: مع الله، قال الفراء: «وهو وجْهٌ حسن». وإنما يجوز أَنْ تَجْعَل «إلى» في موضع مع إذا ضَمَمْتَ الشيء إلى الشيء ما لم يكن معه
207
كقولِ العرب: «الذَّوْدُ إلى الذَّوْدِ إبل» أي: الذود، بخلافِ قولك: «قَدِمَ فلانٌ ومعه مال كثير» فإنه لا يصلح أَنْ تقولَ: وإليه مال، وكذا تقول: «قدم فلان مع أهله» ولو قلت: «إلى أهله» لم يصح، وجَعَلوا من ذلك أيضاً قولَه: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢]. وقد ردَّ أبو البقاء كونَها بمعنى «مع» فقال: «وليس بشيء فإنَّ» إلى «لا تصلُح أَنْ تكونَ بمعنى» مع «ولا قياسَ يَعْضُده».
وقيل: «إلى» بمعنى اللام أي: مَنْ أنصاري لله، كقوله: ﴿يهدي إِلَى الحق﴾ [يونس: ٣٥] أي: للحقِّ، كذا قَدَّره الفارسي. وقيل: بل ضَمَّن «أنصاري» معنى الإِضافةِ أي: مَنْ يُضيف نفسَه إلى الله في نصرتي، فيكون «إلى الله» متعلقاً بنفسِ أنصاري، وقيل: متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حال من الياء في «أنصاري» أي: مَنْ أنصاري ذاهباً إلى الله متلجِئاً إليه، قاله الزمخشري.
قوله: ﴿الحواريون﴾ جمع حوارِيّ وهو الناصرُ، وهو مصروفٌ وإنْ ماثل مَفَاعل، لأنَّ ياءَ النسب فيه عارضةٌ، ومثله حَوالِيٌّ وهو المحتال، وهذان بخلافِ: قَمَارِيّ وبَخاتِيّ، فإنهما ممنوعانِ من الصرفِ، والفرق أن الياءَ في حوارِيّ وحواليّ عارضةٌ بخلافِها في: «قَماريّ وبَخاتِيّ» فإنها موجودَةٌ قبل جَمْعِها في قولك: قُمْرِيّ وبُخْتِيّ.
والحوارِيُّ: الناصِرُ كما تقدَّم، وذلك أنَّ عيسى عليه السلام مَرَّ بقومٍ فاستنصَرَهم ودَعاهم إلى الإِيمان فتبعوه وكانوا قَصَّارين للثيابِ، فَسُمِّيَ كلُّ مَنْ
208
تَبعَ نبياً ونَصَرَهُ: حواريَّاً تسميةً له/ باسمِ أولئك تشبيهاً بهم وإن لم يكن قَصَّاراً، وفي الحديث عنه عليه السلام في الزبير: «ابنُ عمتي وحواريّ من أمتي» ومنه أيضاً: «إنَّ لكل نبي حوارياً وحوارِيّ الزبير» هذا معنى كلام أبي عبيدة وغيرِه من أهل اللغة. وقيل: الحوارِيُّ هو صفوةُ الرجل وخالصتُه، واشتقاقُهُ من حُرْتُ الثوبَ أي: أَخْلَصْتُ بياضه بالغَسْل منه سُمِّيََ القَصَّارُ حواريَّاً لتنظيفه الثيابَ، وفي التفسير: أنَّ أتباعَ عيسى عليه السلام كانوا قصَّارين، قال أبو عبيدة: «سُمِّيَ أصحاب عيسى حواريين للبياض وكانوا قصَّارين، قال الفرزدق: ١٣٠٨ - فقلتُ:
إنَّ الحواريَّاتِ مَعْطَبَةٌ
إذا تَفَتَّلْنَ من تحتِ الجلابيبِ
يعني النساء». قلت: يَعني أنَّ النساءَ لبياضِهِنَّ وصفاءِ لونهنَّ لا سيما المترفِّهاتُ يقال لهنَّ الحواريات، ولذلك قال الزمخشري: «والحوارِيُّ صفوَةُ الرجل وخالصتُه، ومنه قيل للنساء الحضريات: الحواريَّات لخلوصِ ألوانهن ونظافتهن، وأنشد لأبي جلدة اليشكري:
١٣٠٩ - فَقُلْ للحوارِيَّاتِ يبكِينَ غيرَنا
ولا يَبْكِنا إلا الكلابُ النوابِحُ
انتهى. ومنه سُمِّيَت الحُور حُوراً لبياضِهِنَّ ونظافَتِهِنَّ. والاشتقاقُ من
209
الحَوَر وهو تبييضُ الأثواب وغيرِها. وقال الضحاك:» هم الغَسَّالون، وهم بلغةِ النَّبَط: هَواري بالهاء مكان الحاء «، قال ابن الأنباري:» فمن قال بهذا القول قال: هذا حرفٌ اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبط، وهو قول مقاتل بن سليمان: إن الحواريين هم القصارون «. وقيل: هم المجاهدون كذا نقله ابن الأنباري وأنشد:
١٣١٠ - ونحنُ أناسٌ تملأ البيضَ هامُنَا
ونحن الحوارِيُّونَ يومَ نُزاحِفُ
جماجِمُنَا يومَ اللقاء تَراسُنا
إلى الموت نَمْشي ليس فينا تَجانُفُ
قال الواحدي:» والمختارُ من هذه الأقوالِ عند أهل اللغة أن هذا الاسمَ لَزِمهم للبياض «، ثم ذكر ما ذكرْتُه عن أبي عبيد.
وقال الراغب:» حَوَّرْتُ الشيءَ بَيَّضْتُه ودَوَّرْتُه، ومنه: الخبز الحُوَّاري، والحواريون: أنصار عيسى، وقيل: اشتقاقُهم من حار يَحُور أي: رَجَع، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾ [الإنشقاق: ٤] أي: لن يرجِعَ، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى، يقال: حار يَحُور حَوْراً أي: رَجَعَ، وحار يحور حَوْراً إذا تَرَدَّد في مكانٍ، ومنه: حارَ الماءُ في الغَدير، وحار في أمره وتحيَّر فيه وأصلُه: تَحَيْوَر، فَقُلِبَتْ الواوُ ياءً فوزنه تَفَيْعَل لا تَفَعَّل، إذ لو كان تَفَعَّل لقيل: تَحَوَّر نحو: تَجَوَّز، ومنه قيل للعُود الذي عليه البَكَرة: مِحْوَر لتردُّده، ومَحارة الأذنِ لظاهرِهِ المنقعر تشبيهاً بمَحَارة الماء لِتردُّد الهواء بالصوت فيه كتردد الماء
210
في المَحارة، والقومُ في حَوْر أي: في تردد إلى نقصان، ومنه: «نَعُوذُ باللهِ من الحَوْر بعد الكَوْر»
وفيه تفسيران، أحدُهما: نعوذ بالله من التردد في الأمر بعد المُضَيَّ فيه، والثاني: نعوذُ بالله من نقصانِ وترددٍ في الحال بعد الزيادة فيها. ويقال: حارَ بعد ما كارَ، والمُحاورة: المُرادَّة في القول، وكذلك التحاورُ والحِوار، ومنه: ﴿وَهُوَ يُحَاوِرُهُ﴾ [الكهف: ٣٤] ﴿والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ﴾ [المجادلة: ١] أي: ترادَّكما القولَ، ومنه أيضاً: كلَّمته فما رَجَع إلى حَوارٍ أو حَوِير أو مَحْوَرة وما يعيش بحَوْر أي: بعقل يرجع إليه، والحَوَرُ «: ظهورُ قليلِ بياضٍ في العينِ من السواد، وذلك نهايةُ الحسنِ في العَيْنِ يقال منه: أَحْوَرَتْ عينُه، والمذكرُ أحورُ، والمؤنثة حَوْراء، والجمعُ فيها حُور، نحو: حُمْر في جمع أحمر وحمراء، وقيل: سُمِّيت الحُور حُوراً لذلك وقيل: اشتقاقهم من نقاء القلب وخُلوصه وصِدْقه، قاله أبو البقاء، وهو راجع للمعنى الأول من خُلوصِ البياضِ، فهو مجازٌ عن التنظيفِ من الآثامِ وما يَشوب الدين.
والياء في حَوارِيّ وحَواليّ ليست للنسب بل زائدةٌ كزيادتها في كرسيّ.
وقراء العامة» الحواريُّون «بتشديد الياء في جميع القرآن، وقرأ الثقفي والنخعي بتخفيفِها في جميع القرآن، قالوا: لأن التشديدَ ثقيلٌ، وكان قياس هذه القراءةِ أَنْ يقالَ فيها: الحوارُون، وذلك أنه تستثقل الضمة على الياء المكسورة ما قبلها فَتُنْقَل ضمة الياء إلى ما قبلها فتسكُنُ الياءُ، فيلتقي ساكنان
211
فتحذفُ الياء لالتقاء الساكنين، وهذا نحوُ: جاء القاضُون، الأصل: القاضِيُون، ففُعِل به ما ذُكِرَ. قالوا: وإنما أُقِرَّتْ ضمةُ الياءِ عليها تنبيهاً على أن التشديد مرادُ لأن التشديدَ يَحْتمل الضمة كما ذهب الأخفش في» يستهزيون «إذ أَبْدَل الهمزةَ ياءً مضمومةً، وإنما بَقِيَتِ الضمةُ تنبيهاً على الهمزةِ.
قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ : من بابِ المقابلةِ، أي: لا يجوزُ أَنْ يُوصفَ اللهُ بالمكر إلا لأجلِ ما ذُكر معه من لفظٍ آخرَ مسندٍ لِمَنْ يليقُ به، وهذا كما تقدَّم في الخِداع، هكذا قيل، وقد جاء ذلك من غيرِ مقابلة في قولِهِ: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله﴾ [الأعراف: ٩٩].
والمَكْرُ في اللغةِ أصلُه السَّتْرُ. يُقال: مَكَر اللَّيلُ: أي أَظْلَمَ وسَتَر بظلمته ما فيه، وقالوا: واشتقاقُه من المَكْر وهو شجر ملتفٌّ، تخيَّلوا فيه أنَّ المكرَ يلتفُّ بالممكورِ به ويشتمل عليه، وامرأةُ ممكورةُ الخَلْقِ أي: ملتفَّةُ الجسم، وكذا مَمْكُورة البطن، ثم أُطْلِقَ المَكْرُ على الخُبْث والخِداع، ولذلك عَبَّر عنه بعضُ أهلِ اللغةِ بأنه السعيُ بالفساد/. قال الزجاج: «هو مِنْ مَكَر الليلُ وَأَمْكَرَ أي أظلم». وقد عَبَّر بعضُهم عنه فقال: هو صَرْفُ الغَيْرِ عَمَّا يَقْصِده بحيلةٍ، وذلك ضربان: محمودٌ وهو أَنْ يُتَحَرَّى به فِعْلٌ جميلَ، وعلى ذلك قولُه: ﴿والله خَيْرُ الماكرين﴾، ومذمومٌ وهو أَنْ يُتَحَرَّى به فعلٌ قبيحٌ نحو: ﴿وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣].
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ الله﴾ : في ناصبهِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: قوله: «وَمَكَرَ الله» أي وَمَكَر اللهُ بهم في هذا الوَقتِ. الثاني: أنه «خير الماكرين». الثالث: اذكر مقدراً، فيكون مفعولاً به كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرةٍ.
قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ﴾ فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ الكلامَ على حالهِ من غيرِ ادِّعاءِ تقديمٍ وتأخيرٍ فيه، بمعنى: إني مستوفي أجلِك ومؤخِّرُك وعاصِمُك مِنْ أَنْ يقتُلَكَ الكفار إلى أن تموتَ حَتْفَ أنفِكَ من غيرِ أَنْ تُقْتَلَ بأيدي الكفارِ ورافعُكَ إلى سمائي.
والثاني: أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، والأصلُ: رافُعك إليّ ومتوفيك لأنه رُفِع إلى السماء ثم يُتَوَفَّى بعد ذلك، والواوُ للجمعِ فلا فَرْقَ بين التقديم والتأخيرِ، قاله أبو البقاء وبدأ به، ولا حاجةَ إلى ذلك مع إمكانِ إقرارِ كلِّ واحدٍ في مكانِهِ بما تقدَّم من المعنى، إلاَّ أنَّ أبا البقاءِ حَمَلَ التوفِّيَ على الموتِ، وذلك إنما هو بعدَ رَفْعِهِ ونزولِهِ إلى الأرض وحكمهِ بشريعةِ محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي قوله ﴿والله خَيْرُ الماكرين﴾ [آل عمران: ٥٤] إيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمرِ، إذ الأصلُ: ومكرُوا ومكرَ اللهُ وهو خير الماكرين.
قوله: ﴿وَجَاعِلُ الذين اتبعوك﴾ فيه قولان، أظهرُهُما: أنه خطابٌ لعيسى عليه السلام، والثاني: أنه خطابٌ لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكونُ الوقفُ على قوله: ﴿مِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ تاماً، والابتداءُ بما بعده، وجاز هذا لدلالةِ الحالِ عليه. و ﴿فَوْقَ الذين كَفَرُواْ﴾ ثاني مفعولَيْ جاعل لأنه بمعنى مُصَيِّر فقط.
213
و ﴿إلى يَوْمِ﴾ متعلِّقٌ بالجَعْل، يعني أنَّ هذا الجَعْلَ مستمرٌّ إلى ذلك اليوم، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالاستقرار المقدَّرِ في «فوق» أي: جاعِلُهُم قاهرين لهم إلى يوم القيامة، يعني أنهم ظاهرون على اليهودِ وغيرِهم من الكفارِ بالغَلَبَةِ في الدنيا، فأمَّا يوْمُ القيامةِ فيحكُمُ اللهُ بينهم فيُدخِل الطائعَ الجنةَ والعاصيَ النارَ، وليس المعنى على انقطاعِ ارتفاعِ المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا وانقضائِها، لأنَّ لهم استعلاءً آخرَ غيرَ هذا الاستعلاء. وقال الشيخ: «والظاهرُ أنَّ» إلى «تتعلقُ بمحذوفٍ، وهو العاملُ في» فوق «، وهو المفعولُ الثاني لجاعل، إذ» جاعل «هنا مُصَيِّر، فالمعنى كائنين فوقَهم إلى يوم القيامة، وهذا على أنَّ الفوقيةَ مجازٌ، وأمَّا إن كانت الفوقيةُ حقيقيةً وهي الفوقيةُ في الجنة فلا تتعلَّق» إلى «بذلك المحذوفِ بل بما تقدَّم من» متوفِّيك «أو من» رافعك «أو من» مُطَهِّرك «إذ يَصِحُّ تعلُّقه بكلِّ واحدٍ منها، أمَّا تعلُّقُه برافِعُك، أو بمُطَهِّرُك فظاهرٌ، وأمَّا بمتوَفِّيْك فعلى بعضِ الأقوال» يعني ببعض الأقوال أنَّ التوفِّي يُراد به قابِضُكَ من الأرضِ من غيرِ موتٍ، وهو قولُ جماعةٍ كالحسن وابنِ زيد وابن جريج وغيرِهم، او يرادُ به ما ذَكَرَهُ الزمخشري، وهو مستوفي أجلك، ومعناه: إني عاصمُك من أن يقتلَك الكفارُ ومؤخِّرُك إلى أَجَلٍ كتبتُه لك، ومميتُك حَتْفَ أنفِكَ لا قتلاً بأيدي الكفار، وأمَّا على قولِ مَنْ يقول: إنه تُوُفِّي حقيقةً فلا يُتَصَوَّرُ تَعلُّقُه به لأن القائل بذلك لم يقل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة بل قائل يقول: إنه تُوُفِّي ثلاث ساعات، وآخرُ يقول: توفي سَبع ساعات بقدر ما رُفع إلى سمائه حتى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْر في اليقظة، وعلى هذا الذي ذكره الشيخ يجوز أن تكون المسألة من الإِعمال، ويكون قد تنازع في هذا الجارِّ ثلاثةُ عوامل، وإذا ضَمَمْنا إليها كونَ الفوقية مجازاً تنازع
214
فيه أربعةُ عواملَ، والظاهرُ أنه متعلِّقٌ بجاعل.
وقد تقدَّم أن أبا عمرو يُسَكِّنُ ميم «أَحْكُمُ» ونحوِه قبلَ الباء.
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ﴾ : في محلِّ هذا الموصولِ قولان، أظهرُهما: أنه مرفوعٌ على الابتداءِ، والخبرُ الفاءُ وما في حَيِّزها، والثاني: أنه منصوبٌ بفعل مقدر، على أن المسألة من باب الاشتغال، إذ الفعلُ بعدَه قد عَمِلَ في ضميره، وهذا وجهٌ ضعيف، لأنَّ «أمَّا» لا يليها إلا المبتدأُ، وإذا لم يَلِها إلا المبتدأُ امتنعَ حَمْلُ الاسم بعدها على إضمارِ فعلٍ. ومَنْ جَوَّزَ ذلك تَمَحَّل بأنه يُضْمِرُ الفعلُ متأخراً عن الاسم، ولا يُضْمِرُه قبلَه، قال: لئلا يَلِيَ «أمَّا» فعلٌ وهي لا يَليها الأفعالُ البتة فيقدِّرُ في قولك: «أمَّا زيداً فضَربتُه» : أمَّا زيداً ضربْتُ فضربتُه، وكذا هنا يُقَدِّرُ: فأمَّا الذين كفروا أعذَّب فأعذِّبهم، فيقدِّرُ العاملَ بعد الصلة، ولا يقدِّرُه قبل الموصولِ لِما ذكرت، وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ لعدمِ الحاجةِ إليه مع ارتكاب وجهٍ ضعيفٍ جداً في أفصحِ كلام، وقد قرأ بعض قراء الشواذ: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ [فصلت: ١٧] بنصبِ «ثمود» واستضعفها الناس.
وفي قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ إلى ﴿كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ التفاتٌ من غيبة إلى خطاب، وذلك أنه قدَّم تعالى ذِكْرَ مَنْ كَذَّب بعيسى وافترى عليه وهم اليهود لُعنوا، وقَدَّم أيضاً ذِكْرَ مَنْ آمَنَ به وهم/ الحواريون رضي الله عنهم وقَضَى بعد ذلك بالإِخبار بأنه يجعلُ مُتَّبعي عيسى فوق مخالِفيه، فلو جاءَ النظمُ على السياقِ من غيرِ التفاتٍ لكانَ: ثم إليَّ مَرْجِعُهم فأَحْكُمُ بينهم فيما كانوا، ولكنه التفت إلى الخطاب لأنه أبلغُ في البِشارة وَأَزْجَرُ في النِّذارة.
215
وفي ترتيبِ هذه الأخبار الأربعة أعني مُتَوَفِّيك ورافعُك ومُطَهِّرك وجاعلُ هذا الترتيبَ معنًى حسنٌ جداً، وذلك أنه تعالى بَشَّره أولاً بأنه متوفِّيه ومتولِّي أمره فليس للكفار المتوعِّدين له بالقتل عليه سلطانٌ ولا سبيلٌ، ثم بَشَّره ثانياً بأنه رافعُه إليه أي: سمائهِ محلِّ أنبيائِهِ وملائكتِهِ ومحلِّ عبادتِهِ ليسكنَ فيها ويعبُدَ ربَّه مع عابِدِيه، ثم ثالثاً بتطهيرِهِ من أَوْضارِ الكفرةِ وأذاهم وما رَموه به، ثم رابعاً برفعهِ تابعيه على مَنْ خالفهم ليتِمَّ بذلك سرورُه، ويكملَ فرحُهُ، وقَدَّم البِشارَةَ بما يتعلَّقُ بنفسِهِ على البِشارة بما يتعلَّق بغيره؛ لأنَّ الإِنسانَ بنفسِهِ أَهَمُّ وبشأنها أَعْنى، ﴿قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾ [التحريم: ٦] «ابدَأْ بِنَفْسِكَ ثم بِمَنْ تَعول».
قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الذين آمَنُوا﴾ : الكلامُ فيه كالكلامِ في الموصول قبلَه، وقرأ حفص عن عاصم: «فيوفِّيهم» بياء الغَيْبة، والباقون بالنون، فقراءهُ حَفْص على الالتفاتِ من التَّكلمِ إلى الغيبة تفنُّناً في الفصاحة. وقراءةُ الباقين جاريةٌ على ما تقدَّم من اتِّساقِ النظم، ولكنْ جاءَ هناك بالمتكلِّم وحدَه وهنا بالمتكلِّم وحده المعظّمِ نفسَه اعتناءً بالمؤمنين ورفعاً مِنْ شأنهِمْ لَمَّا كانوا معظَّمين عنده.
قوله تعالى: ﴿ذلك نَتْلُوهُ﴾ : يجوز أّنْ يكونَ «ذلك» مبتدأً و «نتلوه» الخبرَ، و «من الآيات» حالٌ أو خبرٌ بعدَ خبرٍ، ويجوزُ أن يكونَ «ذلك» منصوباً بفعل مقدر يفسِّره ما بعدَه، فالمسألةُ من الاشتغال و «من الآيات» حالٌ أو خبرٌ مبتدأ مضمر أي: هُو من الآيات، ولكنَّ الأحسنَ الرفعُ بالابتداءِ، لأنه لا يُحْوج إلى إضمارٍ، وعندَهم: «زيدٌ ضربتُه» أحسنُ مِنْ «زيداً ضربته»، ويجوزُ أَنْ يكونَ «ذلكَ» خبرَ مبتدأ مضمر، يعني: الأمر ذلك، و «نَتْلوه» على
216
هذا حالٌ من اسم الإِشارة، و «من الآيات» حالٌ من مفعولٍ «نَتْلوه» ويجوزُ أَنْ يكونَ «ذلك» موصولاً بمعنى الذي، و «نَتْلوه» صلةٌ وعائدٌ، وهو مبتدأٌ خبرُه الجارُّ بعده، أي: الذي نتلوه عليك كائنٌ من الآيات أي: المعجزاتُ الدالَّةُ على نُبُوَّتِك، جَوَّز ذلك الزجاج وتَبِعه الزمخشري، وهذا مذهبُ الكوفيين، وأمَّا البصريُّون فلا يُجيزون أن يكونَ اسمٌ من أسماء الإِشارة موصولاً إلا «ذا» خاصةً بشروط تقدَّم ذكْرُها، ويجوز أن يكونَ «ذلك» مبتدأً، و «من الآيات» خبره، و «نتلوه» جملةً في موضعِ نصب على الحال، والعاملُ معنى اسمِ الإِشارة. و «مِنْ» فيها وجهان، أظهرهما: أنها تبعيضية؛ لأن المتلوَّ عليه عليه السلام من قصة عيسى بعضُ معجزاتِه وبعضُ القرآن، وهذا وجهٌ واضح. والثاني: أنها لبيانِ الجنسِ، وإليه ذهب ابنُ عطية وبه بَدَأ، قال الشيخ: «ولا يتأتَّى ذلك هنا من جهةِ المعنى إلا بمجازٍ، لأنَّ تقديرَ» مِنْ «البيانية بالموصول ليس بظاهر، إذ لو قلت:» ذلك نتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم «لاحتجْتَ إلى تأويلٍ، وهو أَنْ يُجْعَلَ بعضُ الآيات والذكرِ آياتٍ وذكراً وهو مجازٌ.
والحكيمُ صيغةُ مبالغَةٍ مُحَوَّلٌ من فاعل كضريب من ضارب، ووُصِف الكتاب بذلك مجازاً، لأن هذه الصفة في الحقيقة لمُنْزِلِهِ والمتكلم به فَوُصِفَ بصفةِ مَنْ هو من سببِه وهو الباري تبارك وتعالى، أو لأنه ناطقٌ بالحكمةِ أو لأنه أَحْكَمُ في نظمه، وجَوَّزوا أن يكونَ بمعنى مُفْعِل أي: مُحْكِم لقوله تعالى: {
217
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} إلاَّ أنَّ فَعِيلاً بمعنى مُفْعِل قليلٌ قد جاءَتْ منه أُلَيْفاظٌ قالوا: عَقَدْتُ العَسَلَ فهو عَقِيد ومُعْقَد، واحتبسْتُ الفرسَ في سبيلِ الله فهو حَبِيس ومُحْبَس.
وفي قوله: ﴿نَتْلُوهُ﴾ التفاتٌ من غَيْبَة إلى تكلُّم، لأنه قد تقدَّمه اسمٌ ظاهرٌ، وهو قولُه: ﴿والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ كذا قاله الشيخ، وفيه نظرٌ، إذ يُحْتمل أن يكونَ ﴿والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ جِيء بها اعتراضاً بين أبعاضِ هذه القصةِ.
وقوله: ﴿نَتْلُوهُ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه وإنْ كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنى أي: ذلكَ الذي قَدَّمْناه من قصةِ عيسى وما جَرَى له تَلَوْناه عليك كقولِه: ﴿واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين﴾ [البقرة: ١٠٢]، والثاني: على بابِه لأنَّ الكلامَ بعدُ لم يَتِمَّ، ولم يفرغ من قصة عيسى عليه السلام إذ بقي منها بقية.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى﴾ : جملةٌ مستأنفةٌ لا تعلُّقَ لها بما قبلها تعلُّقاً صناعياً بل معنوياً، وزعم بعضُهم أنَّها جوابٌ لقسم، وذلك القسمُ هو قولُه: ﴿والذكر الحكيم﴾ كأنه قيل: أٌقْسم بالذكرِ الحكيم إِنَّ مثلَ عيسى، فيكونُ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه: «من الآيات» ثم استأنف قسماً، فالواوُ حرفُ جر لا حرفُ عطف، وهذا بعيدٌ أو ممتنعٌ، إذ فيه تفكيكٌ لنظمِ القرآن وإذهابٌ لرونقه وفصاحته.
قوله: ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ في هذه الجملة وجهان، أظهرهما: أنها مفسرةٌ لوجهِ التشبيه بين المَثَلين، فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من آدمَ عليه السلام و «قد» معه مقدرةٌ، والعاملُ فيها معنى التشبيه، والهاءُ في «خَلَقه» عائدةٌ على آدم، ولا تعودُ على عيسى لفسادِ
218
المعنى، وقال ابن عطية: «ولا يجوزُ أن يكون» خلقه «صلةً لآدم ولا حالاً منه، / قال الزجاج:» إذ الماضي لا يكونُ حالاً أنت فيها، بل هو كلامٌ مقطوعٌ منه مُضَمَّنٌ تفسيرَ الشأن «قال الشيخ:» وفيه نظرٌ «، ولم يُبَيِّنْ وجهَ النظرِ، والظاهرُ من هذا النظرِ أنَّ الاعتراضَ وهو قولُه:» لا يكون حالاً أنت فيها «غيرُ لازم، إذ تقديرُ» قد «معه يقرِّبُه من الحال، وقد يَظْهَرُ الجواب عَمَّا قاله الزجاج من قول الزمخشري:» إنَّ المعنى: قَدَّره جسداً من طين ثم قال له: كن، أي أَنْشَأه بشراً «. قال الشيخ:» ولو كان الخَلْقُ بمعنى الإِنشاء لا بمعنى التقديرِ لم يأتِ بقولِه «كن» لأنَّ ما خُلِقَ لا يقال له: كُنْ، ولا يُنْشَأُ إلا إنْ كان معنى «ثم قال له كن» عبارةً عن نَفْخِ الروح فيه. «قلت: قد تعرَّض الواحدي لهذه المسألة فَأَتْقَنها فقال:» وهذا يعني قوله خلقه من تراب ليس بصلةٍ لآدم ولا صفةٍ، لأنَّ الصلة للمبهمات والصفةً للنكرات ولكنه خبرٌ مستأنفٌ على جهةِ التفسير لحالِ آدَمَ عليه السلام «قال:» قال الزجاج «وهذا كما تقولُ في الكلام:» مَثَلُك كمثلِ زيد «تريد أنك تُشْبهه في فِعْلٍ ثم تخبرُ بقصة زيد، فتقول: فعل كذا وكذا».
وقوله: ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ اختلفوا في المقولِ له: كن، فالأكثرون على أنه آدم عليه السلام، وعلى هذا يقعُ الإِشكال في لفظ الآية، لأنه إنما يقول له: «كن» قبل أن يخلقَه لا بعده، وههنا يقولُ: «خَلَقه» ثم قال له: كن،
219
والجواب: أنَّ الله تعالى أخبرَنا أولاً أنه خَلَقَ آدمَ مِنْ غيرِ ذَكَرٍ ولا أنثى، ثم ابتدأَ خبراً آخرَ، أرادَ أَنْ يُخْبِرَنا به فقال: إني مخبرُكم أيضاً بعد خبري الأول أني قلت له: «كن» فكان، فجاء بثم لمعنى الخبرِ الذي تقدَّم والخبر الذي تأخر في الذكر، لأنَّ الخَلْقَ تقدَّم على قولِه «كن»، وهذا كما تقول: «أُخْبِرُك أني أُعطيك اليوم ألفاً، ثم أُخبرك أني أعطتيك أمسِ قبلَه ألفاً» فأمس متقدِّمَ على اليوم، وإنما جاء بثم لأنَّ خبرَ اليوم متقدِّمٌ خبرَ أمسِ، وجاءَ خبرُ أمس بعد مُضِيِّ خبر اليوم، ومثله قوله: ﴿خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [الزمر: ٦] وقد خَلَقها بعد خَلْق زوجها، ولكن هذا على الخبر دون الخَلْق، لأنَّ التأويلَ: أخبركم أني قد خلقتكم من نفس واحدة؛ لأن حواء قد خُلقت من ضلعه، ثم أُخبركم أني خَلَقت زوجها منها، ومثلُ هذا مِمَّا جاء في الشعر قوله:
١٣١١ - إنَّ مَنْ ساد ثم ساد أبوه
ثم قد سادَ قبل ذلك جَدُّهُ
ومعلومٌ أنَّ الأبَ متقدِّمٌ له والجَدَّ متقدمٌ للأب، فالترتيبُ يعودُ إلى الخبر لا إلى الوجودِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ المرادُ أنه خلقه قالباً من ترابٍ ثم قال له: كُنْ بَشَراً فيصِحُّ النَّظْمُ. وقال بعضُهم: المقولُ له كن: عيسى، ولا إشكالَ على هذا.
وقوله: ﴿فَيَكُونُ﴾ يجوز أَنْ يكونَ على بابِه مِنْ كونِه مستقبلاً، والمعنى: فيكونُ كما يأمرُ الله فيكونُ حكايةً للحال التي يكونُ عليها آدم، ويجوز أن
220
يكون «فيكونُ» بمعنى «فكان»، وعلى هذا أكثرُ المفسرين والنحويين، وبهذا فَسَّره ابنُ عباس رضي الله عنه.
والمَثَلُ هنا: منهم مَنْ فَسَّره بمعنى الحال والشأن، قال الزمخشري: «أي: إنَّ شأنَ عيسى وحالَه الغريبة كشأنِ آدم»، وعلى هذا التفسير فالكافُ على بابها من كونِها حرفَ تشبيه، وفَسَّر بعضُهم المَثَلَ بمعنى الصفة، قال ابن عطية: «وهذا عندي خطأ وضعفٌ في فَهْمِ الكلام، وإنما المعنى: أن المثلَ الذي تتصوَّرُه النفوسُ والعقولُ مِنْ عيسى هو كالمُتَصَوَّرِ من آدم، إذ الناسُ كلُّهم مُجْمِعُون [على] أنَّ اللهَ خَلَقَه مِنْ تراب من غيرِ فحلٍ، وكذلك قولُه: ﴿مَّثَلُ الجنة﴾ [الرعد: ٣٥] عبارةٌ عن المتصوَّر منها، والكافُ في» كمثل «اسمٌ على ما ذكرناه من المعنى». قال الشيخ: «ولا يَظْهَرُ لي فَرْقٌ بين كلامِه هذا وبين مَنْ جَعَلَ المَثَلَ بمعنى الشأن والحال وبمعنى الصفة». قلت: قد تقدَّم في أولِ البقرة أنَّ المَثَل قد يُعَبَّر به عن الصفة وقد لا يُعَبَّر به عنها، فدلَّ ذلك على تغايُرهما، وقد مَرَّ تفسيرُه وعبارةُ الناسِ فيه، ويَدُلُّ على ذلك ما قاله صاحب «ريّ الظمآن» عن الفارسي قال: «قيل: المَثَلُ بمعنى الصفة، وقولك: صفةُ عيسى كصفة آدم كلامٌ مُطَّرد، على هذا جُلُّ اللغويين والمفسرين، وخالف أبو علي الفارِسي الجميعَ، وقال: المَثَلُ بمعنى الصفة لا يُمْكِنُ تصحيحُه في اللغة، إنما المَثَلُ التشبيهُ، على هذا تدورُ تصاريفُ
221
الكلمة، ولا معنى للوصفيةِ في التشابهِ، ومعنى المثل في كلامِهم أنها كلمةٌ يرسلُها قائلُها لحكمةٍ يُشَبِّه بها الأمورَ ويقابِلُ بها الأحوالَ» قلت: فقد فَرَّق بين لفظِ المثل في الاصطلاحِ وبين الصفة.
وقال بعضُهم: إنَّ الكافَ زائدةٌ، وبعضُهم قال: إنَّ «مَثَلاً» زائد. فقد تحصَّل في الكاف ثلاثة أقوال، أظهرها: أنها على بابها من الحرفية وعدمِ الزيادة، وقد تقدَّم تحقيقه. وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف شُبِّه به وقد وُجِد هو بغير أب، ووُجِد آدمُ بغيرِ أب ولا أم؟ قلت: هو مثلُه في أحدٍ الطرفين، فلا يَمْنَعُ اختصاصُه دونَه بالطرفِ الآخرِ مِنْ تشبيهِه به، لأنَّ المماثلَة مشاركةٌ في بعضِ الأوصافِ، ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجوداً خارجاً عن العادةِ المستمرةِ وهما في ذلك نظيران، ولأنَّ الوجود من غير أب وأم أغربُ وأخرقُ للعادةِ من الوجود بغير أب، فَشَبَّه الغريبَ بالأغرب ليكون أقطعَ للخصمِ وأَحْسَمَ لمادة شُبْهته. وعن بعضِ العلماء أنه أُسِر بالروم فقال لهم: لِمَ تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أب له، قال: فآدم أولى لأنه لا أبوين له، قالوا: فإنه كان يحيي الموتى، قال: فحزقيل أَوْلى لأن عيسى أحيا أربعة نفر، وحزقيل أحيا ثمانية آلاف. قالوا: كان يبرىء الأكمة والأبرص. قال: فجرجيس أولى لأنه طُبخ وأُحْرِقَ ثم خَرَج سالماً».
قوله: ﴿مِن تُرَابٍ﴾ في وجهان، أظهرُهما: أنه متعلِّقٌ ب «خلقه» أي: ابتداءُ خلقه من هذا الجنس، والثاني: أنه حالٌ من مفعول «خلقه» تقديره: خَلَقه كائناً مِنْ تراب، وهذا لا يساعِدُه المعنى.
قولُه تعالى: ﴿الحق مِن رَّبِّكَ﴾ : يجوز أَنْ تكونَ هذه جملةً مستقلةً برأسِها، والمعنى: أنَّ الحقَّ الثابتَ الذي لا يضمحل هو من ربك، ومن جملةِ ما جاء مِنْ ربك قصةُ عيسى وأمِّه فهي حَقٌ ثابتٌ، ويجوزُ أَنْ «الحق» خبرُ
222
مبتدأ محذوف، أي: هو، أي: ما قَصَصْنَا عليك من خبر عيسى وأمه. و «من ربك» على هذا فيه وجهان، أحدهما: أنه حال فيتعلق بمحذوف. والثاني: أنه خبرٌ ثان عندَ مَنْ يُجَوِّزُ ذلك، وتقدَّم نظيرُ هذه الجملة في البقرة والنهيُّ له عليه السلام عن الامتراءِ، ولم يكن ممترياً، [وهذا] من الإِلهاب والتهييج على الثبات على ماهو عليه من الحق، أو لأنَّ المرادَ به غيره.
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ﴾ : يجوز في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطيةً وهو الظاهر أي: إنْ حاجَّك أحدٌ فقلْ له: كيتَ وكيتَ، ويجوز أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي، وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في الخبر لتضمُّنه معنى الشرط. والمُحاجَّة مُفاعلة وهي من اثنين، وكان الأمر كذلك.
قوله: «فيه» متعلق بحاجَّك أي: جادَلك في شأنه، والهاء فيه وجهان، أظهرهما: عَوْدُها على عيسى عليه السلام. والثاني عَوْدُها على الحق، وقد يتأيَّد هذا بأنه أقربُ مذكورٍ، إلاَّ أنَّ الأول أظهرُ لأن عيسى هو المُحَدَّث عنه وهو صاحب القصة.
قوله: ﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ﴾ متعلِّقٌ بحاجِّك أيضاً، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسميةً، ففاعلُ «جاءك» ضميرٌ يعودُ عليها أي: من بعد الذي جاءك هو، و «من العلم» حالٌ/ من فاعل «جاءك»، ويجوز أن تكونَ موصولةً حرفية، وحينئذُ يقال: يلزم من ذلك خُلُوُّ الفعل من الفاعل، أو عَوْدُ الضمير على الحرف، لأن «جاءك» لا بُدَّ له من فاعل، وليس معنا شيءٌ يَصْلُحُ عَودُه عليه إلا «ما» وهي حرفيةٌ. والجوابُ: أنه يجوزُ أن يكون الفاعلُ قولَه «من العلم» و «من» مزيدةٌ، أي بعد ما جاءك العلم أي: بعد مجيء العلم، وهذا إنما يتخرَّج على قول الأخفش لأنه لا يَشْترط في زيادتها شيئاً. و «مِنْ» في «
223
من العلم» يُحْتمل أن تكونَ تبعيضيَّةً وهو الظاهرُ وأَنْ تكونَ لبيان الجنس.
قوله: ﴿تَعَالَوْاْ﴾ العامةُ على فتح اللام لأنه أمرق من تعالَى يَتَعالى، كترامى يترامى، وأصلُ ألفِه ياءٌ، وأصلُ هذه الياء واو، وذلك أنه مشتقٌ من العلوِّ وهو الارتقاعِ كما سيأتي بيانُه في الاشتقاق، والواوُ متى وقَعَتْ رابعةً فصاعداً قُلِبَتْ ياءً فصار تعالَوَ: تعالَيَ، فتحرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلِب ألفاً فصار: تعالَى كَترامى وتغازَى، فإذا أَمَرْتَ منه الواحدَ قلت: تعالَ يا زيدُ، بحَذْفِ الألف، وكذا إذا أَمَرْتَ الجمعَ المذكَّر قلت: تعالَوا؛ لأنك لمَّا حَذَفْتَ الألف لأجلِ الأمرِ أبقَيْتَ الفتحَة مُشْعرةً بها. وإن شئت قلت: الأصل: تعالَيُوا، وأصلُ هذه الياءِ واوٌ كما تقدَّم، ثم استُثْقِلت الضَّمةُ على الياءِ فَحُذِفَتْ ضمتُها فالتقى ساكنان، فحُذِف أولُهما وهو الياء لالتقاء الساكنين وتُرِكت الفتحةُ على حالِها. وإنْ شئت قلت: لَمَّا كان الأصلُ: تعالَيُوا تحرَّك حرف العلة وانفتح ما قبله وهو الياء فَقُلِب ألفاً فالتقى ساكنان، فحُذِف أولُهما وهو الألف وبقيت الفتحة دالة عليه.
والفرقُ بين هذا وبين الوجه الأول أن الألف في الوجه الأول حُذِفَت لأجل الأمر وإن لم تتصل به واو ضمير، وفي هذا حُذِفت لالتقائها مع واو الضمير.
وكذلك إذا أَمَرْتَ الواحدة تقول لها «تعالَيْ»، فهذه الياء هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر، والتصريفُ كما تقدم، إلا أنك تقول هنا: الكسرة على الياءَ بَدَلٌ الضمة هناك، وأمَّا إذا أَمَرْتَ المثنى فإن الياء تثبت فتقول: يا زيدان تعالَيا، ويا هندان تعاليا أيضاً، يَسْتوي فيه المذكران والمؤنثان، وكذلك أمرُ جماعة الإِناث تَثْبُت فيه الياء تقول: يا نسوة تعالَيْن، وقال تعالى: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٢٨] إذ لا مقتضى للحذف ولا للقلبِ، وهو ظاهرٌ بما تمهَّد من القواعد.
224
وقرأ الحسن وأبو السمَّال وأبو واقد: «تعالُوا» بضم اللام، ووجَّهوها على أن الأصل: تعالَيُوا كما تقدم، فاستثقلت الضمة على الياء فنُقِلت إلى اللام بعد سَلْب حركتِها فبقي: تعالُوا بضم اللام. وقال الزمخشري في سورة النساء: «وعلى هذه القراءة قال الحمداني:
١٣١٢ -..............................
تعالِي أقاسمْك الهمومَ تعالِي
بكسرِ اللام»، وقد عابَ بعضُ الناسِ عليه في استشهاده بشعر هذا المُولَّدِ المتأخر، وليس بعيبٍ فإنه ذَكَرَه استئناساً وهذا كما تقدَّم في أولِ البقرة عندما أَنْشَدَ لحبيب:
١٣١٣ - هما أَظْلَمَا حالَيَّ ثَمَّتَ أَجْلَيا
..............................
واعتذر هو عن ذلك بما قَدَّمْتُه عنه فكيف يُعابُ عليه شيءٌ عَرَفَه ونَبَّه عليه واعتَذَر عنه؟
والذي يَظْهَرُ في توجيهِ هذه القراءةُ أنهم تناسَوا الحرفَ المحذوف حتى كأنهم تَوَهَّمُوا أنَّ الكلمة بُنِيَتْ على ذلك، وأنَّ اللامَ هي الآخِرُ في الحقيقة فلذلكَ عُومِلَتْ معامَلَة الآخِر حقيقةً فَضُمَّت قبلَ واو الضميرِ وكُسِرَتْ قبل يائه كما ترى، ويَدُلُّ على ما قلتُه أنهم قالوا في «لَمْ أُبَلَهْ» : إنََّ الأصلَ: «أبالي» لأنه
225
مضارع بالَى، فلمَّا دخل الجازمُ حَذَفوا له حرفَ العلةِ على القاعدة ثم تناسَوا ذلك الحرفَ فَسَكَّنُوا للجازمِ اللامَ لأنها كالأخيرِ حقيقةً، فلما سكنت اللام التقى ساكنان: هي والألف قبلَها فَحُذِفَت الألف لالتقاء الساكنين، وهذا التعليلُ أَوْلَى لأنه يَعُمُّ هذه القراءةَ والبيت المذكور، وعلى مقتضى تعليله هو يقال: الأصل: تعالَيِي، فاستُثْقِلَت الكسرةُ على الياء، فَنُقِلَت إلى اللام بعد سَلْبِهَا حرَكَتَها، ثم حُذِفَتِ الياءُ لالتقاء الساكنين.
وتعالَ: فعلٌ صريحٌ وليس باسمِ فعلٍ لاتصال الضمائر المرفوعة البارزة به. قيل: وأصلُهُ طَلَبُ الإِقبال من مكان مرتفع تفاؤلاً بذلك، وإدناءً للمدعوّ، لأنه من العلو والرفعة، ثم تُوُسِّع فيه فاستُعْمِلَ في مجرد طلب المجيء، حتى يُقالُ ذلك لمن يريدُ إهانَته كقولِك للعدوّ: تعالَ، ولمَنْ لا يَعْقِل كالبهائِمِ ونحوِها، وقيل: هو الدعاءُ لمكانٍ مرتفعٍ، ثم تُوُسِّع فيه حتى استُعْمِلَ في طَلَبِ الإِقبالِ إلى كل مكانٍ حتى المنخفضِ.
و ﴿نَدْعُ﴾ جزمٌ على جوابِ الأمرِ إذ يَصِحُّ أَنْ يقالَ: إنْ تتعالَوا نَدْعُ.
قوله: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ أتى بثم هنا تنبيهاً لهم على خطابِهم في مباهلته، كأنه يقولُ لهم: لا تعجلوا وَتَأنَّوا لعله أَنْ يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف/ التراخي.
والابتهال: افتعالٌ من البُهْلَة، والبهلة بفتح الباء وضمها، وهي اللعنة، قال الزمخشري: «ثم نتباهل بأن نقول: لعنةُ الله على الكاذب منا ومنكم، والبهلة بالفتح والضم: اللعنة، وبَهَله الله: لعنه الله وأبعده من رحمته، من
226
قولك: أبهله إذا أهمله، وناقةً باهل: لا صِرار عليها، وأصل الابتهال هذا ثم استُعمل في كل دعاء يُجْتهد فيه وإن لم يكن التعاناً» قلت: ما أحسنَ ما جُعِلَ الافتعال هنا بمعنى التفاعل، لأن المعنى لا يَجيء إلا على ذلك، وتفاعَلَ وافْتَعَلَ أخَوان في مواضع نحو: اجتَوَروا وتجاوروا، واشْتَوروا وتشاوروا، ولذلك صَحَّت واو اجتَوَر واشْتَوَر، وقوله: «وإن لم يكن التعاناً» يعني أنه اشتهر في اللغة: فلان يَبْتَهِل إلى الله في قضاءِ حاجته، ويبتهل في كشف كربته.
وقال الراغب: «أصل البَهْل: كونُ الشيءِ غيرَ مراعَ. والباهل: البعيرُ المُخَلَّى عن قَيْدِه أو عن سمةٍ، أو المُخَلَّى ضَرْعُها عن صِرار»، وأنشد لأمراة: «أتيتُكَ باهِلاً غيرَ ذاتِ صِرار»... وأَبْهَلْتُ فلاناً: خَلَّيْتُه وإرادتَه، تشبيهاً بالبعير الباهل، والبَهْل والابتِهال في الدعاء: الاسترسالُ فيه والتضرع نحو: «ثم نبتهلْ فنجعلْ»، ومنْ فَسَّر الابتهالَ باللَّعْن فلأجلِ أنَّ الاسترسالَ في هذا المكانِ لأجل اللعنِ، قال الشاعر:
١٣١٤ -..............................
نَظَرَ الدهرُ إليهم فابْتَهَلْ
قلت: هذا الشطرُ للبيد، وأول البيت:
227
١٣١٥ - مِنْ قُرومٍ سادةٍ في قومِهم
نَظَرَ الدهرُ إليهمْ فابْتَهَلْ
وظاهِرُ هذا أنَّ الابتهالَ عامٌّ في كلِّ دعاءٍ لَعناً كانَ أو غيرَه، ثم خُصَّ في هذه الآيةِ بِاللَّعْنِ.
وظاهِرُ عبارةِ الزمخشري أنَّ أصلَهُ خصوصيتُه باللَّعْنِ، ثم تُجُوِّزَ فيه فاستُعْمِلَ في اجتهادٍ في دعاءٍ لَعْناً كانَ أو غيرَه، والظاهِرُ من أقوالِ اللغويين ما ذكرَهُ الراغِبُ. وقال أبو بكر بن دريد في مقصورِته:
١٣١٦ - لم أَرَ كالمُزْنِ سَواماً بُهَّلا
تَحْسَبُهَا مَرْعِيَّةً وَهِي سُدى
بُهَّلاً: ج باهِلة أي: مهملة، وفاعِلة يُجْمع على فُعَّل نحو: ضُرَّب، والسُّدى: المهمل أيضاً.
وقوله: ﴿فَنَجْعَل﴾ هي المتعديةُ لاثنين بمعنى: نُصَيِّر، و «على الكاذبين» هو المفعول الثاني.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ القصص﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ «هو» فصلاً، والقصصُ خبر «إنَّ»، و «الحقُّ» صفتُهُ، ويجوزُ أنْ يكون «هو» مبتدأ و «القَصَصُ» خبرَه، والجملةُ خبرَ «إنَّ»، والإِشارةُ بهذا إلى ما تقدَّم ذكرُه من أخبارِ عيسى عليه السلام، وقيل: بل هو إشارةٌ لِما بعدَه وهو قولُه: ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله﴾. وضُعِّفَ هذا بوجهين، أحدُهما: أنَّ هذا ليس بقصص، والثاني:
228
أنه مقترنٌ بحرفِ العطفِ، وقد اعتذر بعضهم عن الأول فقال: إنْ أراد بالقصص الخبرَ فَيَصِحُّ على هذا، ويكون التقدير: إنَّ الخبر الحق أنه ما من إلا إلا الله، ولكن الاعتراض الثاني باقٍ لم يُجَبْ عنه.
والقَصَصُ: مصدرُ قولهم: قَصَّ فلان الحديثَ يَقُصَّه قَصَّاً وقَصَصَاً. وأصلُه: تتبُّعُ الأثرِ، يقال: «فلان خَرَجَ يَقُصُّ أثرَ فلان» أي: يَتْبعه ليعرفَ أين ذَهَبَ؟ ومنه قولُه تعالى: ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١] أي: اتِّبعي أثره وكذلك القاصُّ في الكلام لأنه يتتَّبع خبراً بعد خبر. وقد تقدَّم التنبيه على قراءتَيْ: «لَهْو» بسكون الهاء وضمِّها، إجراءً له مُجْرَى عَضُد.
قال الزمخشري: «فإنْ قلت لِمَ جاز دخول اللام على الفصل؟ قلت: إذا جاز دخولها على الخبر فدخولُها على الفصلِ أجوزُ، لأنها أقربُ إلى المبتدأ منه، وأصلُها أَنْ تدخُلَ على المبتدأ».
قوله: ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله﴾ يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن «من إله» مبتدأ، و «مِنْ» مزيدةٌ فيه، و «إلا اللهُ» خبره تقديره: ما إله إلا اللهُ، وزيدت «مِنْ» للاستغراق والعموم. قال الزمخشري: «ومِنْ في قوله ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله﴾ بمنزلةِ البناءِ على الفتح في» لا إله إلا اللهَ «في إفادةِ معنى الاستغراقِ» قلت: الاستغراقُ في «لا إله إلا اللهُ» لم نَسْتفِدْه من البناء على الفتحِ بل استفدناه من «مِنْ» المقدرة الدالة على الاستغراق، نصَّ النَّحْويون على ذلك، واستدلَّوا عليه بظهورها في قول الشاعر:
229
١٣١٧ - فقام يذودُ الناسَ عنها بسيفِه
فقال ألا لا مِنْ سبيلٍ إلى هندِ
والثاني: أن يكونَ الخبرُ مضمراً تقديرُه: وما من إلهٍ لنا إلا الله، و «إلا اللهُ» بدلٌ من مضع «من إله» لأن موضعَه رفعٌ بالابتداء، ولا يجوزُ في مثله الإِبدالُ من اللفظِ، لئلا يَلْزَمَ زيادةُ مِنْ في الواجب، وذلك لا يجوز عند الجمهور، ويجوز في مثل هذا التركيب نصبُ ما بعد «إلا» على الاستثناء، ولكنه لم يُقرأ به، إلا أنه جائز لغةً، تقول «لا إله إلا اللهُ» برفع الجلالة بدلاً من الموضع، ونصبِها على الاستثناء من الضميرِ المستكنِّ في الخبرِ المقدَّر، إذ التقديرُ: لا إله استقر لنا إلا الله.
وقوله: ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم﴾ كقوله: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ القصص﴾.
قوله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ :/ يجوزُ أَنْ يكونَ مضارعاً وحُذفت منه إحدى التاءين [تخفيفاً على حدّ] قراءة ﴿تَنَزَّلُ الملائكة﴾ [القدر: ٤] و «تَذَكَّرون» ويؤيِّد هذا نَسَقُ الكلامِ ونظمُه في خطاب مَنْ تقدم في قوله تعالى «تعالوا» ثم جرى معهم في الخطاب إلى أَنْ قال لهم: فإنْ تَوَلَّوا. وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ مستقبلاً تقديرُه: فإنْ تتولَّوا، ذكره النحاس وهو ضعيف؛ لأنَّ حرفَ المضارعة لا يُحْذَفُ» قلت: وهذا ليس بشيء؛ لأن حرف المضارعة يُحْذَفُ في هذا النحو من غير خلاف، وسيأتي من ذلك طائفةٌ كثيرة، وقد أجمعوا على الحذف في قوله: ﴿تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا﴾ [القدر: ٤]
230
ويجوز أن يكونَ ماضياً أي: فإن تَوَلَّى وفدُ نجران المطلوبُ مباهلتُهم، ويكون على ذلك في الكلام التفاتٌ، إذ فيه انتقال من خطابٍ إلى غيبة.
وقوله: ﴿بالمفسدين﴾ مِنْ وقوعِ الظاهرِ موقعَ المضمرِ تنبيهاً على العلة المقتضيةِ للجزاء، وكانَ الأصل: فإنَّ الله عليمٌ بكم، على الأول، وبهم، على الثاني.
قوله تعالى: ﴿إلى كَلِمَةٍ﴾ : متعلِّقٌ بتعالَوا فَذَكَرَ مفعول «تعالوا» بخلاف «تعالَوا» قبلَها فإنه لم يَذكُرْ مفعولَه، لأنَّ المقصودَ مجردُ الإِقبال، ويجوز أن يكونَ حَذْفُه للدلالةِ عليه تقديرُه: تعالوا إلى المباهلة.
وقرأ العامة «كَلِمة» بفتح الكاف وكسر اللام، وهو الأصل. وأبو السمَّال «كِلْمة» بزنة سِدْرة، وكَلْمة كضَرْبة، وتقدم هذا قريباً. و «كلمةٍ» مفسَّرةٌ بما بعدها من قوله: ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ﴾ فالمرادُ بها كلامٌ كثير، وهذا مِنْ بابِ إطلاق الجزء، والمرادُ به الكل، ومنه تسميتُهم القصيدةَ جمعاً: قافية، والقافية جزءٌ منها، قال:
١٣١٨ - أُعَلِّمه الرمايةَ كلَّ يومٍ
فلمَّا اشْتَدَّ ساعِدُه رماني
وكم عَلَّمْتُه نظمَ القوافي
فلمَّا قال قافيةً هجاني
ويقولون: «كلمةُ الشهادة» يَعْنُون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمةُ لبيد» يريد قوله:
231
١٣١٩ - ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ
وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ
وهذا كما يُسَمُّونَ الشيءَ بجزأيه في الأعيان لأنه المقصودُ منه، قالوا لربيبة القوم وهو الذي ينظر لهم ما يحتاجون إليه عَيْن، فأطلقوا عليه عيناً. وقال بعضهم: وَضِعَ المفرد موضعَ الجمع، كما قال:
١٣٢٠ - بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها
فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
وقيل: أُطلقت الكلمة على الكلمات لارتباطِ بعضِها ببعضٍ، فصارت في قوة الكلمةِ الواحدةِ، إذا اختلَّ جزءٌ منها اختلَّت الكلمة، لأن كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، هي كلماتٌ لا تتِمُّ النسبةُ المقصودةُ فيها مِنْ حَصْرِ الإِلهية في الله إلا بمجموعها.
وقرأ العامة: «سواءٍ» بالجر نعتاً لكلمة بمعنى عدل، ويَدُلُّ عليه قراءةُ عبد الله: «ِإلى كلمة عدل» وهذا تفسيرٌ لا قراءة. و «سواء» في الأصل مصدر، ففي الوصف التأويلاتُ الثلاثة المعروفةَ، ولذلك لم يُؤَنَّث كما لم يُؤَنَّث ب «امرأة عدل».
وقرأ الحسن: «سواء» بالنصبِ وفيها وجهان، أحدهما: نصبُها على المصدر، قال الزمخشري: «بمعنى استوت استواءً»، وكذا الحوفي. والثاني: أنه منصوبٌ على الحال، وجاءت الحالُ من النكرة، وقد نَصَّ سيبويه عليه واقتاسه، وكذا قال الشيخ، ولكنَّ المشهورَ غيرُه، والذي حَسَّن مجيئَها
232
من النكرةِ هنا كونُ الوصفِ بالمصدر على خلاف الأصل، والصفة والحال متلاقيان من حيث المعنى، وكأن الشيخ غَضَّ من تخريج الزمخشري والحوفي فقال: «والحالُ والصفة متلاقيان من حيث المعنى، والمصدرُ يحتاج إلى إضمار عامل وإلى تأويل» سواء «بمعنى استواء، والأشهرُ استعمال» سواء «بمعنى اسم الفاعل أي:» مُسْتَوٍ «قلت: وبذلك فَسَّرها ابن عباس فقال:» إلى كلمةٍ مستوية «.
قوله: ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ﴾ فيه ستةُ أوجه، أحدُها: أنه بدلٌ من» كلمة «بدلُ كلٍ من كل، الثاني: أنه بدلٌ من» سواء «، جَوَّزه أبو البقاء، وليس بواضح، لأنَّ المقصودَ إنما هو الموصوفُ لا صفتُه، فنسبةُ البدلية إلى الموصوف أولى.
وعلى الوجهين فإنَّ وما حيزها في محل جر. الثالث: أنه في محل رفع خبراً لمبتدأ مضمر، والجملة استئنافُ جوابٍ لسؤال مقدر، لأنه لما قيل: تعالَوا إلى كلمة «قال قائل: ما هي؟ فقيل: هي أَنْ لا نعبد، وعلى هذه الأوجهِ الثلاثة ف» بين «منصوبٌ بسواء ظرفٌ له أي: يقع الاستواء في هذه الجهةِ، وقد صرَّح بذلك زهير حيث قال:
١٣٢١ - أرُونا خطةً لا غيبَ فيها
يُسَوِّي بيننا فيها السَّواءُ
والوقفُ التام حينئذٍ عند قوله ﴿مِّن دُونِ الله﴾ لارتباطِ الكلام معنى وإعراباً. الرابع: أن تكونَ» أن «وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء، والخبرُ الظرفُ قبله.
الخامس: جَوَّز أبو البقاء أن يكونَ فاعلاً بالظرفِ قبلَه، وهذا إنما
233
يتأتى على رأي الأخفش، إذ لم يعتمدِ الظرفُ، وحينئذٍ يكون الوقفُ على» سواء «ثم يُبتدأ بقوله: ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ﴾ وهذا فيه بُعْدٌ من حيث المعنى ثم إنهم جَعَلوا هذه الجملةَ صفةً لكلمة، وهذا غلطٌ لعدم رابِطٍ بين الصفة والموصوفِ وتقديرُ العائد ليس بالسهل، وعلى هذا فقولُ أبي البقاء:» وقيل: تَمَّ الكلام على «سواء» ثم استأنف فقال: ﴿بيننا وبينكم أنْ لا نعبد﴾ أي بيننا وبينكم التوحيدُ، فعلى هذا يكون «أن لا نعبد» مبتدأ، والظرف خبرَه، والجملةُ صفةً للكلمة «/ غيرُ واضح، لأنه من حيث جَعَلَها صفةً كيف يحسن أن يقولَ: تَمَّ الكلام على» سواء «ثم استأنف، بل كان الصواب على هذا الإِعراب أن تكون الجملةُ استئنافيةً كما تقدم.
السادس: أن يكونَ» أن لا نعبد «مرفوعاً بالفاعلية بسواء، وإلى هذا ذهب الزماني فإنَّ التقدير عنده: إلى كلمةُ مُسْتَوفيها بيننا وبينكم عدمُ عبادة غير الله تعالى، قال الشيخ:» إلاَّ أنَّ فيه إضمارَ الرابط وهو «فيها» وهو ضعيف «.
قوله: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ﴾ قال أبو البقاء:» هو ماض ولا يجوز أن يكون التقدير: «فإن تتولوا» لفسادِ المعنى لأن قوله: ﴿فَقُولُواْ اشهدوا﴾ خطابٌ للمؤمنين وتتولَّوا «للمشركين، وعند ذلك لا يبقى في الكلام جوابُ الشرط والتقديرُ: فقولوا: لهم. وهذا الذي قاله ظاهرٌ جداً.
وقوله تعالى: ﴿لِمَ تُحَآجُّونَ﴾ : هي «ما» الاستفهامية دخل عليها حرفُ الجر فَحُذِفَت ألفها، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرة، واللامُ متعلقةٌ بما بعدَه، وتقديمُها على عامِلِها واجبٌ لجَرِّها ما له صدرُ الكلامِ. وقوله: ﴿في إِبْرَاهِيمَ﴾ لا بدُّ من مضافٍ محذوف أي: في دينِ إبراهيم وشريعته، لأنَّ الذواتِ لا مجادَلَةَ فيها.
234
وقوله: ﴿وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة﴾ الظاهرُ أنَّ الواوَ كهي في قوله: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [آل عمران: ٧٠] أي: كيف تُحاجُّون في شريعته والحالُ أن التوراةَ والإِنجيل متأخران عنه؟ وجَوَّزوا أن تكون عاطفةَ وليس بالبيِّن، وهذا الاستفهامُ للإِنكارِ والتعجب. وقولُه: ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِهِ﴾ متعلِّقٌ بأُنزلت، وهو استثناء مفرغ.
قوله تعالى: ﴿هاأنتم هؤلاء﴾ : الكلامُ على هذه الآيةِ فيه صعوبةٌ وإشكالٌ فيُحتاج من أجلِ ذلك إلى بَسْطٍ في العبارة، ولنبدأ أولاً بضبط قراءاتِها وتفسيرِ معناها، فإنَّ الإِعراب متوقف على ذلك، فأقولُ: القُرَّاء في ذلك على أربع مراتب، المرتبة الأولى للكوفيين، وابن عامر والبزي عن ابن كثير: «ها أنتم» بألف بعد الهاء وهمزةٍ مخففة بعدها. المرتبة الثانية لأبي عمرو وقالون عن نافع: بألف بعد الهاء وهمزةٍ مسهلة بينَ بينَ بعدها. المرتبة الثالثة لورش وله وجهان، أحدهما: بهمزة مسهلة بينَ بينَ بعد الهاء دونَ ألفٍ بينهما، الثاني: بألف صريحة بعد الهاء من غير همز بالكلية. المرتبة الرابعة: لقنبل بهمزةٍ محققة بعد الهاء دون ألف.
وأمَّا المعنى: فقال قتادة والسدي والربيع وجماعة كثيرة: إن الذي لهم به علم هو دينُهم الذي وجدوه في كتبهم وثبتَتْ صحتُه لديهم، والذي ليس لهم به علمٌ هو شريعةُ إبراهيم وما كان عليه مِمَّا ليس في كتبهم، ولا جاءَتْ به إليهم رسلُهم، ولا كانوا معاصِريه فَيَعْلَمُون دينه، فجدالُهم فيه مجردُ عنادٍ ومكابرة. وقيل: الذي لهم به علم أمر نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه موجودٌ عندهم في كتبِهم بنَعْتِه، والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم عليه
235
السلام. وقال الزمخشري: «يعني ها أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيانُ حماقتكم وقلةِ عقولكم أنكم جادلم فيما لكم به علمٌ مِمَّا نطق به التوراة والإِنجيل، فلِمَ تُحاجُّونَ فيما ليس لكم به علمٌ ولا نَطَق به كتابكم مِنْ دينِ إبراهيم؟».
واختلف الناسُ في هذه الهاءِ فمنهم مَنْ قال: إنها ها التي للتنبيه الداخلةِ على أسماء الإِشارة، وقد كَثُرَ الفصلُ بينها وبين أسماء الإِشارة بالضمائر المرفوعةِ المنفصلة نحو: ها أنت ذا قائماً، وها نحن وها هم هؤلاء قائمون، وقد تُعاد مع الإِشارة بعد دخولها على الضمائر توكيداً كهذه الآية، ويَقِلُّ الفصلُ بغير ذلك كقوله:
١٣٢٢ - تَعَلَّمَنْ هالعمرُ الله ذا قَسَماً
قاقدِرْ بذَرْعِك وانظرْ أينَ تنْسَلِكُ
وقال النابغة:
١٣٢٣ - ها إنَّ تا عِذْرَةٌ إن لا تكن نَفَعَتْ
فإنَّ صاحبَها قد تاهَ في البلد
ومنهِم مَنْ قال: إنها مبدلةٌ من همزةِ استفهام، والأصلُ: أأنتم، وهو استفهامُ إنكار، وقد كَثُر إبدال الهمزةِ هاءً وإن لم ينقس، قالوا: هَرَقْت وهَرَحْت وهَبَرْت، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء وأبي الحسن الأخفش وجماعة، واستحسنه أبو جعفر، وفيه نظرٌ من حيث إنه لم يثبت ذلك في همزة الاستفهام، لم يُسْمع منهم: هَتَضْرِبُ زيداً بمعنى: أتضرب زيداً. وإذا
236
لم يثبت ذلك فكيف يُحمل هذا عليه؟ هذا معنى ما اعترض به الشيخ على هؤلاء الأئمة، وإذا ثَبَتَ إبدال الهمزة هاءً هانَ الأمر، ولا نظرَ إلى كونِها همزةَ استفهام ولا غَيرها.
وهذا أعني كونَها همزةَ استفهام أُبدلت هاءَ ظاهرٌ على قراءة قنبل وورش لأنهما لا يُدْخِلان ألفاً بين الهاء وهمزة «أنتم» لأنَّ إِدخالَ الألف إنما كان لاستثقال توالي همزتين، فلمَّا أُبْدِلت الهمزةُ هاءً زال الثقل لفظاً، فلم يُحْتج إلى ألفٍ فاصلة، وقد جاءَ إبدالُ همزة الاستفهام هاءً قال:
١٣٢٤ - وأتَى صواحِبُها يَقُلْنَ: هذا الذي... مَنَحَ المودَة غيرَنا وجَفانا
يريد: أذا الذي. ويَضْعُفُ جَعْلُها على قراءتهما ها التي للتنبيه لأنه لم يُحْفظ حَذْفُ ألفها، لا يقال: «هذا زيد» بحذفِ ألف «ها» كذا قيل، قلت: وقد حَذَفَها ابن عامر في ثلاثة مواضع، إلا أنه ضم الهاء الباقية بعد حذف الألف، فقرأ في الوصل: ﴿ياأيه الساحر﴾ [الزخرف: ٤٩] و ﴿أَيُّهَ المؤمنون﴾ [الآية: ٣١] في النور و ﴿أَيُّهَ الثقلان﴾ [الآية: ٣١] في الرحمن، لكن إنما فَعَل ذلك إتباعاً للرسم لأنَّ الألف حُذِفَتْ في مرسوم مصحف الشام في هذه الثلاثة، وعلى الجملة فقد ثَبَت حَذْفُ ألف «ها» التي للتنبيه.
وأَمَّا مَنْ أثبت الألف بين الهاء وبين همزة «أنتم» فالظاهر أن «ها» للتنبيه،
237
ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ بدلاً من همزةِ الاستفهامِ لِما تقدَّم من أَنَّ الألف إنما تدخلُ لأجلِ الثقل، والثقل قد زال بإبدالِ الهمزة هاء. وقال بعضُهم: «الذي يقتضيه النظرُ أَنْ تكونَ» ها «في قراءة الكوفيين والبزي وابن ذكوان للتنبيه، لأنَّ الألفَ في قراءتِهم ثابتةٌ، وليس من مذهبهم أن يَفْصِلوا بين الهمزتين بألفٍ، وأن تكونَ في قراءة قنبل وورش مبدلةً من همزة، لأن قنبلاً يَقْرأ بهمزة بعد الهاء، ولو كانت» ها «للتنبيه لأتى بألف بعد الهاء، وإنما لم يُسَهِّل الهمزة كما سَهَّلها في» أأنذرتهم «ونحوِه لأن إبدال الأولى هاء أغناه عن ذلك، ولأن ورشاً فَعَل فيه ما فعل في» أأنذرتهم «ونحوه من تسهيلِ الهمزة وتَرْكِ إدخال الألف، وكأن الوجهَ في قراءتِه بالألف الحَمْلُ على البدلِ كالوجهِ الثاني في» أأنذرتهم «ونحوه.
ومَنْ عدا هؤلاء المذكورين وهم أبو عمرو وقالون وهشام يُحْتمل أَنْ تكونَ» ها «للتنبيه، وأَنْ تكونَ بدلاً من همزةِ الاستفهام، أمَّا الوجهُ الأول فلأن» ها «التنبيه دَخَلَتْ على» أنتم «، فحقق هشام الهمزةَ كما حَقَّقها في» هؤلاء «ونحوه، وخفَّفها قالون وأبو عمرو لتوسُّطها بدخول حرف التنبيه عليها، وتخفيفُ الهمزة المتوسطة قوي. وأمّا الوجهُ الثاني فأَنْ تكونَ الهاءُ بدلاً من همزةِ الاستفهام لأنهم يَفْصِلون بين الهمزتين بألف، فيكونُ أبو عمرو وقالون على أصلهما في إدخال الألف والتسهيل، وهشام على أصله في إدخال الألف والتحقيق، ولم يُقرأْ بالوجه الثاني وهو التسهيل، لأن إبدالَ الهمزة الأولى هاء مُغْنٍ عن ذلك.
وقال آخرون: «إنه يجوز أن تكون» ها «في قراءة الجميع مبدلةً من همزة، وأن تكون التي للتنبيه دخلت على» أنتم «، ذَكَرَ ذلك أبو علي الفارسي
238
والمهدوي ومكي في آخرين. فأمَّا احتمال هذين الوجهين في قراءة أبي عمرو وقالون عن نافع، وهشام عن ابن عامر فقد تقدَّم توجيهه وبيانه، وأمَّا احتمالُهما في قراءة غيرهم فأقول: أمَّا الكوفيون والبزي وابن ذكوان فقد تقدَّم توجيهُ كونِ» ها «عندهم للتنبيه، وأمَّا توجيهُ كونها بدلاً من الهمزة عندهم فأَنْ يكون الأصل: أأنتم فَفَصلوا بالألف على لغة من قال:
١٣٢٥ -......................
........ أاأنت أَمْ أُمُّ سالمِ
ولم يَعْبَؤوا بإبدال الهمزة الأولى هاءً، لكون البدل فيها عارضاً، وهؤلاء وإنْ لم يكن من مذهبهم الفصلُ، ولكنهم جمعوا بين اللغتين. وأما توجيهُ كون» ها «بدلاً من الهمزة في قراءة قنبل وورش فقد تقدم. وأما توجيه كونِها للتنبيه في قراءتهما وإنْ لم يكن فيها ألفٌ فأن تكون الألفُ حُذفت لكثرة الاستعمال. وعلى قولِ مَنْ أبْدل كورش حُذِفَت إحدى الألفين لالتقاء الساكنين.
وقال أبو شامة:» قلت: «الأَوْلى في هذه الكلمة على جميع القراءات فيها أن تكونَ» ها «للتنبيه، لأنَّا إنْ جعلناها بدلاً من همزة كانت تلك الهمزةُ همزةَ استفهام، و» ها أنتم «أينما جاءت في القرآن إنما جاءت للخبر لا للاستفهام، ولا مانع من ذلك إلا تسهيلُ مَنْ سَهَّل وحَذْفُ من حذف، أمَّا التسهيل، فقد سبق تشبيه بقوله: ﴿لأَعْنَتَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠] وشبهِه، أمَّا الحذفُ فيقول:»
239
ها «مثل:» أَما «كلاهما حرفُ تنبيه، وقد ثَبَتَ جوازُ حذفِ ألف» أما «فكذا حَذْفُ ألف» ها «وعلى ذلك قولُهم:» أمَ واللهِ لأفعلن «، وقد حمل البصريون قولَهم:» هَلُمَّ «على أنَّ الأصلَ:» هالمَّ «ثم حُذِفت ألفُ» ها «فكذا: ها أنتم». قلت: وهو كلامٌ حسن، إلا أنَّ قولَه: «إنَّ ها أنتم حيث جاءت كانت خبراً لا استفهاماً» ممنوعٌ، بل يجوزُ ذلك ويجوزُ الاستفهام. انتهى.
وذكر الفراء أيضاً هنا بحثاً بالنسبة إلى القصر والمد فقال: «مَنْ أثبتَ الألف في» ها «واعتقدها للتنبيه، وكانَ مِنْ مذهبه أن يَقْصُر في المنفصل فقياسُه هنا قَصْرُ الألف، حقق الهمزة أو سَهَّلها، وأمَّا مَنْ جعلها للتنبيه ومذهبهُ المدُّ في المنفصل أو جَعَلَ الهاءَ مبدلةً من همزة استفهام فقياسه أن يَمُدَّ، سواءً حقق الهمزة أو سَهََّلها». وأمَّا ورش فقد تقدَّم عنه وجهان: إبدالُ الهمزةِ من «أنتم» ألفاً وتسهيلُها بينَ بينَ، فإذا أَبْدل مدَّ، وإذا سَهَّل قَصَر. وهذا كافٍ فيما يتعلق بالقراءاتِ وتفريعاتِ مذاهب القرَّاء عليها، وقد تكلَّموا بأكثرَ من ذلك، ولكن ليس هذا موضعَه.
إذا عرفت جميع ما تقدم ففي إعراب هذه الآية أوجه، أحدها: أن «أنتم» مبتدأ و «هؤلاء» خبرُه، والجملةُ من قوله «حاججتم» جملةٌ مستأنفة مبينة للجملة الأولى، يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيانُ حماقِتكم وقلةِ عقولكم أنكم جادلتم فيما لكم به علم بما نَطَقَ به التوراة والإِنجيل، فلِمَ تُحاجون فيما ليس لكم به علم؟ ذكر ذلك الزمخشري.
الثاني: أن يكونَ «أنتم هؤلاء» مبتدأً وخبراً. والجملةُ من «حاجَجْتم»
240
في محلِّ نصبٍ على الحال. يَدُلُّ على ذلك تصريحُ العرب بإبقاء الحالِ موقعها في قولِهم: «ها أنا ذا قائماً»، ثم هذه الحالُ عندهم من الأحوالِ اللازمةِ التي لا يَسْتَغْنِي الكلامُ عنها/. الثالث: أَنْ يكونَ «أنتم هؤلاء على ما تقدم أيضاً، ولكن» هؤلاء «هنا موصولٌ لا يَتمُّ إلا بصفةٍ وعائدٍ، وهما الجملةُ مِنْ قوله:» حاجَجْتُم «ذَكَره الزمخشري، وهذا إنما يتجه عند الكوفيين، تقديرُه: ها أنتم الذين حاجَجْتُم. الرابع: أن يكونَ» أنتم «مبتدأ، و» حاججتم «خبرَه، و» هؤلاء «منادى، وهذا إنما يتجه عند الكوفيين أيضاً، لأنَّ حرف النداء لا يُحْذَفُ من أسماء الإِشارة، وأجازه الكوفيون وأنشدوا:
١٣٢٦ - إنَّ الأُولى وُصِفوا قومي لهم فبِهِمْ
هذا اعتصِمْ تَلْقَ مَنْ عاداكَ مَخذولا
يريد: يا هذا اعتصم، وقول الآخر:
١٣٢٧ - لا يَغُرَّنْكُمُ أولاءِ من القو
مِ جُنوحٌ للسِّلْمِ فَهْو خِداعُ
يريد: يا أولاء. الخامس: أَنْ يكونَ» هؤلاء «منصوباً على الاختصاص بإضمار فعل، و» أنتم «مبتدأً و» حاجَجْتم «خبرَه، وجملةُ الاختصاصِ معترضةٌ. السادس: أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: ها أنتم مثل هؤلاء، وتكونُ الجملةُ بعدَها مُبَيِّنَةً لوجهِ التشبيه أَوْ حالاً، السابع: أن يكون» أنتم «خبراً مقدماً، و» هؤلاء «مبتدأ مؤخراً. وهذه الأوجه السبعة قد تقدم ذِكرُها وذِكْرُ مَنْ نُسِبت إليه والردُّ على بعضِ القائلين ببعضِها بما يُغْني عن إعادتِه في سورة
241
البقرة عند قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة: ٨٥]، وإنما أعدْتُه تَذْكِرَةً به فعليك بالالتفات إليه.
قوله: ﴿فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ :» ما «يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، ولا يجوزُ أَنْ تكنَ مصدرية لعَوْدِ الضمير عليها، وهي حرفٌ عند الجمهور،» ولكم «يجوز أن يكونَ خبراً مقدماً، و» علم «مبتدأ مؤخر، والجملة صلة ل» ما «أو صفة، ويجوز أن يكون» لكم «وحده صلةً أو صفة، و» علم «فاعلٌ به، لأنه قد اعتمد، و» به «متعلقٌ بمحذوف لأنه حال من» علم «، إذ لو تأخَّر عنه لصَحَّ جَعْلُه نعتاً له، ولا يجوز أَنْ يتعلق بعِلْم لأنه مصدر، والمصدر لا يتقدَّم معمولُه عليه، فإنْ جَعَلْته متعلِّقاً بمحذوفٍ يفسِّره المصدر جاز ذلك وسُمِّي بياناً.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً﴾ : بدأ باليهود لأن شريعتهم أقدمُ، وكَرَّر «لا» في قوله ﴿وَلاَ نَصْرَانِيّاً﴾ توكيداً وبياناً أنه كان مُنْتَفِياً عن كل واحد من الدينين على حدته.
وقوله: ﴿وَلَكِن﴾ استدراك لِما كان عليه، ووقعت هنا أحسنَ موقع، إذ هي بين نقيضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل، ولَمَّا كان الخطابُ مع اليهود والنصارى أتى بجملةِ نفي أخرى ليدُلَّ على أنه لم يكن على دينِ أحدٍ من المشركين كالعربِ عبدةِ الأوثان والمجوس عبدة الأوثان، والصابئة عبدةِ الكواكب، وبهذا يُطْرَحُ سؤالُ مَنْ قال: أيُّ فائدة في قوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ بعد قولِه «ما كان يهودياً ولا نصرانياً» ؟ وأتى بخبر «كان» مجموعاً فقال: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ لكونِه فاصلة، ولولا مراعاةُ ذلك لكانت المطابقةُ مطلوبةً بينه وبين ما استدرك عنه في قولِه: ﴿يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً﴾ فيتناسبُ النفيان.
قوله تعالى: ﴿بِإِبْرَاهِيمَ﴾ : متعلِّقٌ ب «أَوْلى»، وأولى: أفعلُ تفضيل من الوَلْي وهو القُرْب، والمعنى: أن أقربَ الناس به وأخصَّهم، فألفُه منقلبةٌ من ياء، لكونِ فائه واواً. قال أبو البقاء: «إذ ليس في الكلامِ ما لامُه وفاؤه واوان، إلا» واو «يعني اسم حرف التهجي، كالوسط من» قول «، أو اسم حرف المعنى كواو النسق، ولأهلِ التصريفِ خلافٌ من عينِه: هل هي واو أيضاً أو ياءٌ؟ وقد تَعَرَّضْتُ لها بدلائِلها في» شرح التسهيل «.
و» لَلَّذين اتَّبعوه «خبرُ» إنَّ «، و» هذا النبي «نَسَقٌ على الموصول، وكذلك و» الذين آمنوا «، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون رضي الله عنهم وإنْ كانوا داخلين فيمَنْ اتَّبع إبراهيم، إلا أَنَّهم خُصُّوا بالذكر تشريفاً وتكريماً، فهو من باب ﴿وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨].
وحكى الزمخشري أنه قرىء:» وهذا النبيِّ «بالنصب والجر، فالنصبُ نسق على مفعول» اتبعوه «فيكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد اتَّبعه غيرُه كما اتبع إبراهيم، والتقدير: للذين اتبعوا إبراهيم وهذا النبيُّ: ويكون قوله:» والذين آمنوا «نسقاً على قوله:» للَّذين اتبعوه «. والجر نسقٌ على» إبراهيم «، أي: إن أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي للذين اتبعوه، وفيه نظرٌ من حيث إنه كان ينبغي أَنْ يُثَنَّى الضمير في» اتبعوه «فيقال: اتبعوهما، اللهم إلا أن يقال: هو من باب ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢].
قوله تعالى: ﴿وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾ :﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾ فيه وجهان: أحدهما: أنها تبعيضية وهو الظاهر. والثاني: أنها لبيان الجنس، قاله ابن عطية، ويعني أن المرادَ بطائفة جميعُ أهل الكتاب. قال الشيخ: «وهو بعيدٌ من دلالة اللفظ». وهذا الجارُّ على القول/ بكونها تبعيضيةً في محلِّ رفع صفةً لطائفة، وعلى القول بكونها بيانية يتعلَّق بمحذوف، و «لو» تقدم أنه يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكونَ على بابِها من كونها حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره.
وقال أبو مسلم الأصبهاني: «وَدَّ بمعنى تمنى، فيستعمل معها» لو «و» أن «وربما جُمِع بينهما، فيقال: وَدِدْت أن لو فعلت، ومصدره الوَدادة، والاسم منه وُدٌّ، وبمعنى أحَبَّ فيتعدى تعدِّيَ أَحَب، والمصدر: المَوَدَّة، والاسم منه وَدّ، وقد يتداخلان في المصدر والاسم». وقال الراغب: «إذا كان بمعنى» أَحَبَّ «لا يجوزُ إدخال» لو «فيه أبداً». وقال الرماني: «إذا كان وَدَّ بمعنى تمنى صَلَح للحال والاستقبال، وتجوز» لو «، وإذا كان بمعنى الماضي لم تجز» أَنْ «لأنْ» أَنْ «للاستقبال» وفيه نظر، لأنَّ «أنَّ» توصل بالماضي.
قوله تعالى: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ﴾ : قرأ العامة بكسر الباء من لَبَس عليه يَلْبِسُه أي خلطه. وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها جعله من لَبِسْت الثوب أَلْبَسُه على جهة المجاز، وقرأ أبو مجلز: «تُلبِّسُون» بضم التاءِ وكسر الباء وتشديدها من لَبَّس بالتشديد ومعناه التكثير. والباء في «بالباطل» للحال أي: ملتسباً بالباطل.
244
قوله: ﴿وَتَكْتُمُونَ الحق﴾ جملةٌ مستأنفة، ولذلك لم يَنْتَصِبْ بإضمار أَنْ في جواب الاستفهام، وقد أجاز الزجاج من البصريين، والفراء من الكوفيين فيه النصبَ من حيث العربيةُ، فتسقطُ النون، فينتصِبُ على الصرف عند الكوفيين، وبإضمار أَنْ عند البصريين، وقد مَنَع ذلك أبو علي الفارسي وأَنْكره، وقال: «الاستفهامُ واقعٌ على اللَّبْسِ فَحَسْب، وأما» تكتمُون «فخبرٌ حتم لا يجوز فيه إلا الرفعُ»، يعني أنه ليس معطوفاً على «تَلْبِسون» بل هو استئناف، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق. ونقل أبو محمد بن عطية عن أبي عليّ أنه قال أيضاً: «الصرف ههنا يَقْبُح، وكذلك إضمارُ» أَنْ «، لأن» يكتمون «معطوف على موجب مقدر وليس بمستفهم عنه، وإنما استَفْهم عن السبب في اللبس، واللَّبْس موجب، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم:» لا تأكلِ السمكَ وتَشْرَب اللبن «وبمنزلةِ قولك:» أتقومُ فأقومَ «والعطفُ على الموجب المقرَّر قبيح متى نُصِب، إلا في ضرورةِ شعر كما رُوِي:
١٣٢٨ -............................
وأَلْحَقُ بالحجازِ فاستريحا
وقد قال سيبويه في قولك:» أَسِرْتَ حتى تَدخُلَها؟ «لا يجوز إلا النصبُ في» تدخل «لأن السير مُسْتَفْهَمٌ عنه غيرُ موجَبٍ»، وإذا قلنا: «أيُّهم سار حتى يدخُلها؟ رَفَعْتَ لأن السيرَ موجب والاستفهامُ إنما وقع عن غيره».
245
قال الشيخ: وظاهرُ هذا النقلِ عنه معارضتُه لِما نُقل عنه قبله، لأنَّ ما قبلَه فيه أنَّ الاستفهامَ وَقَعَ عن اللَّبْسِ فحسب، وأمَّا «يكتُمون» فخبر حتم لا يجوزُ فيه إلا الرفع، وفيما نقله ابن عطية أنَّ «يكتمون» معطوفٌ على موجبٍ مقدَّرٍ وليس بمستفهم عنه، فيدُلُّ العطف على اشتراكهما في الاستفهامِ عن سبب اللَّبْس وسبب الكتم الموجبين، وفَرْقٌ بين هذا المعنى وبين أن يكون «يكتمون» إخباراً مَحْضاً لم يشترك مع اللَّبْس في السؤال عن السبب، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو عليّ من أنَّ الاستفهامَ إذا تَضَمَّن وقوعَ الفعلِ لا ينتصب الفعلُ بإضمار «أَنْ» في جوابه تبعه في ذلك جمال الدين بن مالك، فقال في «تسهيلِه» :«أو لاستفهامٍ لا يتضمَّنُ وقوعَ الفعل» فإنْ تضمَّن وقوعَ الفعل امتنع النصبُ عندَه نحو: «لِمَ ضربْتَ زيداً فيجاريك» لأنَّ الضربَ قد وقع.
ولم يَشْتَرط غيرُهما من النحويين ذلك، بل إذا تعذَّر سَبْكُ المصدرِ مما قبله: إمَّا لعدم تقدُّمِ فعلٍ، وإمَّا لاستحالةِ سَبْكِ المصدرِ المرادِ به الاستقبالُ لأجلِ مُضِيٍِّ الفعل فإنما يُقَدَّر مصدرٌ مُقَدَّرٌ استقبالُه بما يَدُلُّ عليه المعنى، فإذا قلت: لِمَ ضربْتَ زيداً [فأضربك] فالتقديرُ: ليكنْ منك إعلامٌ بضرب زيد فمجازاةٌ منا. وأمَّا ما رَدَّ به أبو علي الفارسي على الزجاج والفراء فليس بلازم، لأنه قد منع أن يُراد بالفعل المضيُّ، إذ ليس نصاً في ذلك، إذ قد يمكن الاستقبال لتحقُّق صدورهِ لا سيَّما على الشخصِ الذي صَدَرَ منه أمثالُ ذلك، وعلى تقدير تحقُّق المُضِيّ فلا يَلْزَمُ الزجاجَ أيضاً، لأنه كما تقدَّم: إذا لم يمكن
246
سبك مصدرٌ مستقبلٌ من الجملةِ الاستفهاميةِ سَبَكْناه مِنْ لازِمها، ويَدُلُّ على إلغاء هذا الشرطِ والتأويلِ بما ذكرناه ما حكاه ابن كيسان مِنْ نصب المضارع بعد فعلٍ ماض محققِ الوقوعِ مستفهم عنه نحو: أين ذهب زيد فنتبعَه؟ ومن أبوك فنكرمَه؟ وكم مالُك فنعرفَه؟ كلُّ ذلك متأوَّلٌ بما ذكرت من انسباك المصدرِ المستقبلِ من لازمِ الجملِ المتقدمة فإنَّ التقدير: ليكنْ منك إعلامٌ بذهابِ زيد فاتِّباعٌ منا، وليكن منك إعلامٌ بأبيك فإكرامُ له منا، وليكن منك تعريفٌ بقَدْرِ مالك فمعرفةُ منا «وهذا البحث الطويل على تقدير شيء لم يقع، فإنه لم يُقرأ لا في الشاذ ولا في غيرِه إلا ثابت النون، ولكن للعلماء غرضٌ في تطويل البحث تنقيحاً للذهن.
ووراءَ هذا قراءةٌ مُشْكلةَ رَوَوها عن عبيد بن عمير وهي» لِمَ تَلْبِسوا وتكتُموا «بحذف النون من الفعلين، وهي قراءةٌ لا تبعد عن الغلط البَحْت، كأنه تَوَهَّمَ أنَّ» لِمَ «هي» لم «الجازمة فَجَزَمَ بها/ وقد نقل المفسرون عن بعض النحاة هنا أنهم يَجْزِمون ب» لِمَ «حملاً على لَمْ، نقل ذلك السجاوندي وغيرُه عنهم، ولا أظنُّ نحوياً يقول ذلك البتة، كيف يقول في جارٍ ومجرورٍ إنه يجزم!! هذا ما لا يتَفَوَّه به البتة ولا يَطيق سماعَه، فإن يَثْبُتْ هذا قراءةً ولا بد فليكُنْ مِمَّا حُذِفَ فيه نون الرفع تخفيفاً حيث لا مقتضى لحَذْفِها، ومن ذلك قِراءةُ بعضهم: ﴿قَالُواْ ساحران تَظَّاهَرَا﴾ [القصص: ٤٨] بتشديدِ الظاءِ، والأصلُ: تتظاهران، فَأَدْغَمَ التاءَ في الظاء وحَذَفَ النون تخفيفاً، وفي الحديث:» والذي نفسي بيده لا تَدخُلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولا تُؤمِنوا حتى تَحابُّوا «يريد عليه السلام:
247
لاتخلون ولا تؤمنون، لاستحالة النهي معنى، وقال الشاعر:
١٣٢٩ - أَبِيتُ أَسْرِي وتبيتي تَدْلُكِي
وجَهكِ بالعنبرِ والمِسْكِ الذَّكي
يريد: تبيتين وتدلكين، ومثلُه قولُ أبي طالب:
١٣٣٠ - فإن يَكُ قومٌ سَرَّهُمْ ما صَنَعْتُمُ
سَتَحْتَلِبُوها لاقِحاً غيرَ باهِلِ
يريد: فستحتلبونها، ولا يجوزُ أن يُتَوَهَّم في هذا البيت أن يكونَ حَذَفَ النونَ لأجلِ جواب الشرط، لأنَّ الفاءَ مرادةٌ وجوباً، لعدمِ صلاحية» ستحتلبوهَا «جواباً لاقترانِهِ بحرف التنفيس.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملةٌ حالية، ومتعلَّقُ العلمِ محذوفٍ: إمَّا اقتصاراً وإما اختصاراً، أي: وأنتم تعلمونَ الحقَّ من الباطل أو نبوَّة محمدٍ ونحوُ ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَجْهَ النهار﴾ : منصوبٌ على الظرفِ لأنه بمعنى أول النهار، قال الربيع بن زياد العبسي:
١٣٣١ - مَنْ كان مسروراً بمقتلِ مالكٍ
فَلْيَأْتِ نسوتَنا بوجهِ نهارِ
أي بأوله. وفي ناصبِ هذا الظرفِ وجهان، أحدُهما: وهو الظاهرُ أنهُ فعلُ الأمرِ مِنْ قولِهِ: «آمِنوا» ِأي: أَوْقِعوا إيمانَكم في أول النهار، وأوقعوا
248
كُفْرَكم في آخره. الثاني: أنه «أُنْزل» أي: آمنوا بالمُنَزَّل في أول النهار، وليس ذلك بظاهرٍ بدليلِ المقابلةِ في قولِهِ: ﴿واكفروا آخِرَهُ﴾ فإنَّ الضميرَ يعودُ على النهارِ، ومَنْ جَوَّزَ الوجهَ الثاني جَعَلَ الضميرَ يعودُ على الذي أُنْزِلَ، أي: واكفروا آخر المُنَزَّل، وأسبابُ النزولِ تخالف هذا التأويل.
وفي هذا البيت الذي أنشدته فائدةُ رأيت ذِكْرَها، وذلك أنه من قصيدةٍ يرثي بها مالك بن زهير بن حريمة العبسي وبعده:
يَجِدَ النساءَ حواسراً يَنْدُبْنَهُ
يَلْطِمْنَ أوجُهَهُنَّ بالأسحارِ
قَدْ كُنَّ يَخْبَأْنَ الوجوهَ تَسَتُّراً
فاليومَ حين بَدَوْنَ للنُّظَّارِ
ومعنى الأبياتِ يَحْتاجُ إلى معرفةِ اصطلاحِ العربِ في ذلك، وهو أَنَّهُمْ كانوا إذا قُتِلَ لهم قتيلٌ لا تقوم عليه نائِحَةٌ ولا تَنْدُبُهُ نادبةٌ حتى يُؤْخَذَ بثأره، فقال هذا: مَنْ سَرَّة قَتْلُ مالكٍ فَلْيَأْتِ في أولِ النهار يَجِدْنَا قد أَخَذْنَا بثأرِهِ، فَذَكَر اللازم للشيء، فهو من بابِ الكناية.
ويُحْكَى أنَّ الشيباني سأل الأصمعيَّ: كيف تُنْشِدُ قولَ الربيع: حين بَدَأْنَ أو بَدَيْن؟ فردَّدَهُ بين الهمزة والياء. فقال الأصمعي: بَدَأْنَ، فقال: أخطأت، فقال: بَدَيْنَ، فقال: أخطأت فغضِبَ لها الأصمعي، وكان الصوابُ أن يقولَ: بَدَوْنَ بالواو، لأنه من بدا يبدو، أي: ظهر. فأتى الأصمعي يوماً للشيباني فقال له: كيف تُصَغِّرُ مختاراً؟ فقال: أقول مُخَيْتير، فضحك منه وصَفَّق بيديه وشَنَّع عليه في حَلَقته، وكان الصوابُ أن يقول: مُخَيِّر بتشديد الياء، وذلك أنه اجتمع زائدان: الميم والتاء، والميمُ أَوْلى بالبقاء لعلة ذكرها التصريفيون، فَأَبْقاها، وحَذَفَ التاءَ، وأتى بياءِ التصغير
249
فَقَلَبَ لأجلها الألفَ ياءً، وأَدْغَمها فيها، فصارَ «مُخَيِّراً» كما تَرَى، وهو يحتمل أن يكونَ اسمَ فاعل أو اسمَ مفعولٍ كما كان يحتملهما مُكَبَّرُه، وهذا أيضاً يُلْبَسً باسمِ فاعل خَيَّر يُخَيِّر فهو مُخيِّر، والقرائِنُ تُبيِّنُهُ.
ومفعول «يَرْجِعُون» محذوفٌ أيضاً اقتصاراً أي: لعلهم يكونون مِنْ أهلِ الرجوع، أو اختصاراً أي: يَرْجِعُونَ إلى دينكم وما أنتم عليه.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ لِمَن تَبِعَ﴾ : في هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها زائدةٌ مؤكدةٌ، كهي في قوله تعالى: ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢] أي: رَدِفَكم، وقول الآخر:
١٣٣٢ - فَلَمَّا أَنْ تواقَفْنَا قليلاً
أَنَخْنا للكلاكِلِ فارتَمَيْنَا
وقول الآخر:
١٣٣٣ - ما كنتُ أخدَعُ للخليلِ بخُلَّةٍ
حتى يكونَ لِيَ الخليلُ خَدُوعا
أي: أَنَخْنَا الكلاكل، وأَخْدَعُ الخليلَ، ومثلُه:
١٣٣٤ - يَذُمُّونَ للدنيا وهم يَرْضِعُونَها
أَفاويقَ حتى ما يَدِرُّ لها ثَعْلُ
يريد: يَذُمُّون الدنيا، ويروي «بالدنيا» بالباء، وأظن البيت: «يَذُمُّونَ لي
250
الدنيا» فاشتَبَه اللفظُ على السامعِ، وكذا رأيتُه في بعضِ التفاسيرِ، وهذا ليس بقويٍ.
والثاني: أنَّ «أَمِنَ» ضُمِّنَ معنى أَقَرَّ واعترَفَ، فَعُدِّي باللام أي: ولا تُقِرُّوا ولا تَعْتَرِفوا إلا لِمَنْ تَبعَ دينكم، ونحوُه: ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى﴾ [يونس: ٨٣] ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾ [يوسف: ١٧]. وقال أبو علي: «وقد تعدَّى» آمَن «باللام في قولِهِ: ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى﴾﴿آمَنتُمْ لَهُ﴾ [طه: ٧١] ﴿يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ٦١] فذَكَرَ أنه يتعدَّى بها من غيرِ تضمين. / والصوابُ ما قَدَّمْتُه من التضمينِ، وقد حَقَقْتُ هذا أولَ البقرة.
وهذا اسثناءٌ مفرغ، وقال أبو البقاء:» إلاَّ لِمَنْ تَبع «فيه وجهان، أحدُهما: أنه استثناءٌ مِمَّا قبلَه، والتقديرُ: ولا تُقِرُّوا إلا لِمَنْ تَبع» فعلى هذا اللامُ غيرُ زائدةٍ، ويجوزُ أَنْ تكونَ زائدةً، ويكون محمولاً على المعنى أي: اجْحَدُوا كلَّ أحدٍ مَنْ تَبعَ، والثاني: أنَّ النيةَ به التأخيرُ والتقديرُ: ولا تُصَدِّقوا أنْ يؤتَى أحَدٌ مثلَ ما أُوتيتم إلا مَنْ تَبع دينَكم، فاللامُ على هذا زائدَةٌ، و «مَنْ» في موضِعِ نصبٍ على الاستثناء من «أحد».
وقال الفارسي: «الإِيمانُ لا يتعدَّى إلى مفعولين فلا يتعلَّقُ أيضاً بجارَّيْن، وقد تُعَلَّق بالجارّ المحذوفِ مِنْ قولِهِ: ﴿أَن يؤتى﴾ فلا يتعلَّقُ باللامِ في قوله: ﴿لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ إلا أَنْ يُحمل الإِيمانُ على معناه، فيتعدَّى إلى
251
مفعولين، ويكونُ المعنى:» ولا تُقِرُّوا بأَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم إلا لمَنْ تَبعَ دينكم كما تقولُ: أَقْرَرَتُ لزيدٍ بألف، فتكونُ اللامُ متعلقةً بالمعنى، ولا تكونُ زائدةً على حدِّ ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢] ﴿إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣]. قلت: فهذا تصريحٌ من أبي علي بأنه ضُمِّنَ آمَنَ معنى أَقَرَّ.
قوله: ﴿أَن يؤتى أَحَدٌ﴾ اعلم أنَّ في هذه الآية كلاماً كثيراً لا بد من إيرادِهِ عن قائليهِ ليتضحَ ذلك، فأقولُ وباللهِ العون: اختلفَ الناس في هذه الآيةِ على [وجوهٍ:] أحدُها: أنْ يكونَ ﴿أَن يؤتى أَحَدٌ﴾ متعلِّقاً بقوله: ﴿وَلاَ تؤمنوا﴾ على حذف حرفِ الجر، والأصلُ: «ولاتؤمنوا بأَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لِمَنْ تَبعَ دينَكم» فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجَرِّ جرى الخلاف المشهورُ بين الخليل وسيبويه في محل «أَنْ»، ويكونُ قولُهُ: ﴿قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ جملةً اعتراضيةً، قال الزمخشري في تقريرِ هذا الوجهِ وبه بدأ: «ولا تُؤْمِنُوا متعلِّقٌ بقولِهِ:» أَنْ يُؤْتَى أحد «، وما بينهما اعتراضٌ أي:» ولا تُظْهِرُوا إيمانكم بأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دونَ غيرِهم، أرادوا: أسِرُّوا تصديقَكم بأنَّ المسلمين قد أُوتوا مثلَ ما أوتيتم ولا تُفْشُوه إلا لأشياعِكم وحدَهم دونَ المسلمين، لئلا يَزيدَهم ثباتاً، ودونَ المشركين لئلا يَدْعُوهم إلى الإِسلام، أو يُحاجُّوكم عطفٌ على «أَنْ يُؤْتَى».
والضميرُ في «يُحاجُّوكم» لأحد لأنه في معنى الجميع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، فإن المسلمين يُحاجُّوكم عند ربكم بالحق، ويغالِبونُكم عند الله. فإنْ قلت: ما معنى الاعتراض؟ قلت: معناه أن الهدى هدى الله، مَنْ شاءَ أَنْ يلطف به حتى يُسْلِمَ أو يَزيدَ ثباتاً كان ذلك، ولم ينفع كَيْدُكم وحِيَلُكُم
252
وزيُّكُم تصديقكم عن المسلمين والكافرين، وكذلك قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ﴾ يريد الهدايةَ والتوفيق «. قلت: هذا كلامٌ حسن لولا ما يريد بباطنه، وعلى هذا يكونُ قولُه ﴿إِلاَّ لِمَن تَبِعَ﴾ مستثنًى من شيءٍ محذوف، تقديره: ولا تُؤمِنُوا بأَنْ يُؤْتَى أحد مثلَ ما أوتيتم لأحدٍ من الناسِ إلا لأشياعكم دونَ غيرهم، وتكونَ هذه الجملةُ أعني قولَه: ولا تُؤْمِنُوا إلى آخرها، من كلامِ الطائفةِ المتقدِّمة، أي: وقالَتْ طائفةٌ كذا، وقالَتْ أيضاً: ولا تُؤمِنُوا، وتكونُ الجملةُ من قولِهِ: ﴿قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ مِنْ كلام اللهِ لا غير.
الثاني: أنَّ اللامَ زائدةٌ في» لِمَنْ تَبعَ «وهو مستثنى من أحد المتأخر، والتقديرُ: ولا تُصَدِّقوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا مَنْ تبع دينكم، فَمَنْ تَبعَ منصوبٌ على الاستثناء من» أحد «، وعلى هذا الوجه جَوَّز أبو البقاء في محل» أن يؤتى «ثلاثة أوجهٍ: الأول والثاني مذهبُ الخليل وسيبويه وقد تقدَّما. الثالث: النصبُ على المفعولِ مِنْ أجله تقديرُهُ: مخافَةَ أَنْ يُؤْتَى.
وهذا الوجهُ الثاني لا يَصِحُّ من جهةِ المعنى ولا مِنْ جهةِ الصناعة: أمَّا المعنى فواضحٌ، وأَمَّا الصناعةُ فلأن فيه تقديمَ المستثنى على المستثنى منه وعلى عامله، وفيه أيضاً تقديمُ ما في صلةِ» أَنْ «عليها، وهو غيرُ جائز.
الثالث: أَنْ يكونَ» أَنْ يُؤْتَى «مجروراً بحرفِ العلة وهو اللام، والمُعَلَّلُ محذوفٌ تقديرُه: لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرتموه، لا لشيء آخرَ، وعلى هذا يكونُ كلامُ الطائفةِ قد تَمَّ عند قوله ﴿إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾، ولنوضَّحْ هذا الوجه بما قاله الزمخشري. قال رحمه الله:» أو تمَّ الكلامُ عند قوله: ﴿إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾، على معنى: ولا تُؤمِنُوا هذا الإِيمانَ الظاهرَ
253
وهو إيمانهم وجهَ النهار إلا لِمَنْ تَبعَ دينكم، إلا لِمَنْ كانوا تابِعين لديِنكم مِمَّنْ أسلموا منكم، لأنَّ رجوعَهم كانَ أَرْجَى عندهم مِنْ رُجُوعِ مَنْ سِواهم، ولأنَّ إسلامَهم كان أغيظَ لهم، وقوله: ﴿أَن يؤتى أَحَدٌ﴾ معناه: لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرْتموه لا لشيء آخر، يَعْني أن ما بكم من الحسد والبغي أَنْ يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قُلْتُم ما قلتم، والدليلُ عليه قراءة ابن كثير: «أَأَن يُؤْتَى أحد» بزيادةِ همزةِ الاستفهام للتقرير والتوبيخ بمعنى: ألأنْ يُؤْتَى أحدٌ؟ فإن قلت: فما معنى قوله «أو يُحاجُّوكم» على هذا؟ قلت: معناه دَبَّرْتُم ما دَبَّرْتُم لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلُ ما أُوتيتم ولِمَا يتصلُ به عند كُفْرِكُم به مِنْ مُحَاجَّتِهم لكم عند رَبِّكم «.
الرابع: أن ينتصِبَ «أَنْ يُؤْتَى بفعلٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه ﴿وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ كأنه قِيل: قل إنَّ الهدى هُدى الله فلا تُنْكروا أَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم، فلا تُنْكِرُوا ناصبٌ لأنْ وما في حَيِّزها، لأنَّ قولَه ﴿وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ إنكار لأن يُؤْتَى أحد مثلَ ما أُوتوا. قال الشيخ:» وهذا بعيدٌ لأنَّ فيه حذفَ حرفِ النهي وحَذْفَ معمولِهِ، ولم يُحْفَظْ ذلك من لسانِهم «قلت: متى دَلَّ على العامل دليلٌ جاز حَذْفُه على أيِّ حالةٍ كان.
الخامس: أَنْ يكونَ» هدى الله «بدلاً من» الهدى «الذي هو اسمُ إنَّ، ويكون خبرُ إنَّ: ﴿أَن يؤتى أَحَدٌ﴾، والتقديرُ: قل إنَّ هدى الله أَنْ يُؤْتى أحدٌ، أي: إنَّ هدَى اللهِ إيتاءُ أحدٍ مثلَ ما أوتيتم، وتكونَ» أو «بمعنى» حتى «، والمعنى: حتى يُحاجُّوكم عند ربكم فيغلبوكم ويَدْحَضُوا حُجَّتكم عند الله، ولا يكون» أَوْ يُحاجُّوكم «معطوفاً على أَنْ يُؤتى وداخلاً في حَيِّزِ أَنْ.
السادس: أَنْ يكونَ» أَنْ يُؤْتَى «بَدَلاً مِنْ هدى الله، ويكون المعنى: قل
254
إنَّ الهدى هدى الله وهو أَنْ يُؤْتَى أحدٌ كالذي جاءنا نحن، ويكونُ قولُه:» أو/ يُحاجُّوكم «بمعنى أو فليحاجوكم فإنهم يَغْلبونكم، قاله ابن عطية، وفيه نظرٌ، لأنه يُؤَدِّي إلى حَذْفِ حرفِ النهيِ وإبقاءِ عملِهِ.
السابع: أَنْ تكونَ» لا «النافيةُ مقدرةً قبل» أَنْ يؤتى «فَحُذِفَتْ لدلالةِ الكلام عليها وتكونُ» أو «بمعنى إلاَّ أَنْ، والتقديرُ: ولا تؤمنوا لأحدٍ بشيء إلاَّ لِمَنْ تَبع دينكم بانتفاءِ أن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا مَنْ تبع دينكم، وجاء بمثله وعاضداً له، فإنَّ ذلك لا يُؤْتاه غيرُكم إلاَّ أنْ يُحاجُّوكم كقولِك: لألْزَمنَّك أو تقضيَني حقي، وفيه ضعفٌ من حيث حَذْفُ» لا «النافية، وما ذكروه من دلالةِ الكلامِ عليها غيرُ ظاهرٍ.
الثامن: أَنْ يكونَ «أَنْ يُؤْتى» مفعولاً من أجله، وتحريرُ هذا القولِ أَنْ تجعلَ قولَه: ﴿أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ﴾ ليس داخلاً تحتَ قولِه «قل» بل هو من تمامِ قول الطائفةِ متصلٌ بقولِه: ولا تُؤمِنُوا إلا لِمَنْ جاءَ بمثلِ دينِكم مخافَةَ أَنْ يُؤْتى أحدٌ من النبوةِ والكرامة مثلَ ما أوتيتم، ومخافَةَ أَنْ يُحاجُّوكُم بتصديقِكُم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه. وهذا القولُ منهم ثمرة حسدهم وكفرهم مع معرفتهم بنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولَمَّا قَدَّر المبرد المفعولَ من أجله هنا قَدَّر المضاف: كراهَة أن يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، أي: مِمَّن خالَفَ دينَ الإِسلام، لأن الله لا يَهْدِي مَنْ هو كاذب وكَفَّار، فهُدى الله بعيدٌ مِنْ غيرِ المؤمنين، والخطابُ في «أوتيتم» و «يُحاجُّوكم» لأمةِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
واستضعف بعضُهم هذا وقال: كونُ مفعولاً من أجله على تقدير: «كراهةَ» يَحْتاج إلى تقديرِ عاملٍ فيه ويَصْعُبُ بتقديرُهُ، إذ قبلَه جملةٌ لا يظهرُ تعليلُ النسبةِ فيها بكراهةِ الإِيتاء المذكور.
255
التاسع: أنَّ «أَنْ» المفتوحَةَ تأتي للنفي كما تأتي «لا» نَقَل ذلك بعضُهم نصاً عن الفراء، وجَعَل «أو» بمعنى إلا، والتقدير: لا يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلاَّ أَنْ يُحاجُّوكُم، فإنَّ إيتاءَه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم أو مُحاجَّتِكُم عند ربكم، لأنَّ مَنْ آتاه اللهُ الوحيَ لا بد أن يُحاجَّهم عند ربهم في كونِهم لا يتَّبعونه، فقوله: «أو يُحاجُّوكم» حالٌ لازمةٌ مِنْ جهةِ المعنى، إذ لا يُوحي الله لرسولٍ إلا وهو مُحاجٌّ مخالفِيه. وهذا قولٌ ساقط إذ لم يثبت ذلك من لسانِ العرب.
واختلفوا في الجملةِ مِنْ قولِهِ: «ولا تُؤْمِنُوا» هل هي مِنْ مقولِ الطائفة أم من مقول الله تعالى، على معنى أن الله تعالى خاطب به المؤمنين تثبيتاً لقلوبِهم وتسكيناً لجَأْشهم؛ لئلا يَشُكُّوا عند تَلَبُّس اليهود عليهم وتزويرهم؟ وقد نَقَلَ ابنُ عطية الإِجماعَ من أهلِ التأويل على أنه من مقول الطائفة، وليس بسديدٍ لما نَقَلَهُ الناسُ من الخلاف.
و «أحد» يجوزُ أَنْ يكونَ في الآية الكريمة من الأسماء الملازمة للنفي وألاَّ يكون، بل يكون بمعنى واحد. وقد تقدَّم الفرق بينهما بأن الملازم للنفي همزتُهُ أصلية، والذي لا يلازم النفي همزته بدل من واو، فعلى جَعْلِهِ ملازماً للنفي يظهر عَوْدُ الضمير عليه جمعاً اعتباراً بمعناه، لأنَّ المراد به العموم، وعليه قوله: ﴿فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧] جَمَعَ الخَبَرَ لمَّا كان «أحد» في معنى الجميع، وعلى جَعْلِهِ غيرَ الملازم للنفي يكونُ جَمْعُ الضمير في «يُحاجُّوكُم» باعتبارِ الرسول عليه السلام وأتباعِهِ. وبعضُ الأوجهِ المتقدمة يَصِحُّ أَنْ يُجعل فيها «أحد» المذكورُ الملازمُ للنفي، وذلك إذا كان الكلامُ
256
على معنى الجَحْدِ، وإذا كان الكلام على معنى الثبوت كما مَرَّ في بعض الوجوه فيمتنعُ جَعْلُه الملازمَ للنفي، والأمر واضحٌ مِمَّا تقدَّم.
وقرأ ابن كثير: «أأن يؤتى» بهمزة استفهام وهو على قاعدتِهِ في كونه يُسَهِّل الثانية بينَ بينَ من غير مدٍّ بينهما. وخُرِّجَتْ هذه القراءةُ على أوجه، أحدها: أن يكون «أن يُؤتى» على حَذْفِ حرف الجر وهو لام العلة والمُعَلَّلُ محذوف، تقديره: أَلأنْ يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرتموه. وقد قَدَّمَتْ تحقيقَ هذا فحينئذٍ يَسُوغُ في محلِّ «أَنْ» الوجهان: أعني النصبَ مذهبَ سيبويه، والجَرَّ مذهبَ الخليل.
الثاني: أَنَّ «أَنْ يُؤتَى» في محلِّ رفعب بالابتداءِ والخبر محذوف تقديره: أأن يؤتى أحد يا معشر اليهود مثلَ ما أوتيتم من الكتاب والعلم تُصَدِّقون به أو تعترفون به أو تَذْكُرونه لغيركم أو تُشيعونه في الناس ونحوُ ذلك مِمَّا يَحْسُن تقديرُه، وهذا على قولِ مَنْ يقول: «أزيد ضربته» وهو وجه مرجوح، كذا قَدَّرَهُ الواحدي تَبَعاً للفارسي، وأحسنُ من هذا التقدير لأنه الأصل: أإتيان أحدٍ مثلَ ما أُوتيتم ممكنٌ أو مُصَدَّقٌ به.
الثالث: أن يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدر يفسِّره هذا الفعلُ المضمرُ، وتكونُ المسألةُ من بابِ الاشتغالِ والتقدير: أَتَذْكُرون أَنْ يُؤْتَى أحد تذكرونه، فتذكرونه مفسِّرٌ لتذكرون الأول على حَدِّ: «أزيداً ضربته» ثم حُذِفَ الفعلُ الأخير المفسِّر لدلالةِ الكلام عليه، وكأنه منطوقٌ به، ولكونِهِ في قوة المنطوق
257
به صَحَّ له أن يفسِّر مضمراً، وهذه المسألةُ منصوص عليها. وهذا أرجحُ من الوجه قبله، لأنه مثلُ: أزيداً ضربته، وهو راجحٌ لأجلِ الطالب للفعل، ومثلُ حَذْفِ هذا الفعلِ المقدَّرِ لدلالة ما قبلَ الاستفهامِ عليه حَذْفُ الفعل في قوله: ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ﴾ [يونس: ٩١] قيل: تقديره: الآن آمنت ورَجَعْتَ وتُبْتَ ونحو ذلك.
قال الواحدي: «فإنْ قيل: كيف وُجِدَ دخولُ» أحد «في هذه القراءةِ وقد انقطَع من النفي والاستفهام، وإذا انقطع الكلامُ إيجاباً وتقريراً فلا يجوز دُخولُ» أحد «؟ قيل: يجوزُ أَنْ يكونَ» أحد «في هذا الموضع» أحداً «الذي في نحو: أحد وعشرين وهذا يقع في الإِيجاب، ألا ترى أنه بمعنى واحد. وقال أبو العباس:» إن أحداً ووحَدَاً وواحداً بمعنى «.
وقوله:» أو يُحاجُّوكم «» أو «في هذه القراءةِ بمعنى حتى، ومعنى الكلام: أَأن يُؤتى أحد مثل ما أوتيتم تذكرونه لغيركم حتى يحاجُّكم عند ربكم. قال الفراء:» ومثلُه في الكلام/: تَعَلَّقْ به أو يُعْطِيَكَ حقك، ومثلُه قولُ امرىء القيس: ١٣٣٥ - فَقُلْتُ له:
لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنما
نحاوِلُ مُلْكاً أو نموتَ فَنُعْذَرَا
أي: حتى، ومِنْ هذا قولُه تعالى:
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ
258
عَلَيْهِمْ} [آل عمران: ١٢٨] قال: «فهذا وجه، وأجودُ منه أن تجعلَه عطفاً على الاستفهام، والمعنى: أأن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم أو يُحاجَّكم أحدٌ عند الله تُصَدِّقونه وهذا كله معنى قول الفارسي، ويجوز أن يكون» أن يؤتى أحد «منصوباً بفعل مقدر لا على سبيل التفسير، بل لمجرد الدلالة المعنوية تقديرُه: أتذكرون أو أَتَشِيعونَ أَنْ يُؤْتَى أحدٌ، ذكره الفارسي أيضاً، وهذا هو الوجهُ الرابع.
الخامس: أَنْ يكونَ» أَنْ يؤتى «في قراءته مفعولاً من أجله على أن يكون داخلاً تحت القول لا من قولِ الطائفة. وهو أظهرُ مِنْ جَعْلِهِ من قول الطائفة.
وقد ضَعَّف الفارسي قراءةَ ابن كثير فقال:» وهذا موضِعٌ ينبغي أن تُرَجَّح فيه قراءةُ غير ابن كثير على قراءة ابن كثير، لأنَّ الأسماءَ المفردة ليس بمستمرٍ فيها أن تَدُلَّ على الكثرة «. وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة:» إنْ يؤتى «بكسر الهمزة، وخَرَّجها الزمخشري على أنها:» إنْ «النافية فقال:» على إن النافية، وهو متصل بكلام أهل الكتاب أي: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع
259
دينكم وقولوا لهم: ما يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم حتى يُحاجُّوكم عند ربكم، يعني لا يُؤْتَوْن مثلَه فلا يُحاجُّونكم «.
وقال ابن عطية:» وهذه القراءةُ تحتمل أن يكونَ الكلامُ خطاباً من الطائفةِ القائلة، ويكونُ قولُها «أو يحاجُّوكم» بمعنى: أو فليحاجُّوكم وهذا على التصميمِ على أنه لا يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتي، أو تكون بمعنى: إلاَّ أَنْ يُحاجُّوكم، وهذا على تجويز أَنْ يؤتى أحدٌ ذلك إذا قامت الحجة له «فقد ظَهَرَ على ما ذَكَرَ ابن عطية أنه يجوزُ في» أو «في هذه القراءةِ أن تكونَ على بابِها مِنْ كونِها للتخيير والتنويع، وأَنْ تكونَ بمعنى» إلاَّ «، إلاَّ أنَّ فيه حَذْفَ حرفِ الجزم وإبقاءَ عمله، وهو لا يجوز، وعلى قولِ غيره تكونُ بمعنى حتى.
وقرأ الحسن:» أَنْ يُؤْتى أحدٌ «على بناءِ الفعل للفاعل. ولَمَّا نقل هذه القراءةَ بعضُهم لم يتعرَّض ل» ان «بفتحٍ ولا كسرٍ كأبي البقاء، وتعرَّض لها بعضُهم فقيَّدها بكسرِ» إنْ «وفسَّرها ب» إنْ «النافية، والظاهر في معناها أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه، وهي خطابٌ من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته، والمفعولُ محذوف تقديره: إنْ يؤتي أحدٌ أحداً مثلَ ما أوتيتم، فحُذِفَ المفعولُ الأولُ وهو» أحداً «لدلالة المعنى عليه، وأُبْقِيَ الثاني. وهذا ما تلخَّص مِنْ كلام الناس في هذه الآية مع اختلافه ولله الحمد. قال الواحدي:» وهذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبهِ تفسيراً، ولقد تدبَّرْتُ أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية، فلم أَجِدْ قولاً يَطَّرِدُ في هذه الآية من أولِها إلى آخِرها مع بيان المعنى وصحة النظم.
خبره، قُدِّمَ عليه، و «مَنْ» : إما موصولة وإما نكرة، و «إِنْ تَأْمَنْهُ يُؤدِّه» هذه الجملة الشرطية: إمَّا صلةٌ فلا محلَّ لها، وإمَّا صفةٌ فمحلُّها الرفع.
وقرأَ أُبَيّ: «تِئْمَنْهُ» في الحرفين، و ﴿مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا﴾ [يوسف: ١١] بكسر حرف المضارعة، وكذلك ابن مسعود والأشهب العقيلي، إلا أنهما أَبْدلا الهمزة ياء، وجَعَلَ ابن عطية ذلك لغةَ قريش، وغَلَّطه الشيخ. وقد تقدَّم لنا الكلامُ في كسرِ حرفِ المضارعة وشرطِ ذلك في سورة الفاتحة بكلامٍ مشبع فليُراجع ثمة.
والدينار أصله «دِنَّار» بنونين، فاسْتُثْقِلَ توالي مِثْلِين فأبدلوا أولهما حرفَ علة تخفيفاً لكثرة دَوْره في لسانهم، ويَدُلُّ على ذلك رَدُّه إلى النونين تكسيراً وتصغيراً في قولهِم: دَنانير ودُنَيْنِير، مثله: قيراط: أصله قِرَّاط بدليل قراريط وقُرَيْرِيط كما قالوا: تَظَنَّيْت وقَصَّيْت أظفاري، يريدون تَظَنَّنْت وقَصَّصت بثلاث نونات وثلاث صادات. والدينار مُعَرَّب، قالوا: ولم يختلف وزنه أصلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً، كل قيراط ثلاث شُعيرات معتدلة، فالمجموعُ اثنتان وسبعون شُعَيْرة.
وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم: «يُؤَدِّهْ» بسكون الهاء في الحرفين، وقرأ قالون: يُؤَدِّه بكسر الهاء من دون صلة، والباقون بكسرها موصولة بياء، وعن هشام وجهان، أحدهما: كقالون، والآخر كالجماعة.
261
فأما قراءة أبي عمرو ومن ذُكِر معه فقد خَرَّجوها على أوجه أحسنها أنه سُكِّنت هاءُ الضمير إجراءً للوصل مُجْرى الوقف، وهو باب واسع مضى لك منه شيء نحو: ﴿يَتَسَنَّهْ وانظر﴾ [البقرة: ٢٥٩] ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] وسيمر بك منه أشياء إن شاء الله تعالى، وأنشد ابن مجاهد على ذلك قوله:
١٣٣٦ - وأشربُ الماءَ ما بي نحوه عطشٌ
إلا لأنَّ عيونَه سيلُ وادِيها
وأنشد الأخفش على ذلك أيضاً:
١٣٣٧ - فَظَلْتُ لدى البيتِ العتيقِ أُخيلُه
ومِطْواي مُشتاقان لَهُ أَرِقانِ
إلاَّ أنَّ هذا يَخُصُّه بعضُهم بضرورة الشعر، وليس كما قال لما سيأتي.
وقد طعن بعضهم على هذه القراءة فقال الزجاج: «هذا الإِسكان الذي رُوِي عن هؤلاء غلطٌ بَيِّنٌ، لأن الهاء لا ينبغي أن تُجْزم، وإذا لم تجزم فلا تسكن في الوصل، وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة فَغُلِط عليه كما غُلِطَ عليه في ﴿بَارِئِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤]، وقد حَكَى عنه سيبويه وهو ضابطٌ لمثل هذا أنه كان يكسِر كسراً خفياً، يعني يكسر في» بارئكم «كسراً خفياً فظنَّه
262
الراوي سكوناً». قلت: وهذا الردُّ من الزجاج ليس بشيء لوجوه منها: أنه فَرَّ من السكون إلى الاختلاس/، والذي نصَّ على أن السكون لا يجوز نَصَّ على أن الاختلاس أيضاً لا يجوز، بل جَعَلَ الإِسكان في الضرورة أحسنَ منه في الاختلاس قال: «ليَجري الوصل مُجرى الوقف إجراءً كاملاً»، وَجَعَلَ قولَه «عيونَهْ سيلُ واديها» أحسنَ من قوله:
١٣٣٨ -.......................
ما حَجَّ ربَّه في الدنيا ولا اعتمرا
حيث سَكَّن الأول واختلس الثاني.
ومنها: أنَّ هذه لغةٌ ثابتةٌ عن العرب حَفِظَها الأئمة الأعلام كالسكائي والفراء، وحكى الكسائي عن بني عُقيل وبني كلاب: ﴿إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: ٦] بسكون الهاء وكسرها من غير إشباع، ويقولون: «لَهْ مال ولَهُ مال» بالإِسكان والاختلاس. وقال الفراء: «مِن العرب مَنْ يجزم الهاءَ إذا تحرَّك ما قبلها فيقولون: ضربتهْ ضرباَ شديداً، فيسكنون الهاء كما يُسكنون ميم» أنتم «و» فمنهم «وأصلُها الرفع، وأنشد:
١٣٣٩ - لمَّا رأى أَنْ لا دَعَهْ ولا شِبَعْ
مالَ إلى أرطاةِ حِقْفٍ فالطَجَعْ
قلت: وهذا عجيبٌ من الفراء كيف يُنْشد هذا البيتَ في هذه المَعْرِض
263
لأن هذه الهاء مبدلةٌ من تاء التأنيث التي كانت ثابتةً في الوصل فقلبها هاءً ساكنة في الوصل إجراءً له مُجْرى الوقف، وكلامُنا إنما هو في هاء الضمير لا في هاء التأنيث، لأنَّ هاء التأنيث لا حظَّ لها في الحركة البتة، ولذلك امتنع رَوْمُها وإشمامها في الوقفِ، نصوا على ذلك، وكان الزجاج يَضْعُف في اللغة، ولذلك رَدَّ على ثعلب في» فصيحه «أشياءَ أنكرها عن العرب، فردَّ الناس عليه ردَّه، وقالوا: قالتها العرب، فحفِظها ثعلب ولم يحفظْها الزجاج فَلْيكن هذا منها.
وزعم بعضهم أن الفعل لَمَّا كان مجزوماً وحَلَّتِ الهاءُ محلَّ لامه جرى عليها ما يجري على لام الفعل من السكون للجزم وهو غير سديد. وأما قراءة قالون فأنشدوا عليها:
١٣٤٠ - لَهُ زَجَلٌ كأنه صوتُ حادٍ
..........................
وقول الآخر:
١٣٤١ - أنا ابنُ كِلابٍ وابنُ أوسٍ فَمَنْ يَكُنْ
قناعهُ مَغْطِيَّاً فإنِّي لَمُجْتَلِي
وقول الآخر:
١٣٤٢ - وأغبرُ الظَّهْرِ يُنْبي عن وَلِيَّتِه
ما حَجَّ ربه في الدنيا ولا اعتمرا
وقد تقدَّم أنها لغةُ عقيل وكلاب أيضاً.
264
وأمَّا قراءةُ الباقين فواضحةٌ. وقرأ الزهري:» يُؤَدِّهو «بضم الهاء بعدها واو، وقد تقدَّم أن هذا هو الأصل في هاء الكناية، وقرأ سلام كذلك، إلا أنه ترك الواو فاختلس، وهما نظيرتا قراءَتَيْ:» يؤد هي ويؤده «بالإِشباع والاختلاس مع الكسر.
واعلم أن هذه الهاء متى جاءت بعد فعلٍ مجزوم أو أمر معتل الآخر جرى فيها هذه الأوجه الثلاثة أعني السكونَ والاختلاس والإِشباع وذلك: ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٤٥] ﴿يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧] ﴿نُوَلِّهِ مَا تولى﴾ [النساء: ١١٥] ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ [النساء: ١١٥] ﴿فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾ [النمل: ٢٨]، وقد جاء ذلك في قراءة السبعة أعني الأوجه الثلاثة في بعض هذه الكلمات، وبعضها لم يأتِ فيه إلا وجهان، وسيأتي ذلك مفصَّلاً في سوره إن شاء الله تعالى، والسر فيه أن الهاء التي للكناية متى سَبَقها متحركٌ فالفصيحُ فيها الاشباعُ نحو: إنه، وبه، وله، وإنْ سَبَقها سكانٌ فالأشهرُ الاختلاسُ، وسواءً كان ذلك الساكن صحيحاً أو معتلاً نحو: فيه ومنه، وبعضُهم يُفَرِّق بين المعتل والصحيح، وقد أتقنت ذلك في أول الكتاب، إذا علم ذلك فنقول: هذه الكلماتُ المشارُ إليها إنْ نَظَرْنا إلى اللفظ فقد وَقَعتْ بعد متحركٍ فحقُّها أَنْ تُشْبَعَ حركتُها موصولةً بالياء أو الواو، وإن سَكَنَتْ فلِما تقدَّم من إجراءِ الوَصْلِ مُجْرى الوقف، وإنْ نظرنا إلى الأصلِ فقد سَبَقَها ساكنٌ وهو حرفُ
265
العلة المحذوف للجزم، فلذلك جاز الاختلاسُ، وهذا أصلٌ نافعَ يَطَّرِدُ معك عند قربِك في هذا الكتاب من هذه الكلماتِ.
قوله: «بدينار» في هذه الباءِ أوجهٌ، أحدُها: أنها على أصلها من الإِلصاق وفيه قلقٌ، والثاني: أنها بمعنى في، ولا بُدَّ من حذف مضاف أي: في حفظِ دينارٍ وفي حفظ قنطار. والثالث: أن الباء بمعنى على، وقد عُدِّي بها كثيراً: ﴿لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ﴾ [يوسف: ١١] ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ﴾ [يوسف: ٦٤] وكذلك هي في «بقنطار».
قوله: ﴿إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾ استثناءٌ مفرغ من الظرف العام، إذا التقدير: لا يُؤدِّه إليك في جميع المدد والأزمنة إلا في مدة دوامك قائماً عليه متوكلاً به. ودُمْتَ هذه هي الناقصة/ ترفع وتنصب، وشرطُ إعمالها أَنْ يتقدمها «ما» الظرفيةُ كهذه الآية، إذ التقدير إلا مدةَ دوامك، ولا يتصرف، فأمَّا قولُهم، «يدومُ» فمضارع «دام» التامة بمعنى بقي، ولكونها صلةً ل «ما» الظرفية لَزِم أن تكونَ محتاجةً إلى كلام آخر لتعمل في الظرف نحو: «لا أصحبُك ما دمت باكياً»، ولو قلت: «ما دام زيد قائماً» من غير شيء لم يكن كلاماً.
وجَوَّز أبو البقاء في «ما» هذه أن تكونَ مصدرية فقط، وذلك المصدرُ المنسبك منها ومِنْ دام في محلِّ نصب على الحال، وهو استثناء مفرغٌ أيضاً من الأحوال المقدَّرة العامة، والتقدير: إلاَّ في حال ملازمتك له، وعلى هذا فتكون «دام» هنا تامةً لِما تقدم مِنْ أنَّ تقدُّم الظرفيةِ شرطٌ في إعمالها، وإذا كانت تامة انتصب «قائماً» على الحال.
ويقال: دامَ يدوم كقام يقوم، ودُمت قائماً بضم الفاء وهذه لغة الحجاز،
266
وتميم يقولون: دِمت بكسرها، وبها قرأ أبو عبد الرحمن وابن وثاب والأعمش وطلحة والفياض بن غزوان، قال الفراء: «وهذه لغة تميم ويجتمعون في المضارع، فيقولون: يدوم»، يعني أن الحجازيين والتميميين اتفقوا على أن المضارعَ مضموم العين، وكان قياس تميم أن تقول يَدام كخَاف يخَاف ومات يمات، فيكون وزنُها عند الحجاز: فَعَل بفتح العين، وعند التميميين: فَعِل بكسرها، وهذا نقلُ الفراء، وأمَّا غيرُه فنقل عن تميم أنهم يقولون: دِمْت أدام كخِفْت أخاف، نقل ذلك أبو إسحاق وغيره كالراغب الأصبهاني وأبي القاسم الزمخشري.
وأصلُ هذه المادة الدلالةُ على الثبوت والسكون، يقال: «دام الماء» أي سكن، وفي الحديث: «لا يبولَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائمِ» وفي بعضه بزيادة «الذي لا يجرى» وهو تفسيرٌ له، وأَدَمْتُ القِدْرَ ودوَّمْتُها: سكَّنت غليانها بالماء، ومنه دام الشيء: إذا امتد عليه زمان، ودَوَّمَتِ الشمس: إذا وقفت في كبد السماء، قال ذو الرمة:
١٣٤٣ -.........................
267
والشمسُ حَيْرَى لها في الجَوِّ تَدْويمُ
هكذا أنشد الراغب هذا الشطرَ على هذا المعنى، وغيرُه يُنْشِده على معنى أنَّ الدوام يُعَبَّر به عن الاستدارة حولَ الشيء، ومنه الدوامُ: وهو الدُّوار الذي يأخذ الإِنسان في دماغه فيرى الأشياءَ دائرة، وأنشد معه أيضاً قولَ علقمة بن عبدة:
١٣٤٤ - تَشْفي الصُّداع ولا يُؤْذِيك صالِبُها
ولا يُخالطُها في الرأسِ تدويم
ومنه: دَوَّم الطائرُ إذا حَلَّق ودار.
وقوله: ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلِّقٌ بقائماً، والمعنى بالقيام: الملازمة لأن الأغلَب أنَّ المطالِب يقوم على رأس المطالَب، ثم جُعِل عبارة عن الملازمة وإن لم يكن ثمة قيام.
قوله: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ﴾ مبتدأ وخبر، و «ذلك» إشارة إلى الاستحلال وعدمِ المؤاخذة في زعمهم، أي: ذلك الاستحلالُ مستحق أو جائز بقولِهم: «ليس علينا في الأميين سبيل».
قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ في «ليس» ضميرُ الشأن وهو اسمها، وحينئذ يجوز أن يكون «سبيل» مبتدأ و «علينا» الخبرُ، والجملةُ خبرُ «ليس» ويجوز أن يكونَ «علينا» وحده هو الخبرَ، و «سبيل» مرتفعٌ به على الفاعلية، ويجوز أن يكونَ «سبيل» اسمَ ليس، والخبرُ أحد الجارَّيْن أعني علينا أو في الأميين ويجوزُ أن يتعلق «في الأميين» بالاستقرار الذي تعلق به «علينا».
268
وجَوَّز بعضهم أن يتعلَّقَ بنفس «ليس» نقله أبو البقاء وغيرُه وفي هذا النقلِ نظرٌ، وذلك أنَّ هذه الأفعال النواقص في عملِها في الظروف خلافٌ، وبَنوا الخلافَ على الخلاف في دلالتها على الحدثِ فَمَنْ قال: تَدُلُّ على الحدَث جَوَّز إعمالَها في الظرف وشِبْهِه، ومن قال: لا تَدْلُّ على الحدَث مَنَع إعمالَها، واتفقوا على أن «ليس» لا تدل على حدثٍ البتة فكيف تعمل؟ هذا ما لا يُعْقَلُ. ويجوز أنَّ يتعلَّقَ «في الأميين» بسبيل، لأنه استُعْمِل بمعنى الحرج والضمان ونحوهما، ويجوز أن يكون حالاً منه، فيتعلق بمحذوف.
وقوله: ﴿عَلَى اللَّهِ الكذب﴾ يجوز أن يتعلق «على الله» بالكذب وإن كان مصدراً؛ لأنه يُتَّسع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسع في غيرهما، ومن مَنَع علَّقه بيقولون متضمناً معنى يفترون فَعُدِّي تعديتَه، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الكذب».
وقوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ جملةٌ حالية، ومفعولُ العلم محذوف اقتصاراً أي: وهم من ذوي العلم، أو اختصاراً أي: يعلمون كذبهم وافتراءهم وهو أقبحُ لهم.
وقوله تعالى: ﴿بلى﴾ : جوابٌ لقولهم «ليس» وإيجابٌ لِما نَفَوه، وقد تقدَّم القول في نظيره، ومَنْ شرطية أو موصولة، والرابطُ من الجملة الجزائية أو الخبرية هو العمومُ في المتقيَّن، وعند مَنْ يرى الربط بقيام الظاهرِ مقامَ المضمر يقولُ ذلك هنا، وقيل: الجزاء أو الخبر محذوف تقديره: يحبه الله، ودلَّ على هذا المحذوفِ قولُه: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ وفيه تكلفٌ لا حاجةَ إليه.
و ﴿بِعَهْدِهِ﴾ يجوز أَنْ يكونَ المصدرُ مضافاً لفاعِله على أَنَّ الضمير يعودُ
269
على مَنْ، أو إلى مفعوله على أنه يعود على «الله»، ويجوز أن يكون المصدرُ مضافاً للفاعل وإن كان الضمير لله تعالى/، وإلى المفعول وإنْ كان الضمير لِمَنْ، ومعناه واضح إذا تُؤُمِّل.
قوله تعالى: ﴿يَلْوُونَ﴾ :«صفةٌ ل» فريقاً «فهي في محل نصب، وجمع الضمير اعتباراً بالمعنى لأنه اسمُ جمع كالقَوْم والرهط، قال أبو البقاء:» ولو أُفْرد على اللفظ لجازَ «وفيه نظرٌ إذ لا يجوز:» القوم جاءني «.
والعامة على» يَلوون «بفتح الياء وسكون اللام وبعدها واوٌ مضمومة ثم أخرى ساكنةٌ، مضارع لَوَى أي: فَتَل. وقرأ أبو جعفر وشيبة بن نصاح، وأبو حاتم عن نافع: يُلَوُّون بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد الواو الأولى من لَوَّى مضعفاً، والتضعيفُ فيه للتكثير والمبالغة لا للتعدية، إذ لو كان لها لتعدَّى لآخرَ لأنه متعدٍّ لواحد قبلَ ذلك، ونسبها الزمخشري لأهل المدينة وهو كما قال: فإنَّ هؤلاء رؤساء قراء المدينة.
وقرأ حميد:» يَلُون «بفتح الياء وضم اللام بعدها واو مفردة ساكنة، ونسبها الزمخشري لمجاهد وابن كثير، ووجَّهها هو بأن الأصلَ:» يَلْوُون «كقراءة العامة، ثم أُبْدِلَتِ الواو المضمومة همزةً، وهو بدلٌ قياسيّ كأجوه وأُقِّتت، ثم خُفِّفت الهمزة بإلقاء حركتها على الساكنِ قبلها وهو اللامُ وحُذِفَت الهمزة فبقي وزنُ يَلُون: يَفُون بحذف اللام والعين، وذلك أن اللام وهي الياء حُذفت لالتقاء الساكنين لأن الأصل:» يَلْوِيُون «كيَضْربون فاستُثْقلت الضمة
270
على الياء فَحُذفت فالتقى ساكنان: الياء وواو الضمير فَحُذفت الياء لالتقائمها، ثم حُذِفت الواو التي هي عينُ الكلمة بما قدمته لك.
وألسنتهم: جمعُ لِسان وهذا على لغةِ مَنْ ذكَّر، وأما على لغة من يؤنثه فيقول: هذه لسان فإنه يُجْمع على ألسن نحو: ذِراع وأَذْرُع وكِراع وأَكْرُع، وقال الفراء:» لم نَسْمعه من العربِ إلا مذكراً «ويُعَبِّر باللسانِ عن الكلام لأنه يَنشأ منه وفيه، والمرادُ به ذلك أيضاً التذكيرُ والتأنيث.
والَّليُّ: الفَتْلُ، يقال: لَوَيْتُ الثوبَ ولَوَيْتُ عنقه أي: فَتَلْتُه والمصدرُ الليُّ والليَّان، قال:
١٣٤٥ - قد كُنْت دايَنْتُ بها حَسَّانا
مخافةَ الإِفلاسِ واللَّيَّانا
والأصل: لَوْي ولَوْيان، فأُعِلَّ وهو واضح بما تقدَّم في» ميِّت «وبابِه، ثم يُطْلَقُ الَّليُّ على الإِراغةِ والمراوغة في الحجج والخصومةِ تشبيهاً للمعاني بالأجرام.
و ﴿بالكتاب﴾ متعلِّق بيَلْوُون وهو تعلُّقٌ واضح، وجَعَله أبو البقاء حالاً من الألسنة قال:» تقديرُه ملتبسةً بالكتاب أو ناطقة بالكتاب «، والضمير في ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾ يجوزُ أَنْ يعودَ على ما دَلَّ عليه ما تقدم من ذِكْر الليِّ والتحريف أي: لتحسَبوا المحرَّف من التوراة، ويجوز أن يعودَ على مضافٍ محذوف دَلَّ
271
عليه المعنى والأصل: يَلْوُون ألسنَتهم بشبه الكتاب لتحسَبوا شبه الكتاب الذي حرفوه من الكتاب، ويكون كقوله تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ﴾ [النور: ٤] ثم قال» يَغْشاه «والأصل: أو كذي ظلمات، فالضميرُ من» يغشاه «يعود على ذي المحذوف. و ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ هو المفعول الثاني للحسبان. وقُرىء» ليحسبوه «بياء الغَيْبة والمراد بهم المسلمون أيضاً، كما أريد بالمخاطبين في قراءة العامة، والمعنى: ليحسَب المسملون أنَّ المحرَّف من التوراة.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ﴾ :«أَنْ يؤتيَه» اسمُ كان و «لبشر» خبرُها. وقوله: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ﴾ عطفٌ على «يؤتيه»، وهذا العطفُ لازمٌ من حيث المعنى، إذ لو سكت عنه لم يَصِحَّ المعنى، لأنَّ الله تعالى قد أتى كثيرا من البشر الكتابَ والحكم والنبوة، وهذا كما يقولون في بعض الأحوال والمفاعيل: إنها لازمة، فلا غرو أيضاً في لزوم المعطوف، وإما بَيَّنْتُ لك هذا لأجل قراءةٍ سأذكرها. ومعنى مجيء هذ النفيَ في كلام العرب نحو: «ما كان لزيد أن يفعل» ونحوه نفيُ الكونِ والمرادُ نفيُ خبرِه، وهو على قسمين: قسمٍ يكونُ النفي فيه من جهة الفعل، ويُعَبَّر عنه بالنفي التام نحو هذه الآية، لأنَّ الله تعالى لا يُعْطي الكتابَ والحكم والنبوة لمَنْ يقولُ هذه المقالةَ الشنعاء، ونحوُه: ﴿مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا﴾ [النمل: ٦٠] ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ [آل عمران: ١٤٥]، وقسمٍ يكونُ النفي فيه على سبيل الانتقاء كقول أبي بكر «ما كان لابن أبي قحافة أن يقدَّم فيصلي بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، ويُعْرَفُ القسمانِ من السياق.
272
وقرأ العامة: «يقول» بالنصب نسقاً على «يؤتيه»، وقرأ ابن كثير في رواية شبل بن عباد، وأبو عمرو في رواية محبوب: «يقول» بالرفع، وخرَّجوها على القطع والاستئناف، وهو مشكلٌ لِما قَدَّمته من أن المعنى على لزومِ ذكر هذا المعطوف، إذ لا يستقِلّ ما قبله لفساد المعنى فيكون يقولون على القَطع والاستئناف؟ /
قوله: ﴿عِبَاداً﴾ قال ابن عطية: «ومِنْ جموعه عبيد وعِبِدَّى. قال بعض اللغويين: هذه الجموعُ كلها بمعنى، وقال بعضُهم: العِباد لله، والعبيد والعِبِدّى للبشر، وقال بعضهم: العِبِدَّى إنما يقال في العبد من العبيد كأنه مبالغةٌ تقتضي الإِغراق في العبودية، والذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع» عبد «متى سيقت اللفظة في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة دونَ أَنْ يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن، وانظر قوله: ﴿والله رَؤُوفٌ بالعباد﴾ [البقرة: ٢٠٧] و ﴿عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٦] و ﴿ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ [الزمر: ٥٣]، وقولَ عيسى في معنى الشفاعة والتعريض: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ [المائدة: ١١٨]، وأمَّا العبيد فيستعمل في تحقيره، ومنه قول امرىء القيس:
273
١٣٤٦ - قولا لدودانَ عبيدِ العَصا
ما غَرَّكم بالأسدِ الباسلِ
وقال حمزة بن عبد المطلب:» وهل أنتم إلا عبيدٌ لأبي «، ومنه: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] لأنه مكان تشفيقٍ وإعلامٍ بقلة انتصارهم ومَقدِرتهم، وأنه تعالى ليس بظلامٍ لهم مع ذلك، ولما كانت لفظةُ العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أَنِس بها في قوله تعالى: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ [الزمر: ٥٣] «فهذا النوعُ من النظر يَسْلُك بك سبيلَ العجائب في فصاحة القرآن العزيز على الطريقةِ العربية» قال الشيخ: «وفيه بعضُ مناقشة أمَّا قولُه: ومِنْ جموعِه عبيد وعِبدَّى» فأمَّا «عبيد» فالأصحُّ أنه جمع. وقيل: اسم جمع، «وأَما عِبِدَّى فاسم جمع، وألفه للتأنيث» قلت: لا مناقشة، فإنه إنما يعني جمعاً معنوياً ولا شك أنَّ اسمَ الجمعِ جمعٌ معنوي. ثم قال: «وأمَّا ما استقراه من أنَّ» عباداً «يُساقُ في معنى الترفع والدلالة على الطاعة دونَ أن يقترِنَ بها معنى التحقير والتصغير وإيرادُهُ ألفاظاً في القرآن بلفظ العباد، وأَمَّا قوله:» وأمَّا العبيد فَيُستعمل في تحقير وأنشد بيتَ امرىء القيس وقولَ حمزة «وهل أنتم إلا عبيدُ أبي» وقوله تعالى ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ فاستقراءُ ليس بصحيح، وإنما كَثُرَ استعمال «عباد» دون «عبيد» لأنَّ فِعالاً في جمع فَعْل غير اليائي العين قياسيٌّ مطرد، وجمع فَعْل على فَعيل لا يَطِّرد. قال سيبويه: «وربما جاء فَعِيلاً وهو قليل نحو: الكليب والعبيد» فلما كان فِعال مقيساً في جمع «عبد» جاء «عباد» كثيراً. وأما ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ فَحَسَّن مجيئه هنا وإن لم يكن مقيساً أنه جاء لتواخي الفواصل، ألا ترى أنَّ قبله {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ
274
بَعِيدٍ} وبعده ﴿قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ﴾ فَحَسَّن مجيئَه بلفظ العبيد مراعاةُ هاتين الفاصلتين، ونظير هذا في سورة ق: ﴿وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [الآية: ٢٩] لأنَّ قبله: ﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد﴾ وبعده: «وتقول: هل من مزيد». وأمَّا مدلُوله فمدلولُ «عِباد» سواءٌ. وأمَّا بيتُ امرىء القيس فلم يُفْهَمْ التحقيرُ من لفظ «عبيد» إنما فُهِمَ من إضافتهم إلى العصا ومن مجموعِ البيت، وكذلك قولُ حمزة: «هل أنتم إلا عبيدُ أبي» إنما فُهِمَ التحقير من قرينة الحال التي كان عليها، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين «. قلت: رَدُّه عليه استقراءَه من غير إتيانِهِ بما يخْرِمُ الاستقراء مردودٌ. وأمَّا ادِّعاؤه أن التحقير مفهومٌ من السياق دون لفظِ عبيد فممنوعٌ، ولأنه إذا دار إحالةٌ الحكم بين اللفظِ وغيره فالإِحالَةُ على اللفظ أَوْلَى.
وقوله:» لي «صفةٌ لعباد، و» مِنْ دون «متعلِّقٌ بلفظِ» عباد «لِما فيه من معنى الفعل، يجوزُ أَنْ يَكونَ صفةً ثانيةً وأَنْ يكونَ حالاً لتخصُّص النكرة بالوصف.
قوله: ﴿ولكن كُونُواْ﴾ أي: ولكن يقول كونوا، فلا بُدَّ من إضمار القول هنا. والرَّبَّانِيُّون جمع ربَّانِيّ، وفيه قولان، أحدهما أنه منسوب إلى الرَّبِّ، والألف والنون فيه زائدتان في النسب دلالة على المبالغة كرقبَاني وشَعْراني ولِحْياني للغليظ الرقبة والكثير الشعر والطويل اللحية، ولا تُفْرد هذه الزيادة عن النسب، أَمَّا إذا نَسَبوا إلى الرقبة والشعر واللحية من غير مبالغة قالوا: رَقَبي وشَعْري ولَحَوي، هذا معنى قول سيبويه.
والثاني: أنه منسوب إلى
275
رَبَّان والربَّان هو المُعَلِّمُ للخير ومَنْ يسوس الناس ويُعَّرِّفهم أمرَ دينِهم، فالألفُ والنونُ دالَّتان على زيادةِ الوصفِ كهي في عَطْشان ورَيَّان وجَوْعَان ووَسْنان، وتكونُ النسبةُ على هذا في الوصف نحو أَحْمريّ، قال:
١٣٤٧ - أطَرباً وأنت قِنَّسْرِيُّ
والدهرُ بالإِنسانِ دَوَّارِيُّ
وقال سيبويه: «زادوا ألفاً ونوناً في الرَّباني أرادوا تخصيصاً بعلم الرب دونَ غيره من العلوم، وهذا كما قالوا: شَعْراني ولِحْياني ورَقَباني» وفي التفسير: «كونوا فقهاء علماء»، ولمَّا مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية: «مات اليوم رَبَّانيُّ هذه الأمة».
قوله: ﴿بِمَا كُنتُمْ﴾ الباء سببية أي: كونوا/ علما بسبب كونكم. وفي متعلَّق هذه الباءِ حينئذٍ أقوال أحدها: أنه متعلقة بكونوا، كذا ذكره أبو البقاء والخلاف مشهور. الثاني: أن تتعلق بربانيين، لأنَّ فيه معنى الفعل. الثالث: أن تتعلَّق بمحذوف على أنها صفة لربانيين ذكره أبو البقاء وليس بواضح المعنى.
و «ما» مصدريةٌ، وظاهرُ كلام الشيخ أنه يجوز أن تكون غير ذلك، فإنه قال: «وما الظاهر أنها مصدريةٌ» فهذا يجوِّزُ غير ذلك، وجوازه فيه بُعْدٌ،
276
وهو أن تكون موصولةً، وحينئذٍ تحتاجُ إلى عائد وهو مقدَّر، أي: بسبب الذي تُعَلِّمون به الكتاب، وقد نقَص شرطُ وهو اتحاد المتعلَّق فلذلك لم يظهر جَعْلُها غيرَ مصدرية.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: «تَعْلَمُون» مفتوحٌ حرفُ المضارعة، ساكنُ العينِ مفتوحُ اللام من: عَلِمَ يَعْلَم، أي: تعرفون فيتعدى لواحد، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً، فيتعدى لاثنين أولهما محذوف، تقديره: تُعَلِّمون الناس والطالبين الكتابَ، ويجوز ألاَّ يُرادَ مفعول أي: كنتم من أهلِ تعليم الكتاب، وهو نظيرُ: «أطعم الخبز» المقصودُ الأهمُّ إطعامُ الخبزِ من غيرِ نظر إلى مَنْ يُطْعِمُه، فالتضعيف فيه للتعدية.
وقد رَجَّح جماعة هذه القراءةَ على قراءة نافع بأنها أَبْلَغُ؛ وذلك أَنَّ كلَّ مُعَلِّمٍ عالمٌ، وليس كلُّ عالمٍ مُعَلماً، فالوصفُ بالتعليم أبلغُ، وبأن قبله ذِكْرَ الربانيين، والربَّانيُّ يقتضي أَنْ يَعْلَمَ ويُعَلِّمَ غيره، لا أن يَقْتَصَر بالعلم على نفسه.
ورجَّح بعضُهم الأولى بأنه لم يُذْكَر إلا مفعولٌ واحدٌ والأصل عدم الحذف، والتخفيف مُسَوِّغٌ لذلك بخلاف التشديد، فإنه لا بد من تقدير مفعول، وأيضاً فهو أوفقُ لتدرُسون. والقراءتان متواترتان فلا ينبغي ترجيحُ إحداهما على الأخرى، وقد قَدَّمت ذلك في أوائل هذا الموضوع.
277
وقرأ الحسن ومجاهد: «تَعَلَّمون» فتح التاء والعين واللام مشددة من «تعلَّم» والأصل: تتعلَّمون بتاءين فحُذِفَت إحداهما. ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ كالذي قبله.
والعامة على «تَدْرُسون» بفتح التاء وضم الراء من الدَّرْس وهو مناسب لَتَعْلَمون من علم ثلاثياً، قال بعضهم: «كان حقُّ مَنْ قرأ» تُعَلِّمون «بالتشديد أن يقرأ:» تُدَرِّسون «بالتشديد» وليس بلازم، إذ المعنى: كنتم تُعَلِّمون غيركم ثم صرتم تدرسُون، وبما كنتم تدرسونه عليهم أي: تتلونه عليهم كقوله تعالى: ﴿لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس﴾ [الإسراء: ١٠٦].
وقرأ ابو حيوة في إحدى الروايتين عنه «تَدْرِسُون» بكسر الراء وهي لغة ضعيفة، يقال: دَرَسَ العلم يَدْرِسه بكسر العين في المضارع وهما لغتان في مضارع دَرَسَ، وقرأ هو أيضاً في رواية: «تُدَرِّسون» مِنْ دَرَّس بالتشديد، وفيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ التضعيف فيه للتكثير، فيكون موافقاً لقراءة تَعْلَمون بالتخفيف. والثاني: أن التضعيف للتعدية ويكون المفعولان محذوفين لفهم المعنى، والتقديرُ: تُدَرِّسون غيرَكم العلمَ أي: تَحْمِلُونهم على الدَّرْسِ. وقُرىء «تُدْرِسون» من أَدْرَسَ، كتُكْرِمُون مِنْ أَكْرَمَ على أنَّ أفعل بمعنى فَعَّل بالتشديد، فأَدْرَس ودَرَّس واحدٌ كأكرم وكرَّم وأَنْزَلَ ونَزَّل.
والدَّرْس: التَّكرارُ والإِمانُ على الشيء ومنه: دَرَسَ زيدٌ الكتاب والقرآن يَدْرُسه ويدرِسه أي كرَّر عليه، ويقال: دَرَسْتُ الكتاب أي: تناوَلْتُ أثرَه بالحفظ.
278
ولمَّا كانَ ذلك بمداومَةِ القرآن عَبَّر عن إدامةِ القرآن بالدَّرْسِ، ودَرَسَ المنزل: ذَهَبَ أثرُهُ وطللُ عارفٍ ودارسٌ بمعنًى.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ﴾ : قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب «يأمركم» والباقون بالرفع، وأبو عمرو على أصلِهِ من جواز تسكين الراء والاختلاسِ، وهي قراءة واضحة سهلة التخريج والمعنى، وذلك أنها على القطع والاستئناف، أخبر تعالى بأن ذلك الأمرَ لا يقع. والفاعل فيه احتمالان، أحدهما: هو ضميرُ الله تعالى، والثاني هو ضميرُ «بَشَر» الموصوف بما تقدَّم، والمعنى على عَوْدِهِ على «بَشَر» أنه لا يقع مِنْ بشر موصوفٍ بما وُصِف به أَنْ يَجْعَلَ نفسَه رباً فيُعْبَدَ، ولا يأمر أيضاً أن تُعْبَدَ الملائكة والأنبياءُ من دون الله، فانتقى أن يدعوَ الناس إلى عبادة نفسه وإلى عبادة غيره. والمعنى على عَوْده على الله تعالى أنه أخبر أنه لم يأمر بذلك فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادةِ غيره تعالى.
وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها [أوجه،] أحدُها: قول أبي علي وغيره، وهو أن يكونَ المعنى: ولا له أن يأمرَكم، فقدَّروا «أَنْ» تُضْمر بعد «لا» وتكون «لا» مؤكِّدةً لمعنى النفي السابق كما تقول: «ما كان من زيد إتيانٌ ولا قيام» وأنت تريدُ انتفاءَ كلِّ واحدٍ منهما عن زيد، فلا للتوكيد لمعنى النفي السابق/، وبقي معنى الكلام: ما كانَ من زيدٍ إتيانٌ ولا منه قيام.
الثاني: أن يكونَ نصبُه لنسقِهِ على «يُؤْتِيَه» قال سيبويه: «والمعنى: وما كان لبشرٍ أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة». قال الواحدي: «ويُقَوِّي هذا
279
الوجه ما ذكرنا أن اليهود قالت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتريد يا محمد أن نتَّخذك رباً فَنَزَلَت».
الثالث: أن يكونَ معطوفاً على «يقول» في قراءة العامة قاله الطبري. قال ابن عطية: «وهذا خطأٌ لا يلتئم به المعنى» ولم ييبِّنْ أبو محمد وجهَ الخطأ ولا عدمَ التئام المعنى. قال الشيخ: «وجهة الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على» يقول «وجَعَل» لا «للنفي على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد فلا يمكن أن يقدِّر الناصبَ وهو» أنْ «إلا قبل» لا «النافية، وإذا قَدَّرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي ب» لا «مصدر منفيٌّ، فيصير المعنى: ما كان لبشرٍ موصوفٍ بما وُصف به انتفاءُ أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، وإذا لم يكن له انتفاءُ الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك، وهو خطأٌ بيِّن. أمَّا إذا جَعَل» لا «لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خطأ ولا عدم التئام المعنى، وذلك أنه يصير النفي منسحباً على المصدرين المُقَدَّرِ ثبوتُهما فينتفي قولُه ﴿كُونُواْ عِبَاداً لِّي﴾ وينتفي أيضاً أمرُه باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، ويوضِّح هذا المعنى وضعُ» غير «موضعَ» لا «فإذا قلت:» ما لزيد فقهُ ولا نحوٌ «كانت» لا «لتأكيد النفي وانتفى عنه الوصفان، ولو جعلت» لا «لتأسيس النفي كانت بمعنى غير، فيصير المعنى انتفاء الفقه عن وثبوتَ النحو له، إذ لو قلت:» ما لزيد فقه وغيرُ نحو «كانَ في ذلك إثبات النحو له، كأنك قلت: ما له غيرُ نحو، ألا ترى أنك إذا قلت:» جئتُ بلا زادٍ «كان المعنى جئت بغير زادٍ، وإذا قلت:» ما جئت بغير زادٍ «معناه أنك جِئت بزاد، لأنَّ» لا «هنا لتأسيس النفي، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدمَ التئام المعنى إنما يكون على أحد التقديرين، وهو أن تكون» لا «لتأسيس النفي لا لتأكيده، وأن يكون من عطف المنفي
280
بلا على المثبت الداخل عليه النفيُ نحو: ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم تريد: ما أريدُ أَنْ لا تتعلم» انتهى.
وتابع الزمخشريُّ الطبريَّ في عطف «يَأْمركم» على «يقول» وجَوَّز في «لا» الداخلةِ عليه وجهين، أحدُهما: أَنْ تكونَ لتأسيس النفي، والثاني: أنها مزيدةٌ لتأكيده، فقال: «وقُرىء» ولا يأمركم «بالنصب عطفاً على» ثم يقول «، وفيه وجهان، أحدهما: أَنْ تَجْعَلَ» لا «مزيدةً لتأكيد معنى النفي في قوله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ والمعنى: ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصِّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وتركِ الأندادِ، ثم يأمرَ الناسَ بأن يكونوا عباداً له ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً كقولك: ما كان لزيدٍ أن أكرمه ثم يهينَني ولا يستَخِفَّ بي. والثاني: أن تَجْعَلَ» لا «غيرَ مزيدة، والمعنى: أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينهى قريشاً على عبادةِ الملائكة، واليهودَ والنصارى عن عبادةِ عُزير والمسيح، فلمَّا قالوا له: أَنتخذك رَبّاً قيل لهم: ما كان لبشَر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء». قلت: وهذا الذي أورده الزمخشري كلامٌ صحيح ومعنى واضح على كلا تقديري كونِ «لا» لتأسيسِ النفي أو تأكيدِهِ، فكيف يجعل الشيخ كلام الطبري فاسداً على أحد التقديرين وهو كونُها لتأسيس النفي؟ فقد ظهر والحمد لله صحة كلام الطبري بكلام أبي القاسم الزمخشري وظهر أن ردَّ ابن عطيةَ عليه مردود.
وقد رَجَّحَ الناسُ قراءةَ الرفع على النصب قال سيبويه: «ولا يأمُركم منقطعة مما قبلهما؛ لان المعنى ولا يأمركم الله»، قال الواحدي: «ومما يدلُّ على الانقطاع من الأول قراءةُ عبد الله:» ولَنْ يأمركم «.
قالوا الفراء: «فهذا
281
دليلٌ على انقطاعِها من النسق وأنَّها مستأنفةٌ، فلمَّا وقعت [لا] موقعَ لن رَفَعَتْ كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم﴾ [البقرة: ١١٩] وفي قراءة عبد الله:» ولن تُسْأل «وقال الزمخشري:» والقراءة بالرفع على ابتداءِ الكلام أظهرُ، ويَعْضِدُها قراءةُ عبد الله: «ولن يأمركم». انتهى.
وقد تقدَّم أنَّ الضميرَ في «يأمركم» يجوز أن يعود على «الله» وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم، والمرادُ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أعلمُّ من ذلك، سواءً قُرىء برفع «ولا يأمركم» أو بنصبه إذا جعلناه معطوفاً على «يؤتيه»، وأما إذا جعلناه معطوفاً على «يقول» فإنَّ الضمير يعود لبشر ليس إلا، ويؤيد ما قلته ما قال بعضُهم: «ووجهُ القراءةِ بالنصب أن يكونَ معطوفاً على الفعلِ المنصوب قبله، فيكونُ الضميرُ المرفوع لبشر لا غير» يعني بما قبله «ثم يقولَ». ولمَّا ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضميرَ عائداً على الله تعالى، ولم يذكر غيرَ ذلك، فيُحتمل أَنْ يكونَ هو الأَظهرَ عنده، ويُحتمل أنه لا يجوز غيرُه، والأولى أَوْلى.
قال بعضهم: «في الضمير المنصوب في» يأمركم «على كلتا القراءتين خروجٌ من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفاتِ» قلت: كأنه تَوَهَّم أنه لمَّا [توهم] تقدَّم ذِكْرُ الناسِ في قوله: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ﴾ كان ينبغي أن يكون النظم «ولا يأمرهم» جَرْياً على ما تقدم، وليس كذلك، بل هذا ابتداءُ خطابٍ لا التفاتَ فيه.
قوله: ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾«بعد» متعلِّقٌ بيأمركم، و «بعد» ظرفُ زمانٍ
282
مضافٌ لظرفِ زمانٍ ماضٍ، وقد تقدَّم أنه لا يُضاف إليه إلا الزمان نحو: حينئذٍ ويومئذٍ، و ﴿أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ في محلِّ خفضٍ بالإِضافة؛ لأنَّ «إذ» تُضاف إلى الجملة مطلقاً اسميةً كانت أو فعليةً.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ﴾ : في العامل في هذا الظرف أوجهٌ، أحدُها: «اذكر» إنْ كان الخطاب للنبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والثاني: «اذكروا» إن كان خطاباً لأهل الكتاب. الثالث: «اصطفى» فيكون معطوفاً على «إذ» المقدَّمةِ قبلها. وفيه بُعْدٌ، بل امتناعٌ لبُعْدِه. الرابع: أنَّ العامل فيه «قال» من قوله: «قال أأقررتم» وهو واضح جداً.
و ﴿مِيثَاقَ﴾ يجوز أَنْ يكونَ مضافاً لفاعله أو لمفعوله. وفي مصحف أُبي وعبد الله وقراءاتِهما: «ميثاقَ الذين أوتوا الكتاب» مثلَ ما آخر السورة، وعن مجاهد بن جبر كذلك، وقال: «أخطأ الكاتب» وهذا خطأٌ من قائله كائناً مَنْ كان، ولا أظنُّه يصِحُّ عن مجاهد، وفإنه قرأ عليه مثلُ ابنِ كثير وأبي عمرو ابن العلاء، ولم ينقلْ واحدٌ منهما عنه شيئاً من ذلك.
والمعنى على القراءةِ الشهيرة صحيحٌ، وقد ذَكَر الناسُ فيها أوجهاً، أحدُها: أنَّ الكلامَ على ظاهره وأن الله تعالى أخذ الأنبياء مواثيق أنهم يُصَدِّقون بعضَهم بعضاً وينصرُ بعضُهم بعضاً، بمعنى أنه يوصي قومه أن ينصروا ذلك النبيَّ الذي بعدَه ولا يَخْذُلوه، وهذا مَرْوِيٌّ عن جماعة. الثاني: أن الميثاق مضاف لفاعله والموثَقُ عليه غيرُ مذكورٍ لفَهْمِ المعنى، والتقدير: ميثاقَ النبيين على أممهم، ويؤيده قراءةُ أُبيّ وعبد الله، ويؤيدُه أيضاً قولُه: ﴿فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك﴾. الثالث: أنه على حذف مضاف تقديرُه: ميثاقُ أمم الأنبياء أو أتباعِ، ويؤيده ما أيَّد ما قبله أيضاً وقوله: ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾.
283
الرابع: قال الزمخشري: «أَنْ يُراد أهلُ الكتاب، وأَنْ يَرُدَّ على زَعْمهم تهكماً بهم لأنهم كانوا يقولون: نحن أَوْلى بالنبوة من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنَّا أهل كتاب ومنا كان النبيون» وهذا الذي قاله بعيد جداً، كيف يُسَمِّيهم أنبياءً تهكماً بهم، ولم يكن ثَم قرينةٌ تبيِّن ذلك؟
قوله: ﴿لَمَآ آتَيْتُكُم﴾ العامةُ: «لَما» بفتح اللام وتخفيف الميم، وحمزةُ وحده على كسر اللام، وسعيد بن جبير والحسن: لَمَّا بالفتح والتشديد.
فأمَّا قراءة العامة ففيها خمسة أوجه: أحدُها: أن تكون «ما» موصولةً بمعنى الذي وهي مفعولةٌ بفعل محذوف، وذلك الفعلُ هو جوابُ القسم، والتقدير: والله لَتُبَلِّغُنَّ ما آتيناكم من كتابٍ، قال هذا القائل: لأنَّ لام القسم إنما تقع على الفعل، فلما دَلَّت هذه اللامُ على الفعل حُذِف، ثم قال تعالى: «ثم جاءكم رسول وهو محمد صلى الله عليه سلم» قال: «وعلى هذا التقدير يستقيم النظم». قلت: «وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوزَ البتة، إذ يمتنع أن تقولَ في نظيرِه من الكلام:» واللهِ لزيداً «تريد: والله لتضرِبَنَّ زيداً.
الوجه الثاني: وهو قول أبي عليّ وغيره أن تكونَ اللامُ في «لَما» جوابَ قوله: ﴿مِيثَاقَ النبيين﴾ لأنه جارٍ مَجْرَى القسم، فهي لامُ الابتداء المُتَلَقَّى بها القسمُ، و «ما» مبتدأةٌ موصولة و «آتيناكم» صلتُها، والعائد محذوف تقديره: آتيناكموه، فَحُذِفَ لاستكمال شروطه، و «من كتاب» حال: إمَّا من الموصول وإمَّا من عائده، وقوله: ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ عطفٌ على الصلة، وحينئذ فلا بُدَّ من رابطٍ يربطُ هذه الجملةَ بما قبلَها فإنَّ المعطوفَ على الصلة صلةٌ، واختلفوا في ذلك: فذهب بعضهم إلى أنه محذوفٌ تقديره: «ثم
284
جاءكم رسول به» فَحُذِف «به» لطول الكلام ولدلالة المعنى عليه، وهذا لا يجوزُ؛ لأنه متى جُرَّ العائدُ لم يُحْذَفْ إلا بشروطٍ تقدَّمت، هي مفقودةٌ هنا، وزعم هؤلاء أن هذا مذهب سيبويه، وفيه ما قد عرفته، ومنهم مَنْ قال: الربطُ حصل هنا بالظاهر، لأن هذا الظاهر وهو قوله: «لِما معكم» صادقٌ على قوله: «لِما آتيناكم» فهو نظير: «أبو سعيد الذي رَوَيْتُ عن الخِدْريّ، والحَجَّاج الذي رأيتُ ابنُ يوسف»، وقال:
١٣٤٨ - فيا رَبَّ ليلى أَنْتَ في كلِّ موطن
وأنت الذي في رحمةِ اللهِ أَطْمَعُ
يريدون: عنه ورأيته وفي رحمته، وقد وَقَع ذلك في المبتدأ والخبر نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ [الكهف: ٣٠] وهذا رأي أبي الحسن وتقدَّم فيه بحث. ومنهم مَنْ قال: إنَّ العائدَ يكون ضميرَ الاستقرارِ العامل في «مع»، و «لتؤمِنُنَّ به» جوابُ قسمٍ مقدرٍ، وهذا القسمُ المقدَّرُ وجوابهُ خبرٌ للمبتدأ الذي هو «لَما آتيتكم»، والهاء في به تعود على المبتدأ ولا تعودُ على «رسول»، لئلا يلزَمَ خُلُوُّ الجملةِ/ الواقعةِ خبراً من رابطٍ يَرْبِطُها بالمبتدأ.
الثالث: كما تقدم إلا أن اللام في «لما» لامُ التوطئة، لأنَّ أَخْذَ الميثاق في معنى الاستحلاف، وفي «لتؤمِنُنَّ به» لامٌ جوابِ القسم، هذا كلام الزمخشري ثم قال: «وما» تحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، و «لتؤمِنُنَّ» سادٌّ مسدَّ جوابِ القسم والشرط جميعاً، وأن تكون بمعنى «الذي». وهذا الذي قاله فيه نظرٌ من حيث إنَّ لام التوطئة إنما تكون مع أدوات الشرط،
285
وتأتي غالباً مع «إنْ»، أما مع الموصول فلا، فلو جَوَّز في اللام أن تكون موطئةً وأن تكونَ للابتداء، ثم ذكر في «ما» الوجهين لحَمَلْنَا كلَّ واحد على ما يليق به.
الرابع: أن اللامَ هي الموطئة و «ما» بعدَها شرطيةٌ، ومحلها النصب على المفعول به بالفعل الذي بعدها وهو «آتيتكم»، وهذا الفعلُ مستقبلٌ معنًى لكونِه في حَيِّز الشرط، ومَحلُّه الجزم والتقدير: والله لأَيَّ شيء آتيتُكم مِنْ كذا وكذا لتكونن كذا.
وقوله: ﴿مِّن كِتَابٍ﴾ كقوله: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦] وقد تقدَّم تقريرُه. وقوله: ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ عطفٌ على الفعلِ قبلَه فيلزُم أَنْ يكون فيه رابطٌ يربطُه بما عُطِف عليه. و «لتؤمِنُنَّ» جوابٌ لقوله: ﴿أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين﴾، وجوابُ الشرط محذوفٌ سَدَّ جوابُ القسم مَسَدَّه، والضميرُ في «به» عائدٌ على «رسول»، كذا قال الشيخ، وفيه نظر لأنه عَوْدُه على اسمِ الشرط، ويَسْتَغني حينئذ عن تقديره رابطاً، وهذا كما تقدَّم في الوجهِ الثاني، ونظيرهُ هذا من الكلام أن تقول: «أَحْلِفُ باللهِ لأَيَّهم رأيتُ ثم ذهب إليه رجلٌ قُرَشي لأُحْسِنَنَّ إليه» تريدُ إلى الرجل، وهذا الوجهُ هو مذهبُ الكسائي.
وقال سأل سيبويه الخليلَ عن هذه الآية فأجابَ بأنَّ «ما» بمنزلة الذي، ودَخَلَتِ اللامُ على «ما» كما دخلت على «إنْ» حين قلت: واللهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لأفعلنَّ، فاللامُ التي في «ما» كهذه التي في إنْ، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا «هذا نصٌّ الخليل. قال أبو علي:» لم يُرِد الخليل بقوله «
286
إنها بمنزلة الذي» كونَها موصولةً بل أنها اسمٌ كما أن الذي اسم، وقرر أن تكونَ حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله: ﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ [هود: ١١١] ﴿وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة﴾ [الزخرف: ٣٥] وقال سيبويه: «ومثلُ ذلك: ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ [الأعراف: ١٨] إنما دَخَلَتْ اللامُ على نِيَّة اليمين».
وإلى كونِها شرطيةً ذهب جماعةٌ كالمازني والزجَّاج والزمخشري والفارسي، قال الشيخ: «وفيه حَدْسٌ لطيف، وحاصلُ ما ذكر أنهم إن أرادوا تفسيرَ المعنى فيمكن أن يُقال، وإنْ أرادوا تفسير الإِعراب فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ كلاً منهما أعني الشرط والقسم يطلُب جواباً على حِدة، ولا يمكن أن يكونَ هذا محمولاً عليهما؛ لأنَّ الشرطَ يقتضيه على جهة العملِ فيكونُ في موضع جزم، والقسمُ يطلبُه من جهة التعلق المعنوي به من غير عمل فلا موضع له من الإِعراب، ومُحالٌ أن يكونَ الشيء له موضعٌ من الإِعراب ولا موضع له من الإِعراب» قلت: تقدَّم هذا الإِشكالُ والجوابُ عنه.
الخامس: أنَّ أصلَها «لَمَّا» بتشديدِ الميم فخففت، وهذا قول ابن أبي إسحاق، وسيأتي توجيهُ قراءة التشديد فَتُعْرَفُ مِنْ ثَمَّة.
وقرأ حمزة: «لِما» بكسرِ اللامِ خفيفةَ الميم أيضاً، وفيها أربعةُ أوجه، أحدهما: وهو أغربُها أن تكونَ اللام بمعنى «بعد» كقوله النابعة:
287
١٣٤٩ - تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها... لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ
يريد: فَعَرَفْتُها بعد ستة أعوام، وهذا منقولٌ عن صاحب النظم، ولا أدري ما حَمَله على ذلك؟ وكيف يَنْتظم هذا كلاماً، إذ يصير تقديرُه: وإذ أخذ اللهُ ميثاقَ النبيين بعدَما آتيناكم، ومَنِ المخاطبُ بذلك؟
الثاني: أن اللامَ للتعليل، وهذا الذي ينبغي ألاَّ يُحادَ عنه وهي متعلقة ب «لتؤمِنُنَّ»، و «ما» حينئذٍ مصدريةٌ، قال الزمخشري: «ومعناه لأجلِ إيتائي إياكم بعضَ الكتابِ والحكمة، ثم لمجيء رسولٍ مصدِّقٍ لتؤمِنُنَّ به، على أنَّ» ما «مصدريةٌ، والفعلان معها أعني:» آتيناكم «و» جاءكم «في معنى المصدرين، واللامُ داخلةٌ للتعليل، والمعنى: أخَذَ الله ميثاقَهم لتؤمِنُنَّ بالرسول ولتنصُرُنَّه لأجل أن آتيتكم الحكمة، وأنَّ الرسول الذي أمركم بالإِيمان ونصرتِه موافقٌ لكم غيرُ مخالِفٍ. قال الشيخ:» ظاهر هذه التعليل الذي ذكره والتقدير الذي قدره أنه تعليلٌ للفعلِ المُقْسَم عليه، فإنْ عَنَى هذا الظاهرَ فهو مُخالِفٌ لظاهر الآية، لأنَّ ظاهرَ الآيةِ يقتضي أن يكونَ تعليلاً لأخْذِ الميثاق لا لمتعلَّقه وهو الإِيمان، فاللامُ متعلقةٌ بأخذ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقةً بقوله: لتؤمِنُنَّ به «، ويمتنع ذلك من حيث إنَّ اللام المتلقَّى بها القسمُ لا يعمل ما بعدَها فيما قبلها، تقول: والله لأضربَنَّ زيداً، ولا يجوزُ: والله زيداً لأضربنَّ، فعلى هذا لا يجوزُ أن تتعلق اللام في» لِما «بقوله:» لتؤمِننَّ «. وقد أجاز بعضُ النحويين في معمول الجواب إذا كان ظرفاً أو مجروراً تقدُّمَه، وجَعَلَ من ذلك:
١٣٥٠ -..................................
288
عَوْضُ لا نَتَفَرَّقُ
وقولَه تعالى: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ [المؤمنون: ٤٠] فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله:» لَتُؤْمِنُنَّ «وفي هذ المسألةِ تفصيلٌ يُذْكَرُ في علم النحو، قلت: أمَّا تعلُّق اللامِ بلتؤمِنُنَّ من حيث المعنى فإنَّه أظهرُ مِنْ تعلُّقِها بأخذ، وهو واضحٌ فلم يَبْقَ إلاَّ ما ذَكَر مِنْ مَنْع تقديمِ معمولِ الجواب المقترنِ باللام عليه وقد عُرف، وقد يكون الزمخشري مِمَّن يرى جوازه.
والثالث: أن تتعلَّقَ اللام بأخذ أي: لأجل إيتائي إياكم كيتَ وكيتَ أخذْتُ عليكم الميثاق، وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه: لرعاية ما أتيتكم.
الرابع: أن تتعلَّقَ بالميثاق لأنه مصدر، أي توثَّقْنا عليهم لذلك. هذه الأوجهُ بالنسبة إلى اللام، وأمَّا [ما] ففيها ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أَنْ تكونَ مصدرية وقد تقدَّم تحريرُه عند الزمخشري. والثاني: أنها موصولة بمعنى الذي وعائدُها محذوفٌ و» ثم جاءكم «عطف على الصلة، والرابط لها بالموصول: إمَّا محذوفٌ تقديره:» به «وهو رأيُ سيبويه، وإمَّا لقيامِ الظاهر مقامَ المضمرِ وهو رأيُ الأخفش، وإِمَّا ضميرُ الاستقرار الذي تضمَّنه» معكم «وقد تقدَّم تحقيق ذلك. والثالث: أنها نكرةٌ موصوفة، والجملةٌ بعدها صفتُها وعائدُها محذوف، و» ثم جاءكم «عطفٌ على الصفة، والكلامُ في الرابطِ كما تقدَّم فيها وهي صلة، إلا أنَّ إقامة الظاهر مُقام الضمير في الصفة ممتنع، لو قلت:» مررت برجلٍ قام أبو عبد الله «على أن يكون» قام أبو عبد الله «صفة
289
لرجل، والرابطُ أبو عبد الله، إذ هو الرجل في المعنى لم يَجُز ذلك، وإن جاز في الصلة والخبر عند مَنْ يرى ذلك، فيتعيَّن عَوْدُ ضمير محذوف.
وجوابُ قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ﴾ قوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ كما تقدم، والضمير فيه «به» عائدٌ على «رسول»، ويجوز الفصلُ بين القسم والمقسم عليه بمثلِ هذا الجار والمجرور لو قلت «أقسمتُ للخير الذي بلغني عن عمرٍو لأحْسِنَنَّ إليه» جاز.
وقوله: ﴿مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ : إمَّا حالٌ من الموصول أو من عائده، وإمَّا بيانٌ له فامتنع في قراءةِ حمزة أن تكونَ «ما» شرطيةً كما امتنع في قراءة الجمهورِ أن تكونَ مصدريةً.
وأمَّا قراءةُ سعيد والحسن ففيها أوجه، أحدها: أَنَّ «لَمَّا» هنا ظرفيةٌ بمعنى حين فتكونُ ظرفية. ثم القائلُ بظرفيتها اختلف تقديرُه في جوابها، فذهب الزمخشري إلى أن الجوابَ مقدرٌ من جنس جواب القسم فقال: «لَمَّا» بالتشديد بمعنى حين، أي: حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسولٌ مصدِّق وَجَبَ عليكم الإِيمانُ به ونصرتُه «. وقال ابن عطية:» ويظهر أن «لمَّا» هذه الظرفيةُ أي: لَمَّا كنتم بهذه الحالِ رؤساءَ الناس وأماثِلَهم أخذ عليكم الميثاق، إذ على القادة يُؤْخَذ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة «فقدَّر ابن عطية جوابَها من جنس ما سبقها، وهذا الذي ذهبا إليه مذهب مرجوح قال به الفارسي، والجمهور: سيبويه وأتباعُه على خلافه، وقد تقدم تحقيق هذا الخلاف فلا حاجة لذكره. وقال
290
الزجاج:» أي لَمَّا آتاكم الكتاب والحكمة أخذ عليكم الميثاق، وتكون «لمَّا» تَؤُول إلى الجزاء كما تقول: لَمّا جِئْتني أكرمتُك «وهذه العبارةُ لا يؤخذ منها كونُ» لَمّا «ظرفيةً ولا غير ذلك، إلا أن فيها عاضداً لتقدير ابن عطية جوابَها من جنس ما تقدمها بخلاف تقدير الزمخشري.
الثاني: أن» لَمَّا «حرفُ وجوبٍ لوجوبٍ، وقد تقدَّم دليله وأنه مذهب سيبويه، وجوابُها كما تقدَّم مِنْ تقديري ابن عطية والزمخشري. وفي قول ابن عطية:» فيجيء على المعنى كالمعنى في قراءة حمزة «نظر؛ إذ قراءة حمزة فيها تعليل وهذه القراءةُ لا تعليل فيها، اللهم إلا أن يقال: لَمَّا كانت» لَمَّا «تحتاجُ إلى جوابٍ أشبه ذلك العلةَ ومعلولَها، لأنك إذا قلت:» لَمَّا جِئْتَني أكرمتُك «في قوةِ: أكرمتُك لأجلِ مجيئي إليك، فهي من هذه الجهةِ كقراءة حمزة.
والثالث: أنَّ الأصلَ: لَمِنْ ما فأدغمت النون في الميم لأنها تقاربُها، والإِدغامُ هنا واجب، / ولما اجتمع ثلاثُ ميمات، ميمِ مِنْ، وميمِ» ما «والميمِ التي انقلبت من نون» من «لأجل الإِدغام فحصل ثقل في اللفظ.
قال الزمخشري: «فحذفوا إحداها». قال الشيخ: «وفيه إبهامٌ»، وقد عَيَّنها ابن عطية بأن المحذوفة هي الأولى، قلت: وفيه نظر، لأنَّ الثقلَ إنما حصل بما بعد الأولى، ولذلك كان الصحيح في نظائره إنما هو حَذْفُ الثواني نحو: «تَنَزَّل» و «تَذَكَّرون»، وقد ذكر أبو البقاء أنّ المحذوفة هي الثانية، قال: «لضَعْفها بكونِها بدلاً وحصولِ التكرير بها».
291
و «مِنْ» هذه التي في «لَمِنْ ما» زائدة في الواجب على رأي أبي الحسن الأخفش. وهذا تخريج أبي الفتح، وفيه نظرٌ بالنسبة إلى ادعائه زيادة «مِنْ» فإن التركيب يقلق على ذلك، ويبقى المعنى غيرَ ظاهر.
الرابع: أنَّ الأصل أيضاً: لَمِنْ ما، فَفُعِل به ما تقدم من القلب والإِدغام ثم الحذفِ، إلا أن «مِنْ» ليست زائدةً بل هي تعليليَّةٌ، قال الزمخشري: «ومعناه لمِنْ أجل ما أتيتكم لتؤمنُنَّ به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى» قلت: وهذا الوجه أوجهُ ممَّا تقدَّمه لسلامته من ادِّعاء زيادة «مِنْ» ولوضوح معناه. قال الشيخ: «وهذا التوجيهُ في غاية البُعْد ويُنَزَّه كلامُ العرب أن يَأْتيَ فيه مثلُه فكيف في كتاب اللهِ عز وجل! وكان ابن جني كثيرَ التمحُّلِ في كلام العرب، ويلزم في» لَمّا «هذه على ما قرره الزمخشري أن تكونَ اللامُ في» لِمنْ ما آتيناكم «زائدةً، ولا تكونُ اللامَ الموطئة، لأنَّ الموطئةَ إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر، لو قلت:» أٌقسم بالله لمِنْ أجلك لأضربن زيداً «لم يَجُزْ، وإنما سُمِّيت موطئةً لأنها تُوَطِّىء ما يَصْلُح أن يكونَ جواباً للشرط للقسم، فيصيرُ جوابُ الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالةِ جواب القسم عليه» قلت: قد تقدَّم له هو أنَّ «ما» في هذه القراءة يجوز أن تكونَ موصولة بمعنى الذي، وأن اللام معها موطئةٌ للقسمِ، وقد حصر هنا أنها لا تدخل إلا على أدوات الشرط فأحدُ الأمرين لازمٌ له، وقد قَدَّمْتُ أنَّ هذه هو الإِشكالُ على مَنْ جَعَلَ «ما» موصولةً وجَعَلَ اللامَ موطئةً.
وقرأ نافع: «آتيناكم» بضميرِ المعظِّم نفسَه، والباقون: «آتيتكم»
292
بضميرِ المتكلم وحدَه، وهو موافقٌ لما قبله وما بعده من صيغة الإِفراد في قولِه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله﴾، وجاء بعده «إصري».
وفي قوله «آتيتكم» أو «آتيناكم» على كلا القراءتين التفاتان أحدُهما: الخروجُ من الغيبة إلى التكلم في قوله آتينا أو آتيتُ، لأنَّ قبله ذِكْرَ الجلالة المعظمة في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله﴾، والثاني: الخروجُ من الغَيْبَة إلى الخطاب في قوله: «آتيناكم» لأنه قد تقدَّمه اسم ظاهر وهو «النبيين»، إذ لو جرى على مقتضى تقدُّم الجلالة والنبيين لكان التركيب: وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيين لما آتاهم من كتاب كذا، قال بعضهم: «وفيهِ نظرٌ لأنَّ مثلَ هذا لا يسمى التفاتاً في اصطلاحِهم، وإنما يسمى حكايةً الحال، ونظيرُه قولُك: حلف زيد ليفعلنَّ ولأفعلن، فالغَيْبَةُ مراعاةً لتقدُّم الاسم الظاهر، والتكلُم حكايةً لكلامِ الحالفِ، والآية الكريمة من هذا».
وأصل لتؤمِنُنَّ به ولتنصُرُنَّه: لتؤمنونَنّ ولتنصرونَنّ، فالنون الأولى علامة الرفع، والمشددة بعدها للتوكيد، فاستُثْقِلَ توالي ثلاثةِ أمثال فحذفوا نونَ الرفع لأنها ليست في القوة كالتي للتوكيد، فالتقى بحذفها ساكنان، فَحُذِفَت الواوُ لالتقاء الساكنين.
وقرأ عبد الله: «مُصَدِّقاً» نصبٌ على الحال من النكرة، وقد قاسه سيبويه وإنْ كان المشهورُ عنه خلاَفهُ، وحَسَّن ذلك هنا كونُ النكرةِ في قوة المعرفة من حيث إنه أُريد بها شخصٌ معين وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واللام في «لَما» زائدةٌ لأنَّ العاملَ فرع وهو مُصَدِّق والأصل: مُصَدِّقٌ ما معكم.
قوله: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ﴾ : فاعلٌ «قال» يجوز أن يكونَ ضميرَ الله تعالى وهو الظاهر، وأن يكون ضَميرَ النبي الذي هو واحد النبيين، خاطب بذلك
293
أمته، ومتعلِّقٌ الإِقرارِ محذوفٌ، أي: أأقرتم بذلك كله، والاستفهامُ على الأولِ مجازٌ، إذ المرادُ به التقريرُ والتوكيدُ عليهم لاستحالتِهِ في حق الباري تعالى، وعلى الثاني هو استفهامٌ حقيقةً، و «إصْري» على الأول الياء لله تعالى وعلى الثاني للنبي.
وقرأ العامة «إصري» بكسر الهمزة وهي الفصحى، وقرأ أبو بكر عن عاصم في رواية: «أُصْري» بضمها، ثم المضمومُ يُحتمل أن يكون لغةً في المكسور وهو الظاهر، ويحتمل أن يكونَ جمع إصار، ومثله أُزُر في جمع إزار، وقد تَقَدَّم في أواخر البقرة الكلامُ عليه مشبعاً.
وقوله: ﴿أَقْرَرْنَا﴾ أي: بالإِيمان به وتبصرتِه. وفي الكلام حذفُ جملةٍ أيضاً، حُذِفَتْ لدلالةِ ما تقدَّم عليها، إذا التقديرُ: قالوا: أقررنا وأخذنا إصْرَكَ على ذلك كله.
وقوله: ﴿فاشهدوا﴾ هذه الفاءُ عاطفة على جملة مقدرةٍ تقديره: قال: أأقررتم فاشهدوا، ونظيرُ ذلك: «أَلقِيتَ زيداً» ؟ قال: «لَقِيتُه»، قال: «فَأَحسِنْ إِليه»، والتقدير: أَلَقِيتَ زيداً فأحسن إليه، فما فيه الفاءُ بعضُ المقول، ولا جائز أن يكونَ كلَّ المقولِ لأجل الفاء، ألا ترى قولَه: «قال: أأقررتم» وقوله: «قالوا: أقررنا» لَمَّا كان كلَّ المقول لم يُدْخِلِ الفاء، قاله الشيخ، والمعنى واضح بدونه.
قوله: ﴿مِّنَ الشاهدين﴾ هذا هو/ الخبرُ لأنَّه مَحَطُّ الفائدة، وأمَّا قوله: «معكم» فيجوزُ أن يكون حالاً أي: وأنا من الشاهدين مصاحباً لكم، ويجوز
294
أن يكونَ منصوباً بالشاهدين ظرفاً له عند مَنْ يرى تجويز ذلك، ويمتنع أن يكونَ هو الخبرَ إذ الفائدةُ به غيرُ تامة في هذا المقام، والجملةُ من قوله: ﴿وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين﴾ يجوز ألاَّ يكونَ لها محلٌّ لاستئنافِها، ويجوز أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «فاشْهدوا».
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تولى﴾ : يجوز أنْ تكونَ «مَنْ» شرطيةً فالفاء في «فأولئك» جوابُها، وأن تكونَ موصولةً، ودخلت الفاءُ لشبه المبتدأ باسم الشرط، فالفعل بعدها على الأول في محل جزم، وعلى الثاني لا محلَّ له لكونِه صلةً، وأما «فأولئك» ففي محلِّ جزم أيضاً على الأول ورفعٍ على الثاني لوقوعِهِ خبراً، و «هم» يجوزُ أن يكونَ فصلاً وأن يكونَ مبتدأ، وهذه الأشياء واضحةٌ مِمَّا تقدَّم، فلذلك لم أُوغل في بيانها.
قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ﴾ : قد تقدم أن الجمهور يجعلون الهمزةَ مقدمةً على الفاء للزومِها الصدرَ، والزمخشري يُقِرُّها على حالِها ويقدِّرُ محذوفاً قبلها، وهنا جَوَّز وجهين، أحدُهما: أن تكونَ الفاءُ عاطفةً جملةً على جملة، والمعنى: فأولئك هم الفاسقون فغيَر دين الله يبغون، ثم توسَّطت الهمزةُ بينهما. والثاني: أن يُعْطَف على محذوفٍ تقديرُهُ: أيتولَّون فغيرَ دين الله يبغون، وقَدَّم المفعولَ الذي هو «غير» على فِعْلِهِ لأنه أهمُّ من حيثُ إنَّ الإِنكارَ الذي هو معنى الهمزة متوجهٌ إلى المعبودِ بالباطل، هذا كلامُ الزمخشري. قال الشيخ: «ولا تحقيقَ فيه لأنَّ الإِنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجَّه إلى الذوات، إنما يتوجَّه إلى الأفعال التي تتعلَّق بالذوات، فالذي أُنْكر إما هو الابتغاء الذى متعلَّقه غيرُ دين الله، وإنما جاء تقديمُ
295
المفعول من باب الاتساع، ولشبهِ يبغون بالفاصلة بآخر الفعل» قلت: وأين المعنى من المعنى؟
وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم: «يَبْغون» بالياءِ من تحت نَسَقاً على قوله: ﴿هم الفاسقون﴾ والباقون بياءِ الخطاب التفاتاً.
قوله: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات﴾ جملةٌ حالية أي: كيف يَبْغُون غيرَ دينه والحالُ هذه؟
قوله: ﴿طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ فيهما وجهان أحدُهما: أنهما مصدران في موضع الحال والتقدير: طائعين وكارهين. والثاني: أنهما مصدران على غير الصدر، قال أبو البقاء: «لأنَّ أسلم بمعنى انقاد وأطاع»، وتابع الشيخ على هذا، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ هذا ماشٍ في «طوعاً» لموافقته لمعنى الفعل قبله، وأمَّا «كَرْهاً» فكيف يقال فيه ذلك، والقول بأنه يُغتفر في الثواني ما لا يُغْتفر في الأوائل غيرُ نافعٍ هنا. ويقال: طاع يَطُوع، وأطاع يُطيع بمعنى. وقيل: طاعة يَطُوعه انقادَ له، وأطاعه أي: رَضِي لأمره، وطاوَعَهُ أي: وافقه.
وقرأ الأعمش: «كُرْهاً» بالضم، وسيأتي أنها قراءة للأَخوين في سورة النساء، وللكوفيين وابن ذكوان في الأحقاف، وهناك تكلَّمْنا عليها، وتقدم لنا أيضاً ذِكْرُ هذه المادة في البقرة.
296
قوله: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً فلا محلَّ لها، وإنما سِيقت للإِخبار بذلك لتضمُّنها معنى التهديد العظيم والوعيدِ الشديد، ويجوزُ أن تكونَ معطوفةٌ على الجملةِ من قولِهِ: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ﴾ فتكونُ حالاً أيضاً، ويكونُ المعنى أنه نَعَى عليهم ابتغاءَ غير دين مَنْ أسلم له جميعُ مَنْ في السماوات والأرض طائِعين ومُكْرَهين ومَنْ مَرجِعُهم إليه.
وقرأ حفص عن عاصم: «يُرْجَعُون» بياء الغيبة ويَحْتَمِل ذلك وجوهاً. أحدها: أَنْ يعودَ الضميرُ على مَنْ أسلم وهو واضح. الثاني: أن يعود على مَنْ عاد عليه ضميرُ «يَبْغَون» في قراءة مَنْ قرأه بالغيبة، وهو أيضاً واضحٌ، ولا التفاتَ في هذين الوجهين. والثالث: أن يعودَ على مَنْ عاد إليه الضمير في «تَبْغَون» في قراءة الخطاب فيكون التفاتاً حينئذٍ. وقرأ الباقون: «تَبْغُون» بالخطاب، فَمَن قرأ «تبغون» بالخطاب فهو واضح، ومَنْ قرأه بالغيبة فيكون هذا التفاتاً منه، ويجوز أن يكون التفاتاً من قوله: ﴿مَنْ فِي السماوات والأرض﴾.
قوله تعالى: ﴿قُلْ آمَنَّا بالله﴾ في هذه الآية احتمالان أحدُهما: أن يكونَ المأمورُ بهذا المقولِ وهو آمنَّا إلى آخره محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم في ذلك معنيان، أحدهما: أن يكون هو وأمته مأمورين بذلك، وإنما حُذِف معطوفُه لفهم المعنى، والتقدير: قل يا محمد أنت وأمتك: آمنَّا بالله، وهذا تقديرُ ابن عطية. والثاني من المعنيين أنَّ المأمور هنا بذلك نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحدَه، وإنما خُوطب بلفظِ الجمع تعظيماً له. قال الزمخشري: «ويجوز أن يُؤْمَرَ بأَنْ يتكلَّم عن نفسِه كما تتكلم
297
الملوكُ إِجلالاً مِنَ الله لقَدْرِ نبيه» قلت: وهو معنًى حسن. والاحتمال الثاني: أن يكونَ المأمور بهذا المقولِ مَنْ تَقَدَّم، والتقدير: قل لهم قولوا آمنَّا، فآمنَّا منصوبٌ بقُل على الاحتمالِ الأول، وبقولوا المقدرِ على الثاني، وذلك القولُ المضمر منصوبٌ المحل.
وهذه الآية شبيهةٌ بالتي في البقرة، إلاَّ أنَّ هنا تعديةَ أنزل بعلى، وهناك بإلى. فقال الزمخشري: «لوجودِ المعنيين جميعاً لأنَّ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل، فجاء تارةً بأحد المعنيين وأخرى بالآخر» وقال ابن عطية: «الإِنزالُ على نبي الأمة إنزالٌ عليها»، وهذا لا طائل فيه بالنسبة إلى طلب الفرق. وقال الراغب: «إنَّما قال هنا» على «لأن ذلك لَمَّا كان خطاباً للنبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطةٍ بشريةٍ كان لفظُ» على «المختصُّ بالعلو أَوْلى به، وهناك لَمَّا كان خطاباً للأمة، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لفظُ» إلى «المختصُّ بالإِيصال أَوْلى، ويجوزُ أَنْ يقال:» أَنْزَلَ عليه «إنما يُحمل على ما أُمِرَ المُنَزَّلُ عليه أَنْ يُبَلِّغه غيرَه، و» أَنْزَل إليه «على ما خُصَّ به في نفسِه وإليه نهايةُ الإِنزال، وعلى ذلك قال: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥١] وقال: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] خُصََّ هنا بإلى لَمَّا كان مخصوصاً بالذكر [الذي] هو بيانُ المُنَزَّل، وهذا كلامٌ في الأَوْلى لا في الوجوب».
298
وهذا الذي ذكره الراغب رَدَّهُ الزمخشري فقال: «ومَنْ قال: إنما قيل» علينا «لقوله» قل «، و» إلينا «لقوله» قولوا «تفرقةً بين الرسول والمؤمنين، لأنَّ الرسولَ يأتيه الوحيُ على طريقِ الاستعلام ويأتيهم على وجه الانتهاء فقد تَعَسَّف، [ألا ترى] إلى قوله ﴿بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [البقرة: ٤] ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب﴾ [المائدة: ٤٨] وإلى قوله: ﴿آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ﴾ [آل عمران: ٧٢].
وفي البقرة: ﴿وَمَا أُوتِيَ النبيون﴾ [الآية: ١٣٦] وهنا» والنبيون «لأنَّ التي في البقرةِ لفظُ الخطابِ فيها عامٌّ، ومِنْ حُكْمِ خطابِ العام البسطُ دونَ الإِيجاز بخلافِ الخطاب هنا فإنه خاصٌّ فلذلك اكتفى فيه بالإِيجاز دون الإِطناب. وباقي كلماتِ جملِ الآية تقدََّم الكلام عليها في البقرة.
قوله تعالى: ﴿يَبْتَغِ غَيْرَ﴾ : العامَّة على إظهار هذين المِثْلين؛ لأن بينهما فاصلاً فلم يلتقيا في الحقيقة، وذلك الفاصل هو الياء التي حذفت للجزم، ورُوي عن أبي عمرو فيها الوجهان: الإِظهارُ على الأصل ولمراعاةِ الفاصلِ الأصلي، والإِدغامُ مراعاةً للَّفظ، إذ يَصْدُق أنهما التقيا في الجملة، ولأنَّ ذلك الفاصل مستحقٌّ الحذفَ لعاملِ الجزم، وليس هذا مخصوصاً بهذه الآيةِ بل كلما التقى فيه مِثْلان بسببِ حذف حرف، لعلَّةٍ اقتضت ذلك جرى فيه الوجهان نحو: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ [يوسف: ٩] {وَإِن يَكُ
299
كَاذِباً} [غافر: ٢٨]، وقد استُشْكِلَ على هذا نحو: ﴿ياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ﴾ [غافر: ٤١] و ﴿ياقوم مَن يَنصُرُنِي﴾ [هود: ٣٠] فإنه لم يُرْوَ عن أبي عمرو خلافٌ في إدغامهما، وكان القياس يقتضي جوازَ الوجهين لأنَّ ياءَ المتكلم فاصلةً تقديراً.
قوله: ﴿دِيناً﴾ فيه ثلاثة أوجه، أحدُهما: أنه مفعولُ يَبْتَغِ، و ﴿غَيْرَ الإسلام﴾ حالٌ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلمَّا قُدِّمت عليه نُصِبَت حالاً.
الثاني: أن يكونَ تمييزاً لغير لإِبهامها، فَمُيِّزَت كما مُيِّزَت «مثل» و «شبه» وأخواتهما، وسُمع من العرب: «إنَّ لنا غيرَها إبلاً وشاء». والثالث: أن يكونَ بدلاً مِنْ «غير»، وعلى هذين الوجهين فغيرَ الإِسلامِ هو المفعولُ به ليبتَغِ.
وقوله: ﴿وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين﴾ كقولِهِ: ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾ [البقرة: ١٣٠] في الإِعراب وسيأتي ما بينَهما في المعنى. وقيل: «أل» معرفةٌ لا موصولةٌ فلم يمنعْ من تعلُّق ما قبلها. بما بعدها، وهذه الجملة يجوزُ أَنْ لا يكونَ لها محلٌّ لاستئنافها، ويجوزُ أن تكونَ في محل جزم نسقاً على جواب الشرط وهو «فلن يُقْبل»، ويكون قد ترتَّب على ابتغاء غير الإسلام ديناً عدمُ القبول والخسران.
قوله: ﴿وشهدوا﴾ في هذه الجملة ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها معطوفةٌ على «كفروا» و «كفروا» في محلِّ نصبٍ نعتاً لقوماً، أي: كيف يهدي مَنْ جَمَعَ بين هذين الأمرين، وإلى هذا ذهب ابنُ عطية والحوفي وأبو البقاء، إلا أنَّ مكيّاً قد رَدَّ هذا الوجهَ فقال: «لا يجوزُ عطفُ» شهدوا «على» كفروا «لفسادِ المعنى»، ولم يُبَيِّن جهةَ الفسادِ فكأنه فَهِمَ الترتيبَ بين الكفر والشهادة، فلذلك فَسَدَ المعنى، وهذا غير لازمٍ، فإنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً، ولذلك قال ابن عطية: «المعنى مفهومٌ أنَّ الشهادةَ قبل الكفرِ والواوُ لا تُرَتِّب».
الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من واو «كفروا»، والعاملُ فيها الرافعُ لصاحبِها، و «قد» مضمرةٌ معها على رأي، أي: كفروا وقد وقد شهدوا، وإليه ذهب جماعة كالزمخشري وأبي البقاء وغيرهما، قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون العامل» يَهْدي «لأنه يهدي مَنْ شَهِدَ أن الرسول حق، يعني أنه لا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من» قوماً «، والعاملُ في الحال» يَهْدِي «لِما ذَكَر من فساد المعنى/.
301
الثالث: أن يكونَ معطوفاً على» إيمانهم «لما تضمَّنه من الانحلال لجملةٍ فعلية، إذ التقدير: بعد أن آمنوا وشهدوا، وإلى هذا ذهب جماعة، قال الزمخشري:» أن يُعْطف على ما في «إيمانهم» من معنى الفعل، لأن معناه: بعد أن آمنوا، كقولِهِ تعالَى: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن﴾ [المنافقون: ١٠] وقوله:
١٣٥٣ - مشائيمُ ليسوا مُصْلِحين عشيرةً
ولا ناعبٍ إلا بِبَيْنٍ غرابُها
انتهى. وجهُ تنظيره ذلك بالآية والبيت تَوَهُّمُ وجودِ ما يُسَوِّغُ العطفَ عليه في الجملة، كذا يقول النحاة: جُزِم على التوهم أي: لسقوط الفاء، إذ لو سقطت لانجزم في جوابِ التحضيض، وكذا يقولون: تَوَهَّم وجودَ الباءِ فجَرَّ، وفي العبارة بالنسبة إلى القرآن سوءُ أدبٍ، ولكنهم لم يقصِدوا ذلك حاش لله، وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أَوْلى كقوله: ﴿إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ﴾ [الحديد: ١٨]، إذ هو في قوة: إن الذين صدقوا وأقرضوا، وفي هذه الآيةِ بحثٌ سيمر بك إن شاء الله تعالى.
وقال الواحدي: «عُطِف الفعلُ على المصدر؛ لأنه أراد بالمصدر الفعلَ تقديرُه: كفروا بالله بعد أَنْ آمنوا، فهوعطفٌ على المعنى كما قال:
١٣٥٤ - لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني
أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشفوفِ
معناه: لأِنْ ألبس وتقرَّ عيني» فظاهرُ عبارة الزمخشري والواحدي أن
302
الأولَ يُؤَوَّل لأجل الثاني، وهذا ليس بظاهر، لأنَّا إنما نحتاج إلى ذلك لكونِ الموضع يطلبُه فعلاً كقوله: ﴿إِنَّ المصدقين﴾ لأنَّ الموصول يَطْلُبُ جملةً فعلية فاحتْجنا أَنْ نتأوَّل اسمَ الفاعل بفعلٍ، وعَطَفْنا عليه «وأقرضوا»، وإما «بعد إيمانهم» وقوله «للبس عباءة» فليس مكانُ الاسمِ محتاجاً إلى فعل، فالذي ينبغي: أن نتأول الثاني باسمٍ ليصِحَّ عطفُه على الاسم الصريح قبله، وتأويلُه بأن نأتي معه ب «أن» المصدرية مقدرةً، وتقديرُه: بعد إيمانهم وأَنْ شَهِدوا، أي: وشهادتهم، ولهذا تأوَّل النحويون قولَها: «لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ» : وأَنْ تقرَّ، إذ التقدير: وقرةُ عيني، وإلى هذا الذي ذكرته ذهب أبو البقاء فقال «التقدير: بعد أَنْ آمنوا وأن شهدوا، فيكونُ في موضعِ جَرٍّ».
انتهى، يعني أنه على تأويلِ مصدرٍ معطوفٍ على المصدرِ الصريح المجرور بالظرف، وكلام الجرجاني فيه ما يَشْهد لهذا ويَشْهَدُ لتقدير الزمخشري فإنه قال: قوله «وشَهِدوا» منسوقٌ على ما يُمكنُ في التقدير، وذلك أنَّ قولَه «بعد إيمانهم» يمكن أن يكونَ بعد «أن آمنوا» وأَنْ الخفيفة مع الفعلِ بمنزلةِ المصدرِ كقولهِ: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٤] أي: والصوم، ومثلُه مِمَّا حُمِل فيه على المعنى قولُه تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ﴾ [الشورى: ٥١] فهو عطفٌ على قوله: ﴿إِلاَّ وَحْياً﴾، ويمكن فيه: إلا أن يُوحى إليه، فلما كان قوله ﴿إِلاَّ وَحْياً﴾ بمعنى: إلا أنْ يُوحَى إليه حَمَله على ذلك، ومثله من الشعر قوله:
١٣٥٥ - فَظَلَّ طُهاةٌ اللحم من بين مُنْضِجٍ
صَفيفَ شِواءٍ أو قديرٍ مُعَجَّلٍ
303
خَفَضَ قولَه «قدير» لأنه عَطْفٌ على ما يمكن في قوله «منضجٍ» لأنه أمكن أن يكون مضافاً إلى الصفيف فَحَمَله على ذلك قلت: فإتْيانُه بهذا البيت نظيرُ إتيان الزمخشري بالآية الكريمة والبيت المتقدمين، لأنه جَرَّ «قدير» هنا على التوهم، كأنه تَوَهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله تخفيفاً فَجَرَّ على التوهم، كما تَوَهَّم الآخرُ وجودَ الباءِ في قوله: «ليسوا مصلحين»، لأنها كثيراً ما تزاد في خبر ليس. وقوله: ﴿أَنَّ الرسول﴾ الجمهورُ على أنه وصف بمعنى المُرْسَل، وقيل: هو بمعنى الرسالة فيكون مصدراً وقد تقدَّم ذلك.
قوله تعالى: ﴿جَزَآؤُهُمْ﴾ : يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ مبتدأ ثانياً، و «أنَّ عليهم» إلى آخره في محلِّ رفعٍ خبراً لجزاؤهم، والجملةُ خبر لأولئك. والثاني: أن يكونَ «جزاؤهم» بدلاً من «أولئك» بدلَ اشتمال، و «أن عليهم» إلى آخره خبرُ أولئك. وقال هنا: ﴿جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله﴾ وهناك ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ١٦١] دون «جزاؤهم» قيل: لأنَّ هناك وَقَعَ الإِخبارُ عَمَّن توفي على الكفر، فمن ثَم حَتَّم الله عليه اللعنةَ بخلافه هنا، فإنَّ سببَ النزولِ في قومٍ ارتدُّوا ثم رجَعوا للإِسلام. ومعنى «جزاؤهم» أي: جزاءُ كفرِهم وارتدادهم. وتقدَّم قراءةُ الحسنِ ﴿والناس أجمعون﴾ [البقرة: ١٦١] وتخريجُها.
قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ﴾ : حالٌ من الضمير في «عليهم» والعاملُ فيها الاستقرارُ أو الجارُّ لقيامه مقامَ الفعل وتقدَّمَتْ نظائرُه. والضمير في «فيها» للعنة. و ﴿لاَ يُخَفَّفُ﴾ جملةٌ حالية أو مستأنفة.
قوله تعالى: ﴿كُفْراً﴾ : تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية،
304
والأصلُ: ثم ازداد كفرهُم، والدالُ الأولى بدلٌ من تاءِ الافتعالِ لوقوعِها بعد الزاي، كذا أعربه الشيخ، وفيه نظرٌ، إذ المعنى على أنه مفعول به، وذلك أنَّ الفعلَ المتعدِّيَ لاثنين إذا جُعِل مطاوعاً نَقَص مفعولاً، وهذا من ذاك، لأن الأصل: زِدْتُ زيداً خيراً فازداده، وكذلك أصلُ الآية الكريمة، زادهم الله كفراً فازدادوه.
ولم يُؤْتَ هنا بالفاء داخلةً على «لن» وأتى بها في «لن» الثانيةِ. قيل: لأنَّ الفاءَ مُؤْذِنَةٌ بالاستحقاق بالوصفِ السابق، لأنه قد صَرَّح بقيدِ موتهم على الكفر/ بخلافِ «لن» الأولى فإنه لم يُصَرِّح معها به، فلذلك لم يُؤْتَ بالفاء.
وقرأ عكرمة: «لن نقبل» بنونِ العظمة، «توبتَهم» بالنصب، فلذلك قرأ: «فلن نقبل مِنْ أحدِهم ملء» بالنصب.
قوله: ﴿وأولئك هُمُ الضآلون﴾ في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ في محلِّ رفعٍ عطفاً على خبر إنَّ، أي: إنَّ الذين كفروا لن تُقْبل توبتُهم وإنهم أولئك هم الضالون. الثاني: أن تُجْعَلَ معطوفة على الجملة المؤكدة بإن، وحينئذٍ فلا محلَّ لها من الإِعرابِ لعطفِها على ما لا محلَّ له. الثالث: وهو أغربُها أن تكونَ الواو للحال، فالجملة بعدها نصب على الحال، والمعنى: لن تُقْبَل توبتُهم من الذنوب والحالُ أنهم ضالون، فالتوبةُ والضلال متنافيان لا يَجْتمعان، قاله الراغب، وهو بعيد في التركيب، وإنْ كانَ قريبَ المعنى. قال الشيخ: «ويَنْبو عن هذا المعنى هذا التركيبُ، إذ لو أُريد هذا المعنى لم يُؤْتَ باسم الإِشارة».
305
وقوله: ﴿فَلَن يُقْبَلَ﴾ قد تقدم أن عكرمة [قرأ] «نقبل» بالنون، «ملءَ» بالنصب مفعولاً به، وقرأ بضعهم: فلن يَقبل بالياء من تحت على بنائه للفاعل وهو الله تعالى، و «ملءَ» بالنصب كما تقدم. وقرأ أبو جعفر وأبو السمَّال: «مِل الأرض» بطرح همزة «ملء»، نقل حركتها إلى الساكن قبلها، وبعضُهم يُدْغم نحو هذا، أي: لام «ملء» في لام «الأرض» بعروضِ التقائِهما.
والملءُ مقدارُ ما يملأ الوعاءَ، والمَلْءُ بفتح الميم هو المصدر. يقال: «مَلأتُ القِرْبة أملؤها مَلْئَاً»، والمُلاءة المِلْحَفة بضم الميم والمد.
و «ذَهَبا» العامة على نصبه تمييزاً، وقال الكسائي: «على إسقاط الخافض» وهذا كالأول، لأنَّ التمييزَ مقدَّرٌ ب «مِنْ» واحتاجت «ملء» إلى تفسير لإِبهامها، لأنها دالةٌ على مقدار. كالقَفِيز والصَّاع. وقرأ الأعمش «ذهبٌ» بالرفع، قال الزمخشري: «رَدّاً على مِلْءُ» كما يقال: «عندي عشرون نفساً رجالٌ» يعني بالرد البدل، ويكون بدلَ نكرة من معرفة، قال الشيخ: «ولذلك ضَبَط الحُذَّاق قوله» لك الحمدُ ملءُّ السماوات «بالرفع، على أنه نعتٌ للحمد، واستضعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة» قلت: ولا يتعيََّنُ نصبُه على الحال حتى يلزَم ما ذكره من الضعف، بل هو منصوبٌ على الظرف، أي: إنَّ الحمد يقع مِلئاً للسماوات وللأرض.
قوله: ﴿وَلَوِ افتدى﴾ الجمهورُ على ثبوتِ الواو وهي واو الحال، قال الزمخشري: «فإنْ قلت: كيف موقعُ قولِه: ﴿وَلَوِ افتدى بِهِ﴾ ؟ قلت: هو كلامٌ
306
محمولٌ على المعنى كأنه قيل: فَلَنْ يُقبل من أحدِهم فديةٌ ولو افتدى بملء الأرض». انتهى. والذي ينبغي أن يُحْمل عليه أن الله تعالى أخبر أنَّ مَنْ ماتَ كافراً لا يُقْبل منه ما يَملأ الأرض من ذَهبٍ، على كل حال يَقْصِدُها ولو في حال افتدائه من العذاب، وذلك أنَّ حالة الافتداءِ حالةٌ لا يمتَنُّ فيها المفتدي على المفتدَى منه إذ هي حالةُ قهرٍ من المفتدَى منه للمفتدِي.
قال الشيخ: «وقد قَرَّرنا من نحوِ هذا التركيب أنَّ» لو «تأتي مَنْبَهَةً على أَنَّ ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يُظَّنُّ أنها لا تندَرجُ فيما قبلها، كقوله عليه السلام:» اعطُوا السائل ولو جاء على فرس «و» رُدُّوا السائل ولو بِظِلْفٍ مُحْرَق «، كأنَّ هذه الأشياء كان ممَّا ينبغي أن لا يُؤْتى بها، لأنَّ كونَ السائلِ على فرسٍ يُشْعر بغناه فلا يناسبُ أَنْ يُعْطى، وكذلك الظِّلْفُ المُحرَقُ لا غناءَ فيه، فكان يناسِبُ ألاَّ يُرَدَّ به السائل».
وقيل: الواو هنا زائدةٌ، وقد يتأيَّد هذا بقراءة ابن أبي عبلة «لو افتدى به» دون واوٍ، ومعناها أنه جُعِل الافتداءُ شرطاً في عدم القبول فلم يتَعمَّمْ نَفْيُ وجود القبولِ. و «لو» قيل: هي هنا شرطية بمعنى إنْ، لا التي معناها لِما كان سيقع لوقوع غيره، لأنها مُعَلَّقة بمستقبل، وهو قوله: ﴿فَلَن يُقْبَلَ﴾ وتلك مُعَلَّقَةٌ بالماضي.
وافتدى: افْتَعَلَ من لفظِ الفِدْيَة وهو متعدٍّ لواحدٍ لأنه بمعنى فَدَى، فيكونُ افْتَعَل فيه وفَعَل بمعنىً نحو: شَوَى واشتوى، ومفعولُه محذوف تقديره: افتدى نفسَه.
307
والهاءُ في «به» فيها أقوال، أظهُرها: عودُها على «ملء» لأنه مقدارُ ما يملؤها، أي: ولو افتدى بملء الأرض. والثاني: أن يعودَ على «ذهبا» قاله أبو البقاء، قال الشيخ: «ويوجد في بعضِ التفاسير أنها تعود على المِلء أو على الذهب، فقوله:» أو على الذهب «غلطٌ» قلت: كأن وجهَ الغلطِ فيه أنه ليس مُحَدَّثاً عنه/، إنما جيء به بياناً وتفسيراً لغيره فَضْلةً. الثالث: أن يعود على «مثل» محذوفٍ، قال الزمخشري: «ويجوز أَنْ يُرادَ» ولو افتدى بمثله «كقوله: ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ [المائدة: ٣٦] والمِثلُ يُحذف في كلامهم كثيراً، كقولك «ضَرَبْتُ ضربَ زيدٍ» تريد مثلَ ضربه، أبو يوسف أو حنيفة «أي مثلُه، و:
١٣٥٦ - لا هيثمَ الليلةَ للمَطيّ... و» قضية ولا أبا حسنٍ لها «تريد: لا مثلَ هيثم ولا مثل أبي حسن، كما أنه يزاد في قولهم:» مثلُك لا يفعل كذا «يريدون: أنت لا تفعل، وذلك أن المثلين يَسُدُّ أحدهما مَسَدَّ الآخر، فكانا في حكم شيء واحد». قال الشيخ: «ولا حاجةَ إلى تقدير» مثل «في قوله: ﴿وَلَوِ افتدى بِهِ﴾، وكأن الزمخشري تَخَيَّل أنَّ ما نُفِي أَنْ يُقْبَلَ لا يمكن أن يُفْتَدَى به فاحتاج إلى إضمار» مثل «حتى يُغايِرَ بين ما نُفِيَ قَبُوله وبين ما يُفْتَدَى به، وليس كذلك؛ لأن ذلك كما ذكرناه على سبيل الفَرَض والتقدير، إذ لا يمكن عادةً أنَّ أحداً يملك مِلْءَ الأرض ذهباً، بحيث إنه لو بَذَله علىأي جهة بَذَله لم يُقْبَلْ منه، بل لو كان ذلك مُمْكِناً لم يَحْتَجْ
308
إلى تقدير» مثل «لأنه نُفِي قبولُه حتى في حالة الافتداء، وليس ما قَدَّر في الآية نظيرَ ما مَثَّل به، لأَنَّ هذا التقدير لا يُحتاج إليه ولا معنى له، ولا في اللفظ ولا في المعنى ما يدل عليه فلا يُقَدَّر، وأما ما مَثَّل به من نحو: ضربت ضرب زيد، وأبو يوسف وأبو حنيفة» فبضرورة العقل نعلم أنه لا بد من تقدير «مثل»، إذ ضربُك يستحيل أن يكون ضرب زيد، وذاتُ أبي يوسف يستحيل أن تكونَ ذات أبي حنيفة، وأما «لا هيثم الليلة للمطي» فَدَلَّ على حذف «مثل» ما تقرَّر في اللغة العربية أن «لا» التي لنفي الجنس لا تدخُل على الأعلام فتؤثِّر فيها فاحتيج إلى إضمار «مثل» لتبقى على ما تقرَّر فيها إذ تقرَّر فيها أنها لا تعملُ إلا في الجنس، لأن العَلَمية تنافي عمومَ الجنس، وأما قوله «كما يُزاد في نحو:» مثلُك لا يفعل «تريد أنت» فهذا قولٌ قد قِيل [به]، ولكن المختارَ عند حُذَّاق النحويين «أنَّ الأسماء لا تزاد». قلت: وهذا الاعتراضُ على طولِه جوابُه ما قاله أبو القاسم في خطبة كشافة: «فاللغوي وإن عَلَكَ اللغة بِلَحْيَيْه والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه إلى آخره».
قوله: ﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يجوزُ أنْ يكونَ «لهم» خبراً لاسم الإِشارة، و «عذابٌ» فاعلٌ به، وعَمِل لاعتمادِه على ذي خبر، أي: أولئك استقر لهم عذاب، وأن يكونَ «لهم» خبراً مقدماً، و «عذاب» مبتدأ مؤخراً، والجملةُ خبر عن اسم الإِشارة، والأولُ أحسنُ، لأنَّ الإِخبار بالمفرد أقربُ من الإِخبار بالجملة، والأول من قَبيلِ الإِخبار بالمفرد.
قوله: ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ «من ناصرين» فاعلاً، وجاز
309
عَمَل الجار لاعتماده على حرف النفي أي: وما استقر لهم من ناصرين. والثاني: أنه خبر مقدم و «من ناصرين» مبتدأ مؤخر، و «مِنْ» مزيدةٌ على الإِعرابين لوجود الشرطين في زيادتها. وأتى بناصرين جمعاً لتوافِقَ الفواصلَ.
قوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ﴾ : النَّيْل: إدراكُ الشيء ولُحوقُه، وقيل هو العطية، وقيل: هو تناوُلُ الشيء باليد، يقال: نِلْتُه أناله نَيْلاً. قال تعالى: ﴿وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً﴾ [التوبة: ١٢٠]. وأمَّا النَّوْلُ بالواو فمعناه التناول، يقال: نِلته أنوله أي: تناولته، وأنلته زيداً أَنوله إياه أي: ناولته إياه، كقولك: عَطَوْتُه أعطوه بمعنى تناولته، وأعطيته إياه إذا ناولته إياه.
وقوله: ﴿حتى تُنْفِقُواْ﴾ بمعنى إلى أن، و «مِنْ» في ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ تبعيضيةٌ، يدلُّ عليه قراءةُ عبد الله: «بعضَ ما تحبون»، وهذه عندي ليست قراءةً بل تفسيرُ معنى. «ما» موصولةٌ وعائدها محذوف، والقولُ بكونها نكرةً موصوفة لا معنى له، وقد جَوَّز ذلك أبو البقاء فقال: [ «أو نكرةٌ موصوفة، ولا تكون مصدريةً لأنَّ المحبةَ لا تُنْفَقُ، فإنْ جُعِلَتِ المحبة بمعنى المفعول جاز على رأي عليّ» ] يعني يبقى التقدير: من الشيء المحبوب، وهذان الوجهان ضعيفان، والأول أضعف.
وقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ﴾ تقدم نظيره في البقرة.
قوله تعالى: ﴿حِلاًّ﴾ : الحِلُّ: بمعنى الحلال وهو في الأصل مصدر لحَلَّ يَحِلُّ كقولك: عَزَّ يَعِزُّ عِزّاً، ثم يُطلق على الأشخاص مبالغة، ولذلك يستوي فيه الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث كقوله تعالى: ﴿لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ [الممتحنة: ١٠]، وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها: «كنت أُطَيِّبُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحِلّه ولحَرَمِه» أي: لإِحلاله ولإِحرامه، وهو كالحِرْم واللِّبْس بمعنى الحَرام واللباس، قال تعالى: «وحِرْمٌ» وقرىء «وحرام». و «لبني» متعلق بحِلّ.
قوله: ﴿إِلاَّ مَا حَرَّمَ﴾ مستثنى/ من اسمِ كان. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ مستثنى من ضميرِ مستتر في «حِلاً» فقال: «لأنه استثناء من اسم كان، والعاملُ فيه» كان «، ويجوزُ أن يعملَ فيه» حِلاً «ويكون فيه ضميرٌ يكون الاستثناء منه؛ لأن حِلاً وحَلالاً في موضعِ اسم الفاعل بمعنى الجائز والمباح».
وفي هذا الاستثناءِ قولان، أحدُهما: أنه متصل، والتقدير: إلا ما حَرَّم إسرائيلُ على نفسه، فَحُرِّم عليهم في التوراة، فليس فيها ما زادوه من محرمات وادعوا صِحَّة ذلك. والثاني: أنه منقطع، والتقدير: لكنْ حَرَّم إسرائيلُ على نفسِه خاصةً ولم يُحَرِّمْه عليهم، والأول هو الصحيح.
قوله: ﴿مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلقَ بحَرّم أي: إلا ما حَرَّم مِنْ قبلِ، قاله أبو البقاء. قال الشيخ: «ويَبْعُد ذلك، إذ هو من
311
الإِخبار بالواضح، لأنه معلومٌ أنَّ ما حَرَّم إسرائيل على نفسه هو مِنْ قبل إنزال التوراةِ ضرورةَ لتباعدِ ما بين وجود إسرائيل وإنزالِ التوراة». والثاني: أنها تتعلَّقُ بقوله: كان حِلاً «قال الشيخ:» ويظهر أنه متعلّقٌ بقولِه ﴿كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ﴾ أي: مِنْ قبلَ أَنْ تُنَزَّل التوراة، وفَصَل بالاستثناء إذ هو فصلٌ جائز، وذلك على مذهبِ الكسائي وأبي الحسن في جواز أَنْ يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً نحو: «ما حُبِس إلا زيدٌ عندَكَ، وما أوى إلا عمروٌ إليك، وما جاء إلا زيدٌ ضاحكاً» وأجازَ الكسائي ذلك في المنصوبِ مطلقاً نحو: ما ضَرَب إلا زيدٌ عمراً، وأجاز هو وابن الأنباري ذلك في المرفوع نحو: ما ضَرَب إلا زيداً عمرو، وأمَّا تخريجُه على غيرِ مذهبِ الكسائي وأبي الحسن فيُقَدَّرُ له عاملٌ مِنْ جنسِ ما قبله، وتقديرُه هنا: حَلَّ من قبلِ أَنْ تُنَزَّل التوراة «.
قوله تعالى: ﴿مِن بَعْدِ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلَّق بافترى، وهذا هو الظاهرُ، والثاني: جَوَّزه أبو البقاء وهو أَنْ يتعلَّقَ بالكذب، يعني الكذبَ الواقعَ مِنْ بعد ذلك. وفي المشار إليه بذلك ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: استقرارُ التحريم المذكور في التوراة، إذ المعنى: إلاَّ ما حَرَّم إسرائيلُ على نفسِه ثم حَرَّمته التوراة عليهم عقوبةً لهم. الثاني: التلاوةُ، وجاز تذكيرُ اسمِ الإِشارة لأنَّ المرادَ بها بيانُ مذهبهم. والثالث: الحالُ بعد تحريمِ إسرائيل على نفسه.
وهذه الجملةُ أعني قولَه ﴿فَمَنِ افترى﴾ يجوز أن تكون استئنافية فلا محلَّ لها من الإِعراب، ويجوز أن تكونَ منصوبةَ المحلِّ نسقاً على قوله: «فَأْتوا بالتوراة» فتندرجَ في المقول. و «مَنْ» يجوز أن تكون شرطية أو موصولة،
312
وحَمَل على لفظِها في قولِه: ﴿افترى﴾ فلذلك وَحَّد الضميرَ، وعلى معناها فَجُمِع في قولِه: ﴿فأولئك﴾ إلى أخره.
قوله تعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ الله﴾ : أي: قل لهم. والعامةُ على إظهارِ لام «قُل» مع الصادِ، وقرأ أبان بن تغلب بإدغامِها فيه، وكذلك أدغمَ اللامَ في السين في قوله: ﴿قُلْ سِيرُواْ﴾ [الأنعام: ١١]، وسيأتي أنَّ حمزة والكسائي وهشاماً أَدْغموا اللامَ في السينِ مِنْ قوله تعالى: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ﴾ [يوسف: ١٨].
قال أبو الفتح: «علةُ ذلك فُشُوُّ هذين الحرفين في الفَمِ وانتشارُ الصوتِ المنَبثِّ عنهما فقارَبَتا بذلك مَخْرَجَ اللامِ فجازَ إدغامُها فيهما وهو مأخوذٌ من كلامِ سيبويه، فإنَّ سيبويه قال:» والإِدغامُ يعني إدغامَ اللام مع الطاء والصاد وأخواتِهما جائزٌ وليس ككثرتِه مع الراء، لأنَّ هذه الحروفَ تراخَيْن عنها وهي من الثنايا «قال:» وجوازُ الإِدغام لأن آخرَ مخرجِ الام قريبٌ من مَخْرجها. انتهى «. وقال أبو البقاء عبارةً توضِّح ما تقدَّم وهي:» لأن الصاد فيها انبساطٌ وفي اللام انبساطٌ، بحيث يتلاقى طرفاهما فصارا متقاربين «وقد تقدَّم إعراب قولِه: ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ [البقرة: ١٣٥] فأغنى عن أعادته.
قوله تعالى: ﴿وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ : هذه الجملة في موضعِ خفضٍ صفةً لبيت. وقرأ العامة: «وُضِع» مبنياً للمفعول، وعكرمة وابن السَّمَيفَع: «وَضَع» مبنياً للفاعل، وفي فاعله قولان، أظهرهما، أنه ضمير إبراهيم لتقدُّم ذكره، ولأنه مشهورٌ بعِمارته، والثاني: أنه ضميرُ الباري تعالى. و «للناس» متعلقٌ بالفعل قبله، واللامُ فيه للعلةِ، و «لَلَّذي بِبَكَّةَ» خبرٌ إنَّ، وأَخْبر هنا بالمعرفة وهو الموصول عن النكرة وهو «أولَ بيت» لتخصيص النكرة بشيئين: الإِضافةِ والوصفِ بالجملة بعده، وهو جائزٌ في باب إنَّ، ومن عبارةِ سيبويه: «إنَّ قريباً منك زيدٌ» لَمَّا تخصص «قريباً» بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرته لك، وزاده حُسناً هنا كونُه اسماً «إنَّ»، وقد جاءَتِ النكرةُ اسماً لإِنَّ وإنْ لم يكن تخصيصٌ. قال:
١٣٥٧ - وإنَّ حَراماً أَنْ أَسُبَّ مجاشعاً
بآبائيَ الشُمِّ الكرامِ الخَضَارمِ
و «ببكة» صلةٌ، والباءُ فيه ظرفيةٌ أي: في مكة، وبَكَّةُ فيها أوجه، أحدُها أنها مرادفةٌ لمكة فَأُبدلت ميمُها باءً، قالوا: والعربُ تُعاقِبُ بين الباء والميم في مواضع، قالوا: هذا عليَّ ضَرْبَةُ لازم ولازِب، وهذا أمرٌ راتِب وراتِم، والنَّمِيط والنَّبيط، وسَبَدَ رأسه وسَمَدَها، وِأَعْبطت الحُمَّى وأَعْمَطَت،
314
وقيل: اسمٌ لبطن مكة، وقيل: لمكان البيت، وقيل: للمسجدِ نفسِه، وأيَّدوا هذا بأن التباكَّ وهو الازدحام إنما يحصُل عند الطواف، يقال: تَبَاكَّ الناسُ أي: ازدحموا. وهذا القولُ يُفْسِده أَنْ يكونَ الشيء ظرفاً لنفسه، كذا قال بعضُهم، وهو فاسدٌ لأنَّ البيتَ في المسجدِ حقيقةً، وسُمِّيت بَكَّة، لازدحام الناس، وقيل: لأنها تَبُكُّ أعناق الجبابرة، أي تَدُقُّها، وسُمِّيتْ مكة من قولهم: «تَمَكَّكْتُ المُخَّ من العظم» إذ استقصيتَه ولم تترك منه شيئاً، ومنه «امْتَكَّ الفصيلُ ما في ضَرْع أمه» إذا لم يترك فيه لبناً، ورُوي أنه قال: «لا تُمَكِّكُوا على غرمائِكم».
ثم في تسميتها بذلك أوجهٌ، فقال ابن الأنباري: «سُمِّيَتْ بذلك لقلة مائها وزرعها وقلة خِصْبها، فهي مأخوذةٌ من» مَكَكْتُ العظمَ «إذا لم تترك فيه شيئاً. وقيل: لأنَّ مَنْ ظلم فيها مَكَّه الله أي استقصاه بالهلاك. وقيل: لأنها وسط الأرضِ كالمخ وسطَ العظم، وهذا قولُ الخليل بن أحمد، وهو حسن. والمَكُّوك كأس يُشْرب به ويُكال به كالصُّواع.
قوله: ﴿مُبَارَكاً وَهُدًى﴾ حالان: إمَّا من المضمرِ في» وُضِع «كذا أعربه أبو البقاء وغيرُه، وفيه نظرٌ، مِنْ حيث إنه يَلْزَمُ الفصلُ بين الحال وبين العامل فيها بأجنبي، وهو خبر إنَّ، وذلك غير جائز لأنَّ الخبرَ معمولٌ لإِنَّ، فإنْ أضْمَرْتَ عاملاً وهو» وُضِع «بعد» للذي ببكة «أي و» وُضِع «جاز، والذي حَمل على ذلك ما يعطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وُضع بهذا القيد.
315
والظاهرُ أنَّ «وهدى» نَسَقٌ على «مباركاً». وزعم بعضُهم أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديره: وهو هدىً، وهو ساقطٌ الاعتبار به.
والبركة: الزيادةُ، يقال: باركَ الله لك أي: زادَك خيراً، وهو متعدٍّ، ويَدُلُّ عليه: ﴿أَن بُورِكَ مَن﴾ [النمل: ٨] ويُضَمَّنُ معنى [ما يتعدى] بعلى كقوله: ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ﴾ [الصافات: ١١٣]. و «تبارَكَ» لا يَتَصَرَّف ولا يُسْتعمل مسنداً إلا الله تعالى، ومعناه في حَقِّه تعالى: تزايَدَ خيرُه وإحسانه، وقيل: البَرَكَةُ ثبوتُ الخيرِ، مأخوذٌ من مَبْرَك البعير. وإمَّا من الضميرِ المستكنِّ في الجار، وهو «ببكة» لوقوعِه صلةً، والعاملُ فيها الجارُّ بما تضمَّنه من الاستقرارِ أو العاملُ في الجار، ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على إضمارِ فعلِ المدح أو على الاختصاصِ، ولا يَضُرُّ كونُه نكرةً، وقد تقدَّم دلائل ذلك. و «للعالمين» كقوله: ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [الآية: ٢] أولَ البقرة.
قوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ﴾ : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في محل نصبٍ على الحال: إمَّا من ضمير «وُضع»، وفيه ما تقدَّم من الإِشكال، وإمَّا من الضميرِ في «ببكة» وهو واضحٌ، وهذا على رأي مَنْ يُجيز تعدُّد الحالِ لذي حالٍ واحدٍ، وإمَّا مِنَ الضمير في «للعالمين»، وإمَّا من «هدى»، وجازَ ذلك لتخصُّصهِ بالوصفِ، ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الضمير في «مباركاً». ويجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ في محل نصب نعتاً لهدى بعد نعتِه بالجار قبلَه،
316
ويجوزُ أَنْ يكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعراب، وإنما جيء بها بياناً وتفسيراً لبركتِه وهُداه، ويجوزُ أَنْ تكونَ الحالُ أو الوصفُ على ما مَرَّ تفصيله هو الجارَّ والمجرورُ فقط، و «آياتٌ» مرفوعٌ بها على سبيل الفاعلية، لأنّ الجارَّ متى اعتمد على أشياءَ ذكرتها في أولِ هذا الموضوعِ رَفَع الفاعل، وهذا أَرْجَحُ مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر، لأنَّ هذه الأشياءَ ِ أعني الحال والنعت والخبر أصلُها أَنْ تكونَ مفردةً فما قَرُب منها كان أولى، والجارُّ قريبٌ من المفرد، ولذلك تقدَّم المفردُ ثم الظرف ثم الجملةُ فيما ذَكَرْتُ، وعليه الآيةُ الكريمة: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾ [غافر: ٢٨] فقدَّم الوصف بالمفرد وهو «مؤمن»، وثَنّى بما قَرُب منه وهو «من آل فرعون»، وثَلَّث بالجملة وهي «يكتم إيمانه»، وقد جاءَ في الظاهر عكسُ هذا، وسأُوضِّح هذه المسألة إنْ شاء الله عند قوله: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ﴾ [المائدة: ٥٤].
قوله: ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ فيه أوجه، أحدها أنَّ «مقام» بدلٌ من «آيات»، وعلى هذا يُقال: إنَّ النحويين نَصُّوا على أنه متى ذُكِرَ جمعٌ لا يُبْدَلُ منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع فتقول: «مررت/ برجالٍ زيدٍ وعمرٍو وبكر» لأنَّ أقلَّ الجَمْعِ الصحيح ثلاثةٌ، فإن لم يُوفِّ قالوا: وَجَبَ القطعُ عن البدلية: إمَّا إلى النصب بإضمارِ فعلٍ، وإمّا إلى الرفعِ على مبتدأٍ محذوفٍ الخبر، كما تقولُ في المثال المتقدم: «زيداً وعمراً» أي أعني زيداً وعمراً، أو «زيد وعمرو» أي: منهم زيد وعمرو، ولذلك أعربوا قولَ النابغة الذبياني:
١٣٥٨ - تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها
لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ
317
رَمادٌ ككحلِ العَيْن لأْياً أُبينه
ونُؤْيٌ كجِذْم الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشعُ
على القطع المتقدم، أي: فمنها رمادٌ ونُؤْيٌ، وكذا قَولُه تعالى: ﴿حَدِيثُ الجنود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ﴾ [البروج: ١٧-١٨] أي: أعني أو أذُمُّ فرعون وثمود، على أنه قد يقال: إنَّ المرادَ بفرعون وثمودَ هما ومَنْ تَبِعَهما مِنْ قومهما، فذكرُهما وافٍ بالجَمْعية، وفي الآيةِ الكريمةِ هنا لم يُذْكَر بعد الآيات إلا شيئان: المقَامُ وأَمْنُ داخلِه، فكيف يكلان بدلاً؟ وهذا الإِشكالُ أيضاً واردٌ على قول مَنْ جَعَلَه خبرَ مبتدأ محذوف أي: هي مقامُ إبراهيم كيف يُخْبِر عن الجمع باثنين؟.
وفيه أجوبةٌ، أحدُها: أنَّ أقلَّ الجمع اثنان كما ذهب إليه بعضهم، قال الزمخشري: «ويجوزُ أن يُراد: فيه آيات: مقامُ إبراهيم وأمنُ مَنْ دخله، لأن الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة». الثاني: أن «مقام إبراهيم» وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يَشْتمل على آياتٍ كثيرة، لأنَّ القدمين في الصخرةِ الصَمَّاءِ آيةٌ، وغَوْصُهُمَا فيها إلى الكعبين آية، وإلانَةُ بعضِ الصخرةِ دونَ بعض آية، وإبقاؤه على مَرّ الزمان، وحفظُه من الأعداء آية، واستمرارُه دون آيات سائر الأنبياء خلا نبيِّنا صلى الله عليه وعلى سائرهم آيةٌ، قال معناه الزمخشري. الثالث: أن يكونَ هذا من باب الطَيّ، وهو أن يُذْكَرَ جمعٌ ثم يُؤْتَى ببعضِه ويُسْكَتَ على ذِكْر باقيه لغرضٍ للمتكلم ويسمى طَيَّاً، وأنشد الزمخشري عليه قول جرير:
318
١٣٥٩ - كانَتْ حُنَيْفَةُ أثلاثاً فثُلْثُهُمُ
مِنَ العبيدِ وثُلْثٌ مِنْ مَواليها
وأوردَ منه قولَه عليه الصلاة والسلام: «حُبِّبَ إليَّ من دُنْياكم ثلاثٌ: الطِّيب والنساء، وقُرَّةُ عيني في الصلاة» ذَكَر اثنين وهما الطِّيب والنساءُ، وطَوَى ذِكْرَ الثالثة، لا يقال: إن الثالثة قوله: «وقُرَّةُ عيني في الصلاة» لأنها ليست من دُنْياهم، إنما هي من الأمورِ الأُخْروية، وفائدةُ الطيّ عندهم تكثير ذلك الشيء، كأنه تعالى لَمَّا ذكر جملة الآيات هاتين الآيتين قال: وكثيرٌ سواهما. وقال ابن عطية: «والأرجح عندي أن المَقام وأمنَ الداخلِ جُعلا مثالاً مِمَّا في حَرَم الله تعالى من الآيات، وخُصَّا بالذكر لعِظَمِهما وأنهما تقومُ بهما الحجةُ على الكفار، إذ هم مُدْرِكون لهاتين الآيتين بحواسِّهم».
الوجه الثاني: أن يكونَ «مقامُ إبراهيم» عطفَ بيان، قاله الزمخشري وردَّ عليه الشيخ هذا مِنْ جهةِ تَخَالُفِهما تَعْريفاً وتنكيراً فقال: «قوله مخالف لإِجماع البصريين والكوفيين فلا يُلتفت إليه، وحكمُ عطفِ البيان عند الكوفيين حكمُ النعتِ فَيُتْبِعون النكرةَ النكرةَ والمعرفةَ المعرفةَ، وتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي، وأمّا البصريون فلا يجوز عندهم إلا أن يكونا معرفتين، ولا يجوزُ أن يكونا نكرتين، وكلُّ شيء أورده الكوفيون مِمَّا يُوهم جوازَ كونِه عطفاً جعلَه البصريونَ بدلاً، ولم يَقُمْ دليلٌ للكوفيين». قلت: وهذه المسألةُ ستأتي إنْ شاءَ
319
اللهُ محررةً عند قوله تعالى: ﴿مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٦] وعند قوله تعالى: ﴿مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾ [النور: ٣٥].
ولَمّا أعرب الزمخشري مقامَ إبراهيم وأَمْنَ داخِله بالتأويل المذكور اعتَرَضَ على نفسِه بما ذكرْتُه مِنْ إبدال غيرِ الجمع من الجمعِ، وأجاب بما تقدَّم، واعترض أيضاً على نفسه، بأنه كيف تكون الجملةُ عطفَ بيان للأسماء المفردة؟ فقال: «فإنْ قلت: كيف أَجَزْتَ أن يكونَ مقامُ إبراهيم والأمنُ عطفَ بيان، وقولُه ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ جملةٌ مستأنفةٌ: إمَّا ابتدائيةٌ وإمَّا شرطيةٌ.
قلت: أَجَزْتُ ذلك من حيث المعنى، لأن قوله ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ دلَّ على أَمْنِ مَنْ دخله، فكأنه قيل: «فيه آياتٌ بينات: مقامُ إبراهيم وأَمْنُ مَنْ دخله» ألا ترى أنك لو قلت: «فيه آيةٌ بَيِّنَةٌ: مَنْ دَخَله كان آمناً» صَحَّ، لأن المعنى: فيه آيةٌ بينةٌ أَمْنُ مَنْ دَخَلَه «. قال الشيخ:» وليس بواضحٍ لأنَّ تقديرَه وأَمْنُ الداخل هو مرفوعٌ عطفاً على/ «مقام إبراهيم» وفَسَّر بهما الآياتِ، والجملةُ من قوله: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ لا موضعَ لها من الإِعراب فَتدافَعا، إلاَّ إن اعتقد أن ذلك معطوفٌ محذوفٌ يَدُلُّ عليه ما بعده، فيمكن التوجيهُ، فلا يُجْعَلُ قولُه ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ في معنى «وأَمْنُ داخِلِه» إلا من حيثُ تفسيرُ المعنى لا تفسيرُ الإِعراب «وهي مُشاحَّةٌ لا طائلَ تحتها، ولا تدافُعَ فيما ذَكَر، لأنَّ الجملة متى كانَتْ في تأويلِ المفردِ صَحَّ عطفُها عليه، ثم المختارُ أن يكونَ قولُه» مقام إبراهيم «خبرَ مبتدأ مضمرٍ، لا كما قَدَّروه حتى يلزمَ الإِشكالُ المتقدم، بل تقدِّرُه: أحدها مقام إبراهيم، وهذا هو الوجه
320
الثالث. و» مَنْ «يجوز أن تكونَ شرطيةً وأن تكون موصولة، ولا يَخْفى الكلام عليهما ممَّا تقدم.
وقرأ أُبَيٌ وعمرُ وابن عباس وأبو جعفر ومجاهد:» آيةٌ بينة «بالتوحيد، وتخريجُ» مقام «على الأوجه المتقدمة سهلٌ: مِنْ كونها بدلاً أو بياناً عند الزمخشري، أو خبرَ مبتدأ محذوف، وهذا البدل متفق عليه؛ لأن البصريين يُبْدِلون من النكرةِ مطلقاً، والكوفيون لا يُبْدِلون منها إلا بشرطِ وصفِها وقد وُصِفَتْ.
قوله: ﴿مَنِ استطاع﴾ فيه ستة أوجه، أحدها أنَّ» مَنْ «بدلٌ من» الناس «بدلُ بعضٍ من كل، وبدلُ البعضِ وبدلُ الاشتمالِ لا بد في كلٍّ منهما مِنْ ضميرٍ يعودُ على المُبْدَلِ منه نحو: أَكْلْتُ الرغيفَ ثلثَه، وسُلِب زيدٌ ثوبُه، وهنا ليس ضميرٌ، فقيل: هو محذوفٌ تقديره: مَنْ استطاع منهم. الثاني: أنه بدلُ كلٍ مِنْ كل، إذ المرادُ بالناس المذكورين خاصٌّ، والفرقُ بين هذا الوجهِ والذي قبله أنَّ الذي قبلَه يُقال فيه: عامٌّ مخصوصٌ، وهذا يُقالُ فيه: عامٌّ أُريد به الخاصُّ، وهو فرقٌ واضح، وهاتان العبارتان مأخوذتان مِنْ عبارة الإِمام الشافعي رضي الله عنه. الثالث: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هو مَنْ استطاع. الرابعُ: أنَّها مصدريةٌ بإضمارِ فعلٍ أي: أعني مَن استطاع، وهذان الوجهان في الحقيقة مأخوذان من وجهِ البدل، فإنَّ كلَّ ما جاز إبدالُه ممَّا قبله جاز قَطْعُه إلى الرفع أو النصب المذكورين آنفاً. الخامس: أنَّ» مَنْ «فاعلٌ بالمصدرِ وهو» حَجٌّ «والمصدرُ مضاف لمفعوله، والتقدير: ولله على الناس أن
321
يَحُجَّ من استطاع منهم سبيلاً البيتَ، وهذا الوجه قد رَدَّه جماعة مِنْ حيثُ الصناعةُ ومن حيث المعنى: أمَّا من حيثُ الصناعةُ فلأنه إذا اجتمع فاعلٌ ومفعولٌ مع المصدرِ العامل فيهما فإنما يُضاف المصدرُ لمرفوعِه دونَ منصوبِه فيقال: يعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً، ولو قلت:» ضربُ عمرٍو زيدٌ «لم يَجُزْ إلا في ضرورة كقوله:
١٣٦٠ - أَفْنَى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ
قَرْعُ القواقيزِ أفواهُ الأباريقِ
يروى بنصب «أفواه» على إضافةِ المصدر وهو «قَرْع» إلى فاعله، وبالرفعِ على إضافته إلى مفعولِه، وقد جَوَّزه بعضُهم في الكلامِ على ضَعْفٍ، والقرآنُ لا يُحْمَلُ على ما في الضرورةِ ولا على ما فيه ضعف. وِأما من حيث المعنى فلأنه يؤدِّي إلى تكليفِ الناس جميعِهم مستطيعهم وغيرِ مستطعيعهم أن يَحُجَّ مستطيعُهم، فيلزمُ من ذلك تكليفُ غيرِ المستطيعِ بأن يَحُجَّ المستطيعُ وهو غيرُ جائزٍ، وقد التزم بعضُهم هذا، وقال: نعم نقول بموجبه، وأن الله تعالى كَلَّف الناسَ ذلك، حتى لو لم يُحَجَّ المستطيعون لَزِم غيرُ المستطيعين أن يأمروهم بالحج حَسْبَ الإِمكان؛ لأن إحجاج الناسِ إلى الكعبة وعرفَة فرضٌ واجبٌ. و «مَنْ» على الأوجهِ الخمسة موصولةٌ بمعنى الذي. السادس: أنها شرطيةٌ والجزاءُ محذوفٌ يدل عليه ما تقدَّم أو هو نفسُ المتقدمِ على رَأْي، ولا بُدَّ من ضميرٍ يعود مِنْ جملةِ الشرطِ على الناسِ
322
تقديرُه: مَنِ استطاعَ منهم إليه سبيلاً فلله عليه أن يَحُجَّ، ويترجَّحُ هذا بمقابلتِه بالشرطِ بعدَه وهو قولُه: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾.
وقوله: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ جملةٌ من مبتدأ وخبر وهو قوله «لله»، و «على الناس» متعلقٌ بما تَعَلَّق [به] الخبر/ أو متعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الجار، والعامل فيه أيضاً ذلك الاستقرار المحذوف، ويجوز أن يكونَ «على الناس» هو الخبرَ، و «لله» متعلقٌ بما تعلَّق به الخبرُ، ويمتنع فيه أن يكونَ حالاً من الضمير في «على الناس» وإن كان العكسُ جائزاً كما تقدم، والفرقُ أنه يلزم هنا تقديمُ الحالِ على العاملِ المعنوي، والحالُ لا تتقدَّم على العامل المعنوي بخلافِ الظرف وحرفِ الجر فإنهما يتقدَّمان على عامِلهما المعنوي للاتساع فيهما، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك يُجَوِّزُ تقديمها على العامل المعنوي إذا كانت هي ظرفاً أو حرف جر والعاملُ كذلك، ومسألتنا في الآيةِ الكريمةِ من هذا القبيل.
وقرأ الأخوان وحفص عن عاصم: «حِج» بكسر الحاء، والباقون بفتحها، فقيل: لغتان بمعنى، والكسرُ لغة نجد والفتح لغة أهل العالية، وفَرَّق سيبويه فَجَعَلَ المكسور مصدراً أو اسماً للعمل، وأما المفتوحُ فمصدرٌ فقط.
وقد تقدَّم في البقرة أنه قرىء في الشاذ بكسر الحاء، وتكلَّمْتُ هناك على هاتين اللفظتين وما ذَكَرَ الناسُ فيهما واشتقاقِ المادة فأغنى عن إعادتِهِ ولله الحمد والمِنَّةُ.
وقد جِيء في هذه الآية بمبالغاتٍ كثيرة منها قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس
323
حِجُّ البيت} يعني أنه حَقٌّ واجبٌ عليهم لله في زمانهم لا ينفكُّون عن أدائِهِ والخروجِ عن عُهْدَتِهِ. ومنها أنه ذَكَرَ «الناس» ثم أَبْدل منهم ﴿مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ وفيه ضربان من التأكيدِ، أحدُهما: أنَّ الإِبدالَ تثنيةُ المرادِ وتكريرٌ له، والثاني: أن التفصيلَ بعد الإِجمال والإِيضاحَ بعد الإِبهام إيرادٌ في صورتين مختلفتين، قاله الزمخشري على عادةِ فصاحتِهِ وتخليصِهِ المعنى بأقرب لفظ.
والألفُ واللام في «البيت» للعهدِ لتقدُّم ذِكْرِه، وهو عَلَمٌ بالغلَبَة كالثريا والصَّعِق، فإذا قيل «زار البيت» لم يتبادرِ الذهنُ إلا إلى الكعبة شَرَّفها الله تعالى، وقال الشاعر:
١٣٦١ - لَعَمْرِي لأنت البيتُ أُكْرِمُ أهلَه
وأَقْعُدُ في أَفْنَائِهِ بالأَصائلِ
أنشد الشيخُ هذا البيتَ في هذا المَعْرِضِ وفيه نظرٌ، إذ ليس في الظاهرِ الكعبةُ. والضمير في «إليه» الظاهرُ عَوْدُهُ على الحج لأنه مُحَدَّثٌ عنه، والثاني: عَوْدُه على البيت «وإليه» متعلِّقٌ باستطاع، و «سبيلا» مفعولٌ به لأنَّ «استطاع» متعدٍّ، قال: ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ﴾ [الأعراف: ١٩٧] إلى غيره من الآيات.
قوله: ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ الشرطيةَ وهو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ تكونَ الموصولةَ، ودَخَلَتِ الفاءُ شَبهاً للموصولِ باسمِ الشرطِ وقد تقدَّم تقريرهُ غيرَ مرةٍ، ولا يَخْفَى حالُ الجملتين بعدَها بالاعتبارين المذكورين. ولا بُدَّ من رابطٍ بين
324
الشرطِ وجزائِهِ أو المبتدأ وخبرِهِ، ومَنْ جَوَّز إقامةَ الظاهِرِ مُقامَ المُضْمَرِ أكتفى بذلك في قوله: ﴿فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾ كأنه قال: غني عنهم.
قوله تعالى: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ﴾ :«لِمَ» متعلقٌ بالفعلِ بعده، و «مَنْ آمن» مفعولٌ، وقولُه «يَبْغُونها» يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفةً أَخْبَرَ عنهم بذلك، وأَنْ تَكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال، وهو أظهرُ من الأول لأنَّ الجملةَ الاستفهاميةَ جِيء بعدها بجملةٍ حاليةٍ أيضاً وهي قوله: ﴿وأنتم تَشْهَدون﴾ فتتفقُ الجملتان في انتصابِ الحال عن كل منهما، ثم إذا قلنا بأنها حالٌ ففي صاحبِها احتمالان، أحدُهما: أنه فاعل «تَصُدُّون»، والثاني: أنه «سبيل الله» وإنما جاز الوجهان لأن الجملةَ اشتملَتْ على ضميرِ كلٍّ منهما.
والعامة على «تَصُدُّون» بفتح التاء من صَدَّ يَصُدُّ ثلاثياً، ويستعمل لازماً ومتعدياً. وقرأ الحسن: «تُصِدُّون» بضمِّ التاء من أَصَدَّ مثل أَعَدَّ، ووجهُه أَنَّ يكونَ عَدَّى «صَدَّ» اللازم بالهمزة، قال ذو الرمة:
١٣٦٢ - أُناسٌ أَصَدُّوا الناسَ بالسيفِ عنهمُ
...........................
و «عِوَجا» فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ به، وذلك أن يُراد تبغون: تَطْلُبون، قال الزجاج والطبري: «تطلبون لها اعوجاجاً، تقول العربُ:»
325
ابغِني كذا «بوصلِ. الألف أي: اطلبه لي و» أَبْغني كذا «بقطع الألف أي: أَعِنِّي على طلبه، قال الأنباري:» البَغْيُ يُقْتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك: بَغَيْتُ المال والأجر والثواب، وههنا أريد: يبغون لها عوجاً، فلمَّا سَقَطَتِ اللامُ عَمِلَ الفعلُ فيما بعدَها كما قالوا: «وَهَبْتُك درهماً» يريدون: وَهَبْتُ لك، ومثلُه: «صُدْتُكَ ظَبْياً» أي: صُدْتُ لك، قال الشاعر:
١٣٦٣ - فَتَولَّى غلامُهمْ ثم نادى
أَظَلِيماً أَصِيدُكم أَمْ حِمارا
يريد: أَصِيدُ لكم ظَلِيماً ومثلُه: «جَنَيْتُكَ كَمْأَةً وجَنَيْتُك رُطَباً» والأصلُ: جَنَيْتُ لك، فَحَذَفَ ونَصَبَ «.
والثاني: أنه حالٌ من فاعل» يَبْغُونَها «وذلك أَنْ يُرادَ ب» تَبْغُون «معنى تتعَدَّوْن، والبَغْيُ التعدِّي، والمعنى: تَبْغُون عليها أو فيها. قال الزجاج:» كأنه قال: تَبْغُونها ضالِّين «.
والعِوَج بالكسر والعَوَج بالفتح المَيْلُ، ولكنَّ العرب فَرَّقوا بينهما، فَخَصُّوا المكسورَ بالمعاني والمفتوحَ بالأعيانِ، تقول: في دينه وكلامِه عِوَجٌ بالكسر، وفي الجِدارِ عِوَجٌ بالفتح. قال أبو عبيدة:» العِوَج بالكسر المَيْلُ في الدين والكلام والعمل، وبالفتح في الحائط والجذع «وقال أبو إسحاق:» بالكسر فيما لا ترى له شخصاً، وبالفتح فيما له شخصٌ وقال صاحب «المجمل» :
326
«بالفتح في كلِّ منتصبٍ كالحائط، والعِوج يعني بالكسر ما كان في بساطٍ أو دين أو أرض أو معاش» فقد جعل الفرقَ بينهما بغير ما تقدم. وقال الراغب: «العِوَجُ: العَطْفُ عن حالِ الانتصاب، يقال: عُجْتُ البعيرَ بزِمامه، وفلان ما يَعُوجُ عن شيءٍ يَهُمُّ به أي يَرْجَع، والعَوَج يعني بالفتح / يقال فيما يُدْرك بالبصر كالخشب المنتصِب ونحوه، والعِوَج يقال فيما يدرك بفكرٍ وبصيرة، كما يكون في أرض بسيطة عِوَج فيُعرف تفاوتُه بالبصيرة وكالدين والمعاش» قلت: وهذا قريبٌ من قول ابنِ فارس لأنه كثيراً ما يَأْخذ منه.
وقد سأل الزمخشري في سورة طه عند قوله ﴿لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً﴾ [طه: ١٠٧] حاصلُه يرجع إلى أنه كيف قيل: عِوَج بالكسر في الأعيان، وإنما يقال في المعاني؟ وأجاب هناك بجواب حسن سيأتي بيانه إن شاء الله، والسؤال إنما يجيء على قول أبي عبيدة والزجاج المتقدم، وأمَّا على قول ابن فارس والراغب فلا يَرِدُ.
ومِنْ مجيءِ العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملةُ قولُه:
١٣٦٤ - تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوجوا
كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرامُ
وقولُ امرىء القيس:
١٣٦٥ - عُوجا على الطَّلَلِ المُحيل لأننا
نبكي الديارَ كما بكى ابنُ حِذَامِ
327
أي: ولم تميلوا، ومِيلا. وأَمَّا قولهم: «ما يَعيج زيدٌ بالدواء» أي: ما ينتفِعُ به فمِنْ مادةٍ أخرى ومعنى آخر. والعاجُ: هذا العظمُ ألفُه مجهولةٌ، لا نعلم: أمنقلبةٌ عن واو أو ياء، وفي الحديث: أنه قال لثوبان «اشترِ لفاطمةَ سِواراً من عاج» قال القتيبي: «العاجُ: الذَّبْلُ»، وقال أبو خراش الهذلي في امرأة:
١٣٦٦ - فجاءَتْ كخاصِي العَيْر لم تَحْلَ جاجةً
ولا عاجةً منها تلوحُ على وَشْمِ
قال الأصمعيّ: «العاجةُ: الذَّبْلَةُ، والجاجة: تخمينُ خرزةٍ ما يساوي فلساً، وقوله كخاصي العَيْر: هذا مَثَلٌ تقوله العرب لِمَنْ جاء مُسْتَحْيِياً من أمرٍ فيقال:»«جاء كخاصِي العَيْر» والعَيْر: الحِمار، يعنون جاء مستحيياً.
ويقال: عاجَ بالمكانِ وعَوَج به أي: أقام وقطن وفي حديث اسماعيل عليه السلام: «ها أنتم عَائجون» أي مقيمون، وأنشدوا لجرير:
١٣٦٧ - هَلَ انتم عائِجُونَ بِنَا لَغَنَّا
نَرَى العَرَصاتِ أو أثرِ الخيامِ
كذا أنشدَ هذا البيتَ الهرويُّ مستشهداً به على الإِقامةِ، وليس بظاهر، بل المرادُ بعائجون في البيت مائِلُون وملتفتون، وفي الحديث: «ثم عاجَ رأسَه إليها» أي التفت إليها.
328
و «ها» في «يَبْغُونها» عائدةٌ على سبيل، والسبيل يُذكَّر ويؤنَّث كما تقدَّم، ومن التأنيث هذه الآيةُ، وقوله تعالى: ﴿هذه سبيلي﴾ [يوسف: ١٠٨] وقول الآخر:
١٣٦٨ - فلا تَبْعَدْ فكلُّ فتى أُناسٍ
سيصبحُ سالكاً تلك السَّبيلا
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ﴾ حال: إمَّا من فاعلٍ «تَصُدُّون» وإمَّا من فاعل «تَبْغُون»، وإمَّا مستأنفٌ، وليس بظاهرٍ، وتقدَّم أنَّ «شهداء» جمعُ شهيد أو شاهد.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله﴾ : جملةٌ حالية من فاعل «تكفرون»، وكذلك ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ أي: كيف يُوجَدُ منكم الكفرُ مع وجودِ هاتين الحالين؟
329
والاعتصام: الامتناعُ، يُقال: اعتصم واستعصم بمعنى واحد، واعتصم زيدٌ عمراً أي: هَيَّأَ له ما يَعْتَصِمُ به، وقيل: الاعتصام: الإِمساك، واستعصم بكذا: أي استمسك به، والعِصَّامُ: ما يُشَدُّ به القِرْبة، وبه يُسَمَّى الأشخاص، والعِصْمَةُ مستعملةٌ بالمعنيين لأنها مانعةٌ من الخطيئةِ وصاحبُها مستمسِك بالحقِّ، والعِصْمَةُ أيضاً: شِبْهُ السوار، والمِعْصَمُ: مَوْضِعُ العِصْمة، ويُسَمَّى البياضُ الذي في الرسغ «عُصْمة» تشبيهاً بها، وكأنهم جَعَلوا ضمةَ العينِ فارقةً، والأَعْصَمُ من الوُعولِ: ما في معاصِمِها بياضٌ وهي أشدُّها عَدْواً، قال:
١٣٧٠ - لو أَنَّ عُصْمَ عَمايتين ويَذْبُلٍ
سمعا حديثك.................
وفي الحديث في النساء: «لا يَدْخُلُ الجنةَ منهن إلا كالغراب الأَعْصم» وهو الأَبيضُ الرِّجلْلين. وقيل: الأبيضُ الجناحين، والمرادُ بذلك التقليلُ.
وقوله: ﴿فَقَدْ هُدِيَ﴾ جوابُ الشرطِ، وجِيء في الجواب ب «قد» دلالةً على التوقُّعِ لأنَّ المعتصِمَ متوقعُ الهداية.
قوله تعالى: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ : فيه وجهان: / أَنَّ «تقاة» مصدرٌ، وهو من بابِ إضافة الصفةِ إلى موصوفها؛ إذ الأصلُ: اتقوا الله التقاةَ الحقَّ أي: الثابت كقولِك: «ضربْتُ زيداً أشدَّ الضَّرْبِ تريد: الضربَ الشديد، وقد تقدَّم تحقيقُ كون» تقاة «مصدراً في أولِ السورة، وزادَ ابن عطية هنا أن» تُقاة «يجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً، وهو في ذلك المخالِفِ
330
للإِجماع فقال:» ويَصِحُّ أن يكونَ «التقاة» في هذه الآيةِ جمعَ فاعل، وإنْ كان لم يتصَّرفْ منه فيكونُ كرماة ورامٍ، أو يكونُ جمعَ تَقِيّ، إذ فَعِيل وفاعل بمنزلة، ويكونُ المعنى على هذا: اتقوا اللهَ كما يَحِقُّ أن يكونَ مُتَّقُوه المختصُّون به، ولذلك أُضيفوا إلى ضمير الله تعالى «. قال الشيخ:» وهذا المعنى يَنْبُو عنه هذا اللفظ، إذ الظاهرُ مِنْ قولِهِ ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، كما تقول: «ضربْتُ زيداً شديدَ الضرب» أي الضربَ الشديدَ، وكذلك هذا أي: اتقوا اللهَ الاتقاءَ الحقَّ أي: الواجبَ الثابتَ، أمَّا إذا جَعَلْتَ التقاةَ جمعاً فإن المعنى يصيرُ مثل: اضرِبْ زيداً حقَّ ضِرابِهِ، فلا يَدُلُّ هذا التركيبُ على معنى: اضربْ زيداً كما يحِقُّ أن يكونَ ضِرابُه، بل لو صَرَّح بهذا التركيب لاحتيجَ في فهم معناه إلى تقديرِ أشياءَ يَصِحُّ بتقديرِها المعنى، والتقديرُ: اضرب زيداً ضرباً حقاً كما يَحِقُّ أن يكونَ ضربُ ضِرابِه، ولا حاجةَ تَدْعو إلى تحميلِ اللفظِ غيرَ ظاهرِهِ وتكلُّفِ تقاديرَ يَصِحُّ بها معنىً لا يَدُلُّ عليها اللفظُ «.
قوله: ﴿وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ هو نَهْيٌ في الصورة عن مَوْتهم إلاَّ على هذه الحالة، والمرادُ دوامُهم على الإِسلام، وذلك أن الموتَ لا بُدَّ منه، فكأنه قيل: دُوموا على الإِسلام إلى الموت، وقريبٌ منه ما حكى سيوبيه:» لا أُرَيَنَّك ههنا «أي لا تكنْ بالحضرةِ فتقَعَ عليك رؤيتي. والجملةُ مِنْ قولِهِ: ﴿وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ في محل نصب على الحال والاستثناءُ مفرغٌ من الأحوالِ العامة أي: لا تموتُنَّ على حالةٍ من سائر الأحوال إلا على هذه الحال الحسنة، وجاء بها جملةً اسميةً لانها أبلغُ وآكد، إذ فيها ضميرٌ متكررٌ، ولو قيل:» إلاَّ مسلمين «لم يُفِدْ هذا التأكيدَ، وتقدَّم إيضاحُ هذا التركيب في البقرة عند قولِه
331
تعالى: ﴿إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢].
قوله تعالى: ﴿بِحَبْلٍ﴾ : الحَبْلُ في الأصل هو السبَبُ، وكلُّ ما وصلك إلى شيء فهو حَبْل، وأَصلُه في الأجرام واستعمالُه في المعاني من باب المجاز، ويجوزُ أن يكونَ حينئذٍ من باب الاستعارة، ويجوز أن يكونَ من بابِ التمثيل، ومن كلامِ الأنصار رضي الله عنهم: «يا رسول الله إنَّ بيننا وبين القوم حبالاً ونحن قاطعوها» يَعْنُون العهود والحِلْف. قال الأعشى:
١٣٧١ - وإذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلةً
أَخَذَتْ من الأخرى إليكَ حِبالَها
يعني العهودَ، قيل: والسببُ فيه أنَّ الرجلَ كان إذا سافرَ خافَ فيأخذُ من القبيلةِ عهداً إلى أخرى، ويُعْطَى سهماً أو حبلاً يكونُ معه كالعلامةِ، فَسُمِّي العهدُ حبلاً لذلك، وهذا معنىً غيرُ طائلٍ، بل سُمِّي العهدُ حبلاً للتوصُّلِ به إلى الغرض. وقال آخر:
١٣٧٢ - ما زِلْتُ معتصِماً بحبلٍ منكُم
..........................
والمرادُ بالحبل هنا القرآنُ، وفي الحديثِ الطويل: «هو حَبْلُ الله المتين».
332
وقوله: «جميعاً» حالٌ من فاعل «اعتصموا»، و «بحبل الله» متعلِّقٌ به. قوله: «ولا تَفَرَّقوا» قرأه البزي بتشديد التاء وصلاً، وقد تقدَّم توجيهُه في البقرة عند قولِه: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ﴾ [البقرة: ٢٦٧]، والباقوُن بتخفيفها على الحَذْفِ.
وقوله: ﴿نِعْمَةَ الله﴾ مصدرٌ مضاف لفاعله إذ هو المُنْعِم، و «عليكم» يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً بنفس «نعمة» لأنَّ هذه المادَة تتعدَّى ب «على» [نحو:] ﴿للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٣٧] ويجوز أَن يكونَ متعلقاً بمحذوف على أنه حال من «نعمة» فيتعلَّقُ بمحذوفٍِ أي: مستقرة وكائنة عليكم.
قوله: ﴿إِذْ كُنْتُمْ﴾«إذ» منصوبةٌ بنعمة ظرفاً لها، ويجوزُ أَنْ يكون متعلقاً بالاستقرارِ الذي تضمَّنه «عليكم» إذا قلنا: إنَّ «عليكم» حالٌ من النعمة، وأمَّا إذا عَلَّقْنا «عليكم» بنعمة تَعَيَّن الوجُه الأول. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ منصوباً باذكروا، يعني مفعولاً به لا أنه ظرفٌ له لفسادِ المعنى، إذ «اذكروا» مستقبلٌ، و «إذ» ماضٍ.
قوله: ﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾ أصبحَ من أخواتِ «كان» فإذا كانَتْ ناقصة كانت مثلَ «كان» في رفعِ الاسمِ ونَصْبِ الخبر، وإذا كانَتْ تامةً رفَعَتْ فاعلاً واستغنَتْ به، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح تقول: «أصبحَ زيد» أي دخل في الصباح، ومثلُها في ذلك «أمسى»، قال تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: ١٧] وقوله: ﴿وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ﴾ [الصافات: ١٣٧] وفي أمثالهم: «إذا سَمِعْتُ بسُرى القَيْن فاعلَمْ
333
أنَّه مُصبح» لأنَّ القَيْنَ وهو الحَدَّاد ربما قَلّت صناعته في أحياءِ العرب فيقول: أنا غداً مسافرٌ ليأتوه الناس بحوائجهم فيقيمُ ويتركُ السفر، فأخرجُوه مَثَلا لمن يقول/ قولاً ويخالفه، فالمعنى أنه مقيم في الصباح، وتكون بمعنى «صار» عملاً ومعنى كقوله:
١٣٧٣ - فَأَصْبحوا كأنَّهم ورقٌ جَفْ
فَ فَأَلْوَتْ به الصَّبا والدَّبُورُ
أي: صاروا. «إخواناً» خبرُها، وجَوَّزوا فيها هنا أن تكون على بابِها من دلالتِها على اتِّصاف الموصوفِ بالصفة في وقت الصباح، وأن تكون بمعنى صار، وأن تكون التامة، أي: دخلتم في الصباح، فإذا كانت ناقصةً على بابها فالأظهرُ أن يكونَ «إخواناً» خبرَها.
و «بنعمته» متعلِّقٌ ب «إخْواناً»، لِما فيه مِنْ معنى الفعلِ أي: تآخيتم بنعمتِه، والباءُ للسببيةِ. وجَوَّز الشيخُ أَنْ يتعلَّق بأصبحتم، وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف، وجوَّز غيرُه أَنْ يَتَعلَّق بمحذوف على أنه حال من فاعل «أصبحتم» أي: فأصبحتم إخواناً ملتبسين بنعمته، أو حال من «إخواناً» لأنه في الأصل صفةٌ له. وجَوَّزوا أَنْ يكونَ «بنعمته» هو الخبرَ، و «إخواناً» حالٌ، والباءُ بمعنى الظرفية، وإذا كانت بمعنى «صار» جَرَى فيها ما تقدَّم من جميع هذه الأوجه، وإذا كانت تامةً فإخواناً حالٌ، و «بنعمتِه» فيه ما تقدَّم من الأوجهُ خلا الخبريةِ.
334
قال ابن عطية: «فأصبحتم» عبارةٌ عن الاستمرار، وإن كانت اللفظة مخصوصةً بوقت، وإنما خُصَّتْ هذه اللفظةُ بهذا المعنى من حيث هي مبدأُ النهار، وفيها مبدأُ الأعمالِ، فالحالُ التي يُحِسُّها المرءُ مِنْ نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومُه في الأغلب، ومنه قول الربيع بن ضبع:
١٣٧٤ - أَصْبَحْتُ لا أَحْمِلُ السِّلاح ولا
أَمْلِكُ رأسَ البعيرِ إنْ نفرا
قال الشيخ: «وهذا الذي ذكره مِنْ أَنَّ» أصبح «للاستمرار، وعَلَّله بما ذكره لم أَرَ أحداً من النحويين ذهب إليه، إنما ذكروا أنها تستعمل بالوجهين اللذيْنِ ذكرناهما» قلت: وهذا الذي ذكره ابنُ عطية معنىً حسنٌ، وإذا لم ينصَّ عليه النحويون لا يُدْفَعُ، لأَنَّ النحاةَ غالِباً إنما يتحدثون بِما يتعلَّقُ بالألفاظ، وأمَّا المعاني المفهومةُ من فحوى الكلامِ فلا حاجةَ لهم بالكلامِ عليها غالباً.
والإِخْوان: جمع أَخٍ، وإخوة اسمُ جمعٍ عند سيبويه وعند غيرِه هي جمع. وقال بعضُهم: «إنَّ الأَخَ في النسَب يُجْمع على» إخوة «، وفي الدِّين على» إخْوان «، هذا أَغلبُ استعمالِهم، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠]، ونفسُ هذه الآية تؤيد ما قاله لأن المراد هنا ليس إخوة النسب إنما المرادُ إخوةُ الدين والصداقة، قال أبو حاتم:» ثم قال أهلُ البصرة: الإِخوةُ في النسبِ والإِخْوان في الصداقة «قال:» وهذا غَلَط، يقال للأصدقاء والأنسباء
335
إخوة وإخوان، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ لم يَعْنِ النسبَ، وقال تعالى: ﴿أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ﴾ [النور: ٦١] وهذا في النسبِ «قلتُ: رَدُّ أبي حاتم يتَّجِهُ على هذا النقلِ المطلقِ، ولا يَرِدُ على النقلِ الأول لأنهم قَيَّدوه بالأغلبِ في الاستعمالِ.
قوله: ﴿على شَفَا﴾ شفا الشيء: طرفُه وحَرْفُه، وهو مقصورٌ من ذواتِ الواو، يُثَنَّى بالواو نحو: شَفَوَيْن، ويُكتب بالألف، ويُجْمع على أَشْفاء، ويُستعمل مضافاً إلى أعلى الشيء وإلى أسفله، فمِن الأول: ﴿شَفَا جُرُفٍ﴾ [التوبة: ١٠٩] ومن الثاني هذه الآية، وأشفى على كذا أي: قَارَبه، ومنه أَشْفى المريضُ على الموت، قال يعقوب: «يُقال للرجلِ عند موتهِ، وللقمر عند محاقِه، وللشمسِ عن غروبها:» ما بَقي منه أو منها إلا شفا «أي: إلا قليلٌ». وقال بعضهم: يُقال لِما بين الليلِ والنهارِ عند غروبِ الشمسِ إذا غاب بعضُها: شفا، وأنشد:
١٣٧٥ - أَدْرَكْتُه بلا شَفا أو بشَفا
والشمسُ قد كادَتْ تكونُ دَنِفا
وقال الراغب: «والشفاءُ من المرضِ موافاةُ شَفا السلامة، وصار اسماً للبُرء، والشَّفا مذكَّرٌ».
وأمَّا عَوْدُ الضميرِ في «منها» ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنه عائدٌ على «حفرة».
336
والثاني: أنه عائدٌ على «النار» قال الطبري: «إنَّ بعضَ الناسِ يُعيده على الشَّفا، وأنَّثَ مِنْ حيثُ كان الشَّفا مضافاً إلى مؤنث، كما قال جرير:
١٣٧٦ - أرى مَرَّ السنين أَخَذْنَ مني
كما أخَذَ السِّرارُ مِن الهلال
قال ابن عطية:» وليس الأمر كما ذكروا، لأنه لا يُحتاج في الآية إلى مثل هذه الصناعة، إلا لو لم نجد للضمير معاداً إلا الشفا، أَما ومَعَنا لفظٌ مؤنثٌ يعودُ الضميرُ عليه/ ويَعْضُده المعنى المُتَكَلَّمُ فيه فلا يُحتاج إلى تلك الصناعةِ «قال الشيخ:» وأقول: لا يَحْسُنُ عَوْدُه إلاَّ على الشَّفا؛ لأنَّ كينونتَهم على الشَّفا هو أحدُ جُزْأَي الإِسناد، فالضميرُ لا يعودُ إلا عليه، وأمَّا ذِكْرُ الحفرةِ فإنما جاءَتْ على سبيل الإِضافةِ إليها، ألا ترى أنَّك إذا قلت: «كان زيدٌ غلامَ جعفر» لم يكن جعفر مُحَدَّثاً عنه، وليس أحدَ جُزْأَي الإِسناد، وكذا لو قلت: «زيد ضربَ غلامَ هندٍ» لم تُحَدِّث عن هندٍ بشيءٍ، وإنَّما ذكرْتَ جعفراً وهنداً مخصصاً للمُحَدَّث عنه، وأمَّا ذِكْرُ النارِ فإنما ذُكِر لتخصيصِ الحفرة، وليست أيضاً أحدَ جُزْأَي الإِسناد، وليست أيضاً مُحَدَّثاً عنها، فالإِنقاذ من الشفا أبلغُ من الإِنقاذِ من الحفرة ومِن النارِ، لأنَّ الإِنقاذَ من الشفا [يستلزم الإِنقاذَ من الحفرة ومن النار، والإِنقاذَ منهما لا يستلزِمُ الإِنقاذَ من الشفا] فعودُه على الشَّفا هو الظاهرُ من حيث اللفظُ ومن حيث المعنى «.
337
وقال الزجاج:» وقولُه: «منها» الكنايةُ راجعةٌ إلى النار إلى الشفا؛ لأنَّ القصدَ الإِنجاءُ من النار لا مِنْ شَفا الحفرة «. وقال غيرُه:» يعودُ على الحفرة، فإذا أنقذهم اللهُ من الحفرةِ فقد أَنْقذهم من شَفاها لأنَّ شَفاها منها «.
قال الواحدي: «على أنه يجوزُ أَنْ يَذْكُرَ المضافُ والمضافُ إليه ثم تعودَ الكنايةُ إلى المضافِ إليه دونَ المضاف، كقول جرير:» أرى مرَّ السنين أخَذْنَ «البيت. فَذَكَر مَرَّ السنين، ثم أخبر عن السنين، وكذلك قول العَجَّاج:
١٣٧٧ - طولُ الليالي أَسْرَعَتْ في نَقْضِِي
طَوَيْنَ طولي وَطَوَيْنَ عَرْضي
قال:» وهذا إذا كان المضافُ من جنسِ المضافِ إليه، فإنَّ مَرَّ السنين هو السنون، وكذلك شَفا الحفرة من الحُفْرَة، فَذَكَر الشَّفا وعادَتِ الكنايةُ إلى الحفرةِ «قلت: وهذان القولان نصٌّ في ردِّ ما قاله الشيخ، إلاَّ أنَّ المعنى الذي ذَكَره أَوْلَى، لأنه إذا أنقذَهم من طَرَفِ الحفرة فهو أبلغُ مِنْ إنقاذِهم من الحفرةِ، وما ذكره من الصناعةِ أيضاً واضحٌ.
والإِنقاذُ: التخليصُ والتنحية، قال الأزهري:» يقال أَنْقَذْتُه ونَقَذْتُه واستنقَذْتُه وتَنَقَّذْتُه بمعنىً، ويقال: «فرسٌ نقيذٌ» إذا كان مأخوذاً من قومٍ آخرين لأنه استُنْقِذَ منهم، والحُفْرة: فُعْلَة بمعنى مَفْعُولة كغُرْفَة بمعنى مَغْروفة.
وقوله: ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله﴾ نعتٌ لمصدرٍ محذوف أو حالٌ من ضميره أي:
قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ التامةَ أي: وَلْتُوجد منكم أمةٌ، فتكون «أمة» فاعلاً، و «يَدْعُون» جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً لأمة، و «منكم» متعلِّقٌ بتكن على أنها تبعيضيةٌ، ويجوز أن يكونَ «منكم» متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «أمة» إذ كان يجوز جَعْلُه صفةً لها لو تأخّر عنها، ويجوز أن تكون «مِنْ» للبيان لأن المُبَيَّن وإنْ تأخَّر لفظاً فهو مُقَدَّمٌ رتبةً، ويجوزُ أَنْ تكونَ الناقصةَ فأمه اسمها و «يَدْعُون» خبرها، و «منكم» متعلِّقٌ: إمَّا بالكون، وإمَّا بمحذوف على الحال من «أمة». ويجوزُ أن يكونَ «منكم» هو الخبرَ و «يَدْعُون» صفةً لأمة، وفيه بُعدٌ. وقرأ العامة: «ولتكن». وقرأ الحسن والزهري والسُّلمي بكسرها، وهو الأصل.
وقوله: ﴿وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ من باب ذكر الخاص بعد العلم اعتناءً به كقوله: ﴿وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨] لأن اسم الخير يقعُ عليهما بل هما أعظمُ الخيور. وقوله: ﴿جَآءَهُمُ البينات﴾ لم يؤنِّثِ الفعلَ للفصلِ ولكونِه غيرَ حقيقي بمعنى الدلائل.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ﴾ في العاملِ في هذا الظرفِ وجوهٌ، أحدها: أنه الاستقرار الذي تضمَّنه «لهم» والتقديرُ: وأولئك استقر لهم عذابٌ يومَ تبيضُّ. وقيل: العامل فيه مضمر يَدُلُّ عليه الجملة السابقة تقديرُه: يُعََّذبون يومَ تبيضُّ وجوهٌ. وقيل: العاملُ فيه «عظيم» وضَعُف هذه بأنه يلزمُ تقييدُ عِظَمِه بهذا اليوم. وهذا التضعيفُ ضعيفٌ؛ لأنه إذا عَظُم في هذه اليومِ
339
ففي غيره أَوْلى، وأيضاً فإنه مسكوتٌ عنه فيما عدا هذا اليوم. وقيل: العاملُ «عذاب». وهذا ممتنعٌ؛ لأن المصدر الموصوفَ لاَ يَعْمَلُ [بعدَ] وَصْفِه.
وقرأ يحيى بن وثاب وأبو نُهَيْك وأبو رزين العقيلي: «تِبْيَضُّ وتِسْوَدُّ» بكسر التاء وهي لغةُ تميم، وقرأ الحسن والزهري وابن محيصنِ وأبو الجوزاء: «تَبياضُّ وتَسوادُّ» بألف فيهما، وهي أبلغ فإنَّ «ابياضَّ» أدلُّ على اتصافِ الشيء بالبياضِ من ابيضَّ، ويجوز كسرُ حرفِ المضارعة أيضاً مع/ الألفِ، إلا أنِّي لا أَنْقُلُه قراءةً لأحد.
قوله: ﴿أَكْفَرْتُمْ﴾ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بقولٍ مضمر، وذلك القولُ المضمرُ مع فاءٍ مضمرةٍ أيضاً هو جوابُ أمّا، وحَذْفُ الفاءِ مع القول مُطَّردٌ، وذلك أنَّ القولَ يُضمر كثيراً كقوله تعالى: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣-٢٤] ﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ﴾ [الزمر: ٣] ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ﴾ [البقرة: ١٢٧] وأمَّا حذْفُها دونَ إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورةٍ كقوله:
١٣٧٨ - فأمَّا القتالُ لا قِتالَ لديكُمُ
ولكنَّ سيراً في عِراضِ المواكبِ
أي: فلا قتالَ.
340
وقال صاحب «أسرار التنزيل» :«بل قد اعتُرِض على النحاة في قولهم:» لَمَّا حُذِف «يُقال» حُذِفت الفاءُ «بقولِه تعالى: ﴿وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ﴾ [الجاثية: ٣١] فَحَذَف» يُقال «ولم يَحْذِفِ الفاء، فلمَّا بَطَل هذا تعيَّن أن يكونَ الجوابُ في قوله: ﴿فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ فوقعَ ذلك جواباً له، ولقولِهِ: ﴿أَكَفَرْتُم﴾، ومِنْ نَظْمِ العربِ إذا ذَكَروا حرفاً يقتضي جواباً له أَنْ يَكْتَفُوا عن جوابهِ حتى يَذْكُروا حرفاً آخَر يقتضي جَواباً، ثم يَجْعَلُون له جواباً واحداً كما في قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٣٨]، فقوله: ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ جوابٌ للشرطين معاً، وليس» أفلم «جوابَ» أمَّا «بل الفاءُ عاطفةٌ على مقدَّرٍ، والتقدير: أأهملتكم فلم أتلُ عليكم آياتي».
قال الشيخ: «وهو كلامُ أديبٍ لا كلامُ نحوي، أمَّا قولُه:» قد اعتُرِض على النحاة «فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراضِ أنه اعتراضٌ على جميع النحاة، لأنه ما من نحوي إلاَّ ويَخْرِّج الآيةَ على إضمارِ فيقال لهم: أكفرتم، وقالوا: هذا هو فحوى الخطاب: وهو أن يكون في الكلام شيءٌ مقدرٌ لا يَسْتَغني المعنى عنه، فالقولُ بخلافِه مُخالِفٌ للإِجماع فلا التفاتَ إليه.
فأمَّا ما اعترض به من قوله: ﴿وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي﴾ وأنه قَدَّروه: فيقال لهم: أفلم تكن آياتي، فَحَذَف «فيقال» ولم يَحْذِف الفاءَ فَدَلَّ على بُطْلان هذه التقدير «فليس بصحيحٍ، بل هذه الفاءُ التي بعد الهمزة في» أفلم «ليست فاءَ» فيقال «التي هي جوابُ» أمَّا «حتى يُقَالَ حَذَف» يقال «وبقيت الفاءُ، بل الفاءُ التي هي
341
جواب» أمّا «و» يقال «بعدها محذوفٌ، وفاء» أفلم «تحتمل وجهين أحدهما: أن تكون زائدة، وقد أنشد النحويون على زيادةِ الفاء قولَ الشاعر:
١٣٧٩ - يموتُ أُناسُ أو يَشيبُ فتاهُمُ
ويَحْدُثُ ناسٌ والصغيرُ فكيبُرُ
أي: والصغيرُ يَكْبُرُ، وقولَ الآخر:
١٣٨٠ - لَمَّا اتَّقى بيدٍ عظيمٍ جِرْمُها
فَتركْتُ ضاحِي كَفِّه يَتَذَبْذَبُ
أي: تركت، وقال زهير:
١٣٨١ - أراني إذا ما بِتُّ بِتُّ على هوى
فَثُمَّ إذا أَمْسَيْتُ أَمْسَيْتُ غادِيا
يريد: ثم إذا، وقال الأخفش:» وزعموا أنهم يقولون: «أخوك فوجَد» يريدون: أخوك وجَدَ «. والوجه الثاني: أن تكونَ الفاءُ تفسيريةً. والتقدير:» فيقالُ لهم ما يَسُوْءُهم فألم تكن آياتي «ثم اعتُنِي بحرف الاستفهام فقُدِّم على الفاءِ التفسيرية، فَقُدِّم كما تَقَدَّم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض﴾ [يوسف: ١٠٩] وهذا على رأي مَنْ يُثْبِتُ أنَّ الفاءَ تفسيرية نحو:» توضَّأ
342
زيدٌ فَغَسَل وجهَه ويديه إلى آخر أفعالِ الوضوء «فالفاءُ هنا ليسَتْ مُرَتِّبةً وإنَّما هي مفسِّرةٌ للوضوءِ، كذلك تكونُ في ﴿أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ﴾ مفسرةً للقولِ الذي يَسُوْءُهم.
وقولُ هذا الرجلِ:» فَلَمَّا بَطَلَ هذا تعيَّن أن يكون الجوابُ: فذوقوا «أي تعيَّن بطلانُ حَذْف ما قدَّره النحويون من قوله» فيقال لهم «لوجودِ هذه الفاء في» أفلم تكن «وقد بيَّنَّا أن ذلك التقدير لم يبطل وأنه سواء في الآيتين، وإذا كان كذلك فجواب» أمَّا «هو:» فيقال «في الموضعين ومعنى الكلام عليه. وأمْا تقديره:» أأهملتكم فلم تكن آياتي تُتْلَى «فهذه بدعة زمخشرية، وذلك أن الزمخشري يُقَدِّر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يَصِح عطفُ ما بعدها عليه، ولا يَعْتقد أنَّ الفاء والواو وثم إذا دَخَلَتْ عليها الهمزةُ أَصلُهُنَّ التقديمُ على الهمزة، لكن اعتُنِيَ بالاستفهامِ فَقُدِّم على حرف العطف، كما ذهب إليه سيبويه وغيرُه من النحويين. وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة/ في ذلك، وبُطْلانُ قولِه الأول مذكورٌ في النحو، وقد تقدم في هذا الكتاب حكايةُ مذهبِ الجماعة في ذلك، وعلى تقدير قول هذا الرجل» أهملتكم «فلا بد من إضمارِ القولِ وتقديرِه: فيقال أأهملتكم، لأنَّ هذا المقدَّرَ هو خبر المبتدأ، والفاءُ جوابُ أمَّا، وهو الذي يدل عليه الكلامُ ويقتضيه ضرورةً، وقولُ هذا الرجل:» فوقع ذلك جواباً له ولقولِهِ: أكفرتم «يعني أنَّ» فذوقوا العذاب «جوابٌ ل» أمَّا «ولقولِهِ» أكفرتم «والاستفهامُ هنا لا جوابَ له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإِرذال بهم.
وأمَّا قولُ هذا الرجل: «ومِنْ نظم العرب إلى آخره» فليس كلامُ العرب على ما زعم بل يُجْعل لكلٍّ جوابٌ، إن لا يكن ظاهراً فمقدرٌ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً. وأما دعواه ذلك في قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾ الآية وزعمُه أنَّ قوله تعالى: ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾
343
جوابٌ للشرطين فقولٌ رُوِيَ عن الكسائي، وزعم بعضُ الناسِ أنَّ جوابَ الشرط الأول محذوفٌ تقديرُه: فاتبعوه، والصحيح أنَّ الشرط الثاني وجوابَه جوابُ الشرط الأول، وتقدَّمت هذه الأقوالُ الثلاثة عند قوله تعالى ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾ انتهى.
وقوله: ﴿أَكْفَرْتُمْ﴾ الهمزةُ فيه للإِنكارِ عليهم والتوبيخِ لهم والتعجيب من حالهم، وفي قوله: ﴿أَكْفَرْتُمْ﴾ نوعٌ من الالتفاتِ وهو المُسَمَّى عند علماء البيان بتلوينِ الخطاب، وذلك أنَّ قولَه: ﴿فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ﴾ في حكم الغيبة، وقولُه بعد ذلك: ﴿أَكْفَرْتُمْ﴾ خطابُ مواجهة.
قوله تعالى: ﴿فَفِي رَحْمَةِ الله﴾ : فيه وجهان: أحدُهما: أنَّ الجار متعلِّقٌ بخالِدون. و «فيها» تأكيدٌ لفظي للحرفِ، والتقديرُ: فهم خالدون في رحمةِ الله فيها، وقد تقرَّر أنه لا يُؤَكَّد الحرفُ تأكيداً لفظياً إلا بإعادةِ ما دَخَلَ عليه أو بإعادةِ ضميرِه كهذه الآيةِ، ولا يجوز أن يعودَ وحدَه إلا في ضرورةِ كقوله:
١٣٨٢ - حَتَّى [تراها] وكأنَّ وكأنْ
أعناقَها مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ
كذا ينشدون هذا البيتَ، وأصرحُ منه في البابِ:
١٣٨٣ - فلا واللهِ لا يُلْفَى لِما بي
ولا لَلِما بهمْ أبداً دواءُ
344
ويَحْسُن ذلك إذا اختلف لفظُهما كقولِه:
١٣٨٤ - فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنَنِي عن بما به
.......................
اللهم إلا أَنْ يكونَ ذلك الحرفُ قائماً مقامَ جملةٍ فيكرَّرُ وحدَه كحروف الجواب كنعم نعم وبلى بلى ولا لا.
والثاني: أنَّ قولَه: ﴿فَفِي رَحْمَةِ﴾ خبرٌ لمبتدأٍ مضمرٍ، والجملة بأسرها جوابُ «أمَّا» والتقديرُ: فهم مستقرون في رحمةِ الله، وتكون الجملَةُ بعدَه مِنْ قولِه: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ جملةً مستقلةً من مبتدأ وخبرٍ دَلَّتْ على أنَّ الاستقرارَ في الرحمةِ على سبيلِ الخلود، فلا تَعَلُّقَ لها بالجملةِ قبلَها من حيثُ الإِعرابُ.
قال الزمخشري: «فإنْ قلت: كيفَ موقعُ قولِه: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ بعد قولِهِ: ﴿فَفِي رَحْمَةِ الله﴾ ؟ قلت: موقعُ الاستئناف، كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون لا يَظْعَنُون عنها ولا يموتون».
وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر «اسوادَّتْ وابياضَّتْ» بألف، وقد تقدَّم أن قراءتَهما: تَبياضُّ وتَسْوَادُّ وهذا قياسُها. وأصلُ افْعَلَّ هذا أن يكون دالاً على لون أو عيب حسي كاعْوَرَّ واسْوَدَّ واحْمَرَّ، وألاَّ يكون من مضعفٍ كأُحِمَّ، ولا معتلِّ اللام كَأَلْهى، وألاَّ يكونَ للمطاوعة، ونَدَر «أنهارَّ الليل» و «اشْعارَّ الرجل» أي تفرَّق شعره، إذ لا دلالة فيهما على عيب ولا لون، ونَدَرَ أيضاً «ارعَوَّى» فإنه معتلُّ اللام مطاوعٌ ل «رَعَوْتُه» بمعنى كففته، وليس دالاًّ على عيبٍ
345
ولا لونٍ، وأمَّا دخولُ الألف في افْعَلَّ هذا فدالٌّ على عُروض ذلك المعنى، وعدمُها دالٌّ على ثبوتِهِ واستقرارِهِ، فإذا قلت: اسودَّ وجهه دلَّ على اتصافه بالسواد من غير عروض فيه، وإذا قلت «اسوادَّ» دلَّ على حدوثِهِ، هذا هو الغالب وقد يُعْكَسُ قال تعالى: ﴿مُدْهَآمَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٦٤] والقصدُ به الدلالةُ على لزومِ الوصفِ بذلك للجنتين، وقولُه تعالى: ﴿تَزْوَرَّ عَن كَهْفِهِم﴾ [الكهف: ١٧] القصدُ به العروضُ لازْوِرار الشمس لا الثبوتُ والاستقرار، كذا قيل، وفيه نظرٌ محتمل، لأنَّ المقصود وصفُ الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصة.
وقوله: ﴿فَذُوقُواْ﴾ من بابِ الاستعارة، جَعَلَ العذابَ شيئاً يُدْرَكُ بحاسة الأكل والذوق تصويراً له بصورةِ ما يُذاق. وقوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾ الباءُ سببيةٌ، و «ما» مصدريةٌ ولا تكونُ بمعنى الذي لاحتياجِها إلى العائد، / وتقديرُهُ غيرُ جائزٍ لعدمِ الشروطِ المجوِّزَةِ لحَذْفِهِ.
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الله﴾ : مبتدأ وخبر، و «نَتْلوها» جملة حالية، وقيل: ﴿آيَاتُ الله﴾ بدلٌ من «تلك» و «نتلوها» جملةٌ واقعةٌ خبراً للمبتدأ، و «بالحق» حالٌ من فاعل «نَتْلوها» أو مفعولِه، وهي حالٌ مؤكدة؛ لأنه تعالى يُنَزِّلها إلا على هذه الصفةِ.
وقال الزجاج: «في الكلام حذفٌ تقديرُه: تلك آياتُ القرآن حُجَجُ اللهِ ودلائلُه». قال الشيخ: «فعلى هذا الذي قَدَّره يكون خبرُ المبتدأ محذوفاً
346
لأنه عنده بهذا التقدير يَتِمُّ معنى الآية، وهذا التقديرُ لا حاجةَ إليه، إذ المعنى تامٌّ بدونِهِ». والإِشارة ب «تلك» إلى الآياتِ المتقدمةِ المتضمنةِ تعذيبَ الكفارِ وتنعيمَ الأبرار.
وقرأ العامة: «نَتْلوها» بنونِ العظمة وفيه التفاتٌ من الغَيْبة إلى التكلم. وقرأ أبو نُهَيك «يتلوها» بالياءِ من تحتُ، وفيه احتمالان، أحدهما: أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ الباري تعالى لتقدُّم ذِكْرِه قي قوله: ﴿آيَاتُ الله﴾ ولا التفاتَ في هذا التقديرِ بخلافِ قراءةِ العامة. والثاني: أن يكونَ الفاعل ضميرَ جبريل.
قوله: ﴿لِّلْعَالَمِينَ﴾ اللامُ زائدةٌ لا تعلَّق لها بشيءٍ، زِيدت في مفعولِ المصدرِ وهو ظلم. والفاعلُ محذوفٌ، وهو في التقدير ضميرُ الباري تعالى، والتقدير: وما اللهُ يريد أن يَظْلِمَ العالمين، فزيدت اللامُ تقويةً للعامل لكونِه فرعاً كقوله تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧] وقيل: معنى الكلام: وما اللهُ يريدُ ظلمَ العالمين بعضَهم لبعض. ورُدَّ هذا بأنه لو كان المرادُ هذا لكان التركيبُ ب «مِنْ» أولى منه باللام، فكان يقال «ظُلماً من العالمين» فهذا معنى يَنْبُو عنه اللفظُ. ونَكَّرَ «ظلماً» لأنه سياقِ النفي، فهو يَعُمُّ كلَّ نوعٍ من الظلمِ.
قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ : في «كان» هذه ستةُ أقوال، أحدها: أنها ناقصةٌ على بابها، وإذا كانت كذلك فلا دلالةَ على مُضِيٍّ وانقطاع، بل تصلح للانقطاع نحو: «كان زيد قائماً» وتصلح للدوام نحو: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ١٦] ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [الإسراء: ٣٢]، فهي هنا بمنزلَةِ «لم يَزَلْ» وهذا بحسَبِ القرائن.
347
وقال الزمخشري: «كان» عبارةٌ عن وجود الشيء في زمن ماض على سبيل الإِبهام، وليس فيه دليلٌ على عَدَمٍ سابق ولا على انقطاع طارىء، ومنه قولُه تعالى: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ وقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ كأنه قيل: «وُجِدْتُم خيرَ أمة». قال الشيخ: قوله «لم تَدُلَّ على عدمٍ سابقٍ» هذا إذا لم تكن بمعنى «صار» فإذا كانت بمعنى «صار» دلَّت على عدمٍ سابقٍ، فإذا قلت: «كان زيد عالماً» بمعنى «صار زيد عالماً» دَلَّتْ على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم، وقولُه: «ولا على انقطاع طارىء» قد ذكرنا قبلُ أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يَدُلُّ لفظ المُضِيِّ منها على الانقطاع، ثم قد تُسْتعمل حيث لا انقطاعَ، وفَرْقٌ بين الدلالة والاستعمال، ألا ترى أنك تقول: «هذا اللفظُ يَدُلُّ على العموم» ثم قد يستعمل حيث لا يُرادُ العمومُ بل يرُاد الخصوصُ. وقوله: «كأنه قيل وُجِدْتُم خيرَ أمة» هذا يعارِضُ قولَه «إنها مثلُ قوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ لأن تقديرَه» وُجِدتم خير أمة «يَدُلُّ على أنها التامة وأن» خير أمة «حالٌ. وقوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ لا شك أنها هنا الناقصةُ فتعارضا» قلت: لا تعارُضَ لأنَّ هذا تفسيرُ معنًى لا تفسيرُ إعرابٍ.
الثاني: أنها بمعنى «صِرْتُم» و «كان» تأتي بمعنى «صار» كثيراً كقوله:
١٣٨٥ - بتيهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنها
قَطَا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخا بيوضُها
أي: صارَتْ فراخاً.
الثالث: أنها تامةٌ بمعنى وُجِدْتُم، و «خيرَ أمة» على هذا منصوبٌ على الحال أي: وُجدتم في هذه الحال.
348
الرابع: أنها زائدةٌ، والتقديرُ: أنتم خيرُ أمةٍ، وهذا قولٌ مرجوحٌ أوغَلَطٌ لوجهين، أحدُهما: أنها لا تُزاد أولاً، وقد نَقَلَ ابن مالك الاتفاقَ على ذلك. والثاني: أنها لا تعمل في «خير» مع زيادتِها، وفي الثاني نظرٌ، إذ الزيادةُ لا تنافي العملَ، وقد تقدَّم عليه دلائلُ في البقرة عند قولِه: ﴿أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله﴾ [البقرة: ٢٤٦].
الخامس: أنها على بابِها، والمرادُ: كنتم في علمِ الله، أو في اللوح المحفوظ.
السادس: أن هذه الجملةَ متصلةٌ بقوله: ﴿فَفِي رَحْمَةِ الله﴾ أي: فيُقال: لهم في القيامة ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾، وهو بعيدٌ جداً.
قوله: ﴿أُخْرِجَتْ﴾ يجوزُ في هذه الجملة أن تكونَ في محلِّ جر نعتاً ل «أمة» وهو الظاهرُ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ نعتاً ل «خير»، وحينئذٍ يكونُ قد رُوعي لفظُ الاسمِ الظاهر بعد ورودِهِ بعد ضمير الخطاب، ولو رُوعي ضميرُ الخطاب لكان جائزاً أيضاً، وذلك أنه إذا تقدَّم ضميرُ حاضرٍ متكلماً كان أو غائباً، ثم جاء بعده خبرُه اسماً ظاهراً، ثم جاء بعد ذلك الاسمِ الظاهرِ ما يصلُح أن يكونَ وصفاً له كان للعرب فيه طريقان، إحداهما: مراعاةُ ذلك الضميرِ السابق فيطابقهُ بما في تلك الجملةِ الواقعةِ صفةً للاسم/ الظاهر، والثانية: مراعاةُ ذلك الاسمِ الظاهر فيعيدُ الضميرَ عليه منها غائباً، وذلك [نحو] قولك: «أنتَ رجلٌ تأمرُ بمعروفٍ» بالخطابِ مراعاةً ل «أنت»، و «يأمر» بالغَيْبَةِ مراعاةَ ل «رجل»، «وأنا امرؤ أقولُ الحق» بالمتكلم مراعاةً ل «أنا» و «يقولُ الحقَّ» مراعاةً لامرىء. ومن مراعاةِ الضمير قولُه تعالى: ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [النمل: ٥٥]، ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ [النمل: ٤٧]، وقوله «وإنك امرؤٌ فيك جاهلية»
349
وقول الشاعر:
١٣٨٦ - وأنت امرؤٌ قد كَثَّأَتْ لك لِحْيَةٌ
كأنك منها قاعدٌ في جُوالِقِ
ولو قيل في الآية الكريمة «أُخْرِجْتُم» مراعاة ل «كنتم» لكان جائزاً من حيث اللفظُ، ولكن لا يجوز أن يُقرأ به، لأن القراءةَ سنةٌ متبعة، فالأَولى أن تُجْعل الجملةُ صفةً ل «أمة» لا ل «خير» ليتناسبَ الخطابُ في قولِه: «تأمرون».
قوله: «للناسٍ» فيه أوجه، أحدُها: أَنْ يتعلَّقَ ب «أُخْرجت»، والثاني: أن يتعلَّق ب «خير» والفرقُ بينهما من حيث المعنى أنه لا يلزَمُ أن يكونوا أفضلَ الأمم في الوجهِ الثاني من هذا اللفظ، بل من موضعٍ أخر. والثالث: أنه متعلقٌ من حيثُ المعنى لا من حيث الإِعراب ب «تأمرون» على أنَّ مجرورَها مفعولٌ به، فلمَّا قُدِّمَ ضَعُفَ العاملُ فَقَوِيَ بزيادةِ اللام كقوله: ﴿إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣] أي: تَعْبُرون الرويا.
قوله: «تأمرون» في هذه الجملةِ أوجهُ أحدُها: أنها خبرٌ ثان ل «كنتم»، ويكون قد راعى الضميرَ المتقدم في «كنتم»، ولو راعى الخبرَ لقال: «يأمرون» بالغيبةِ، وقد تقدَّم تحقيقُهُ. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، قاله الراغب وابن عطية. الثالث: أنها في محلِّ نصب نعتاً لخير أمة، وأتى بالخطابِ لِما تقدَّم، قاله الحوفي. الرابع: أنها مستأنفةٌ بَيَّنَ بها كونَهم خيرَ أمة، كأنه قيل: السببُ في كونِكم خيرَ الأممِ هذه الخصالُ الحميدة، وهذا أغربُ الأوجه.
350
قوله: ﴿لَكَانَ خَيْراً﴾ اسمُ «كان» ضميرٌ يعودُ على المصدرِ المدلولِ عليه بفعلِهِ، والتقديرُ: لكان الإِيمانُ خيراً كقولهم: «مَنْ كَذَبَ كان شراً له» ِأي: كان الكذبُ شَرَّاً له، ونحوُه: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ﴾ [المائدة: ٨]، [وقوله] :
١٣٨٧ - إذا نُهِي السَّفيهُ جَرَى إليه
وخالفَ والسَّفِيهُ إلى خلافِ
أي: جرى إليه السَّفَهُ.
والمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ أي: خيراً لهم مِنْ كفرهم وبقائِهم على جهلهم. والمرادُ بالخيرية في زعمهِم: وقال ابن عطية: «ولفظةٌ» خير «صيغةُ تفضيل ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخيرِ، وإنما جاز ذلك لِما في لفظ» خير «من الشِّياع وتشعُّبِ الوجوهِ، وكذلك هي لفظة» أفضل «و» أحب «وما جرى مجراهما». قال الشيخ: «وإبقاؤها على موضوعِها الأصلي أَوْلى إذا أَمْكَنَ ذلك، وقد أَمْكَنَ ذلك إذ الخيريةُ مطلقةٌ فتحصُلُ بأدنى مشاركة».
قوله: ﴿مِّنْهُمُ المؤمنون﴾ إلى آخره: جعل مستأنفة سِيقت للإِخبار بذلك.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَذًى﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنه متصلٌ، وهو استثناءٌ مفرغٌ من المصدر العام، كأنه قيل: لن يَضُرُّوكم ضرراً البتة
351
إلا ضرَر أذى لا يُبَالى به من كلمةِ سوءٍ ونحوِها. والثاني: أنه منقطع أي: لن يَضُرُّوكم بقتالٍ وغَلَبة، ولكن بكلمةِ أذى ونحوِها.
قوله: ﴿ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ مستأنفٌ، ولم يُجْزَمْ عطفاً على جواب الشرط، لأنه كان يتغير المعنى، وذلك أن الله تعالى أخبر بعدمِ نصرتهم مطلقاً، ولو عطفناه على جواب الشرط للزِم تقييدُه بمقاتلتِهم لنا، وهم غيرُ منصورين مطلقاً: قاتَلوا أَوْ لم يقاتلوا. وزعم بعضُ مَنْ لا تحصيلَ له أن المعطوف على جوابِ الشرط ب «ثم» لا يجوزُ جَزْمُه البتةَ، قال: «لأنَّ المعطوفَ على الجوابِ جوابٌ، وجوابُ الشرطِ يقع بعدَه وعقيبَه، و» ثم «تقتضي التراخيَ فكيف يُتَصَوَّرُ وقوعُه عقيبَ الشرط؟ فلذلك لم يُجْزَم مع» ثم «. وهذا فاسدٌ جداً لقوله تعالى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم﴾ [محمد: ٣٨] ف» لا يكونوا «مجزومٌ نسقاً على» يستبدل «الواقعِ جواباً للشرط والعاطفُ» ثم «. و» الأدبارَ «مفعولٌ ثاني ليولُّوكم، لأنه تعدَّى بالتضعيف إلى مفعول آخرَ.
قوله تعالى: ﴿أَيْنَ مَا ثقفوا﴾ : أينما شرطٌ وهي ظرفُ مكان و «ما» مزيدةٌ فيها، ف «ثُقفوا» في محلِّ جزمٍ بها، وجوابُ الشرط: إمَّا محذوفٌ أي: أينما ثُقِفوا غُلِبوا وذُلُّوا، دلَّ عليه قوله: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة﴾، وإمَّا نفسُ «ضُرِبَتْ» عند مَنْ يُجيز تقديمَ جواب الشرطِ عليه، ف ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة﴾ لا محلَّ له على الأول ومحلُّه الجزمُ على الثاني.
قوله: ﴿إِلاَّ بِحَبْلٍ﴾ هذا الجارُّ في محلِّ نصبٍ على الحال، وهو استثناءٌ مفرغٌ من الأحوال العامة. قال الزمخشري: «وهو استثناءٌ من عامِّ أعمِّ الأحوال، والمعنى:» ضُرِبَتْ عليهم الذِّلَّةُ في عامة الأحوال إلاَّ في حال
352
اعتصامهم بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس «، وعلى هذا فهو استثناءٌ متصلٌ وقال الزجاج والفراء:» هو استثناءٌ منقطعٌ «. فقدَّره الفراء:» إلاَّ أَنْ يَعْتصموا بحبل من الله «، فَحَذَف ما يتعلَّق به الجارُّ، كما قال حميد بن ثور الهلالي:
١٣٨٨ - رَأَتْني بِحَبْلَيْها فَصَدَّتْ مخافةً
وفي الحبلِ رَوْعاءُ الفؤادِ فَروقُ
أراد: أقلبت بحبلَيْها، فَحَذَفَ الفعلَ للدلالة عليه. ونظَّره ابن عطية بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً﴾ [النساء: ٩٢] قال:» لأن باديَ الرأي يُعْطي أنَّ له أن يَقْتُلَ خطأ، وأنَّ الحبل من الله ومن الناس يُزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك، وإنما في الكلام محذوف/ يدركه فهمُ السامعِ الناظرِ في الأمر، وتقديرُه في آيتنا: «فلا نجاة من الموت إلا بحبلٍ» قال الشيخ: «وعلى ما قَدَّره لا يكونُ استثناء منقطعاً لأنه مستثنى من جملة مقدرة وهي قوله:» فلا نجاة من الموت «وهو متصل على هذا التقدير، فلا يكون استثناء منقطعاً من الأول ضرورةَ أنَّ الاستثناءَ الواحدَ لا يكونُ منقطعاً متصلاً، والاستثناءُ المنقطعُ كما تقرَّر في علمِ النحو على قسمين: منه ما يُمْكِنُ أَنْ يتسلَّط عليه العاملُ، ومنه ما لا يمكن في ذلك، ومنه هذه الآيةُ على تقديرِ الانقطاعِ، إذ التقديرُ: لكنَّ اعتصامَهم بحبلٍ من اللهِ وحبلٍ من الناس يُنْجِيهم من القتلِ والأسْر وسَبْيَ الذَّراري واستئصالِ أموالِهم، ويَدُلُّّ على أنه
353
منقطعٌ: الإِخبارُ بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾ [البقرة: ٦١] فلم يَسْتَثْنِ هناك». وما بعدَ هذه الآيةِ قد تقدَّم إعرابه.
قوله تعالى: ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً﴾ : الظاهرُ في هذه الآية أن الوقف على «سواء» تامٌ، فإنَّ الواوَ اسمُ «ليس»، و «سواءً» خبر، والواو تعودُ على أهل الكتاب المتقدِّم ذكرُهم، والمعنى: أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر لقولِهِ: ﴿مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون﴾ [آل عمران: ١١٠] فانتفى استواؤُهم. و «سواء» في الأصلِ مصدرٌ فلذلك وُحِّد، وقد تقدَّم تحقيقُه أولَ البقرة.
وقال أبو عبيدة: «الواو في» ليسوا «علامةٌ جمعٍ وليست ضميراً، واسمُ» ليس «على هذا» أمةٌ «و» قائمةٌ «صفتها، وكذا» يَتْلُون «، وهذا على لغة» أكلوني البراغيث «كقوله الآخر:
١٣٨٩ - يَلُومونني في اشتراءِ النخي
لِ أَهْلي فكلُّهمُ أَلْوَمُ
قالوا:» وهي لغةٌ ضعيفةٌ «. ونازع السهيلي النحويين في كونها ضعيفةً، ونَسبَها بعضُهم لأزدِ شنوءة، وكثيراً ما جاء عليها الحديث، وفي القرآنِ مثلُها، وسيأتي تحقيقُ هذا في المائدة بزيادةِ بيان.
354
قال ابن عطية:» وما قاله أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ، ولم يُبَيِّن وجهَ الخطأ، وكأنه تَوَهَّم أنَّ اسم «ليس» هو «أمة قائمة» فقط، وأنه لا محذوف ثمَّ، إذ ليس الغرضُ تفاوتَ الأمةِ القائمة التالية، فإذا قُدِّر ثَمَّ محذوفٌ لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردوداً، إلا أن بعضهم رَدَّ قوله بأنها لغة ضعيفة، وقد تقدم ما فيها والتقدير الذي يَصِحُّ به المعنى، أي: ليس سواءً من أهل الكتاب أمةٌ قائمةٌ موصوفةٌ بما ذُكِر وأمةٌ كافرة، فهذا تقديرٌ يَصِحُّ به المعنى الذي نحا إليه أبو عبيدة.
وقال الفراء: «إنَّ الوقف لا يَتِمُّ على» سواء «، فجعل الواوَ اسمَ» ليس «و» سواءً «خبرها، كما قال الجمهور، و» أمة «مرتفعة ب» سواء «ارتفاعَ الفاعل، أي: ليس أهلُ الكتاب مستوياً منهم أمةٌ قائمةٌ موصوفةٌ بما ذُكِر وأمةٌ كافرة، فَحُذِفَتِ الجملةُ المعادِلة لدلالةِ القسمِ الأولِ عليها كقولِ الشاعر:
١٣٩٠ - دعاني إليها القلبُ إني لأَِمْرِها
سميعٌ فما أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها
أي: أم غَيٌّ، فَحُذِف» الغَيّ «لدلالةِ ضدِّه عليه، ومثلُه قولُ الآخر:
١٣٩١ - أراكَ فما أَدْرِي أَهَمٌّ هَمَمْتَه
وذو الهَمِّ قِدْماً خاشِعٌ مُتَضائِلُ
أي: أَهَمٌّ هممته أم غيرُه، فَحُذِفَ للدلالةِ، وهو كثيرٌ، قال الفراء:» لأنَّ المساواة تقتضي شيئين كقولِهِ ﴿سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد﴾ [الحج: ٢٥]، وقوله {سَوَآءً
355
مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية: ٢١]. وقد ضُعِّف قولُ الفراء من حيث الحذفُ ومن حيث وَضْعُ الظاهرِ موضِعَ المضمر، إذ الأصل: منهم أمةٌ قائمة، فَوُضِعَ «أهلِ الكتابِ» موضعَ الضمير.
والوجه أن يكونَ «ليسوا سواءً» جملةً تامة، وقولُه: ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ﴾ جملةٌ برأسها، وقولُه: ﴿يَتْلُونَ﴾ جملةً أخرى مبيِّنَةً لعدم استوائِهم، كما جاءَتِ الجملةُ مِنْ قولِه: ﴿تَأْمُرُونَ بالمعروف﴾ [آل عمران: ١١٠] إلخ مبيِّنَةً للخيرية. ويجوزُ أن يكونَ «يتلون» في محلِّ رفعٍ صفةً لأمة.
ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من «أمة» لتخصُّصِها بالنعتِ، وأن يكونَ حالاً من الضميرِ في «قائمة»، وعلى كونِها حالاً من «أمة» يكونُ العامل فيها الاستقرارَ الذي تَضَمَّنه الجارُّ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في هذا الجارِّ لوقوعهِ خبراً لأمة.
قوله: ﴿آنَآءَ الليل﴾ ظرفٌ ل «يتلون». والآناء: الساعات، واحدها: «أنَى» بفتح الهمزة والنون بزنة «عَصَا» او «إنَى» بكسر الهمزة وفتح النون بزنة «مِعَى»، أو «أَنْيٌ» بالفتح والسكون بزنة «ظَبْي» أو: إنْيٌ «بالكسر والسكون بزنة» نِحْي «، أو» إنْوٌ «بالكسر والسكون مع الواو بزنة» جِرْو «، فالهمزة في» آناء «منقلبةٌ عن ياء على الأقوالِ الأربعةِ كرِداء، وعن واوٍ على القولِ الأخير، نحو:» كِساء «وستأتي بقيةُ هذه المادةِ في مواضع.
ولا يجوز ُ أن يكونَ» آناء الليل «ظرفاً ل» قائمة «قال أبو البقاء:» لأنَّ «قائمة» قد وُصِفَتْ فلا تعملُ فيهما بعد الصفة «وهذا على التقدير أن يكونَ»
356
يَتْلُون «وصفاً لقائمة، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعنى ليس على جَعْلِ هذه الجملةِ صِفةً لما قبلها، بل على الاستئنافِ للبيان المتقدم، وعلى تقديرِ جَعْلِها صفةً لِما قبلها فهي صفةً ل» أمة «لا ل» قائمة «لأنَّ الصفةَ لا تُوصَفُ، إلا أَنْ يكونَ معنى الصفةِ الثانيةِ لائقاً بما قبلها نحو:» مرَرْتُ برجلٍ ناطقٍ فصيحٍ «ف» فصيح «صفة لناطق، لأن معناه لائق به. وبعضهم يجعله وصفاً لرجل، وإنما المانعُ من تعلٌّقِ هذا الظرفِ ب» قائمة «ما ذكرْتُه من استئناف جملته.
قوله: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ يجوزُ أن تكونَ حالاً من فاعلِ» يَتْلُون «أي: يَتْلُون القرآن وهم ساجِدون، وهذا قد يكونُ في شريعتِهم مشروعيةُ التلاوة في السجودِ بخلافِ شريعتنا، وبهذا يُرَجَّح قولُ مَنْ يقول: إنهم غيرُ أمةِ محمد. ويجوز أن تكونَ/ حالاً من الضمير في» قائمة «قاله أبو البقاء. وفيه ضعفٌ للاستئناف المذكور، ويجوز أن تكون مستأنفة.
قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ﴾.. إلى آخره: إمَّا استئنافٌ وإمَّا احوال، وجيء بالجملة الأولى اسميةً دلالةَ على الاستقرار، وصُدِّرت بضمير، وبُنِي عليه جملةٌ فعليةٌ ليتكرَّرَ الضميرُ فيزدادَ الكلامُ بتكرارِه توكيداً، وجيء بالخبرِ مضارعاً دلالةَ على تجدُّدِ السجود في كلِّ وقتٍ، وكذلك جيء بالجمل التي بعدها أفعالاً مضارعة، ويُحتمل أن يكون «يؤمنون» خبراً ثانياً لقوله: «هم»، ولذلك تُرِك العاطفُ ولو ذُكِر لكان جائزاً. وقوله: ﴿مِنَ الصالحين﴾ يجوز في «مِنْ» أن تكونَ للتبعيض وهو الظاهر. وَجَعَلها ابنُ عطية لبيانِ الجنسِ، وفيه نظرٌ، إذ لم يتقدَّمْ مبهمٌ فتبيِّنْه هذه.
قوله تعالى: ﴿وَمَا يَفْعَلُواْ﴾ : قرأ الأخوان وحفص: «يفعلوا» و «يُكْفَروه» بالغيبة، والباقون بالخطاب، فالغيبةُ مراعاةٌ لقوله: ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ﴾ فَجَرى على لفظِ الغَيْبة، أَخْبَرَنَا تعالى أنَّ «ما يفعلوا» مِنْ خير بَقِي لهم غيرَ مكفورٍ. والخطابُ على الرجوعِ إلى خطاب أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قولِه: «كنتم». ويجوزُ أَنْ يكون التفاتاً من الغَيْبة في قوله ﴿أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ﴾ إلى آخره إلى خطابهم، وذلك أنه آنَسَهم بهذا الخطابِ، ويؤيِّد ذلك أنه اقتَصَر على ذِكْر الخير دونَ الشرِّ ليزيدَ في التأنيسِ، ويدلُّ على ذلك قراءةُ الأَخَوين، فإنها كالنص في أنَّ المرادَ قولُه ﴿أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ﴾.
و «كَفَر» يتعدَّى لواحد، فكيف تعدَّى هنا لاثنين، أولُهما قام مقامَ الفاعل، والثاني: الهاءُ في «يُكْفروه» ؟ فقيل: إنه ضُمِّنَ معنى فعلٍ يتعدَّى لاثنين وهو «حَرَم» فكأنه قِيل: فَلَنْ تُحْرَمُوه، و «حَرَم» يتعدَّى لاثنين.
قوله تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾ :«ما» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسمية، وعائدُها محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ أي: ينفقونه.
وقوله: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ﴾ خبرُ المبتدأ، وعلى هذا الظاهِر أعني تشبيهَ الشيء المنفَق بالريحِ استُشْكِل التشبيهُ لأنَّ المعنى على تشبيهه بالحَرْث أي الزرعِ لا بالريح. وقد أُجيب عن ذلك بأحد أوجه: الأول: أنه من باب التشبيه المركب، بمعنى أنه يقابِلُ الهيئة الاجتماعية بالهيئة الاجتماعية، ولا يقابلُ الأفراد بالأفراد، وهذا قد مر تحقيقه أول البقرة عند قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ﴾ [الآية: ١٧]، وهذا اختيار الزمخشري.
الثاني: أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين، فذَكَر أحدَ المُشَبَّهين
358
وتَرَك ذِكْر الآخر، وذَكَر أحد المشبهين به وترك ذكر الآخر، فقد حَذَف مِنْ كلِّ اثنين ما يَدُلُّ عليه نظيرُه، وقد مَرَّ نظيرُ هذا في البقرة عند قولِه تعالى: ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ﴾ [الآية: ١٧١].
واختار هذا ابن عطية، وقال «هذه غايةُ البلاغةِ والإِعجازِ». الثالث: أنه على حَذْف مضاف: إمَّا من الأول تقديرُه: «مَثَلُ مَهْلِكِ ما ينفقونه»، وإمَّا من الثاني تقديرُه: كمثل مَهْلِك ريح. وهذا الثاني أظهرُ؛ لأنه يؤدِّي في الأول إلى تشبيه الشيء المُنْفَقِ المُهْلَكِ بالريح، وليس المعنى عليه أيضاً، ففيه عَوْدٌ لِما فُرَّ منه.
وقد ذكر الشيخ التقديرَ المشارَ إليه، ولم ينبِّه عليه، اللهم إلا أن يريد ب «مَهْلِك» اسمَ مصدر أي: مثلَ إهلاك ما ينفقون، ولكن يُحتاج إلى تقديرِ مثل هذا المضاف أيضاً قبل «ريح» تقديره: مَثَلٌ إهلاك ما ينفقون كمثلِ إهلاك ريح. ويجوزُ أَنْ تكونَ «ما» مصدريةٌ، وحينئذ يكونُ قد شَبَّه إنفاقَهم في عدمِ نفعِه بالريحِ الموصوفةِ بهذه الصفة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.
قوله: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ في محل جر نعتاً ل «ريح»، ويجوز أن يكونَ «فيها صِرٌّ» جملةً من مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون «فيها» وحدَه هو الصفةَ، و «صِرُّ» فاعلٌ به، وجاز ذلك لاعتماد الجار على الموصوف، وهذا أحسنُ؛ لأنَّ الأصلَ في الأوصافِ الإِفرادُ، وهذا قريبٌ منه.
والصِرُّ «قيل: البردُ الشديد المحرق، قال:
359
١٣٩٢ - لا يَعْدِلَنَّ أتاوِيُّونَ تضرِبُهم
نكباءُ صِرٌّ بأصحابِ المُحِلاَّتِ
وقيل:» الصِرُّ «بمعنى الصَّرْصَر، وهو الشيء البارد، قالت ليلى الأخيلية:
١٣٩٣ - ولم يَغْلِبِ الخَصْمَ الأَلَدَّ ويَمْلأ ال
جِفانَ سَدِيفاً يومَ نكباءَ صرصرِ
وأصلُهُ مأخوذٌ من الشَّدَّ والتعقيد، ومنه: الصُرَّة للعُقْدة، وأَصَرَّ على كذا: لَزِمه. وقال بعضُهم:» الصِرُّ «صوتُ لهيبِ النار، يكون في الريح مِنْ: صَرَّ الشيءُ يَصِرُّ صريراً أي: صَوَّت بهذا الحِسِّ المعروفِ، ومنه: صرير الباب. قال الزجاج:» والصِرُّ: صوت النار التي في الريح «وإذا عُرِف هذا فإنْ قلنا: الصِرُّ: البردُ الشديد أو هو صوتُ النار أو صوتُ الريح، فظرفية الريحِ له واضحةٌ، وإنْ كان الصِرُّ صفةَ الريح كالصرصر فالمعنى: / فيها قِرَّةٌ صِرٌّ، كما تقول: برد بارد، وحُذِف الموصوفُ وقامت الصفةُ مَقَامَه، أو تكونُ الظرفيةُ مجازاً جُعِل الموصوفُ ظرفاً للصفة كما قال:
١٣٩٤ -..........................
وفي الرحمنِ للضُّعفاء كافِي
360
ومنه قولُهم: «إنْ ضَيَّعني فلانٌ ففي اللهِ كافٍ» المعنى: الرحمن كافٍ، واللهُ كافٍ. وهذا فيه بُعْدٌ.
قوله: «أصابَتْ» هذه الجملة في محل جر أيضاً صفةً ل «ريح»، ولا يجوز أن تكونَ صفةً ل «صِرّ» لأنه مذكر. وبدأ أولاً بالوصف بالجار لأنه قريب من المفرد ثم بالجملة. هذا إنْ أعربنا «فيها» وحده صفةً، ورَفَعْنا به «صِر» أمَّا إذا أعربناه خبراً مقدماً و «صِرٌّ» مبتدأ فهما جملة أيضاً.
قوله: «ظلموا» صفة ل «قوم»، والضمير في «ظلمهم» يعود على القوم ذوي الحرث، أي: ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكابهم المعاصيَ التي كانت سبباً في إهلاكه. وجَوَّز الزمخشري وغيره أن يعودَ على المنفقين، وإليه نحا ابنُ عطية، ورجَّحه بأنَّ أصحاب الحرث لم يُذْكَروا للردِّ عليهم ولا للتبيين ظلمهِم، بل لمجردِ التشبيه بهم.
قوله: ﴿ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ العامةُ على تخفيف «لكن» وهي استدراكيةٌ، و «أنفسَهم» مفعولٌ مقدم، قُدِّم للاختصاص أي: لم يقع وبالُ ظلمهم إلا بأنفسهم خاصةً لا يتخطَّاهم، ولأجلِ الفواصل أيضاً. وقرأها بعضهم مشددة، ووَجْهُها أن يكونَ «أنفسَهم» اسمها، و «يظلمون» الخبرُ، والعائدُ من الجملة الخبرية على الاسم محذوفٌ تقديرُه: ولكنَّ ِأنفسَهم يظلمونها، فحُذِف، وحَسَّن حذفَه كونُ الفعلِ فاصلة، فلو ذُكِرَ مفعولُه لفات هذا الغرضُ. وقد خَرَّجه بعضُهم على أن يكون اسمُها ضميرَ الأمر والقصة حُذِف للعلم به، و «أنفسَهم» مفعولٌ مقدَّمٌ ليظلمون كما تقدَّم، والجملةُ خبرٌ
361
لها، وقد رُدَّ هذا بأنَّ حَذْفَ اسمِ هذه الحروف لا يجوز إلا ضرورة كقوله:
١٣٩٥ - إنَّ مَنْ يدخلِ الكنيسةَ يوماً
يَلْقَ فيها جآذراً وظباءَ
على أن بعضَهم لا يَقْصُره على الضرورة، مستشهداً بقوله عليه السلام: «إنَّ من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المُصَوِّرون»، قال: «تقديره إنه»، ويُعْزى هذا للسكائي، وقد ردَّه بعضهم، وخَرَّج الحديث على زيادة «مِنْ» والتقدير: إنَّ أشدَّ الناس. والبصريون لا يُجيزون زيادة «من» في مثل هذا التركيبِ لِما عُرِفَ غيرَ مرة إلا الأخفش.
قوله تعالى: ﴿مِّن دُونِكُمْ﴾ : يجوز أن يكون صفة ل «بِطانة» فيتعلَّقَ بمحذوف، أي: كائنةً من غيركم. وقدَّره الزمخشري: «من غيرِ أبناء جنسكم، وهم المسلمون» ويجوزُ أَنْ يتعلَّق بفعل النهي. وجَوزَّ بعضُهم أن تكون «مِنْ» زائدةً، والمعنى: دونَكم في العمل والإِيمان.
وبِطانة الرجل: خاصَّتُه الذين يُباطِنُهم في الأمور، ولا يُظْهر غيرَهم عليها مشتقةً من البَطْن، والباطنُ: دون الظاهر، وهذا كما استعاروا الشِّعار والدِّثار في ذلك. قال عليه السلام: «الناسُ دِثار والأنصارُ شِعار» والشِّعار
362
ما يلي جسدك من الثياب. ويقال: «بَطَن فلانٌ بفلان بُطوناً وبِطانة». قال الشاعر:
١٣٩٦ - أولئك خُلْصاني نَعَمْ وبِطانتي
وهم عَيْبَتي مِنْ دونِ كلِّ قريب
قوله: ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾ يقال: «أَلاَ في الأمر يَأْلُو فيه» أي: قَصَّر نحو: غزا يغزو، فأصلُه أن يتعدَّى بحرف الجر كما ترى.
واختُلِف في نصب «خَبالا» على أوجهٍ. أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ. والضميرُ هو الأول، وإنما تَعَدَّى لاثنين للتضمين. قال الزمخشري: «يقال: ألا في الأمر يَأْلُو فيه أي: قَصَّر، ثم استُعْمِل مُعَدَّىً إلى مفعولين في قولهم:» لا آلوك نُصْحاً ولا ألوك جُهْداً «على التضمين، والمعنى: لا أمنعُك نُصْحاً ولا أَنْقُصُكه».
الثاني: أنه منصوبٌ على إسقاط حرفِ الجر، والأصل: لا يألونكم في خَبال أي: في تخبيلكم وهذا غيرُ منقاسٍ، بخلافِ التضمين فإنه منقاسٌ، وإنْ كان فيه خلافٌ واهٍ.
الثالث: أن ينتصبَ على التمييز، وهو حينئذٍ تمييز منقول من المفعولية، والأصلُ: لا يَألون خبالكم أي: في خبالكم: ثم جُعِل الضميرُ المضاف إليه مفعولاً بعد إسقاط الخافض، فنُصِب «الخبال» الذي كان مضافاً تمييزاً، ومثله قولُه تعالى: ﴿وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً﴾ [القمر: ١٢] أي: «عيون الأرضِ» فَفُعلِ به
363
ما تقدَّم، ومثلُه في الفاعلية: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤] الأصل: «شيبُ الرأس»، وهذا عند مَنْ يُثْبت كونَ التمييز منقولاً من المفعوليةِ. وقد مَنَعَه بعضُهم، وتأوَّل قولَه تعالى: ﴿وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً﴾ على أنَّ «عيوناً» بدلُ بعضٍ من كل، وفيه حَذْفُ العائدِ أي: عيوناً منها. وعلى هذا التخريجِ يجوزُ أَنْ يكونَ «خبالاً» بدلَ اشتمال من «كم»، والضميرُ أيضاً محذوفٌ أي: «خبالاً منكم» وهذا وجه رابع.
الخامس: أنه/ مصدرٌ في موضع الحال أي: مُتَخَبِّلين. السادس: قال ابن عطية: معناه: لا يُقَصِّرون لكم فيما فيه من الفسادِ عليكم «، فعلى هذا الذي قَدَّره يكونُ المضمر و» خبالاً «منصوبين على إسقاطِ الخافض وهو اللام و» في «.
وهذه الجملةُ فيها ثلاثةُ أوجه. أحدُها: أنها استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب، وإنما جيء بها وبالجملِ التي بعدَها لبيانِ حالِ الطائفةِ الكافرة حتى يَنْفِروا منها فلا يتخذوها بِطانةً، وهو وجه حسن.
والثاني: أنها حالٌ من الضمير المستكنِّ في «مِنْ دونكم» على أنَّ الجارَّ صفةٌ ل «بطانة». والثالث: أنها في محلِّ نصبٍ نعتاً ل «بطانة» أيضاً.
والأَلْوُ بزنة «الغَزْو» التقصيرُ كما تقدَّم، قال زهير:
١٣٩٧ - سَعَى بعدَهم قومٌ لكي يُدْرِكوهمُ
فلم يَفْعَلوا ولم يُلِيموا ولم يَأْلُوا
364
وقال امرؤ القيس:
١٣٩٨ - وما المرءُ ما دَامَتْ حُشاشَةُ نفسِه
بمُدْرِكِ أَطْرافِ الخطوبِ ولا آلِ
يقال: آلَى يُؤْلِي بزنة «أَكْرم»، فأُبْدِلَتِ الهمزةُ الثانية ألفاً، وأنشدوا:
١٣٩٩ -.......................
فما آلَى بَنِيَّ ولا أساؤوا
ويقال: ائتلَى يَأْتَلي بزنة «اكتسب» يكتسب، قال امرؤ القيس:
١٤٠٠ - ألا رُبَّ خصمٍ فيكِ أَلْوى رَدَدْتُه
نصيحٍ على تَعْذالِه غيرُ مُؤْتَلِ
فتيحدُ لفظُ «آلى» بمعنى قصَّر و «آلى» بمعنى حَلَف، وإنْ كان الفرقُ بينهما ثابتاً من حيث المادةُ؛ لأنَّ لامَه من معنى الحَلْف ياء، ومِنْ معنى التقصير واو.
وقال الراغب: «وأَلَوْتُ فلاناً أي: أوْلَيْتُه تقصيراً نحو: كسبته أي: أوليته كَسْباً وما أَلَوْتُه جُهْداً أي: ما أَوْلَيْتُه تقصيراً بحسَبِ الجُهْد، فقولُك:» جُهْداً «تمييز. وقوله: ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾ منه، أي: لا يُقَصِّرون في طلبِ الخَبَال. وقال تعالى: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل﴾ [النور: ٢٢] قيل: هو يفتعل من أَلَوْت، وقيل: هو من آليت أي: حَلَفْتُ.
365
والخَبالُ: الفسادُ، وأصلُه ما يلحَقُ الحيوانَ من مرضٍ وفتورٍ فيورِثُه فساداً واضطراباً، يقال منه: خَبَله وخَبَّله بالتخفيف والتشديدِ فهو خابلٌ ومُخْبَلٌ ومَخْبول ومُخَبَّل. ويقال: خَبْل وخَبَل وخَبال. وفي الحديث:» مَنْ شرب الخمر ثلاثاً كان حقاً على اللهِ أن يَسْقِيَه من طينه الخَبال «وقال زهير ابن أبي سلمى:
١٤٠١ - هنالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلوا المالَ يُخْبِلوا
وإنْ يَسْأَلوا يُعْطُوا وإنْ يَيْسِروا يُغْلُوا
والمعنى في هذا البيت: أنهم ذا طُلِب منهم إفسادُ شيء من إبلِهم أفسدوه، وهذا كنايةٌ عن كرمِهم.
قوله: ﴿وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ﴾ في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أَوْجَهُها: أن تكونَ مستأنفةً كما هو الظاهرُ فيما قبلها. والثاني: أنها نعتٌ ل» بِطانة «فمحَلُّها نصبٌ. والثالث: أنها حالٌ من الضمير في» يأْلونكم «. و» ما «مصدريةٌ، و» عَنِتُّم «صِلَتُها، وهي وصلتُها مفعولُ الوَدادة أي: عَنَتُكم أي: مَقْتكُم. وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظةِ في البقرةِ عند [قوله] ﴿لأَعْنَتَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠]. وقال الراغب هنا:» المعاندَةُ والمعانَتَهُ يتقاربان، لكنَّ المعاندة هي الممانعة، والمعانتةُ أَنْ يَتَحَرَّى مع الممانَعَةِ المَشَقَّةُ.
قوله: ﴿قَدْ بَدَتِ البغضآء﴾ هذه الجملةُ كالتي قبلها، وقرأ عبد الله: «بدا» من غيرتاء، لأنَّ الفاعلَ مؤنثٌ مجازي ولأنَّها في معنى البغض. والبغضاء
366
مصدرٌ كالسَّراء والضَّرَّاء. يقال منه: بَغُض الرجل فهو بغيض كظَرُفَ فهو ظريف.
وقوله: ﴿مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ متعلِّقٌ ب «بَدَتْ» و «مِنْ» لابتداء الغاية. وجَوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالاً أي: خارجةً من أفواههم. والأَفْواه: جمعُ فم، وأصلُه: فوه، فلامُه هاء، يَدُلُّ على ذلك جَمْعُه على «أفواه»، وتصغيرُه على «فُوَيْه»، والنسبُ إليه على فَوْهِيّ، وهل وزنُه فَعْل بسكون العين أو فعَل بفتحِها؟. خلافٌ للنحويين، وإذا عَرَفْتَ ذلك فاعلَمْ أنهم حَذَفوا لامَه تخفيفاً فبقي آخرُه حرف علة فأَبْدَلوها ميماً لقُربها منها لأنهما من الشَّفَة، وفي الميم هَوِيٌّ في الفم يضارع المدَّ الذي في الواو، هذا كلُّه إذا أفردوه عن الإِضافةِ، فإنْ أضافوه لم يُبْدِلوا حرفَ العلة كقوله:
١٤٠٢ - فُوهٌ كشَقِّ العَصا لأْياً تَبَيَّنُهُ
..........................
وقد عُكِس الأمرُ في الطرفين، فَأَتى بالميمِ في الإِضافةِ وبحرفِ العلةِ في القطعِ عنها، فمِنَ الأولِ قولُه:
١٤٠٣ - يُصْبحُ ظمآنَ وفي البحرِ فَمُهْ
وخَصَّه الفارسي وجماعةٌ بالضرورةِ، وغيرُهم جَوَّزه سَعَةً، وجَعَل منه
367
قولَه عليه السلام/: «لَخُلوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عند اللهِ مِنْ ريحِ المسك»، ومِن الثاني قوله:
١٤٠٤ - خالَطَ مِنْ سَلْمى خياشيمَ وفَا... أي: «وفاها»، وإنما جاز ذلك لأنَّ الإِضافةَ كالمنطوق بها، وقالت العرب: «رجلٌ مُفَوَّه» إذا كان يجيد القول، وهو أَفْوَهُ منه أي: أوسع فماً، وقال لبيد:
١٤٠٥ -........................
وما فاهوا به أبداً مُقميمُ
وفي الفم تسع لغات، وله أربعُ مواد: ف وه، ف م و، ف م ي، ف م م، بدليل أفواه وفَمَوَيْن وفَمَيَيْن وأفمام.
قوله: ﴿وَمَا تُخْفِي﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ أي: تُخْفيه، فَحُذِف، وأَنْ تكونَ المصدريةَ أي: وإخفاءُ صدروهم، وعلى كِلا التقديرين ف «ما» مبتدأٌ، و «أكبرُ» خبرُه، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ أي: أكبرُ من الذي أَبْدَوه بأفواهِهم.
368
قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ شرطٌ حُذِفَ جوابُه لدلالةِ ما تقدَّم عليه، أو هو ما تقدَّم عند مَنْ يرى جوازَه.
قوله تعالى: ﴿هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ﴾ : قد تقدَّم نظيرُه وتحقيقُه مرتين، ونزيد هنا أن يكونَ «أولاء» في موضعِ نصبٍ بفعل محذوف، فتكونُ المسألةُ من الاشتغال نحو: «أنا زيداً ضربته» وقوله: ﴿وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾ يُحتمل أن يكونَ استئنافَ إخبارٍ وأَنْ يكونَ جملةً حالية. و «الكتاب» يجوز أَنْ تكونَ الألفُ واللامُ للجنس، والمعنى بالكتبِ كلها، فاكتفى الواحد، ويجوزُ أن تكونَ للعهدِ، والمرادُ به كتابٌ مخصوصٌ.
وقوله: «عليكم». متعلِّقٌ ب «عَضُّوا»، وكذلك: «من الغيظِ». و «مِنْ» فيه لابتداءِ الغاية، ويجوز أَنْ تكونَ بمعنى اللام فتفيدَ العلة أي: من أجلِ الغَيْظِ. وجَوَّز أبو البقاء في «عليكم» وفي «من الغيظ» أن يكونا حالَيْن، فقال: «ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: حَنِقين عليكم،» من الغيظِ «متعلِّقٌ ب» عَضُّوا «أيضاً، و» مِنْ «لابتداء الغايةِ أي: من أجلِ الغيظِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي:» مغتاظين «انتهى. وقولُه:» ومِنْ لابتداء الغاية أي: من أجل الغيظ «كلامٌ متنافر، لأنَّ التي للابتداء لا تُفَسَّر بمعنى» من أجل «فإنه معنى العلة، والعلةُ والابتداء متغايران، وعلى الجملةِ فالحاليةُ فيها لا يَظْهَرُ معناها، وتقديرُه الحالَ ليس تقديراً صناعياً، لأنَّ التقديرُ الصناعِيَّ إنما يكون بالأكوان المطلقةِ.
والعَضُّ: الأَزْمُ بالأسنانِ وهو تحامُلُ الأسنانِ بعضِها على بعضٍ. يقال: عَضِضْتُ بكسر العين في الماضي أعَضُّ بالفتحِ عَضَّاً وعَضيضاً. قال
369
امرؤ القيس:
١٤٠٦ -......................
كفَحْلِ الهجانِ يَنْتَحي للعضيضِ
ويُعَبَّرُ به عن الندمِ المفرط، ومنه: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ﴾ [الفرقان: ٢٧] وإنْ لم يكن ثَمَّ عضٌّ حقيقةً. قال أبو طالب:
١٤٠٧ - وقد صالَحُوا قوماً علينا أَشِحَّةً
يَعَضُّون غيظاً خَلْفَنا بالأنامِلِ
جَعَلَ الباءَ زائدةً في المفعول، إذ الأصلُ: يَعَضُّون خلفَنا الأنامل، وله نظائرُ مرت. وقال آخر:
وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء:» وعَضُّ زمان «بالضاد.
والعَضُّ: بضمِّ الفاء عَلَف من نوىً مرضوضٍ وغيرِه، ومنه: بعير عُضاضِيٌّ أي: سمينٌ كأنه منسوبٌ إليه، وأَعَضَّ القومُ: إذا أكلَتْ إبلُهم ذلك والعِضُّ بكسر الفاء الداهية من الرجال كأنهم تَصَوَّروا عَضَّه وشدته. وزمنٌ عضوضٌ أي: جَدْب، والتَّعْضُوضُ: نوعٌ من التمرِ سُمِّي بذلك لشدة مَضْغِه وصعوبتِه.
والأناملُ: جمع أَنْمُلة وهي رؤوس الأصابع، قال الرماني: «واشتقاقُها من النملِ هذا الحيوانُ المعروف، شُبِّهَتْ به لدِقَّتها وسرعةِ تصرُّفها وحركتها ومنه قالوا للنمَّام: نَمِل ومُنْمِل لذلك قال:
١٤١٢ - ولستُ بذي نَيْرَبٍ فيهمُ
ولا مُنْمِشٍ منهمُ مُنْمِلُ
وفي ميمها الضم والفتح.
والغَيْظُ: مصدر غاظَه يَغْيظه أي: أغضبه، وفَسَّره الراغب بأنه أشدُّ
371
الغضب قال:» وهو الحرارة التي يَجِدُها الإِنسان من ثَوَران دم قلبه «قال: وإذا وُصِف به اللهُ تعالى فإنما يُراد الانتقامُ. والتغيظ: إظهارُ الغيظ، وقد يكونُ مع ذلك صوتٌ. قال تعالى: ﴿سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً﴾ [الفرقان: ١٢].
والجملةُ من قولِه:» وتؤمنون «معطوفةٌ على:» تُحِبُّونهم «ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة. / وقال الزمخشري:» والواو في «وتؤمنون» للحالِ وانتصابُها من «لا يُحِبُّونكم» أي: لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالُكم تُحِبُّونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم «قال الشيخ:» وهو حسنٌ، إلاَّ أنَّ فيه من الصناعة النحوية ما يَخْدِشُه، وهو أنه جعل الواوَ في «وتؤمنون» للحال وانتصابها من «لا يحبونكم»، والمضارعُ المثبتُ إذا وَقَع حالاً لا تدخُلُ عليه واو الحال تقول: «جاء زيدٌ يضحك» ولا يجوز: «ويضحك». فأمَّا قولُهم: «قمتُ وأَصُكُّ عينَه» ففي غاية الشذوذِ، وقد أُوَّلَ على إضمارِ مبتدأ أي: «وأنا أصُكُّ عينه» فتصيرُ الجملةُ اسميةً ويُحتمل هذا التأويلُ هنا أي: ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتابِ كله، لكنَّ الأَوْلى ما ذكرناه من كونها للعطف «يعني فإنه لا يُحْوِج إالى حَذْفٍ بخلافِ تقدير مبتدأ فإنه على خلاف الأصل. وثَمَّ جملةٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها السياقُ، والتقدير: وتُؤمْنون بالكتاب كله ولا يُؤمنون هم به كلِّه، بل يقولون: نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض.
قوله: ﴿بِغَيْظِكُمْ﴾ يجوز أَنْ تكونَ الباءُ للحالِ أي: موتوا ملتبسين بغيظِكم لا يُزايلكم، وهو كنايةٌ عن كثرةِ الإِسلام وفُشُوِّه، لأنه كلما ازداد الإِيمان زاد غيظُهم. ويجوز أن تكونَ للسببية أي: بسبب غيظكم.
372
وقوله: ﴿مُوتُواْ﴾ صورتُه أمر ومعناه الدعاء، وقيل: معناه الخبر أي: إن الأمر كذلك، وقد قال بعضهم:» إنه لا يجوز أن يكون بمعنى الدعاء لأنه لو أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعاً على هذه الصفة فإنَّ دعوته لا تُرَدُّ، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآية، ولا يجوز أن يكونَ بمعنى الخبرِ لأنه لو كان خبراً لوقع على حكم ما أَخْبَر ولم يؤمِنْ أحدٌ بعدُ، وإذا انتفى هذان المَعْنَيان فلم يَبْقَ إلا أن يكون معناه التوبيخ والتهديد، ومثله: ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] «إذا لم تَسْتَح فاصنع ما شئت» وهذا الذي قاله ليس بشيء؛ لأنَّ مَنْ آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء إنْ قصد به الدعاء، ولا تحت الخبر إنْ قَصَدَ به الإِخبار.
وقرأ العامة: ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ﴾ بالتأنيث، مراعاةً للفظ «حسنة»، وقرأ أبو عبد الرحمن بالياء من تحت، لأن تأنيثها مجازي، وقياسُه أن يقرأ: «وإنْ يصبكم سيئة» بالتذكير أيضاً، ولا أحفظ عنه فيها شيئاً.
قوله: ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ يُحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفةً، أخبر تعالى بذلك؛ لأنهم كانوا يُخْفُون غيظَهم ما أمكنهم، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد، ويحتمل أن تكون جملة المقول أي: قل لهم كذا وكذا فتكون في محل نصب بالقول. ومعنى قوله «بذات» أي: بالمضمرات ذواتِ الصدور، ف «ذات» هنا تأنيث «ذي» بمعنى صاحب، فَحُذِف الموصوف وأقيمت صفتُه مُقامه أي: عليم بالمضمراتِ صاحبةِ الصدور، وجُعِلَتْ صاحبةً للصدور لملازمتها لها وعدمِ انفكاكها عنها نحو: أصحاب الجنة، أصحاب النار.
373
واختلفوا على الوقف على هذه اللفظة: هل يُوقف عليها بالتاء أو بالهاء؟
فقال الأخفش والفراء وابن كيسان: «الوقفُ عليها بالتاء إتباعاً لرسم المصحف». وقال الكسائيّ والجرميّ: «يُوقَفُ عليها بالهاء لأنها تاء تأنيث، كهي في» صاحبه «. وموافقةُ الرسم أَوْلى، فإنه قد ثَبَتَ لنا الوقفُ على تاء التأنيث الصريحة بالتاء، فإذا وقفنا هنا بالتاء وافقنا تلك اللغة والرسم، بخلاف عكسِه.
قوله: ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو:» يَضِرْكم «بكسر الضاد وجَزْم الراء على جواب الشرط من ضاره يَضيره، ويقال أيضاً: ضاره يَضوره، ففي العين لغتان. ويقال: ضاره يضيرُه ضَيْراً فهو ضائر وهو مَضِير، وضاره يَضُوره ضَوْراً فهو ضائرٌ وهو مَضُور، نحو: قلتُه أقوله فأنا قائل وهو مقول.
وقرأ الباقون:» يَضُرُّكم «بضم الضاد وتشديد الراء مرفوعة. وفي هذه القراءة أوجه، أحدها: أن الفعل مرتفع وليس بجواب للشرط، وإنما هو دالٌّ على جواب الشرط، وذلك أنه على نية التقديم، إذ التقدير: لا يَضُرُّكم أنْ تصبروا وتتقوا فلا يَضُرُّكم»، فَحُذِف «فلا يضركم» الذي هو الجواب لدلالةِ ما تقدم عليه، ثم أُخِّر ما هو دليل على الجواب، وهذا الذي ذكرته هو تخريج سيبويه وأتباعِه. وإنما احتاجوا إلى ارتكاب هذه الشطط لِما رأوا من عدم الجزم في فعل/ مضارع لا مانعَ من إعمال الجازم فيه، ومثلُ هذا قولُ الآخر:
١٤١٣ - يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ
إنَّك إنْ يَصْرَعْ أخوك تُصْرعُ
374
برفع «تُصْرع» الأخير، وكذلك قوله:
١٤١٤ - وإنْ أتاهُ خليلٌ يومَ مسألةٍ
يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
برفع «يقول» إلاَّ أنَّ هذا النوع مُطَّرِدٌ بخلافِ ما قبله، أعني كون فعلَيْ الشرطِ والجزاءِ مضارعين فإنَّ المنقولَ عن سيبويه وأتباعِه وجوبُ الجزم إلا في ضرورة كقوله: «إنْ يُصْرعَ أخوك تُصْرعُ»، وتخريجُه هذه الآية على ما ذكرته عنه يدل على أن ذلك لا يُخَصُّ بالضرورة فاعلم ذلك:
الوجه الثاني: أنَّ الفعلَ ارتفعَ لوقوعه بعد فاء مقدرة هي وما بعدها الجواب في الحقيقة، والفعل متى وقع بعد الفاء رُفع ليس إلا، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥] والتقدير: فلا يَضُرُّكم، والفاء حُذِفت في غير محل النزاع كقوله:
١٤١٥ - مَنْ يَفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكُرها
والشرُّ بالشر عند الله سِيَّانِ
أي: فالله يشكرها. وهذا الوجهُ رأيت بعضَهم ينقله عن المبرد، وفيه نظر، من حيث إنهم لمَّا أنشدوا البيتَ المذكور نقلوا عن المبرد أنه لا يجيز حَذْفَ هذه الفاء البتة لا ضرورةً ولا غيرَها، وينقلون عنه أن كان يقول: «إنما الرواي في هذا البيت:
منْ يفعلِ الخيرَ فالرحمنُ يَشْكُرُه...
375
وَردُّوا عليه بأنه إذا صَحَّت روايةٌ فلا يَقْدَح فيها غيرُها. ورأيت بعضَهم ينقله عن الفراء والكسائي، وهذا أقرب.
الوجه الثالث: أن الحركَة حركةُ إتباع، وذلك أن الأصل: لا يَضْرِرْكم بالفك لسكونِ الثاني جزماً، وسيأتي أنه إذا التقى مِثْلان في آخرِ فعلٍ سَكَن ثانيهما جزماً أو وفقاً فللعرب فيه مذهبان: الإِدغامُ وهو لغة تميم والفكُّ وهو لغة الحجاز، لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك، فاضطُررنا إلى تحريك المثلِ الثاني فَحَرَّكناه بأقرب الحركات إليه وهي الضمةُ التي على الحرفِ قبلَه، فحرَّكناه بها وأدغمنا ما قبله فيه فهو مجزوم تقديراً، وهذه الحركةُ في الحقيقة حركةُ إتباعٍ لا حركةُ إعراب بخلافها في الوجهين السابقين قبل هذا فإنها حركة إعراب.
واعلم أنه متى أُدْغِم هذا النوع: فإمَّا أن تكونَ فاؤه مضمومةً أو مفتوحة أو مكسورة، فإن كانت مضمومة كالآية الكريمة وقولهم» مُدَّ «ففيه ثلاثة أوجه حالةَ الإِدغام: الضمُّ للإِتباع، والفتح للتخفيف، والكسر على أصل التقاء الساكنين فتقول: مُدُّ ومُدَّ ومُدِّ، ورُدُّ ورُدَّ ورُدِّ. ويُنشْدون على ذلك قولَ جرير:
١٤١٦ - فَغُضِّ الطرفَ إنَّك من نُمَيْرٍ
فلا كعباً بَلَغْتَ ولا كِلابا
بضم الضاد وفتحها وكسرها على ما ذكرته لك، وسيأتي أنَّ الآية قرىء فيها بالأوجه الثلاثة. وإن كانت مفتوحة نحو: عَضَّ، أو مكسورة نحو: فِرَّ، كان في اللامِ وجهان: الفتح والكسرُ، إذ لا وجهَ للضم، لكن لك في نحو:» فِرَّ «
376
أن تقول الكسرُ من وجهين: إمّا الإِتباعِ وإمَّا التقاءِ الساكنين، وكذلك لك في الفتح نحو:» عَضَّ «وجهان أيضاً: إمَّا الإِتباعُ وإمَّا التخفيفُ، هذا كلُّه إذا لم يتصلْ بالفعلِ ضميرُ غائبٍ، فأمَّا إذا اتصل به ضمير غائب نحو:» رُدَّه «ففيه تفصيلٌ ولغاتٌ يكثُر القولُ فيها ولا يليقُ التعرُّضُ لذلك في هذا النوع.
وقرأ عاصم فيما رواه عنه المفضَّل بضم الضاد وتشديد الراء مفتوحة على ما ذكرت لك من التخفيف/، وهي عندهم أَوْجَهُ من ضم الراء.
وقرأ الضحاك بن مزاحم: «لا يَضُرِّكم» بضمِّ الضاد وتشديدِ الراء مكسورة على ما ذكرْتُه لك مِن التقاء الساكنين، وكأنَّ ابن عطية لم يحفَظْها قراءةً فإنه قال: «وأمَّا الكسرُ فلا أعرفُها قراءةً». وعبارةٌ الزجاجِ في ذلك مُتَجَوَّزٌ فيها إذ يظهر من دَرْج كلامِه أنها قراءة. قلت: قد بَيَّنْتُ أنها قراءة كما قال الزجاج ولله الحمد.
والكَيْدُ: المَكْرُ والاحتيالُ. وقال الراغب: «وهو نوع من الاحتيال، وقد يكونُ ممدوحاً، وقد يكون مذموماً، وإن كان يستعمل في المذموم أكثرَ». قال ابن قتيبة: «وأصلهُ من المشقةِ مِنْ قَوْلِهِم:» فلان يكيدُ بنفسِه «أي يَجُوز بها غمرات الموت ومشتقاته». ويقال: كِدْتُ فلاناً أَكِيده كبِعْتُه أَبيعهُ. قال:
١٤١٧ - مَنْ يَكِدْني بسيِّءٍ كنتُ منه
كالشَّجا بين حَلْقِه والوَرِيد
377
وقرأ أُبَيٌّ: «لا يَضْرِرْكم» بالفكِّ وهي لغة الحجاز، وعليها قوله تعالى: ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾.
وقوله: «شيئاً» منصوبٌ نصبَ المصادر أي: شيئاً من الضرر، وقد تقدم نظيره، وقرأ العامة: «بما يعملون محيطٌ» بالغَيْبة وهي واضحة. وقرأ الحسن بالخطاب: إمَّا على الالتفاتِ وإمَّا على إضمارِ «قل لهم يا محمد».
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾ العامل في «إذ» مضمرٌ تقديرهُ: واذكر إذ غدوت، فينتصِبُ انتصابَ المفعول به لا على الظرف. وجَوَّز بعضُهم أَن يكونَ معطوفاً على «فئتين» في قوله: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] أي: قد كان لكم آيةٌ في فئتين وفي إذ غَدَوْتَ، وهذا لا ينبغي أن يُعَرَّج عليه.
والغدوُّ: الخروجُ أولَ النهار يقال: غَدا يَغْدُو أي: خَرَجَ غُدْوَةً، ويُسْتعمل بمعنى صار عند بعضهم، فيكونُ ناقصاً يرفع الاسم وينصبُ الخبر، وعليه قولُه [عليه] السلام: «لو توكلتم على الله حَقَّ توكُّلهِ لرزقكم كما يَرزق الطيرَ تَغْدُو خِماصاً وتروُح بِطاناً».
وقوله: ﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾ متعلق ب «غَدَوْتَ» وفي «من» وجهان، أظهرهما: أنها لابتداء الغاية أي: من بين أهلك، قال أبو البقاء: «وموضعُه نصب تقديره: فارقْتَ أهلك» وهذا الذي قاله ليس تفسير إعراب ولا تفسير معنى، فإن المعنى على غير ما ذكر. والثاني: أنها بمعنى مع أي: مع أهلك، وهذا لا يساعده لا لفظٌ ولا معنى.
قوله: ﴿تُبَوِّىءُ﴾ الجملة يجوز أن تكون حالاً من فاعل «غدوت»، وهي
378
حال مقدرة أي: قاصداً تَبْوِئَةَ المؤمنين، لأنَّ وقت الغدو ليس وقتاً للتَبْوِئة. ويحتمل أن تكون مقارنةً؛ لأنَّ الزمان متسع.
وتُبَوِّىءُ أي: تُنَزِّلُ فهو يتعدى لمفعولين إلى أحدهما نفسه وإلى آخر بحرف الجر، وقد يُحْذف كهذه الآية. ومِنْ عدم الحذف قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت﴾ [الحج: ٢٦] وأصله من المَبَاءة وهي المَرْجِعُ. قال:
١٤١٨ - وما بَوَّأ الرحمنُ بَيْتَك منزلاً
بشرقيِّ أجيادِ الصَّفا والمُحَرَّمِ
وقال آخر:
١٤١٩ - كم مِن أخٍ لي صَالحٍ
بَوَّأْتُه بيدَيَّ لَحْدا
وقد تقدَّم اشتقاق هذه اللفظة. وقيل: «اللام في قوله» لإِبراهيم «مزيدةٌ، فعلى هذا يكون متعدياً للاثنين بنفسه».
ومقاعد جمع «مَقْعَد». والمراد به هنا مكانُ القُعودِ. وقعد قد يكون بمعنى صار في المَثَل خاصة. وقال الزمخشري: «وقد اتُّسِع في قعد وقام حتى أُجْريا مُجرى صار». قال الشيخ: «أمَّا إجراء» قَعَد «مُجْرى» صار «
379
فقال بعض أصحابنا إنما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذة في المثل في قولهم:» شَحَذَ شَفْرَته حتى قَعَدَتْ كأنها حَرْبة «، وكذلك نَقَد على الزمخشري تخريجَه قوله تعالى: ﴿فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً﴾ [الإسراء: ٢٢] بمعنى: فتصيرَ، لأنه لا يَطِّرِدُ إجراء قَعَد مُجْرى صار» قلت: وهذا الذي ذكره الزمخشري صحيح من كون «قعد» يكون بمعنى صارَ في غير ما أشار إليه هذا القائل، حكى أبو عمر الزاهد عن ابن الأعرابي أن العرب تقول: «قَعد فلان أميراً بعد أن كان مأموراً» أي صار.
ثم قال الشيخ: «وأمَّا إجراء» قام «مجرى» صار «فلا أعلم أحداً عَدَّها في أخوات» كان «، ولا جعلها بمعنى صار، إلا ابن هشام الخضرواي فإنه ذَكَر في قول الشاعر: /
١٤٢٠ - على ما قام يَشْتِمُني لئيمٌ
كخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ في رماد
أنها من أفعال المقاربة قلت: وغيرُه من النحويين يجعلُها زائدةً، وهو شاذ أيضاً.
وقرأ العامة:» تُبَوِّىءُ «عَدَّوْه بالتضعيف. وعبد الله:» تُبْوِىءُ «بسكون الباء عَدَّاه بالهمزة، فهو مضارع أَبْوأَ كأكرم، وقرأ يحيى بن وثاب» تُبْوي «كقراءة عبد الله، إلا أنه سَهَّل الهمزة بإبدالها ياء فصار لفظه كلفظ» تُحْيي «كقولهم: تُقْري في تُقْرىء. وقرأ عبد الله:» للمؤمنين «بلام الجر كقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا
380
لإِبْرَاهِيمَ} [الحج: ٢٦]. وتقدَّم أنَّ في هذه اللامِ قولين. والظاهرُ أنها مُعَدِّية؛ لأنه قبل التضعيفِ والهمزةِ غيرُ متعدٍّ بنفسه. ويحتمل أن يكونَ قد ضَمَّنه هنا معنى» تُهَيِّىء «، و» ترتِّب «.
وقرأ الأشهب:» مقاعدَ القتالِ «بإضافتها للقتال. واللام في» للقتال «في قراءة الجمهور فيها وجهان، أظهرهما: أنها متعلقة ب» تُبَوِّىء «على أنها لام العلة، والثاني: أنها متعلقة بمحذوف لأنها صفة ل مقاعد أي: مقاعد كائنة ومهيئة للقتال، ولا يجوز تعلقها ب» مقاعد «وإن كانت مشتقةً، لأنها مكانٌ والأمكنة لا تعمل.
قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ﴾ في هذا الظرف أوجه، أحدها: أنه بدلٌ من «إذ غَدَوْت» فالعامل فيه العامل في المبدل منه. الثاني: أنه ظرف ل «غَدَوْتَ». الثالث: أنه ظرف ل «تُبَوِّىءُ» وهذه الأوجه تحتاج إلى نَقْل تاريخي في اتحاد الزمانيين. الرابع: أن الناصب له «عليم» وحدَه، ذكره أبو البقاء. الخامس: أن العامل فيه: إمَّا «سميع» وإما «عليم» على سبيل التنازع، وتكون المسألة حينئذ من إعمال الثاني، إذ لو أَعمل الأَول لأضمر في الثاني، ولم يَحْذف منه شيئاً كما قد عرفته غير مرة.
وقال الزمخشري: «أو عمل فيه معنى» سميع عليم «. قال الشيخ» وهذا غيرُ مُحَرَّرٍ، لأنَّ العامل لا يكون مركباً من وصفين، فتحريره أن يقال: عمل فيه معنى سميع أو عليم، وتكونُ المسألة من التنازع «. قلت: لم يُرِدِ
381
الزمخشري بذلك إلاَّ ما ذكرتُه من إرادة التنازع، ويَصْدُق أَنْ يقول: عمل فيه هذا وهذا بالمعنى المذكور لا أنهما عَمِلا فيه معاً، على أنه لو قيل به لم يكن مبتدِعاً قولاً، إذ الفراء يرى ذلك، ويقولُ في نحو:» ضربت وأكرمت زيداً «إنَّ» زيداً «منصوبٌ بهما وإنهما تسلَّطا عليه معاً، ولتنقيح هذه المسألةِ موضوعٌ غيرُ هذا حَرَّرتها فيه بحمد الله تعالى.
والهمُّ: العَزْم. وقيل: بل هو دونَه، وذلك أن أوَّل ما يرم بقلبِ الإِنسان يسمى خاطراً، فإذا قَوِيَ سُمِّي حديثَ نفس، فإذا قوي سُمِّي هَمَّاً، فإذا قوي سُمِّي عزماً، ثم بعده إما قول أو فعل، وبعضهم يُعَبِّر عن الهَمِّ بالإِرادة، تقول العرب: هَمَمْت بكذا أهُمُّ به بضم الهاء، ويقال:» هَمْتُ «بميم واحدة، حذفوا إحدى الميمين تخفيفاً كما قالوا: مَسْتُ وظَلْت وحَسْت في مَسَسْتُ وظَلَلْتُ وحَسَسْت، وهو غير مقيس. والهمُّ أيضاً: الحُزْن الذي يذيب صاحبه وهو مأخوذٌ من قولهم:» هَمَمْتُ الشحم «أي: أذبته. والهمُّ الذي في النفس قريب منه؛ لأنه قد يؤثر في نفس الإِنسان كما يُؤَثِّر الحزن، ولذلك قال الشاعر:
١٤٢١ - وَهمُّك ما لم تُمْضِه لك مُنْصِبٌ
.........................
أي: إنك إذا هممت بشيء ولم تفعله، وجال في نفسك فأنت في تعب منه حتى تقضيه.
قوله: ﴿أَن تَفْشَلاَ﴾ متعلق ب» هَمَّتْ «لأنه يتعدَّى بالباء، والأصل: بأن تفشلا، فيجري في محل» أَنْ «الوجهان المشهوران. والفَشَل: الجُبْن والخَوَر. وقال بعضهم:» الفشل في الرأي: العجز، وفي البدن: الإِعياء وعدم
382
النهوض، وفي الحرب الجُبْن والخَوَر «والفعل منه» فَشِل «بكسر العين، وتفاشَل الماء إذا سال.
وقوله: ﴿وَعَلَى الله﴾ متعلق بقوله:» فَلْيتوكل «قُدِّم للاختصاص ولتناسِب رؤوس الآي. وقد تقدَّم القولُ في نحو هذه الفاء. وقال أبو البقاء:» ودخلت الفاء لمعنى الشرط، والمعنى: إنْ فَشِلوا فتوكلوا أنتم، أو إن صَعُب الأمُر فتوكلوا.
قوله تعالى: ﴿بِبَدْرٍ﴾ : متعلق ب «نَصَرَكم» وفي الباء حينئذ قولان، أظهرهما: أنها ظرفية أي: في بدر كقولك: زيد بمكة أي: في مكة. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنها باءُ المصاحبة، فمحلُّها النصب على الحال أي: مصاحبين لبدْرٍ. وبدر اسم ماء بين مكة والمدينة سُمِّي بذلك لصفائِه كالبَدْر، وقيل: لاستدراته، وقيل: باسم صاحبه وهو بدر بن كلدة. وقيل: هو اسم واد. وقيل: اسم بئر.
والتوكُّل: / تفعُّل: إمَّا من الوَكالة وهي تفويضُ الأمر إلى مَنْ تَثِق بحسن تدبيره ومعرفته في التصرف، وإمَّا مِنْ وَكَلَ أمره إلى فلان إذا عَجِز عنه. قال ابن فارس: «هو إظهارُ العَجْزِ والاعتمادُ على غيرك، يقال: فلانُ وَكَلَهٌ تُكَلَةٌ أي: عاجز يَكِل أمره إلى غيره». والتاء في «تُكَلة» بدلٌ من الواو كتُخَمة وتُجاه.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ في محلِّ نصب على الحال من مفعول «نصركم». و «أَذِلَّة» جمع ذليل، وجُمِع جَمْعَ قلة إشعاراً بقلتهم مع هذه الصفة، وفعيل الوصفُ قياسُ جمعِه على فُعَلاء كظريف وظرفاء وشريف وشرفاء، إلا أنه تُرِك في المضعف تخفيفاً، أَلا ترى إلى ما يُؤدِّي إليه قولُك ذُلَلاء وخُلَلاء من الثقل من جمع ذليل وخليل.
قوله تعالى: ﴿إِذْ تَقُولُ﴾ : فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن هذا الظرفُ بدلٌ من قولِه: «إذ هَمَّتْ». الثاني: أنه منصوبٌ ب «نصركم». الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار «اذكر»، وهل هذه الجملةُ من تمام قصة بدر وهو قول الجمهور فلا اعتراضَ في هذا الكلام، أو من تمام أُحُد، فيكون قولُه ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله﴾ مُعْترضاً بين الكلامين؟ خلافٌ مشهور.
قوله: ﴿أَن يُمِدَّكُمْ﴾ فاعلُ «ألن يكفيكم» أي: ألن يكفيَكم إمدادُ ربكم. والهمزةُ لَمَّا دَخَلَتْ على النفي قَرَّرَتْه على سبيل الإِنكار، وجيء ب «لن» دونَ «لا» لأنها أبلغُ في النفي. وفي مصحف أُبَيّ: «ألا» ب «لا» دون «لن» كأنه قَصَدَ تفسير المعنى.
و «بثلاثة» متعلق ب «يُمِدَّكم». وقرأ الحسن البصري: «ثلاثَهْ آلاف» بهاء في الوصل ساكنة. وكذلك «بخسمهْ آلاف» كأنه أَجرى الوصل مُجرى الوقف، وهي ضعيفةٌ لكونها في متضايفين يقتضيان الاتصال. قال ابن عطية: «ووجهُ هذه القرءاة ضعيف، لأنَّ المضافَ والمضافَ إليه كالشيء الواحد فيقتضيان الاتصالَ والثاني كمالُ الأول، والهاء إنما هي أَمارةُ وقفٍ فيقلقُ الوقفُ في موضع إنما هو للاتصال، لكن جاء نحو هذا في مواضعَ للعرب، فمن ذلك ما حكاه الفراء من قولهم:» أكلت لحما شاة «يريدون:» لحمَ شاة «فَمَطلوا الفتحةَ حتى نشأت عنها ألفٌ كما قالوا في الوقفِ:» قالا «يريدون» قالَ «، ثم يَمْطُلون الفتحة في القوافي ونحوِها من مواضعِ الرويَّة والتثبُّت، ومن ذلك في الشعر قوله:
384
١٤٢٢ - يَنْباع من ذِفْرى غضوبٍ جَسْرَةٍ
زَيَّافَةٍ مثلِ الفنيق المُكْدَمِ
يريد:» يَنْبَع «فمطَلَ، ومثلُه قول الآخر:
١٤٢٣ - أقول إذ خَرَّتْ على الكَلْكال
يا ناقتي ما جُلْت مِنْ مَجَال
يريد» الكلكل «فمطَلَ، ومثلُه قول الآخر:
١٤٢٤ - فأنتَ من الغوائلِ حين تُرْمَى
ومن ذمِّ الرجال بمُنْتزاحِ
يريد: بمنتزَح. قال أبو الفتح:» فإذا جاز أن يَعْتَرِضَ هذا التمادي بين أثناءِ الكلمة الواحدة جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه إذ هما اثنان «. قال الشيخ بعد كلام ابن عطية:» وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مُجرى الوقف، أَبْدلها [هاءً] في الوصل كما أَبْدلوها في الوقف، وموجودٌ في كلامهم إجراءُ الوصل مُجرى الوقف، وإجراءُ الوقفِ مُجْرى الوصل. وأما قوله: «لكن قد جاء نحوُ هذا للعرب في مواضع» وجميعُ ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة، وإشباعُ الحركةِ ليس نحوَ إبدالِ التاءِ هاءً في الوصل، وإنما نظيرُ هذا قولهم: «ثلثهَ اربعة» أَبْدل التاء هاء، ونقل حركة همزة «أربعة» إليها،
385
وحذفَ الهمزة، فأَجرى الوصلَ مُجرى الوقف في الإِبدال وأَجْرى الوصلَ مُجرى الوقف، إذا النقلُ لا يكون إلا في الوصل «.
وقُرىء شاذاً أيضاً: «بثلاثةْ» بتاءٍ ساكنة وهي أيضاً من إجراء الوصل مُجرى الوقف من حيث السكونُ. واختُلف في هذه التاء الموقوف عليها الآن: أهي تاءُ التأنيث التي كانت فسكنت فقط، أو هي بدلٌ من هاء التأنيث المبدلة من التاء؟ وهو خلاف لا طائل تحته.
وقوله: ﴿مِّنَ الملائكة﴾ يجوز أن تكون «مِنْ» للبيان، وأَنْ تكونَ «من» ومجرورُها في موضعِ الجر صفةً ل «ثلاثة» أو ل «آلاف».
قوله: ﴿مُنزَلِينَ﴾ صفةٌ لثلاثة آلاف، ويجوزُ أن تكونَ حالاً من «الملائكة» والأولُ أَظهرُ. وقرأ ابن عامر: «مُنَزَّلين» بالتضعيف، وكذلك شَدَّد قوله في سورة العنكبوت: ﴿إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية﴾ [الآية: ٣٤]، إلا أنه هنا اسم مفعول وهناك اسم فاعل. والباقون خففوهما. وقرأ ابن أبي عبلة هنا: «مُنَزِّلين» بالتشديد مكسور الزاي مبنياً للفاعل. وبعضهم قرأه كذلك إلا أنه خَفَّف الزاي، جَعَلَه من أنزل كأكرم، والتضعيف والهمزةُ كلاهما للتعدية، فَفَعَّل وأَفْعل بمعنى، وقد تقدَّم أن الزمخشري يجعل التشديد دالاً على التنجيم، وتقدَّم البحث معه في ذلك. وفي القراءتين الآخيرتين يكون المفعول/ محذوفاً أي: مُنْزِلين النصرَ على المؤمنين والعذاب على الكافرين.
قوله: «بلى» حرفُ جواب وهو إيجاب للنفي في قوله تعالى: ﴿أَلَنْ يَكْفِيكُمْ﴾ وقد تقدم الكلام عليه مشبعاً. وجواب الشرط قوله: «يُمْدِدْكُم».
386
والفَوْر: العجَلةُ والسرعة ومنه: «فارَت القِدْر» اشتدَّ غَلَيانها وسارع ما فيها إلى الخروج، يقال: فارَ يفُور فَوْراً، ويُعَبَّر به عن الغضب والحِدَّة؛ لأنَّ الغَضْبانَ يسارع إلى البطش بمَنْ يغضب عليه، فالفور في الأصل مصدرٌ ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا رَيْثَ فيها ولا تعريج عن شيء سواها.
قوله تعالى: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ : كقوله: مُنْزَلين «. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو على اسم الفاعل، والباقون بفتحها على اسم المفعول. فأما القراءة الأولى فتحتمل أن تكون من السَّوْم وهو تَرْكُ الماشية ترعى، والمعنى أنهم سَوَّموا خيلَهم أي: أعطَوها سَوْمَها من الجري والجوَلان وتركوها كذلك كما يَفْعل مَنْ يَسِيمُ ماشِيتَه في المَرْعى، ويحتمل أن يكون من السَّوْمَة وهي العلامة، على معنى أنهم سَوَّموا أنفسهم أو خيلهم، ففي التفسير أنهم كانوا بعمائَم بيضٍ إلا جبريلَ فبعمامةٍ صفراء، وروُي أنه كانوا على خيل بُلْق. ورجَّح ابن جرير هذه القراءة بما وَرَد في الحديث عنه عليه السلام يوم بدر» تَسوَّموا فإنَّ الملائكة قد سَوَّمَتْ «.
وأما القراءة الثانية فواضحةٌ بالمعنيين المذكورين فمعنى السَّوْم فيها: أنَّ الله أرسلهم، إذ الملائكة كانوا مُرْسَلين مِنْ عندِ الله لنصرةِ نبيِّه والمؤمنين. حكى أبو زيد: سَوَّم الرجل خيلَه: أي أرسلها، وحكى بعضهم:» سَوَّمْتُ غُلامي «أي: أرسلْتُه، ولهذا قال أبو الحسن الأخفش:» معنى مُسَوَّمين: مُرْسَلين «. ومعنى السَّومةِ فيها أنَّ الله تعالى سَوَّمَهم أي: جَعَل عليهم علامَةً وهي العمائم، أو الملائكةُ جَعَلوا خيلَهم نوعاً خاصاً وهي البُلْق، فقد سَوَّموا خيلَهم.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ بشرى﴾ : فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله وهو استثناء مفرغ، إذ التقدير: وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبشرى، وشروطُ نصبِه موجودةٌ وهي اتحاد الفاعل والزمان وكونُه مصدراً سيق للعلة. والثاني: أنه مفعولٌ ثان لجَعَل على أنها تصييريةٌ. والثالث: أنها بدلٌ من الهاءِ في «جَعَله» قاله الحوفي، وجعل الهاءَ عائدةً على الوعدِ بالمَدَدِ. والبُشْرى مصدرٌ على فُعْلى كالرُّجْعَى.
قوله: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على «بشرى» هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله، وإنما جُرَّت باللام لاختلالِ شرطٍ من شروطِ النصب وهو عَدَمُ اتحاد الفاعل، فإنَّ فاعلَ الجَعْل هو الله تعالى وفاعلَ الاطمئان القلوبُ، فلذلك نُصِب المعطوفُ عليه لاستكمال الشروط، وجُرَّ المعطوفُ باللام لاختلالِ شرطه، وقد تقدَّم، والتقدير: وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة. والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوف ِأي: ولتطمئن قلوبُكم فَعَلَ ذلك، أو كانَ كيتَ وكَيتَ.
وقال الشيخ: «وتطمئنَّ منصوبٌ بإضمار» أَنْ «بعد لام» كي «فهو من عطفِ الاسم على تَوَهُّم موضِع اسم آخر». ثم نَقَل عن ابن عطية أنه قال: «واللام في» ولتطمئن «متعلقةٌ بفعلٍ مضمر يَدُلُّ عليه» جعله «»، ومعنى الآية: «وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به وتطمئنَّ به قلوبكم». قال الشيخ: «وكأنه رأى أنه لا يمكن عنده أَنْ يُعْطَف» ولتطمئن «على» بشرى «على الموضع؛ لأنَّ مِنْ شرطِ العطف على الموضع عند أصحابنا أن يكون ثَمَّ مُحْرِزٌ للموضع، ولا مُحْرزَ هنا، لأنَّ عاملَ الجر مفقود، ومَنْ لم يشترطِ المُحْرز فيجوِّز ذلك، ويكونُ من باب العطف على التوهم». قلت: وقد جعل بعضُهم
388
الواوَ في «ولتطمئن» زائدةً وهو لائقٌ بمذهب الأخفش، وعلى هذا فتتعلَّق اللامُ بالبشرى، أي: إن البُشْرى علةٌ للجَعْل، والطمأنينة علةٌ للبُشْرى فهي علة العلة.
وقال الفخر الرازي: «في ذِكْر الإِمدادِ مطلوبان، أحدهما: إدخالُ السرور في قلوبِهم وهو المرادُ بقوله ﴿إِلاَّ بشرى﴾ والثاني: حصولُ الطمأنينة بالنصرِ فلا يَجْبُنوا، وهذا هو المقصود الأصلي ففرَّق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين، فعَطَفَ الفعلَ على الاسم، ولَمَّا كان الأقوى حصولَ الطمأنينة أَدْخَلَ حرفَ التعليل». قال الشيخ: «ويناقَشُ في قوله» عَطْفُ الفعلِ على الاسم «إذ ليس من عطف الفعل/ على الاسم، وفي قوله:» أدخلَ حرفَ التعليل «وليس ذلك كما ذكر». انتهى. قلت: إنْ عنى الشيخ أنه لم يُدْخِلْ حرفَ التعليل البتة فهوغيرُ مُسَلَّم ولا يمكنُ إنكارُه، وإنْ عَنَى أنه لم يُدْخِلْه بالمعنى الذي قصده الإِمام فيسهُلُ.
وقال الجرجاني في «نَظْمه» :«هذا على تأويل: وما جعله الله إلا ليبشِّركم ولتطمئِنَّ، وَمَنْ أجازَ إقحامَ الواو وهو مذهب الكوفيين جعلها مقحمةً في» ولتطمئِنَّ «فيكونُ التقدير: وما جعله الله إلاَّ بُشْرى لكم لتطمئن قلوبكم به.
والضميران في قوله:» وما «جعله» و «به» يعودان على الإِمداد المفهومِ من الفعل المتقدم وهو قوله: «يُمْدِدْكم» وقيل: يعودان على النصر، وقيل:
389
على التسويم. وقيل: على التنزيل. وقيل: على العَدَد، وقيل: على الوعد.
وفي هذه الآية قال: «لكم» وتركها في سورة الأنفال لأن تيك مختصرُ هذه، وكأنَّ الإِطناب هنا أَوْلى، لأن القصة مُكَمِّلةٌ هنا فناسب إيناسُهم بالخطابِ المواجَهِ. وأخَّر هنا «به» وقَدَّم في سورة الأنفال؛ لأنَّ الخطابَ هنا موجودٌ في «لكم» فَأَتْبَعَ الخطابَ الخطابَ. وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله: ﴿العزيز الحكيم﴾ وجاء بهما في جملةٍ مستأنفةٍ في الأنفال في قوله: ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الآية: ١٠] لأنه لمَّا خاطبهم هنا حَسُن تعجيلُ بِشارتهم بأنه عزيزٌ حكيم أي: لا يغالَبُ وأنَّ أفعالَه كلها متقنةٌ حكمةٌ وصوابٌ.
قوله تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ﴾ : في متعلَّق هذه اللام سبعةُ أوجه: أحدها: أنها متعلِّقة بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ﴾ قاله الحوفي، وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصلِ. الثاني: أنها متعلقةٌ بالنصر في قوله: ﴿وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله﴾ وفيه نظرٌ من حيث إنه قد فُصِل بين المصدر ومتعلَّقه بأجنبي وهو الخبر. الثالث: أنها متعلقة بما تعلق به الخبر وهو قوله: ﴿مِنْ عِندِ الله﴾ والتقدير: وما النصر إلا كائن أو إلا مستقر من عند الله ليقطع. والرابع: أنها متعلقة بمحذوف تقديره: أمدَّكم أو نصركم ليقطع. الخامس: أنها معطوفةٌ على قوله: «ولتطمئِنَّ»، حَذَفَ حرف العطف لفهم المعنى كقوله: ﴿ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢]، وعلى هذا فتكونُ الجملةُ من قولِه: ﴿وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله﴾ اعتراضيةً بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، وهو ساقِطٌ الاعتبارِ. السادس: أنها متعلقةٌ بالجَعْل قاله ابن عطية. السابع: أنها متعلقةٌ بقولِه: «يُمْدِدْكم»، وفيه بُعْدٌ للفواصلِ بينهما.
390
والطَّرَفُ: المرادُ به جماعة وطائفة، و «من الذين» يجوز أن يكون متعلقاً بالقطع فتكونَ «مِنْ» لابتداء الغاية. ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها وصفٌ ل «طرفاً» وتكون «مِنْ» للتبعيض.
قوله: ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ عطفٌ على «لِيقطعَ». و «أو» قيل: على بابها من التفصيلِ أي: ليقطعَ طرفاً من البعضِ ويكبِتَ بعضاً آخرين. وقيل: بل هي بمعنى الواو أي: يجمع عليهم الشيئين.
والكَبْتُ: الإِصابة بمكروهٍ. وقيل: هو الصَّرْعُ للوجهِ واليدين، وعلى هذين فالتاءُ أصليةٌ، وليست بدلاً من شيء بل هي مادةٌ مستقلة. وقيل: أصلُه مِنْ كَبَده إذا أصابه بمكروهٍ، أثَّر في كَبدِه وَجَعاً كقولك: رَأَسْتُه أي: أصبتُ رأسَه ويدل على ذلك قراءة لاحق بن حميد: «أو يكبِدَهم» بالدال، والعربُ تُبْدِلُ التاءَ من الدال قالوا: هَرَتَ الثوبَ وهَرَده، وسَبَتَ رأسَه وسَبَدَه. وقد قيل: «إنَّ قراءةَ لاحِق أصلُها التاء، وإنما أُبْدِلَتْ دالاً كقولِهم: سَبَدَ رأسه وهَرَدَ الثوب، والأصلُ فيهما: التاء».
وقوله: ﴿فَيَنقَلِبُواْ﴾ مُرَتَّبٌ على ما تقدَّم. والخَيْبَةُ: عَدَمُ الظفر بالمطلوب، خاب يَخيب خَيْبَة. و «خائبين» نصب على الحال.
قوله تعالى: ﴿أَوْ يَتُوبَ﴾ : في نصبِه أوجهٌ، أحدها: أنه معطوفٌ على الأفعالِ المنصوبةِ قبلَه تقديرُه: ليقطعَ أو يكبِتَهم أو يتوبَ عليهم أو يعذِّبَهم، وعلى هذا فيكونُ قولُه «ليس لك من الأمرِ شيءٌ» جملةً اعتراضيةً بين المتعاطِفَيْنِ، والمعنى: أنَّ الله تعالى هو المالِكُ لأمرهم، فإنْ شاء
391
قطع طرفاً منهم أو هزمهم، أو يتوبَ عليهم إن أسلموا ورَجعوا، أو يعذبهم إن تمادَوا على كفرهم، وإلى هذا التخريجِ ذهب جماعة من النحاة كالفراء والزجاج.
والثاني: أن «أو» هنا بمعنى «إلاَّ أَنْ» كقولِهم: «لألزَمَنَّك أو تقضِيَني حقي» أي: إلاَّ أَنْ تقضيني.
الثالث: [أنّ] «أو» بمعنى «حتى» أي: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوبَ. وعلى هذين القولين فالكلامُ متصلٌ بقولِه: «ليس لك من الأمر شيء» والمعنى: / ليس لك من الأمر شيء إلاَّ أَنْ يتوب عليهم بالإِسلامِ فيحصُل لك سرورٌ بهدايتِهم إليه أو يعذبهم بقتلٍ أو نارٍ في الآخرةِ. فيتَشَفَّى بهم. ومِمَّنْ ذهب إلى ذلك الفراء وأبو بكر ابن الأنباري. قال الفراء: «ومثلُ هذا الكلامِ:» لأُذَمَّنَّك أو تعطيَني «على معنى: إلا أَنْ تعطيَني، وحتى تعطيني. وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول امرىء القيس:
١٤٢٥ - فقلتُ له لاَ تبْكِ عينُك إنَّما
تحاولُ مُلْكَاً أو تموتَ فَتُعْذَرا
أراد: حتى تموتَ، أو: إلاَّ أن تموتَ» قلت: وفي تقديره بيتَ امرىء القيس ب «حتى» نظرٌ، إذ ليس المعنى عليه؛ لأنه لم يفعلْ ذلك لأجلِ هذه الغايةِ والنحويون لم يقدِّروه إلا بمعنى «إلاَّ».
392
الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار «أَنْ» عطفاً على قوله: «الأمر» كأنه قيل: «ليس لك من الأمرِ أو من تَوْبته عليهم أو تعذيبِهم شيءٌ»، فلمَّا كان في تأويلِ الاسم عُطفِ على الاسمِ قبلَه فهو من باب قولِه:
١٤٢٦ - ولولا رجالٌ من رِزامٍ أعِزَّةً
وآلُ سُبَيْعٍ أو أَسُوْءَكَ علقما
وقولها:
١٤٢٧ - لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني
أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفوف
الرابع: أنه معطوفٌ بالتأويلِ المذكور على «شيء» والتقدير: ليس لك من الأمرِ من شيءٌ أو توبةُ اللهِ عليهم أو تعذيبُهم أي: ليس لك أيضاً توبتُهم ولا تعذيبُهم، إنما ذلك راجعٌ إلى الله تعالى.
وقرأ أُبَيّ: «أو يتوبُ، أو يعذِّبُهم» برفعهما على الاستئناف في جملةٍ اسميةٍ أضمر مبتدَؤُها أي: أو هو يتوبُ ويعذِّبُهم.
قوله تعالى: ﴿أَضْعَافاً﴾ : جمع ضِعْف، ولَمَّا كان جمعَ قلةٍ والمقصودُ الكثرةُ أتبعه بما يدلُّ على ذلك وهو الوصف بمضاعفة. وقال أبو البقاء: «أضعافاً» مصدرٌ في موضع الحال من «الربا». وقد تقدَّم لنا
393
الكلامُ على «أضعاف» ومفردُه في البقرة. وقرأ ابن كثير وابن عامر: «مُضَعَّفَةً» مشدَّدَ العينِ دونَ ألف، والباقون بالتخفيف والألفِ. وقد تقدَّم الكلامُ أيضاً على التشديدِ والتخفيفِ في البقرة أيضاً.
قوله تعالى: ﴿وسارعوا﴾ : قرأ نافع وابن عامر: «سارعوا» دون واو. والباقون بواو العطف. فَمَنْ أَسْقطها استأنف الأخير بذلك، أو أراد العطفَ ولكنه حَذَفَ العاطفَ للدلالة كقوله تعالى: ﴿ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢]. وقد تقدَّم ضعفُ هذا المذهب. ومَنْ أثبت الواو عطفَ جملةً أمريةً على مثلها. وبعد اتِّباعِ الأثرِ في التلاوة اتَّبَع كلٌّ رسمَ مصحَفه فإنَّ الواو ساقطةٌ من مصاحف المدينة والشام ثابتةٌ فيما عداها.
قوله: ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ صفةً ل «مغفرة» و «مِنْ» للابتداء مجازاً. وقوله: ﴿عَرْضُهَا السماوات﴾ لا بد من حذف أي: مثلُ عرض السماوات، يدل عليه قوله: ﴿عَرْضُهَا كَعَرْضِ﴾ والجملةٌ في محلِّ جرِّ صفةً ل «جنة».
قوله: ﴿أُعِدَّتْ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ محلُّها الجرَّ صِفةً ثانية ل «جنة»، ويجوز أن يكونَ محلُّها النَصبَ على الحال من «جنة» ؛ لأنها لَمَّا وُصِفَتْ تَخَصَّصَتْ فَقَرُبت من المعارف. قال أبو البقاء: «ويجوز أن تكون مستأنفة، ولا يجوز أن تكونَ حالاً من المضاف إليه لثلاثة أشياء، أحدها: أنه لا عامل، وما جاء من ذلك متأولٌ على ضعفه. والثاني: العَرْضُ هنا لاَ يُراد به المصدرُ الحقيقي بل
394
يُرادُ به المسافة. والثالث: أنَّ ذلك يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الحال وبين صاحبِ الحالِ بالخبر» معنى بالخبر قولَه «السماوات» وهو ردٌّ صحيح.
قوله تعالى: ﴿الذين يُنفِقُونَ﴾ : يجوزُ في محلِّه الألقابُ الثلاثةُ، فالجَرُّ على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ، والنصبُ والرفعُ على القطعِ المُشْعِر بالمدح.
قوله: ﴿والكاظمين﴾ يجوزُ فيه الجَرُّ والنصبُ على ما تقدَّم فيما قبله. والكَظْمُ: الحَبْسُ. كَظَمَ غيظَه أي: حَبَسَه وكَظَم القِرْبة والسِّقاء: إذا شَدَّ فَمَوَيْهِما مانعاً من خروجِ ما فيهما، ومنه: الكِظامُ لِسَيْرٍ تُشَدُّ به القِرْبَةُ والسِّقاء كذلكَ. والكَظْمُ في الأصلِ: مَخْرَجُ النفس، يُقال: أخَذَ بَكَظْمِه أي: مَخْرَج نَفَسه. الكُظُوم: احتباسُ النَّفَس، ويُعَبَّر به عن السكون كقولهم: «فلان لا يتنفَّس». والمَكْظُوم: الممتلِىءُ غيظاً وكأنه لغيظه لا يستطيع أن يتكلَّمَ ولا يُخْرِجَ نَفَسه، والكَظِيمُ: الممتلِىءُ أَسَفاً، قال أبو طالب:
١٤٢٨ - فَحَضَضْتُ قومي واحتَسَبْتُ قتالَهم
والقومُ من خوفِ المَنايا كُظَّمُ
وكَظَم البعيرُ: إذا ترك الاجترارَ من ذلك، ومنه قولُ الراعي:
١٤٢٩ - وأفَضْنَ بعدَ كُظومِهِنَّ بِجِرَّةٍ
مِنْ ذي الأباطِحِ إذ رَعَيْنَ حَقِيلا
395
والحقيل: نبت، وقيل: موضع، فعلى الأول هو مفعولٌ به وعلى الثاني هو ظرف، ويكون قد شَذَّ عدمُ جرِّه ب «في» لأنه ظرفُ مكانٍ مختصٌّ، ويكون المفعولُ محذوفاً أي: إذ رَعَيْنَ الكَلأ في حَقيلٍ، ولا تَقْطَعُ الإِبلُ جِرَّتَها إلا عند الفزعِ، ومنه قولُ أعشى باهلة يصفُ رجلاً يُكْثِر نَحْرَ الإِبل:
١٤٣٠ - قد تَكْظِمُ البُزْلُ منه حين تُبْصِرُه
حتى تَقَطَّع في أَجْوافِها الجِرَرُ
والجِرَرُ جمعُ جِرَّة. الكِظامَةُ: حَلْقَةٌ من حديدٍ تكونُ في طرف الميزان تُجْمَعُ فيها خيوطه، وهي أيضاً السَّيْر الذي يُوصل بوتَرِ القوس، والكَظَائِمُ: خُروقٌ بين اليدين يَجْري منها الماءُ إلى الأخرى، كلُّ ذلك تشبيهاً بمَجْرى النفس/.
قوله تعالى: ﴿والذين إِذَا فَعَلُواْ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على الموصولِ قبلَه، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة، وتكونُ الجملةُ من قولِه: ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ جملةً اعتراضٍ بين المتعاطِفَيْن، ويجوزُ أَنْ يكونَ «والذين» مرفوعاً بالابتداء، و «أولئك» مبتدأٌ ثانٍ، و «جزاؤهم» مبتدأٌ ثالثٌ، و «مغفرةٌ» خبرُ الثالث، والثالثُ وخبرُه خبرُ الثاني، والثاني وخبره خبر الأول. وقوله: ﴿إِذَا فَعَلُواْ﴾ شرطٌ جوابُه «ذكروا» وقوله: ﴿فاستغفروا﴾ عطفٌ على الجواب، والجملةُ الشرطية وجوابُها صلةُ الموصولِ، والمفعولُ الأولُ لاستغفر محذوفٌ، أي: استغفروا اللهَ لذنوبِهِم. وقد تقدَّم الكلامُ على «استغفر»، وأنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجر، وليس هو هذه اللامَ بل «مِنْ»، وقد تُحْذَفُ، وقوله: ﴿وَمَن يَغْفِرُ﴾ استفهامٌ معناه النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناءُ.
396
وقوله: ﴿إِلاَّ الله﴾ بدلٌ من الضمير المستكنِّ في «يغفرُ» التقديرُ: لا يغفرُ أحدٌ الذنوبَ إلا اللهُ، والمختارُ هنا الرفعُ على البدلِ لكونِ الكلامِ غيرَ إيجاب، وقد تقدَّم تحقيقُه عند قولِه تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠]. وقال ابو البقاء: «ومَنْ» مبتدأ، و «يغفر» خبرُه، و ﴿إِلاَّ الله﴾ فاعلٌ أو بدلٌ من المضمر وهو الوجه، لأنك إذا جَعَلْتَ اللهَ تعالى فاعلاً احتجْتَ إلى تقدير ضمير أي: ومَنْ يغفر الذنوبَ له غيرُ الله «وهذا الذي قاله أعني جَعْلَه الجلالَةَ فاعلاً يَقْرُب من الغلط فإنَّ الاستفهامَ هنا لا يُراد به حقيقتُه، إنما يُرادُ النفيُ، والوجهُ ما تقدَّم من كونِ الجلالةِ بدلاً من ذلك الضميرِ المستترِ العائدِ على» مَنْ «الاستفهامية.
قوله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ﴾ يجوز أن تكونَ جملةً حاليةً من فاعلِ» استغفروا «أي: استغفروا غيرَ مُصِرِّين، ويجوزُ أن تكونَ هذه الجملةُ منسوقَةً على» فاستغفروا «أي: ترتَّب على فِعْلهم الفاحشةَ ذِكْرُ اللهِ تعالى والاستغفارُ لذنوبهم وعدمُ إصرارِهم عليها، وتكونُ الجملةُ مِنْ قوله: ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله﴾ على هذين الوجهين معترضةً بين المتعاطفين على الوجه الثانَي، وبين الحالِ وذي الحالِ على الأول.
قوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يجوز أن تكونَ حالاً ثانيةً من فاعل» استغفروا «وأن تكونَ حالاً من فاعل» يُصِرُّوا «، ومفعولٌ» يَعْلَمُون «محذوفٌ للعلمِ به، فقيل: تقديرُه: يعلمونَ أنَّ الله يتوبُ على مَنْ تَابَ، قاله مجاهد. وقيل: يعلمون أنَّ تَرْكَه أَوْلى، قاله ابن عباس والحسن. وقيل: يَعْلَمُون المؤاخذةَ بها أو عَفْوَ اللهِ عنها. و» ما «في قوله: ﴿على مَا فَعَلُواْ﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ اسميةً بمعنى الذي، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً.
397
والإِصرارُ: المداوَمةٌ على الشيء وتَرْكُ الإِقلاعِ عنه وتأكيدُ العزم على ألاَّ يتركَه، مِنْ صَرَّ الدنانيرَ: إذا رَبَطَ عليها، ومنه» صُرَّةُ الدارهم «لما يُرْبَطُ بها. وقال الحطيئة يصف خيلاً:
١٤٣١ - عوابِسُ بالشُّعْثِ الكُماةِ إذا ابْتَغَوْا
عُلالَتَها بالمُحْصَداتِ أَصَرَّتِ
أي: ثَبَتَتْ وأقامَتْ مداومةً على ما حُمِلَتْ عليه. وقال الشاعر:
قوله تعالى: ﴿مِّن رَّبِّهِمْ﴾ : في محلِّ رفعٍ نعتاً لمغفرة، و «مِنْ» للتبعيض أي: مِنْ مغفرات ربهم. قوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ حال من الضمير في «جزاؤهم» لأنه مفعولٌ به في المعنى، لأنَّ المعنى: يَجْزيهم اللهُ جناتٍ في حالِ خلودِهم، وتكونُ حالاً مقدرةً. ولا يجوز أن تكون حالاً من «جنات» في اللفظِ وهي لأصحابِها في المعنى، إذ لو كان ذلك لبرز الضمير لجريانِ الصفةِ على غير مَنْ هي له. والجملةُ من قولِه ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ في محلِّ رفعٍ نعتاً ل «جنات». وتقدَّم إعرابُ نظيرِ هذه الجملةِ، والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ في قولهِ: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾ تقديرُه: ونِعْمَ أجرُ العامِلين الجنةُ.
قوله تعالى: ﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾ : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «خَلَتْ»
398
ويجوزُ أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «سنن» ؛ لأنه في الأصلِ يجوز أَنْ يكونَ وصفاً فلمَّا قُدِّم نُصِبَ حالاً.
والسُّنَنُ: جمع «سُنَّة» وهي الطريقةُ التي يكونُ عليها الإِنسانُ ويلازِمُها، ومنه «سنة الأنبياء» عليهم السلام. قال خالد الهذلي لخاله أبي ذؤيب:
١٤٣٣ - فلا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنت سِرْتَها
فَأَوَّلُ راضٍ سُنَّةً مَنْ يَسيرُها
وقال أخر:
١٤٣٤ - وإنَّ الأُلَى بالطَّفِّ مِنْ آلِ هاشمٍ
تَأَسَّوا فَسَنُّوا للكرامِ التآسِيا
وقال لبيد:
١٤٣٥ - مِنْ أمةٍ سَنَّتْ لهم آباؤُهم
ولكلِّ قومٍ سُنَّةٌ وإمامُها
وقال المفضل: «السُّنَّةُ الأُمَّة»، وأنشد:
١٤٣٦ - ما عايَنَ الناسُ مِنْ فضلٍ كفضلكمُ
ولا رُئِيْ مثلُه في سائِرِ السُّنَنِ
ولا دليلَ فيه لاحتمالِه. وقال الخليل: «سَنَّ الشيءَ بمعنى صَوَّره».
399
ومنه: ﴿مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦] أي: مُصَوَّر. وقيل: سَنَّ الماءَ والدرع إذا صَبَّهما، وقوله: ﴿مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ منه، ولكنَّ نسبةَ الصبِّ إلى الطين بعيدةٌ. وقيل «مَسْنون» أي متغير. قال بعض أهل اللغة: «هي فُعْلَة من سَنَّ الماءَ يَسُنُّه إذا والى صَبَّه. والسَّنُّ: صَبُّ الماءِ والعرق ونحوهما، وأنشدَ لزهيرٍ:
١٤٣٧ - نُعَوِّدها الطِّرادَ فكلَّ يومٍ
تُسَنُّ على سنابِكها القُرونُ
أي: يُصَبُّ عليها العرقُ. وقيل: سُنَّة: فُعْلَة بمعنى مفعول كالغُرْفَة والأُكْلَة. وقيل: اشتقاقُها من سَنَنْتُ النَّصْلَ أَسُنُّه سَنَّاً إذا حَدَدْتَه، والمعنى أن الطريقة الحسنة معتنىً بها كما يُعْتنى بالنصل ونحوه. وقيل: مِنْ سَنَّ الإِبلَ: أذا أحسن رَعْيَها. والمعنى: أَنَّ صاحبَ السنة يقومُ على أصحابهِ كما يقومُ الراعي على إبلِه، وقد مَضَى مِنْ ذلك جملةٌ صالحةٌ في البقرة.
وقوله: ﴿فَسِيرُواْ﴾ جملةٌ معطوفةٌ على ما قبلَها. والتسبيبُ في هذه الألفاظِ ظاهرٌ أي: سَبَبُ الأمرِ بالسير لينظُروا نَظَرَ اعتبارٍ خُلُوُّ مَنْ قبلكم من الأمم وطرائقهم. وقال أَبو البقاء:» ودَخَلَتِ الفاء في «فسيروا» / لأنَّ المعنى على الشرطِ أي: إن شَكَكْتُم فسيروا.
قوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾«كيف» خبرٌ مقدم واجبُ التقديم؛ لتضمُّنِه معنى الاستفهامِ وهو مُعَلِّقٌ ل «انظروا» قبلَه، فالجملةُ في محل نصبٍ بعد إسقاطِ
قوله تعالى: ﴿لِّلنَّاسِ﴾ ؛ يجوز أن يتعلَّق بالمصدر قبلَه، ويجوز أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه وصفٌ له. قوله: ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ يجوز أنْ يكونَ وصفاً أيضاً ويجوزُ أن يتعلَّقَ بما قبله، وهو محتمِلٌ لأنْ يكونَ من التنازع، وهو على إعمالِ الثاني للحذفِ مِن الأول.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا﴾ : الأصلُ: «تَوْهِنُوا» فَحُذِفَتِ الواوُ لوقوعها بين ياءٍ وكسرةٍ في الأصلِ، ثم أُجْرِيَتْ حروفُ المضارعةِ مُجْراها في ذلك. ويقال: وَهَنَ بالفتح في الماضي يَهِن بالكسر في المضارع. ونُقِل أنه يقال: وَهُن وَوهِن بضم الهاء وكسرِها في الماضي. وَوَهَن يُسْتعمل لازماً ومتعدياً تقول: وَهَن زيدٌ أي: ضَعُفَ، قال تعالى: ﴿وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ [مريم: ٤] ووهَنْتُه أي: أَضْعَفْتُه. ومنه الحديثُ: «وهَنَتْهُم حُمَّى يثرب» والمصدرُ على الوَهَن والوَهْنِ، بفتح العين وبسكونِها. وقال زهير:
١٤٣٨ -.....................
فأصبحَ الحبلُ مِنْها واهِناً خَلَقَا
أي: ضعيفاً.
قوله: ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ جملةٌ حاليةٌ من فاعل «تَهِنوا» أو «تحزنوا» والاستئنافُ فيها غيرُ ظاهرٍ. والأَعْلَوْن: جمعُ أَعْلى والأصل: أَعْلَيُون فتحرَّكت
401
الفاءُ وانفتح ما قبلَها فَقُلِبت ألفاً فَحُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين وبقيت الفتحة لتدلَّ عليها، وإنْ شئت قلت: استُثْقِلَتْ الضمةُ على الياء فَحُذِفت فالتقى ساكنان أيضاً الياء والواو، فَحُذِفت الياء لالتقاء الساكنين، وإنما احتِجْنا إلى ذلك لأنَّ واوَ الجمعِ لا يكونُ ما قبلها إلاَّ مضموماً لفظاً أو تقديراً، وهذا مثالُ التقديرِ. قولُه: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ جوابُه محذوفٌ أي: فلا تَهِنُوا ولا تحَْزَنوا.
قوله تعالى: ﴿قَرْحٌ﴾ : قرأ الأخَوان وأبو بكر: «قُرْح» بضم القاف، وكذلك «القُرْح» معرَّفاً، والباقون بالفتح فيهما، فقيل: هما بمعنى واحد. ثم اختلف القائلون بهذا فقال بعضهم: «المرادُ بهما الجرحُ نفسه». وقال بعضُهم: منهم الأخفش المرادُ بهما المصدرُ. يُقال قَرِحَ الجرحُ يَقْرَحُ قُرَحاً وقَرْحاً. قال امرؤ القيس:
١٤٣٩ - وبُدِّلْتُ قَرْحاً دامياً بعد صحةٍ
لعلَّ منايانا تَحَوَّلنَ أَبْؤُسَا
والفتحُ لغةُ الحجاز، والضمُّ لغةُ غيرِهم فهما كالضَّعْف والضُّعْف والكَرْه والكُرْه. وقال بعضُهم: «المفتوح: الجُرحُ، والمضموم: ألمه».
وقرأ ابنُ السَّمَيْفَع بفتح القاف والراء وهي لغةٌ كالطَّرْد والطَّرَد. وقال أبو البقاء: هو مصدرُ قَرُحَ يَقْرُح إذا صار له قُرْحَة، وهو بمعنى دَمِي. وقرىء «قُرُح» بضمِّهما. قيل: وذلك على الإِتباع كاليُسْر واليُسُر والطُّنْب والطُّنُبِ.
402
وقرأ الأعمش: «إنْ تَمْسَسْكم» بالتاء من فوق، «قروحٌ» بصيغة الجمع، والتأنيث واضح. وأصلُ المادةِ الدلالةُ على الخُلوصِ ومنه: الماء القَراح أي: لا كُدروةَ فيه، قال:
١٤٤٠ - فساغَ لي الشرابُ وكنتُ قبلاً
أَكادُ أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ
وأرضٌ قَرْحَة أي: خالصةُ الطين ومنه: قريحةُ الرجلِ لخالصِ طبعِهِ. وقال الراغب: «القَرْحُ: الأثَرُ من الجراحةِ، من شيءٍ يصيبُه من خارجٍ، والقُرْحُ يعني بالضم أثرُها مِنْ داخلٍ كالبَثْرةِ ونحوِها، يقال: قَرَحْتُه نحو: جَرَحْتُه. قال الشاعر:
١٤٤١ - لا يُسْلِمُون قريحاً حَلَّ وسطُهُمُ
يومَ اللِّقاءِ ولا يُشْوُون مَنْ قَرَحُوا
أي: جرحوا: وقَرِح: خرج به قَرْحٌ، وقَرَحَ الله قلبَه وأقرحه يعني: فَفَعَل وأفْعَل فيه بمعنى وفَرَسٌ قارح: إذا أصابَه أثرٌ من ظهورِ نابِه، والأُنثى: قارحةٌ، وروضةٌ قَرْحاءُ إذا كان في وسطها نَوْرٌ، وذلك تشبيهٌ بالفرس القَرْحاءِ. والاقتراحُ: الابتداعُ والابتكارُ. ومنه قالوا: اقترح عليه فلانٌ كذا، واقترحْتُ بئراً: استخرجْتُ منها ماءً قَراحاً، والقريحَةُ في الأصل: المكانُ الذي يَجْتمع فيه الماءُ المُسْتَنْبَطُ، ومنه استُعِيرَتْ قريحةُ الإِنسانِ».
403
قوله: ﴿فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ﴾ للنحويين في مثل هذا تأويلٌ وهو أَنْ يُقَدِّروا شيئاً مستقبلاً، لأنه لا يكونُ التعليقُ إلا في المستقبلِ، وقوله ﴿فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾ ماضٍ محقق، وذلك التأويلُ هو التبيين: فقد تبيَّن مسُّ القَرْحِ للقوم، وسيأتي له نظائر/ نحو: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ﴾ [يوسف: ٢٦] ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ﴾ [يوسف: ٢٦]. وقال بعضُهم «وجوابُ الشرطِ محذوفٌ تقديرُه:» فتأسَّوا «ونحوُ ذلك. وقال الشيخ:» مَنْ جَعَلَ جوابَ الشرط «فقد مَسَّ» فهو ذاهِلٌ «. قلت: غالبُ النحاةِ جَعَلوه جواباً متأوِّلين له بما ذَكَرْتُ.
قوله: ﴿وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا﴾ يجوزُ في» الأيام «أَنْ تكونَ خيراً ل» تلك «. و» نُداوِلُها «جملةً حاليةٌ العاملُ فيها معنى اسم الإِشارة أي: أُشير إليها حالَ كونِها متداولةً.
ويجوزُ أن تكونَ «الأيام» بدلاً أو عطفَ بيانٍ أو نعتاً لاسم الإِشارة، والخبرُ هو الجملةُ من قوله: ﴿نُدَاوِلُهَا﴾، وقد مَرَّ نحوُه في قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا﴾ [آل عمران: ١٠٨] إلا أَنَّ هناك لا يجيءُ القولُ بالنعتِ لِما عَرَفْتَ أنَّ اسمَ الإِشارة لا يُنْعَتُ إلا بذِي أل.
و «بين» متعلقٌ ب «نُداوِلُها». وجَوَّز أبو البقاء أن يكون حالاً من مفعولِ «نُداولها» وليس بشيءٍ. والمُدَاوَلَةُ: المناوَبَةُ على الشيء والمعاوَدَةُ وتَعَهُّدُه مرةً بعد أخرى. يقال: داوَلْتُ بينَهم الشيءَ فتداولوه، كأن «فاعَل» بمعنى «فَعَل». قال الشاعر:
404
١٤٤٢ - يَرِِدُ المياهَ فلا يزالُ مُداوِلاً
في الناسِ بين تَمَثُّلٍ وسَمَاعِ
وأدالَ فلانٌ فلاناً جَعَلَ له دَوْلَة، ويقال: دُولة ودَولة بضمِّ الفاء وفتحها، وقد قُرىء بهما في سورة الحشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
واختلف الناس: هل اللفظتان بمعنًى أم بينهما فرقٌ؟ فذهب بعضُهم كالراغب وغيرِه إلى أنهما سيَّان، فيكونُ في المصدر لغتان. وقال غيرُ هؤلاء: «بينهما فرقٌ» واختلفت أقوالُ هؤلاء فقال بعضُهم: «الدَّوْلة» بالفتح في الحربِ والجاهِ، وبالضمِّ في المالِ، وهذا تَرُدُّه القراءاتان في سورة الحشر. وقيل: بالضمِّ اسمُ الشيء المتداوَلِ، وبالفتح نفس المصدر وهذا قريب. وقيل: الدُّولة بالضم هي المصدر، وبالفتح الفِعْلَةُ الواحدة فلذلك يُقال «في دَوْلة فلان» لأنها مرة في الدهر. والدَّوْرُ والدول متقاربان في المعنى ولكن بينهما عموم وخصوص فإن الدور أعمُّ من الدَّوْل؛ لأن الدَّوْل باللام لا يكون إلا في الحظوظ الدنيوية. والدَّوَلْوَل: الداهيةُ، والجمعُ: دَأَليل.
قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الله﴾ ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلُّق هذه اللام وجهين، قال: «أحدُهما: أنَّ اللامَ صلةٌ لفعلٍ مضمرٍ يَدُلُّ عليه أولُ الكلامِ بتقدير: ولِيعلمَ اللهُ الذين آمنوا نُداولها. والثاني: أنَّ العامل فيه» نُدَاولها «المذكورُ بتقديرِ: نُداوِلها بين الناسِ لنُظْهِرَ أمرَهم ولنبيِّن أعمالَهم، وليعلَم اللهُ الذين آمنوا، فلمَّا ظهرَ معنى اللام المضمرةِ في» ليُظْهِرَ «و» ليبيِّن «جَرَتْ مَجْرى الظاهرة فجاز العطفُ عليها.
وجَوَّز أبو البقاء وجهاً وهو أن تكونَ الواوُ زائدةً، وعلى هذا فاللامُ
405
متعلقةٌ ب» نُداوِلُها «مِنْ غيرِ تقدير شيءٍ. ولكنَّ هذا لا حاجةَ إليه، ولم يَحْتَجْ إلى زيادة الواو إلا الأخفشُ في مواضعَ ليس هذا منها، وبعضُ الكوفيين يوافِقُه على ذلك. وقَدّره الزمخشري ب» فَعَلْنا ذلك ليكونَ كيتَ وكيتَ وليَعلَمَ «، فقدَّر عاملاً وعَلَّق به علةً محذوفة عَطَف عليها هذه العلةَ. قال الشيخ:» ولم يُعَيِّنْ فاعلَ العلةِ المحذوفةِ، إنما كَنَى عنه بكيت وكيت، ولا يُكْنى عن الشيء حتى يُعْرَف، ففي هذا الوجه حَذْفُ العلةِ وحَذْفُ عامِلِها وإبهامُ فاعِلها، فالوجهُ الأولُ أظهرُ إذ ليس فيه غيرُ حَذْفِ العامل «يعني بالوجهِ الأول أَنَّه قَدَّره:» وليَعْلَمَ اللهُ فَعَلْنا ذلك «وهو المداوَلَةُ أو نَيْلُ الكفار منكم.
والعلمُ هنا يجوزُ أن يتعدَّى لواحدٍ قالوا: لأنه بمعنى عرف، وهو مُشْكِلٌ لأنه لا يجوزُ وصفُ الله تعالى بذلك لِما تقدَّم من أن المعرفة تستدعي جهلاً بالشيء، أو أنها متعلقة بالذوات دون الأحوال، ويجوز أن يكونَ متعدياً لاثنين، فالثاني محذوفٌ تقديرُه: وليعلم الذين آمنوا مميَّّزين بالإِيمان مِنْ غيرهم.
وقُرِىء شاذاً: «يُداوِلُها» بياء الغَيْبة وهو موافِقٌ لِما قبله ولِما بعده. وقراءةُ العامةِ على الالتفاتِ المفيدِ للتعظيمِ. قوله: «منكم» الظاهرُ أنَّ «منكم» متعلقٌ بالاتخاذِ، وجَوَّزوا فيه أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «شهداء» لأنه في الأصلِ صفةٌ له.
وقوله تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ : معطوفٌ على «لِيَعْلَمَ» وتكونُ الجملةُ من قولِه: ﴿والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ جملةً معترضةً بين هذه
406
العللِ. والتمحيصُ: التخليص من الشيء، وقيل: المَحْص كالفحص، ولكنّ الفحصَ يقال في إبراز شيء من أثناء ما يَخْتلط به وهو منفصل، والمَحْصُ يُقال في إبرازه عمَّا هو متصلٌ به، يقال: مَحَصْتُ الذهبَ ومَحَّصْتُه إذا أزلتُ عنه ما يَِشُوبه من خَبَثٍ. ومَحَصَ الثوبَ: إذا أَزال عنه زِئْبَرَه، ومحص الحَبْلُ أي أخلق حتى ذهب عنه زِئْبَرُه، ومَحَص الظبيُ: عدا، فَمَحَصَ بالتخفيفِ يكون قاصراً ومتعدِّياً، هكذا رَوَى الزجاج هذه اللفظةَ: «الحَبْل»، ورواها النقاش: «مَحَصَ الجملُ» إذا ذهبَ وَبَرُه/ وأَمْلَسَ، والمعنيان واضحان.
وقال الخليل: «التمحيص: التخليصُ من الشيء المَعِيب. وقيل: هو الابتلاءُ والاختبارُ» وأنشد:
١٤٤٣ - رأيْتُ فُضَيْلاً كان شيئاً مُلَفَّفَاً
فكشَّفَه التمحيصُ حتى بداليا
وروى الواحدي عن المبرد بسند متصلٍ: مَحَص الحبلُ يَمْحَصُ مَحْصاً إذا ذهب زِئْبَرُه حتى تَمَلَّص، وحَبْلٌ محيصٌ ومليص بمعنى واحد. قال: «يُسْتَحَبُّ في الفرس أن تَمَحَصَ قوائمُه أي: تَخْلُص، وأنشد ابن الأنباري على ذلك يصف فرساً:
407
١٤٤٤ - صُمِّ النُّسورِ صِحاحٍ غيرِ عاثِرَةٍ
رُكِّبْنَ في مَحِصاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ
أي: في قوائمَ متجرداتٍ من اللحم ليس فيها إلا العَظْمُ والعَصَبُ والجِلْد. قال المبردُ:» ومعنى قولِ الناس: «مَحِّصْ عَنَّا ذنوبنا» أي أَذْهِبْ ما تعلَّق بنا من الذنوب «. قال الواحدي:» وهذا الذي قاله المبرد تأويلُ المَحَصِ بفتح الحاء وهو واقعٌ، والمَحْص بسكونِ الحاء مصنوعٌ، قال الخليل: «يقال مَحَصْتُ الشيءَ أَمْحَصُه مَحَصاً إذا أَخْلَصْتَه من كلِّ عيب» وفي جَعْلِه تسكينَ الحاءِ مصنوعاً نظرٌ، لأنَّ أهلَ اللغةِ نَقَلُوه ساكنها، وهو قياسُ مصدر الثلاثي. ومَحَصْتُ السيفَ والسِّنان: جَلَوْتُهما حتى ذهب صَدَؤُهما. قال أسامة الهذلي:
١٤٤٥ - وشَقُّوا بمَمْحوص السِّنانِ فؤادَه
...........................
أي: بمَجْلُوِّ، ومنه استعير ذلك في وَصْفِ الحبل بالملاسَةِ والبَريق. قال رؤبة يصف فرساً:
١٤٤٦ - شديدُ جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ السَّوَى... والسَّواء: الظهر، قَصَره ضرورةً، سُمِع: «فَعَلْتُه حتى انقطع سَواي» أي ظهري. وقد تقدَّمت مادة «مَحَق» في البقرة.
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ﴾ : في «أم» هذه
408
أوجهٌ أظهرُها: أنها منقطعةٌ مقدَّرة ب «بل» وهمزةِ الاستفهام، ويكون معناه الإِنكارَ. وقيل: «أم» بمعنى الهمزةِ وحدَها، ومعناه كما تقدَّم: التوبيخُ والإِنكارُ، وقيل: هذا استفهامٌ معناه النهيُ قاله أبو مسلم الأصفهاني. وقيل: هي متصلةٌ. قال ابن بحر: «هي عديلةُ همزةٍ تتقدَّر مِنْ معنى ما تقدَّم، وذلك أنَّ قولَه: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾﴿وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا﴾ إلى آخر القصةِ يقتضي أن يَتَبَع ذلك: أتعلمون أنَّ التكليف يُوجِبُ ذلك أم حسبتم. و» حَسِبَ «هنا على بابها من ترجيحِ أحد الطرفين. و ﴿أَن تَدْخُلُواْ﴾ سادٌّ مسدَّ المفعولين على رأيِ سيبويه ومسدَّ الأولِ، والثاني محذوفٌ على رأيِ الأخفش.
قوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ جملةٌ حالية. وقال الزمخشري:» ولَمَّا بمعنى «لم» إلاَّ أنَّ فيه ضَرْباً من التوقع، فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يُستقبل. وتقول: «وعدني أن يفعل كذا ولَمَّا» تريد: «ولَمْ يَفْعَلُ وأنا أتوقع فِعْلَه». قال الشيخ: «وهذا الذي قاله في» لَمَّا «: أنها تَدُلُّ على توقُّع الفعلِ المنفيِّ بها فيما يُستقبل لا أَعْلَمُ أحداً من النحويين ذَكَره، بل ذكروا أنك إذا قلتَ:» لَمَّا يخرج زيد «دَلَّ ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نَفْيُه إلى وقت الإِخبار، أمَّا أنَّها تدلُّ على توقُّعِهِ في المستقبل فلا، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يقارب ما قاله الزمخشري، قال:» لَمَّا «لتعريضِ الوجودِ بخلافِ» لم «». قلت: «والنَّحْويون إنما فَرَّقوا بينهما مِنْ جهة أنَّ المنفيَّ ب لَمْ» هو فعلٌ غيرُ مقرونٍ ب «قد» و «لَمَّا» نفيٌ له مقروناً بها، وقد تَدُلُّ على التوقع، فيكونُ كلامُ الزمخشري صحيحاً من هذه الجهةِ، ويَدُلُّ على
409
ما قلته من كونِ «لم» لنَفْيِ فَعَل، و «لَمَّا» لنفي قد فَعَل نصُّ النحاة على ذلك: سيبويه فَمَنْ دونَه. وقد تقدم نظير هذه الآية في البقرة وتحقيقُ القول فيها بما يُغْني عن إعادتِه فعليك بالالتفات إليه.
وقوله: «منكم» حالٌ من «الذين». و ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ الله﴾ بكسرِ الميمِ على أصلِ التقاء الساكنين. وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها. وفيها وجهان. أحدهما: أنَّ الفتحةَ فتحةُ إتباعٍ، أتبعَ الميمَ للام قبلها والثاني: أنه على إرادةِ النونِ الخفيفةِ، والأصلُ: «ولَمَّا يَعْلَمَنْ» والمنفيُّ ب لَمَّا قد جاء مؤكداً بها كقوله:
١٤٤٧ - يَحْسَبُه الجاهلُ ما لم يَعْلما
شيخاً على كُرْسِيِّه مُعَمَّماً
فلمَّا حَذَفَ النونَ بقي آخرُ الفعل مفتوحاً كقوله:
قوله:» ويَعْلَم «العامةُ على فتحِ الميم وفيها تخريجان، أشهرهما: أنَّ الفعلَ منصوبٌ. ثم هل نصبُه ب» أَنْ «مقدرةً بعد الواوِ المقتضيةِ للجمع كهي في قولِك:» لا تأكلِ السمكَ وتَشْربَ اللبن «أي: لا تجمع بينهما وهو مذهب البصريين، أو بواو الصرف، وهو مذهب الكوفيين، يَعْنُون أنه كان مِنْ حَقِّ هذا الفعل أن يُعْرَبَ بإعراب ما قبله، فلمَّا جاءت الواو صَرَفَتْه إلى وجهٍ آخرَ من الإِعراب. وتقرير المذهبين في غيرِ هذا الموضوع.
والثاني: أنَّ الفتحةَ فتحةُ التاء ساكنين والفعلُ مجزومٌ، فلمَّا وقع بعده ساكنٌ آخرُ احتيج إلى تحريك آخره فكانت الفتحةُ أَوْلَى لأنها أخف وللإِتباع لحركة اللام، كما قيل ذلك في أحدِ التخريجين لقراءةِ: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ الله﴾ بفتح الميم، والأولُ هو الوجه.
وقرأ الحسن وابن يعمر وأبو حيوة بكسرِ الميم عطفاً على» يَعْلَمِ «المجزوم ب» لم «.
وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو بن العلاء:» وَيَعْلَمُ «بالرفع، وفيه وجهان، أظهرهما: أنه مستأنفٌ، أخبر تعالى/ بذلك. وقال الزمخشري:» على أن الواو للحال، كأنه [قال] : ولَمَّا يُجاهِدوا وأنتم صابرون. قال الشيخ: «ولا يَصِحُّ ما قال، لأنَّ واوَ الحال لا تدخل على المضارعِ،
411
لا يجوزُ:» جاء زَيدٌ ويضحك «وأنت تريد: جاء زيد يضحك، لأنَّ المضارع واقع موقع اسم الفاعل، فكما لا يجوز» جاء زيد وضاحكاً «كذلك لا يجوز: جاء زيد ويضحك، فإنْ أُوِّلَ على أنَّ المضارعَ خبرُ مبتدأ محذوف أَمْكَنَ ذلك التقديرُ أي: وهو يعلمُ الصابرين كما أَوَّلُوا قولَ الشاعر:
١٤٥٠ -..........................
نَجَوْتُ وَأَرْهُنُهمْ مالِكا
ِأي: وأنا أَرْهُنُهم» قلت: قولُه: «لا تَدْخُل على المضارعِ» هذا ليس على إطلاقِه، بل ينبغي أن يقولَ: على المضارعِ المثبت أو المنفي ب «لا» لأنها تدخُل على المضارع المنفيِّ ب لم ولما، وقد عُرِف ذلك غير مرة.
قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ﴾ : قرأ البزي بخلاف عنه بتشديد تاء «تَّمَنَّوْنَ»، ولا يمكنُ ذلك إلا في الوصلِ، وقاعدتُه أنه يَصِلُ ميم الجمعِ بواوٍ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قوله: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ [البقرة: ٢٦٧].
والضميرُ في «تَلْقَوه» فيه وجهان، أظهرُهما: عَوْدُه على الموت، والثاني: عَوْدُه على العدوِّ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ لدلالةِ الحالِ عليه.
والجمهور على كسر اللام من «قبل» ؛ لأنها معربةٌ لإِضافتِها إلى أَنْ وما في حَيِّزها أي: مِنْ قبل لقائِه. وقرأ مجاهد بن جبر: «من قبلُ» بضم اللام وقطعها عن الإِضافة كقوله: ﴿لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [الروم: ٤]، وعلى هذا ف «أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على أنها بدلُ اشتمال من الموت أي:
412
تَمَنَّون لقاء الموتِ كقولك: «رَهَبْتُ العدوَّ لقاءَه». وقرأ الزهري والنخعي: «تُلاقُوه» ومعناه معنى «تَلْقَوه» لأن «لَقِي» يستدعي أن يكونَ بين اثنين عادةً وإنْ لم يكن على المفاعلة.
قوله: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ الظاهرُ أن الرؤيةَ بصريةٌ فتكفي بمفعول واحد، وجَوَّزوا أن تكونَ عِلْمية فتحتاجَ إلى مفعول ثان هو محذوف أي: فقد علمتموه حاضراً أي: الموت، إلاَّ أنَّ حَذْفَ أحد المفعولين في باب «ظن» ليس بالسهل، حتى إنَّ بعضَهم يَخُصُّه بالضرورة كقول عنترة:
١٤٥١ - وَلَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه
مِنِّي بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي: فلا تَظُنِّي غيرَه واقعاً مني.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ حاليةً، وهي حالٌ مؤكدة رَفَعَتْ ما تحتملُه الرؤيةُ من المجاز أو الاشتراك، أي: بينهما وبين رؤية القلب، ويجوزُ أن تكونَ مستأنفةً، بمعنى: وأنتم تنظرون في فِعْلِكم الآن بعد انقضاءِ الحرب هل وَفَّيْتُم أو خالَفتم؟ وقال ابن الأنباري: «رأيتموه» أي: قابَلْتُموه وأنتم تنظُرون بعيونكم، ولهذه العلةِ ذَكَرَ النظرَ بعد الرؤية حين اختلف معناهما، لأنَّ الأولَ بمعنى المقابلة والمواجهة، والثاني: بمعنى رؤيةِ العين «وهذا غيرُ معروفٍ عند أهل اللسان، أعني إطلاقَ الرؤيةِ على المقابلة والمواجهة، وعلى تقدير صحتِه فتكونُ الجملةُ من قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ جملةً حاليةً مبينِّة لا مؤكدةً؛ لأنها أفادَتْ معنىً زائداً على معنى عاملها، ويجوز أن يُقَدَّر
413
ل» ينظرون «مفعولاً، ويجوز ألاَّ يُقَدَّر، إذ المعنى: وأنتم من أهل النظر. واللهُ تعالى أعلمُ ولله الحمد والمِنَّة/.
قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ﴾ :«ما» نافيةٌ ولا عملَ لها هنا مطلقاً أعني على لغة الحجازيين والتميميين، لأنَّ التميميين لا يُعْملونها البتة، والحجازيون يُعْملونها بشروط منها: ألاَّ ينتقضَ النفيُ ب «إلا»، إذ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله وهو شَبَهُها ب «ليس» في نفي الحال، فيكونُ «محمد» مبتدأً، و «رسول» خبرَه، هذا هو مذهب الجمهور، أعني إهمالَها إذا نُقِضَ نفيُها، وقد أجاز إعمالَها منتقضةً النفيِ بإلاَّ يونس وأنشد:
١٤٥٢ - وما الدهرُ إلا منجَنوناً بأهلِه
وما صاحبُ الحاجات إلا مُعَذَّبا
فَنَصَبَ «منجنوناً» و «مُعَذَباً» على خبرِ «ما»، وهما بعدَ «إلاَ»، ومثلُه قول الآخر:
١٥٤٣ - وما حَقُّ الذي يَعْتُو نهاراً
ويَسْرِقُ ليلَه إلاَّ نَكالا
ف «حق» اسمُ «ما» و «نَكالاً» خبرُها. وتأوَّلَ الجمهور هذه الشواهدَ على أنَّ الخبرَ محذوفٌ، وهذا المنصوبُ معمولٌ لذلك الخبر المحذوفِ
414
والتقديرُ: وما الدهرُ إلاَّ يدورُ دورانَ منجنون، فحُذِفَ الفعلُ الناصبُ ل «دوران»، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه في الإِعراب، وكذا «إلا معذباً» تقديره: يُعَذَّب تعذيباً، فَحُذِفَ الفعل وأُقيم «مُعَذَّباً» مُقامَ «تَعْذيب» كقولِه: ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: ١٩] أي: كلَّ تمزيق، وكذا «إلا نكالاً» وفيه التكلُّفِ ما ترى.
قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ في هذه الجملةِ وجهان، أظهرهما: أنها في محلِّ رفعٍ صفةً ل «رسولِ». والثاني: أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في «رسول»، وفيه نظرٌ لجريانِ هذه الصفةِ مَجْرى الجوامد فلا تتحمَّل ضميراً.
و «من قبله» : فيه وجهان أيضاً، أحدهما: أنه متعلِّقٌ ب «خَلَتْ». والثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال من «الرسل» مُقَّدَماً عليها، وهي حينئذٍ حالٌ مؤكدة، لأنَّ ذِكْرَ الخلوِّ يُشْعِرُ بالقبلية. وقرأ ابن عباس: «رسُل» بالتنكير. قال أبو الفتح: «ووجهُها أنه موضعُ تبشيرٍ لامر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر الحياة ومكانُ تسوية بينه وبين البشر في ذلك، وهكذا يُفْعل في أماكن الاقتصاد نحو: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾ [سبأ: ١٣] ﴿وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠] وقال أبو البقاء:» وهو قريب من معنى المعرفة «كأنه يُريدُ أنَّ المرادَ بالرسلِ الجنسُ، فالنكرةُ قريبةٌ منه بهذه الحيِثِيَّةِ، وقراءةُ الجمهور أَوْلى لأنَّها تَدُلُّ على تفخيمِ الرسل وتعظيمِهم.
415
قوله: ﴿أَفإِنْ مَّاتَ﴾ الهمزةُ لاستفهام الإِنكار، والفاءُ للعطف ورتبتُها التقديمُ لأنها حرفُ عطف، وإنما قُدِّمَت الهمزة لأنَّها لها صَدْرُ الكلام، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، وأنَّ الزمخشري يُقَدِّرُ بينهما فِعْلاً محذوفاً تَعْطِفُ الفاءُ عليه ما بعدَها.
وقال ابن خطيب زَمَلَّكى: «الأوْجَهُ أَنْ يُقَدَّرَ محذوفٌ بعد الهمزة وقيل الفاء تكونُ الفاءُ عاطفةً عليه، ولو صرح به لقيل: أتؤمنون به مدةَ حياته فإنْ مات ارتدَدْتم فتخالِفوا سُنَنَ اتِّباع الأنبياءِ قبلَكم في ثباتِهم على مِلَلِ أنبيائِهم بعد مَوْتِهم» وهذا هو مذهب الزمخشري، إلاَّ أنَّ الزمخشري هنا عَبَّر بعبارةٍ لا تقتضي مذهبَه الذي هو حَذْفُ جملةٍ بعد الهمزةِ فإنه قال: «الفاءُ مُعَلَّقةٌ للجملةِ الشرطيةِ بالجملةِ قبلَها على معنى التسبيبِ، والهمزةُ لإِنكار أَنْ يَجْعَلُوا خُلُوَّ الرسلِ قبلَه سبباً لانقلابِهم على أَعْقابِهم بعدَ هلاكِه بموتٍ أو قَتْلٍ، مع عِلْمِهِم أَنَّ خُلُوَّ الرسلِ قبله وبقاءَ ديِنهم مُتَمَسَّكاً به يجبُ أَنْ يُجْعَلَ سبباً للتمسك بدين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا للانقلابِ عنه» فظاهرُ هذا الكلام أنَّ الفاءَ عَطَفَتْ هذه الجملةَ المشتملة على الإِنكارِ على ما قبلها من قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مِنْ غير تقديرِ جملةٍ أخرى.
وقال أبو البقاء قريباً من هذا فإنَّه قال: «الهمزةُ عند سيبويه في موضِعها، والفاء تدلُّ على تعلُّقِ الشرطِ بما قبله». انتهى. لا يقال: إنه جَعَل الهمزةَ في موضعِها فيُوهِمُ هذا أنَّ الفاءَ ليست مُقَدَّمَةً عليها لأنه جَعَلَ هذا مقابلاً لمذهبِ يونس، فإنَّ يونس يزعم أنَّ هذه الهمزةَ في مِثْلِ هذا التركيبِ داخلةٌ على جوابِ الشرط، فهي في مَذْهَبِه [في] غيرِ موضِعها. وسيأتي تحريرُ هذا كلِّه.
416
و «إنْ» شرطيةٌ. و «ماتَ» و «انقلبتم» شرطٌ وجزاءٌ، ودخولُ الهمزةِ على أداةِ الشرطِ لا يغيِّر شيئاً مِنْ حكمِها، وزَعَم يونس أنَّ الفعلَ الثاني الذي هو جزاءُ الشرطِ ليس بجزاءٍ للشرطِ، إنما هو المُسْتَفْهَمُ عنه، وأنَّ الهمزةَ داخلةٌ عليه تقديراً فيُنْوى به التقديمُ وحينئذ فلا يكونُ جواباً، بل الجوابُ محذوفٌ، ولا بد إذ ذاك من أن يكونَ فعلُ الشرط ماضياً، إذ لا يُحْذَفُ الجوابُ إلا والشرطُ ماضٍ، ولا اعتبارَ بالشعرِ فإنه ضرورةٌ، فلا يجوزُ عندَه أَنْ تقولَ: «أإنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمْك» [لا بجَزْمهما ولا بجزم الأول ورفع الثاني] لأنَّ الشرط مضارعٌ، ولا: «أإن أكرمتني أكرمْك» بجزم «أكرمْك» لأنه ليس الجوابَ بل دالاً عليه، والنيةُ به التقديمُ، فإنْ رَفَعْتَ «أكرمك» وقلت: «أإنْ أكرَمْتَني أكرمُك» صَحَّ عنده، فالتقديرُ عند يونس: آنقلبتم على أعقابِكم إنْ ماتَ محمدٌ؟ لأنَّ الغرضَ إنكارُ انقلابِهم على أعقابِهم بعد مَوْتِه.
وبقولِ يونس قال كثيرٌ من المفسرين، فإنَّهم يقولون: ألفُ الاستفهامِ دَخَلَتْ في غير موضعها، لأنَّ الغرضَ إنما هو: أتنقلبون إنْ ماتَ محمد «. وقال أبو البقاء:» وقال يونُس: الهمزةُ في مثلِ هذا حَقُّها أَنْ تَدْخُلِ على جوابِ الشرطِ تقديرُه: «أتنقلبون إنْ مات» ؛ لأنَّ الغرضَ التنبيهُ أو التوبيخُ على هذا الفعلِ المشروط.
ومذهبُ سيبويه الحقُّ لوجهينِ، أحدهما: أنك لو قَدَّمْتَ الجوابَ لم يكن للفاءِ وجهٌ إذ لا يَصِحُّ أَنْ تقولَ: «أتزورُوني فإنْ زُرْتُكِ»، ومنه قولُه تعالى: ﴿أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون﴾ [الأنبياء: ٣٤]، والثاني: أنَّ الهمزةَ لها صدرٌ الكلام، و «إنْ» لها صدرُ الكلامِ، فقد وقعا في موضِعِهما، والمعنى يَتِمُّ بدخولِ الهمزةِ على جملةِ الشرط والجواب، لأنهما كالشيءِ
417
الواحد «انتهى. وقد رَدَّ النحويون على يونس بقوله: ﴿أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون﴾ فإنَّ الفاءَ في قولِه:» فهم «تُعَيِّنُ أن يكون جواباً للشرط. ولهذه المسألةِ موضعٌ هو أليقُ بها من هذا الكتاب. وأتى هنا ب» إنْ «التي تقتضي الشك، والموتُ أمرٌ محقق، إلا أنه أُورد مَوْرِدَ المشكوك فيه للتردُّدِ بين الموتِ والقتلِ.
قوله: ﴿على أَعْقَابِكُمْ﴾ فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه متعلِّقٌ ب» انقلبتم «. والثاني: أنه حالٌ من فاعلِ» انقلبتم «كأنه قيل: انقلبتم راجعين. وقرأ ابن أبي إسحاق:» ومَنْ ينقلِبْ علىعَقِبه «بالإِفراد. و» شيئاً «نُصِبَ على المصدرِ أي: شيئاً مِنَ الضررِ لا قليلاً ولا كثيراً. وقد تقدَّم نظيرُه.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ﴾ :«أًَنْ تموتَ» في محل رفع اسماً ل «كان». و: «لنفس» خبرٌ مقدم فيتعلَّقُ بمحذوف و ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ حالٌ من الضمير في «تموت» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، وهو استثناء مفرغ، والتقدير: وما كان لها أن تموت إلا مأذوناً لها، والباء للمصاحبة.
وقال أبو البقاء: و ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ الخبر، واللامُ للتبيينِ متعلقةٌ ب «كان». وقيل: هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: الموتُ لنفس، و «أن تموت» تبيينٌ للمحذوفِ، ولا يجوز أَنْ تتعلَّقَ اللامُ ب «تموت» لِما فيه من تقديمِ الصلةِ على الموصولِ «. وقال بعضُهم:» إنَّ «كان» زائدةٌ فيكونُ «أَنْ تموتَ» مبتدأ، و «لنفسٍ» خبره «. وقال الزجاج:» تقديرُه: وما كانت نفسٌ لتموتَ، ثم قُدِّمَتِ اللامُ «فجُعِل ما كان اسماً ل» كان «وهو» أن تموتَ «خبراً لها، وما كان خبراً وهو» لنفسٍ «اسماً لها. فهذه خمسةُ أقوالٍ، أظهرُها الأول.
418
أمَّا قولُ أبي البقاء» واللامُ للتبيين فتتعلَّقُ بمحذوفٍ «ففيه نظرٌ من وجهين، أحدُهما: أنَّ» كان «الناقصةَ لا تعمل في غيرِ اسمِها وخبرِها، ولئِنْ سُلِّم ذلك فاللامُ التي للتبيين إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ، وقد نَصُّوا على ذلك في نحوِ:» سُقياً لك «.
وأمَّا مَنْ جَعَل» لنفسٍ «متعلقةً بمحذوفٍ تقديرُه:» الموتُ لنفسٍ «ففاسِدٌ لأنه ادَّعى حَذْفَ شيءٍ لا يجوزُ، لأنه إنْ جَعَل» كان «تامةً أو ناقصةً امتنع حَذْفُ مرفوعِها لأنَّ الفاعلَ لا يُحْذَفُ، وأيضاً فإنَّ فيه حَذْفَ المصدر وإبقاءَ معمولِه وهو لا يجوزُ. وكذلك قولُ مَنْ جَعَلَ» كان «زائدةً. وأمَّا قولُ الزجاجِ فإنَّه تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ فتعودُ الأقوالُ أربعةً/.
قوله: ﴿كِتَاباً مُّؤَجَّلاً﴾ في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ الجملة التي قبلَه، فعاملُه مضمرٌ تقديرُه:» كَتَب الله ذلك كتاباً «، نحو: ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨] ﴿وَعْدَ الله﴾ [النساء: ١٢٢]، و ﴿كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]. والثاني: أنه منصوبٌ على التمييزِ. ذكره ابنُ عطية، وهذا غيرُ مستقيمٍ؛ لأنَّ التمييزَ منقولٌ وغيرُ منقولٍ، وأقسامُه محصورةٌ وليس هذا شيئاً منها. وأيضاً فأين الذاتُ المبهمةُ التي تحتاج إلى تفسير. والثالثُ: أنه منصوب على الإِغراءِ، والتقديرُ: الزَموا كتاباً مؤجلاً وآمِنوا بالقدر، وليس المعنى على ذلك.
وقرأ ورش:» مُوَجَّلاً «بالواوِ بدلَ الهمزةِ وهو قياسُ تخفيفِها.
قوله: ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ﴾ » مَنْ «مبتدأُ وهي شرطيةٌ. وفي خبرِ هذا المبتدأِ
419
الخلافُ المشهورُ. وأَدْغم أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر بخلافٍ عنه دالَ» يُرِدْ «في الثاء، والباقون بالإِظهار.
وقرأ أبو عمرو بالإِسكانِ في هاء «نؤتيه» في الموضعين وَصْلاً ووقفاً، وقالون وهشام بخلاف عنه بالاختلاسِ وَصْلاً، والباقون بالإِشباعِ وصلاً. فامَّا السكونُ فقالوا: إنَّ الهاء لَمَّا حَلَّتْ مَحَلَّ ذلك المحذوفِ أُعْطيت ما كان يَسْتَحِقُّه من السكون. وأمَّا الاختلاسُ فلاستصحابِ ما كانَتْ عليه الهاءُ قبلَ حذفِ لامِ الكلمة، فإنَّ الأصل: نُؤتيه، فَحُذِفَتْ الياءُ للجزم، ولم يُعْتَدَّ بهذا العارِض فبقيتِ الهاءُ على ما كانت عليه. وأمَّا الإِشباعُ فنظراً إلى اللفظِ لأنَّ الهاءَ بعد متحرِّكٍ في اللفظِ، وإنْ كانت في الأصلِ بعد ساكن وهو الياء التي حُذِفَتْ للجزم. والأَوْلى أَنْ يُقال: إن الاختلاسَ والإِسكانَ بعد المتحرك لغةٌ ثابتةٌ عن بني عُقَيْل وبني كلاب، حكى الكسائي: «لَهْ مالٌ وبِهْ داءٌ» بسكونِ الهاء، واختلاسِ حركتها، وبهذا يتبيَّنُ أنَّ قولَ مَنْ قال: «إسكانُ الهاءِ واختلاسُها في هذا النحو لا يجوزُ إلا ضرورةً» ليس بشيءٍ، أمَّا غيرُ بني عُقَيْل وبني كلاب فنعم لا يوجد ذلك عندهم إلا في ضرورةٍ كقولِه:
١٤٥٤ - لَهُ زَجَلٌ كأنَّهُ صَوْتُ حادٍ
إذا طَلَبَ الوسيقَةَ أو زميرُ
باختلاسِ هاء «كأنه»، وقول الآخر:
١٤٥٥ - وأشربُ الماءَ ما بي نحوه عَطَشٌ
إلاَّ لأنَّ عيونَهْ سَيْلُ وادِيها
420
بسكونِها. وجعل ابنُ عصفور أنَّ الضرورةَ في البيت الثاني أحسنُ منها في الأولِ قال: «لأنه إذهابٌ للحركةِ وصلتِها فهي جَرْيٌ على الضرورةِ إجراءً كاملاً» وإنما ذَكَرْتُ هذه التعليلاتِ لكثرة ورودِ هذه المسألة نحو ﴿يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧] و ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠]. وقُرىء: «يُؤْتِه» بياء الغائب، والضميرُ لله تعالى، وكذلك: ﴿وَسَيَجْزِي الشاكرين﴾ بالنون والياء.
قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ﴾ : هذه اللفظةُ قيل: مركبةٌ من كافِ التشبيه ومن «أيٍّ»، وحَدَثَ فيه بعد التركيب معنى التكثيرِ المفهومُ من «كم» الخبرية، ومثلُها في التركيب وإفهامِ التكثير: «كذا» في قولِهم: «له عندي كذا كذا درهماً» والأصلُ: كاف التشبيه و «ذا» الذي هو اسمُ إشارةٍ، فلمَّا رُكِّبا حَدَثَ فيهما معنى التكثير، وكم الخبريةُ و «كأيِّن» و «كذا» كلُّها بمعنى واحد، وقد عَهِدْنا في التركيب إحداثَ معنى أخرَ، ألا تَرَى أنَّ «لولا» حَدَثَ لها معنىً جديد. وكأيِّن مِنْ حقِّها على هذا أَنْ يُوقَفَ عليها بغير نونٍ، لأنَّ التنوين يُحْذَفُ وقفاً، إلا أنَّ الصحابة كتبتها: «كأيِّن» بثبوتِ النونِ، فَمِنْ ثَمَّ وَقَفَ عليهما جمهورُ القراء بالنون إتباعاً لرسم المصحف. ووقف أبو عمرو وسَوْرة بن مبارك عن الكسائي عليها: «
421
كأي» من غير نونٍ على القياس. واعتلَّ الفارسي لوقفِ النونِ بأشياءَ طَوَّل بها، منها: أنَّ الكلمة لَمَّا رُكِّبت خَرَجَتْ عن نظائِرها، فَجُعِل التنوينُ كأنه حرفُ أصلي من بنية الكلمة. وفيها لغاتٌ خمس. أحدها: كَأَيِّنْ «وهي الأصل، وبها قرأ الجماعة إلاَّ ابنَ كثير. وقال الشاعر:
١٤٥٦ - كَأَيِّنْ في المعاشِر من أُناسٍ
أخوهُمْ فوقَهم وهمُ كِرامُ
والثانية:» كائِنْ «بزنةِ» كاعِنْ «وبها قرأ ابن كثير وجماعةٌ، وهي أكثرُ استعمالاً من» كَأَيِّن «وإنْ كانت تلك الأصلَ. قال الشاعر:
١٤٥٧ - وكائن بالأباطحِ مِنْ صديقٍ
يَراني لو أُصِبْتُ هو المُصَابا
وقال:
١٤٥٨ - وكائِنْ رَدَدْنا عنكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ
...........................
واختلفوا في توجيهِ هذه القراءة فنُقل عن المبرد أنها اسم فاعل من: كان يكون فهو كائن، واستبعده مكي قال:» لاتيانِ «مِنْ» بعده ولبنائِه على
422
السكون «. وكذلك أبو البقاء قال:» وهو بعيدُ الصحة، لأنه لو كان كذلك لكان مُعْرباً، ولم يكن فيه معنى التكثير «لا يقال: هذا يُحْمَلُ على المبرد، فإنَّ هذا لازمٌ لهم أيضاً، فإنَّ البناءَ ومعنى التكثير عارضان أيضاً، لأنَّ التركيبَ عُهِد فيه مثلُ ذلك كما تقدم في» كذا «و» لولا «ونحوِهما، وأمَّا لفظٌ مفردٌ يُنقل إلى معنى ويُبْنى من غير سبب فلم يُوجَدْ له نظير. وقيل: هذه القراءةُ أصلُها» كأيِّنْ «كقراءة الجماعة إلا أنَّ الكلمةَ دخلها القلبُ فصارَتْ» كائِن «مثل» جاعِن «.
واختلفوا في تصييرها بالقلبِ كذلك على أربعةِ أوجهٍ، أحدُها: أنه قُدِّمت الياءُ المشددة على الهمزةِ فصار وزنُها كَعْلَف لأنك قَدَّمْتَ العينَ واللامَ وهما الياءُ المشددة، ثم حُذِفَتِ الياءُ الثانية لثِقَلِها بالحركة والتضعيف كما قالوا في» أيُّهما «: أيْهُما، ثم قُلِبت الياءُ الساكنة ألفاً كما قَلَبُوها في نحو:» آية «والأصل: أَيَّة، وكما قالوا: طائي، والأصل: طَيْئِي، فصارَ اللفظُ: كائِن كجاعِن كما ترى، ووزنُه» كَعْفٍ «؛ لأنَّ الفاءَ أُخِّرت إلى موضعِ اللامِ، واللامُ قد حُذِفَتْ.
الوجه الثاني: أنه حُذِفَتِ الياءُ الساكنةُ التي هي عينٌ وقُدِّمَتِ المتحركةُ التي هي لامٌ، فتأخَّرتِ الهمزةُ التي هي فاءٌ، وقُلِبَت الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَ «كائِن» ووزنُه: كَلْفٍ.
الوجه الثالث: ويُعْزى للخليل أنه قُدِّمَتْ إحدى الياءَين في موضع الهمزةِ فَحُرِّكت بحركة الهمزة وهي الفتحةُ، وصارَت الهمزةُ ساكنةً في موضعِ الياء، فتَحَرَّكتِ الياءُ وانفتح اما قبلَها فَقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى ساكنان: الألفُ المنقبلةُ
423
عن الياءِ والهمزةُ بعدها ساكنةٌ، فكُسِرت الهمزةُ على أصل التقاءِ الساكنين، وبقيت إحدى الياءين متطرفةً فأذهبها التنوينُ بعد سَلْبِ حركتِها كياءِ قاضٍ وغازٍ.
الوجه الرابع: أنه قُدِّمَتِ الياءُ المتحركةُ فانقلبت ألفاً، وبقيت الأخرى ساكنةً فحذفها التنوينُ مثل قاضٍ، ووزنُه على هذين الوجهين أيضاً كَلْفٍ لِما تقدَّم مِنْ حَذْفِ العينِ وتأخيرِ الفاء، وإنما الأعمالُ تختلف.
اللغة الثالثة: «كَأْيِن» بياء خفيفةٍ بعد الهمزة على مثالِ: كَعْيِن، وبها قرأ ابن محيصن والأشهب العقيلي، ووجْهُها أنَّ الأصلَ: كَأَيِّن كقراءة الجماعة: فَحُذِفَتْ الياء الثانيةٌ استثقالاً فالتقى ساكنان: الياءُ والتنوينُ، فكُسِرت الياءُ لالتقاءِ الساكنين ثم سَكَنَتِ الهمزةُ تخفيفاً لثقلِ الكلمةِ بالتركيبِ فصارَتْ كالكلمةِ الواحدةِ كما سَكَّنوا: «فهو» و «فهي».
اللغة الرابعة: «كَيْئِن» بياء ساكنةٍ بعدَها همزةٌ مكسورةٌ، وهذه مقلوبُ القراءةِ التي قبلَها، وقرأ بها بعضُهم.
واللغةُ الخامسةُ: «كَئِنْ» على مثال كَعٍ، ونَقَلها الداني قراءةً عن ابن محيصن أيضاً. وقال الشاعر:
١٤٥٩ - كَئِنْ مِنْ صديقٍ خِلْتُه صادقَ الإِخا
أبانَ اختباري أنَّه لي مُداهِنُ
وفيها وجهان أحدُهما: أنه حَذَفَ الياءَيْن دفعةً واحدةً لامتزاجِ الكلمتين بالتركيبِ، والثاني: أنه حَذَفَ إحدى الياءَيْن على ما تقدَّم تقريرُه، ثم حَذَف الأخرى لالتقائِها ساكنةً مع التنوينِ، ووزنُه على هذا: «كَفٍ» لِحَذْفِ العينِ واللامِ منه. /
424
واختلفوا في «أيٍّ» : هل هي مصدرٌ في الأصل أم لا؟ فذهب جماعةٌ إلى أنها ليسَتْ مصدراً وهو ظاهرُ قولِ أبي البقاء فإنه قال: «وكأيِّن الأصلُ فيه:» أي «التي هي بعض من كل، أُدْخِلَتْ عليها كافُ التشبيه» وفي عبارتهِ عن «أي» بأنها بعض من كلٍّ نظرٌ، لأنها ليست بمعنى بعض من كل، نعم إذا أُضيفت إلى معرفةٍ فحكمُها حكمُ «بعض» في مطابقةِ الخبرِ وَعُودِ الضميرِ نحو: أيُّ الرجلين قام؟ ولا تقول: «قاما»، وليست هي التي «بعض» أصلاً.
وذهب ابن جني أنها في الأصل مصدر «أَوَى يَأْوي» إذا انضمَّ واجتمع، والأصلُ: أَوْيٌ نحو: طَوَى يَطْوي طَيَّاً، الأصلُ: طَوْي، فاجتمعت الياءُ والواو وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ فَقُلِبَت الواوُ ياءً وأُدْمت في الياء، وكأنَّ ابن جني ينظر إلى معنى المادة من الاجتماعِ الذي يدل عليه «أيّ» فإنها للعمومِ، والعمومُ يستلزمُ الاجتماع.
وهل هذه الكافُ الداخلةُ على «أي» تتعلَّق بشيء كغيرها من حروف الجرِّ أم لا؟ والصحيحُ أنها لا تتعلَّقُ بشيء أصلاً لأنَّها مع «أي» صارتا بمنزلةِ كلمةٍ واحدةٍ وهي «كم»، فلم تتعلَّقْ بشيءٍ؛ ولذلك هُجِر معناها الأصلي وهو التشبيه.
وزعم الحوفي أنها تتعلَّق بعاملٍ، ولا بُدَّ من إيراد نَصِّه لتقفَ عليه فإنه كلام غريب. قال: أما العاملُ في الكاف فإن جَعَلْنَاها على حكمِ الأصل فمحمولُ على المعنى، والمعنى: أصابَتْكم كإصابةِ مَنْ تقدَّم مِن الأنبياء وأصحابِهم، وإنْ حَمَلْنا الحكمَ على الانتقالِ إلى معنى «كم» كان العاملُ بتقديرِ الابتداء وكانت في موضعِ رفع، و «قُتِل» الخبر، و «مِنْ» متعلقة بمعنى
425
الاستقرار، والتقدير الأول أَوضحُ لحَمْل الكلام على اللفظ دون المعنى بما يجب من الخفض في «أي» وإذا كانَتْ «أي» على بابها من معاملة اللفظِ ف «مِنْ» متعلقةٌ بما تعلَّقت به الكافُ من المعنى المدلولِ عليه «. انتهى.
واختار الشيخ أَنَّ» كأيِّنْ «كلمةٌ بسيطةٌ غيرُ مركبةٍ وأنَّ آخرَها نون هي من نفس الكلمة لا تنوينٌ، لأنَّ هذه الدَّعاوي المتقدمة لا يقومُ عليها دليل، والشيخُ سَلَكَ في ذلك الطريقَ الأسهلَ، والنحويون ذَكَروا هذه الأشياءَ محافظةً على أصولِهم، مع ما ينضَمُّ إلى ذلك مِنَ الفوائِدِ وتشحيذِ الذهن وتمرينِه. هذا ما يتعلَّق ب» كأيِّن «من حيث الإِفرادُ.
أمَّا ما يتعلق بها من حيث التركيب فموضعُها رفعٌ بالابتداء وفي خبرِها أربعةُ أوجه، أحدُها: أنه» قُتِل «فإنَّ فيه ضميراً مرفوعاً به يعودَ على المبتدأ والتقدير: كثيرٌ من الأنبياء قتل. قال أبو البقاء:» والجيدُ أَنْ يعودَ الضميرُ على لفظِ «كأيِّنْ» كما تقولُ: «مئة نبي قُتِل» فالضميرُ للمئة، إذ هي المبتدأ. فإنْ قلت: لو كان كذلك لأنَّثْتَ فقلت: «قُتِلَتْ. قيل: هذا محمولٌ على المعنى، لأنَّ التقديرَ: كثير من الرجال قُتِل. انتهى» كأنه يعني بغير الجيد عَوْدَه على لفظ «نبي»، فعلى هذا يكون «معه ربِّيُّون» جملةً في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في «قُتِل» [وهو أَوْلَى لأنه من قبيلِ المفردات، وأصلُ الحالِ والخبرِ والصفة أن تكونَ مفردةً]. ويجوزُ أَنْ يكونَ «معه» وحده هو الحالَ و «رِبِّيُّون» فاعلٌ به، ولا يَحْتاج هنا إلى واوِ الحال لأنَّ الضمير هو الرابطُ، أعني الضمير في «معه»، ويجوز أن يكونَ حالاً من «نبي» وإن كان نكرة لتخصيصه بالصفةِ حينئذ، ذكره مكي، وعَمِل الظرفُ هنا لاعتمادِه على ذي
426
الحال.
قال الشيخ: «هي حكايةُ حالٍ ماضيةٍ فلذلك ارتفع» ربِّيُّون «بالظرف وإن كان العاملُ ماضياً لأنه حكى الحال الماضية كقوله تعالى: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ﴾ [الكهف: ١٨] وهذا على رأي البصريين، وأما الكسائي فيُعْمِل اسمَ الفاعلِ العاري من أل مطلقاً». وفيه نظرٌ لأنَّا لا نسلِّم أنَّ الظرفَ يتعلق باسم فاعل حتى يَلزمَ عليه ما قال من تأويله اسمَ الفاعل بحال ماضية، بل نَدَّعي تعلقَه بفعل تقديره: استقر معه ربيون.
الوجه الثاني: أن يكون «قُتِل» جملةً في محل جر صفةً ل «نبي» و «معه ربيون» هو الخبر، ولك الوجهان المتقدمان في جعله حالاً، أعني إن شئت أن تجعل «معه» خبراً مقدماً و «ربيون» مبتدأً مؤخراً، والجملةُ خبر «كأين»، وإن شئت أن تجعلَ «معه» وحدَه هو الخبرَ، و «ربيون» فاعلٌ به، لاعتمادِ الظرف على ذي خبر.
الوجه الثالث: أن يكونَ الخبرُ محذوفاً تقديره: «في الدنيا» أو «مضى» او «صائر» ونحوه، وعلى هذا فقولُه: «قتل» في محلِّ جر صفة ل «نبي»، و «معه ربيون» حال من الضمير في «قتل» على ما تقدم تقريره، ويجوز أن يكون «معه ربيون» صفةً ثانية ل «نبي» وُصِفَ بصفتين: بكونه «قتل» وبكونه «معه ربيون».
الوجه الرابع: أن يكون «قُتِل» فارغاً من الضمير مسنداً إلى «ربيون»، وفي هذه الجملة حينئذ احتمالان، أَحدُهما: أن تكونَ خبراً ل «كائن»، والثاني: أن تكونَ في محلِّ جر صفة ل «نبي»، والخبر محذوف على ما تقدَّم، وادِّعاءُ حذفِ الخبرِ ضعيفٌ لاستقلال الكلام بدونه. وقال
427
أبو البقاء: «ويجوزُ أَنْ يكونَ» قُتِل «صفة لربيين، فلا ضمير فيه على هذا، والجملة صفة» نبي «ويجوز أن تكون خبراً، فيصير في الخبر أربعةُ أوجه، ويجوزُ أن تكونَ صفة ل» نبي «والخبرُ محذوفٌ على ما ذكرنا». أَمَّا قولُه «صفة ل» ربيين «يعني أن القتل من صفتهم في المعنى. وقوله:» فيصير فيه أربعة أوجه «يعني مع ما تقدَّم له من أوجهٍ ذكرَها. وقولُه: فلا ضميرَ فيه على هذا، والجملةُ صفةُ نبي» غلطٌ لأنَّه يبقى المبتدأ بلا خبرٍ.
فإنْ قلت: إنَّما يزعم هذا لأنهُ يُقَدِّر خبراً محذوفاً. قلت: قد ذَكَر هذا وجهاً آخرَ حيث قال: «ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل» نبي «والخبرُ محذوفٌ على ما ذكرنا».
ورَجَّح كونَ «قُتِل» مسنداً إلى ضميرِ النبي أنَّ القصةَ بسبب غزوة أحد وتجادل المؤمنين حين قيل: إنَّ محمداً قد مات مقتولاً، ويؤيِّدهُ قولُه: ﴿أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ [آل عمران: ١٤٤] وإليه ذهب ابن عباسِ والطبري وجماعةٌ، وعن ابن عباس في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ [آل عمران: ١٦١] :«النبي يُقْتل فكيف لا يُخان. وذهب الحسن وابن جبير وجماعة إلى أنَّ القَتْلَ للربّيّين قالوا: لأنه لم يُقْتَل نبيٌّ في حربٍ قط. ونَصَر الزمخشري هذا بقراءة» قُتِّل «بالتشديد، يعني أن التكثير لا يتأتَّى في الواحد وهو النبي. وهذا الذي ذَكَره الزمخشري سَبَقَهُ إليه ابن جني، وسيأتي تأويل هذا.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو:» قُتِل «مبنياً للمفعول، وقتادة كذلك
428
إلا أنه شدَّد التاء، وباقي السبعة:» قاتَل «، وكلٌّ مِنْ هذه الأفعال يَصْلُح أَنْ يرفعَ ضمير» نبي «وأن يرفعَ ربِّيِّين على ما تقدَّم تفصيلُه. وقال ابن جني:» إنَّ قراءة «قُتِّل» بالتشديد يتعيَّن أن يُسْنَدَ الفعل فيها إلى الظاهر، أعني ربيين. قال: «لأنَّ الواحدَ لا تكثيرَ فيه». قال أبو البقاء: «ولا يمتنعُ أنْ يكونَ فيه ضمير الأول لأنه في معنى الجماعة» انتهى. يعني أنَّ «من نبي» المرادُ به الجنسُ فالتكثيرُ بالنسبة لكثرةِ الأشخاصِ لا بالنسبةِ إلى كلِّ فردٍ فردٍ، إذ القتلُ لا يتكثَّر في كلِّ فرد. وهذا الجوابُ الذي أجابَ به أبو البقاء استشعر به أبو الفتح وأجابَ عنه. قال: «فإِنْ قيل: يُسْنَدُ إلى» نبي «مراعاةً لمعنى» كم «فالجوابُ: أنَّ اللفظَ قد فَشَا على جهةِ الإِفرادِ في قوله: ﴿مِّن نَّبِيٍّ﴾، ودلَّ الضميرُ المفردُ في» معه «على أن المرادَ إنما هو التمثيلُ بواحدٍ، فخرج الكلامُ عن معنَى» كم «. قال:» وهذه القراءةُ تُقَوِّي قولَ مَنْ قال: إنَّ «قُتِل» و «قاتَل» يُسْندان إلى الربِّيِّين.
قال الشيخ: «وليس بظاهر لأنَّ» كأين «مثلُ» كم «، وأنت إذا قلت:» كم مِنْ عانٍ فككتُه « [فأفرَدْتَ] راعَيْت لفظَها، ومعناها جَمعٌ، فإذا قلت:» فَكَكْتُهم «راعيتَ المعنى، فلا فرق بين» قُتل معه ربيون «و» قُتِل معهم رِبِّيُّون «، وإنما جاز مراعاةُ اللفظِ تارةً والمعنى أخرى في» كم «و» كأين «لأنَّ معناهما» جَمْعٌ «، و» جَمْعٌ «يجوزُ فيه ذلك، قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٤-٤٥] فراعى اللفظَ في قولِه «منتصِرٌ» والمعنى في قوله: «يُوَلُّون».
429
ورجَّح بعضُهم قراءةَ «قاتل» لقوله بعد ذلك: ﴿فَمَا وَهَنُواْ﴾ قال: «وإذا قُتِلوا فكيف يُوصفون بذلك؟ إنما يُوصف بهذا الأحياءُ، والجوابُ: أنَّ معناه» قُتِل بعضُهم «، كما تقول:» قُتل بنو فلان في وقعة كذا ثم انتصروا «. وقال ابن عطية:» قراءةُ مَنْ قرأ «قاتل» أعمُّ في المدح، لأنه يدخُل فيها مَنْ قُتِل ومَنْ بقي، ويحسُنُ عندي على هذه القراءةِ إسنادُ الفعلِ إلى الربِّيِّين، وعلى قراءة «قُتِل» إسنادُه إلى «نبي». قال الشيخ: «بل» قُتِل «أمدحُ/ وأبلغُ في مقصودِ الخطاب، فإنَّ» قُتِل «يستلزم المقاتلة من غير عكس».
وقوله: ﴿مِّن نَّبِيٍّ﴾ تمييز ل «كأيِّن» لأنها مثل «كم» الخبرية. وزعم بعضُهم أنه يلزمُ جَرُّه ب «مِن»، ولهذا لم يَجِيءْ في التنزيل إلا كذا، وهذا هو الأكثرُ الغالِبُ كما قال، وقد جاء تمييزها منصوباً قال:
١٤٦٠ - اطرُدِ اليأسَ بالرجاء فكائِنْ
آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بعدَ عُسْرِ
وقال آخر:
١٤٦١ - وكائِنْ لنا فَضْلاً عليكم ورحمةً
قديماً ولا تَدْرُون ما مَنُّ مُنْعِمِ
وأمَّا جرُّه فممتنع لأنَّ آخرَها تنوينٌ وهو لا يَثْبُتُ مع الإِضافةِ.
والربيُّون: جمعُ «رِبِّي» وهو العالمُ منسوبٌ إلى الرَّبِّ، وإنما كُسرت راؤه تغييراً في النسب نحو: «إمْسِيّ» بالكسرِ منسوبٌ إلى «أَمْس». وقيل: كُسِر للإِتباع، وقيل: لا تغييرَ فيه وهو منسوبٌ إلى الرُّبَّة وهي الجماعةُ. وهذه
430
القراءةُ بكسرِ الراء قراءة الجمهور، وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس والحسن: «رُبِّيُّون» بضمِّ الراء، وهو من تغيير النسب إنْ قلنا هو منسوبٌ إلى الرَّبِّ، وقيل: لا تغييرَ وهو منسوب إلى الرُّبَّة وهي الجماعةُ، وفيها لغتانِ: الكسر والضم، وقرأ ابن عباس في رواية قتادة: «رَبِّيُّون» بفتحِها على الأصل، إنْ قلنا: منسوبٌ إلى الرَّبِّ، وإلاَّ فَمِنْ تغييرِ النسب إنْ قلنا: إنَّه منسوبٌ إلى الرُّبَّة. قال ابن جني: «والفتحُ لغة تميم». وقال النقاش: هم المُكْثِرون العلمَ من قولهم: «رَبا يربُو» إذا كَثُر «. وهذا سَهْوٌ منه لاختلافِ المادتين، لأنَّ تَيْكَ من راء وباء وواو، وهذه من راء وباء مكررةٍ. و» كثيرٌ «صفة ل» ربّيّون «وإنْ كان بلفظِ الإِفراد لأنَّ معناه جمعٌ.
قوله: ﴿فَمَا وَهَنُواْ﴾ الضميرُ في» وَهَنوا «يعودُ على الرِّبِّيين بجملتهم إنْ كان» قُتِل «مسنداً إلى ضمير النبي، وكذا في قراءة» قاتل «سواء كان مسنداً إلى ضمير النبي أو إلى الربِّيِّين، وإنْ كان مسنداً إلى الربيين فالضميرُ يعودُ على بعضِهم، وقد تقدَّم ذلك عند الكلام في ترجيح قراءة» قاتل «.
والجمهورُ على «وَهَنوا» بفتحِ الهاء، والأعمش وأبو السَّمَّال بكسرِها، وهما لغتان: وَهَن يَهِنُ، كوعَد يَعِدُ، ووَهِنَ يَوْهَن كوَجِل يَوْجَل، ورُوِي عن أبي السَّمَّال أيضاً وعكرمة: «وَهْنوا» بكسونِ الهاء، وهو من تخفيفِ فَعِل لأنه حرفُ حلق نحو: نَعْم وشَهْد في: نَعِم وشَهِد.
و «لَمَّا» متعلِّقٌ ب «وَهَنوا»، و «وما» يجوزُ أَنْ تَكونَ موصولةً اسميةً أو مصدريةً أو نكرةً موصوفةً. والجمهورُ قرؤوا: «ضَعُفوا» بضمِّ العَيْن،
431
وقُرىء: «ضَعَفوا» بفتحها، وحكاها الكسائي لغةً.
وقوله: ﴿وَمَا استكانوا﴾ فيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: أنه استَفعل من الكونِ، والكونُ: الذُّلُّ، وأصلُه: اسْتَكْوَن، فَنُقِلَتْ حركةُ الواو على الكاف، ثم قُلِبَتِ الواوُ ألفاً. وقال الأزهري وأبو عليّ: «هو من قول العرب:» بات فلان بِكَيْنَةِ سوءٍ «على وزِن» جَفْنة «أي: بحالةِ سوءٍ» فألفُه على هذا من ياءِ، والأصلُ: اسْتَكْيَنَ، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختها.
الثالث: قال الفراء: «وزنُه افْتَعَل من السكون، وإنما أُشْبعت الفتحةُ فتولدُ منها ألفٌ كقوله:
١٤٦٢ - أعوذُ باللهِ من العَقْرابِ
الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنَابِ
يريد: العَقْرَب الشائلةَ». ورُدَّ على الفراء بأنَّ هذه الألفَ ثابتةٌ في جميع تصاريفِ الكلمةِ نحو: استكانَ يَسْتكين فهو مُسْتَكِين ومُسْتَكان إليه استكانةً، وبأنَّ الإِشباعَ لا يكونُ إلا في ضرورةٍ. وكلاهما لا يَلْزَمُه: أمَّا الإِشباعُ فواقعٌ في القراءاتِ السبعِ كما سيمرُّ بك، وأمَّا ثبوتُ الألفِ في تصاريف الكلمةِ فلا يَدُلُّ أيضاً؛ لأنَّ الزائد قد يلزَمُ ألا ترى أنَّ الميمَ في تَمَنْدل وتَمَدْرَعَ زائدةٌ، ومع ذلك هي ثابتةٌ في جميعِ تصاريفِ الكلمة قالوا: تَمَنْدل يَتَمَنْدَلُ تَمَنْدُلاً فهو مُتَمَنْدِلٌ ومُتَمَنْدَلٌ به، وكذا تَمَدْرَع، وهما من النَّدْل والدِّرْع. وعبارةُ أبي البقاء أحسنُ في الردِّ فإنه قال: «لأنَّ الكلمة في جميعِ تصاريفِها ثبتَتْ عينُها والإِشباعُ لا يكونُ على هذا الحدِّ».
432
ولم يَذْكُر متعلِّقَ الاستكانة والضعف فلم يَقُل «فما ضَعُفُوا عن كذا، وما استكانوا لكذا» للعمل به أو للاقتصارِ على الفعلين نحو: ﴿كُلُواْ واشربوا﴾ [البقرة: ٦٠] لِيَعُمَّ ما يَصْلُحُ لهما.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾ : الجمهورُ على نصبِ «قولَهم» خبراً مقدماً، والاسمُ هو «أَنْ» وما في حَيِّزها تقديرُه: وما كان قولَهم إلا قولُهم هذا الدعاءَ، أي: هو دَأْبُهم ودَيْدَنُهم. وقرأ ابن كثير وعاصم في روايةٍ عنهما برفع «قولُهم» على أنه اسم، والخبر «أَنْ» وما في حَيِّزها. وقراءةُ الجمهور أَوْلى؛ لأنه إذا اجتمعَ معرفتان فالأَوْلى أن يُجْعَل الأعرفُ اسماً، و «أن» وما في حَيِّزها أعرفُ، قالوا: لأنها تُشْبِهُ المُضْمَرَ مِنْ حيثُ إنها لا تُضْمَرُ ولا تُوصَفُ ولا يُوصف بها، و «قولهم» مضافٌ لمضمرٍ فهو في رتبة العَلَم فهو أقلُّ تعريفاً.
ورَجَّح أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين، أحدهما هذا، والآخر: أنَّ ما بعد «إلاَّ» مُثْبَتٌ، والمعنى: كان قولُهم: ربنا اغفر لنا دَأْبَهم في الدعاء وهو حسن، والمعنى: وما كان قولُهم شيئاً من الأقوال إلا هذا القولَ الخاص.
و ﴿في أَمْرِنَا﴾ يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بالمصدر قبله يقال: أَسْرَفْت في كذا. والثاني: أنه يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حال منه أي: حالَ كونِه مستقراً في أمرنا، والأولُ أَوْجَهُ.
قوله تعالى: ﴿بَلِ الله مَوْلاَكُمْ﴾ : مبتدأ وخبر، وقرأ الحسن: «اللهَ» بنصب الجلالة على إضمار فعل يَدُلُّ عليه الشرط الأول، والتقدير: «لا تُطيعوا الذين كفروا بل أطيعوا الله». و ﴿مَوْلاَكُمْ﴾ صفته. قال مكي: «وأجاز الفراء: بل اللهَ بالنصب» كأنه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة.
قوله تعالى: ﴿سَنُلْقِي﴾ : الجمهورُ بنون العظمة وهو التفات من الغيبة في قوله: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الناصرين﴾، وذلك لتنبيه على عِظَم ما يُلقيه تعالى. وقرأ أيوب السختياني: «سيُلقي» بالغيبة جَرْياً على الأصل. وقُدِّم المجرورُ على المفعول به اهتماماً بذكر المحلِّ قبل ذِكْرِ الحالِّ. والإِلقاء هنا مجاز لأن أصله في الأجرام، فاستعير هنا كقوله:
١٤٦٣ - هما نَفَثا في فِيِّ مِنْ فَمَوَيْهِما
على النابحِ العاوي أشدُّ رِجامِ
وقرأ ابن عامر والكسائي: «الرُّعُب» و «رُعُباً» بالضم، والباقون بالإِسكان. فقيل: لغتان، وقيل: الأصلُ الضمُّ وخُفِّف، وهذا قياسٌ
434
مُطَّرد، وقيل: الأصلُ السكونُ، وضُمَّ إتباعاً كالصُّبْح والصُّبُح، وهذا عكسُ المعهودِ من لغةِ العرب.
[والرعبُ: الخَوْفُ. يقال: رَعَبْتُه فهو مَرْعُوب، وأصلُه من الامتلاء، يقال: رَعَبْتُ الحوض أي: ملأتُه، وسيل راعِب، أي: ملأ الوادي. والسلطان: الحُجَّة والبرهان، واشتقاقُه: إمَّا مِنْ سَلِيط السِّراج الذي يُوقَدُ به...... ، لإِنارتِه ووضوحه، وإمَّا من السَّلاطة وهي الحِدَّةُ والقَهْر].
و ﴿فِي قُلُوبِ﴾ متعلِّقٌ بالإِلقاءِ. وكذلك ﴿بِمَآ أَشْرَكُواْ﴾، ولا يَضُرُّ تعلُّق الحرفين لاختلافِ معناهما، فإنَّ «في» للظرفية والباءَ للسببية. و «ما» مصدريةٌ. و «ما» الثانيةٌ مفعولٌ به ل «أشْركوا»، وهي موصولةٌ بمعنى الذي، أو نكرةٌ موصوفة. والراجعُ الهاءُ في «به»، ولا يجوز أن تكونَ مصدريةً عند الجمهور لعَوْد الضمير عليها. وتَسَلَّط النفيُ على الإِنزال لفظاً والمقصودُ نفيُ السلطان، أي: الحُجَّة، كأنه قيل: لا سلطانَ على الإِشراكِ فَيُنَزَّلَ كقوله:
١٤٦٤ -.......................
ولا تَرَى الضَبَّ بها يَنْجَحِرْ
أي: لا ينجحر الضبُّ بها فيُرى، وقولِه:
١٤٦٥ - على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمَنارِه
........................
أي: لا منارَ له فيُهْتدى به، فالمعنى على نفيِ السلطان والإِنزالِ معاً. و «سلطاناً» مفعول ل «يُنَزِّل».
435
وقوله: ﴿وَبِئْسَ مثوى الظالمين﴾ المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: مثواهم، أو النار. والمَثْوى: مَفْعَل من ثَوَيْتُ أي: أَقَمْتُ، فلامه ياء، وقُدِّم المأوى وهو المكان الذي يَأْوي إليه الإِنسان على المَثْوى وهو مكانُ الإِقامةِ، لأنه على الترتيبِ الوجودي يأوي ثم يَثْوي، ولا يلزم من المأوى الإِقامةُ، بخلافِ عَكْسِه.
قوله تعالى: ﴿صَدَقَكُمُ﴾ :«صَدَقَ» يتعدَّى لاثنين، أحدهما بنفسِه والآخرُ بالحرفِ، وقد يُحْذَفُ كهذهِ الآيةِ، والتقدير: صَدَقَكم في وعدِه كقولهم: «صدقتُه الحديث»، و «في الحديث». و «إذ تَحُسُّونهم» معمولٌ ل «صَدَقَكم» أي: صَدَقَكم في ذلك الوقت، وهو وقتُ حَسِّهم أي قَتْلِهم. وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله: «وعدَه»، وفيه نظرٌ لأنَّ الوعدَ متقدم على هذا الوقت. يقال: «حَسَسْتُه أَحُسُّه» أي: قتلتُه. وقرأ أبو عبيد: «تُحِسُّونهم» رباعياً أي: أذهبتم حِسَّهم بالقتل. و «بإذنه» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حال من فاعل «تُحِسُّونهم» أي: تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك/.
قوله: ﴿حتى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ في «حتى» هذه قولان، أحدهما: أنها حرف جر بمعنى «إلى» وفي متعلَّقها حينئذ ثلاثة أوجه: أحدها: أنها متعلقةٌ ب «تَحُسُّونهم» أي: تقتلونهم إلى هذا الوقت. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «صدقكم»، وهو ظاهرُ قول الزمخشري قال: «ويجوز أن يكونَ المعنى: صَدَقَكم اللهُ وعدَه إلى وقت فشلكم». والثالث: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ دَلَّ عليه السياق، قال أبو البقاء: «تقديره: دامَ لكم ذلك إلى وقتِ فشلكم».
436
القول الثاني: أنها حرفُ ابتداءٍ داخلةٌ على الجملة الشرطية، و «إذا» على بابها من كونها شرطية، وفي جوابها حينئذ ثلاثة أوجه، أحدها: أنه «وتنازعتم» قال الفراء: «وتكونُ الواوُ زائدةً». والثاني: أنه «ثُمَّ صَرَفَكُم» و «ثُمَّ» زائدةٌ، وهذا القولان ضعيفان جداً. والثالث وهو الصحيح: أنه محذوفٌ، واختلفت عبارتهم في تقديره، فقدَّره ابن عطية: «انهزمتم»، وقَدَّره الزمخشري: «مَنَعَكم نَصْرَه»، وقَدَّره أبو البقاء: «بان لكم أمرُكم»، ودل على ذلك قوله: ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة﴾، وقَدَّره غيره: «امتُحِنْتُم»، وقَدَّره الشيخ: «انقسمتم إلى قسمين، وَيَدُلُّ عليه ما بعده، وهو نظير: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ﴾ [لقمان: ٣٢]. قال الشيخ:» لا يُقال كيف يقال: انقسمتم إلى مريدِ الدنيا وإلى مريد الآخرة فيمَنْ فَشِل وتنازع وعصى؛ لأنَّ هذه: الأفعالَ لم تصدُرْ من كلِّهم بل من بعضِهم «.
واختلفوا في» إذا «هذه، هل هي على بابها أم بمعنى» إذ «؟ والصحيح الأول سواءً قلنا إنها شرطيةً أم لا.
قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ﴾ عطفٌ على ما قبله، والجملتان من قوله: ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة﴾ اعتراضٌ بين المتعاطفين. وقال أبو البقاء:» ثم صرفكم «معطوفٌ على الفعل المحذوف» يعني الذي قَدَّره جواباً للشرط، ولا حاجة إليه. «وليبتليَكم» متعلِّقٌ ب «صرفكم» و «أََنْ» مضمرةٌ بعد اللام.
قوله تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ : العاملُ في «إذ» قيل: مضمر أي: اذكروا. وقال الزمخشري: «صَرَفَكم إذ ليبتلِيَكم». وقال أبو البقاء: «ويجوز أن تكونَ ظرفاً ل» عَصَيْتُم «أو» تنازَعْتم «أو فَشِلتم». وقيل: «هو ظرفٌ ل» عفَا عنكم «. وكلُّ هذه الوجوهِ سائغةٌ، وكونُه ظرفاً ل» صرفكم «جيدٌ من جهة المعنى، ول» عفا «جيدٌ من جهة القرب. وعلى بعض الأقوال تكونُ المسألة من باب التنازع، وتكون على إعمالِ الأخير منها لعدم الإِضمار في الأول، ويكون التنازُع في أكثر من عاملين.
والجمهور على» تُصْعدون «بضم التاء وكسر العين من أصْعد في الأرض إذا ذهب فيها، والهمزة فيه للدخول نحو:» أصْبح زيدٌ «أي: دخل في الصباح، فالمعنى: إذ تَدْخُلون في الصُّعود، ويبيِّن ذلك قراءةُ أُبيّ:» تُصْعِدون في الوادي «. والحسن والسلمي:» تَصْعَدون «من صَعِد في الجبل أي رَقِي، والجمع بين القراءتين: أنهم أولاً أَصْعَدوا في الوادي، ثم لَمَّا حَزَبهم العدوُّ صَعِدوا في الجبل، وهذا على رأي مَنْ يفرِّقُ بين: أَصْعَدَ وصَعِد. وأبو حيوة:» تَصَعَّدُون «بالتشديد، وأصلها: تَتصَعَّدون، فحُذفت إحدى التاءين: إمَّا تاءُ المضارعة أو تاء تَفَعَّل، والجمع بين قراءته وقراءة غيره كما تقدم. والجمهور» تُصْعِدون «بتاء الخطاب، وابن محيصن ويروى عن ابن كثير بياء الغَيْبة على الالتفات وهو حسن، ويجوز أن يعود الضمير على المؤمنين أي: والله ذو فضل على المؤمنين إذ يُصْعِدون، فالعامل في إذ:» فَضْل «.
438
يقال: أصعد: أبعد في الذهاب، قال القتبي:» كأنه أبعد كإبعاد الارتفاع «قال الشاعر:
١٤٦٦ - ألا أيُّهذا السائلي أينَ أَصْعَدَتْ
فإنَّ لَها في أهل يَثْربَ مَوْعدا
وقال آخر:
١٤٦٧ - قد كُنْتِ تبكين على الإِصعادِ
فاليومَ سُرِّحْتِ وصاح الحادي
وقال الفراء وأبو حاتم:» الإِصعادُ: ابتداء السفر والمخرج، والصعود مصدر صَعِد [إذا] رَقِي من سُفْل إلى علوّ «ففرَّقوا هؤلاء بين صَعِد وأَصْعد. وقال المفضل:» صَعِد وصَعَّد وأَصْعد بمعنى واحد، والصعيدُ وجهُ الأرض «. ﴿وَلاَ تَلْوُونَ﴾ الجمهورُ على» تلْوون «بواوين. وقُرىء بإبدال الأولى همزة كراهيةَ اجتماعِ واوين، وليس بقياس لكونِ الضمَّةِ عارضةً، والواوُ المضمومةُ تُبْدَلُ همزةً بشروط تقدَّم ذكرها في البقرة: ألاَّ تكونَ الضمةُ عارضةً كهذه الكلمة، وألاَّ تكونَ مزيدة نحو:» تَرَهْوَك «، وألاَّ يمكنَ تخفيفُها نحو:» سُوُر «و» نُوُر «جمعُ سِوار ونُوار لأنه يمكن تسكينها فتقول: سُوْر ونُوْر
439
فيخِفُّ اللفظ بها، وألاَّ يُدْغَم فيها نحو:» تَعَوُّد «مصدر تَعَوَّدَ، فنحُو» فُوُوج «يَطَّرد إبدالُه لاستكمال الشروط.
ومعنى لا تَلْوون: لا تَرْجعون، يقال: «لَوَى به» [أي] : ذهب به، ولَوَى عليه: عَطَف. قال:
١٤٦٨ -..........................
أخو الجَهْد لا يَلْوي على مَنْ تَعَذَّرا
وأصل تَلْوون: تَلْوِيُون فأُعِلَّ بحذفِ اللام، وقد تقدَّم في قوله: ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾ [آل عمران: ٧٨].
وقرأ الأعمش: ورُوِيَتْ عن عاصم «تُلْوون» بضم التاء. من أَلْوى وهي لغةٌ في «لَوَى» ففَعَل وأفْعَلَ بمعنىً. وقرأ الحسن: «تَلُون» بواو واحدة، وخَرَّجوها على أنه أَبدلَ الواوَ همزةً، ثم نَقَل حركةَ الهمزةَ على اللام ثم حَذَف الهمزةَ على القاعدة، فلم يَبْقَ من الكلمة إلا الفاءُ وهي اللامُ. وقال ابن عطية: «وحُذِفَتْ إحدى الواوين للساكنين»، وكان قد قَدَّم أن هذه القراءةَ مركبةٌ على لغة مَنْ يهمزُ الواو وينقل الحركة، وهذا عجيبٌ بعد أَنْ يجعلَها من باب نَقْل حركة الهمزة كيف يعود يقول: حُذفت إحدى الواوين؟
440
ويمكنُ تخريجُ قراءةِ الحسن على وجهين آخرين، أحدُها: أَنْ يُقالَ: استُثْقِلَتِ الضمةُ على الواوِ لأنها أختُها، فكأنه اجتمعَ ثلاثةُ واوات، فَنُقلت الضمة إلى اللام فالتقى ساكنان: الواو التي هي عين الكلمة والواو التي هي ضمير، فحُذفت الأولى لالتقاء الساكنين، ولو قال ابن عطية هكذا لكان أَوْلى. والثاني: أن يكونَ «تَلُون» مضارَع «ولِيَ كذا» من الوِلاية، وإنما عُدِّي ب «على» لأنه ضُمِّن معنى العطف.
وقرأ حميد بن قيس: «على أُحُد» بضمتين، يريد الجبل، والمعنى على مَنْ في جبل أحد، وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن عطية: «والقراءةُ الشهيرة أقوى لأنه لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرَّ الناس عنه، وإصعادُهم إنما كان وهو يَدْعوهم».
قوله: ﴿والرسول يَدْعُوكُمْ﴾ مبتدأٌ وخبر في محلِّ نصب على الحال، العامل فيها: «تَلْوُون».
قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه معطوفٌ على «تُصْعِدون» و «تَلْوون»، ولا يَضُرُّكونُهما مضارعين، لأنهما ماضيان في المعنى، لأنَّ «إذ» المضافة إليهما صَيِّرتهما ماضيين، فكأن المعنى: إذا صَعِدتم وأَلْويتم. والثاني: أنه معطوفٌ على «صَرَفكم». قال الزمخشري: «فأثابكم» عطفٌ على «صَرَفَكم». وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصلِ. وفي فاعِله قولان، أحدُهما: أنه الباري تعالى، والثاني: أنه النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الزمخشري: «ويجوز أَنْ يكونَ الضميرُ في» فأثابكم «للرسولِ، أي: فآساكم في الاغتمامِ، وكما غَمَّكم ما نَزَل به من كسرِ رباعيته غَمَّه ما نَزَل بكم من فَوْتِ الغنيمة.
441
و» غَمَّاً «مفعولٌ ثانٍ، و» بغمٍّ «يجوزُ في الباءِ أوجهٌ، أحدها: أن تكونَ للسببية، على معنى أنَّ متعلَّق الغم الأول الصحابة، ومتعلَّق الغمِّ الثاني قَتْلُ المشركين يوم بدر، والمعنى: فأثابكم غَمَّاً بالغمِّ الذي أَوْقعه على أيديكم بالكفار يوم بدر.
وقيل: «متعلَّقُ الغمِّ الرسولُ، والمعنى: أذاقكم الله غَمَّاً بسبب الغَمِّ الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشَلِكم، أو فأثابكم الرسولُ، أي: آساكم غَمَّاً بسبب غمٍ اغتممتموه لأجله. والثاني: أن تكونَ الباءُ للمصاحبة أي: غَمَّاً مصاحباً لغَمٍّ، ويكون الغَمَّان للصحابة، فالغَمُّ الأول الهزيمة والقتل. والثاني: إشرافُ خالد بخيل الكفار، أو بإرجاف قتل الرسول عليه السلام، فعلى الأول تتعلَّق الباء ب» أَثَابكم «. قال أبو البقاء:» وقيل: المعنى بسبب غَمٍّ، فيكونُ مفعولاً به «. وعلى الثاني تتعلَّقُ بمحذوفٍ، لأنه صفةٌ لغَمّ، أي: غَمَّاً مصاحِباً لغَمٍّ، أو مُلْتَبِساً بغَمٍّ. وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ الباءُ بمعنى» بعد «أو بمعنى» بَدَل «، وجَعَلَها في هذين الوجهين صفةً ل غَمَّا»، وكونُها بمعنى «بعد» و «بدل» بعيدٌ، وكأنه يريد تفسيرَ المعنى، وكذا قال الزمخشري: «غَمَّاً بعد غم».
وقوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ هل هو حقيقةٌ أو مجاز؟ فقيل: مجاز، كأنه جَعَلَ الغَمَّ قائماً مقام الثواب/ الذي كان يحصُل لولا الفِرارُ، فهو كقوله:
١٤٦٩ - أخافُ زياداً أَنْ يكونَ عَطاؤُه
أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرا
442
وقوله:
١٤٧٠ -.......................
تحيةُ بيْنِهم ضَرْبٌ وَجِيعُ
جعل القيودَ والسياطَ بمنزلة العطاء، والضربَ بمنزلة التحية. وقال الفراء: «الإِثابَةُ هنا بمعنى المعاقبة، وهو يَرْجِعُ إلى المجاز».
قوله: ﴿لِّكَيْلاَ﴾ هذه لامُ «كي»، وهي لام جر، والنصبُ هنا ب «كي» لئلا يلزمَ دخولَ حرفِ جر على مثله. وفي متعلَّق هذه اللامِ قولان، أحدُهما: أنه «فأثابكم»، وفي «لا» على هذا وجهان، أحدهما: أنها زائدةٌ، لأنه لا يترتَّبُ على الاغتمام انتفاءُ الحزنِ، والمعنى: أنه غَمَّهم ليُحْزِنَهم عقوبةً لهم على تركِهم مواقعَهم، قاله أبو البقاء. الوجه الثاني: أنها ليست زائدةً، فقال الزمخشري: «معناه: لكي لا تحزنوا لتتمرَّنوا على تَجَرُّعِ الغُموم، وتَضْرَوا باحتمالِ الشدائدِ فلا تحزنوا فيما بعدُ على فائتٍ من المنافع، ولا على مصيبٍ في المضارِّ» وقال ابن عطية: «المعنى: أنَّ ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم وَرَّطْتُم أنفسَكم، وعادةُ البشرِ أن يصبرَ للعقوبة إذا جنى، وإنما يكثُرُ قَلَقُه إذا ظَنَّ البراءةَ من نفسه.
والثاني: أنَّ اللامَ تتعلَّق ب» عَفا «لأنَّ عَفْوَه أذْهَبَ كلَّ حزنٍ. وفيه بُعْدٌ من جهةِ طولِ الفصلِ.
قوله تعالى: ﴿أَمَنَةً نُّعَاساً﴾ : في نَصْبِ كلٍّ منهما أربعة
443
أوجه، الأولُ من وجوه «أَمَنَةً» : أنها مفعولُ «أَنْزَل». الثاني: أنها حال من «نُعاساً» لأنها في الأصل صفةُ نكرةٍ فلمَّا قُدِّمتْ نُصِبَتْ حالاً. الثالث: أنها مفعولٌ من أجله، وهو فاسدٌ لاختلالِ شرطٍ وهو اتحادُ الفاعل، فإنَّ فاعل «أَنْزل» غيرُ فاعلِ الأمَنةِ. الرابع، أنه حالٌ من المخاطبين في «عليكم»، وفيه حينئذٍ تأويلان: إمَّا على حَذْفِ مُضافٍ أي: ذوي أمنةٍ، وإمَّا أن يكونَ «أَمَنَةً» جمعَ «آمِن» نحو: بار وبَرَرة، وكافِر وكَفَرة.
وأَمَّا «نُعاساً» فإنْ أَعْربنا «أمنةً» مفعولاً به كان بدلاً، وهو بدلُ اشتمال، لأنَّ كلاًّ مِنْ الأمنةِ والنعاس يشتمل على الآخر، أو عطفَ بيانٍ عند غيرِ الجمهور، فإنهم لا يشترطون جريانَه في المعارف، أو مفعولاً من أجلِه وهو فاسدٌ بما تقدَّم، وإنْ أَعْرَبْنا «أمنةً» حالاً كان مفعولاً ب «أَنْزل» عطفٌ على قولِه: «فأثابكم»، وفاعلُه ضميرُ اللهِ تعالى، وأل في «الغمّ» للعهدِ، لتقدُّم ذِكْرِه.
ورَدَّ الشيخ على الزمخشري كونَ «أمنةً» مفعولاً له بما تقدَّم، وفيه نظرٌ، فإنَّ الزمخشري قال: «أو مفعولاً له بمعنى: نَعِسْتُمْ أَمَنَةً» فقدَّر له عاملاً يتَّحِدُ فاعلُه مع فاعل «أمنةً» فكأنه استشعر السؤالَ، فلذلك قَدَّر عاملاً، على أنه قد يُقال: إنَّ الأمَنة من الله تعالى، بمعنى أنه أَوْقَعها بهم، كأنه قيل: أنزل عليكم النُّعاس ليُؤْمِنَكم به، و «أمنة» كما تكون مصدراً لمِنْ وَقَع به الأمن تكونُ مصدراً لِمَنْ أَوْقعه.
وقرأ [الجمهور: «أَمَنَةً» بفتح الميم: إمَّا مصدراً بمعنى الأمن، أو جمع «آمِن» على ما تقدَّم تفصيله. والنخعي وابن محيصن] بسكون الميم، وهو مصدرٌ فقط، وكلاهما للمَرَّة.
444
قوله: ﴿يغشى﴾ قرأ حمزة والكسائي بالتاء من فوق، والباقون بالياء من تحت، وخَرَّجوا قراءةَ حمزة والكسائي على أنها صفةُ ل «أمَنَة» مراعاةً لها. ولا بُدَّ من تفصيلٍ وهو: إنْ أَعْرَبوا «نُعاساً» بدلاً أو عطفَ بيان أَشْكَلَ قولُهم مِنْ وجهين، أحدُهما: أنَّ النحاةَ نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ والبدلُ أوعطفُ البيان، قُدِّمتِ الصفةُ وأُخِّر غيرُها. وهنا قد قَدَّموا البدلَ أو عطفَ البيانِ عليها. والثاني: أن المعروفَ في لغة العرب أن تُحَدِّث عن البدل لا عن المبدل منه تقول: «هندٌ حسنُها فاتِنٌ» ولا يجوزُ: «فاتنةٌ» إلا قليلاً، فَجَعْلُهم «نُعاساً» بدلاً من «أمنة» يَضْعُفُ بهذا، فإنْ قيل: قد جاءَ مراعاةُ المبدلِ منه في قوله:
١٤٧١ - فكأنه لَهِقُ السَّراةِ كأنه
ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ
فقال: «مُعَيَّن» مراعاةً للهاء في «كأنه»، ولم يراعِ البدلَ وهو «حاجَبْيه» ومثلُه قولُه:
١٤٧٢ - إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَواحَها
تَرَكَتْ هوازنَ مثلَ قَرْن الأعْضَبِ
فقال: «تَرَكَتْ» مراعاةً للسيوف، ولو راعَى البدلَ لقال: «تركا». فالجواب: أن هذا وإنْ كان قد قال به بعض النحويين مستنداً إلى هذين البيتين مؤولٌ بأنَّ «مُعَيَّن» خبرٌ عن «حاجبيه» لجريانهما مَجْرى الشيء الواحدِ في كلام العرب، وأنَّ نَصْبَ «غدوها ورواحها» على الظرفِ لا على البدل،
445
وقد تقدَّم لنا شيء من هذا عند قوله: ﴿عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ [البقرة: ١٠٢].
وإنْ أَعربوا «نُعاساً» مفعولاً من أجلِه لَزِم الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بالمفعولِ له، وكذا إنْ أَعْربوا «نعاساً» مفعولاً به، و «أَمَنَةً» حالاً يلزم الفصلُ أيضاً، وفي جوازه نظرٌ. والأحسنُ حينئذٍ أن تكونَ هذه الجملةُ استئنافيةً جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: ما حكمُ هذه الأمَنَة؟ فأخبرَ بقوله «تَغْشى»، ومَنْ قرأ بالياء أعاد الضمير على «نُعاساً» وتكون الجملةُ صفةً له. و «منكم» صفة ل «طائفة» فيتعلق بمحذوف.
قوله: ﴿وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ﴾ في هذه الواو ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها واوُ الحالِ، وما بعدها في محلِّ نصب على الحالِ، والعاملُ فيها «يغشى» والثاني: أنها واوُ الاستئنافِ، وهي التي عَبَّر عنها مكي بواوِ الابتداءِ، والثالث: أنها بمعنى «إذ» ذكره مكي وأبو البقاء وهو ضعيفٌ. و «طائفةٌ» مبتدأ، والخبرُ «قد أَهَمَّتْهُمْ أنفسُهم»، وجاز الابتداءُ بالنكرةِ لأحد شيئين: إمَّا للاعتماد على واوِ الحال، وقد عَدَّه بعضُهم مُسَوِّغاً، وإنْ كان الأكثرُ لم يذكروه، وأنشد:
١٤٧٣ - سَرَيْنا ونجمٌ قد أضاءَ فمذْ بدا
مُحيِّاكِ أَخْفَى ضَوْءُه كلَّ شارِقِ
وإمَّا لأنَّ الموضعَ موضعُ تفصيلٍ، فإنَّ المعنى: يَغْشى طائفةً، وطائفةٌ لم يَغْشَهم، فهو كقولِه:
446
١٤٧٤ - إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصرَفَتْ له
بشِقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّلِ
ولو قُرىء بنصب «طائفةً» على أن تكونَ المسألةُ من باب الاشتغال لم يكن ممتنعاً إلا من جهة النقل فإني لم أحفظه قراءة.
وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجه، أحدها: أنه «قد أَهَمَّتْهُم» كما تقدم، الثاني: أنه «يظنون» والجملةُ قبلَه صفةٌ ل «طائفة». الثالث: أنه محذوفٌ، أي ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل، والجملتان صفتان ل «طائفة»، أو يكونُ «يظنون» حالاً من مفعول «أهمَّتْهم» أو مِنْ «طائفة» لتخصُّصه بالوصف، أو خبراً بعد خبر إنْ قلنا إنَّ «قد أهمتهم» خبرٌ أولُ، وفيه من الخلافِ ما مَضَى غيرَ مرة.
الرابع: أنَّ الخبر «يقولون»، والجملتان قبلَه على ما تقدَّم من كونهما صفتين أو خبرين، أو إحداهما خبرٌ والأخرى حالٌ، ويجوزُ أَنْ يكون «يقولون» صفةً، أو حالاً أيضاً إنْ قلنا: إنَّ الخبرَ الجملة التي قبله، أو قلنا إنَّ الخبرَ مضمر.
وقوله: ﴿يَظُنُّونَ﴾ له مفعولان، فقال أبو البقاء: «غيرَ الحق» مفعولٌ أولُ أي: أمراً غير الحق، و «بالله» هو المفعول الثاني. وقال الزمخشري: «غير الحق» في حكم المصدر، ومعناه: يَظُنُّون باللهِ غيرَ الحق الذي يجب أن يُظَّنَّ به، و «ظنَّ الجاهلِية»، بدلٌ منه، ويجوز أن يكونَ المعنى: «يظنون باللهِ ظَنَّ الجاهلِية»، و «غيرَ الحق» تأكيدٌ ل «يظنون» كقولِك: «هذا القولُ غيرُ ما تقول»، فَعَلى ما قال لا يتعدَّى «ظنَّ» إلى مفعولين، بل تكونُ الباءُ ظرفيةً للظن، كقولك: «ظننت بزيد» أي: جعلْتُه مكانَ ظنِّي «، وعلى هذا المعنى حَمَل النحويين قوله:
447
١٤٧٥ - فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ
سَراتُهمُ في الفارسِيِّ المُسَرَّدِ
أي: اجعلوا ظنكم في أَلفَي مُدَجَّج. وتحصَّل في نصب» غير الحق «وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ أولُ ل» يظنون «. والثاني: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملةِ التي قبلَه بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشري.
وفي نصب» ظنَّ الجاهليةَ «وجهان أيضاً: البدلُ من» غيرَ الحق «، أو أنه مصدرٌ مؤكد ل» يظنون «، و» بالله «: إمَّا متعلق بمحذوف على جَعْله/ مفعولاً ثانياً، وإمَّا بفعل الظن على ما تقدم وإضافةُ» الظن «إلى» الجاهلية «قال الزمخشري:» كقولك: «حاتمُ الجودِ، ورجلُ صدقٍ» يريد الظنَّ المختصَّ بالملةِ الجاهلية، ويجوز أن يراد: ظنَّ أهلِ الجاهلية «وقال غيرُه:» المعنى: المدة الجاهلية أي: القديمة قبل الإِسلام نحو: حَمِيَّة الجاهلية «.
قوله: ﴿هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ﴾ :» مِنْ «في» من شيء «زائدةٌ في المبتدأ، وفي الخبر وجهان، وأصحُّهما أنه» لنا «، فيكون» من الأمر «في محلِّ نصب على الحال من» شيء «لأنه نعت نكرةٍ قُدِّم عليها فينتصبُ حالاً. ويتعلق بمحذوف. والثاني: أجازه أبو البقاء أن يكون» من الأمر «هو الخبر، و» لنا «تبيين، وبه تتِمُّ الفائدةُ كقولِه: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤]، وهذا ليس بشىء لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذ يتعلَّق بمحذوف، وإذا كان كذلك فيصير» لنا «من جملةٍ أخرى، فتبقى الجملة من المبتدأ أو الخبر غيرَ مستقلة بالفائدة، وليس نظيراً لقوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ فإن» له «فيها متعلِّق بنفس» كفواً «لا بمحذوفٍ، وهو نظيرُ:» لم يكن أحد قائلاً لبكر «ف» لبكر «متعلق بنفس الخبر.
448
وهل هذا الاستفهامُ على حقيقتِه؟ فيه وجهان أظهرهما: نعم، ويعنون بالأمر: النصرَ والغلبةَ. والثاني: أنه بمعنى النفي، كأنهم قالوا: ليس لنا من الأمر أي النصر شيءٌ، وإليه ذهب قتادة وابن جريج، ولكن يضعف هذا بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ﴾ فإنَّ مَنْ نَفَى عن نفسِه شيئاً لا يُجاب بأَنْ يُثْبَتَ لغيرِه، لأنه مُقِرٌّ بذلك، اللهم إلا أَنْ يُقَدِّر جملةً أخرى ثبوتيةً مع هذه الجملةِ فكأنهم قالوا: ليس لنا من الأمر شيء، بل لِمَنْ أَكْرَهَنا على الخروج، وحَمَلَنا عليه، فحينئذ يَحْسُن الجواب بقوله ﴿قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ﴾ لقولهم هذا.
وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراضٌ بين الجمل التي جاءت بعد قوله: ﴿وَطَآئِفَةٌ﴾ فإنَّ قولَه: ﴿يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم﴾ وكذا «يقولون» الثانية: إمَّا خبرٌ عن «طائفة» أو حال مِمَّا قبلها.
وقرأ الجماعة «كلَّه» بالنصب، وفيه وجهان، أظهرهما: أنه تأكيدٌ لاسم «إن». والثاني حكاه مكي عن الأخفش أنه بدلٌ منه، وليس بواضحٍ. و «لله» خبرُ «إنْ». وقرأ أبو عمرو: «كلُّه» رفعاً وفيه وجهان، أشهرُهما: أنه رفع بالابتداء، و «لله» خبرُه، والجملةُ خبرُ «إنَّ» نحو: «إنَّ مالَ زيد كلُّه عنده». والثاني: أنه توكيدٌ على المحلِّ، ف «إنَّ» اسمُها في الأصل مرفوعٌ بالابتداء، وهذا مذهبُ الزجاج والجرميّ، يُجْرون التوابع كلها مُجْرى عطفِ النسق، فيكونُ «لله» خبراً ل «إنَّ» أيضاً. و «يُخْفون» : إمَّا خبرُ ل «طائفة» أو حالٌ مِمَّا قبله كما تقدم. وأما «يقولون» فيحتمل هذين الوجهين، ويحتمل أَنْ يكون تفسيراً لقوله «يُخْفون» فلا محلَّ له حينئذ.
وقوله: ﴿مَّا قُتِلْنَا﴾ جوابُ «لو»، وجاء على الأفصحِ: فإنَّ جوابَها إذا كان
449
منفياً ب «ما» فالأكثر عدمُ اللامِ، وفي الإِيجاب بالعكس. وقوله: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ﴾ كقوله: ﴿هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ﴾ وقد عُرِف الصحيحُ من الوجهين.
وقد أَعْرَب الزمخشري هذه الجملَ الواقعة بعد قوله: ﴿وَطَآئِفَةٌ﴾ إعراباً أفضى إلى خروجِ المبتدأ بلا خبر، ولا بد من إيراد نَصِّه ليتبيَّنَ ذلك، قال رحمه الله: «فإنْ قلت كيف مواقعُ هذه الجمل التي بعد قوله:» وطائفة «؟ قلت:» قد أهَمَّتْهُمْ «صفةٌ ل» طائفة «و» يظنون «صفةٌ أخرى أو حال، بمعنى: قد أهمَّتْهم أنفسهم ظانِّين، أو استئناف على وجه البيان للجملةِ قبلها، و» يقولون «بدلٌ من» يظنون «.
فإن قلت: كيف صَحَّ أن يقع ما هو مسألةٌ عن الأمر بدلاً من الإِخبار بالظن؟ قلت: كانت مسألتهم صادرةً عن الظن فلذلك جاز إبدالُه منه، و «يُخفون» حال من «يقولون»، و ﴿قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ﴾ اعتراضٌ بين الحال وذي الحال، و «يقولون» بدلٌ من «يُخْفون»، والأجودُ أَنْ يكون استئنافاً «انتهى كلامه. وهذا من أبي القاسم بناءً على أن الخبر محذوف كما قَدَّمْتُ لك تقريرَه [في] :» ومنكم طائفةٌ «لأنه موضعُ تفصيل.
قوله: ﴿لَبَرَزَ﴾ جاء على الأفصح، وهو ثبوت اللام في جوابها مثبتاً، والجمهورُ» لبرز «مخففاً مبيناً للفاعل، وأبو حيوة:» لبُرِّز «مشدداً مبنياً للمفعول، عدَّاه بالتضعيف. وقرىء» كَتَب «مبنياً للفاعل وهو الله تعالى،» القتلَ «مفعولاً به، والحسن:» القتالُ «رفعاً.
قوله: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ﴾ فيه خمسةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلقٌ بفعلٍ قبله، تقديرُه: فَرَض اللهُ عليكم القتالَ ولم ينصُرْكم يومَ أُحد ليبتلي ما في صدوركم وقيل: بفعلٍ بعده، أي: ليبتلي فَعَلَ هذه الأشياء. وقيل: الواوُ زائدةٌ واللام متعلقة بما قبلها، وقيل:» وليبتلي «عطفٌ على» ليبتلي «الأولى، وإنما كُرِّرت لطولِ الكلام، فعُطِف عليه» وليمحِّص «قاله ابن بحر. وقيل: هو عطفٌ على علةٍ محذوفةٍ تقديرُه: ليقضي اللهُ أمرَه وليبتلي، وجَعَلَ متعلَّقَ الابتلاءِ ما انطوى عليه الصدورُ، والذي انطوى عليه الصدر هو القلب، لقوله: ﴿القلوب التي فِي الصدور﴾ [الحج: ٤٦]، وجَعَل متعلَّقَ التمحيص وهو التصفية ما في
وقوله تعالى: ﴿الجمعان﴾ : إنما ثُنِّي وإن كان اسمَ جمع وقد نَصَّ النحاةُ على أنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ إلا شذوذاً لأنه أُريد به النوعُ، فإنَّ المعنى: جَمْعُ المؤمنين وجَمْعُ المشركين، فلما أُريد به ذلك ثُنِّي كقوله:
١٤٧٦ - وكلُّ رفيقَيْ كلِّ رحلٍ وإنْ هما
تعاطَى القَنا قوماً هما أخَوان
والسين في «استَنْزَلَهم» للطلب، والظاهرُ أن استفعل هنا بمعنى أَفْعَل لأنَّ القصةَ تَدُلُّ عليه، فالمعنى حَمَلَهم على الزلة، ويكون كاسْتَبَلَّ وأَبَلَّ.
قولُه تعالى: ﴿إِذَا ضَرَبُواْ﴾ :«إذا» ظرفٌ مستقبل فلذلك اضطربت أقوالُ المُعْرِبين هنا من حيث إنَّ العاملَ فيها: «قالوا» وهو ماضٍ، فقال الزمخشري: «فإنْ قلت: كيف قيل:» إذا ضَرَبوا «مع» قالوا «؟ قلت: هو حكايةٌ حالٍ ماضيةٍ كقولك» حين يضربون في الأرض «. وقال أبو البقاء
451
بعد قوله قريباً من قول الزمخشري:» ويجوز أن يكونَ «كفروا» و «قالوا» ماضيين، ويرادُ بهما المستقبلُ المحكيُّ به الحالُ، فعلى هذا يكون التقديرُ: يكفرون ويقولون «انتهى. ففي كِلا الوجهين حكايةٌ حالٍ، لكنْ في الأولِ حكايةٌ حالٍ ماضيةٍ، وفي الثاني مستقبلةٌ، وهو من هذه الحيثيَّةِ كقوله تعالى: ﴿حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ﴾ [البقرة: ٢١٤] وقد تقدَّم. ويجوزُ أَنْ يُراد ب» قال «الاستقبالُ لا على سبيلِ الحكاية، بل لوقوعِه صلةً لموصولٍ، وقد نَصَّ بعضُهم على أنَّ الماضيَ إذا وقَع صلةً لموصولٍ صَلَح للاستقبال نحو: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٣٤]، وإلى هذا نحا ابن عطية، قال:» ودخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث «الذين» اسمٌ مُبْهَمٌ يَعُمُّ مَنْ قَال في الماضي ومَنْ يقول في الاستقبال، ومِنْ حيث هذه النازلةُ تُتَصَوَّرُ في مستقبلِ الزمان «يعني فتكون حكايةَ حالٍ مستقبلة.
وقيل:» إذا «بمعنى» إذْ «وليس بشيء. وقَدَّرَ الشيخ مضافاً محذوفاً هو عاملٌ في» إذا «تقديرُه:» وقالوا لهلاكِ إخوانهم «أي مخافةَ أن يَهْلَكَ إخوانُهم إذا سافروا أو غزَوا، فقدَّر العاملَ مصدراً مُنْحَلاًّ ل» أَنْ «والمضارع حتى يكونَ مستقبلاً قال:» ولكنْ يصيرُ الضميرُ في قوله: ﴿لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا﴾ عائداً على «إخوانهم» في اللفظ وهو لغيرهم في المعنى أي: يعودُ على إخوانٍ آخرين وهم الذي تقدَّمَ موتُهم بسببِ سفرٍ أو غزو، وقَصْدُهم بذلك تثبيطُ الباقين، وهو نظيرُ: «درهمٌ ونصفه»، ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ﴾ [فاطر: ١١] وقول النابغة:
452
١٤٧٧ - قالَتْ:
ألا ليتما هذا الحمامُ لنا
إلى حمامتِنا ونصفُه فَقَدِ
أي. نصفُ درهمٍ آخرَ، ومُعَمَّرٍ أخرَ، وحمامٍ آخرَ «.
واللامُ في» لإِخوانهم «للعلةِ، وليسَتْ هنا للتبليغ كالتي في قولِك:» قلت لزيدٍ: افعل كذا «.
والجمهورُ على» غُزَّى «بالتشديد جمع» غازٍ «وقياسُه: غُزَاة كرام ورُماة، ولكنهم حَمَلوا المعتلَّ على الصحيح في نحو: ضارِب وضُرَّب، وصائم وصُوَّم. والزهري والحسن:» غُزَى «بتخفيفها، وفيه وجهان: أنه خَفَّف الزايَ كراهيةَ التثقيلِ في الجمعِ. والثاني: أنَّ أصلَه» غُزاة «كقُضاة ورُماة، ولكنه حَذَفَ تاءَ التأنيث، لأنَّ نفسَ الصيغةِ دالَّة على الجمعِ، فالتاءُ مستغنىً عنها.
وقال ابن عطية: وهذا الحذف كثيرٌ في كلامهم، ومنه قول الشاعر يمدح الكسائي:
١٤٧٨ - أبى الذَّمُّ أخلاقَ الكسائي وانْتَحى
به المجدُ أخلاقَ الأُبُوِّ السَّوابقِ
يريد: «الأبوة» جمع أب، كما ان «العمومة» جمع عَمّ «، و» البُنُوَّة «جمعُ ابن، وقد قالوا: ابن وبُنُوّ. وقد رَدَّ عليه الشيخ هذا: بأنَّ الحَذْفَ ليس بكثيرٍ، وأنَّ قوله:» حُذِفَت التاءُ من «عُمومة» ليس كذلك، بل الأصل «عُموم»
453
من غير تاء/، ثم أَدخلوا عليها التاء لتأكيد الجمع، فما جاء على «فُعول» من غير تاءٍ فهو الأصلُ نحو: عُموم وفُحول، وما جاءَ فيه التاءُ فهو الذي يَحْتاج إلَى تأويِلِه بالجمعِ، لم يُبْنَ على هذه التاءِ حتى يُدَّعى حَذْفُها، وهذا بخلاف «قُضاة» وبابِه بُني عليها فيمكنُ ادِّعاءُ الحَذْفِ فيه، وأما «أُبُوّة» و «بُنُوّة» فليسا جَمْعَيْن بل مصدَرَيْن وأمَّا «أُبُوّ» في البيت فهو شاذ عند النحاةِ من جهةِ أنه كان مِنْ حَقِّه أَنْ يُعِلَّه فيقول: «أُبِيّ» بقلبِ الواوين ياءين نحو: عُصِيّ.
ويُقال: غُزَّاء بالمدِّ أيضاً وهو شاذٌّ، وتَحَصَّل في «غازٍ» ثلاثةُ جموعٍ في التكسير: غُزاة كقُضاة، وغُزَّى كصُوَّم، وغُزَّاء كصُوّام، وجمعٌ رابع جمعُ سلامة، والجملةُ كلها في محل نصب بالقول.
قوله: ﴿لِيَجْعَلَ الله﴾ في هذه اللام قولان، أحدهما: أنها لام «كي» والثاني: أنها لام العاقبة والصيرورة، وعلى القول الأول فبِمَ تتعلَّق هذه اللام؟ وفيه وجهان، فقيل: التقدير: أَوْقَعَ ذلك أي القول أو المُعْتَقَد ليجعلَه حسرةً، أو نَدَمُهم، كذا قَدَّره أبو البقاء، وأجاز الزمخشري: أن تتعلَّقَ بجملة النهي، وذلك على معنيين باعتبارِ ما يرُاد باسمِ الإِشارة على ما سيأتي بيانُه في كلامِه: أمَّا الاعتبارُ الأول فإنه قال: «يعني: لا تكونوا مثلَهم في النطق بذلك القول واعتقادِه ليجعله اللهُ حسرةً في قلوبِهم خاصة، ويصونَ منها قلوبَكم» فجعل «ذلك» إشارةً إلى القولِ والاعتقادِ. وأمَّا الاعتبارُ الثاني فإنه قال: «ويجوزُ أَنْ يكونَ» ذلك «إشارةً إلى ما دَلَّ عليه النهيُ أي: لا تكونوا مثلَهم ليجعلَ اللهُ انتفاءَ كونكم مثلَهم حسرةً في قلوبهم، لأنَّ مخالَفَتهم فيما يقولون، ويعتقدون مِمَّا يَغُمُّهُمْ ويَغيظهم».
454
وقد رَدَّ عليه الشيخ المعنى الأولَ بالمعنى الثاني الذي ذكره هو، ولا بد من إيراده ليتبيَّنَ لك. قال بعد ما حكى عنه ما نقلْتُه في المعنى الأول: «وهذا كلام مثبج لا تحقيقَ [فيه] لأَنَّ جَعْلَ الحسرة لا يكون سبباً للنهي كما قلنا. إنما يكونُ سبباً لحصولِ امتثالِ النهي، وهو انتفاء المماثلةِ، فحصولُ ذلك الانتفاء والمخالفةِ فيما يقولون ويعتقدون يَحْصُل عنه ما يَغيظهم ويَغُمُّهُمْ إذ لم يُوافِقُوهم فيما قالوه واعتَقَدُوه فلا تَضْرِبوا ولا تَغْزوا، فالتبس على الزمخشري استدعاءُ انتقاءِ المماثلةِ بحصولِ الانتفاء، وفَهْمُ هذا فيه خَفاءٌ ودِقَّةٌ» انتهى.
ولا أدري ما وجهُ تثبيجِ كلام أبي القاسم، وكيفَ ردَّ عليه على زعمه بكلامه؟
وقال الشيخ أيضاً: «وقال ابنُ عيسى يعني الرماني وغيرُه اللامُ متعلقةٌ بالكون، أي لا تكونوا كهؤلاءِ ليجعلَ اللهُ ذلك حسرة في قلوبهم دونَكم، ومنه أخَذَ الزمخشري في قولِه، لكنَّ ابن عيسى نَصَّ على ما تتعلق به اللام، وذاك لم ينص، وقد بَيَّنَّا فسادَ هذا القول». انتهى. وقوله: «وذلك لم ينصَّ» بل قد نَصَّ، وقال: «فإنْ قلت ما متعلَّقُ ليجعلَ؟ قلت:» قالوا «إلى آخره، أو بقوله:» لا تكونوا «، وأيُّ نصٍ أظهرُ من هذا؟ ولا يجوزُ تَعَلُّق هذه اللامِ ومعناها التعليل ب» قالوا «لفساد المعنى، لأنهم لم يقولوه لذلك بل لتثبيطِ المؤمنينِ عن الجهاد.
وعلى القولِ الثاني أعني كونَها للعاقبةِ تتعلَّقُ ب» قالوا «والمعنى: أنَّهم قالوا ذلك لغرضٍ من أغراضِهم، فكانَ عاقبةُ قولِهم ومصيرُه إلى الحسرةِ والنَّدامَةِ كقولِه: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨]، لم يلتِقطوه
455
لذلك، لكنْ كان مآلُه لذلك، ولكنَّ كونَها للصيرورةِ لم يَعْرِفْه أكثرُ النحويين، وإنما هو شيء يَنْسِبونَه للأخفش، وما وَرَدَ من ذلك يؤولونه عَلى العكسِ من الكلام نحو: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ﴾ [آل عمران: ٢١]، وهذا رأي الزمخشري، فإنه شَبَّه هذه اللام باللام في ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً﴾، ومذهبُه في تَيْكَ أنها للعلة بالتأويل المذكور. والجَعْلُ هنا بمعنى التصيير، و» حسرةً «مفعولٌ ثانٍ، و» في قلوبهم «يجوزُ أن يتعلَّق بالجَعْل وهو أبلغُ أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ للنكرة قبله.
واختُلف في المُشار إليه بذلك: فعن الزجاج: هو الظن، ظنوا أنهم لو لم يَحْضُروا لم يُقْتَلوا. وقال الزمخشري:» هو النطق بالقول والاعتقاد «. وقريبٌ منه قول ابن عطية، وأجاز ابن عطية أيضاً أن يكونَ للنهي والانتهاء معاً. وقيل هو مصدرُ» قال «المدلولِ عليه به. ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي:» يَعْملون «بالغيبةَ ردَّاً على الذين كفروا، والباقون بالخطابَ ردَّاً على قوله: ﴿لاَ تَكُونُواْ﴾ فهو خطابٌ للمؤمنين. وجاء هنا بصفة البصر، قال الراغب:» عَلَّق ذلك بالبصر لا بالسمعِ، وإنْ كان الصادرُ منهم قولاً مسموعاً لا فعلاً مرئياً، لمَّا كان ذلك القولُ من الكافر قصداً منه إلى عمل يُحاوِلُه، فَخَصَّ البصرَ بذلك، كقولك لمَنْ يقولُ شيئاً وهو يَقْصِدُ فِعْلاً يُحاوله: أنا أرى ما تفعله «.
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾ : اللامُ هي الموطِّئةُ لقسمٍ
456
محذوف، وجوابُه قولُه: ﴿لَمَغْفِرَةٌ﴾ وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لسدِّ جوابِ القسمِ مَسَدَّه لكونِه دالاًّ عليه، وهو الذي عَنَاه الزمخشري بقوله: «وهو سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط» ولا يعني بذلك أنَّه من غيرِ حذفٍ. واللام لام الابتداء، وهي وما بعدها جواب القسم كما تقدم.
و «مغفرةٌ» فيها وجهان، أظهرهُما: أنها مرفوعةٌ بالابتداء، والمسوِّغات هنا كثيرة: لام الابتداء والعطف عليها في قوله: ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ ووصفُها، فإنَّ قوله: ﴿مِّنَ الله﴾ صفةٌ لها، ويتعلق حينئذٍ بمحذوف، و ﴿خَيْرٌ﴾ خبرٌ عنها. والثاني: أن تكونَ مرفوعة على خبر ابتداء مضمر، إذا أُريد بالمغفرةِ والرحمةِ القتلُ أو الموتُ في سبيل الله، لأنهما مقترنان بالموتِ في سبيلِ الله، فيكونُ التقدير: فذلك أي الموتُ أو القتلُ في سبيلِ الله مغفرةٌ ورحمةٌ خير، ويكون «خير» صفةً لا خبراً، وإلى هذا نحا ابن عطية فإنه قال: «وتحتمل الآية أن يكونَ قولُه: ﴿لَمَغْفِرَةٌ﴾ إشارةً إلى الموت أو القتل في سبيل الله، فَسَمَّى ذلك مغفرةً ورحمة، إذ هما مقترنان به، ويجيء التقدير: فذلك مغفرةٌ ورحمة، وترتفعُ المغفرةُ على خبر الابتداء المقدر، وقوله:» خير «صفةٌ لا خبرٌ ابتداء» انتهى. ولكنَّ الوجهَ الأولَ أظهرُ، و «خير» هنا على بابِها من كونِها للتفضيلِ، وعن ابن عباس: «خيرٌ من طِلاع الأرض ذهبةً حمراءَ».
وقوله: ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ أي: ورحمةٌ من الله، فَحُذِفَتْ صفتُها لدلالة الأولى عليها، ولا بُدَّ من حَذْفٍ آخر مُصَحِّحٍ للمعنى، تقديرُه: لمغفرة من الله لكم ورحمةً منه لكم. وجاء بالمغفرةِ والرحمةِ نكرتين إيذاناً بأنَّ أَدنى خيرٍ وأقلَّ
457
شيء خيرٌ من الدنيا وما فيها الذي يجمعونه، وهو نظير ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢]، والتنكيرُ قد يُشْعِرُ بالتقليل، و «ما» في قولِه ﴿مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ أي: مِنْ جَمْعِكم المالَ ونحوه.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: ﴿مُتُّم﴾ و ﴿مُتُّ﴾ : وبابه بضم الميم، ووافقهم حفص هنا خاصة في الموضعين، والباقون بالكسر. فأمّا الضم فلأنه فَعَل بفتح العين من ذوات الواو، وكل ما كان كذلك فقياسه إذا أسند إلى ياء المتكلم وأخواتها أن تضم فاؤه: إمَّا من أول وهلة، وإمَّا بأن نبدلَ الفتحةَ ضمةً ثم نَنْقُلَها إلى الفاء على اختلاف بين التصريفيين، فيقال في «قام» وقال وطال: قُمت وقُمنا وقُمن وطُلت وطُلن وما أشبه، ولهذا جاء مضارعُه على يَفْعُل نحو: يَمُوت. وأما الكسر فالصحيح من قول أهل العربية أنه من لغة مَنْ يقول: مات يمات كخاف يخاف، والأصلُ: مَوِت بكسر العين كَخوِف فجاء مضارعه على يَفْعَل بفتح العين. قال الشاعر:
١٤٧٩ - بُنَيَّتي سيدةَ البنات
عِيشي ولا يُؤْمَنُ أَنْ تَماتي
فجاء بمضارعه على يَفْعَل بالفتح، فعلى هذه/ اللغة يَلْزَم أن يقال في الماضي المسند إلى التاءِ وإحدى أخواتها: «مِتُّ» بالكسرِ ليس إلا، وهو أنَّا
458
نَقَلْنا حركةَ الواو إلى الفاء بعد سَلْبِ حركتِها دلالةً على بنيةِ الكلمة في الأصلِ. وهذا أَوْلى مِنْ قولِ مَنْ يقولُ: إنَّ «مِتَّ» بالكسر مأخوذٌ من لغة من يقول: «يَمُوت» بالضم في المضارع، وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في الاستعمال كالمازني وأبي علي الفارسي، ونقله بعضهم عن سيبويه صريحاً، وإذا ثَبَتَ ذلك لغةً فلا معنى إلى ادِّعاء الشذوذ فيه. وأمَّا حفص فجمع بين اللغتين.
وقرأ الجماعة: «تَجْمَعُون» بالخطاب جرياً على قوله: «ولئن قُتِلتم»، وحفص بالغيبة: إمَّا على الرجوع على الكفار المتقدمين، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين.
وهذه ثلاثة مواضع: تقدَّم الموتُ على القتل في الأول منها وفي الأخير، والقتلُ على الموت في المتوسط، وذلك أنَّ الأول لمناسبةِ ما قبله من قوله: ﴿إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ فرجعَ الموتُ لِمَنْ ضَرَب في الأرض، والقتلُ لِمَنْ غزا، وأما الثاني فلأنه مَحَلُّ تحريضٍ على الجهاد فَقَدَّم الأهمَّ الأعرفَ، وأمَّا الآخرُ فلأنَّ الموتَ أغلبُ.
وقوله: ﴿لإِلَى الله﴾ اللامُ جوابُ القسم فهي داخلةٌ على ﴿تُحْشَرُونَ﴾، و «إلى الله» متعلقٌ به، وإنما قُدِّم للاختصاصِ أي: إلى الله لا إلى غيره يكونُ حشرُكُم، أو للاهتمام، وحَسَّنَه كونُه فاصلةً، ولولا الفصلُ لوجب توكيدُ الفعل بنونٍ، لأنَّ المضارعَ المثبت إذا كانَ مستقبلاً وَجَبَ توكيدُه مع اللام خلافاً للكوفيين، حيثُ يجيزون التعاقبَ بينهما، كقوله:
459
١٤٨٠ - وقتيلِ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنه
.........................
فجاءَ بالنونِ دونَ اللامِ، وقوله:
١٤٨١ - لِئَنْ تكُ قد ضَاقَتْ عليكم بيوتُكم
لَيَعْلَمُ ربي أنَّ بيتيَ واسِعُ
فجاء باللامِ دون النون، والبصريون يجعلونه ضرورةَ. فإنْ فُصِل بين اللام بالمعمول كهذه الآية أو ب «قد» نحو: «والله قد أقوم» وقوله:
١٤٨٢ - كَذَبْتِ لقد أُصْبي على المَرْء عِرْسَه
.........................
أو بحرفِ تنفيس نحو: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ﴾ [الضحى: ٤] فلا يجوزُ توكيده حينئذ بالنون. قال الفارسي: «دخلتِ النونُ فرقاً بين لام اليمين ولام الابتداء، ولامُ الابتداء لا تدخل على الفَضْلة، فبدخول لام اليمين على الفَضْلة حَصَلَ الفرقُ فلم يُحْتَجْ إلى النون، وبدخولِها على» سوف «حَصَل الفرقُ أيضاً فلا حاجةً إلى النونِ، ولامُ الابتداء لا تَدْخُل على الفعلِ إلا إذا كان حالاً، أمَّا مستقبلاً فلا».
قوله تعالى: ﴿فَبِمَا﴾ : في «ما» وجهان، أحدهُما: أنها
460
زائدةٌ للتوكيدِ والدلالةِ على أن لِينَه لهم ما كان إلا برحمةٍ من الله، ونظيرُه: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٥]. والثاني: أنها غيرُ مزيدةٍ، بل هي نكرة وفيها وجهان، أحدهُما: أنها موصوفةٌ برحمة، أي: فبشيء رحمةٍ والثاني: أنها غيرُ موصوفة، و «رحمةٍ» بدلٌ منها، نقله مكي عن ابن كيسان. ونقل أبو البقاء عن الأخفش وغيره أنها نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ، و «رحمةٍ» بدلٌ منها، كأنه أَبْهم ثم بَيَّن بالإِبدال. وجَوَّز بعضُ الناس وعَزاه الشيخ لابن خطيب الريّ أنَّ «ما» استفهاميةٌ للتعجب تقديرُه: فبأي رحمةٍ لِنْتَ لهم، وذلك فإنَّ جنايتَهم لَمَّا كانت عظيمة ثم إنه ما أظهر تغليظاً في القول ولا خشونةً في الكلام علموا أنَّ ذلك لا يتأتَّى إلا بتأييد ربَّاني قبلَ ذلك. وردَّ عليه الشيخ هذا بأنه لا يَخْلُو: إمَّا أَنْ تُجْعَلَ «ما» مضافةً إلى «رحمة»، وهو ظاهرُ تقديرِه كما حكاه عنه، فيَلْزَمُ إضافةُ «ما» الاستفهاميةِ، وقد نَصُّوا على أنه لا يُضاف من أسماءِ الاستفهام إلا «أيّ» اتفاقاً، و «كم» عند الزجاج، وإمَّا أَنْ لا تجعلَها مضافةً، فتكونُ «رحمةٍ» بدلاً منها، وحينئذ يلزمُ إعادةُ حرف الاستفهام في البدل كما تقرَّر في علم النحو، وأنحى عليه في كلامه فقال: «وليته كان يُغْنيه عن هذا الارتباكِ والتسلُّقِ إلى ما لا يُحْسِنُه قولُ الزجاج في» ما «هذه إنها صلةٌ فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين» انتهى.
وليس لقائلٍ أن يقولَ له: أَنْ يجعلَها غيرَ مضافةٍ ولا يجعلَ «رحمة» بدلاً
461
حتى يلزمَ إعادةُ حرفِ الاستفهامِ بل يَجْعَلُها صفةً؛ لأنَّ «ما» الاستفهامية لا تُوصف، وكأنَّ مَنْ يَدَّعي فيها أنها غيرُ مزيدةً يَفِرُّ من هذه العبارة في كلام الله تعالى، وإليه ذهب أبو بكر الزبيدي، كان لا يُجَوِّزُ أن يقال في القرآن: «هذا زائدٌ» أصلاً. وهذا فيه نظرٌ، لأنَّ القائلين بكون هذا زائداً لا يَعْنُون أنه يجوزُ سقوطُه ولا أنه مهمل لا معنى له، بل يقولون: زائدٌ للتوكيد، فله أُسْوَةٌ بسائر ألفاظ التوكيد الواقعة في القرآن، و «ما» كما تزاد بين الباءِ ومجرورِها تزاد أيضاً بين «عَنْ» و «مِنْ» والكاف ومجرورها كما سيأتي.
وقال مكي: «ويجوز أن ترتفعَ» رحمةٍ «على أَنْ تَجْعَلَ» ما «بمعنى الذي، وتُضْمِرَ» هو «في الصلة وتَحْذِفَها كما قرىء: ﴿تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنُ﴾.
وقولُه: «ويجوزُ» يعني من حيث الصناعةُ، وأمَّا كونُها قراءةً فلا أحفظها.
والفَظَاظَة: الجَفْوَةَ في المُعاشرة قولاً وفعلاً. قال:
١٤٨٣ - أَخْشَى فَظاظَة عَمٍّ أو جفاءَ أخٍ
وكنتُ أَخْشَى عليها مِنْ أَذَى الكَلِمِ
والغُِلْظُ: تكثير الأجزاء، ثم تُجُوِّز به في عدمِ الشفقةِ وكثرةِ القسوة في القلب قال:
462
١٤٨٤ - يُبْكَى علينا ولا نَبْكي على أحدٍ
لنحنُ أغلظُ أكباداً من الإِبلِ
وقال الراغب: الفظُّ كريه الخُلُق وذلك مستعارٌ من الفَظِّ وهو ماءٌ الكَرِش، وذلك مكروه شربُه إلا في ضرورةٍ «، قال:» الغِلْظَةُ: ضدُّ الرِّقة، ويقال: غُلْظة وغِلْظة أي بالكسر والضم «وعن الغِلْظَة تنشأ الفظاظةُ فَلِمَ قُدِّمَتْ؟ فقيل: قُدِّم ما هو ظاهرٌ للحِسِّ على ما هو خافٍ في القلب، لأنه كما تقدَّم أنَّ الفَظاظةَ: الجَفْوَةُ في العِشْرَةِ قولاً وفِعْلاً، والغِلْظُ: قساوةُ القلب، وهذا أحسنُ مِنْ قولِ مَنْ جعلهما بمعنىً، وجُمِع بينهما تأكيداً.
والانفضاضُ: التفرُّق في الأجزاءِ وانتشارُها ومنه:» فُضَّ خَتْمُ الكتابِ «ثم استُعير عنه» انفضاضُ الناسِ «ونحوِهم.
وقوله: ﴿فاعف عَنْهُمْ﴾ إلى أخره جاء على أحسنِ النسق، وذلك أنه أَمَر أولاً بالعفوِ عنهم فيما يتعلَّقُ بخاصةِ نفسِه، فإذا انتهَوا إلى هذا المقام أُمِرَ أن يَسْتغفِرَ لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاحَ عنهم التَّبِعَتان، فلمَّا صاروا إلى هذا أُمِر بأنْ يُشاوِرَهم في الأمر إذا صاروا خالصين من التَّبِعَتَيْن مُصَفَّيْن منهما، والأمرُ هنا وإنْ كان عاماً فالمرادُ به الخصوص، قال أبو البقاء:» إذ لم يُؤْمَرْ بمشاورتِهم في الفرائضِ، ولذلك قرأ ابن عباس: «في بعضِ الأمر». وهذا تفسيرٌ لا تلاوة.
وقوله: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ الجمهورُ على فتح التاء خطاباً له عليه السلام. وقرأ عكرمة وجعفر الصادق بضمها، على أنها لله تعالى على معنى: فإذا
463
أرشَدْتُك إليه وجَعَلْتُكَ تَقْصِدُه، وجاء قوله: ﴿عَلَى الله﴾ من الالتفات، إذ لو جاء على نَسَقِ هذا الكلامِ لقيل: فتوكَّلْ عليَّ، وقد نُسِبَ العزمُ إليه تعالى في قول أم سلمة: «ثم عَزَمَ الله لي» وذلك على سبيل المجاز.
وقوله: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين﴾ جارٍ مَجْرى العلةِ الباعثةِ على التوكيلِ عند الأخْذِ في كلِّ الأمر/.
قوله تعالى: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ﴾ : شرطٌ وجوابُه. وقوله: ﴿وَإِن يَخْذُلْكُمْ﴾ مثلُه، وهذا التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب، كذا قاله الشيخ، يعني من الغَيْبة في قوله: ﴿لِنتَ لَهُمْ﴾ و ﴿لاَنْفَضُّواْ﴾ و ﴿فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ﴾. وفيه نظرٌ. وجاء قولُه: ﴿فَلاَ غَالِبَ﴾ جواباً للشرط وهو نفيٌ صريح، وقولُه ﴿فَمَن ذَا الذي﴾ وهو متضمِّنٌ للنفي جواباً للشرط الثاني تلَطُّفاً بالمؤمنين حيث صَرَّح لهم بعدم الغَلَبةِ في الأولِ، ولم يُصَرِّحْ لهم بأنه لا ناصِرَ لهم في الثاني، بل أتى في صورةِ الاستفهامِ وإنْ كان معناه نفياً.
وقوله: ﴿فَمَن ذَا الذي﴾ قد تقدَّم مثلُه في البقرة وأقوالُ الناس فيه. والهاءُ في «مِنْ بعدِه» فيها وجهان، أحدُهما وهو الأظهر أنها تعودُ على اللهِ تعالى، وفيه احتمالان، أحدُهما: أَنْ يكونَ ذلك على حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ بعدِ خِذْلانِه. والثاني: أنه لا يُحتاج إلى ذلك، ويكون معنى الكلام: إنكم إذا جَوَّزْتموه إلى غيرِه وقد خَذَلكم فَمَنْ تجاوزون إليه وينصُركم؟ والوجه
464
الثاني: أن تعودَ على الخِذْلان المفهوم من الفعلِ وهو نظيرُ: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ﴾ [المائدة: ٨].
وقوله: ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ إنَّما قَدَّم الجارَّ ليؤذن بالاختصاص أي: ليخُصَّ المؤمنون ربَّهم بالتوكُّل عليه والتفويضِ لعلمهم أنه لا ناصرَ لهم سواه، وهو معنىً حسن ذكره الزمخشري. وقرأ الجمهور: «ويَخْذُلْكم» بفتح الياء مِنْ «خَذَله» ثلاثياً، وقرأ عبيد بن عمير: «يُخْذِلْكم» بضمها مِنْ أخذل رباعياً، والهمزةُ فيه لجَعْل الشيءِ، أي: يَجْعَلْكم مخذولين.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ :[ «أَنْ يَغُلًّ» في محلِّ رفعٍ اسمَ كان، و «لنبي» خبرٌ مقدم] أي: ما كان له غُلول أو إغْلال على حَسَبِ القراءتين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين مِنْ «غَلَّ» مبنياً للفاعل، ومعناه: أنه لا يَصِحُّ أن يقع من النبي غُلول لتنافِيهما، فلا يجوزُ أن يُتَوَهَّمَ ذلك فيه البتة. وقرأ الباقون «يُغَلَّ» مبنِيّاً للمفعول. وهذه القراءةُ فيها احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ من «غَلَّ» ثلاثياً، والمعنى: ما صَحَّ لنبيٍّ أَنْ يَخُونَه غيرُه ويَغُلَّه، فهو نفيٌ في معنى النهي أي: لا يَغُلُّه أحدٌ. والاحتمال الثاني: أَنْ يكونَ مِنْ أغلَّ رباعياً، وفيها وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ من أَغَلَّه: أي نَسَبه إلى الغُلول كقولِهم: أَكْذَبْتُه أي: نَسَبْتُه إلى الكذب، وهذا في المعنى كالذي قبله أي: نفيٌ في معنى النهي أي: لا يَنْسِبه أحدٌ إلى الغُلول. والثاني: أن يكونَ مِنْ أَغَلَّه أي وجده غالاًّ كقولهِم:
465
أَحْمَدْتُ الرجلَ وأَبْخَلْتُه وأجبنتُه أي: وجدته محموداً وبخيلاً وجباناً. والظاهر أن قراءة «يَغُلَّ» بالياء للفاعل لا يُقَدَّر فيها مفعولٌ محذوفٌ؛ لأنَّ الغَرَضَ نفيُ هذه الصفة عن النبي من غيرِ نظرٍ إلى تَعَلُّقٍ بمفعولٍ كقولك: «هو يعطي ويمنع» تريدُ إثباتَ هاتَين الصفتين. وقَدَّر له أبو البقاء مفعولاً فقال: «تقديرُه: أَنْ يَغُلَّ المالَ أو الغنيمةَ».
واختار أبو عبيد والفارسي قراءةَ البناء للفاعل قالا: لأنَّ الفعلَ الواردَ بعدُ «ما كان لكذا أن يفعل» أكثرُ ما يَجِيءُ منسوباً إلى الفاعل نحو: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ﴾ [آل عمران: ١٤٥] ﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ﴾ [آل عمران: ١٧٩] وبابه ورجَّحها بعضُهم بقولِه: ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ﴾ فهذا يُوافِقُ هذه القراءةَ، ولا حُجَّة في ذلك لأنها موافقةٌ للأخرى.
والخَذْلِ والخِذْلاَنِ ضد النصر، وهو تَرْكُ مَنْ تَظُنُّ به النُّصْرة. وأصلُه منْ «خَذَلَتِ الظَّبْيَةُ ولدَها» أي: تركَتْه منفرداً، ولهذا قيل لها: خاذِل. ويقال للولدِ المتروك أيضاً: خاذِل، وهذا على النسب، والمعنى أنها مخذولةٌ، قال بُجَيْر:
١٤٨٥ - بجيدِ مُغْزِلَةٍ أَدْماءَ خاذِلَةٍ
من الظِّباءِ تُراعي منزلاً زِيَمَا
466
ويُقال له أيضاً: خَذول، فَعُول بمعنى مَفْعول. قال:
١٤٨٦ - خَذُولٌ تُراعِي رَبْرَباً بخميلةٍ
تَنَاولُ أطرافَ البَريرِ وترْتَدي
ومنه يُقال: تَخاذَلَتْ رِجْلا فلانٍ «قال الأعشى:
١٤٨٧ - بينَ مَغْلوبٍ تليلٍ خَدُّهُ
وخذولِ الرِّجْلِ من غيرِ كَسَحْ
ومعنى المادة: هذا الترك الخاص.
والغُلول في الأصلِ: تَدَرُّع الخِيانَةِ وتوسُّطها، والغَلَلُ: تَدَرُّعُ الشيء وتوسُّطه، ومنه:» الغَلَلُ «للماءِ الجاري بين الشجرِ، والغِلُّ: الحِقْدُ لكُمونه في الصدر، وتَغَلْغَلَ في كذا: إذا دخَل فيه وتوسَّط، قال:
١٤٨٨ - تَغَلْغَلَ حيث لم يَبْلُغْ شَرابٌ
ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ
فالغُلولُ الذي هو الأخْذُ في خُفْيَةٍ مأخوذٌ من هذا المعنى، ومنه: «أَغَلَّ الجازِرُ» إذا سرق أو ترك في الإِهاب شيئاً من اللحم. وفَرَّقت العربُ بين الأفعالِ والمصادرِ فقالوا: غَلَّ يَغُلُّ غُلولاً بالضَّمِّ في المصدر والمضارع إذا خان، وغل يَغِلُّ غِلاًَّ بالكسر فيهما. قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ [الأعراف: ٤٣] أي حِقد.
467
قوله: ﴿وَمَن يَغْلُلْ﴾ الظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشرطيةَ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب، وإنما جِيء بها للرَّدْع عن الإِغلالِ. وزعم أبو البقاء أنها يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً، ويكونُ التقديرُ: في حال علم الغَالِّ بعقوبةِ الغُلول، وهذا وإنْ كان محتَمَلاً ولكنه بعيدٌ. و «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ أي: غِلُّه، ويَدُلُّ على ذلك الحديثُ: «إنَّ أحدَهم يأتي بالشيء الذي أخذَه على رقبتِه». ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً، وتكونُ على حَذْفِ مضاف أي: بإثمِ غلولِه.
وقولُه: ﴿ثُمَّ توفى﴾ هذه الجملةُ معطوفةٌ على الجملة الشرطية، وفيها إعلامٌ أنَّ الغالَّ وغيرَه مِنْ جميعِ الكاسبين لا بُدَّ وأن يُجازوا فيندرجَ الغالُّ تحت هذا العموم أيضاً فكأنه ذُكِر مرتين. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: هَلاَّ قيل:» ثم يُوَفَّى ما كسَب «ليتصلَ به. قلت: جِيء بعامٍّ دخَل تحتَه كلُّ كاسبٍ من الغالِّ وغيرِه فاتَّصل به من حيثُ المعنى، وهو أثبتُ وأبلغُ».
قوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله﴾ : الكلامُ على مثلِه قد تقدَّم مِنْ أنَّ الفاءَ النيةُ بها التقديمُ على الهمزةِ، وأن مذهبَ الزمخشري تقديرُ فعلٍ بينهما. قال الشيخ: «وتقديرُه في مثلِ هذا التركيبِ متكلَّفٌ جداً». انتهى. والذي يَظْهَرُ من التقديرات: «أحَصَل لكم تمييزٌ بين الضالِّ والمُهْتدي، فَمَنِ اتَّبع رضوانَ اللهِ واهتدى ليس كَمَنْ باءَ بسخطِه وغلَّ». لأنَّ الاستفهامَ هنا للنفي. و «مَنْ» هنا موصولةٌ بمعنى الذي في محلِّ رفع بالابتداء، والجارُّ والمجرورُ الخبرُ. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ تكونَ شرطاً، لأنَّ»
468
كَمَنْ «لا يصلُح أن يكونَ جواباً» يعني لأنَّه كان يَجِبُ اقترانُه بالفاءِ، ولأنَّ المعنى يأْباه.
و «بسَخَطٍ» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ الفعلِ أي: رَجَع بسَخَطِه، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً فيتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: رجَع مصاحباً لسَخَطه أو ملتبساً به. و «مِنَ الله» صفتُه. والسَّخَط: الغضبُ الشديد، ويقال: «سَخَط» بفتحتين وهو مصدرٌ قياسي، ويقال: «سُخط» بضمِّ السين وسكونِ الخاء، وهو غيرُ مقيسٍ، ويقال: «هو في سُخْطَةِ المَلِك» بالتاءِ أي: في كراهةٍ منه له.
قوله: ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ في هذه الجملةِ احتمالان: أن تكون مستأنفةً، أخبر أنَّ مَنْ باءَ بسَخَطِه أَوَى إلى جهنَّم. ويُفْهَمُ منه مقابله وهو: أنَّ مَنِ اتَّبع الرضوانَ كان مأواه الجنة، وإنما سَكَتَ عن هذا ونَصَّ على ذلك ليكونَ أبلغَ في الزجر، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ في هذه الجمل تقديرُه: أفَمَنْ اتبع ما يؤولُ به إلى رضا الله فباء برِضاه كَمَنِ اتَّبع ما يَؤُول به إلى سَخَطه.
والثاني: أنها داخلةٌ في حَيِّز الموصولِ، فتكونُ معطوفةً على «باء بسخط»، فيكونُ قد وَصَل الموصولَ بجملتين اسميةٍ وفعلية، وعلى كلا الاحتمالَيْن لا محلَّ لها من الإِعراب. والمخصوصُ بالذمِّ محذوف أي: وبئس المصيرُ جهنمُ. واشتملت هذه الآياتُ على الطباق في قوله: «يَنْصُرْكم ويَخْذُلْكم»، وفي قولِه: «رضوان الله وسخطه»، والتجنيسُ المماثِلُ في قولِه: «يَغْلُلْ» و «بما غلَّ».
قوله تعالى :﴿ هُمْ دَرَجَاتٌ ﴾ : مبتدأُ وخبرٌ، ولا بُدَّ من تأويل في الإِخبار بالدرجات عن " هم " لأنها ليست إياهم، فيجوزُ أَنْ يكونَ جُعِلوا نفسَ الدرجاتِ مبالغةً، والمعنى : أنَّهم متفاوتون في الجزاءِ على كَسْبهم، كما أنَّ الدرجاتِ متفاوتةٌ، والأصلُ على التشبيه أي :/ هم مثلُ الدرجات في التفاوت، ومنه قوله :
أنَصْبٌ للمنيَّةِ تَعْتَرِيهمْ
رجالي أم هُمُ دَرَجُ السُّيولِ
ويجوزُ أَنْ يكونَ على حذفِ مضافٍ أي : ذوو درجات أي : أصحاب منازلَ ورتبٍ في الثوابِ العقاب.
وأجاز ابن الخطيب أن يكونَ الأصلُ :" لهم درجات " فحُذفت اللام، وعلى هذا يكونُ " درجاتٌ " مبتدأ ما قبلَها الخبرُ. وقد رَدَّ عليه بعضُ الناس، وجَعَل هذا مِنْ جَهْلِهِ وجهلِ متبوعيه من المُفَسِّرين بلسانِ العربِ وقال :" لا مساغَ لحذفِ اللامِ البتة، لأنها إنما تُحْذَفُ في مواضعَ يُضْطَرُّ إليها، وهنا المعنى واضحٌ مستقيمٌ مِنْ غيرِ تقديرِ حَذْفٍ "، ولعَمْري إنَّ ادِّعاء حذفِ اللامِ خطأٌ، والمخطيءُ معذورٌ، ولكن قد نُقِل عن المفسرين هذا، ونُقل عن ابن عباس والحسن :" لكلٍّ درجاتٌ من الجنةِ والنار "، فإنْ كان هذا القائل أَخَذَ من هذا الكلامِ أنَّ اللامَ محذوفةٌ فهو مخطىء، لأنَّ هؤلاء رضي الله عنهم يُفَسِّرون المعنى لا الإِعرابَ اللفظي. وقرأ النخعي :" درجةٌ " بالإِفراد عل الجنس.
و " عند الله " فيه وجهان، أحدُهما : أَنْ يتعلَّق ب " درجات " على المعنى لِما تضمَّنت من معنى الفعل، كأنه قيل : هم متفاضلون عند الله، وأَنْ يتعلق بمحذوفٍ صفةً لدرجات، فيكونَ في محل رفع.
وقرىء «لِمنْ مَنِّ الله» ب «مِنْ» الجارة، و «مَنِّ» بالتشديدِ مجرورٌ بها. وخَرَّجه الزمخشري على وجهين، أحدُهما: أَن يكونَ هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف تقديرُه: «لِمنْ مَنِّ الله على المؤمنين مَنُّه أو بَعْثُه إذ بعث، فحُذِف لقيام الدلالة، والثاني: أنه جُعِل المبتدأُ نفسَ» إذ «بمعنى وقت، وخبرُها الجارُّ قبلَها تقديرُه: لِمْن مَنِّ اللهِ على المؤمنين وقتُ بعثه، ونَظَّره بقولِهم:» أَخْطَبُ ما يكونُ الأميرُ إذا كان قائماً «. وهذان الوجهانِ في هذه القراءةِ مِمَّا يَدُلاَّن على رسوخِ قدمِه في هذا العلمِ.
إلاَّ أنَّ الشيخَ قد رَدَّ عليه الوجَه الثاني بأنَّ» إذ «غيرُ متصرفةٍ، لا تكونُ إلا ظرفاً، أو مضافاً إليها اسمُ زمان، أو مفعولةً باذكر على قولٍ. ونَقَل قولَ أبي علي فيها وفي» إذا «أنهما لا تكونان فاعلين ولا مفعولين ولا مبتدأين. قال:» ولا يُحْفَظُ مِنْ كلامِهم: «إذ قام زيدٌ طويلٌ» يريد: وقتُ قيامِه طويلٌ، وبأنَّ تنظيرَه القراءةَ بقولِهم: «أخطبُ» إلى آخره خطأ، من حيث إنَّ المشبه مبتدأٌ والمُشَبَّه [به] ظرفٌ في موضعِ الخبرِ عند مَنْ يُعْرِبُ هذا الإِعرابَ، ومِنْ حيث إنَّ هذا الخبرَ الذي قد أبْرزه ظاهراً واجبُ الحذفِ لسدِّ الحالِ مسدَّه، نصَّ عليه النحويون الذين يُعْرِبونه هكذا فكيف يُبْرِزُه في اللفظِ «. وجوابُ هذا الردِّ واضحٌ، وليت أبا القاسم لم يَذْكُرْ تخريجَ هذه القراءةِ حتى كنا نسمع.
والجمهورُ على ضَمِّ السين من» أنفسهم «أي: مِنْ جملتهم وجنسهم. وقرأت عائشة وفاطمة والضحاك ورواها أنس عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
471
بفتح الفاء من النَّفاسة، وهي الشرف أي: أشرفِهم نسباً وخَلْقاً وخُلُقاً. وعن علي عنه عليه السلام:» أنا أَنْفَسُكم نَسَباً وحَسَباً وصِهْراً «.
وهذا الجارُّ يَحْتمل وجهين أحدُهما: أَنْ يتعلَّق بنفس» بعث «. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه وصفٌ ل» رسولاً «فيكونُ منصوبَ المحلِّ، ويَقْوى هذا الوجهُ على قراءةِ فتح الفاء وقوله: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ﴾ في محل حال أو مستأنف، وقد تقدَّم نظيرُها في البقرة.
وقوله: ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي﴾ هي» إنْ «المخففةُ واللام فارقة، وقد تقدَّم الكلامُ على تحقيق هذا والخلافِ فيه. إلاَّ أنَّ الزمخشري ومكيّاً هنا حين جعلاها مخففةً قدَّرا لها اسماً محذوفاً، فقال الزمخشري:» تقديرُه: وإنَّ الشأنَ والحديثَ كانوا من قبل «. وقال مكي:» وأمَّا سيبويهِ فإنه يقول إنَّها محففةٌ واسمُها مضمرٌ «، والتقديرُ: على قولِه:» وإنهم كانوا «. وهذا ليس بجيد، لأنَّ» إنْ «المخففةَ إنما تعمل في الظاهرِ على غير الأفصحِ، ولا عمل لها في المضمر، ولا يُقَدَّرُ لها اسمٌ محذوفٌ البتَّةَ، بل تُهْمَلُ أو تعمل على ما تقدَّم، مع أنَّ الزمخشري لم يُصَرِّحْ بأنَّ اسمَها محذوفٌ، بل قال:» إنْ هي المخففةُ واللامُ فارقةٌ، وتقديرُه: وإنَّ الشأن والحديثَ كانوا «فقد يكونُ هذه تفسيرَ معنىً لا إعرابٍ.
وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ والثاني: في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعولِ في» يُعَلِّمُهم «وهو الأظهرُ.
قوله تعالى: ﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ﴾ : الهمزةُ للإِنكار، وجَعَلَها ابن عطية للتقرير، والواوُ عاطفةٌ، والنيةُ بها التقديمُ على الهمزةَ على ما تقرر. وقال الزمخشري: «و»«لَمَّا» نصبٌ بقلتم، و «أصابَتْكم» في محل الجر بإضافة «لَمَّا» إليه، وتقديره، «قلتم حين أصابتكم» و «أنَّى» هذا نُصِب لأنه مقولٌ والهمزةُ للتقريعِ والتقريرِ. فإنْ قلت: علامَ عَطَفَتِ الواوُ هذه الجملةَ؟ قلت: على ما مضى من قصةِ أُحُد من وقوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ﴾، ويجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على محذوفٍ تقديرُه: أفعلتم كذا وقلتم حينئذٍ كذا «انتهى.
أمَّا جَعْلُه» لَمَّا «بمعنى» حين «أي ظرفاً فهو مذهبُ الفارسي، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين، وأمَّا قولُه:» عَطْفٌ على قصةِ أُحُد «؛ فهذا غيرُ مذهبِه؛ لأنَّ الجاريَ من مذهبه إنما هو تقديرُ جملةٍ يُعْطَفُ ما بعد الواوِ عليها أو الفاءِ أو ثم كما قَرَّره هو في الوجه الثاني.
و» أنى هذا «أنَّى: بمعنى» مِنْ أين «كما تقدَّم في قولِه ﴿أنى لَكِ هذا﴾ [آل عمران: ٣٧]. ويَدُلُّ عليه قولُه: ﴿مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ و ﴿مِنْ عِندِ الله﴾ قاله الزمخشري. ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الظرفَ إذا وقَعَ خبراً لا يُقَدَّر داخلاً عليه حرفُ جر غيرُ» في «،» أمَّا أَنْ يُقَدَّرَ دَاخلاً عليه «مِنْ» فلا، لأنه إنما انتصبَ على إسقاطِ «في» ولذلك إذا أُضْمِر الظرفُ تعدَّى إليه [الفعلُ] ب «في» إلاَّ أَنْ يُتََّسَعَ فيه. قال: «فتقديرُه غيرُ سائغٍ واستدلاله بقولِه: ﴿مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ {مِنْ
473
عِندِ الله} وقوفٌ مع مطابقةِ السؤالِ للجواب في اللفظِ وذُهولٌ عن هذه القاعدةِ». واختار الشيخُ أنَّ «أَنَّى» بمعنى «كيف» قال: «وأنَّى سؤالٌ عن الحالِ هنا، ولا تناسِبُ أَنْ تكونَ بمعنى» أين «أو» متى «؛ لأنَّ الاستفهامَ لم يَقَعْ عن مكانٍ ولا زمانٍ هنا، إنما وقع عن الحالِ التي اقتضَتْ لهم ذلك، سألوا عنها على سبيل التعجُّبِ، وجاءَ الجوابُ من حيثُ المعنى لا من حيث اللفظُ في قولِه: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾. قال:» والسؤالُ «ب» أنَّى «سؤالٌ عن تعيين كيفيةِ حصولِ هذا الأمرِ، والجوابُ بقولِه: ﴿مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ يضمَّن تعيين الكيفية، لأنه بتعيين السببِ تتعيَّن الكيفيةُ مِنْ حيث المعنى، لو قيل على سبيلِ التعجبِ: كيف لا يَحُجُّ زيدٌ الصالحُ!! فقيل في جوابه:» لعدم استطاعته «لحصل الجوابُ وانتظم من المعنى أنه لا يَحُجُّ وهو غيرُ مستطيعٍ» انتهى.
أمَّا قولُه: «لا يُقَدَّر الظرفُ بحرفِ جرٍ غير» في «فالزمخشري لم يُقَدِّر» في «مع» أنَّى «حتى يلزَمَه ما قال، إنما جَعَل» أنَّى «بمنزلةِ» من أين «في المعنى. وأمَّا عدوله عن الجوابِ المطابقِ لفظاً فالعكسُ أولى.
وقوله: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ﴾ في محلِّ رفعٍ صفةً ل» مصيبة «. و» قلتم «على مذهبِ سيبويه جوابُ ل» لَمَّا «، وعلى مذهبِ الفارسي ناصبٌ لها، على حَسَبِ ما تقدَّم من مذهبيهما. والضميرُ في قوله» قل «هو راجع على المصيبة من حيث المعنى. ويجوز/ أن يكون على حذف مضاف مُرَاعَىً أي: سببُها، وكذلك الإِشارةُ بقولِه:» أنّى هذا «لأنَّ المرادَ المصيبةُ.
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ﴾ :«ما» موصولةٌ بمعنى الذي في محلِّ رفعٍ بالابتداء. و ﴿فَبِإِذْنِ الله﴾ الخبر، وهو على إضمارٍ تقديرُه: فهو بإذنِ الله، ودَخَلَتِ الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط نحو: «الذي
474
يأتيني فله درهم» وهذا على ما قَرَّره الجمهورُ مُشْكِلٌ، وذلك أنهم قَرَّروا أنه لا يجوز دخولُ هذه الفاء زائدةً في الخبر إلا بشروط، منها أن تكون الصلة مستقبلة في المعنى، وذلك لأنَّ الفاء إنما دخلت للشبه بالشرط، والشرط إنما يكونُ في الاستقبالِ لا في الماضي، لو قلت: «الذي أتاني أمس فله درهم» لم يَصِحَّ، و «أصابَكم» هنا ماضٍ في المعنى لأنَّ القصةَ ماضيةٌ فكيف جاز دخولَ هذه الفاءِ؟
وأجابوا عنه بأنه يُحْمَلُ على التبيين أي: «وما تبَيَّن إصابته إياكم» كما تأوَّلوا: ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ﴾ [يوسف: ٢٧] أي: إنْ تَبَيَّن، وهذا شرطٌ صريح. قلت: وإذا صح هذا التأويل فَلتُجْعل «ما» هنا شرطاً صريحاً، وتكونُ الفاء داخلةً وجوباً لكونِها واقعة جواباً للشرط. وقال ابنُ عطية: «يَحْسُن دخولُ الفاءِ إذ١اكان سببَ الإِعطاءِ، وكذلك ترتيبُ هذه، فالمعنى إنما هو: وما أَذِن اللهُ فيه فهو الذي أصابكم، لكنْ قَدَّم الأهَمَّ في نفوسِهم والأقربَ إلى حِسِّهم. والإِذْنُ: التمكين من الشيء مع العلم به» وهذا حسنٌ مِِنْ حيث المعنى، فإنَّ الإِصابةَ مترتبةٌ على الإِذْن من حيث المعنى. وأشارَ بقولِه «الأهَمَّ والأَقربَ» إلى ما أصابَهم يوم التقى الجَمْعان.
قوله: «وَلِيعٍلَمَ» في هذه اللامِ قَوْلان: أحدُهما: أنها معطوفةٌ على معنى قوله: ﴿فَبِإِذْنِ الله﴾ عطفَ سببٍ على سببٍ، فتتعلَّقُ بما تتعلَّق به الباءُ. والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أي: ولِيَعْلَمَ فَعَلَ ذلك، أي: أصابكم والأول
475
أَوْلَى، وقد تقدَّم أنَّ معنى «ولِيَعْلَمَ اللهُ كذا» أي تمييزاً ويُظْهرَ للناسِ ما كان في عِلْمِه. وزعم بعضُهم أن ثم مضافاً أي: ليعلم إيمانَ المؤمنين ونفاق الذين، ولا حاجة إليه.
قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ﴾ : هذه الجملةُ تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكونَ استئنافيةً، أخبر الله أنهم مأمورون: إمَّا بالقتالِ وإمَّا بالدَّفعِ أي: تكثيرِ سواد المسلمين: والثاني: أن تكون معطوفة على «نافقوا»، فتكون داخلةً في حَيِّز الموصول أي: وليعلم الذين حصل منهم النفاقُ والقولُ بكذا، و «تعالوا»«وقاتِلوا» كلاهما قائمٌ مقام الفاعل ل «قيل» لأنه هو المقولُ، وقد تقدَّم ما فيه. قال أبو البقاء: «وإنما لم يَأْتِ بحرفِ العطفِ يعني بين تعالوا وقاتِلوا لأنه قَصَدَ أن تكونَ كلُّ من الجملتين مقصودةً بنفسِها، ويجوز أَنْ يُقال إنَّ المقصودَ هو الأمرُ بالقتال، و» تعالَوا «ذَكَر ما لو سَكَتَ عنه لكان في الكلام ما يَدُلُّ عليه، وقيل: الأمر الثاني حال». يعني بقوله: «وتعالوا ذكرَ ما لو سَكَت» أي: المقصودُ إنما هو أمرُهم بالقتالِ لا مجيئُهم وحدَه، وجَعْلُه «قاتلوا» حالاً من «تعالوا» فاسدٌ؛ لأنَّ الجملة الحالية يُشْترط أن تكون خبريةً وهذه طلبيةٌ.
قوله: ﴿أَوِ ادفعوا﴾«أو» هنا على بابِها من التخييرِ والإِباحة. وقيل: بمعنى الواو لأنه طَلَبَ منهم القتالَ والدفعَ، والأولُ هو الصحيح. وقوله: «قالوا: لو نعلمُ» إنما لم يأتِ في هذه الجملةِ بحرفِ عطفٍ لأنها جوابٌ لسؤالِ سائلٍ: كأنه قيل: فما قالوا لَمَّا قيل لهم ذلك؟ فأُجيب بأنهم قالوا ذلك. و «نعلمُ» وإنْ كان مضارعاً فمعناه المُضِيُّ لأن «لو» تُخَلِّص المضارع إذ كانت لِما سيقع لوقوع غيره [للمضيّ]. ونكَّر «قتالاً» أي: لو عَلِمْنا بعضَ قتالٍ ما.
476
قوله: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ﴾«هم» مبتدأٌ و «أقربُ» خبرُه، وهو أفعلُ تفضيلٍ، و «للكفر» متعلقٌ به، وكذلك «للإِيمان». فإنْ قيل: «لا يتعلَّقُ حرفا جر متحدان لفظاً ومعنىً بعامل واحدٍ، إلاَّ أن يكون أحدُهما معطوفاً على الآخر أو بدلاً منه، فكيف تعلَّقاً ب أقرب» ؟ فالجواب أنَّ هذا خاصٌّ بأفعلِ التفضيل قالوا: لأنه في قوة عاملين، فإنَّ قولَك: «زيدٌ أفضلُ من عمرو» معناه: يزيدُ فضلُه على فضل عمر. وقال أبو البقاء: «وجاز أن يعملَ» أقربُ «فيهما لأنهما يُشْبِهان الظرف، وكما عمل» أطيبُ «في قولهم:» هذا بُسْراً أطيبُ منه رُطباً «في الظرفينِ المقدَّرين، لأنَّ» أفعلَ «يَدُلُّ على معنيين: على أصل الفعل وزيادتِه، فيعملُ في كلِّ واحدٍ منهما بمعنى غيرِ الآخر، فتقديرُه: يَزيدُ قربُهم إلى الكفرِ على قُرْبِهم إلى الإِيمان».
ولا حاجة إلى تشبيه الجارَّيْنِ بالظرفين، لأن ظاهره أن المسوِّغَ لتعلُّقِهما بعاملٍ واحدٍ شِبْهُهُما بالظرفين، وليس كذلك، وقولُه: «الظرفين المقدرين» يعني أنَّ المعنى: هذا في أوانِ بُسْرِيَّتِه أطيبُ منه أوانَ رُطَبِيَّتِه.
و «أقربُ» هنا من القُرْب الذي هو ضد البُعْد، ويتعدَّى بثلاثةِ حروفٍ: اللام و «إلى» و «مِنْ»، تقولُ: قَرُبْتُ لك وإليك ومنك، فإذا قلت: «زيدٌ أقربُ من العلمِ من عمروٍ» ف «مِنْ» الأولى المُعَدِّيةُ لأصلِ معنى القرب، والثانيةٌ هي الجارة للمفضولِ. وإذا تقرَّر هذا فلا حاجةَ إلى ادِّعاء أنَّ اللامَ بمعنى إلى.
و «يومئذ» متعلِّقٌ ب «أقربُ»، وكذا «منهم»، و «مِنْ» هذه هي الجارَّةُ للمفضولِ بعد أَفْعل، وليسَتْ هي المُعَدِّيةَ لأصلِ الفعل. ومعنى ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ﴾ أنهم كانوا قبلَ هذا الوقتِ كاتمين للنفاق، فكانوا
477
في الظاهرِ أبعدَ مِنَ الكفر، فلمَّا ظَهَرَ منهم ما كانوا يكتُمُونه صاروا أقربَ للكفر.
و «إذ» مضافَةٌ لجملةٍ محذوفةٍ عُوِّضَ منها التنوينُ كما تَقَدَّم تقريرُه، وتقديرُ هذه الجملةِ، «هم للكفرِ يومَ إذ قالوا: لو نعلمُ قتالاً لاتَّبعناكم» وقيل: المعنى على حَذْفِ مضافٍ أي: هم لأهلِ الكفر أقربُ لأهلِ الإِيمان. وفُضِّلوا هنا على أنفسِهم باعتبارِ حالين ووقتين. ولولا ذلك لم يَجُزَ. تقولُ: «زيدٌ قاعداً أفضلُ منه قائماً» أو: «زيدٌ قاعداً اليومَ أفضلُ منه قاعداً غداً» ولو قلت: «زيدٌ اليومَ قاعداً أفضلُ منه اليومَ قاعداً» لم يجز.
وحكى النقاش عن بعض المفسرين أنَّ «أقرب» هنا ليست من معنى القرب الذي هو ضد البعد، وإنما هي من القَرَب بفتح القاف والراء، وهو طَلَب الماء، ومنه «قاربَ الماء»، ليلةُ القَرَب: ليلةُ الورود، فالمعنى: هم أطلبُ للكفر، وعلى هذا فتتعيَّن التعديةُ باللام، على حَدِّ قولك: «زيدٌ أضربُ لعمروٍ».
قوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم﴾ في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في: «أقرب» أي: قَرُبوا للكفر قائلين هذه المقالة. وقوله: «بأفواهِهم» قيل: تأكيدٌ كقوله: ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨]. والظاهرُ أنَّ القولَ يُطلق على اللسانيّ والنفسانيّ فتقييدُه بأفواههم تقييدُ لأحدِ محتملين، اللهم إلا أَنْ يُقال: إنَّ إطلاقَه على النفساني مجازٌ. قال الزمخشري: «وذِكْرُ القلوبِ مع الأفواه تصويرٌ لنفاقِهم، وأنَّ إيمانهم موجود في أفواههم فقط» وبهذا الذي قاله الزمخشري ينتفي كونُه للتأكيد لتحصيله هذه الفائدة.
قوله تعالى: ﴿الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ﴾ : جَوَّزوا في موضع «الذين» الألقابَ الثلاثة: الرفعَ والنصبَ والجرَّ، فالرفعُ من ثلاثة أوجه، أحدها: أَنْ يكونَ مرفوعاً على خبرِ مبتدأ محذوف تقديره: هم الذين. الثاني: أنه بدل من واو «يكتمون». الثالث: أنه مبتدأ، والخبرُ قولُه: ﴿قُلْ فَادْرَءُوا﴾ ولا بد من حَذْفِ عائدٍ تقديرُه: قل لهم فادرؤوا. والنصبُ من ثلاثة أوجه أيضاً، أحدُها: النصبُ على الذم أي أذُمُّ الذين قالوا. والثاني: أنه بدل من «الذين نافقوا» الثالث: أنه صفةٌ لهم. والجَرُّ من وجهين: البدل من الضميرِ في «بأفواهِهم»، أو من الضمير في «قلوبِهم» كقولِ الفرزدق:
١٤٩٠ - على حالةٍ لو أنَّ في القومِ حاتماً
على جودِه لضنَّ بالماءِ حاتمِ
بجر «حاتم» على أنه بدلٌ من الهاءِ في «جوده»، وقد تقدَّم الخلافُ في هذه المسألة.
وقال الشيخ: وجَوَّزوا في إعرابِ «الذين» وجوهاً: الرفع على النعت ل «الذين نافقوا»، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو على أنه بدل من الواو في «يكتمون»، والنصبُ فذكره إلى أخره. وهذا عجيبٌ منه لأنَّ «الذين نافقوا» منصوبٌ بقوله «وليعلَم»، وهم في الحقيقة عَطْفٌ على «المؤمنين»، وإنما كَرَّر العاملَ توكيداً، والشيخُ لا يَخْفى عليه ما هو أشكلُ من هذا، فيُحتمل أن يكونَ تبع غيره في هذا السهو، وهو الظاهر في كلامه، ولم يَنْظُر في الآية اتكالاً على ما رآه منقولاً، وكثيراً ما يقع الناس فيه، وأَنْ يُعْتَقَدَ أنَّ «الذين» فاعلٌ
479
بقوله: «وليعلَم» أي: «فَعَلَ الله ذلك ليَعْلم هو المؤمنين وليَعْلم المنافقون» ولكنَّ مثل هذا لا ينبغي أن يجوزَ البتة.
قوله: ﴿وَقَعَدُواْ﴾ يجوز في هذه الجملة وجهان أحدهما: أن تكون حالية من فاعل «قالوا» و «قد» مرادةٌ، أي: وقد قعدوا، ومجيء الماضي حالاً بالواو وقد، أو بأحدهما، أو بدونهما ثابتٌ من لسان العرب. والثاني: أنها معطوفةٌ على الصلةِ فتكونُ معترضةً بين «قالوا» ومعمولِها وهو «لو أطاعونا».
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين﴾ : مفعول أول، و «أمواتاً» مفعولٌ ثان، والفاعلُ: إمَّا ضميرُ كل مخاطب أو ضميرُ الرسول عليه السلام كما تقدَّم في نظائره.
وقرأ حميد بن قيس وهشام بخلاف عنه «يَحْسَبَنَّ» بياء الغيبة. وفي الفاعلِ وجهان، أحدهما: أنه مضمرٌ: إمَّا ضميرُ الرسول، أو ضمير مَنْ يَصْلُح للحُسْبان أَيِّ حاسبٍ. والثاني: قاله الزمخشري وهو أن يكون «الذين قُتِلوا» قالِ: «ويجوزُ أَنْ يكون» الذين قُتِلوا «فاعلاً، والتقدير: ولا يَحْسَبَنَّهم الذين قتلوا أمواتاً أي: ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً. فإنْ قلت: كيف جاز حَذْفُ المفعول الأول؟ قلت: هو في الأصل مبتدأ فَحُذِف كما حُذِف المبتدأ في قوله:» بل أحياءٌ «أي: هم أحياءٌ، لدلالة الكلام عليهما.
ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ هذا التقديرَ يؤدي إلى تقديمِ الضميرِ على مفسَّره، وذلك لا يجوزُ إلا في أبوابٍ محصورةٍ، وعدَّ باب: رُبَّه رجلاً، ونِعْم
480
رجلاً زيدٌ، والتنازع عند إعمال الثاني في رأي سيبويه، والبدلُ على خلاف فيه، وضمير الأمر. قال:» وزاد بعضُ أصحابنا أن يكون [الظاهر] المفسِّر خبراً، وبأنّ حَذْفَ أحد مفعولي «ظن» اختصاراً إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليلٌ جداً، نَصَّ عليه الفارسي، ومَنَعه ابن ملكون البتة «.
وهذا من تَحَمُّلاته عليه. أمَّا قولُه» يؤدي إلى تقديم المضمر إلى آخره «فالزمخشري لم يقدِّرْه صناعةً بل إيراداً للمعنى المقصود، ولذلك لَمَّا أراد أن يُقَدَّر الصناعة النحويةَ قَدَّره بلفظ» أنفسهم «المنصوبةِ وهي المفعول الأول، وأظنُ أنَّ الشيخَ تَوَهَّم أنها مرفوعةٌ تأكيدٌ للضمير في» قُتلوا «، ولم ينتبه أنه إنما قَدَّرها مفعولاً أولَ منصوبةً. وأمَّا تمشيتُه قولَه على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك، وما عليه من ابنِ مَلْكون؟ وستأتي مواضع يَضْطَرُّ هو وغيرُه إلى حَذْفِ أحد المفعولين كما ستقف عليه قريباً. وتقدَّم الكلام على مادة» حَسِب «ولغاتِها وقراءاتها.
وقرأ ابن عامر:» قُتِّلوا «بالتشديد، وهشام وحده في» لو أطاعونا ما قُتِّلوا «، والباقون بالتخفيف. فالتشديد للتكثير، والتخفيف صالح لذلك.
481
وقرأ الجمهور» أحياءٌ «رفعاً على» بل هم أحياء «وقرأ ابن أبي عبلة:» أحياءً «وخَرَّجها أبو البقاء على وجهين، أحدهما: أن تكون عطفاً على» امواتاً «قال:» كما تقول: «ظننت زيداً قائماً بل قاعداً». والثاني: وإليه ذهب الزمخشري أيضاً أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ تقديره: بل أحسَبُهم أحياءً «. وهذا الوجه سبق إليه أبو إسحاق الزجاج، إلاَّ أنَّ الفارسي رَدَّه عليه في» الإِغفال «قال:» لأنَّ الأمرَ تعيَّن فلا يجوزُ أن يُؤمر فيه بمحسبة، ولا يَصِحُّ أن يُضْمَرَ له إلا فعلُ المحسبة، فوجهُ قراءة ابن أبي عبلة أن تُضْمِر فعلاً غيرَ المحسبة: اعتقِدْهم أو اجْعَلْهم، وذلك ضعيفٌ إذ لا دلالة في الكلام على ما يُضْمَر «انتهى.
وهذا تحاملٌ من أبي عليّ. أمَّا قوله: «إنَّ الأمر تعيَّن» يعني أنَّ كونَهم أحياءً أمرٌ متيقن، فكيف يُقال فيه: «أَحْسَبُهم» بفعل يقتضي الشك؟ وهذا غيرُ لازم لأنَّ «حَسِبَ» قد تأتي لليقين. قال:
١٤٩١ - حَسِبْتُ التُّقَى والجودَ خيرَ تجارةٍ
رَباحاً إذا ما المرءُ أَصبح ثاقِلا
وقال آخر:
١٤٩٢ - شهدْتِ وفاتوني وكنتُ حَسِبْتُني
فقيراً إلى أَنْ يَشْهدوا وتَغِيبي
ف «حَسِب» في هذين البيتين لليقين، لأنَّ المعنى على ذلك، وقوله: «وذلك ضعيف» يعني من حيث عدمُ الدلالةِ اللفظيةِ، وليس كذلك، بل إذا
482
أَرْشَد المعنى إلى شيء يُقَدَّر ذلك الشيءٌ لدلالة المعنى عليه من غير ضَعْف، وإنْ كان دلالةُ اللفظِ أحسنَ. وأمَّا تقديرُه هو «أو اجْعَلْهم» قال الشيخ: «هذا لا يَصِحُّ البتة سواء جَعَلْتَ» أجْعَلْهم «بمعنى:» اخْلُقْهم أو صَيِّرهم أو سَمِّهم أو الْقَهُمْ «.
قوله: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُهما: أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ل» أحياءٌ «على قراءة الجمهور. الثاني: أن يكونَ ظرفاً ل» أحياء «لأنَّ المعنى: يَحْيَوْن عند ربِّهم. الثالث: أن يكونَ ظرفاً ل» يُرْزقون «أي: يقعُ رِزْقُهم في هذا المكانِ الشريف. الرابع: أن يكون صفةً ل» أحياء «، فيكونَ في محلِّ رفعٍ على قراءةِ الجمهورِ ونصبٍ على قراءة ابن أبي عبلة. الخامس: أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في» أحياء «والمرادُ بالعندية المجازُ عن قربهم بالتكرمة. قال ابن عطية:» هو على حَذْفِ مضاف إي: عند كرامةِ ربهم «ولا حاجةَ إليه، لأنَّ الأولَ أليق.
قوله: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ خبراً ثالثاً لأحياء، أو ثانياً إذا لم تَجْعَلِ الظرفَ خبراً. الثاني: أنه صفةٌ ل» أحياء «بالاعتبارين المتقدمين، فإِنْ أعربنا الظرفَ وصفاً أيضاً فيكونُ هذا جاءَ على الأحسنِ، وهو أنه إذا وُصِف بظرفٍ وجملةٍ فالأحسنُ تقديمُ الظرفِ وعديلِه لأنه أقربُ إلى المفرد. الثالث: أنه حالٌ من الضمير في» أحياء «أي: يَحْيَون مرزوقين. والرابع: أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الظرف، والعاملُ فيه في الحقيقة العاملُ في الظرف. قال أبو البقاء في هذا الوجه:» ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الظرفِ إذا جَعَلْتَه صفةً «أي: إذا جَعَلْت الظرف، وليس ذلك مختصاً بجَعْلِه صفةً فقط، بل لو جَعَلْتَه حالاً جاز ذلك أيضاً، وهذه تُسَمَّى الحالَ
قوله تعالى: ﴿فَرِحِينَ﴾ : فيه خمسةُ أوجه، أحدها: أن يكونَ حالاً من الضمير في «أحياءٌ». الثاني: من الضمير في الظرف. الثالث: من الضمير في «يُرْزَقون» : الرابع أنه منصوب على المدح. الخامس أنه صفةٌ ل «أحياء»، وهذا يختصُّ بقراءة ابن أبي عبلة. و «بما» يتعلَّقُ ب «فرحين».
قوله: ﴿مِن فَضْلِهِ﴾ في «مِنْ» وجهان، أحدُهما: أنَّ معناها السببيّة أي: بسبب فضله أي: الذي آتاهم الله متسبِّبٌ عن فضله. الثاني: أنها لابتداءِ الغاية، وعلى هذين الوجهين تتعلق بآتاهم. الثالث: أنها للتعبيضِ أي: بعضَ فضله، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف على أنها حال من الضمير العائد على الموصول، ولكنه حُذِف والتقدير: بما آتاهموه كائناً من فضله.
قوله: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ﴾ فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أن يكونَ من باب عطفِ الفعلِ على الاسم لكونِ الفعلِ في تأويلهِ، فيكونُ عطفاً على «فرحين» كأنه قيل: فَرِحين ومستبشرين، ونَظَّروه بقوله تعالى: ﴿فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ [الملك: ١٩]. والثاني: أنه أيضاً/ يكونُ من باب عطف الفعل على الاسم، لكنْ لأنَّ الاسم في تأويل الفعل. قال أبو البقاء: «هو معطوفٌ على» فرحين «؛ لأنَّ اسم الفاعل هنا يُشْبه الفعل المضارع» يعني أنَّ «فرحين» بمنزلة «يفرحون»، وكأنه جعله من باب قوله: ﴿إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ﴾ [الحديد: ١٨]، والتقديرُ الأولُ أَوْلى، لأنَّ الاسمَ وهو «فرحين» لا ضرورةَ بنا إلى أَنْ نجعلَه في مَحلِّ فعلٍ مضارعٍ حتى نتأَوَّل الاسمَ به، والفعلُ فرعٌ عليه، فينبغي أن يُرَدَّ إليه،
484
وإنما فعلنا ذلك في الآيةِ لأنَّ أل الموصولةَ بمعنى الذي، و «الذي» لا تُوصَلُ إلا بجملة أو شبههِا، وذلك الشَّبَهُ في الحقيقةِ يِتأوَّل بجملة.
الثالث: أَنْ يكونَ مستأنفاً، الواو للعطف عَطَفْت فعليةً على اسمية.
الرابع: أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف أي: وهم يستبشرون، وحينئذ يجوز وجهان، أحدُهما: أن تكونَ الجملةُ حاليةً من الضمير المستكِنِّ في «فرحين» أو من العائد المحذوف من «آتاهم»، وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جَعْلِنا إياها حالاً لأنَّ المضارع المثبت لا يجوز اقترانُه بواو الحال لِما تقدَّم غيرَ مرة. والثاني من هذين الوجهين: أن تكونَ استئنافية عَطَفَتْ جملةً اسميةً على مثلها.
واستفعل هنا ليست للطلب، بل تكون بمعنى المجردِ نحو: «استغنى الله، واستمجد المَرْخ والعَفار» بمعنى غَنِي ومَجُد. وقد سمع «بَشِر الرجل» بكسر العين فيكون استبشر بمعناه، قاله ابن عطية. ويجوز أن يكونَ مطاوعَ أبشر نحو: «أكأنه فاستكان، وأراحه فاستراح، وأشلاه فاستشلى، وأَحْكمه فاستحكم» وهو كثير.
وجَعَله الشيخ أظهرَ مِنْ حيث إنَّ المطاوعة تدلُّ على الانفعال عن الغير، فحصلت لهم البشرى بإبشار الله تعالى، وهذا لا يلزمُ إذا كان بمعنى المجرد.
قوله: ﴿مِّنْ خَلْفِهِمْ﴾ في هذا الجارِّ وجهان، أحدهما: أنه متعلق
485
ب «يَلْحقوا» على معنى أنهم قد بَقُوا بعدهم، وهم قد تقدَّموهم. والثاني: أن يكونَ متعلقاً بمحذوف على أنه حال من فاعل «يلحقوا» أي: لم يلحقوا بهم حالَ كونِهم مُتَخَلِّفين عنهم أي: في الحياة.
قوله: ﴿أَلاَّ خَوْفٌ﴾ فيه وجهان أحدُهما: أنَّ «أَنْ» وما في حَيِّزها في محل جر بدلاً من «بالذين» بدلَ اشتمال أي: يستبشرون بعدم خوفهم وحزنهم فهم المُسْتَبْشَرُ به في الحقيقة لأنَّ الذواتِ لا يُسْتَبْشَر بها. والثاني: أنها في محل نصب على أنها مفعولٌ من أجله أي: لأنهم لا خوف. و «أَنْ» هذه هي المخففةُ، واسمها ضمير الشأن، وجملةُ النفي بعدها في محلِّ الخبر، والذواتُ لا يُسْتبشر بها كما تقدَّم فلا بد من حذف مضاف مناسبٍ، والتقدير: ويستبشرون بسلامةِ الذين، أو لُحوقهم بهم في الدرجة.
وقال مكيّ بعد أَنْ حَكَى أنها بدلُ اشتمال: «ويجوز أن تكون» أَنْ «في موضع نصب على معنى» بأن لا «. وهذا هو بعينِه هو وجه البدلِ المتقدم، غايةُ ما في الباب أنه أعاد مع البدلِ العاملَ في تقديره، اللهم أَنْ يعني أنها وإنْ كانت بدلاً من» الذين «فليست في محلِّ جر بل في محلِّ نصب، لأنها سقطت منها الباءُ فإنَّ الأصل» بأَنْ لا «و» أَنْ «إذا حُذِف منها حرفُ الجر كانت في محلِّ نصب على رأي سيبويه والفراء. وهو بعيد.
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ﴾ : قرأ الكسائي بكسر «إنَّ» على الاستئناف. وقال الزمخشري: «إنَّ قراءةَ الكسرِ اعتراضٌ»
486
واسشكل كونَها اعتراضاً، لأنَّها لم تقع بين شيئين متلازمين «ويمكن أن يُجاب عنه بأن» الذين استجابوا «يجوز أن يكون تابعاً ل» الذين لم يلحقوا «نعتاً أو بدلاً على ما سيأتي، فعلى هذا يُتَصَوَّرُ الاعتراض. ويؤيِّد كونَها للاستئنافِ قراءةُ عبد الله ومصحفه:» والله لا يُضيع «. وقرأ باقي السبعة بالفتح عطفاً على قوله:» بنعمةٍ «لأنها بتأويل مصدر أي: يستبشرون بنعمة من الله وفضلٍ منه وعدمِ إضاعةِ اللهِ أجرَ المؤمنين.
وقوله: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ من غيرِ حرف عطف فيه أوجه، أحدها: أنه استئنافٌ متعلِّق بهم أنفسِهم دونَ» الذين لم يلحقوا بهم «لاختلاف متعلَّق البشارتين. والثاني: أنه تأكيدٌ للأول لأنه قَصَد بالنعمة والفضل بيانَ متعلَّق الاستبشار الأول، وإليه ذهب الزمخشري. الثالث: أنه بدل من الفعل الأول، ومعنى كونه بدلاً أنه لَمَّا كان متعلَّقُه بياناً لمتعلَّق الأول حَسُن أن يقال: بدلٌ منه، وإلاَّ فكيف يُبْدَلُ فِعْلٌ مِنْ فعلٍ موافقٍ له لفظاً ومعنى؟ وهذا في المعنى يََؤُول إلى وجه التأكيد. والرابع: أنه حال من فاعل» يحزنون «، ويحزنون عامل فيه أي: ولاهم يحزنون حالَ كونهم مستبشرين بنعمة. وهو بعيدٌ لوجهين، أحدهما: أنَّ الظاهرَ اختلافُ مَنْ نَفَى عنه الحزن ومن استَبْشَر. والثاني: أنَّ نَفْيَ الحزن ليس مقيداً ليكون أبلغَ في البشارة، والحالُ قيدٌ فيه فيفوتُ هذا المعنى.
قوله تعالى: ﴿الذين استجابوا﴾ : فيه ستة أوجه، أحدها: أنه مبتدأ، وخبره قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ﴾. وقال مكيّ هنا: «وخبرُه ﴿مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح﴾ ». وهذا غلطٌ لأنَ هذا ليس
487
بمفيد البتة، بل «مِنْ بعد» متعلِّقٌ باستجابوا. والثاني: خبر مبتدأ مضمر أي: هم الذين. والثالث: أنه منصوبٌ بإضمار «أعني». وهذان الوجهان يَشْملُهما قولُك «القطع». الرابع: أنه بدل من «المؤمنين». الخامس: أنه بدل من «الذين لم يلحقوا» قاله مكي. السادس: أنه بدلٌ من «المؤمنين». ويجوز فيه وجهٌ سابع: وهو أن يكون نعتاً لقوله: «الذين لم يلحقوا» قياساً على جَعْلِه بدلاً منهم عند مكي. و «ما» في «بعدما أصابَهم» مصدريةٌ، و «للذين أحسنوا» خبرٌ مقدم.
و «منهم» فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ من الضمير في «أحسنوا» وعلى هذا ف «مِنْ» تكون تبعيضيةً. والثاني: أنها لبيان الجنس. قال الزمخشري: «مثلُها في قوله: ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم﴾ [الفتح: ٢٩] لأنَّ الذين استجابوا قد أحسنوا كلُّهم واتقوا لا بعضُهم». و «أجرٌ» مبتدأ مؤخر، والجملة من هذا المبتدأ وخبره: إمَّا مستأنفة أو حالٌ إن لم نُعْرِبْ الذين استجابوا مبتدأ، وإمَّا خبرٌ إنْ أعربناه مبتدأ كما تقدَّم تقريره.
قوله تعالى: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس﴾ : فيه من الأوجه ما تقدم في «الذين» قبله، إلاَّ في رفعه بالابتداء.
قوله: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَاناً﴾ في فاعلِ «زاد» ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه ضمير يعود على المصدر المفهوم من «قال» أي: فزادهم القولُ بكيت وكيت إيماناً نحو: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [المائدة: ٨]. والثاني: أنه يعودُ على المقولِ الذي
488
هو ﴿إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم﴾ كأنه قيل: قالوا لهم هذا الكلامَ فزادهم إيماناً. الثالث: أنه يعود على الناس، إذ أريد واحدٌ فردٌ كما نقل في القصة، وسبب النزول وهو نُعَيْم بن مسعود الأشجعي، نقل هذه الثلاثةَ الأوجهَ الزمخشري. واستضعف الشيخ الوجهين الأخيرين، قال: «مِنْ حيث إنَّ الأولَ لا يزيد إيماناً إلا النطقُ به لا هو في نفسه، ومن حيث إنَّ الثاني إذا أُطلْق على المفردِ لفظُ الجمع مجازاً فإنَّ الضمائرَ تَجْري على ذلك الجمعِ لا على المفرد. تقول:» مفارقُه شابَتْ «باعتبارِ الجمع، ولا يجوز:» مفارِقُه شاب «باعتبار: مَفْرِقُه شاب».
وفيما قاله الشيخ نظرٌ، لأنَّ المقولَ هو الذي في الحقيقة حَصَل به زيادةُ الإِيمان. وأمَّا قوله: «تَجرْي على الجمع لا على المفرد» فغير مُسَلَّم. ويَعْضُده أنهم نَصُّوا على أنه يجوزُ اعتبارُ لفظِ الجمعِ الواقعِ موقعَ المثنى تارةَ ومعناه أخرى فأجازوا: «رؤوس الكبشين قطعتُهُنَّ وقطعتهما» وإذا ثَبَتَ ذلك في الجمع الواقعِ موقعَ المثنى فليَجُزْ في الواقعِ موقع المفرد. ولقائلٍ أَنْ يُفَرِّق بينهما وهو أنه إنما جازَ أَنْ يُراعَى معنى التثنيةِ المُعَبَّرِ عنها بلفظ الجمع لقَرْبها منه، من حيث إنَّ كلاً منهما فيه ضَمُّ شيء إلى مثلِه بخلافِ المفردِ فإنه بعيدٌ من الجمعِ لعدَمِ الضمِّ فلا يَلْزَمُ مِنْ مراعاة معنى التثنية في ذلك مراعاةُ معنى المفرد.
489
قوله: ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله﴾ عَطَفَ «قالوا» على «فزادهم» والجملةُ بعد القولِ في محلِّ النصب به. وقد تقدَّم أنَّ «حَسْب» بمعنى اسم الفاعل أي: «مُحْسِب» بمعنى الكافي، ولذلك كانت إضافتُه غيرَ محضةٍ عند قوله في البقرة: ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ [الآية: ٢٠٦].
وقوله: ﴿وَنِعْمَ الوكيل﴾ / المخصوصُ بالمَدْحِ محذوفٌ أي الله.
قولُه تعالى: ﴿بِنِعْمَةٍ﴾ : فيه وجهان أحدهما: أنها متعلقةٌ بنفس الفعل على أنها باءُ التعدية. والثاني: أنها تتعلَّقُ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضميرِ في «انقلبوا» والباءُ على هذا للمصاحبةِ كأنه قيل: فانقلبوا ملتبسينَ بنعمةٍ ومصاحبين لها.
قوله: ﴿لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾ هذه الجملةٌ في محل نصب على الحال أيضاً، وفي ذي الحال وجهان أحدهما: أنه فاعلُ «انقلبوا» أي: انقلبوا سالمين من السوء. والثاني: أنه الضميرُ المستكنُّ في «بنعمة» إذا كانت حلاً، والتقديرُ: فانقلبوا مُنَعَّمين بريئين من السوء، والعامل فيها العاملُ في «بنعمة» فهما حالان متداخلتان، والحال إذا وقعت مضارعاً منفياً ب «لم» وفيها ضميرُ ذي الحال جاز دخولُ الواو وعدمُه، فمِن الأول قولُه تعالى: ﴿أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾ [الأنعام: ٩٣] وقولُ كعب:
١٤٩٣ - لا تَأْخُذَنِّي بأقوالِ الوشاةِ ولم
أُذْنِبْ وإنْ كَثُرَتْ فِيَّ الأقاويلُ
490
ومن الثاني هذه الآيةُ وقَولُه: ﴿وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً﴾ [الأحزاب: ٢٥]، وقولُ قيس بن الأسلت:
١٤٩٤ - وأضرِبُ القَوْنَسَ يوم الوغى
بالسيفِ لم يَقْصُرْ به باعِي
وبهذا يُعْرف غلط الأستاذ ابن خروف حيث زعم أنه الواو لازمةٌ في مثل هذا، سواءً كان في الجملة ضميرٌ أم لم يكن.
قوله: ﴿واتبعوا﴾ يجوز في ِهذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها عطف على «انقلبوا». والثاني: أنها حال من فاعل «انقلبوا» أيضاً، ويكونُ على إضمار «قد» أي: وقد اتبعوا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذلكم الشيطان﴾ :«إنما» حرف مكفوف ب «ما» عن العمل، وقد تقدَّم القول فيها أولَ هذا الكتاب. وفي إعراب هذه الجملةِ خمسةُ أوجه، أحدها: أن يكون «ذلكم» مبتدأ و «الشيطان» خبره، و ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ حالٌ بدليل قوع الحال الصريحة في مثل هذا التركيب نحو: ﴿وهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود: ٧٢] ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً﴾ [النمل: ٥٢].
الثاني: أن يكونَ «الشيطانُ» بدلاً أو عطف بيان، و «يُخَوِّفُ» الخبر ذكره أبو البقاء. الثالث: أن كونَ «الشيطان» نعتاً لاسمِ الإِشارة، و «يُخَوِّفُ» الخبر، على أن يُراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان. ذكره الزمخشري. قال
491
الشيخ: «وإنما قال:» والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان «لأنه لا يكونُ نعتاً والمرادُ به إبليس لأنه إذ ذاك يكون علماً بالغلبة كالعَيُّوق، إذ هو في الأصل صفةٌ ثم غَلب على إبليس» وفيه نظر. الرابع: أن يكون «ذلكم» ابتداءً وخبراً، و «يُخَوِّف» جملةً مستأنفة بيانٌ لشيطنته، والمرادُ بالشيطان هو المُثَبِّط للمؤمنين. الخامس: أن يكون: «ذلكم» مبتدأ، و «الشيطانُ» مبتدأ ثانٍ، و «يُخَوِّف» خبرُ الثاني، والثاني وخبرُه خبر الأول قاله ابن عطية. وقال «وهذا الإِعرابُ خيرٌ في تناسق المعنى من أن يكون» الشيطان «خبر» ذلكم «لأنه يَجِيء في المعنى استعارةً بعيدة.
وَردَّ عليه الشيخ هذا الإِعرابَ إنْ كان الضمير في» أولياءه «عائداً على الشيطان؛ لخلوِّ الجملة الواقعة خبراً مِنْ رابط يربطها بالمبتدأ وليست نفسَ المبتدأ في المعنى نحو:» هِجِّيرى أبي بكر: لا إله إلا الله «، وإن عاد على» ذلكم «ويُراد بذلكم غيرُ الشيطان جاز، ويصير نظيرَ:» إنما هند زيدٌ يضربُ عبدها «والمعنى: إنما ذلكم الركب أو أبو سفيان الشيطانُ يخوفكم أنتم أولياءَه أي: أولياءَ الركب أو أولياء أبي سفيان.
والمشار إليه ب» ذلكم «هل هو عينٌ أو معنى؟ فيه احتمالان، أحدهما: أنه إشارة إلى ناس مخصوصين كنعيم وأبي سفيان وأشياعهما على ما تقدم. والثاني: أنه إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب وإرسال أبي سفيان وجَزَعِ مَنْ جَزَعَ، وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف مضاف أي: فِعْلَ
492
الشيطان، وقَدَّره الزمخشري:» قولَ الشيطان «أي: قولَه السابق وهو ﴿إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم﴾ وعلى كلا التقديرين أعني كون الإِشارة لأعيانٍ أو معان فالإِخبار بالشيطان عن» ذلكم «مجاز، لأنَّ الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعالِ الصادرة من الكفارِ ليست نفسَ الشيطان، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جاز ذلك.
قوله: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ قد تقدَّم ما محلُّه من الإِعراب، والتضعيفُ فيه للتعدية، فإنه قبل التضعيف متعدٍّ إلى واحدٍ وبالتضعيفِ يكتسب ثانياً، وهو من باب أعطى، فجوزُ حَذْفُ مفعوليه أو أحدهما اقتصاراً واختصاراً، وهو في الآية الكريمة يَحْتمل أوجهاً، أحدها: أن يكون المفعولُ الأول محذوفاً تقديره: يُخَوِّفكم أولياءه، ويُقَوِّي هذا التقديرَ قراءةُ ابن عباس وابن مسعود هذه الآيةَ كذلك، والمراد بأوليائه هنا الكفارُ، ولا بد من حذف مضاف أي: شَرَّ أوليائه، لأنَّ الذواتِ لا يُخاف منها. والثاني: أن يكونَ المفعول الثاني هو المحذوف، و «أولياءه» هو الأول، والتقدير: يُخَوِّف أولياءه شر الكفار، ويكون المرادَ بأوليائه على هذا الوجه المنافقون ومَنْ [في] قلبه مرض مِمَّن تخلَّف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخروج، والمعنى: أنَّ تخويفه بالكفار إنما يَحْصُل للمنافقين الذي هم أولياؤه، وأما أنتم فلا يَصِل إليكم تخويفُه. والثالث ذكره بعضهم أن المفعولين محذوفان، و «أولياءه» نصب على إسقاطِ حرف الجر، والتقدير: يُخوِّفكم الشرَّ بأوليائه، والباء للسبب أي: بسبب أوليائه، فيكونون هم آلة التخويف، وكأن هذا القائل رأى قراءة أُبيّ والنخعي: «يُخَوِّف بأوليائه» فظنَّ أن قراءة الجمهور مثلُها في الأصل، ثم
493
حُذِفت الباء، وليس كذلك، بل تخريجُ قراءة الجمهور على ما تقدَّم، إذ لا حاجة إلى ادِّعاء ما لا ضرورة له. وأمَّا قراءةُ أُبَيّ فتحتمل الباءُ أن تكون زائدةً كقوله:
١٤٩٥ -........................
سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
فتكونُ كقراءةِ الجمهورِ في المعنى، ويُحتمل أن تكونَ للسببِ والمفعولان محذوفان كما تقدَّم تقريرهُ.
قوله: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ﴾ في الضمير المنصوبِ ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه يعودُ على أوليائِه أي: فلا تَخافوا أَولياءَ الشيطان، هذا إنْ أُريد بالأولياء كفارُ قريش. والثاني: أن يعود على «الناس» من قوله: ﴿إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾ إنْ كان المرادَ بأوليائه المنافقون. والثالث: أن يعودَ على الشيطان على المعنى. قال أبو البقاء: «إنما جُمِع الضميرُ لأنَّ الشيطانَ جنس». والياءُ في قوله: «وخافونِ» من الزوائد، فأثبتها أبو عمرو وصلاً، وحذفَها وقفاً على قاعدتِه، والباقون يحذفونها مطلقاً.
وقوله: ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ جوابُه محذوفٌ أو متقدِّم عند مَنْ يرى ذلك، وهذا من بابِ الإِلهاب والتهييج، وإلاَّ فهم متلبِّسون بالإِيمان.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الذين﴾ : قرأ نافع «يُحْزِنْك» بضم حرف المضارعة من «أحزن» رباعياً في سائر القرِآن إلا التي
494
في قوله: ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر﴾ [الأنبياء: ١٠٣] فإنه كالجماعة. والباقون بفتح الياء من حَزَنه ثلاثياً، فقيل: هما من باب ما جاء فيه فَعَل وأَفْعَل بمعنىً، وقيل: باختلافِ معنى، فَحَزَنَه جعل فيه حُزْناً نحو: دَهَنه وكَحَله أي: جعل فيه دُهْناً وكُحْلاً، وأحزنْتُه إذا جَعَلْتُه حزيناً، ومثلُ حَزَنَه وأَحْزَنَه: فَتنَه وأَفْتَنَه، قال سيبويه: «وقال بعضُ الأعرابِ: أَحْزَنْتُ الرجل وأفْتَنْتُه أي: جَعَلْتُه حزيناً وفاتناً». وقيل: حَزَنْتُه أحدثْتُ له الحُزْنَ، وَأَحْزَنْتُه عَرَّضْتُه للحزن، قاله أبو البقاء. وقد تقدَّم في البقرة اشتقاقُ هذه اللفظة وما قيل فيها. وتقدَّم أيضاً أنه يُقال: حَزِن الرجلُ بالكسر، فإذا أرادوا تعديتَه عَدَّوْه بالفتحةِ فيقولون: «حَزَنْتُه». ك «شَتِرَتْ عينه وشَتَرها الله». والحقُّ أَنَّ حَرَنَه وأَحْزَنَه لغتان فاشيتان لثبوتهما متواترتين وإنْ كان أبو البقاء قال: «إنَّ أحزن لغةٌ قليلةٌ».
ومِنْ عجيبِ ما اتفق أن نافعاً رحمه الله يقرأ هذه المادة من «أحزن» إلا التي في الأنبياء كما تقدم، وأن شيخه أبا جعفر يزيد بن القعقاع يقرؤها من «حَزَنه» ثلاثياً إلا التي في الأنبياء، وهذا من الجمع بين اللغتين، والقراءةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعةٌ.
ويُقْرأ: «يُسارعون» بالفتحِ والإِمالةِ. وقرأ النحوي: «يُسْرعون» من أَسْرع في جميع القرآن. قال ابن عطية: «وقرءاةُ الجماعةِ أبلغُ، لأنَّ الذي
495
يُسارعُ غيرَه أشدُّ اجتهاداً/ مِن الذي يُسْرِعُ وحده.
وقوله:» شيئاً «فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ أي: لا يَضُرُّونه شيئاً من الضرر. والثاني: أنه منصوب على إسقاط الخافض أي: لن يضروه بشيء، وهكذا كلُّ موضعٍ أشبهه ففيه الوجهان.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي﴾ ؛ قرأ الجمهور «يَحْسَبَنَّ» بالغيبة، وحمزة بالخطاب، وحكى الزجاج عن خلقٍ كثير كقراءةِ حمزة إلا أنَّهم كسروا «إنما» ونصبوا «خيراً» وأنكرها ابن مجاهد، وسيأتي إيضاح ذلك، ويحيى بن وثاب بالغيبة وكسر «إنما»، وحكى عنه الزمخشري أيضاً أنه قرأ بكسر «إنما» الأولى وفتح الثانية مع الغَيْبة. فهذه خمسُ قراءات.
فأمَّا قراءةُ الجمهور فتخريجُها واضحٌ، وهو أنه يجوز أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً إلى «الذين»، و «أنَّ» وما اتصل بها سادٌّ مسدَّ المفعولين عند سيبويه ومَسَدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش حَسْبما تقدم غير مرة. ويجوز أن يكون مسنداً إلى ضمير غائب يُراد به النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي: ولا يحسبن النبيُّ عليه السلام، فعلى هذا يكون «الذين كفروا» مفعولاً أول، وأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة، فتتَّحِدُ هذه القراءةُ على هذا الوجه مع قراءة حمزة رحمه الله، وسيأتي تخريجها. و «ما» يجوز أَنْ
496
تكونَ موصولة اسمية، فيكونُ العائد محذوفاً لاستكمال الشروط، أي: أنَّ الذي نُمْليه، وأن تكونَ مصدرية أي: إملاءنَا، وهي اسم «أنَّ» و «خير» خبرُها. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ تكونَ كافةً ولا زائدةً، إذ لو كانت كذلك لانتصَبَ» خيرٌ «ب» نُمْلي «، واحتاجت» أنَّ «إلى خبرٍ إذا كانت» ما «زائدةً، أو قُدِّر الفعلُ يليها، وكلاهما ممتنعٌ». انتهى. وهو من الواضحات، وكتبوا «أنما» في الموضعين متصلةً، وكان من حقِّ الأولى الفصلُ لأنها موصولة.
وأمَّا قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوالُ الناس وتخاريجُهم حتى إنه نُقِل عن أبي حاتم أنها لحن. قال النحاس: «وتابعه على ذلك خلقٌ كثير» وهذا لا يُلْتفت إليه لتواتُرها. وفي تخريجها ستةٌ أوجهٍ، أحدها: أن يكون فاعلُ «تحسَبَنَّ» ضميرَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ مفعولٌ أولُ، و ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ﴾ مفعولٌ ثانٍ. ولا بد على هذا التخريجِ مِنْ حَذْفِ مضافٍ: أمَّا من الأولِ تقديرُه: «ولا تَحْسَبَنَّ شأنَ الذين كفروا»، وإمَّا من الثاني تقديرُه: «أصحابَ أنَّ إملاءنا خيرٌ لهم»، وإنما احتجنا إلى هذا التأويل؛ لأنَّ «أنما نُمْلي» بتأويلِ مصدرٍ، والمصدرُ معنىً من المعاني لا يَصْدُق على الذين كفروا، والمفعولُ الثاني في هذا البابِ هو الأولُ في المعنى.
الثاني: أن يكونُ ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ بدلٌ من ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ وإلى هذا ذهب الكسائي والفراء وتَبِعهما جماعةٌ منهم الزمخشري والزجاج وابن الباذش.
قال الكسائي والفراء: «وجهُ هذه القراءةِ التكريرُ والتأكيدُ، والتقدير: ولا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا ولا تحْسَبَنَّ أنما نُمْلي». قال الفراء: «ومثلُه: {هَلْ
497
يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ} [الزخرف: ٦٦] أي: ما ينظرون إلاَّ أَنْ تأتِيَهم» انتهى. وقد رَدَّ بعضُهُم قول الكسائي والفراء بأَنْ حَذْفَ المفعولِ الثاني في هذه الأفعالِ لا يجوزُ عند أحدٍ، وهذا الردُّ ليس بشيءٍ، لأنَّ الممنوعَ إنما هو حَذْفُ الاقتصارِ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك. وقال ابن الباذش: «ويكونُ المفعولُ الثاني حُذِفَ لدلالةِ الكلام عليه، ويكونُ التقديرُ:» ولا تحسبنُ الذين كفروا خيريةَ إملائنا لهم ثابتةً أو واقعةً «.
وقال الزمخشري:» فإنْ قلت: كيف صَحَّ مجيءُ البدلِ ولم يُذْكَرْ إلا أحدُ المفعولين، ولا يجوزُ الاقتصارُ مِنْ فعلِ الحُسْبان على مفعولٍ واحدٍ؟ قلت: صَحَّ ذلك من حيث إنَّ التعويلَ على البدلِ، والمبدلُ منه في حُكمِ المُنَحَّى، ألا تراك تقول: «جعلت متاعك بعضه فوق بعضٍ» مع امتناعِ سكوتِك على «متاع».
وهل البدلُ بدلُ اشتمالٍ وهو الظاهرُ أو بدلُ كلٍ من كل فيكونُ على حذفٍ مضافٍ تقديرُه: «ولا تَحْسَبَنَّ إملاء الذين» فَحَذَف «إملاء» وأبدلَ منه «أنما نملي» ؟ قولان مشهوران.
الثالث: وهو أغربُها أن يكونَ «الذين» فاعلاً ب «تَحْسَبَنَّ» على تأويلِ أَنْ تكونَ التاءُ في الفعلِ للتأنيثِ كقولِه: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [الشعراء: ١٠٥] أي: «ولا تَحْسَبَنَّ القومَ الذين كفروا» و «الذين» وصفُ «القوم» كقوله: ﴿وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ﴾ [الأعراف: ١٣٧] فعلى هذا تَتَّحد هذه القراءةُ مع قراءة الغَيْبة، وتخريجُها كتخريجِها، ذكر ذلك أبو القاسم الكرماني في تفسيرِه المسمى:
498
ب «اللباب». وفيه نظرٌ من حيث إنَّ «الذين» جارٍ مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ، والجمعُ المذكرُ السالمُ لا يجوز تأنيثُ فعلِه عند البصريين، لا يجوزُ: قامت الزيدون، ولا: تقوم الزيدون. وأمَّا اعتذارُه عن ذلك بأنَّ «الذين» صفةٌ للقوم الجائزِ تأنيثُ فعلِهم وإنما حُذِفَ فلا ينفعه، لأنَّ الاعتبارَ إنما هو بالملفوظ به لا بالمقدَّرِ، لا يُجيز أحدٌ من البصريين: «قامت المسلمون» على إرادة «القوم المسلمون» البتة. وقال أبو الحسن الحوفي: «أنَّ وما عَمِلَتْ فيه في موضعِ نصبٍ على البدلِ، و» الذين «المفعولُ الأولُ، والثاني محذوفٌ»، وهو معنى قول الزمخشري المتقدم.
الرابع: أن يكونَ ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ بدلاً من ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ بدلَ الاشتمالِ أي: إملاءَنا، و «خيرٌ» بالرفعِ خبرُ مبتدأ محذوف أي: هو خيرٌ لأنفسهم، والجملةُ هي المفعولُ الثاني. نقل ذلك الشيخ شهاب الدين أبو شامة عن بعضهم، قال: قلت: ومثلُ هذه القراءة بيتُ الحماسة:
١٤٩٦ - مِنَّا الأَناةُ وبعضُ القوم يَحْسَبُنا
أنَّا بِطاءٌ وفي إبطائنا سَرَعُ
كذا جاءت الرواية بفتح «أنَّا» بعد ذِكْر المفعولِ الأول، فعلى هذا يجوز أن تقول: «حَسِبْتُ زيداً أنه قائمٌ» أي: حَسِبْتُه ذا قيامٍ، فوجهُ الفتحِ أنها وقعت مفعولةً، وهي وما عَمِلَتْ فيه في موضعِ مفردٍ وهو المفعولُ الثاني لحسبت «انتهى. وفيما قاله نظر؛ لأن النحاة نصوا على وجوب كسر» إنَّ «إذا وقعت مفعولاً ثانياً والأولُ اسمُ عينٍ، وأنشدوا البيت المذكور على ذلك، وعللوا وجوبَ الكسر بأنَّا لو فَتَحْنا لكانت في محل مصدر فليزَمُ الإِخبارُ المعنى عن العين.
499
الخامس: أن يكون ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ مفعولاً أولَ، و ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً﴾ في موضع المفعول الثاني، و ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ﴾ مبتدأ وخبر، اعترض به بين مفعولي» وَتحْسَبَنَّ «، وفي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، نُقِل ذلك عن الأخفش. قال أبو حاتم:» سمعت الأخفش يذكر فتحَ «أَنَّ» يحتجُّ بها لأهل القَدَر لأنه كان منهم، ويجعله على التقديمِ والتأخير، كأنه قال: «ولا تَحْسَبَنَّ الذين [كفروا] إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسِهم» انتهى. وإنما جاز أن تكون «أَنَّ» المفتوحة مبتدأً بها أولُ الكلامِ لأنَّ مذهب الأخفشِ ذلك، وغيرُه يمنع ذلك، فإنْ تَقَدَّم خبرُها عليها نحو: «في ظني أنك منطلقٌ» أو أمَّا التفصيلية نحو: «أما أنك منطلقٌ فعندي» جاز ذلك إجماعاً، وقولُ أبي حاتم: «يذكرُ فتحَ أنَّ» يعني بها التي في قولهِ: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ﴾. ووجهُ تمسُّكِ القَدَريَّة به أنَّ الله تعالى لا يجوزُ أَنْ يُملي لهم إلا ماهو خيرٌ لأنفسِهم، لأنه يجبُ عندهم رعايةُ الأصلحِ.
[السادس: قال المهدوي: «وقال قوم] قدَّم ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ توكيداً، ثم حالَهم مِنْ قولِه: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ ردَّاً عليهم، والتقدير: ولا تحسبنُ أنَّ إملاءَنا للذين كفروا خيرٌ لأنفسهم» انتهى.
وأمَّا قراءة يحيى بكسر «إنما» مع الغيبة فلا يخلو: إمَّا أَنْ يُجْعَلَ الفعلُ مسنداً إلى «الذين» أو إلى ضمير غائب، فإن كان الأولُ كانت «إنما» وما في حيزها معلِّقَةً ل «يحسبن» وإنْ لم تكن اللام في خبرها لفظاً فهي مقدرةٌ، فتكون «إنما» بالكسر في موضع نصب؛ لأنها معلقةٌ لفعلِ الحسبان مع نية اللام،
500
ونظيرُ ذلك تعليقُ أفعالِ القلوب عن المفعولين الصريحين لتقديرِ لامِ الابتداء في قولِه:
١٤٩٧ - كذاك أُدِّبْتُ حتى صار مِنْ خُلُقي
إني رأيتُ مِلاكُ الشيمةِ الأَدَبُ
فلولا تقديرُ اللامِ لوجَبَ نصبُ «مِلاك» و «الأدب»، وكذلك في الآية، لولا تقديرُ اللامِ لوجَبَ فتحُ «إنما»، ويجوزُ أَنْ يكون المفعولُ الأولُ قد حُذِف وهو ضميرُ الأمرِ والشأنِ، وقد قيل بذلك في البيت وهو الأحسن فيه، والأصلُ: ولا يحسَبَنَّه أي: الأمرَ، و «إنما نُمْلِي» في موضع المفعول الثاني وفي المفسِّرة للضمير.
وإن كان الثاني كان «الذين» مفعولاً أول، و «إنما نملي» في موضع الثاني.
وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشري فقد خَرَّجها هو فقال: «على معنى: ولا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنَّ إملاءَنا لازدياد الإِثم كما يفعلون، وإنما هو ليتوبوا ويَدْخلوا في الإِيمان، وقوله ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ﴾ اعتراضٌ بين الفعلِ ومعمولِه، معناه: أنَّ إملاءَنا خيرٌ لأنفسِهم إنْ عَمِلوا فيه وَعَرَفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المُدَّة وتَرْكِ المعاجَلَة بالعقوبة» انتهى. فعلى هذا يكون «الذين» فاعلاً، و «أنما» المفتوحة سادةٌ مَسَدَّ المفعولين أو أحدِهما على الخلاف، واعتُرِض بهذه الجملة بين الفعل ومعموله. قال النحاس: «وقراءةُ يحيى بن وثاب بكسر إنَّ» حسنةٌ، كما تقول: «حسبت عمراً أبو هـ خارجٌ».
501
وأمَّا ما حكاه الزجاج قراءةً عن خلق كثير وهو نَصْبُ «خيراً» على الظاهر من كلامه فقد ذكر هو تخريجَها على أنَّ ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْراً لأَنْفُسِهِمْ﴾ بدلٌ من «الذين» و «خيراً» مفعولٌ ثانٍ. ولا بُدَّ من إيرادِ نَصِّه ليظهرَ لك، قال رحمه الله: «مَنْ قَرَأَ» ولا تَحْسَبَنَّ «بالتاء لم يجز عن البصريين إلا كسرُ» إنَّ «والمعنى: لا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا إملاؤنا خيرٌ لهم، ودخلت» إنَّ «مؤكدةً، فإذا فَتَحْتَ صار المعنى: ولا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا إملاءنا خيراً لهم قال:» وهو عندي يجوزُ في هذا الموضعِ على البدلِ من «الذين» المعنى: ولا تَحْسَبَنَّ إملاءَنا للذين كفروا خيراً لهم، وقد قرأَ بها خَلْقٌ كثير، ومثلُ هذه القراءةِ من الشعر:
١٤٩٨ - فما كانَ قَيْسٌ هُلْكُه هلكَ واحدٍ
ولكنه بنيانُ قومٍ تَهَدَّما
جَعَل «هُلْكُه» بدلاً من «قيس» المعنى: فما كان هُلْكُ قيسٍ هُلْكَ واحد يعني: «فهُلْك» الأول بدلٌ من المرفوع، فبقي «هُلْكَ واحدٍ» منصوباً خبراً ل «كان»، كذلك ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ :«أن» واسمُها وهو «ما» الموصولةُ وصلتُها والخبرُ وهو «لهم» في محل نصبٍ بدلاً من الذين كفروا، فبقي «خيراً» منصوباً على أنه مفعولٌ ثانٍ ل «تحسبن».
إلاَّ أنَّ الفارسي قد رَدَّ هذا على أبي إسحاق بأنَّ هذه القراءةَ لم يَقرأ بها أحدٌ أعني نصبَ «خيراً» قال أبو عليّ الفارسي: «لا يَصِحُّ البدلُ
502
إلا بنصب» خير «من حيث كان المفعول الثاني ل» حسبت «، فكما انتصب» هلك واحدٍ «في البيت لَمَّا أبدلَ الأولَ من» قيس «بأنه خبرٌ لكان كذلك ينتصبُ» خيراً لهم «إذا أبدل الإِملاءَ من ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ بأنه مفعولٌ ثانٍ لتحسَبَنَّ» قال: «وسألْتُ أحمدَ بن موسى عنها فَزَعم أنَّ أحداً لم يَقْرأ بها» يعني بأحمد هذا أبا بكر بن مجاهد الإِمامَ المشهور.
وقال في «الحجة» له: «الذين كفروا في موضعِ نصبٍ بأنَّها المفعول الأول، والمفعولُ الثاني هو الأولُ في هذا الباب في المعنى، فلا يجوزُ إذاً فَتْحُ» أنَّ «في قولِه: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ لأنَّ إملاءَهم لا يكون إياهم» قال: «فإنْ قلت: لِمَ لا يجوزُ الفتحُ في» أنَّ «وتجعلُها بدلاً من ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ كقوله: ﴿وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف: ٦٣] وكما كان» أنَّ «من قولِه تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧]. قيل: لا يجوزُ ذلك، وإلا لزمك أَنْ تَنْصِبَ» خيراً «على تقدير: لا تَحْسَبَنَّ إملاءَ الذين كفروا خيراً لأنفسهم، حيث كان المفعول الثاني ل» تحسبنَّ «، وقيل: إنه لم يقرأ به أحد، فإذا لم يُنْصَبْ عُلِم أنَّ البدلَ فيه لا يَصِحُّ وإذا لم يَصِحَّ البدلُ لم يَجُزْ إلا كسرُ» إنَّ «على أن تكون» إنَّ «وخبرُها في موضع المفعول الثاني من» تحسبن «انتهى ما رد به عليه، فلم يبقَ إلا الترجيحُ بين نقل هذين الرجلين، أعني الزجاج وابن مجاهد، ولا شك أن ابن مجاهد أَعْنى بالقراءات، إلا أن الزجاج ثقةٌ، ويقول:» قرأ بها خلق كثير «، وهذا يُبْعِدُ غَلَطه فيه، والإِثباتُ مقدَّمٌ على النفي. وما ذكره أبو علي من قولِه:» وإذا لم يَجُزْ البدلُ لم يَجُزْ إلا كسرُ إنَّ «إلى آخره، هذا أيضاً مِمَّا لم يقرأ به أحدٌ. قال مكي:» وجهُ القراءةِ لِمَنْ قَرَأ بالتاء يعني بتاءِ الخطاب أنْ يكسر «إنما» فتكونُ الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني ولم يَقْرأ به أحدٌ عَلِمْتُه «.
503
وقد نقل أبو البقاء نصبَ» خيراً «قراءةً شاذة قال:» وقد قِرِىء شاذاً بالنصبِ على أَنْ يكونَ «لأنفسهم» خبرَ «أنَّ»، و «لهم» تبيينٌ أو حالٌ من «خيراً» يَعْني أنه لَمَّا جعل لأنفسهم الخيرَ جعل «لهم» : إمَّا تبييناً تقديرُه: أعني لهم، وإمَّا حالاً من النكرة المتأخرة، لأنه كان في الأصلِ صفةً لها، والظاهرُ على هذه القراءةِ ما قَدَّمْتُه مِنْ كونِ «لهم» هو الخبرَ، ويكونُ «لأنفسِهم» في محلِّ نصبٍ صفةً ل «خيراً» كما كانَ صفةً له في قراءةِ الجمهور، ونَقَلَ أيضاً قراءةَ كسر «إنَّ» وهي قراءة يحيى، وخَرَّجها على أنها جوابُ قسمٍ محذوف، والقسمُ وجوابُه يَسُدُّ مَسَدَّ المفعولين ولا حاجة إلى ذلك، بل تخريجُها على ما تقدَّم أولى، لأنَّ الأصلَ عدمُ الحذفِ.
والإِملاء: الإِمهالُ والمَدُّ في العمر، ومنه: «مَلاَوَةُ الدهر» للمدة الطويلة، والمَلَوان: الليل والنهار، وقولهم «مَلاَك اللهُ بنعمةٍ» أي: مَنَحَكها عمراً طويلاً. وقيل: المَلَوان: تكرُّر الليل والنهار وامتدادُهما، بدليلِ إضافتهما إليهما في قول الشاعر:
١٤٩٩ - نهارٌ وليلٌ دائمٌ مَلَواهُما
على كلِّ حالِ المرءِ يَخْتلفان
فلو كانا الليلَ والنهارَ لما أُضيفا إليهما، إذا الشيءُ لا يضاف إلى نفسِه. وقوله: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ أصلُ الياءِ واو، وإنما قُلِبَتْ ياءً لوقوعها رابعةً.
قوله: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا﴾ قد تقدَّم أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر الأولى وفتح هذه، فيما نقله عنه الزمخشري، وتقدَّم تخريجُها، إلا أنَّ الشيخَ
504
قال: «إنه لم يَحْكِها عنه غيرُ الزمخشري، بل الذين نقلوا قراءةَ يحيى إنما نقلوا كسره للأولى فقط» قال: «وإنما الزمخشري لِوَلُوعه بمذهبه يرومُ رَدَّ كلِّ شيء إليه». وهذا تحاملٌ عليه لأنه ثقة لا ينقل ما لم يُرْوَ.
وأما على قراءة كسرها ففيها وجهان، أحدهما: أنها جملة مستأنفة تعليلٌ للجملةِ قبلَها كأنه قيل: ما بالُهم يَحْسَبون الإِملاءَ خيراً؟ فقيل: إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً. و «إنَّ» هنا مكفوفةٌ ب «ما»، ولذلك كُتِبَتْ متصلةً على الأصل، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً ولا حرفيةً؛ لأنَّ لام كي لا يَصِحُّ وقوعُها خبراً للمبتدأ ولا لنواسِخِه.
والوجه الثاني: أنَّ هذه الجملةَ تكريرٌ للأولى. قال أبو البقاء: «وقيل» أنما «تكريرٌ للأولِ، و» ليزدادوا «هو المفعولُ الثاني ل» تَحْسَبَنَّ «هذا على قراءةِ التاء، والتقديرُ: لا تَحْسَبَنَّ يا محمد إملاءَ الذين كفروا خيراً ليزدادوا إثماً، بل ليزدادوا إيماناً، ويُرْوى أنَّ بعض الصحابة قرأه كذلك» انتهى. قلت: وفي هذا نظرٌ من حيث إنه جَعَل «ليزدادوا» هو المفعولَ الثاني، وقد تقدَّم أنَّ لامَ «كي» لا تقعُ خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه، ولأنَّ هذا إنما يَتِمُّ له على تقديرِ فتح الثانية، وقد تقدَّم أن أحداً لم ينقُلْها إلا الزمخشري عن يحيى، والذي يقرأ «تحسبن» بتاء الخطاب لا يفتحها البتة.
واللامُ في «ليزدادوا» فيها وجهان: أحدُهما: أنها لامُ كي، والثانيةُ أنها لامُ الصيرورة.
وقوله: ﴿وَلَهْمُ عَذَابٌ﴾ في هذه الواوِ قولان، أحدُهما: أنها للعطف، والثاني: أنها للحالِ. وظاهرُ قولِ الزمخشري أنها للحال في قراءة يحيى ابن
505
وثاب فقط، فإنه قال «فإنْ قلت: ما معنى هذه القراءة؟ يعني على قراءةِ يحيى التي نقلَها هو عنه قلت: معناه» ولا يَحْسَبَنَّ أنَّ إملاءَنا لزيادةِ الإِثمِ والتعذيبِ، والواوُ للحالِ، كأنه قيل: ليزدادوا إثماً مُعَدَّاً لهم عذابٌ مهين «قال الشيخ: بعد ما ذكر من إنكارِه عليه نقلَ فتحَ الثانية عن يحيى كما قدمته لك،» ولَمَّا قرَّر في هذه القراءة أنَّ المعنى على نهي الكافر أَنْ يَحْسَب أنما يُمْلي الله لزيادة الإِثم، وأنه إنما يملي لزيادةِ الخير كان قولُه: ﴿وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ يَدْفَعُ هذا التفسيرَ، فَخَرَّج ذلك على أن الواوَ للحالِ ليزولَ هذا التدافُعُ الذي بين هذه القراءةِ وبين آخرِ الآية «.
وأصل «ليزدادوا» : ليزتادوا بالتاء، لأنه افتعالٌ من الزيادة ولكنَّ تاء الافتعالِ تُقْلَبُ دالاً بعد ثلاثةِ أحرف: الزاي والذال والدال نحو: ادَّكر وادَّان. والفعلُ هنا متعدٍّ لواحدٍ وكانَ في الأصلِ متعدياً لاثنين نحو: ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ [البقرة: ١٠]، ولكنه بالافتعالِ ينقُص أبداً مفعولاً، فإنْ كان الفعلُ قبل بنائِه على افتعل للمطاوعةِ متعدياً لواحدٍ صار قاصراً بعد المطاوعةِ نحو «مدَدْتُ الحبل فامتدَّ»، وإنْ كان متعدياً لاثنين صار بعد الافتعالِ متعدياً لواحدٍ كهذه الآيةِ.
وخُتِمَتْ كلُّ واحدةٍ من هذه الآياتِ الثلاثِ بصفةٍ للعذاب غيرِ ما خُتمت به الأخرى لمعنى مناسب، وهو أنَّ الأولى تضمَّنَتْ الإِخبارَ عنهم بالمسارعةِ في الكفر، والمسارعةُ في الشيء والمبادرةُ إلى تحصيلِه تقتضي جلالته وعظمته، فجُعِل جزاءُهم «عذابٌ عظيمٌ» مقابلةً لهم، ويَدُلُّ ذلك على خساسةِ ما سارَعُوا فيه. وأمَّا الثانيةُ فتضمَّنَتْ اشتراءَهم الكفرَ بالإِيمان، والعادةُ سرورُ المشتري واغتباطُه بما اشتراه، فإذا خَسِرَ تألم، فخُتِمت هذه الآيةُ بألمِ العذابِ
506
كما يجدُ المُشتري المغبون ألم خسارته. وأمَّا الثالثةُ فتضمَّنَتْ الإِملاء وهو الإِمتاعُ بالمال وزينةُ الدنيا، وذلك يقتضي التعزُّزَ والتكبُّر والجبروتَ فخُتِمت هذه الآيةُ بما يقتضي إهانَتهم وذلتهم بعد عزهم وتكبُّرهم.
قوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ﴾ : هذه تُسَمَّى لامَ الجحود، وينصبُ بعدَها المضارعُ بإضمار «أن» ولا يجوزُ إظهارها. والفرقُ بنيها وبين لام كي أنَّ هذه على المشهور شرطُها أن تكون بعد كونٍ منفي، ومنهم مَنْ يشترط مُضِيَّ الكونِ، ومنهم مَنْ لم يَشْترط الكون، ولهذه الأقوال دلائل واعتراضات مذكورة في كتب النحو استغنيت عنها هنا بما ذكرْتُه في «شرح التسهيل».
وفي خبر «كان» في هذا الموضع وما أشبهه قولان، أحدهما: وهو قول البصريين أنه محذوفٌ وأنَّ اللامَ مقويةٌ لتعديةِ ذلك الخبر المقدر لضعفِه، والتقدير: ما كان اللهُ مريداً لأنْ يَذَر، ف «أن يذر» هو مفعول «مُريداً»، والتقديرُ: ما كانَ اللهُ مريداً تَرْكَ المؤمنين. والثاني قول الكوفيين: أنَّ اللامَ زائدةٌ لتأكيدِ النفي وأنَّ الفعلَ بعدها هو خبر «كان»، واللامُ عندهم هي العاملةُ النصبَ في الفعلِ بنفسِها لا بإضمار «أَنْ»، والتقديرُ عندهم: ما كان الله يَذَرُ المؤمنين.
وضَعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنَّ النصبَ قد وُجِد بعد هذه اللامِ، فإنْ كان النصبُ بها نفسِها فليست زائدةً، وإن كان النصب بإضمار «أَنْ» فَسَدَ من جهة المعنى لأنَّ «أَنْ» وما في حَيِّزها بتأويل مصدر، والخبرُ في باب «كان» هو الاسمُ في المعنى فيلزم أن يكونَ المصدرُ الذي هو معنىً من المعاني صادقاً على اسمِها وهو مُحال «.
507
أمَّا قولُه:» إنْ كان النصبُ بها فليست زائدةً «فممنوعٌ؛ لأنَّ العمل لا يمنع الزيادةَ، ألا ترى أنَّ حروفَ الجر/ تُزاد وهي عاملةٌ، وكذلك» أَنْ «عند الأخفش و» كان «في قوله:
١٥٠٠ -..........................
وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في غيرِ موضع.
و» يَذَرُ «فعلٌ لا يَتَصرَّف ك» يَدَعُ «استغناءً عنه بتصرُّف مُرادفِه وهو» ترك «، وحُذِفَتِ الواوُ من» يَذَرُ «من غير موجبٍ تصريفي، وإنما حُمِلت على» يَدَعُ «لأنها بمعناها، و» يَدَعُ «حُذِفَتْ منه الواو لموجبٍ وهو وقوعُ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة، وأمَّا الواوُ في» يَذَرُ «فوقعت بين ياءٍ وفتحة أصلية، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيه عند قوله تعالى: ﴿وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا﴾ [البقرة: ٢٧٨].
قوله: ﴿حتى يَمِيزَ﴾ » حتى «هنا قيل: للغاية المجردة بمعنى» إلى «، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار» أَنْ «، وقد تقدَّم تحقيقه في البقرة. والغايةُ هنا مشكلةٌ على ظاهرِ اللفظِ؛ لأنه يصيرُ المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية وهي التمييزُ بين الخبيث والطيب، ومفهومُه أنه إذا وُجِدت الغايةُ تَرَك المؤمنين على ما أنتم عليه.
وهذا ظاهرُ ما قالوه من كونها للغاية، وليس المعنى على ذلك قطعاً، ويصيرُ هذا نظيرَ قولِك: «لا أُكَلِّم زيداً حتى يَقْدُمَ عمروٌ» فالكلامُ منتفٍ إلى قدومِ عمرو. والجوابُ عنه: أن «حتى» غايةٌ لما يُفْهَمُ من معنى هذا الكلامِ، ومعناه أنه تعالى يُخَلِّص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أَنْ يَميزَ الخبيثَ من الطيب.
508
وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الأنفال: «يُمَيِّز» بالتشديد، والباقون بالتخفيف. وعن ابن كثير أيضاً «يُميز» من أماز، فهذه ثلاث لغات، يقال مازَه ومَيَّزه وأمازه. والتشديد والهمزة ليسا للنقل، لأنَّ الفعل قبلهما متعدٍ، وإنما فَعَّل بالتشديد وأَفْعَل بمعنى المجرد، وهل ماز ومَيّز بمعنى واحد أو بمعنيين مختلفين؟ قولان. ثم القائلون بالفرق اختلفوا، فقال بعضهم: لا يقال «ماز» إلا في كثير من كثير، فأما واحد من واحد فَمَيَّزت، ولذلك قال أبو معاذ: يقال: «مَيَّزْتُ بين الشيئين ومِزْتُ بين الأشياء». وقال بعضُهم عكسَ هذا: مِزْتُ بين الشيئين ومَيَّزْتُ بين الأشياءِ، وهذا هو القياسُ، فإنَّ التضعيفَ يُؤْذِنُ بالتكثير وهو لائقٌ بالمتعددات. ورجَّح بعضُهم «مَيَّز» بالتشديد بأنه أكثر استعمالاً، ولذلك لم يُسْتعمل المصدرُ إلا منه فقالوا: التمييز، ولم يقولوا: «المَيْز» يعني لم يقولوه سماعاً وإلا فهو جائز قياساً.
قوله: ﴿وَلَكِنَّ الله﴾ هذا استدراك من معنى الكلام المتقدم، لأنه لَمَّا قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ﴾ تُوُهِّم أنه لا يُطْلِعَ أحداً على غيبِه لعمومِ الخطابِ فاستدرك الرسلَ، والمعنى: ولكنَّ اللهَ يجتبي أي يصطفي مِنْ رسلِه من يشاء فيُطْلِعُه على الغيب، فهو ضدُّ لما قبلَه في المعنى، وقد تقدَّم أنها تقعُ بني ضِدِّيْنِ ونقيضين، وفي الخلافين خلافٌ.
و «يَجْتَبي» : يَصْطَفي ويَخْتار، يَفْتَعل من جَبَوْتُ المالَ والماءَ وجَبَتْهُما لغتان، فالياءُ في «يَجْتَبي» يُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ عَلى أصلِها، وأَنْ تكونَ منقلبةً من واوٍ لانكسارِ ما قبلَها.
509
ومفعول «يشاءُ» محذوفٌ، وينبغي أَنْ يُقَّدَّر ما يليقُ بالمعنى، والتقديرُ: مَنْ يشاءُ إطْلاعَه على الغيب.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ﴾ : قرأ حمزة بالخطاب، والباقون بالغيبة. فأمَّا قراءةُ حمزة ف «الذين» مفعولٌ أولُ، و «خيراً» هو الثاني، ولا بُدَّ من حذف مضاف لِيَصْدُقَ الخبرُ على المبتدأِ، تقديرُه: ولا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الذين يبخلون. قال أبو البقاء: «وهو ضعيفٌ لأنَّ فيه إضمارَ البخلِ قبل ذِكْر ما يَدُلُّ عليه» وفيه نظرٌ، لأنَّ الدلالةَ على المحذوف قد تكونُ متقدمةً وقد تكون متأخرةً، وليس هذا من بابِ الإِضمارِ في شيء حتى يُشْتَرَطَ فيه تقدُّمُ ما يَدُلُّ على ذلك الضميرِ.
و «هو» فيه وجهان، أحدُهما: أنه فَصْلٌ بين مفعولي «تحسبن». والثاني قاله أبو البقاء: أنه توكيدٌ، وهو خطأ، لأنَّ المضمر لا يُؤكِّد المُظْهَر، والمفعول الأول اسمٌ مظهر ولكنه حُذِف كما تقدم، وبعضُهم يُعَبِّر عنه فيقول: «أُضمر المفعولُ الأولُ» يعني حُذِفَ فلا يُغْتَرَّ بهذه العبارةِ، و «هو» في هذه المسألةِ يتعيَّن فَصْلِيَّتُه لأنه لا يخلو: إمَّا أَنْ يكونَ مبتدأً أو بدلاً أو توكيداً، والأولُ منتفٍ لنصبِ ما بعده وهو خيراً وكذا الثاني لأنه كان يلزمُ أَنْ يوافِقَ ما قبلَه في الإِعرابِ فكان ينبغي أَنْ يُقالَ إياه لا «هو»، وكذا الثالثُ لِما تقدَّم.
وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فيجوزُ فيها أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً إلى ضمير غائب:
510
إمَّا الرسولُ أو حاسِبٌ ما، ويجوزُ أَنْ يكونَ مسنداً إلى «الذين»، فإنْ كان مسنداً إلى ضميرِ غائبٍ ف «الذين» مفعولٌ أولُ على حَذْفِ مضافٍ كما تقدَّم ذلك في قراءةِ حمزة أي: بخلَ الذين، والتقدير: ولا يَحْسَبَنَّ الرسولُ أو أحدُ بخلَ الذين يبخلون خيراً. و «هو» فصل كما تقدَّم، فتتحدُ القراءاتان معنىً وتخريجاً. وإنْ كان مسنداً ل «الذين» ففي المفعولِ الأولِ وجهان، أحدُهما: أنه محذوفٌ لدلالةِ «يبخلون» عليه كأنه قيل: «ولا يَحْسَبَنَّ الباخِلون بخلَهم هو خيراً لهم» و «هو» فصلٌ. قال ابن عطية: «ودَلَّ على هذا البخلِ» يبخلون «كما دَلَّ» السفيه «على» السَّفَه «في قوله:
١٥٠١ - إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه
وخالَفَ والسفيهُ إلى خلافِ
أي: جرى إلى السفة». قال الشيخ: «وليست الدلالةُ فيها سواءً لوجهين، أحدُهما: أنَّ دلالةَ الفعلِ على المصدرِ أَقْوى مِنْ دلالةِ اسمِ الفاعلِ عليه وأكثرُ، ولا يوجَدُ ذلك إلا في هذا البيت أوغيرِه إن ورد. الثاني: أنَّ البيتَ فيه إضمارٌ لا حذفٌ، والآيةُ فيها حَذْفٌ.
الوجه الثاني: أنَّ المفعولَ نفس» هو «، وهو ضميرُ البخل الذي دَلَّّ عليه» يبخلون «كقولِه: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [المائدة: ٨]، قاله أبو البقاء، وهو غلطٌ أيضاً؛ لأنه ينبغي أَنْ يأتِيَ به بصيغةِ المنصوب فيقول: «إياه» لكونِه منصوباً ب «يَحْسَبَنَّ»، ولا ضرورةَ بنا إلى أَنْ نَدَّعي أنه من بابِ استعارةِ ضميرِ الرفع
511
مكانَ النصبِ كقولِهم «ما أنا كأنت، ولا أنت كأنا» فاستعار ضميرَ الرفعِ مكانَ ضميرِ الجر.
وفي الآية وجهٌ آخرُ غريبٌ خَرَّجه الشيخ قال: «وهو أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ الإِعمال إذا جَعَلْنا الفعلَ مسنداً ل» الذين «، وذلك أنَّ» يَحْسَبَنَّ «يطلب مفعولين و» يَبْخلون «يطلبُ مفعولاً بحرفِ جر، فقولُه: ﴿مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ يطلبه» يحسبن «مفعولاً أولَ ويكون» هو «فَصْلاً، و» خيراً «المفعولُ الثاني، ويطلبه» يبخلون «بتوسُّطِ حرفِ الجر، فأعملَ الثانيَ على الأفصحِ وعلى ما جاء في القرآن وهو» يبخلون «فَعُدِّي بحرف الجر، وأخذ معموله، وحَذَفَ معمول» يحسبن «الأولَ وبقي معمولُه الثاني، لأنه لم يُتنازع فيه، وإنما جاء التنازعُ في الأول، وساغ حذفُه وحدَه كما ساغ حَذْفُ المفعولين في مسألة سيبويه:» متى رأيت أو قلت: زيد منطلق «ف» رأيت «و» قلت «تنازعا في» زيدُ منطلقٌ «وفي الآيةِ لم يتنازعا إلا في الأولِ، وتقديرُ المعنى:» ولا يَحْسَبَنَّ ما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم الناسُ الذي يَبْخلون به «فعلى هذا التقديرِ يكونُ» هو «فَصْلاً ل» ما آتاهم «المحذوفِ لا لبخلِهم المقدَّرِ في قول الجماعة، ونظيرُ هذا التركيب:» ظنَّ الذي مَرَّ بِهندٍ هي المنطلقةَ «المعنى: ظَنَّ هنداً الشخصُ الذي مَرَّ بها هي المنطلقةَ» فالذي تنازعه الفعلان هو المفعول الأول، فاعمل الفعل الثاني فيه، وبقي الأولُ يطلبُه محذوفاً ويطلبُ الثانيَ مثبتاً إذ لم يقع فيه التنازعُ. انتهى «.
ومع غرابة هذا التخريجِ وتطويلِه بالنظيرِ والتقدير فيه نظرٌ، وذلك أنَّ النحويينَ نَصُّوا على أنه إذا أعملنا الثانيَ، واحتاج الأولُ إلى ضمير المتنازع
512
فيه، فإنْ كان يطلبه مرفوعاً أُضْمِرَ فيه وإنْ كان يَطْلُبُه غيرَ مرفوعٍ حُذِف، إلاَّ أَنْ يكون أحدَ مفعولي» ظَنَّ «فلا يُحْذَفُ، بل يُضْمَرُ ويُؤَخَّر، وعَلَّلوا ذلك بأنه لو حُذِفَ لبقي خبرٌ دون مُخْبَرٍ عنه أو بالعكسِ، هذا مذهبُ البصريين، وفيه بحثٌ، فإنَّ لقائلٍ أن يقولَ: حُذِفَ اختصاراً لا اقتصاراً، وأنتم تجيزون حَذْفَ إحداهما اختصاراً في غيرِ التنازع فليَجُزْ في تنازعٍ إذ لا فارقَ، وحينئذ يَقْوى تخريجُ الشيخِ بهذا البحثِ أو يُلْتَزَمُ القولُ بمذهب الكوفيين فإنهم يُجيزون الحَذْفَ فيما نحن فيه.
وذكر مكي ترجيحَ كلٍّ مِن القراءتين فقال:
وميراث مصدرٌ كالمِيعاد، وياؤُه من واوٍ، قُلِبَتْ لانكسارِ ما قبلها وهي ساكنةٌ لأنَّها من الوارثةِ كالميقاتِ والميزانِ من الوقتِ والوزن.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير:» يَعْمَلُون «بالغَيْبة جرياً على قوله: ﴿الذين يَبْخَلُونَ﴾، والباقون بالخطاب، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه التفاتُ، فالمرادُ الذي يبخلون. والثاني: رَدّاً على قوله: ﴿وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ﴾.
قوله تعالى: ﴿قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ﴾ : العامل في «إنَّ» هو «قالوا» ف «إنَّ» وما في حَيِّزها/ منصوب المحل ب «قالوا» لا بالقول. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ المسألة من باب التنازع أعني بين المصدر وهو «قول» وبين الفعل وهو «قالوا» تنازعا في «أَنْ» وما في حَيِّزها، قال: «ويجوز أن يكون معمولاً ل» قول «المضافِ لأنه مصدرٌ، وهذا تخريجٌ على قول الكوفيين في إعمال الأول وهو قولٌ ضعيف، ويزداد هنا ضعفاً بأن الثاني فعلٌ والأولُ
513
مصدرٌ، وإعمالُ الفعل أقوى». وظاهرُ كلامه أنَّ المسألةَ من التنازع، وإنما الضعف عنده من جهةِ إعمال الأول فلو قَدَّرْنا إعمالَ الثاني كان ينبغي أن يجوزَ عنده، لكنه يمنع من ذلك مانعٌ آخر وهو: أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه ولا يجوزُ حذفُه، وهو هنا غير مذكور، فدل على [هذا] أنها عنده ليست من التنازع إلا على قول الكوفيين، وهو ضعيف كما ذكر. وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملةَ على ما أسندوه إليه تعالى وإلى عدمِ ذلك فيما أسندوه لأنفسِهم كأنه عند الناس أمرٌ معروف.
قوله: ﴿سَنَكْتُبُ﴾ قرأ حمزة بالياء مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه، و «ما» وصلتُها قائمٌ مقامَ الفاعلِ. و «قَتْلُهم» بالرفعِ عطفاً على الموصولِ، و «يقول» بياء الغيبة. والباقون بالنون للمتكلم العظيم، ف «ما» منصوبةٌ المحلِّ، و «قتلَهم» بالنصبِ عطفاً عليها، و «نقولُ» بالنون أيضاً. وقرأ طلحة ابن مصرف: «سَتُكْتب» بتاءِ التأنيث على تأويلِ «ما قالوا» بمقالتهم. وقرأ ابن مسعود وكذلك هي في مصحفه: «سنكتب ما يقولون ويُقال». والحسن والأعرج: «سَيَكْتب» بالغيبة مبنياً للفاعل أي: الله تعالى أو الملك، و «ما» في جميع ذلك يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً وهو الظاهر وحُذِفَ العائِدُ لاستكمالِ شروطِ الحذفِ تقديرُه: سنكتب الذي يقولونه. ويجوز أن تكونَ مصدريةً أي: قولَهم، ويُراد به إذ ذاك المفعولُ به أي: مقولَهم، كقولهم: «ضَرْب الأمير».
قوله تعالى: ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ﴾ : مبتدأ وخبر تقديره: ذلك مستحق بما قَدَّمَتْ، كذا قدره أبو البقاء، وفيه نظرٌ تقدَّم مثله. و «ما»
514
يجوز فيها أن تكونَ موصولة وموصوفةً. و «ذلك» إشارةٌ إلى ما تقدَّم من عقابِهم. وهذه الجملةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ في محل نصب بالقول عطفاً على «ذُوقوا» كأنه قيل: ونقول لهم أيضاً: ذلك بما قَدَّمَتْ أيديكم، وُبِّخوا بذلك، وذَكَر لهم السببَ الذي أوجب لهم العقابَ. والثاني: ألاَّ تكونَ داخلةً في حكايةِ القول، بل تكون خطاباً لمعاصري رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ نزولِ الآيةِ، وذُكِرت الأيدي لأن أكثرَ الأعمالِ تُزاوَلُ بها.
قوله: ﴿وَأَنَّ الله﴾ عطفٌ على «ما» المجرورةِ بالباءِ أي: ذلك العقابُ حاصلٌ بسببِ كَسْبكم وعدمِ ظلمهِ لكم. وهنا سؤال: وهو أن «ظَلاَّماً» صيغةُ مبالغةٍ تقتضي التكثيرَ، فهي أخصُّ من «ظالمِ»، ولا يَلْزَمُ من نفي الأخصِّ نفيُ الأعَمِّ، فإذا قلت: «زيدٌ ليس بظلاَّم» أي: ليس يُكْثِرُ الظلم، مع جوازِ أَنْ يكونَ ظالماً، وإذا قلت: «ليس بظالم» انتفى الظلمُ مِنْ أصلِه، فكيف قال تعالى: ﴿لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ ؟ وفي ذلك خمسَةُ أوجهٍ، ذكر أبو البقاء منها أربعة.
الأول: أن «فَعَّالاً» قد لا يُراد به التكثيرُ كقوله طرفة:
١٥٠٢ - ولَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاعِ لبيته
ولكنْ متى يَسْتَرْفِدِ القومُ أَرْفِدِ
لا يُريد هنا أنه يَحُلُّ التلاعَ قليلاً؛ لأنَّ ذلك يَدْفَعُه آخرُ البيت الذي يَدُلُّ على نفي البخلِ على كلِّ حال، وأيضاً تمامُ المدحِ لا يَحْصُل بإرادة الكثرة. الثاني: أنه للكثرة، ولكنه لَمَّا كان مقابَلاً بالعباد وهم كثيرون ناسب أن يُقابَلُ الكثيرُ بالكثير. والثالث: أنه إذا نفى الظلم الكثير انتفى القليلُ
515
ضرورةً؛ لأن الذي يَظْلم إنما يَظْلِمُ لانتفاعِه بالظلمِ، فإذا تَرَكَ الظلمَ الكثيرَ مع زيادةِ نَفْعِه في حَقِّ مَنْ يجوزُ عليه النفعُ والضُّرُّ كان للظلمِ القليلِ المنفعةِ أتركَ. الرابع: أن يكونَ على النسبِ أي: لا يُنْسَبُ إليه ظلمٌ، فيكونُ من باب: بَزَّار وعَطَّار، كأنه قيل: ليس بذي ظلم البتة. والخامس: قال القاضي أبو بكر: «العذاب الذي تَوَعَّد أَنْ يفعلَه بهم لو كان ظلماً لكان عظيماً فنفاه على حَدِّ عظمته لو كان ثابتاً».
وقال الراغب بعد تفرقَتِه بين جَمْعَي «عَبْد» على عبيد وعِباد: فالعبيدُ إذا أُضيف إلى الله تعالى أَعَمُّ من العباد، ولهذا قال: ﴿وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ فنبَّه على أنه لا يَظْلِمُ مَنْ تخصَّص بعبادتِه ومَنِ انتسَبَ إلى غيرِه مِن الذين تَسَمَّوْا بعبدِ الشمس وعبدِ اللات «، وكان الراغبَ قد قَدَّم الفرقَ بين» عبيد «و» عِباد «فقال:» وجَمْعُ العبدِ الذي هو مسترقٌّ «:» عبيد «، وقيل:» عِبِدَّى «، وجمعُ العبد الذي هو العابد» عِباد «. وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظةِ وجموعُها وما قيل فيها.
قوله تعالى: ﴿الذين قالوا﴾ : يجوزُ في مَحَلِّه الألقابُ الثلاثة: فالجَرُّ من ثلاثةِ ِأوجه، الأولُ: أنه صفةٌ ل «الذين» المخفوضِ بإضافة «قول» إليه. الثاني: أنه بدلٌ منه. الثالث: أنه صفةٌ ل «العبيد» أي: ليس بظلاَّم للعبيد الذين قالوا كيتَ وكيتَ، قاله الزجاج. قال ابنُ عطية: «وهذا مُفْسِدٌ للمعنى والرصفِ».
والرفعُ: على القطع بإضمار مبتدأ أي: هم الذين. وكذلك النصبُ على القطعِ أيضاً بإضمارِ فعلٍ لائقٍ أي «اَذُمُّ الذين».
516
قولُه: ﴿أَلاَّ نُؤْمِنَ﴾ في «أَنْ» وجهان، أحدُهما: أنها على حذفِ حرفِ الجر، والأصلُ: في أن لا نؤمِنَ، وحينئذ يَجِيء فيها المذهبان المشهوران: أهي في محلِّ جر أو نصب. والثاني: أنها مفعولٌ بها على تضمينِ: «عهد» معنى أَلْزَمَ، تقول: «عَهِدْتُ إليه كذا» أي: أَلْزَمْته إياه، فهي على هذا في محلِّ نصب فقط.
و «أَنْ» تُكتب متصلةً ومنفصلةً اعتباراً بالأصلِ أو بالإِدغام. ونَقَل أبو البقاء أنَّ منهم مَنْ يَحْذِفُها في الخطِّ اكتفاءً بالتشديد. وحكى مكيّ عن المبرد أنها إنْ أُدْغِمَتْ بغنةٍ كُتِبت متصلةً وإلاَّ فمنفصلةً، ونُقِل عن بعضِهم أنها إنْ كانت مخففةً كُتِبَتْ منفصلةً، وإنْ كانَتْ ناصبةً كُتِبَتْ متصلةً، والفرقُ أنَّ المخففةَ معها ضمير مقدرٌ، فكأنه فاصلٌ بينهما بخلافِ الناصبة، وقولُ أهل الخطِّ في مثل هذا: «تُكْتب متصلة» عبارةٌ عن حَذْفِها في الخطِّ بالكلية اعتباراً بلفظ الإِدغام لا أنَّهم يكتبونها متصلةً، ويُثْبتون لها بعضَ صورتِها فيكتبون: أَنْلا، والدليلُ على ذلك أنهم لَمَّا قالوا في «أم من» و «أم ما» ونحوِه بالاتصال إنما يعنون به كتابةَ حرفٍ واحد فيكتبون: أمّن وأمَّا. وفهم أبو البقاء أنَّ الاتصال في ذلك عبارةٌ عن كتابتهم لها بعضَ صورتها ملصقةً ب «لا»، والدليلُ على أنه فَهِم ذلك أنه قال: «ومنهم مَنْ يَحْذِفُها في الخط اكتفاءً بالتشديد» فَجَعَلَ الحذف قسيماً للوصلِ والفصلِ، ولا يقولُ أحدٌ بهذا.
وتَعَدَّى «نُؤْمِنُ» باللامِ لتضمُّنِه معنى الاعترافِ، وقد تقدَّم في أولِ البقرة.
517
وقرأ عيسى بن عمر: «بقُرُبان» بضمتين. قال ابن عطية: «إتباعاً لضمةِ القافِ، وليس بلغةٍ لأنه ليس في الكلام فُعُلان بضم الفاء والعين، وحكى سيبويه:» السُّلُطان «بضم اللام، وقال:» إن ذلك على الإِتباع «. قال الشيخ: ولم يَقُلْ سيبويه إنَّ ذلك على الإِتباع بل قال:» ولا نعلمُ في الكلامِ فِعِلان ولا فُعُلان ولكنه قد جاء فُعُلان وهو قليل، قالوا: «السُّلُطان» وهو اسمٌ «قال الشارحُ لكلام سيبويه» صاحبُ هذه اللغمة لا يُسَكِّن ولا يُتْبعُ «وكذا ذكر التصريفيون أنه بناءٌ مستقلٌ، قالوا ولم يجىء فُعُلان إلا اسماً وهو قليلٌ نحو:» سُلُطان «.
قلت: أمَّا ابنُ عطية فَمُسَلَّمٌ أنه وَهِمَ في النقل عن سيبويه في «سُلُطان» خاصةً، ولكنَّ قولَه في «قُرُبان» صحيحٌ لأِنَّ أهلَ التصريفِ لم يَسْتَثْنُوا إلا السُّلُطان.
والقُرْبان في الأصل مصدرٌ ثم سُمِّي به المفعول كالرَّهْنِ فإنه في الأصلِ مصدرٌ ولا حاجةَ إلى حذْفٍ مضاف. وزعم أبو البقاء أنه على حَذْفِ مضافٍ أي: بتقريبِ قُرْبانٍ، قال: «أي يُشَرِّع لنا ذلك». و «تأكلُه النارُ» صفةٌ لقُرْبان، وإسنادُ الأكلِ إليها مجازٌ عَبَّر عن إفنائها الأشياءَ بالأكل.
و «من قبلي» و «بالبينات» كلاهما متعلِّقٌ ب «جاءكم»، والباء تحتملُ المعيةَ والتعديةَ أي: مصاحبين للآيات.
قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت﴾ : مبتدأٌ وخبر، وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرةِ العمومُ أو الإِضافةُ. والجمهورُ على ﴿ذَآئِقَةُ الموت﴾.
519
بخفض «الموت» بالإِضافة، وهي إضافةُ غيرُ محضةٍ لأنَّها في نيةِ الانفصالِ. وقرأ اليزيدي: «ذائقةٌ الموتَ» بالتنوين والنصبِ في «الموت» على الأصل. وقرأ الأعمش بعدمِ التنوين ونصبِ «الموت»، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين وإرادته، وهو كقول الآخر:
١٥٠٤ - فألفَيْتُه غيرَ مُسْتَغْتِبٍ
ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا
بنصب الجلالة، وقراءة من قرأ: ﴿قل هو الله أحدُ اللهُ﴾ بحذف التنوين من «أحد» لالتقاء الساكنين.
ونقل أبو البقاء فيها قراءةً غريبةً وتخريجاً غريباً قال: «ويُقْرأ أيضاً شاذاً: ﴿ذَآئِقَةُ الموت﴾ على جعل الهاء ضمير» كل «على اللفظ، وهو مبتدأ أو خبر». انتهى. وإذا صَحَّتْ هذه قراءةً فيكونُ «كل» مبتدأً، و «ذائقُةُ» خبرٌ مقدمٌ، و «الموتُ» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «كل»، وأضيف «ذائق» إلى ضمير «كل» باعتبار لفظها، ويكون هذا من باب القلب في الكلام؛ لأنَّ النفسَ هي التي تذوقُ الموتَ وليس الموتُ يذوقُها، وهنا جَعَلَ الموتَ هو الذي يذوق النفس قلباً للكلام لفهم المعنى، كقولهم: «عَرَضْتُ الناقة على الحوض»، ومنه: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار﴾ [الأحقاف: ٢٠] و «أَدْخَلْت القَلنسوة في رأسي». وقوله:
520
١٥٠٥ - مثلُ القنافِذِ هَدَّاجون قد بلغَتْ
نجرانُ أو بُلِّغَتْ سواءِتهمْ هَجَرُ
الأصلُ: عَرَضْتُ الحوض على الناقةِ، ويَوْم تُعْرَضُ النارُ عليهم، وأدخلت رأسي في القَلَنْسوة، وبُلِّغَتْ سوءاتُهم هجراً، فَقَلب، وسيأتي خلاف الناس في القلب بأشبعَ من هذا عند موضعِه، وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا أنَّ التأنيثَ في «ذائقة» إنما هو باعتبار معنى «كل»، وقال: «لأنَّ كلَّ نفسٍ نفوسُ، ولو ذُكِّر على لفظِ» كل «جاز»، يعني أنه لو قيل: «كلُّ نفس ذائقٌ كذا» جاز، وقد تقدَّم لك أو البقرةِ أنه يَجِبُ اعتبارُ لفظِ ما تُضاف إليه «كل» إذا كان نكرةً، ولا يجوزُ أن تَعْتَبِر «كلَ»، وتحقيقُ هذه المسألةِ هناك.
قوله: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ﴾«ما» كافةٌ ل «إنَّ» عن العمل وقد تقدَّم مثلُها. وقال مكي: «ولا يجوزُ أَنْ تكونَ» ما «بمعنى الذي لأنه يلزم رفعُ» أجوركم «، ولم يَقْرأ به أحدٌ؛ لأنَّه يصير التقديرُ:» وإنَّ الذي تُوَفَّوْنه أجورُكم، كقولك: «إنَّ الذي أكرمتموه عمروٌ» وأيضاً فإنك تفرِّق بين الصلةِ والموصولِ بخبر الابتداء «يعني لو كانت» ما «موصولةً لكانت اسمَ» إنَّ «فيلزمُ حينئذٍ رفعُ» أجوركم «على خبرها كقولِه تعالى: ﴿إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ﴾ [طه: ٦٩]، ف «ما» هنا يجوزُ أن تكونَ بمعنى الذي أو مصدريةً تقديرُه: إنَّ الذي صَنَعوه أو: إنَّ صُنْعَهم، ولذلك رُفِع «كيد» خبراً لها. وقولُه: «وأيضاً فإنَّك تفرِّقُ» يعني أن «يوم القيامة» متعلِّقٌ ب «تُوَفَّوْن» فهو من تمامِ الصلة، فلو كانت «ما» موصولةً لفَصَلْتَ بالخبرِ الذي هو «أجوركم» بين أبعاضِ الصلةِ التي هي الفعلُ ومعموله، ولا يُخْبَر عن موصولٍ إلا بعد تمام صلتِه، وهذا وإنْ كانَ من الواضحاتِ إلا أنَّ فيه تنبيهاً على أصولِ العلمِ.
521
وأدغم أبو عمرو الحاءَ من «زُحْزِحَ» في العينِ هنا خاصة قالوا: لطول الكلمةِ وتكريرِ الحاء، دونَ قولِه: ﴿ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ [المائدة: ٣] ﴿المسيح عِيسَى﴾ [آل عمران: ٤٥] ونُقِل عنه الإِدغامُ مطلقاً وعدمُه مطلقاً، والنحويون يمنعون ذلك، ولا يُجيزونه إلا بعد أنْ يَقْلبوا العينَ حاءً، ويُدْغِمون الحاءَ فيها قالوا: «لأنَّ الأقوى لا يُدْغَمُ في الأضعفِ، وهذا عكسُ الإِدغامِ، لأنَّ الإِدغامَ أَنْ تَقْلِبَ فيه الأولَ للثاني، إلا في مسألتين إحداهما: هذه، والثانية الحاء في الهاء نحو:» امدحْ هذا «لا تُقْلَبُ الهاء حاء أيضاً»، ولذلك طَعَنَ بعضُهم على قراءةِ أبي عمرو، ولا يُلْتَفت إليه.
والغُرور: [يجوزُ أَنْ يكون مصدراً وأَنْ يكونَ] جمعاً. وقرأ عبد الله بفتح الغين، وفُسِّر بالشيطان، ويجوزُ أَنْ يكونَ فَعولاً بمعنى مَفْعول أي: متاع المغرور، أي: المَخْدوع، وأصل الغَرَر: الخَدْع.
قوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ : هذا جوابُ قسم محذوف تقديره: واللهِ لَتُبْلَوُنَّ. وهذه الواو هي واو الضمير، والواو التي هي لام الكلمة حُذِفت لأمر تصريفيّ، وذلك أن أصله: لَتُبْلَوُوْنَنَّ، فالنون الأولى للرفع حُذِفت لأجل نون التوكيد، وتَحَرَّكت الواو التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها فَقُلبت ألفاً، فالتقى ساكنان: الألف وواو الضمير، فَحُذفت الألف لئلا يلتقيا، وضُمَّت الواو دلالةً على المحذوف، وإنْ شئت قلت: استُثْقِلَت الضمةُ على الواو الأولى فَحُذِفت فالتقى ساكنان، فحذفت الواو الأولى، وحُرِّكت الواوُ بحركة مجانسةٍ دلالةً على المحذوف. ولا يجوز قلبُ مثلِ هذه الواو همزةً
522
لأنها حركةٌ عارضةٌ ولذلك لم تُقْلَبْ ألفاً وإنْ تحركت وانفتح ما قبلها.
وأصلُ لَتَسْمَعُنَّ: تسمعونَنَّ، ففُعِل فيه ما تقدَّم، إلا أن. هنا حُذِفَتْ واوُ الضمير لأنَّ قبلَها حرفاً صحيحاً.
قوله تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ : هذا جوابٌ لِما تضمَّنه الميثاق من القسم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو بكر بالياء جرياً على الاسم الظاهر وهو كالغائبِ وحَسَّن ذلك قولُه بعدَه: «فنبذوه». والباقون بالتاء خطاباً على الحكاية تقديرُه: «وقلنا لهم»، وهذا كقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ٨٣] بالتاء والياء، وتقدَّم تحريره.
وقوله: ﴿وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ يَحتمل وجهين، أحدهما: واو الحال، والجملةُ بعدَها نصبٌ على الحال أي: لتُبَيِّنُنَّه غيرَ كاتمين. والثاني: أنها للعطف، وأنَّ الفعلَ بعدها مقسمٌ عليه أيضاً، وإنما لم يُؤكَّد بالنون لأنه منفيٌّ، تقول: «واللهِ لا يقومُ زيد» من غيرِ نونٍ. وقال أبو البقاء: «ولم يأتِ بها في» تكتمونه «اكتفاءً بالتوكيدِ في الأول لأنَّ» تكتمونَه «توكيدٌ»، وظاهرُ عبارتِه أنه لو لم يكن بعدَ مؤكَّدٍ بالنونِ لزم توكيدُه، وليس كذلك لِما تقدَّم. وقوله: «لأنه توكيدٌ» يعني أنَّ نَفْيَ الكتمان عنهم من قوله: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾، فجاءَ قولُه: ﴿وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ توكيداً في المعنى.
واستحسن الشيخ هذا الوجهَ أعني جَعْلَ الواوِ عاطفةً لا حاليةً قال: «لأن هذا الوجه الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ بعد الواو حتى تصيرَ
523
الجملةُ اسميةً، لأنَّ المضارع المنفيّ ب» لا «لا يَصِحُّ دخولُ الواو عليه. وغيره يقول: إنها تمتنع إذا كان مضارعاً مثبتاً فيفهم من هذا أن المضارع المنفيَّ بكلِّ نافٍ لا يمتنع دخولُها عليه.
وقرأ عبد الله» لَتُبَيِّنُونه «من غير توكيد. قال ابن عطية:» وقد لا تلزم هذه النونُ لامَ التوكيد، قال سيبويه «انتهى. والمعروف من مذهب البصريين لزومُهما معاً، والكوفيون يجيزون تعاقبهما في سَعة الكلام، وأنشدوا:
١٥٠٦ - وعَيْشِك يا سلمى لأُوقِنُ أنني
لِما شِئْتِ مُسْتَحْلٍ ولو أنَّه القتلُ
وقال آخر:
١٥٠٧ - يميناً لأَبْغَضُ كلَّ امرىءٍ
يُزَخْرِفُ قولاً ولا يفعلُ
فأتى باللامِ وحدها، وقد تقدَّم هذا مرةً أخرى بأشبع من هذا الكلام.
وقرأ ابن عباس:» ميثاقَ النبيين «. والضميرِ في قوله:» فنبذوه «يعود على الناس المبيَّن لهم، لاستحالةِ عوْدِه على النبيين، وكان قد تقدَّم لك في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم﴾ [آل عمران: ٨١] أنه في أحد الأوجه على
524
حذف مضاف، أي: أولاد النبيين، فلا بُعْدَ في تقديرِه هنا، أعني قراءة ابن عباس.
قوله تعالى: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ﴾ : قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «لاتَحْسَبَنَّ فلا يَحْسَبُنَّهم» بالياءِ فيهما ورفع باء «يَحْسَبُنَّهم». وقرأ الكوفيون بتاء الخطاب وفتحِ الباء فيهما معاً، ونافع وابن عامر بياءِ الغَيْبة في الأولِ، وبالخطاب في الثاني، وفتح الباءِ فيهما. وقرىء شاذاً بتاءِ الخطابِ وضَمِّ الباء فيهما معاً. [وقُرىء فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما وفتح الباء فيهما أيضاً، فهذه خمس قراءات].
فأمَّا قراءةُ ابن كثير وأبي عمرو ففيها خمسة أوجه، وذلك أنه لا يخلو: إمَّا أَنْ يُجْعَلَ الفعلُ الأولُ مسنداً إلى ضميرِ غائبٍ أو إلى الموصولِ، فإنْ جَعَلْناه مسنداً إلى ضميرِ غائب: إمَّا الرسولِ عليه السلام أو غيرِه ففي المسألة وجهان، أحدُهما: أنَّ/ «الذين» مفعولٌ أولُ، والثاني محذوفٌ لدلالةِ المفعولِ الثاني للفعلِ الذي بعده عليه وهو «بمفازة»، والتقدير: لا يَحْسَبَنَّ الرسول أو حاسبٌ الذين يفرحون بمفازة، فلا يَحْسَبُنَّهم بمفازة، فأسند الفعلَ الثاني لضميرِ «الذين»، ومفعولاه: الضميرُ المنصوبُ و «بمفازةٍ».
الوجه الثاني: أنَّ «الذين» مفعولٌ أولُ أيضاً، ومفعولهُ الثاني هو «بمفازة» الملفوظِ به بعد الفعل الثاني، ومفعول الفعل الثاني محذوفٌ لدلالةِ مفعولِ الأولِ عليه، والتقديرُ: لا يَحْسَبَنَّ الرسول الذين يفرحون بمفازةٍ فلا يَحْسَبُنَّهم كذلك، والعمل كما تقدم. وهذا بعيدٌ جداً للفصل بين المفعول الثاني للفعل
525
الأول بكلامٍ طويل من غير حاجةٍ. والفاءُ على هذين الوجهين عاطفةٌ، والسببية فيها ظاهرة.
وإن جعلناه مسنداً إلى الموصولِ ففيه ثلاثة أوجه، أولها: أَنَّ الفعل الأول حُذِف مفعولاه اختصاراً لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما تقديره: لا يَحْسَبَنَّ الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يَحْسَبُنَّهم فائزين كقول الآخر:
١٥٠٨ - بأيَّ كتابٍ أم بأيةِ سُنَّةٍ
ترى حُبَّهم عاراً علي وتَحْسَبُ
أي: وتَحْسَبُ حُبَّهم عاراً، فحَذَف مفعولي الفعل الثاني لدلالة مفعولي الأول عليهما، وهو عكسُ الآية الكريمة حيث حُذِف فيها من الفعل الأول.
الوجه الثاني: أنَّ الفعلَ الأول لم يَحْتَجْ إلى مفعولين هنا. قال أبو علي: «يَحْسَبَنَّ» لم يقع على شيء، و «الذين» رفع به، وقد تجيء هذه الأفعالُ لغواً في حكم الجمل المفيدة كقوله:
١٥٠٩ - وما خِلْتُ أَبْقَى بيننا من مودةٍ
عِراضُ المَذَاكي المُسْنِفِاتِ القلائِصا
وقال الخليل: «العربُ تقول: ما رأيتُ يقول ذلك إلا زيدٌ، وما ظننته يقول ذلك إلا عمرو» يعني أبو علي: أنها في هذه الأماكنِ ملغاة لا مفعولَ لها.
526
الثالث: أن يكونَ المفعولُ الأول محذوفاً. الثاني هو نفس «بمفازة» ويكون «فلا يَحْسَبُنَّهم» تأكيداً للفعل الأول. وهذا رأي الزمخشري، فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة: «على أنَّ الفعلَ اللذين يفرحون، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ على معنى:» لا يَحْسَبَنَّهم الذين يفرحون بمفازةٍ «بمعنى: لا يَحْسَبَنَّ أنفسَهم الذين يفرحون فائزين، و» فلا يَحْسَبُنَّهم «تأكيد انتهى.
قال الشيخ: «وتقدَّم لنا الردُّ على الزمخشري في تقديره:» لا يَحْسَبَنَّهم الذين «في قوله: ﴿لاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي﴾ [آل عمران: ١٧٨] وأن هذا التقدير لا يَصِحُّ». قلت: قد تقدم ذلك والجواب عنه بكلام طويل، لكن ليس هو في قوله: ﴿لاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي﴾ بل في قوله: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ [آل عمران: ١٦٩] في قراءةِ مَنْ قرأه بياء الغيبة، فهناك ردَّ عليه بما قال، وقد أَجَبْتُ عنه والحمد لله، وإنما نَبَّهْتُ على الموضع لئلا يُطْلَبَ هذا البحثُ من المكان الذي ذكره فلم يوجد.
ويجوز أن يقال في تقرير هذا الوجه الثالث: إنه حَذَف من أحد الفعلين ما أثبتَ نظيرَه في الآخر، وذلك أن «بمفازة» مفعولٌ ثان للفعل الأول حُذِفَتْ من الفعل الثاني، و «هم» في: «فلا يَحْسَبُنَّهم» مفعولٌ أول للفعل الثاني، وهو محذوفٌ من الأول. وإذا عَرَفْتَ ذلك فالفعل الثاني على هذه الأوجه الثلاثة تأكيدٌ للأول.
وقال مكي: «إن الفعل الثاني بدلٌ من الأول»، وتسمية مثلِ هذا بدلاً
527
فيه نظر لا يخفى، وكأنه يريد أنَّه في حكم المكرِر، فهو يرجع إلى معنى التأكيد، ولذلك قال بعضُهم: «والثاني معادٌ على طريق البدل مشوباً بمعنى التأكيد» وعلى هذين القولينِ أعني كونَه توكيداً أو بدلاً فالفاءُ زائدةٌ ليسَتْ عاطفةً ولا جواباً.
وقوله: «فَلاَ يَحْسَبُنَّهُمْ» أصله: يَحْسَبُونَنَّهم بنونين، الأولى نون الرفع والثانية للتأكيد، وتصريفُه لا يَخْفى من القواعد المتقدمة. وتعدَّى هنا فعلُ المضمرِ المنفصلِ إلى ضميرِه المتصل، وهو خاصٌّ بباب الظن وب «عَدِمَ وفَقَد دونَ سائر الأفعالِ لو قلت:» أكرمتُني «أي:» أكرمت أنا نفسي «لم يَجُزْ، وموضعُ تقريرِه غير هذا.
وأما قراءة الكوفيين فالفعلان فيها مسندان إلى ضمير المخاطب: إمَّا الرسولِ عليه السلام، أو كلِّ مَنْ يصلح للخطاب، والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثير، على قولنا: إن الفعل الأول مسندٌ لضمير غائب. والفعل الثاني تأكيدٌ للأول أو بدلٌ منه، والفاءُ زائدة كما تقدَّم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير على قولنا إن الفعلين مسندان للموصول لأن الفاعل فيها واحد. واستدلوا على أن الفاء زائدة بقوله:
١٥١٠ - لا تَجْزَعي إنْ مُنْفِساً أهلكتُه
وإذا هَلَكْتُ فعند ذلك فاجْزَعي
ويقول الآخر:
528
١٥١١ - لَمَّا اتَّقى بيدٍ عظيم جِرْمُها
فتركْتُ ضاحي كَفِّه يَتَذَبْذَبُ
أي: تركت. وقولِ الآخر:
١٥١٢ - حتى تَرَكْتُ العائداتِ يَعُدْنَه... فيقلن: لا يَبْعَدْ وقلت له: ابعَدِ
إلا أن زيادةَ الفاء ليس رأيَ الجمهور، إنما قال به الأخفش.
وأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر بالغيبة في الأول والخطاب في الثاني فوجْهُها أنهما غايرا بين الفاعلين، والكلام فيها يُؤْخَذُ مِمَّا تقدم، فيؤخذ الكلامُ في الفعل الأول من الكلام على قراءةِ أبي عمرو وابن كثير، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يَليق به، إلا أنه يَمْتنع هنا أن يكونَ الفعلُ الثاني تأكيداً للأول أو بدلاً منه لاختلافِ فاعليهما، فتكون الفاءُ هنا عاطفةً ليس إلا. وقال أبو علي في «الحجة» :«إنَّ الفاء زائدةٌ والثاني بدل من الأول»، قال: «ليس هذا موضعَ العطفِ لأنَّ الكلامَ لم يتِمَّ، ألا ترى أنَّ المفعول الثاني لم يُذْكَر بعدُ». وفيه نظر لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما.
وأمَّا قراءةُ الخطاب فيهما مع ضَمِّ الباء فيهما فالفعلان مسندان لضميرِ المؤمنين المخاطبين، والكلامُ في المفعولين كالكلامِ فيهما في قراءة الكوفيين.
وأمَّا قراءةُ الغيبة وفتحِ الباء فيهما فالفعلان مسندان إلى ضمير غائب أي: لا يَحْسَبَنَّ الرسولُ أو حاسِبٌ، والكلامُ في المفعولين للفعلين كالكلامِ
529
في القراءة التي قبلها. والثاني من الفعلين تأكيدٌ أو بدلٌ، والفاءُ زائدةٌ على هاتين القراءتين لاتحادِ الفاعل.
وقرأ النخعي ومروان بن الحكم: «بما آتَوا» ممدوداً أي: أعطَوا. وقرأ أُبيّ «أُوتوا» مبنياً للمفعول.
قوله: ﴿مِّنَ العذاب﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «مفازة» أي: بمفازةٍ كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنا «مفازة» مكاناً أي: بموضع فوز. قال أبو البقاء «لأنَّ المفازة مكانٌ، والمكانُ لا يعمل»، يعني فلا يكونُ متعلقاً بها، بل بمحذوف على أنه صفةٌ لها، إلاَّ أنَّ جَعْلَه صفةً مشكلٌ، لأنَّ المفازة لا تتصف بكونِها من العذاب، اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوفُ الذي يتعلق به الجار شيئاً خاصاً [حتى يصح] المعنى، تقديرُه: بمفازةٍ منجيةٍ من العذاب، وفيه الإِشكالُ المعروفُ وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوفُ في مثلِه إلا كوناً مطلقاً.
الوجه الثاني: أنه يتعلَّق/ بنفس «مفازة» على أنها مصدر بمعنى الفوز تقول: «فزت منه» أي: نَجَوْتُ، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء لأنها مبنيةٌ عليها، وليست الدالَّةَ على التوحيد فهو كقوله:
١٥١٣ - فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌ
عقابَك قد كانوا لنا كالمَوارِدِ
530
فأعمل «رهبةٌ» في «عقابَك» وهو مفعول صريح فهذا أَوْلى. وقالَ أبو البقاء: «ويكون التقدير: فلا تَحْسَبَنَّهم فائزين، فالمصدر في موضع اسم الفاعل» انتهى. فإنْ أراد تفسير المعنى فذاك، وإنْ أراد أنه بهذا التقديرِ يَصِحُّ التعلُّقُ فلا حاجةَ إليه، إذ المصدرُ مستقل بذلك لفظاً ومعنى.
قوله تعالى: ﴿الذين يَذْكُرُونَ﴾ : فيه خمسة أوجه، أولها: أنه نعت ل «أُولِي»، فهو مجرورٌ. وثانِيها: أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي: هم الذين. وثالثها: أنه منصوبٌ بإضمار «أعني»، وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع، وقد تقدم ذلك مراراً. الرابع: أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره: يقولون: ربَّنا. قاله أبو البقاء. وخامسها: أنه بدلٌ من «أُولي» ذكره مكي. وأول الوجوه هو الأحسن.
و ﴿قِيَاماً وَقُعُوداً﴾ حالان من فاعل «يَذْكُرون». و ﴿وعلى جُنُوبِهِمْ﴾ حالٌ أيضاً فيتعلَّقُ بمحذوف، والمعنى: يذكرونه قياماً وقعوداً ومضطجعين، فَعَطَفَ الحالَ المؤولة على الصريحة، عكسَ الآية الأخرى وهي قوله: ﴿دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً﴾ [يونس: ١٢]، حيث عطف الصريحةَ على المؤولة. و «قياماً» و «قعوداً» جمعان ل «قائم» و «قاعد». وأُجيز أن يكونا مصدرين، وحينئذ يتأوَّلان على معنى ذوي قيام وقعود، ولا حاجةَ إلى هذا.
قوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ﴾ فيه وجهان، أظهرُها: أنها عطف على الصلةِ فلا محلَّ لها. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال عطفاً على «قياماً» أي: يذكرونه متفكرين. فإنْ قيل: هذا مضارعٌ مثبت فكيف دخلت عليه الواوُ؟ فالجوابُ أن هذه واوُ العطف، والممنوعُ إنما هو واو الحال.
531
و «خَلْق» فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ على أصله أي: يتفكرون في صنعة هذه المخلوقات العجيبة، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله. والثاني: أنه بمعنى المفعول أي: في مخلوق السماوات والأرض، وتكون إضافتُه في المعنى إلى الظرف أي: يتفكرون فيما أودع الله هذين الظرفين من الكواكب وغيرِها. وقال أبو البقاء: «وأن يكون بمعنى المخلوق؛ ويكون من إضافةِ الشيءِ إلى ما هو في المعنى» وهذا كلامٌ متهافتٌ إذ لا يُضاف الشيءُ إلى نفسِه، وما أَوْهم ذلك يُؤَوَّل.
قوله: «ربَّنا» هذه الجملة في محلِّ نصب بقول محذوف تقديره: يقولون. والجملةُ القولية فيها وجهان، أظهرهما: أنها حال من فاعل «يتفكرون» أي: يتفكرون قائلين: ربنا، وإذا أعربنا «يتفكرون» حالاً كما تقدم فتكونُ الحالان متداخلتين. والوجه الثاني: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً ل «الذين» على قولِنا بأنه مبتدأ، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء.
و «هذا» في قوله: ﴿مَا خَلَقْتَ هَذا﴾ إشارةٌ إلى الخَلْق إن أريد به المخلوق. وأجاز أبو البقاء حالَ الإِشارة إليه ب «هذا» أن يكون مصدراً على حالِه لا بمعنى المخلوق. وفيه نظرٌ، أو إلى السماوات والأرض، وإنْ كانا شيئين كلٌّ منهما جَمْعٌ، لأنهما بتأويل: هذا المخلوق العجيب، أو لأنهما في معنى الجمع فأُشير إليهما كما يشار إلى لفظ الجمع.
قوله: ﴿بَاطِلاً﴾ في نصبه خمسةُ أوجه، أحدها: نعت لمصدر محذوف أي: خلقاً باطلاً، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثلَ هذا حالاً من ضميرِ ذلك المصدر. الثاني: أنه حالٌ من المفعول به وهو «هذا». الثالث: أنه على
532
إسقاطِ حرفٍ خافضٍ وهو الباء، والمعنى: ما خلتقهما بباطلٍ بل بحقٍّ وقُدرةٍ. الرابع: أنه مفعول من أجله، و «فاعِل» قد يجيء مصدراً كالعاقبةِ والعافيةِ. الخامس: أنه مفعول ثاني ب «خَلَق» قالوا: و «خلق» إذا كانت بمعنى جعل التي تتعدى لاثنين تعدَّت لاثنين، وهذا غير معروف عند أهل العربية، بل المعروف أنَّ «جَعَلَ» إذا كانت بمعنى «خَلَقَ» تعدَّتْ لواحد فقط. وأحسنُ هذه الأعاريبِ أن يكونَ حالاً من «هذا»، وهي حالُ لا يُسْتغنى عنها، لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ، وهي كقوله: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾ [الدخان: ٣٨].
و ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تقدم إعرابه وهو معترضٌ بين قوله: «ربنا» وبين قوله: «فَقِنا»، وقال أبو البقاء: «دخلت الفاء لمعنى الجزاء، والتقدير: إذا نَزَّهناك أو وحَّدْناك فَقِنا». وهذا لا حاجةَ إليه، بل التسبُّبُ فيها ظاهر، تسبَّب عن قولهم: ﴿رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ﴾ طَلَبُهُمْ وقايةَ النار. وقيل: هي لترتيب السؤال على ما تضمَّنه «سبحان» من معنى الفعل أي: سبحانك فقِنا، وأبعدَ مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيبِ على ما تضمَّنه النداء.
قوله تعالى: ﴿مَن تُدْخِلِ﴾ :«مَنْ» شرطيةٌ مفعولٌ مقدَّم واجبُ التقديمِ لأنَّ له صدرَ الكلام، و «تُدْخِل» مجزوم بها. و ﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ جوابُها. وحكى أبو البقاء عن بعضهم قولين غريبين. أحدهما: أن تكونَ «مَنْ» منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره قوله: «فقد أَخْزَيْتَه، وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّ مِنْ شرطِ الاشتغالِ صحةَ تسلُّط ما يُفَسِّر على ما هو منصوب، والجواب لا يعمل فيما قبل فعل الشرط؛ لأنه لا يتقدَّم على الشرط. الثاني: أن» مَنْ «مبتدأ، والشرطُ
533
وجوابُه خبر هذا المبتدأ، وهذان الوجهان غَلَطٌ. والله أعلم. وعلى الأقوالِ كلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محلِّ رفعٍ خبراً ل» إنَّ «.
ويُقال: خَزَيْتُه وأَخْزَيْتُه ثلاثياً ورباعياً، والأكثرُ الرباعي، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْياً إذا افتضح، وخَزاية إذا استحيا فالفعلُ واحد، وإنما يتميز بالمصدر كما تقدم.
قوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ » مِنْ «زائدة لوجود الشرطين، وفي مجرورها وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ وخبرُه الجارِّ قبله، وتقديمُه هنا جائزٌ لا واجبٌ لأنَّ النَّفْيَ مُسَوِّغ، وحَسَّنَ تقديمَه كونُ مبتدئِه فاصلةً. الثاني: أنه فاعلٌ بالجارِّ قبله لاعتمادِه على النفي، وهذا جائزٌ عند الجميع.
قوله تعالى: ﴿سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي﴾ :«سمع» إنْ دَخَلَتْ على ما يَصِحُّ أن يُسْمع نحو: «سمعت كلامك وقراءتك» تعدَّت لواحد، وإنْ دخلت على ما لا يَصِحُّ سماعُه بأنْ كان ذاتاً فلا يَصِحُّ الاقتصارُ عليه وحدَه، بل لا بد من الدلالةِ على شيء يُسْمع نحو: «سمعت رجلاً يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم».
وللنحويين في هذه المسألة قولان، أحدُهما: أنها تتعدى فيه أيضاً إلى مفعولٍ واحد، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفةٌ إنْ كان قبلَها نكرةٌ، وحالاً إنْ كان معرفة. والثاني: قول الفارسي وجماعة تتعدَّى لاثنين الجملةُ في محلِّ الثاني منهما. فعلى قولِ الجمهور يكون «يُنادي» في محلِّ نصب لأنه صفةٌ لمنصوبٍ قبلَه، وعلى قول الفارسي يكونُ في محلِّ نصبٍ على أنه مفعول ثان.
534
وقال الزمخشري: «تقول: سمعت رجلاً يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم، فَتُوْقِعُ الفعلَ على الرجل، وتَحْذِف المسموع لأنك وَصَفْتَه بما يسمع أو جعلته حالاً منه فأغناك عن ذكره، ولولا الوصفُ أو الحالُ لم يكن منه بَدٌّ، وأن تقولَ: سَمِعْتُ كلامَ فلانٍ أو قولَه». وهذا قولُ الجمهور الذي قَدَّمْتُ لك ذكرَه. إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض عليه فقال: «قوله: ولولا الوصفُ أو الحال إلى آخره ليس كذلك، بل لا يكونُ وصفٌ ولا حالٌ ومع ذلك تَدْخُل» سمع «على ذاتٍ لا على مسموع» كقوله تعالى: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾ [الشعراء: ٧٢] فأغنى ذكرُ ظرفِ الدعاءِ من المسموعِ «.
وأجاز أبو البقاء في» يُنادي «أن يكونَ في محلِّ نصب على الحالِ من الضميرِ المستكن في» مناديا «.
فإن قيل: فما الفائدة في الجَمْع بين» منادٍ «و» ينادي «؟ فأجاب الزمخشري بأنه ذَكَر النداء مطلقاً ثم مقيداً بالإِيمان تفخيماً لشأن المنادي لأنه لا مناديَ أعظمُ من منادٍ للإِيمان، وذلك أنَّ المنادِيَ إذا أطلق ذَهَب الوهمُ إلى منادٍ للحرب أو لإِطفاء الثائرة أو لإِغاثة المكروب أو لكفاية بعضِ النوازِل أو لبعضِ المنافعِ، فإذا قلت:» ينادِي للإِيمان «فقد رَفَعْتَ من شأن المنادي وفَخَّمته.
وأجاب أبو البقاء عنه بثلاثة أجوبة/ أحدها: التوكيد نحو: قم قائماً. الثاني: أنه وُصِل به ما حَسَّن التكريرَ وهو» للإِيمان «. الثالث: أنه لو اقْتُصِر
535
على الاسمِ لجاز أن نسمع معروفاً بالنداء يَذْكُر ما ليس بنداء فلمَّا قال» يُنادِي «ثبتَ أنهم سمعوا نداءَه في هذه الحال.
ومفعولُ» ينادي «محذوف أي: ينادي الناس. ويجوزُ ألاَّ يرادَ مفعول نحو: ﴿أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ [النجم: ٤٤]. و» نادى «و» دعا «يتعدَّيان باللام تارة وب» إلى «أخرى، وكذلك» ندب «.
قال الزمخشري: «وذلك أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً» فاللامُ في موضِعها، ولا حاجةَ إلى أَنْ يقال: إنها بمعنى «إلى» ولا إنها بمعنى الباء، ولا إنها لام العلة أي: لأجل الإِيمان كما ذهب إلى ذلك بعضهم.
قوله: ﴿أَنْ آمِنُواْ﴾ في «أَنْ» قولان، أحدهما: أنها تفسيرية لأنها وَقَعتْ بعد فعلٍ بمعنى القول لا حروفِه، وعلى هذا فلا موضعَ لها من الإِعراب. والثاني: أنها المصدريةُ وُصِلَتْ بفعل الأمر، وفي وصلها به نظرٌ من حيث إنها إذا انسبك منها ومِمَّا بعدَها مصدرٌ تفوتُ الدلالة على الأمرية، واستدلُّوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم: «كَتَبْتُ إليه بأنْ قم» فهي هنا مصرية ليس إلا، وإلاَّ يلزمْ تعليقُ حرف الجر. ولهذا موضعُ هو أليقُ به، وإذ قيل بأنها مصدرية فالأصل التعدِّي إليها بالباء أي: بأن آمنوا، فيكون فيها المذهبان المشهوران: الجر والنصب.
وقوله: ﴿فَآمَنَّا﴾ عطف على «سمعنا»، والعطفُ بالفاءِ مؤذنٌ بتعجيل القبول وتسبُّبِ الإِيمان عن السماع من غير مُهْلة، والمعنى: فآمَنَّا بربنا.
قوله: ﴿مَعَ الأبرار﴾ ظرفٌ متعلِّق بما قبله أي: تَوَفَّنا معدودين في صحبتهم. وقيل: تُجُوَّز به هنا عن الزمان. ويجوز أن يكون حالاً من المفعول
536
فيتعلَّق بمحذوف، وأجاز مكي وأبو البقاء أن تكونَ صفةً لمحذوف أي: أبراراً مع الأبرار كقوله:
١٥١٤ - كأنَّك مِنْ جِمالِ بني أُقَيْشٍ
يُقَعْقَعُ خلفَ رِجْلَيْه بشَنِّ
أي: كأنك جَمَل من جمال. قال أبو البقاء: «ويكون» أبراراً «حالاً، ولا حاجة إلى دعوى ذلك. والأبرارُ يجوز أن يكون جمع» بارّ «كصاحِب وأَصْحاب، أو بَرّ بزنة» كَتِف «نحو: كَتِف وأكتاف.
قوله تعالى: ﴿على رُسُلِكَ﴾ : فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه متعلق ب «وَعَدْتَنا» قال الزمخشري: «على» هذه صلةُ للوعد في قولك: «وعد الله الجنة على الطاعة» والمعنى: ما وَعَدْتنا في تصديقِ رسلك. والثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوف على أنها حال من المفعول وقَدَّره الزمخشري بقوله: «مُنَزَّلاً على رسلك، أو محمولاً على رسلك؛ لأنَّ الرسل مُحَمَّلون ذلك: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ﴾ [النور: ٥٤]. ورَدَّ الشيخ عليه بأن الذي قدَّره محذوفاً كون مقيد، وقد عُلِم من القواعد أن الظرف والجار إذا وقعا حالين أو وصفين أو خبرين أو صلتين تعلَّقا بكون مطلق، والجارُّ هنا وقع حالاً فكيف يُقَدَّر متعلَّقُه كوناً مقيداً وهو» مُنَزَّل «أو» محمول «؟ الثالث: ذكره أبو البقاء
537
أن تتعلق» على «ب» آتِنا «، وقَدَّر مضافاً محذوفاً فقال:» على ألسنة رسلك «وهو حسن.
والميعاد: اسمُ مصدرٍ بمعنى الوعد. و» يوم القيامة «فيه وجهان، أحدهما: أنه مصوبٌ ب» لا تُخْزِنا «، والثاني: أجازه الشيخ أن يكون من باب الإِعمال؛ إذ يصلح أن يكون منصوباً ب» لا تُخْزِنا «وب» آتِنا ما وعدتنا «إذا كان الموعودُ به الجنةَ. وقرأ الأعمش:» رُسْلِك «بسكون السين.
قوله تعالى: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ﴾ : الجمهورُ على فتح «أَنَّ» والأصل: بأني، فيجيء فيها المذهبان. وقرأ أُبَيّ: «بأني» على هذا الأصل. وقرأ عيسى بن عمر بالكسرِ وفيه وجهان، أحدهما: أنه على إضمارِ القول أي: وقال إني. والثاني: أنه على الحكاية ب «استجاب» لأن فيه معنى القول، وهو رأي الكوفيين.
و «استجاب» بمعنى أجاب، ويتعدَّى بنفسه وباللام، وتقدَّم تحقيق ذلك في قوله: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي﴾ [البقرة: ١٨٦]. ونقل تاج القُرَّاء أن «أجاب» عام، و «استجاب» خاص في حصول المطلوب.
والجمهورُ: «أُضيع» من أضاع وقرىء بالتشديد والتضعيف، والهمزةُ فيه للنقل كقوله:
538
١٥١٥ - كمُرْضِعَة أولادَ أُخرى وضَيَّعَتْ
بني بَطْنِها، هذا الضلالُ عن القصدِ
قوله: «منكم» في موضعِ جر صفةً ل «عامل» أي كائنٍ منكم.
وأمَّا «مِنْ ذَكَرٍ» ففيه خمسة أوجه، أحدُها: أنها لبيان الجنس، بَيَّنَ جنس العامل، والتقدير: الذي هو ذكر أو أنثى، وإن كان بعضُهم قد اشترط في البيانية أن تدخل على مُعَرَّف بلام الجنس، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك. الثاني: أنها زائدة لتقدُّم النفي في الكلام، وعلى هذا فيكون «مِنْ ذَكَر» بدلاً من نفسِ «عامل» كأنه قيل: عاملٍ ذَكَرٍ أو أنثى، ولكنْ فيه نظرٌ من حيث إنَّ البدلَ لا يُزاد فيه «مِنْ». الثالث: أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها حالٌ من الضمير المستكنِّ في «منكم»، لأنه لَمَّا وقع صفة تَحَمَّل ضميراً، والعاملُ في الحالِ العاملُ في «منكم» أي: عاملٍ كائن منكم كائناً من ذكر. الرابع: أَنْ يكونَ «مِنْ ذكرٍ» بدلاً مِنْ «منكم»، قال أبو البقاء «وهو بدلُ الشيء من الشيء وهما لعينٍ واحدةٍ» يعني فيكونُ بدلاً تفصيلياً بإعادةِ العاملِ كقوله: ﴿لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ﴾ [الأعراف: ٧٥] ﴿لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ﴾ [الزخرف: ٣٣]. وفيه إشكالٌ من وجهين، أحدهما: أنه بدلٌ ظاهرٍ من حاضر في بدلِ كلٍّ من كل وهو لا يجوزُ إلا عند الأخفش. وقَيَّد بعضُهم جوازَه بأَنْ يفيدَ إحاطةَ كقوله:
ف «قريش» بدلٌ من «كم»، و «بُمْستلئم» بدل من «بي» بإعادة حرفِ الجرِّ، وليس ثَمَّ لا إحاطةٌ ولا تأكيدٌ، فمذهبه يمشي على رأيِ الأخفشِ دونَ الجمهور.
الثاني: أنَّ البدل التفصيلي لا يكون ب «أو»، وإنما يكون بالواو لأنها للجمع كقوله:
١٥١٩ - وكنت كذي رِجْلَيْن رِجْلٍ صحيحةٍ
ورِجْلٍ رَمَى منها الزمانُ فَشَلَّتِ
وقد يُمكن أن يجابَ عنه بأن «أو» قد تأتي بمعنى الواو كقوله:
540
١٥٢٠ - قومٌ إذا سمعوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ
ما بينَ مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِعِ
ف «أو» بمعنى الواو، لأنَّ «بين» لا تَدْخُل إلا على متعدد، وكذلك هنا لَمَّا كان «عاملٍ» عامًّاً أُبدل منه على سبيل التوكيد، وعُطِف على أحد الجزأين ما لا بد منه، لأنه لا يؤكَّد العمومُ إلا بعموم. الخامس: أن يكون «مِنْ ذَكرٍ» صفةً «ثانية» ل «عامل» قَصَد بها التوضيحَ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ كالتي قبلها.
قوله: ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾ مبتدأ وخبرٌ، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنَّ هذه الجملة استئنافيةٌ جيء بها لتبيين شِرْكَةِ النساء مع الرجال في الثواب الذي وَعَد الله به عبادَه العاملين، لأنه يُروى في الأسباب أنَّ أم سلمة رضي الله عنها سألَتْه عليه السلام عن ذلك فنزلت، والمعنى: كما أنكم من أصل واحد، وأنَّ بعضكم مأخوذٌ من بعض فكذلك أنتم في ثواب العملِ لا يُثاب رجلٌ عاملٌ دونَ امرأة عاملة.
وعَبَّر الزمخشري عن هذا بأنها جملةٌ معترضةٌ. قال: «وهذه جلمةٌ معترضةٌ بُيِّنَتْ بها شِرْكةُ النساء من الرجالِ فيما وعَدَ اللهُ العاملين» ويعني بالاعتراضِ أنها جِيءَ بها بين قولِه ﴿عَمَلَ عَامِلٍ﴾ وبينَ ما فُصِّلَ به عملُ العاملِ مِنْ قولِه: ﴿فالذين هَاجَرُواْ﴾، ولذلك قال الزمخشري: «فالذين هاجروا تفصيلٌ لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم.
والثاني: أن هذه الجملة صفة. الثالث: أنها حالٌ، ذكرهما أبو البقاء، ولم يعيِّن الموصوفَ ولا ذا الحال، وفيه نظر.
قوله: ﴿فالذين هَاجَرُواْ﴾ مبتدأٌ، وقوله: ﴿لأُكَفِّرَنَّ﴾ جوابُ قسمٍ محذوفٍ
541
تقديرُه: واللهِ لأكفِّرَنَّ، وهذا القسمُ وجوابُه خبرٌ لهذا المبتدأ، وفي هذه الآيةِ ونظائرِها من قوله: ﴿والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ﴾ [العنكبوت: ٦٩]. وقول الشاعر:
١٥٢١ - جَشَأَتْ فقلتُ اللَّذْ خَشِيْتِ ليأتِيَنْ
وإذا أتاكِ فلاتَ حين مَناصِ
رَدٌّ على ثعلب حيث زعم أن الجملة القسمية لا تقع خبراً. وله أن يقول: هذه معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ هو الخبرُ، وله نظائر.
والظاهرُ أنَّ هذه الجمل التي بعد الموصول كلُّها صلاتٌ له، فلا يكون الخبر إلا لِمَنْ جمع بين هذه الصفات: المهاجرة والقتل والقتال، ويجوز أن يكون ذلك على التنويع، ويكون قد حَذَف الموصولاتِ لفَهْم المعنى، وهو مذهب الكوفيين، وقد تقدَّم القول فيه، والتقدير: فالذين هاجروا، والذين أُخرجوا، والذين قاتلوا، فيكون الخبر بقوله: لأكفرنَّ عَمَّن اتصف بواحدة من هذه/.
وقرأ جمهور السبعة:» وقاتَلوا وقُتِلوا «ببناء الأول للفاعل من المفاعلة، والثاني للمفعول، وهي قراءةُ واضحة. وابن عامر وابن كثير كذلك، إلا أنهما شَدَّدا التاء من» قُتِّلوا «للتكثير، وحمزة والكسائي بعكس هذا، ببناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل.
وتوجيهُ هذه القراءةِ بأحدِ معنيين: إما أنَّ الواوَ لا تقتضي الترتيب فلذلك قُدِّم معها ما هو متأخرٌ في المعنى، هذا إن حملنا ذلك على اتِّحاد الأشخاص الذين صَدَر منهم هذان الفعلان. الثاني: أن
542
يُحْمل ذلك على التوزيع، أي: منهم مَنْ قُتِل ومنهم مَنْ قاتل. وهذه الآية في المعنى كقوله: ﴿قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ﴾ [آل عمران: ١٤٦]، والخلافُ في هذه كالخلاف في قوله ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ [الآية: ١١١] في براءة، والتوجيهُ هناك كالتوجيه هنا.
وقرأ عمر بن عبد العزيز: «وقَتَلوا وقُتِلوا» ببناء الأول للفاعل من «فَعَل» ثلاثياً، والثاني للمفعول، وهي كقراءة الجماعة.
وقرأ محارب بن دثار: «قَتَلوا وقاتلوا» ببنائهما للفاعل. وقرأ طلحة ابن مصرف: «وقُتِّلوا وقاتَلوا» كقراءةِ حمزة والكسائي، إلاَّ أنَّه شدَّد التاءَ، والتخريجُ كتخريج قراءتهما. ونقل الشيخ عن الحسن وأبي رجاء: «قاتلوا وقُتِّلوا» بتشديد التاء من «قُتِّلوا»، وهذه هي قراءة ابن كثير وابن عامر كما تقدَّم، وكأنه لم يَعْرف أنها قراءتُهما.
قوله: «ثواباً» في نصبه ثمانيةُ أوجه، أحدها: أنه نصب على المصدرِ المؤكَّدِ، لأنَّ معنى الجملة قبله يقتضيه، والتقدير: لأُثيبَنَّهم إثابة أو تثويباً، فوضع «ثواباً» موضعَ أحدِ هذين المصدرين، لأنَّ الثواب في الأصل اسمٌ لِما يُثاب به كالعَطاء: اسمٌ لما يُعْطى، ثم قد يقعان موقع المصدر، وهو نظيرُ قولهِ: ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨]، و ﴿وَعْدَ الله﴾ [النساء: ١٢٢] في كونهما مؤكِّدين. الثاني: أن يكونَ حالاً من «جنات» أي: مُثاباً بها، وجاز ذلك وإنْ كنت نكرةً لتخصُّصها بالصفة.
543
والثالث: أنه حال من ضميرِ المفعول أي: مُثابِين. الرابع: أنه حالٌ من الضمير في «تجري» العائدِ على «جنات». وخَصَّص أبو البقاء كونَه حالاً بجَعْلِه بمعنى الشيء المُثابِ به. قال: «وقد يقع بمعنى الشيء المثاب بِه كقولك:» هذا الدرهَمُ ثوابُك «فعلى هذا يجوز أن يكون حالاً من ضمير الجنات أي: مُثاباً بها، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير المفعول به في لأَدْخِلنهم». الخامس: نصبُه بفعلٍ محذوف أي: يُعطيهم ثواباً السادس: أنه بدلٌ من «جنات»، وقالوا: على تضمين «لأدْخلنهم». لأَعْطِيَنَّهم لَمَّا رأوا أن الثواب لا يَصِح أن يُنْسَبَ إليه الدخولُ فيه احتاجوا إلى ذلك. ولقائلٍ أن يقول: جَعَل الثوابَ ظرفاً لهم مبالغةً، كما قيل في قوله: ﴿تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩]. السابع: أنه نصب على التمييز وهو مذهب الفراء. الثامن: أنه منصوب على القطع، وهو مذهب الكسائي، إلاَّ أنَّ مكيّاً لمَّا نقل هذا عن الكسائي فَسَّر القطع بكونه على الحال، وعلى الجملةِ فهذان وجهان غريبان يُبْعُد فهمهما.
و ﴿مِّن عِندِ الله﴾ صفةٌ له.
وقوله: ﴿والله عِندَهُ حُسْنُ﴾ الأحسنُ أن يرتفعَ «حسن الثواب» على الفاعلية بالظرفِ قبله، لاعتماده على المبتدأ قبله، والتقدير: والله استقر عنده حسنُ الثواب، ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ والظرفُ قبلَه خبرُه، والجملة خبرُ الأول، وإنما كان الوجهُ الأولُ أحسنَ لأنَّ فيه الإِخبارَ بمفرد وهو الأصلُ، بخلافِ الثاني فإنَّ الإِخبار فيه بجملة.
قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الذين﴾ : قرأ الجمهورُ بتخفيفِها، وأبو جعفر بتشديدِها، فعلى القراءةِ الأولى: الموصولُ رفعٌ بالابتداء، وعند يونس يجوز إعمالُ المخففة، وعلى الثانية في محل نصب. ووقعت «لكن» هنا أحسنَ موقع، فإنَّها وقعت بين ضدين: وذلك أن معنى الجملتين التي قبلها والتي بعدها آيلٌ إلى تعذيبِ الكفار وتنعيمِ المتقين، ووجهُ الاستدراك أنَّه لَمَّا وَصَفَ الكفارَ بقلةِ نفعِ تَقَلُّبهم في التجارة وتصرُّفهم في البلادِ لأجلها جازَ أن يَتَوَّهَّمَ متوهِّمٌ أن التجارة من حيث هي متصفةٌ بذلك فاستدرك أن المتقين وإن أخذوا في التجارة لا يَضُرُّهم ذلك وأنَّ لهم ما وعدهم به.
قوله: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ هذه الجملة أجاز مكي فيها وجهين، أحدهما: الرفع على النعت ل «جنات». والثاني: النصب على الحالِ من الضمير المُسْتكنِّ في «لهم» قال: «وإنْ شِئْتَ في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في» لهم «؛ إذ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إنْ رَفَعْتَ» جنات «بالابتداء، فإنْ رَفَعْتَها بالاستقرار لم يكن في» لهم «ضميرٌ
545
مرفوع إذ هو كالفعل المتقدم». يعني أن «جنات» يجوز رفعُها من وجهين، أحدُهما: الابتداءُ والجارُّ قبلها خبرها والجملةُ خبر «الذين اتقوا». والثاني: بالفاعليةِ لأنَّ الجارَّ قبلَها اعتمد بكونِه خبراً للذين اتقوا، وقد تقدَّم أنَّ هذه أَوْلى لقربِه من المفرد، فإنْ جَعَلْنا رفعَها بالابتداءِ جاز في ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ وجهان: الرفعُ على النعت والنصبُ على الحالِ من الضمير المرفوعِ في «لهم» لِتحمُّلِه حينئذ ضميراً، وإنْ جَعَلْنا رفعَها بالفاعليِةِ تعيَّن أن تكونَ الجملةُ بعدَها في موضعِ رفعٍ نعتاً لها، ولا يجوزُ النصبُ على الحال؛ لأنَّ «لهم» ليس فيه حينئذ ضميرٌ لرفعِه الظاهرَ. و «خالدين» نصبٌ على الحالِ من الضميرِ في «لهم»، والعاملُ فيه معنى الاستقرار.
قوله: «نُزُلاً» النُّزْلُ: ما يُهيَّأ للنزيل وهو الضيف. قال أبو الشعراء الضبي:
١٥٢٢ - وكنا إذا الجبارُ بالجيشِ ضافَنا
جَعَلْنا القَنا والمُرْهَفاتِ له نُزْلا
هذا أصلُه ثم اتُّسع فيه فأطلق على الرزق والغذاء، وإنْ لم يكن لضيف، ومنه: ﴿فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ﴾ [الواقعة: ٩٣] وفيه قولان: هل هو مصدر أو جمع نازل، نحو قول الأعشى:
١٥٢٣ -............................
546
أو تَنْزِلون فإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ
إذا عَرَفْتَ هذا ففي نصبه ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوب على المصدر المؤكِّد؛ لأنَّ معنى «لهم جنات» نُنْزلُهم جناتٍ نُزُلاً. وقَدَّره الزمخشري بقوله: «رزقاً وعطاءً من عند الله». الثاني: نصبُه بفعل مضمر أي: جَعَلهم لهم نُزُلاً. الثالث: نصبُه على الحال من «جنات» لأنها تخصصت بالوصف.
الرابع: أن يكون حالاً من الضمير في «فيها» أي: مُنَزَّلةً إذا قيل: بأن «نُزُلاً» مصدر بمعنى المفعول نقله أبو البقاء. الخامس: أنه حال من الضمير المستكنِّ في «خالدين» إذا قلنا إنه جمع نازل، قاله الفارسي في «التذكرة». السادس وهو قول الفراء: نصبه على التفسير أي: التمييز، كما تقول: «هو لك هبةً أو صدقة»، وهذا هو القول بكونه حالاً.
والجهورُ على ضم الزاي. وقرأ الحسن والأعمش/ والنخعي بسكونها وهي لغة، وعليها البيت المتقدم، وقد تقدم لك أن مثل هذا يكون فيه المسكَّنُ مخففاً من المثقل أو بالعكس، والحق: الأول.
قوله: ﴿مِّنْ عِندِ الله﴾ فيه ثلاثة أوجه، لأنك إنْ جَعَلْتَ «نُزُلاً» مصدراً كان الظرف صفةً له، فيتعلق بمحذوف أي: نزلاً كائناً من عند الله على سبيل التكريم، وإنْ جَعَلْتَه جمعاً كان في الظرفِ وجهان، أحدهما: جَعْلُه حالاً من الضمير المحذوف تقديره: نُزُلاً إياها. والثاني: أنه خبر محذوف أي: ذلك من عند الله، نقل ذلك أبو البقاء.
547
قوله: ﴿وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ﴾ :«ما» موصولةٌ، وموضعُها رفعٌ بالابتداء، والخبر: «خَيْر»، و «للأبرار» صفة ل «خير»، فهو في محلِّ رفع، ويتعلَّقُ بمحذوف. وظاهرُ عبارة الشيخ أنه متعلق بنفس «خير» فإنه قال: «وللأبرار» متعلق «بخير». وأجاز بعضهم أن يكون «للأبرار» هو الخبرَ، و «خيرٌ» خبر ثان. قال أبو البقاء: «والثاني أي الوجه الثاني أن يكون الخبر» للأبرار «، والنية به التقديم، أي: والذي عند الله مستقر للأبرار، و» خير «على هذا خبرٌ ثان»، وفي ادِّعاء التقديم والتأخير نظرٌ؛ لأنَّ الأصل في الأخبار أن تكونَ بالاسمِ الصريح، فإذا اجتمع خبرٌ مفردٌ صريحٌ وخبرٌ مؤول به بُدِىء بالصريحِ من غيرِ عكسٍ، كالصفة، فإذا وقعا في الآيةِ على الترتيبِ المذكورِ فكيف يُدَّعى فيهما التقديمُ والتأخير؟.
ونقل أبو البقاء عن بعضِهم أنه جَعَل «للأبرار» حالاً من الضمير في الظرف، و «خير» خبر المبتدأ، قال: «وهذا بعيدٌ، لأنَّ فيه الفصلَ بين المبتدأ وخبره بحالٍ هي لغيره، والفصلَ بين الحال وصاحبها بخبر المبتدأ، وذلك لا يَجُوز في الاختيار.
وقال الشيخ:» وقيل: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: الذي عند الله للأبرارِ خيرٌ، قال: «وهذا ذهولٌ عن قاعدِة العربية: من أنَّ المجرورَ إذ ذاك يتعلق بما تعلَّق به الظرفُ الواقعُ صلةً للموصول، فيكون المجرور داخلاً في حيز الصلة، ولا يُخْبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها».
فإنْ عنى الشيخُ بالتقديمِ والتأخيرِ هذا الوجهَ أعني جَعْلَ «للأبرار» حالاً من الضمير
548
في الظرف فصحيحٌ، لأنَّ العاملَ في الحال حينئذ الاستقرارُ الذي هو عاملٌ في الظرفِ الواقعِ صلةً، فيلزَمُ ما قاله، وإنْ عنى به الوجهَ الأول أعني جَعْلَ «للأبرار» خبراً، والنيةُ به التقديمُ، وب «خير» التأخيرُ كما ذكر أبو البقاء فلا يَلْزَم ما قال، لأنَّ «للأبرار» حينئذٍ يتعلَّقُ بمحذوفٍ آخر غيرِ الذي تعلَّق به الظرف.
و «خير» هنا يجوز أن تكون للتفضيل وأن لا تكون فإنْ كانت للتفضيل كان المعنى: وما عند الله خيرٌ للأبرار مِمَّا لهم في الدنيا، ويحتمل: خير لهم مما يَتَقَلَّب فيه الكفارُ من المتاعِ القليلِ الزائلِ.
قوله تعالى: ﴿لَمَن يُؤْمِنُ﴾ : اللام لام الابتداء دَخَلَتْ على اسم «إنَّ» لتأخُّره عنها. و ﴿مِنْ أَهْلِ﴾ خبرٌ مقدم، و «مَنْ» يجوزُ أن تكونَ موصولةً، وهو الأظهرُ، وموصوفةً أي: لقوماً، و «يؤمِنْ» صلةٌ على الأول فلا محلَّ له، وصفةٌ على الثاني فمحلُّه النصب وأتَى هنا بالصلةِ مستقبلةً وإن كان ذلك قد مضى، دلالةً على الاستمرارِ والديمومة.
قوله: ﴿خَاشِعِينَ﴾ فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه حالٌ من الضمير في «يؤمنُ»، وجَمَعَه حَمْلاً على معنى «مَنْ» كما جَمَع في قوله: «إليهم»، وبدأ بالحمل على اللفظ في «يُؤمِنُ» على الحمل على المعنى لأنه الأَوْلى. الثاني: أنه حالٌ من الضمير في «إليهم»، فالعامل فيه «أنزل». الثالث: أنه حالٌ من الضمير في «يَشْترون»، وتقديمُ ما في حَيِّز «لا» عليها جائزٌ على الصحيح، وتقدَّم شيء من ذلك في الفاتحة. الرابع: أنه صفةٌ ل «مَنْ» إذ قيل بأنها نكرةٌ موصوفةٌ، وأمَّا الأوجهُ فجائزةٌ سواءً كانت موصولةً أو نكرةً موصوفة.
قوله: «لله» فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ ب «خاشعين» أي لأجلِ
549
الله. والثاني: أن يتعلَّقَ ب «لا يَشْتُرون» ذكره أبو البقاء، قال: «وهو في نيةِ التأخير، أي: لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً لأجل الله».
قوله: ﴿لاَ يَشْتَرُونَ﴾ كقولِه: «خاشعين» إلا في الوجه الثالث لتعذُّرِه، ونزيد عليه وجهاً آخرَ: وهو أن يكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في «خاشعين» أي: غيرَ مشترين. وتقدَّم معنى الخشوع والاشتراء وما قيل فيه وفي الباء في البقرة.
قوله: ﴿أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾«أولئك» مبتدأ. وأمَّا ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون «لهم» خبراًً مقدماً، و «أجرهم» مبتدأ مؤخرٌ، والجملةُ خبر الأول، وعلى هذا فالظرف فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ ب «أجرهم»، والثاني: أنه حالٌ من الضمير في «لهم» وهو ضميرُ الأجرِ لأنه واقعٌ خبراً.
الوجه الثاني: أن يرتفعَ «أجرُهم» بالجارِّ قبله، وفي الظرف الوجهان، إلاَّ أنَّ الحالَ من «أجرهم» الظاهرُ، لأنَّ «لهم» لا ضميرَ فيه حينئذٍ. الثالث: أنَّ الظرفَ هو خبرُ «أجرهم» و «لهم» متعلق بما تعلَّقَ به هذا الظرفُ من الثبوتِ والاستقرار. ومن هنا إلى آخر السورة تقدَّم إعراب نظائره.
550
سورة آل عمران
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات
اتصَلتْ سورةُ (آلِ عِمْرانَ) من حيث الفضلُ بسورةِ (البقرة)؛ فقد وصَفهما الرسولُ ﷺ بـ (الزَّهْراوَينِ)؛ لِما احتوتا عليه من نورٍ وهداية.
وجاءت هذه السُّورةُ ببيانِ هداية هذا الكتابِ للناس، متضمِّنةً الحوارَ مع أهل الكتاب، مُحاجِجَةً إياهم في صِدْقِ هذا الدِّين وعلوِّه على غيره، مبرهنةً لصِدْقِ النبي ﷺ بهذه الرسالة، وهَيْمنةِ هذا الدِّينِ على غيره، ونَسْخِه للأديان الأخرى؛ فمَن ابتغى غيرَ الإسلام فأمرُه ردٌّ غيرُ مقبولٍ، كما أشارت إلى غزوةِ (أُحُدٍ)، وأمرِ المسلمين بالثَّبات على هذا الدِّين.
ورَد عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ ﷺ، قال: «مَن حلَفَ على يمينٍ يقتطِعُ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، وهو فيها فاجرٌ: لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ»، ثم أنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِي اْلْأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اْللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]، ثم إنَّ الأشعَثَ بنَ قيسٍ خرَجَ إلينا، فقال: ما يُحدِّثُكم أبو عبدِ الرَّحمنِ؟ قال: فحدَّثْناه، قال: فقال: صدَقَ؛ لَفِيَّ نزَلتْ، كانت بيني وبين رجُلٍ خصومةٌ في بئرٍ، فاختصَمْنا إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «شاهِدَاكَ أو يمينُهُ»، قلتُ: إنَّه إذًا يَحلِفُ ولا يُبالي، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن حلَفَ على يمينٍ يستحِقُّ بها مالًا، وهو فيها فاجرٌ: لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ»، ثم أنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك، ثم اقترَأَ هذه الآيةَ: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]. أخرجه البخاري (٢٣٥٦).
صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «كان رجُلٌ مِن الأنصارِ أسلَمَ، ثم ارتَدَّ ولَحِقَ بالشِّرْكِ، ثم نَدِمَ، فأرسَلَ إلى قومِه: سَلُوا رسولَ اللهِ ﷺ: هل لي مِن توبةٍ؟ فجاء قومُهُ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقالوا: إنَّ فلانًا قد نَدِمَ، وإنَّه قد أمَرَنا أن نسألَك: هل له مِن توبةٍ؟ فنزَلتْ: {كَيْفَ يَهْدِي اْللَّهُ قَوْمٗا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ} [آل عمران: 86] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 89]، فأرسَلَ إليه قومُهُ، فأسلَمَ». أخرجه النسائي (٤٠٧٩).
عن مسروقٍ، قال: سأَلْنا عبدَ اللهِ - هو ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه - عن هذه الآيةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اْلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ أَمْوَٰتَۢاۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، قال: «أمَا إنَّا قد سأَلْنا عن ذلك، فقال: أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ معلَّقةٌ بالعرشِ، تَسرَحُ مِن الجَنَّةِ حيث شاءت، ثم تَأوي إلى تلك القناديلِ، فاطَّلَعَ إليهم ربُّهم اطِّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نشتهي ونحن نَسرَحُ في الجَنَّةِ حيث شِئْنا؟! ففعَلَ ذلك بهم ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا رأَوْا أنَّهم لن يُترَكوا مِن أن يَسألوا، قالوا: يا ربُّ، نريدُ أن ترُدَّ أرواحَنا في أجسادِنا؛ حتى نُقتَلَ في سبيلِك مرَّةً أخرى، فلمَّا رأى أنْ ليس لهم حاجةٌ، تُرِكوا». أخرجه مسلم (١٨٨٧).
سُمِّيتْ (آلُ عِمْرانَ) بهذا الاسم لذِكْرِ (آلِ عِمْرانَ) فيها، وثبَت لها اسمٌ آخَرُ؛ وهو (الزَّهْراءُ):
لِما جاء في حديث أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقولُ: «اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ». أخرجه مسلم (804).
يقول ابنُ منظورٍ: «والزَّهْراوانِ: أي: المُنِيرتانِ المُضِيئتانِ، واحدتها: زَهْراءُ». لسان العرب (4 /332).
وقد عدَّ بعضُ العلماء أنَّ ذِكْرَ (الزَّهْراوانِ) في هذا الحديثِ هو من بابِ الوصف، لا التسمية. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /143)، "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /20).
* تُحاجُّ عن صاحبِها:
صحَّ عن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «اقرَؤُوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه؛ اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمَامتانِ، أو كأنَّهما غَيَايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقانِ مِن طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤُوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا تستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه مسلم (804).
* كان يعظُمُ بين الصحابةِ قارئُ سورةِ (آلِ عِمْرانَ):
فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ إذا قرَأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا - يعني: عظُمَ -»، وفي روايةٍ: «يُعَدُّ فينا عظيمًا»، وفي أخرى: «عُدَّ فينا ذا شأنٍ». أخرجه أحمد (12236).
* ورَدتْ قراءتُه ﷺ لسورة (آل عِمْران) في قيام الليل:
فعن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما، قال: «صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فاستفتَحَ بسورةِ البقرةِ، فقرَأَ بمائةِ آيةٍ لم يَركَعْ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها في الرَّكعتَينِ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها ثم يَركَعُ، فمضى حتى قرَأَ سورةَ النِّساءِ، ثم قرَأَ سورةَ آلِ عِمْرانَ، ثم ركَعَ نحوًا مِن قيامِهِ، يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، ثم رفَعَ رأسَهُ، فقال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا لك الحمدُ، وأطال القيامَ، ثم سجَدَ، فأطال السُّجودَ، يقولُ في سجودِهِ: سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، لا يمُرُّ بآيةِ تخويفٍ أو تعظيمٍ للهِ عز وجل إلا ذكَرَهُ». أخرجه النسائي (١١٣٢).
* كان النبيُّ ﷺ يَقرأُ خواتمَها منتصَفَ الليلِ عندما يستيقظُ مِن نومِه:
فممَّا صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّه باتَ عند مَيْمونةَ زَوْجِ النبيِّ ﷺ - وهي خالتُهُ -، قال: «فاضطجَعْتُ في عَرْضِ الوِسادَةِ، واضطجَعَ رسولُ اللهِ ﷺ وأهلُهُ في طُولِها، فنامَ رسولُ اللهِ ﷺ حتى انتصَفَ الليلُ - أو قَبْله بقليلٍ، أو بعده بقليلٍ -، ثم استيقَظَ رسولُ اللهِ ﷺ، فجعَلَ يَمسَحُ النَّوْمَ عن وجهِهِ بيدَيهِ، ثم قرَأَ العَشْرَ الآياتِ الخواتِمَ مِن سُورةِ آلِ عِمْرانَ، ثم قامَ إلى شَنٍّ معلَّقةٍ، فتوضَّأَ منها، فأحسَنَ وُضُوءَهُ، ثم قامَ يُصلِّي، فصنَعْتُ مِثْلَ ما صنَعَ، ثُمَّ ذهَبْتُ فقُمْتُ إلى جَنْبِهِ، فوضَعَ رسولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ اليُمْنى على رَأْسي، وأخَذَ بأُذُني بيدِهِ اليُمْنى يَفتِلُها، فصلَّى ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم أوتَرَ، ثم اضطجَعَ حتى جاءه المؤذِّنُ، فقامَ فصلَّى ركعتَينِ خفيفتَينِ، ثم خرَجَ فصلَّى الصُّبْحَ». أخرجه البخاري (٤٥٧١).
جاءت مواضيعُ سورةِ (آل عِمْرانَ) مُرتَّبةً على النحوِ الآتي:
مقدِّمات للحوار مع النَّصارى (١-٣٢).
إنزال الكتاب هدايةً للناس (١-٩).
تحذير الكافرين وحقيقةُ الدنيا (١٠-١٨).
انتقال الرسالة لأمَّة الإسلام (٢٩-٣٢).
اصطفاء الله تعالى لرُسلِه (٣٣-٤٤).
حقيقة عيسى عليه السلام (٤٥-٦٣).
الإسلام هو دِين الحقِّ، وهو دِينُ جميع الأنبياء (٦٤-٩٩).
إبراهيم عليه السلام كان حنيفًا مسلمًا (٦٤-٦٨).
مخاطبة فِرَق أهل الكتاب، وبيان حقائقهم (٦٩-٨٠).
وَحْدة الرسالات، والدِّين الحق هو الإسلام (٨١- ٩٢).
صلة المسلمين بإبراهيم، وافتراء أهل الكتاب (٩٣-٩٩).
بيان خَيْرية هذه الأمَّة، وتحذيرها من أعدائها (١٠٠-١٢٠).
التحذير من الوقوع في أخطاء السابقين (١٠٠-١٠٩).
خيرية هذه الأمَّة وفضلها (١١٠-١١٥).
تحذير الأمَّة من المنافقين (١١٦-١٢٠).
معركة (أُحُد) (١٢١-١٤٨).
مقدِّمات معركة (أُحُد) (١٢١-١٢٩).
أهمية الطاعة ومواعظُ (١٣٠-١٣٨).
تعزية المسلمين، والنهيُ عن الهوان (١٣٩-١٤٨).
دروس مستفادة من الهزيمة (١٤٩-١٨٩).
التحذير من طاعة الأعداء والتنازل (١٤٩-١٥٨).
أهمية الشورى وطاعة الرسول (١٥٩-١٦٤).
أسباب الهزيمة وفوائدها (١٦٥-١٧٩).
تحذير المنافقين والبخلاء (١٨٠-١٨٩).
أولو الألباب يستفيدون من الآيات الكونية (١٩٠-١٩٥).
الأمورُ بخواتيمها (١٩٦-٢٠٠).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /426).
افتُتِحت السُّورةُ بمقصدٍ عظيمٍ؛ وهو التنويهُ بالقرآن، وبمحمَّدٍ ﷺ، وتقسيمُ آيات القرآن، ومراتبُ الأفهام في تَلقِّيها، والتنويهُ بفضيلة الإسلام، وأنه لا يَعدِله دِينٌ، وأنه لا يُقبَل دِينٌ عند الله بعد ظهور الإسلام غيرُ الإسلام.
ومِن مقاصدِها: مُحاجَّةُ أهلِ الكتابينِ في حقيقة الحنيفيَّة، وأنهم بُعَداءُ عنها، وما أخَذ اللهُ من العهد على الرُّسلِ كلِّهم: أن يؤمنوا بالرسول الخاتم.
واشتملت على أمرِ المسلمين بفضائلِ الأعمال: مِن بذلِ المال في مواساة الأمَّة، والإحسان، وفضائل الأعمال، وتركِ البخل، ومَذمَّةِ الربا.