في هذه السورة ثلاثة فصول طويلة : الأول في صدد مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب. والثاني في صدد مواقف اليهود ومكائدهم. والثالث في صدد وقعة حربية بين النبي والمسلمين والمشركين. وقد تخلل كل فصل ما يناسب موضوعه من محاجات وتنديدات وتنويهات ومواعظ ومعالجات وتلقينات ومبادئ جليلة.
وجمهور المفسرين وكتاب السيرة١ متفقون على أن المناظرة التي جاء الفصل الأول في صددها كانت مع وفد نصارى نجران. ولكنهم لا يذكرون متى قدم هذا الوفد إلى المدينة. وفي سياق لابن سعد في الجزء الثاني من طبقاته٢ وللإمام أبي يوسف في كتابه الخراج٣ نصّ عهد نبوي لهم من شهوده أبو سفيان بن حرب. وهذا قد يعني إن صح أن العهد كتب بعد فتح مكة بما لا يقل عن سنة. ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب العهد الذي كتبه لهم أمنهم على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وبيعهم وأن لا يغير أسقف عن أسقفيته وفرض عليهم جزية سنوية مقدارها ألفا حلة وآذنهم فيه أن ذمته بريئة ممن أكل الربا منهم.. إلخ. لأن هذا لا يمكن أن يكون وقع إلا بعد أن صار للنبي سلطان على اليمن. وهذا إنما ثمّ بعد فتح مكة. وقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد من نصارى نجران على النبي في سلسلة أخبار وقعت أحداثها قبل فتح مكة بمدة طويلة بل وقبل خبر وقعة أحد التي كانت في السنة الهجرية الثالثة. ولم يذكر تاريخا ولا كتاب عهد مع ذكره أن الشطر الأول من السورة قد نزل في مناسبة قدومه، وأنهم تناظروا معه في أمر المسيح وأنه اقترح عليهم المباهلة وجعل لعنة الله على الكاذبين امتنعوا وقالوا له : نوادعك ونبقى على ديننا٤.
وإجماع الروايات على أن الفصل الأول هو في صدد هذا الوفد ومجيء السورة في الترتيبات المروية بعد سورة الأنفال يسوغان القول : إن وفد نجران قد قدم في وقت مبكر جدا من العهد المدني وقبل فتح مكة. ويكون خبر نزول سورة آل عمران بعد سورة الأنفال بسبب الفصل الذي فيه خبر المناظرة مع الوفد واردا صحيحا. وحينئذ يكون الخبر الذي رواه ابن سعد وأبو يوسف عن قدوم الوفد بعد فتح مكة وكتابة النبي صلى الله عليه وسلم عهدا له حادثا ثانيا.
وجمهور المفسرين متفقون كذلك على أن الوقعة الحربية التي جاء الفصل الثالث من فصول السور في صددها هي وقعة أحد التي جرت بين المسلمين وبين جيش كفار قريش عند جبل أحد قرب المدينة بعد خمسة عشر شهرا من وقعة بدر حيث زحف صناديد قريش على رأس جيش كبير من مكة على يثرب لأخذ ثأرهم من يوم بدر. وورود هذا الفصل في السورة يؤيد وجاهة كون السورة نزلت بعد سورة الأنفال التي دار معظمها على وقعة بدر. ولقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد نجران قبل خبر وقعة أحد. وقد يؤيد كون وفد نجران جاء قبل وقعة أحد ورود فصل المناظرة في السورة قبل فصل أحد. ولعل انتصار النبي والمسلمين في بدر على أهل مكة كان ذا دويّ عظيم في أنحاء الجزيرة وهذا مما لا يتحمل ريبا حفز نصارى نجران على إرسال وفدهم لاستطلاع النبأ النبوي العظيم وسهل قدومه. والله تعالى أعلم.
ومن المحتمل أن تكون مواقف اليهود التي جاء الفصل الثاني في صددها قد كانت في ظروف قدوم وفد نجران فوضعت فصلا ثانيا. وفي كتب التفسير٥ روايات تذكر أن اليهود كانوا طرفا ثالثا في ما كان يجري من مناظرة بين النبي ووفد نجران. وفي هذا الفصل خطاب موجه إلى أهل الكتاب عامة حينا وإلى النصارى واليهود حينا مما فيه تأييد لذلك. ولقد ذكرت روايات المفسرين٦ اسم بني النضير في سياق تفصيل المواقف اليهودية التي حكاها الفصل. وبنو النضير إنما أجلوا عن المدينة بعد وقعة أحد. وفي هذا تأييد آخر. وقد يدل هذا أن وقعة أحد قد كانت بعد ذلك فوضع فصلها بعد الفصلين. ومع كل ما تقدم فنحن نرجح أن فصول السورة وآياتها قد رتبت بعد استكمال نزولها كما هو شأن سورة البقرة. والله أعلم.
٢ طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٥٥ ـ ١١٩..
٣ ص ٤٠ ـ ٤١..
٤ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٦..
٥ أنظر كتب التفسير السابقة الذكر. وانظر في صدد وقعة أحد ابن سعد ج ٣ ص ٧٨ ـ ٩١. وابن هشام ج ٣ ص ٣ ـ ١٥٩..
٦ أنظر المصدر نفسه..
ﰡ
١﴿ الم ( ١ ) اللّهُ لا إلاه إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ( ٢ ) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( ٣ ) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ( ٤ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ( ٥ ) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٦ ) ﴾ [ ١ ٦ ].
بدأت السورة بالحروف المتقطعة الثلاثة للتنبيه واسترعاء الذهن إلى ما يأتي بعدها على ما رجحناه في أمثالها. ثم أخذت الآيات بعدها تقرر صفات الله وتنوه بكتبه : فهو الذي لا إله إلا هو الحي القيوم يأمر الكون وما فيه. وهو الذي نزّل الكتاب على النبي والخطاب موجه إليه صدقا وحقا ومصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية ومتطابقا معها كما أنه هو الذي أنزل التوراة والإنجيل من قبله هدى للناس. وقد أنزل الفرقان كذلك هدى للناس. وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو الذي يصور الناس والخطاب موجه إلى السامعين في أرحام أمهاتهم كيف تشاء حكمته. وهو العزيز القوي الذي لا تطاوله قوة والحكيم الذي يفعل ما فيه الحكمة والصواب. ومن أجل ذلك لا يصح أن تكون الألوهية لأحد غيره ولا يصح أن يكون إله إلا هو. والذين يكفرون بآياته ويجحدونها يذوقون عذابه الشديد. وهو القادر المنتقم ممن يقف منه ومن آياته موقف الكفر والجحود.
والآيات صريحة بأن الله أنزل التوراة والإنجيل. ولقد شرحنا في سياق تفسير الآيات [ ١٥٧ ١٥٨ ] من سورة الأعراف معنى الكلمتين ومدى ما تدل عليهما وما هو المتداول في أيدي الكتابين مما يطلق عليه الكلمتان، وما يعرف بالعهد القديم والعهد الجديد فلا نرى حاجة إلى الإعادة والزيادة. إلا أن نقول إن في العبارة القرآنية هنا توكيدا لما قررناه من أن القرآن عنى بالتوراة والإنجيل كتابين أوحى الله بهما وأنزلهما وإنهما غير ما في أيدي اليهود والنصارى من أسفار كتبت بأقلام بشرية. وفي ظروف مختلفة وبعد موسى وعيسى وفيهما من التناقض والشوائب ما تتنزه عنه كتب الله التي أنزلها على أنبيائه.
وجمهور المفسرين على أن المقصد من كلمة الفرقان وصف القرآن بأنه نزل ليكون الفارق بين الحق والباطل والفاصل في ما وقع من اختلاف بين أهل الكتب السماوية السابقة وفيما طرأ عليها من تحريف. وهو وجيه ؛ لأن القرآن قد ذكر بلفظ الكتاب في الآية الثانية.
تعليق على الآيات الست الأولى
من السورة وخلاصة عن
وفد نصارى نجران
لقد روى الطبري وتابعه آخرون أن هذه الآيات إلى بضع وثمانين آية بعدها نزلت في مناسبة قدوم وفد من نصارى نجران ومناظرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في صفات الله والمسيح. وقد روى هذا ابن هشام عن ابن إسحق وهما أقدم بمائة سنة من الطبري. غير أن المستفاد من سياق ابن هشام أن الذي نزل في هذه المناسبة هو [ ٦٤ ] آية فقط. وروح الآيات قد تدعم صحة رواية نزولها في مناظرة بين النبي وفريق من النصارى سواء أكان عدد آياتها ما ذكره الطبري أو ما ذكره ابن هشام لأنها تنطوي على تقريرات حقائق عن الله تعالى وعيسى عليه السلام ينكر بعضها طرف آخر أو يأخذها على غير وجهها الحق وعلى التنديد بهذا الطرف بسبب ذلك.
وليس في الآيات ما يساعد على القول ما إذا كانت هذه السلسلة نزلت دفعة واحدة كما يستفاد من الطبري وابن هشام، أم متفرقة، غير أن ما فيها من مواضيع ومشاهد متنوعة واستطرادا يجعلنا نرجح أنها لم تنزل دفعة واحدة. والله تعالى أعلم.
وعلى كل حال فالمتبادر أن هذه الآيات الست هي بمثابة مقدمة أو مدخل بين يدي ذكر ما كان من المناظرة أو تعقيب عليها. وهذا استلهم من فحوى الآيات التي أشير فيها إلى التوراة والإنجيل ثم إلى القرآن الذي جاء فرقانا بين الحق والباطل بأسلوب ينطوي على تقرير كونه جاء ليبين ما وقع من تحريف في التوراة والإنجيل وانحراف عنهما، ثم إلى تصوير الله تعالى الناس في الأرحام كيف يشاء مما قد ينطوي فيه إشارة إلى حادث ولادة عيسى عليه السلام بأمر الله وتصويره ومعجزته١.
وخلاصة ما رواه المفسرون وكتاب السيرة وبخاصة ابن هشام عن وفد نصارى نجران أنه قدم المدينة في ستين راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم. وفيهم ثلاثة هم الرؤساء فيهم وهم عبد المسيح أمير القوم وعاقبهم وصاحب مشورتهم والأيهم ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم، وأبو حارثة أسقفهم وحبرهم وإمامهم. وقد أنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في مسجدهم وسمح لهم بالصلاة فيه نحو المشرق. وقد ناظروه وجادلوه في أمر عيسى وألوهيته وبنوته وتلا عليهم ما ورد في القرآن عنه ودعاهم إلى الرجوع عما في عقيدتهم فيه من انحراف، فماروا وكابروا فعرض عليهم المباهلة والملاعنة ؛ حيث يدعو كل فريق من الفريقين أن يلعن الله الكاذب فيهم. فاستمهلوه إلى الغد وتشاوروا فيما بينهم فقال لهم عبد المسيح : لقد عرفتم والله أن محمدا لنبي مرسل. ولقد علمتم أنه لم يلاعن قوم نبيا قط إلا استأصلهم الله فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم، فوادعوا الرجل ولا تلاعنوه. فغدوا على رسول الله وقالوا له : قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا. وسألوه ألست تقول : إن عيسى كلمة الله وروح منه قال : بلى. قالوا : حسبنا هذا منك. وطلبوا منه حسب رواية ابن هشام أن يرسل معهم شخصا من أصحابه يقضي في خلاف ناشب بين بعضهم على حقوق وأرضين فأرسل معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. وطلبوا منه حسب رواية ابن سعد وأبي يوسف أن يكتب لهم كتاب أمان وعهد فكتب لهم كتابا أعطاهم فيه عهده وذمته وأمنهم على أنفسهم وحالتهم وعباداتهم ما لم يظلموا ويتعاملوا بالربا وفرض عليهم جزية سنوية. ومما رواه ابن هشام أن أبا حارثة اعترف لأخ له اسمه كرز بصدق نبوة محمد فقال له وما يمنعك منه وأنت تعلم هذا فقال : ما صنع قومنا لنا شرفونا وأكرمونا ومولونا وأبوا إلا مخالفته. وهناك رواية طويلة جدا أوردها ابن كثير عن البيهقي تفيد أن قدوم وفد نجران على النبي كان قبل نزول سورة النمل. وبناء على رسالة أرسلها النبي إلى نصارى نجران. وأن الوفد كان مؤلفا من ثلاثة فناظروه، ثم أبوا التلاعن معه وطلبوا موادعته وأخذوا منه عهدا وفرض عليهم جزية إلخ مما ذكرته الروايات الأخرى.
وليس شيء من أخبار وفد نجران واردا في كتب الصحاح. غير أن هذا لا يمنع أن فيما جاء في الروايات حقائق صحيحة. وقد اتفق على روايتها كتاب السيرة والمفسرون القدماء، ولا سيما الإمامان أبو يوسف وأبو عبيد باستثناء رواية البيهقي التي تبدو شاذة عن الروايات الأخرى ومتناقضة وغير متسقة مع الوقائع والحقائق، من حيث إن سورة النمل مكية ونزلت في عهد مبكر من العهد المكي وأن ما ورد فيها لا يمكن أن يكون إلا في المدينة وفي حالة كان النبي صلى الله عليه وسلم في قوة وسلطان.
وفي بعض آيات السلسلة ما يؤيد بعض ما جاء في الروايات كما أن في سور أخرى آيات تؤيد ما كان من مماراة الكتابيين ومكابرتهم في أمر النبي والقرآن وهم يعرفون أنه الحق والصدق مما مرّ بعضه في سورة البقرة وما سوف يأتي شيء منه في هذه السورة وغيرها بعدها. وفي سورة التوبة آية صريحة تذكر ما كان من صد كثير من الأحبار والرهبان عن سبيل الله وأكلهم أموال الناس بالباطل وبمعنى آخر حرصهم على مناصبهم وما تدره عليهم من منافع وهي الآية [ ٣٤ ].
وإذا كان من شيء يحسن استدراكه فهو ما نبهنا عليه ورجحناه في مقدمة السورة من أن نصارى نجران أرسلوا وفدا مرتين مرة قبل فتح مكة بعد وقعة بدر حيث ناظروا النبي وامتنعوا عن الاستجابة إلى التلاعن معه ووادعوه على ما جاء في رواية ابن هشام، ومرة بعد فتح مكة حيث أخذوا منه عهدا بذمته وفرض عليهم فيه الجزية. والله تعالى أعلم.
وإتماما للفائدة وكنموذج لكتب عهد النبي صلى الله عليه وسلم للوافدين عليه وما فيها من مظاهر الحق والعدل والتسامح والتشريع السياسي نورد في ما يلي نص العهد نقلا عن كتاب الخراج للإمام أبي يوسف : " بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لأهل نجران إذ كان عليهم حكمه في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء ورقيق فأفضل ذلك عليهم وترك ذلك كله لهم. على ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة مع كل حلة أوقية من الفضة فما زادت على الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاز أو عرض أخذ منهم بالحساب. وعلى نجران مؤونة رسلي ومنعتهم ما بين عشرين يوما فما دون ذلك. ولا تحبس رسلي فوق شهر. وعليهم عارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد باليمن ومعرة، وما هلك مما أعاروه رسلي من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض فهو ضمن على رسلي حتى يؤدوه لهم. ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم. وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته وليس عليهم دية ولا دم جاهلية. ولا يسخرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين. ومن أكل ربا منهم فذمتي منه بريئة. ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر. وعلى ما في هذا الكتاب جواز الله وذمة محمد النبي رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم غير منفلتين بظلم. شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف من بني نصر والأقرع بن حابس الحنظلي والمغيرة بن شعبة. وكتب هذا الكتاب عبد الرحمن بن أبي بكر ".
وقد يثير هذا الانسجام والسبك شبهة في صحة الكتاب. ولكنا نرجح أن هذا مما كان متداولا منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولا ينفيه ما يمكن أن يكون طرأ عليه من تنميق وسبك أو بعض زيادة ونقص. والله تعالى أعلم.
( ٢ ) أم الكتاب : هذه الكلمة وردت في سورتي الزخرف والرعد أيضا، غير أن المتبادر أنها هنا غير ما عنته في السورتين. وقد قال بعض المؤولين : إنها هنا تعني العماد والأساس في القرآن. وقال بعضهم : إنها عنت الأصل الذي يرجع إليه في القرآن. وكلا التأويلين وجيه. ونحن نرجح الثاني والله أعلم.
( ٣ ) المتشابهات : من التشابه الذي بمعنى المقاربة والمماثلة أو من معنى الاشتباه في حقيقة المعنى، وسيرد شرح لمداها أكثر بعد.
( ٤ ) زيغ : انحراف عن الحق.
( ٥ ) تأويله : شرحنا معاني هذه الكلمة واشتقاقاتها في سياق تفسير سورة الأعراف. وجاءت هنا مرتين. والمتبادر من روح الآية أنها في المرة الأولى عنت صرف المتشابهات إلى ما يؤدي إلى الشك والشبهات والفتنة. وعنت في المرة الثانية المراد من الآيات المتشابهات ومداها وحكمتها وماهيتها. والله تعالى أعلم.
المتبادر في شرح وتأويل هذه الآيات والله أعلم هو ما يلي :
في الآيات إشارة إلى ما احتواه القرآن من أنواع الآيات ومواقف كل من المنحرفين عن الحق الذين في قلوبهم زيغ والراسخين في العلم منها. فقد أنزل الله تعالى على نبيه الكتاب ـ والخطاب في الآيات موجه إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ـ وفيه آيات محكمات وآيات متشابهات. والمحكمات هن أم الكتاب التي فيها الأسس والأهداف المحكمة التي يجب أن تكون المرجع والتي لا تتحمل تأويلات عديدة. والمتشابهات هي التي جاءت للتشبيه والتمثيل والتي تتحمل وجوها عديدة للتأويل. فالذين في قلوبهم زيغ ويريدون المماراة والتمحّل يصرفون الآيات المتشابهات إلى ما يؤدي إلى الشك والفتنة ويتمحلون في تأويلها تبريرا لأهوائهم وتمشيا مع انحرافهم وزيغهم وبقصد صرف الناس عن الأهداف والأسس والمبادئ المحكمة في حين أن الله هو الذي يعلم التأويل الصحيح القطعي للمتشابهات. والراسخون في العلم يعرفون ذلك ولا يتمحلون في ما لا يدركون مما هو مغيب عنهم من تأويل المتشابهات القطعي ويقولون : آمنا به كل من عند ربنا. ويدعون الله عز وجل أن يثبت قلوبهم على الحق بعد أن هداهم إليه، وأن لا يزيغ قلوبهم عنه وأن يهبهم رحمة منه. ويقرون أن الله جامع الناس إلى يوم معين يدانون فيه غير مرتابين في ذلك ؛ لأن الله قد وعد به وهو لا يخلف الميعاد.
وهذا الموقف من الآيات المحكمات والمتشابهات هو الجدير بذوي العقول الراجحة الذين يتعظون بالموعظة والتذكير ويقفون عند الحق الموقف الواجب.
تعليق على الآية
﴿ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
ومداها في صدد التنزيل القرآني
لقد روى المفسرون روايتين في نزول الآيات جاء في واحدة منها : أن جماعة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحروف المتقطعة في أوائل السور ومدة نبوته ومدة الحياة الدنيا بقصد تعجيزه وإفهامه، فنزلت الآيات لتدمغهم بالزيغ والمماحكة وقصد صرف الناس عن آيات القرآن المحكمة وإثارة شكوكهم وشبهاتهم. وجاء في واحدة أن وفد نصارى نجران بعد أن تناظروا مع النبي في أمر عيسى ودعاهم النبي إلى المباهلة امتنعوا، وقالوا له : ألست تقول إن عيسى من روح الله وكلمته ؟ قال : بلى. فقالوا هذا حسبنا فنزلت الآيات لتندد بهم وتذكر أنهم احتجوا بالآيات المتشابهة، وتركوا الآيات المحكمة التي تنزّه الله عن الولد، وتقرر أن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه دعا إلى عبادة الله وحده، وأن ولادته كانت بمعجزة ربانية وحسب. والروايتان لم تردا في الصحاح. غير أن اتفاق الرواة على أن صدر سورة آل عمران نزل في مناسبة قدوم وفد نصارى نجران ومناظرته مع النبي تجعل الرجحان للراوية الثانية.
والروايات تدور حول نزول الآية الأولى أي السابعة مع أن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها جملة واحدة نزلت معا في ما يتبادر لنا. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تنزيل الآيات الثلاث معا لإتمام التقرير للموقف الذي يجب أن يقفه الراسخون في العلم وذوو العقول الراجحة من الآيات المحكمة والمتشابهة. ودوران الرواية حول الأولى لا يمنع أن تكون الآيات الثلاث نزلت معا كما هو المتبادر.
والآيات وإن كانت نزلت في مناسبة حادث وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أسلوبها المطلق يجعلها عامة المدى والتطبيق كشأن أمثالها.
ومدى الآيات خطير جدا لاتصاله بالقرآن وفهمه، وهذا مما يسوغ التوسع في شرحها.
وفيما يلي شرح لمداها وما روي وقيل في سياقها وتعليق عليه :
١ ـ في صدد معنى ﴿ محكمات ﴾ تعددت التأويلات المروية عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم١ منها أنها كل ما يعول عليه في القرآن من أحكام ويعمل به من حلال وحرام. أو كل ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. أو الآيات الواضحة التي لا تحتمل تأويلات عديدة. أو الأوامر والنواهي القرآنية. أو الآيات الناسخة المثبتة للأحكام، أو الأحكام التي لم يطرأ عليها نسخ. أو أركان الإسلام وعماد الدين والفرائض والحدود وسائر ما بالخلق حاجة إليه وما كلفوا به بعاجلهم وآجلهم. ولم نطلع على حديث نبوي أو صحابي وثيق السند. والكلمة تتحمل كل هذه المعاني أو جلها. ويمكن مع ذلك أن يقال استلهاما من روح الآية من جملة ﴿ هن أم الكتاب ﴾ أنها تعني الآيات التي لا تتحمل تأويلات عديدة ولا اشتباها والتي فيها إلى ذلك مبادئ وأحكام ووصايا واضحة غير منسوخة في الشؤون الدينية والدنيوية. وفي سورة محمد آية قد تساعد على فهم مدى الكلمة أو صورة من صورها وهي :﴿ ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم ( ٢٠ ) ﴾ والصورة في الآية هي أمر رباني قطعي وصريح بالقتال والله أعلم.
٢ ـ في صدد مدى ﴿ متشابهات ﴾ قيل ٢ إنها ما سوى الأحكام والحلال والحرام. أو ما استأثر الله تعالى بعلمه الحقيقي أو أشراط الساعة، أو القصص والأمثال. أو المجازات والتشبيهات، أو ما يحتمل وجوها عديدة للتأويل، أو المتشابهة في الصفة المختلفة في النوع. ولم نطلع كذلك على أثر نبوي أو صحابي وثيق السند في ذلك. والذي نستلهمه من روح الآية أنها الآيات التي تتحمل وجوها عديدة للتأويل أو التي يتشابه فهمها وتأويلها على الأذهان بسبب تنوعها وتنوع سبكها ومقامها وألفاظها والله تعالى أعلم.
وننبه بهذه المناسبة إلى أنه ورد في الآية [ ٢٣ ] من سورة ( الزمر ) تعبير ( المتشابه ) في هذه الصيغة ﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فماله من هاد ( ٢٣ ) ﴾ غير أن التعبير في هذه الآية ليس هو في مقام ومدلول تعبير المتشابهات في آية آل عمران التي نحن في صددها كما هو ظاهر. وهذه ميزة من ميزات البلاغة القرآنية واللغة الفصحى التي نزل بها القرآن حيث يتغير مدلول الكلمة أحيانا بتغير الصيغة التي وردت فيها. ولقد شرحنا مدى الكلمة في تفسير سورة الزمر فنكتفي بهذا التنبيه.
٣ ـ والآية الأولى على كل حال تقرر بصراحة أن القرآن يحتوي نوعين من الآيات واحدا محكما وآخر متشابها، والأول هو أم الكتاب وعماده. وأهل التأويل متفقون إجمالا على أن المحكمات هي ما فيها أحكام ومبادئ دينية ودنيوية محكمة. فيكون ما عدا ذلك هو من النوع الثاني الذي يتبادر لنا، والله أعلم أن الآيات التي فيها تشبيه وتمثيل وترغيب وترهيب ووعظ وتذكير وتنبيه وتنويه وتأنيب وحجاج ثم الآيات التي فيها صفات الله عز وجل وروحه وأعضاؤه وحركاته وكلامه والملائكة والجن وإبليس والشياطين والمعجزات وخلق الأكوان ومشاهدها ونواميسها ومشاهد الحياة الأخروية. فالآيات التي فيها ذلك مختلفة في أساليبها وألفاظها وصورها ويمكن أن تتحمل وجوها عديدة أو أن يتشابه فهمها على الأذهان، أو يعجز العقل البشري بعامة أو عقول بعض الناس عن إدراك مداها وماهيتها، أو يبدو للمشرع غير المتمعن وغير الراسخ في العلم أن فيها تغايرا أو تباينا أو تناقضا.
والمتمعن في هذا النوع من الآيات يجد أنها تهدف إلى تدعيم ما احتواه القرآن من المبادئ والتلقينات والعقائد والأحكام والتشريعات والتعاليم والوصايا أو بكلمة أخرى إلى تدعيم المحكمات القرآنية. وبذلك يظهر له حكمة التنزيل في جعل آيات القرآن نوعين نوعا محكما وآخر داعما. أو نوعا أسسا ونوعا وسائل كما ذكرنا ذلك في كتابنا ( القرآن المجيد ).
ويبدو أن حكمة التنزيل قد شاءت أن تأتي آيات النوع الثاني بالأساليب المتنوعة التي وصفت بالمتشابهات التي ذكرنا ما قيل في مدى مفهومها لتحقيق ما أرادته هذه الحكمة من تدعيم للمحكمات. ولقد لحظنا ذلك ونبهنا على ما استشففناه من حكمته ومقاصده في المناسبات الكثيرة التي وردت فيها فصول وآيات النوع الثاني وأساليبها المتنوعة في اختلاف مقاماتها في السورة التي سبق تفسيرها. وإنه ليصح أن يقال على ضوء ما تقدم : أن الآية ( الأولى ) أي السابعة هي مفتاح القرآن الذي يجب على الناظرين فيه مسلمين كانوا أم غير مسلمين أن يتقيدوا به والذي لا يجوز ولا يصح الخروج عنه ؛ لأنه المفتاح الذي جعله الله فاتحا لفهم آيات القرآن.
٤ ـ والرواية التي رويت في سبب نزول الآية والتي تذكر أنها نزلت في مناسبة قول وفد نجران للنبي " ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروح منه. قال بلى، قالوا : هذا حسبنا ". تساعد على القول بالإضافة إلى ما ذكرناه في الفقرة السابقة إن على الناظرين في القرآن أن يرجعوا إلى المحكمات لفهم ما يتشابه عليهم من المحكمات ألفاظا أو حكمة. فوفد نجران أخذ بآيات متشابهة أريد بها التمثيل والتقريب لتقرير كون ولادة عيسى تمت بمعجزة ربانية وحسب، وتركوا المحكمات في صدد عيسى، في حين أن في هذه المحكمات القول الفصل في ذلك، من حيث إنها تقرر أن عيسى عبد الله ورسوله وأنه بشر ولد كبشر وعاش ومات كبشر، وإن مثله كمثل آدم قال الله : كن فكان وإن الله جل وتنزه أن يتجزأ وأن يسري منه روح إلى بشر بالمعنى التام للكلمة ؛ لأن روحه هي ذاته أبدية سرمدية فنزلت الآية تندد بهم وتدمغهم بالزيغ ؛ لأنهم تمسكوا بالمتشابهات وتركوا المحكمات التي هي أم الكتاب. وهناك حديث رواه الشيخان عن عائشة فيه تدعيم آخر. فقد سئلت عما إذا كان النبي رأى ربه اشتباها ببعض آيات القرآن التي توهم ذلك فقالت " من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية والله يقول لا تدركه الأبصار " ٣. حيث جعلت في هذه الجملة القرآنية التي وردت في الآية [ ١٠٣ ] من سورة الأنعام القول الفصل في موضوع رؤية النبي لله تعالى.
وهناك آيات كثيرة جدا من نوع المتشابهات تثير بعض الإشكال، ولكن ذلك يزول إذا ما جعلت المحكمات مرجعا فاعلا لها، وقد نبهنا على كثير من ذلك في ما سبق تفسيره من السور. فنكتفي بهذا التنبيه ونقول : إن الغفلة عن هذا من أسباب كثير من الخلافيات الكلامية في الإسلام من أسباب كثير من التوهمات غير الإسلامية في صدد محتويات القرآن ومبادئ الإسلام وتلقيناته وأهدافه.
٥ ـ والآية الأولى تقرر أن المحكمات هنّ أمّ الكتاب كما تقرر أن الله وحده يعلم التأويل ا
عبارة الآيات واضحة. وفي الأوليين منها توكيد إنذاري للكافرين بأسلوب مطلق. وتذكير بما كان من أمر فرعون ومن قبله ؛ حيث أخذهم الله لأنهم كذبوا بآياته. وفي الثانيتين أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الكفار بأنهم سيغلبون في الدنيا ويحشرون إلى جهنم في الآخرة وبتذكيرهم بما كان من نصر الله للفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة حينما التقتا وتقاتلتا. وقد انتهت الآيات بلفت النظر إلى ما في ذلك من عبرة لأولي العقول والبصائر.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ( ١٠ ) ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
وقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة هذه الآيات. منها أنها نزلت في اليهود الذين جادلوا النبي في بعض الآيات المتشابهات ابتغاء الدس والفتنة، ومنها أنها نزلت في اليهود الذين ذهلوا لانتصار النبي على قريش في بدر وأخذوا يحسبون حساب العواقب. ومنها أنها نزلت في يهود بني قريظة وبني النضير. ومنها أنها نزلت في حق مشركي قريش ؛ حيث علم أنهم يحشدون قواهم بقيادة أبي سفيان لأخذ ثأر بدر. ومنها أنها نزلت خصيصا في يهود بني قينقاع وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم بعدها وأنذرهم بتقوى الله والإيمان برسالته وحذرهم من الكفر ولفت نظرهم إلى ما كان من نصر الله للمؤمنين على كفار قريش وهم مثلاهم فأجابوه قائلين : إنكم إنما قاتلتم أناسا لا بصيرة لهم في الحرب، وإنكم إذا قاتلتمونا علمتم أننا نحن الناس.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وروح الآيات وفحواها تلهم أنها ليست موجهة إلى كفار قريش، وإنما هي موجهة إلى فئة أخرى مفروض أنها شهدت أو علمت بما وقع في حرب نشبت بين مؤمنين وكفار. وقد يكون هذا ملهما لصحة رواية نزولها في حق اليهود. وقد تكون الآيتان الأوليان منها بمثابة تمهيد تقريري عام بين الآيتين الثانيتين اللتين تأمران النبي بمخاطبة الكفار. وليس في إطلاق كلمة الكفار على اليهود ما يبعد الرواية. فقد نعتت سلسلة آيات البقرة اليهود بهذا النعت في أكثر من حلقة. غير أننا نلاحظ أن الروايات ذكرت في سياق الآيات [ ٥٥ ٥٩ ] من سورة الأنفال على ما أوردناه في تفسيرها أن هذه الآيات نزلت في يهود بني قينقاع، وأن النبي حاصرهم وأجلاهم بناء عليها. فإما أن تكون آيات آل عمران التي نحن في صددها نزلت قبل آيات الأنفال كإنذار أولي لبني قينقاع، وإما أن تكون نزلت في حق يهود آخرين اقتضت الحكمة إنذارهم وتذكيرهم بعد ما حلّ في كفار قريش ويهود بني قينقاع من بعدهم ما حلّ. ولا سيما أن التسليم بصحة رواية نزولها لإنذار بني قينقاع يقتضي فرض أن تكون نزلت قبل آيات الأنفال في حين أن الظاهر يسوغ القول : إنها نزلت بعدها إلا إذا صحت رواية ترتيب آل عمران كثاني سورة نزولا وهذا ليس وثيقا. وفي الروايات أن الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة. وفي آيات الأنفال أمر للنبي بالبطش باليهود إذا ثقفهم وتمكن منهم في الحرب لتخويف وتشريد وتذكير من خلفهم. وهذا يتسق مع احتمال رواية كون الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة أكثر.
والآيات الأربع حسب ما تقدم من شرح نزولها وتفسيرها تبدو فصلا مستقلا لا صلة له بالآيات السابقة سياقا وموضوعا. إلا إذا صحّ ما روي من أن الآيات السابقة نزلت في مناسبة مجادلة اليهود في بعض الآيات المتشابهة. ولقد استبعدنا هذا ورجحنا كون الآيات نزلت في صدد وفد نجران. وكما أنه لا يبدو صلة بين هذا الفصل والآيات السابقة كما رجحنا، فإنه لا يبدو لها صلة بالآيات اللاحقة لها أيضا كما يتبادر لنا. وسورة آل عمران كسورة البقرة احتوت فصولا عديدة بعضها مستقل عن بعض، ثم رتبت على وضعها الحاضر بعد تمامها. وقد تكون هذه الآيات نزلت بعد الآيات السابقة لحدوث مناسبتها في ظرف نزول الشطر الأول من السورة فوضعت في مكانها والله تعالى أعلم.
وجمهور المؤولين والمفسرين على أن جملة ﴿ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾ عنت ما كان من تفوق مشركي قريش يوم بدر عددا على المؤمنين. وهذا ما ذكرته الروايات التي أوردناها في سياق تفسير سورة الأنفال.
وأسلوب الآيات قوي ينطوي فيه إيذان رباني حاسم بقهر الذين كفروا برسالة رسول الله، وكذبوا بآيات الله المنزلة عليه كما جرت سنة الله في الذين قبلهم. وفيه تبشير رباني بنصر المؤمنين عليهم. وهذا الإنذار والتبشير مما تكرر في سورة مكية ومدنية. وتحقق مصداقهما في العهد المدني فكان فيه مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ( ١٠ ) كَدَأْبِ ( ١ ) آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ١١ ) قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( ١٢ ) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ ( ١٣ ) ﴾ [ ١٠ ١٣ ].
عبارة الآيات واضحة. وفي الأوليين منها توكيد إنذاري للكافرين بأسلوب مطلق. وتذكير بما كان من أمر فرعون ومن قبله ؛ حيث أخذهم الله لأنهم كذبوا بآياته. وفي الثانيتين أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الكفار بأنهم سيغلبون في الدنيا ويحشرون إلى جهنم في الآخرة وبتذكيرهم بما كان من نصر الله للفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة حينما التقتا وتقاتلتا. وقد انتهت الآيات بلفت النظر إلى ما في ذلك من عبرة لأولي العقول والبصائر.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ( ١٠ ) ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
وقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة هذه الآيات. منها أنها نزلت في اليهود الذين جادلوا النبي في بعض الآيات المتشابهات ابتغاء الدس والفتنة، ومنها أنها نزلت في اليهود الذين ذهلوا لانتصار النبي على قريش في بدر وأخذوا يحسبون حساب العواقب. ومنها أنها نزلت في يهود بني قريظة وبني النضير. ومنها أنها نزلت في حق مشركي قريش ؛ حيث علم أنهم يحشدون قواهم بقيادة أبي سفيان لأخذ ثأر بدر. ومنها أنها نزلت خصيصا في يهود بني قينقاع وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم بعدها وأنذرهم بتقوى الله والإيمان برسالته وحذرهم من الكفر ولفت نظرهم إلى ما كان من نصر الله للمؤمنين على كفار قريش وهم مثلاهم فأجابوه قائلين : إنكم إنما قاتلتم أناسا لا بصيرة لهم في الحرب، وإنكم إذا قاتلتمونا علمتم أننا نحن الناس.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وروح الآيات وفحواها تلهم أنها ليست موجهة إلى كفار قريش، وإنما هي موجهة إلى فئة أخرى مفروض أنها شهدت أو علمت بما وقع في حرب نشبت بين مؤمنين وكفار. وقد يكون هذا ملهما لصحة رواية نزولها في حق اليهود. وقد تكون الآيتان الأوليان منها بمثابة تمهيد تقريري عام بين الآيتين الثانيتين اللتين تأمران النبي بمخاطبة الكفار. وليس في إطلاق كلمة الكفار على اليهود ما يبعد الرواية. فقد نعتت سلسلة آيات البقرة اليهود بهذا النعت في أكثر من حلقة. غير أننا نلاحظ أن الروايات ذكرت في سياق الآيات [ ٥٥ ٥٩ ] من سورة الأنفال على ما أوردناه في تفسيرها أن هذه الآيات نزلت في يهود بني قينقاع، وأن النبي حاصرهم وأجلاهم بناء عليها. فإما أن تكون آيات آل عمران التي نحن في صددها نزلت قبل آيات الأنفال كإنذار أولي لبني قينقاع، وإما أن تكون نزلت في حق يهود آخرين اقتضت الحكمة إنذارهم وتذكيرهم بعد ما حلّ في كفار قريش ويهود بني قينقاع من بعدهم ما حلّ. ولا سيما أن التسليم بصحة رواية نزولها لإنذار بني قينقاع يقتضي فرض أن تكون نزلت قبل آيات الأنفال في حين أن الظاهر يسوغ القول : إنها نزلت بعدها إلا إذا صحت رواية ترتيب آل عمران كثاني سورة نزولا وهذا ليس وثيقا. وفي الروايات أن الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة. وفي آيات الأنفال أمر للنبي بالبطش باليهود إذا ثقفهم وتمكن منهم في الحرب لتخويف وتشريد وتذكير من خلفهم. وهذا يتسق مع احتمال رواية كون الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة أكثر.
والآيات الأربع حسب ما تقدم من شرح نزولها وتفسيرها تبدو فصلا مستقلا لا صلة له بالآيات السابقة سياقا وموضوعا. إلا إذا صحّ ما روي من أن الآيات السابقة نزلت في مناسبة مجادلة اليهود في بعض الآيات المتشابهة. ولقد استبعدنا هذا ورجحنا كون الآيات نزلت في صدد وفد نجران. وكما أنه لا يبدو صلة بين هذا الفصل والآيات السابقة كما رجحنا، فإنه لا يبدو لها صلة بالآيات اللاحقة لها أيضا كما يتبادر لنا. وسورة آل عمران كسورة البقرة احتوت فصولا عديدة بعضها مستقل عن بعض، ثم رتبت على وضعها الحاضر بعد تمامها. وقد تكون هذه الآيات نزلت بعد الآيات السابقة لحدوث مناسبتها في ظرف نزول الشطر الأول من السورة فوضعت في مكانها والله تعالى أعلم.
وجمهور المؤولين والمفسرين على أن جملة ﴿ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾ عنت ما كان من تفوق مشركي قريش يوم بدر عددا على المؤمنين. وهذا ما ذكرته الروايات التي أوردناها في سياق تفسير سورة الأنفال.
وأسلوب الآيات قوي ينطوي فيه إيذان رباني حاسم بقهر الذين كفروا برسالة رسول الله، وكذبوا بآيات الله المنزلة عليه كما جرت سنة الله في الذين قبلهم. وفيه تبشير رباني بنصر المؤمنين عليهم. وهذا الإنذار والتبشير مما تكرر في سورة مكية ومدنية. وتحقق مصداقهما في العهد المدني فكان فيه مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني.
عبارة الآيات واضحة. وفي الأوليين منها توكيد إنذاري للكافرين بأسلوب مطلق. وتذكير بما كان من أمر فرعون ومن قبله ؛ حيث أخذهم الله لأنهم كذبوا بآياته. وفي الثانيتين أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الكفار بأنهم سيغلبون في الدنيا ويحشرون إلى جهنم في الآخرة وبتذكيرهم بما كان من نصر الله للفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة حينما التقتا وتقاتلتا. وقد انتهت الآيات بلفت النظر إلى ما في ذلك من عبرة لأولي العقول والبصائر.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ( ١٠ ) ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
وقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة هذه الآيات. منها أنها نزلت في اليهود الذين جادلوا النبي في بعض الآيات المتشابهات ابتغاء الدس والفتنة، ومنها أنها نزلت في اليهود الذين ذهلوا لانتصار النبي على قريش في بدر وأخذوا يحسبون حساب العواقب. ومنها أنها نزلت في يهود بني قريظة وبني النضير. ومنها أنها نزلت في حق مشركي قريش ؛ حيث علم أنهم يحشدون قواهم بقيادة أبي سفيان لأخذ ثأر بدر. ومنها أنها نزلت خصيصا في يهود بني قينقاع وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم بعدها وأنذرهم بتقوى الله والإيمان برسالته وحذرهم من الكفر ولفت نظرهم إلى ما كان من نصر الله للمؤمنين على كفار قريش وهم مثلاهم فأجابوه قائلين : إنكم إنما قاتلتم أناسا لا بصيرة لهم في الحرب، وإنكم إذا قاتلتمونا علمتم أننا نحن الناس.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وروح الآيات وفحواها تلهم أنها ليست موجهة إلى كفار قريش، وإنما هي موجهة إلى فئة أخرى مفروض أنها شهدت أو علمت بما وقع في حرب نشبت بين مؤمنين وكفار. وقد يكون هذا ملهما لصحة رواية نزولها في حق اليهود. وقد تكون الآيتان الأوليان منها بمثابة تمهيد تقريري عام بين الآيتين الثانيتين اللتين تأمران النبي بمخاطبة الكفار. وليس في إطلاق كلمة الكفار على اليهود ما يبعد الرواية. فقد نعتت سلسلة آيات البقرة اليهود بهذا النعت في أكثر من حلقة. غير أننا نلاحظ أن الروايات ذكرت في سياق الآيات [ ٥٥ ٥٩ ] من سورة الأنفال على ما أوردناه في تفسيرها أن هذه الآيات نزلت في يهود بني قينقاع، وأن النبي حاصرهم وأجلاهم بناء عليها. فإما أن تكون آيات آل عمران التي نحن في صددها نزلت قبل آيات الأنفال كإنذار أولي لبني قينقاع، وإما أن تكون نزلت في حق يهود آخرين اقتضت الحكمة إنذارهم وتذكيرهم بعد ما حلّ في كفار قريش ويهود بني قينقاع من بعدهم ما حلّ. ولا سيما أن التسليم بصحة رواية نزولها لإنذار بني قينقاع يقتضي فرض أن تكون نزلت قبل آيات الأنفال في حين أن الظاهر يسوغ القول : إنها نزلت بعدها إلا إذا صحت رواية ترتيب آل عمران كثاني سورة نزولا وهذا ليس وثيقا. وفي الروايات أن الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة. وفي آيات الأنفال أمر للنبي بالبطش باليهود إذا ثقفهم وتمكن منهم في الحرب لتخويف وتشريد وتذكير من خلفهم. وهذا يتسق مع احتمال رواية كون الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة أكثر.
والآيات الأربع حسب ما تقدم من شرح نزولها وتفسيرها تبدو فصلا مستقلا لا صلة له بالآيات السابقة سياقا وموضوعا. إلا إذا صحّ ما روي من أن الآيات السابقة نزلت في مناسبة مجادلة اليهود في بعض الآيات المتشابهة. ولقد استبعدنا هذا ورجحنا كون الآيات نزلت في صدد وفد نجران. وكما أنه لا يبدو صلة بين هذا الفصل والآيات السابقة كما رجحنا، فإنه لا يبدو لها صلة بالآيات اللاحقة لها أيضا كما يتبادر لنا. وسورة آل عمران كسورة البقرة احتوت فصولا عديدة بعضها مستقل عن بعض، ثم رتبت على وضعها الحاضر بعد تمامها. وقد تكون هذه الآيات نزلت بعد الآيات السابقة لحدوث مناسبتها في ظرف نزول الشطر الأول من السورة فوضعت في مكانها والله تعالى أعلم.
وجمهور المؤولين والمفسرين على أن جملة ﴿ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾ عنت ما كان من تفوق مشركي قريش يوم بدر عددا على المؤمنين. وهذا ما ذكرته الروايات التي أوردناها في سياق تفسير سورة الأنفال.
وأسلوب الآيات قوي ينطوي فيه إيذان رباني حاسم بقهر الذين كفروا برسالة رسول الله، وكذبوا بآيات الله المنزلة عليه كما جرت سنة الله في الذين قبلهم. وفيه تبشير رباني بنصر المؤمنين عليهم. وهذا الإنذار والتبشير مما تكرر في سورة مكية ومدنية. وتحقق مصداقهما في العهد المدني فكان فيه مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني.
عبارة الآيات واضحة. وفي الأوليين منها توكيد إنذاري للكافرين بأسلوب مطلق. وتذكير بما كان من أمر فرعون ومن قبله ؛ حيث أخذهم الله لأنهم كذبوا بآياته. وفي الثانيتين أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الكفار بأنهم سيغلبون في الدنيا ويحشرون إلى جهنم في الآخرة وبتذكيرهم بما كان من نصر الله للفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة حينما التقتا وتقاتلتا. وقد انتهت الآيات بلفت النظر إلى ما في ذلك من عبرة لأولي العقول والبصائر.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ( ١٠ ) ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
وقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة هذه الآيات. منها أنها نزلت في اليهود الذين جادلوا النبي في بعض الآيات المتشابهات ابتغاء الدس والفتنة، ومنها أنها نزلت في اليهود الذين ذهلوا لانتصار النبي على قريش في بدر وأخذوا يحسبون حساب العواقب. ومنها أنها نزلت في يهود بني قريظة وبني النضير. ومنها أنها نزلت في حق مشركي قريش ؛ حيث علم أنهم يحشدون قواهم بقيادة أبي سفيان لأخذ ثأر بدر. ومنها أنها نزلت خصيصا في يهود بني قينقاع وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم بعدها وأنذرهم بتقوى الله والإيمان برسالته وحذرهم من الكفر ولفت نظرهم إلى ما كان من نصر الله للمؤمنين على كفار قريش وهم مثلاهم فأجابوه قائلين : إنكم إنما قاتلتم أناسا لا بصيرة لهم في الحرب، وإنكم إذا قاتلتمونا علمتم أننا نحن الناس.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وروح الآيات وفحواها تلهم أنها ليست موجهة إلى كفار قريش، وإنما هي موجهة إلى فئة أخرى مفروض أنها شهدت أو علمت بما وقع في حرب نشبت بين مؤمنين وكفار. وقد يكون هذا ملهما لصحة رواية نزولها في حق اليهود. وقد تكون الآيتان الأوليان منها بمثابة تمهيد تقريري عام بين الآيتين الثانيتين اللتين تأمران النبي بمخاطبة الكفار. وليس في إطلاق كلمة الكفار على اليهود ما يبعد الرواية. فقد نعتت سلسلة آيات البقرة اليهود بهذا النعت في أكثر من حلقة. غير أننا نلاحظ أن الروايات ذكرت في سياق الآيات [ ٥٥ ٥٩ ] من سورة الأنفال على ما أوردناه في تفسيرها أن هذه الآيات نزلت في يهود بني قينقاع، وأن النبي حاصرهم وأجلاهم بناء عليها. فإما أن تكون آيات آل عمران التي نحن في صددها نزلت قبل آيات الأنفال كإنذار أولي لبني قينقاع، وإما أن تكون نزلت في حق يهود آخرين اقتضت الحكمة إنذارهم وتذكيرهم بعد ما حلّ في كفار قريش ويهود بني قينقاع من بعدهم ما حلّ. ولا سيما أن التسليم بصحة رواية نزولها لإنذار بني قينقاع يقتضي فرض أن تكون نزلت قبل آيات الأنفال في حين أن الظاهر يسوغ القول : إنها نزلت بعدها إلا إذا صحت رواية ترتيب آل عمران كثاني سورة نزولا وهذا ليس وثيقا. وفي الروايات أن الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة. وفي آيات الأنفال أمر للنبي بالبطش باليهود إذا ثقفهم وتمكن منهم في الحرب لتخويف وتشريد وتذكير من خلفهم. وهذا يتسق مع احتمال رواية كون الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة أكثر.
والآيات الأربع حسب ما تقدم من شرح نزولها وتفسيرها تبدو فصلا مستقلا لا صلة له بالآيات السابقة سياقا وموضوعا. إلا إذا صحّ ما روي من أن الآيات السابقة نزلت في مناسبة مجادلة اليهود في بعض الآيات المتشابهة. ولقد استبعدنا هذا ورجحنا كون الآيات نزلت في صدد وفد نجران. وكما أنه لا يبدو صلة بين هذا الفصل والآيات السابقة كما رجحنا، فإنه لا يبدو لها صلة بالآيات اللاحقة لها أيضا كما يتبادر لنا. وسورة آل عمران كسورة البقرة احتوت فصولا عديدة بعضها مستقل عن بعض، ثم رتبت على وضعها الحاضر بعد تمامها. وقد تكون هذه الآيات نزلت بعد الآيات السابقة لحدوث مناسبتها في ظرف نزول الشطر الأول من السورة فوضعت في مكانها والله تعالى أعلم.
وجمهور المؤولين والمفسرين على أن جملة ﴿ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾ عنت ما كان من تفوق مشركي قريش يوم بدر عددا على المؤمنين. وهذا ما ذكرته الروايات التي أوردناها في سياق تفسير سورة الأنفال.
وأسلوب الآيات قوي ينطوي فيه إيذان رباني حاسم بقهر الذين كفروا برسالة رسول الله، وكذبوا بآيات الله المنزلة عليه كما جرت سنة الله في الذين قبلهم. وفيه تبشير رباني بنصر المؤمنين عليهم. وهذا الإنذار والتبشير مما تكرر في سورة مكية ومدنية. وتحقق مصداقهما في العهد المدني فكان فيه مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني.
( ٢ ) القناطير المقنطرة : هنا كناية عن الكمية العظيمة. والقنطار كلمة أعجمية معربة قبل الإسلام. وهناك أقوال عديدة في وزنه منها أن ( ١٢٠٠ ) أوقية أو ( ١٠٠ ) رطل أو ( ١٠٠٠ ) دينار ذهبا أو ( ٨٠٠٠ ) درهم فضة أو ( ١٢٠٠ ) درهم فضة.
( ٣ ) الخيل المسومة : قيل إنها بمعنى المضمرة الحسان، وقيل إنها التي تجد من الرعي ما يساعدها على زيادة قوتها وحسنها ؛ لأن معنى السوم الرعي. وقيل : إنها المعلمة بالتحجيل الأبيض في رجليها ويديها وبالغرة البيضاء في جبهتها حيث تكون كلمة ( المسومة ) من الوسم وعلى كل حال فالمقصد هو صفة من صفات الخيل المحببة.
( ٤ ) الحرث : الزرع.
في الآيات :
١ ـ إشارة إلى ما انطبع عليه الناس من اشتهاء ما تشتهى حيازته من نساء وبنين وكميات كبيرة من الذهب والفضة والخيول المحببة الصفات والأنعام والزروع.
٢ ـ واستدراك بأن ذلك كله إنما هو متعة في الحياة الدنيا القصيرة الأمد وأن عند الله ما هو أحسن، وعاقبة ومآبا.
٣ ـ وأمر للنبي بسؤال الناس عما إذا كانوا يريدون أن يخبرهم بما هو خير من ذلك كله عند الله للذين اتقوا ربهم، وبيان لذلك بأن لهم عنده الخلود في جنات تجري من تحتها الأنهار متمتعين فيها بزوجات مطهرة ولهم فوق ذلك رضوان الله السامي الكريم.
٤ ـ ووصف بياني للمتقين المستحقين لهذه المنزلة العظمى : فهم الذين يعلنون إيمانهم التام بكل ما جاءهم من عند الله ويطلبون منه المغفرة والوقاية من النار. وهم الصابرون الصادقون الخاضعون المنفقون لأموالهم في سبيل الله والبر والمتعبدون لله والمستغفرون له بخاصة في الأسحار.
تعليق على الآية
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ... ﴾ إلخ
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية بمناسبة نزول هذه الآيات. وقد روى المفسرون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال حينما نزلت الآية الأولى منها : يا ربّ الآن وقد زينتها لنا فنزلت الآيات التالية لها. والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن الآية الثانية وما بعدها غير منفصلة في النظم والسياق عن الآية الأولى. وقد روى الطبري أن في الآية الأولى توبيخا لليهود الذين آثروا الدنيا وزينتها على الإيمان بالرسالة الإسلامية. ولم ترد هذه الرواية أيضا في الصحاح وإن كان لها صلة برواية كون الآيات السابقة في صدد اليهود. غير أن تعبير الناس والإطلاق في الخطاب في الآية الأولى وانسجامها مع الآيات التي بعدها يسوغان القول : إن هذه الآيات فصل مستقل لا علاقة له مباشرة باليهود وبالآيات السابقة. ولقد أورد المفسرون وكتاب السيرة في مناسبة ذكرهم خبر وفد نجران أن هذا الوفد أقبلوا على مسجد النبي وعليهم ثياب الحبرات وأردية الديباج، فأثار مشهدهم المسلمين حتى قالوا : ما رأينا وفدا مثلهم١ فلا يبعد أن تكون هذه الآيات وقد جاء بعدها بقليل سلسلة طويلة يحتمل أن تكون في صدد مجالس المناظرة بين النبي وهذا الوفد قد نزلت بين يدي هذه السلسلة ؛ ليكون فيها للمسلمين الذين دهشوا بزينة بالوفد موعظة وتنبيه.
هذا، والمتبادر لنا أن الآية الأولى ليست بسبيل تزهيد الناس في متع الحياة وطيباتها وزينتها إطلاقا، وكل ما في الأمر أنها تقرر أن الميل إلى ذلك مما طبع الله الناس عليه. وآية سورة الأعراف [ ٣٢ ] التي تستنكر تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وآيات سورة المائدة [ ٨٦ و ٨٧ ] والتي تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحله الله لهم من الطيبات يمكن أن تورد كدليل قرآني على ما نقول. وإنما هي بسبيل التشويق إلى نعيم الآخرة بالتحقق بصفات المتقين الممدوحة إزاء ذكر طبيعة الإنسان بالميل إلى المتع المشتهاة واستهدافا والله أعلم لتطوير هذه الطبيعة إلى ما هو خير وأبقى وتهذيبا حتى لا تطغى على الإنسان فتجعله يستغرق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله والناس على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف، وفي مناسبات مماثلة في سور أخرى سبق تفسيرها. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثين وصفهما بالصحة جاء في أحدهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حبب إليّ النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ) وجاء في ثانيهما :( أن عائشة قالت : لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله من النساء إلاّ الخيل وفي رواية من الخيل إلاّ النساء ). ويمكن أن يورد هذان الحديثان كدليل نبوي على أنه ليس هناك مانع من كتاب وسنة يمنع الإنسان من أن يحب النساء والخيل والطيب وطيبات الحياة الأخرى إذا كانت حلالا لا فاحشة فيها ولا معصية مع القصد والاعتدال اللذين هما من التنبيهات القرآنية المتكررة. والصفات التي نوهت بها الآيات الثلاث الأخيرة جامعة لأحس صفات المؤمن الصالح. وما يجب أن يتخلّق به من أخلاق دينية وشخصية واجتماعية. وتكاد تكون خلاصة موجزة لأهداف الدعوة الإسلامية وصورة مثالية للمسلم. وقد انطوى فيها بالبداهة الدعوة إلى الاتصاف بها والحث عليها.
ولقد أورد ابن كثير أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات فيها حثّ على الاستغفار وبخاصة في الأسحار وصورة لاجتهاد النبي وأصحابه في ذلك، ولقد علقنا على ذلك، وأوردنا طائفة من الأحاديث في سياق تفسير آيات سورة المزمل [ ١ ـ ٨ و٢٠ ] والإسراء [ ٧٨ ] والذاريات [ ١٦ ـ ١٨ ] فنكتفي بهذا التنبيه.
في الآيات :
١ ـ إشارة إلى ما انطبع عليه الناس من اشتهاء ما تشتهى حيازته من نساء وبنين وكميات كبيرة من الذهب والفضة والخيول المحببة الصفات والأنعام والزروع.
٢ ـ واستدراك بأن ذلك كله إنما هو متعة في الحياة الدنيا القصيرة الأمد وأن عند الله ما هو أحسن، وعاقبة ومآبا.
٣ ـ وأمر للنبي بسؤال الناس عما إذا كانوا يريدون أن يخبرهم بما هو خير من ذلك كله عند الله للذين اتقوا ربهم، وبيان لذلك بأن لهم عنده الخلود في جنات تجري من تحتها الأنهار متمتعين فيها بزوجات مطهرة ولهم فوق ذلك رضوان الله السامي الكريم.
٤ ـ ووصف بياني للمتقين المستحقين لهذه المنزلة العظمى : فهم الذين يعلنون إيمانهم التام بكل ما جاءهم من عند الله ويطلبون منه المغفرة والوقاية من النار. وهم الصابرون الصادقون الخاضعون المنفقون لأموالهم في سبيل الله والبر والمتعبدون لله والمستغفرون له بخاصة في الأسحار.
تعليق على الآية
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ... ﴾ إلخ
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية بمناسبة نزول هذه الآيات. وقد روى المفسرون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال حينما نزلت الآية الأولى منها : يا ربّ الآن وقد زينتها لنا فنزلت الآيات التالية لها. والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن الآية الثانية وما بعدها غير منفصلة في النظم والسياق عن الآية الأولى. وقد روى الطبري أن في الآية الأولى توبيخا لليهود الذين آثروا الدنيا وزينتها على الإيمان بالرسالة الإسلامية. ولم ترد هذه الرواية أيضا في الصحاح وإن كان لها صلة برواية كون الآيات السابقة في صدد اليهود. غير أن تعبير الناس والإطلاق في الخطاب في الآية الأولى وانسجامها مع الآيات التي بعدها يسوغان القول : إن هذه الآيات فصل مستقل لا علاقة له مباشرة باليهود وبالآيات السابقة. ولقد أورد المفسرون وكتاب السيرة في مناسبة ذكرهم خبر وفد نجران أن هذا الوفد أقبلوا على مسجد النبي وعليهم ثياب الحبرات وأردية الديباج، فأثار مشهدهم المسلمين حتى قالوا : ما رأينا وفدا مثلهم١ فلا يبعد أن تكون هذه الآيات وقد جاء بعدها بقليل سلسلة طويلة يحتمل أن تكون في صدد مجالس المناظرة بين النبي وهذا الوفد قد نزلت بين يدي هذه السلسلة ؛ ليكون فيها للمسلمين الذين دهشوا بزينة بالوفد موعظة وتنبيه.
هذا، والمتبادر لنا أن الآية الأولى ليست بسبيل تزهيد الناس في متع الحياة وطيباتها وزينتها إطلاقا، وكل ما في الأمر أنها تقرر أن الميل إلى ذلك مما طبع الله الناس عليه. وآية سورة الأعراف [ ٣٢ ] التي تستنكر تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وآيات سورة المائدة [ ٨٦ و ٨٧ ] والتي تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحله الله لهم من الطيبات يمكن أن تورد كدليل قرآني على ما نقول. وإنما هي بسبيل التشويق إلى نعيم الآخرة بالتحقق بصفات المتقين الممدوحة إزاء ذكر طبيعة الإنسان بالميل إلى المتع المشتهاة واستهدافا والله أعلم لتطوير هذه الطبيعة إلى ما هو خير وأبقى وتهذيبا حتى لا تطغى على الإنسان فتجعله يستغرق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله والناس على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف، وفي مناسبات مماثلة في سور أخرى سبق تفسيرها. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثين وصفهما بالصحة جاء في أحدهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حبب إليّ النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ) وجاء في ثانيهما :( أن عائشة قالت : لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله من النساء إلاّ الخيل وفي رواية من الخيل إلاّ النساء ). ويمكن أن يورد هذان الحديثان كدليل نبوي على أنه ليس هناك مانع من كتاب وسنة يمنع الإنسان من أن يحب النساء والخيل والطيب وطيبات الحياة الأخرى إذا كانت حلالا لا فاحشة فيها ولا معصية مع القصد والاعتدال اللذين هما من التنبيهات القرآنية المتكررة. والصفات التي نوهت بها الآيات الثلاث الأخيرة جامعة لأحس صفات المؤمن الصالح. وما يجب أن يتخلّق به من أخلاق دينية وشخصية واجتماعية. وتكاد تكون خلاصة موجزة لأهداف الدعوة الإسلامية وصورة مثالية للمسلم. وقد انطوى فيها بالبداهة الدعوة إلى الاتصاف بها والحث عليها.
ولقد أورد ابن كثير أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات فيها حثّ على الاستغفار وبخاصة في الأسحار وصورة لاجتهاد النبي وأصحابه في ذلك، ولقد علقنا على ذلك، وأوردنا طائفة من الأحاديث في سياق تفسير آيات سورة المزمل [ ١ ـ ٨ و٢٠ ] والإسراء [ ٧٨ ] والذاريات [ ١٦ ـ ١٨ ] فنكتفي بهذا التنبيه.
في الآيات :
١ ـ إشارة إلى ما انطبع عليه الناس من اشتهاء ما تشتهى حيازته من نساء وبنين وكميات كبيرة من الذهب والفضة والخيول المحببة الصفات والأنعام والزروع.
٢ ـ واستدراك بأن ذلك كله إنما هو متعة في الحياة الدنيا القصيرة الأمد وأن عند الله ما هو أحسن، وعاقبة ومآبا.
٣ ـ وأمر للنبي بسؤال الناس عما إذا كانوا يريدون أن يخبرهم بما هو خير من ذلك كله عند الله للذين اتقوا ربهم، وبيان لذلك بأن لهم عنده الخلود في جنات تجري من تحتها الأنهار متمتعين فيها بزوجات مطهرة ولهم فوق ذلك رضوان الله السامي الكريم.
٤ ـ ووصف بياني للمتقين المستحقين لهذه المنزلة العظمى : فهم الذين يعلنون إيمانهم التام بكل ما جاءهم من عند الله ويطلبون منه المغفرة والوقاية من النار. وهم الصابرون الصادقون الخاضعون المنفقون لأموالهم في سبيل الله والبر والمتعبدون لله والمستغفرون له بخاصة في الأسحار.
تعليق على الآية
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ... ﴾ إلخ
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية بمناسبة نزول هذه الآيات. وقد روى المفسرون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال حينما نزلت الآية الأولى منها : يا ربّ الآن وقد زينتها لنا فنزلت الآيات التالية لها. والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن الآية الثانية وما بعدها غير منفصلة في النظم والسياق عن الآية الأولى. وقد روى الطبري أن في الآية الأولى توبيخا لليهود الذين آثروا الدنيا وزينتها على الإيمان بالرسالة الإسلامية. ولم ترد هذه الرواية أيضا في الصحاح وإن كان لها صلة برواية كون الآيات السابقة في صدد اليهود. غير أن تعبير الناس والإطلاق في الخطاب في الآية الأولى وانسجامها مع الآيات التي بعدها يسوغان القول : إن هذه الآيات فصل مستقل لا علاقة له مباشرة باليهود وبالآيات السابقة. ولقد أورد المفسرون وكتاب السيرة في مناسبة ذكرهم خبر وفد نجران أن هذا الوفد أقبلوا على مسجد النبي وعليهم ثياب الحبرات وأردية الديباج، فأثار مشهدهم المسلمين حتى قالوا : ما رأينا وفدا مثلهم١ فلا يبعد أن تكون هذه الآيات وقد جاء بعدها بقليل سلسلة طويلة يحتمل أن تكون في صدد مجالس المناظرة بين النبي وهذا الوفد قد نزلت بين يدي هذه السلسلة ؛ ليكون فيها للمسلمين الذين دهشوا بزينة بالوفد موعظة وتنبيه.
هذا، والمتبادر لنا أن الآية الأولى ليست بسبيل تزهيد الناس في متع الحياة وطيباتها وزينتها إطلاقا، وكل ما في الأمر أنها تقرر أن الميل إلى ذلك مما طبع الله الناس عليه. وآية سورة الأعراف [ ٣٢ ] التي تستنكر تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وآيات سورة المائدة [ ٨٦ و ٨٧ ] والتي تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحله الله لهم من الطيبات يمكن أن تورد كدليل قرآني على ما نقول. وإنما هي بسبيل التشويق إلى نعيم الآخرة بالتحقق بصفات المتقين الممدوحة إزاء ذكر طبيعة الإنسان بالميل إلى المتع المشتهاة واستهدافا والله أعلم لتطوير هذه الطبيعة إلى ما هو خير وأبقى وتهذيبا حتى لا تطغى على الإنسان فتجعله يستغرق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله والناس على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف، وفي مناسبات مماثلة في سور أخرى سبق تفسيرها. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثين وصفهما بالصحة جاء في أحدهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حبب إليّ النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ) وجاء في ثانيهما :( أن عائشة قالت : لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله من النساء إلاّ الخيل وفي رواية من الخيل إلاّ النساء ). ويمكن أن يورد هذان الحديثان كدليل نبوي على أنه ليس هناك مانع من كتاب وسنة يمنع الإنسان من أن يحب النساء والخيل والطيب وطيبات الحياة الأخرى إذا كانت حلالا لا فاحشة فيها ولا معصية مع القصد والاعتدال اللذين هما من التنبيهات القرآنية المتكررة. والصفات التي نوهت بها الآيات الثلاث الأخيرة جامعة لأحس صفات المؤمن الصالح. وما يجب أن يتخلّق به من أخلاق دينية وشخصية واجتماعية. وتكاد تكون خلاصة موجزة لأهداف الدعوة الإسلامية وصورة مثالية للمسلم. وقد انطوى فيها بالبداهة الدعوة إلى الاتصاف بها والحث عليها.
ولقد أورد ابن كثير أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات فيها حثّ على الاستغفار وبخاصة في الأسحار وصورة لاجتهاد النبي وأصحابه في ذلك، ولقد علقنا على ذلك، وأوردنا طائفة من الأحاديث في سياق تفسير آيات سورة المزمل [ ١ ـ ٨ و٢٠ ] والإسراء [ ٧٨ ] والذاريات [ ١٦ ـ ١٨ ] فنكتفي بهذا التنبيه.
في الآيات :
١ ـ إشارة إلى ما انطبع عليه الناس من اشتهاء ما تشتهى حيازته من نساء وبنين وكميات كبيرة من الذهب والفضة والخيول المحببة الصفات والأنعام والزروع.
٢ ـ واستدراك بأن ذلك كله إنما هو متعة في الحياة الدنيا القصيرة الأمد وأن عند الله ما هو أحسن، وعاقبة ومآبا.
٣ ـ وأمر للنبي بسؤال الناس عما إذا كانوا يريدون أن يخبرهم بما هو خير من ذلك كله عند الله للذين اتقوا ربهم، وبيان لذلك بأن لهم عنده الخلود في جنات تجري من تحتها الأنهار متمتعين فيها بزوجات مطهرة ولهم فوق ذلك رضوان الله السامي الكريم.
٤ ـ ووصف بياني للمتقين المستحقين لهذه المنزلة العظمى : فهم الذين يعلنون إيمانهم التام بكل ما جاءهم من عند الله ويطلبون منه المغفرة والوقاية من النار. وهم الصابرون الصادقون الخاضعون المنفقون لأموالهم في سبيل الله والبر والمتعبدون لله والمستغفرون له بخاصة في الأسحار.
تعليق على الآية
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ... ﴾ إلخ
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية بمناسبة نزول هذه الآيات. وقد روى المفسرون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال حينما نزلت الآية الأولى منها : يا ربّ الآن وقد زينتها لنا فنزلت الآيات التالية لها. والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن الآية الثانية وما بعدها غير منفصلة في النظم والسياق عن الآية الأولى. وقد روى الطبري أن في الآية الأولى توبيخا لليهود الذين آثروا الدنيا وزينتها على الإيمان بالرسالة الإسلامية. ولم ترد هذه الرواية أيضا في الصحاح وإن كان لها صلة برواية كون الآيات السابقة في صدد اليهود. غير أن تعبير الناس والإطلاق في الخطاب في الآية الأولى وانسجامها مع الآيات التي بعدها يسوغان القول : إن هذه الآيات فصل مستقل لا علاقة له مباشرة باليهود وبالآيات السابقة. ولقد أورد المفسرون وكتاب السيرة في مناسبة ذكرهم خبر وفد نجران أن هذا الوفد أقبلوا على مسجد النبي وعليهم ثياب الحبرات وأردية الديباج، فأثار مشهدهم المسلمين حتى قالوا : ما رأينا وفدا مثلهم١ فلا يبعد أن تكون هذه الآيات وقد جاء بعدها بقليل سلسلة طويلة يحتمل أن تكون في صدد مجالس المناظرة بين النبي وهذا الوفد قد نزلت بين يدي هذه السلسلة ؛ ليكون فيها للمسلمين الذين دهشوا بزينة بالوفد موعظة وتنبيه.
هذا، والمتبادر لنا أن الآية الأولى ليست بسبيل تزهيد الناس في متع الحياة وطيباتها وزينتها إطلاقا، وكل ما في الأمر أنها تقرر أن الميل إلى ذلك مما طبع الله الناس عليه. وآية سورة الأعراف [ ٣٢ ] التي تستنكر تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وآيات سورة المائدة [ ٨٦ و ٨٧ ] والتي تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحله الله لهم من الطيبات يمكن أن تورد كدليل قرآني على ما نقول. وإنما هي بسبيل التشويق إلى نعيم الآخرة بالتحقق بصفات المتقين الممدوحة إزاء ذكر طبيعة الإنسان بالميل إلى المتع المشتهاة واستهدافا والله أعلم لتطوير هذه الطبيعة إلى ما هو خير وأبقى وتهذيبا حتى لا تطغى على الإنسان فتجعله يستغرق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله والناس على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف، وفي مناسبات مماثلة في سور أخرى سبق تفسيرها. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثين وصفهما بالصحة جاء في أحدهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حبب إليّ النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ) وجاء في ثانيهما :( أن عائشة قالت : لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله من النساء إلاّ الخيل وفي رواية من الخيل إلاّ النساء ). ويمكن أن يورد هذان الحديثان كدليل نبوي على أنه ليس هناك مانع من كتاب وسنة يمنع الإنسان من أن يحب النساء والخيل والطيب وطيبات الحياة الأخرى إذا كانت حلالا لا فاحشة فيها ولا معصية مع القصد والاعتدال اللذين هما من التنبيهات القرآنية المتكررة. والصفات التي نوهت بها الآيات الثلاث الأخيرة جامعة لأحس صفات المؤمن الصالح. وما يجب أن يتخلّق به من أخلاق دينية وشخصية واجتماعية. وتكاد تكون خلاصة موجزة لأهداف الدعوة الإسلامية وصورة مثالية للمسلم. وقد انطوى فيها بالبداهة الدعوة إلى الاتصاف بها والحث عليها.
ولقد أورد ابن كثير أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات فيها حثّ على الاستغفار وبخاصة في الأسحار وصورة لاجتهاد النبي وأصحابه في ذلك، ولقد علقنا على ذلك، وأوردنا طائفة من الأحاديث في سياق تفسير آيات سورة المزمل [ ١ ـ ٨ و٢٠ ] والإسراء [ ٧٨ ] والذاريات [ ١٦ ـ ١٨ ] فنكتفي بهذا التنبيه.
عبارة الآيات واضحة. وقد روى الخازن روايتين في سبب نزولها. الأولى أنها في صدد مناظرة وفد نجران. والثانية تذكر أن حبرين من أحبار الشام قدما إلى المدينة وقالا للنبي : نريد أن نسألك عن شيء إن أخبرتنا به آمنا بك فقال : اسألا فقالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله الآيات. والروايات لم ترد في الصحاح. والآيات كما يتبادر لنا استمرار للسياق السابق الذي رجحنا أنه في صدد وفد نجران وهذا ما يجعلنا نرجح أن هذه الآيات أيضا في صدده. ومن المحتمل أن تكون في صدد المشهد الأول من مشاهد المناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الوفد أو في صدد تلقينه الموقف الذي ينبغي أن يقفه في هذا المشهد. وقد استهدفت انتزاع التسليم المبدئي بوحدة الله المطلقة المنزهة ووجوب الخضوع له وحده وتنزيهه عن كل نقص من الوفد على اعتبار أن التسليم بذلك مبدئيا يمهد لحل كل خلاف ثانوي ولتحقيق التطابق في المسائل المتفرعة عنها. وفي هذا الأسلوب ما هو ظاهر من القوة والرصانة.
والأسلوب الذي بدأت به الآيات من تقرير شهادة الله والملائكة وأولي العلم بوحدة الله هو أسلوب تعبيري لتقوية المعنى المقرر وإعلان كونه حقا وصدقا لا يمكن أن يكون فيه خلاف. وهو كما يظهر أسلوب قوي وملزم يعرض النبي بلسان القرآن به جوهر الدعوة الإسلامية ومبدأها الأساسي وهما وحدة الله المطلقة ووجوب الإسلام له وحده. فهذا هو الدين الحق وهو ما لا ينبغي أن يكون محل خلاف ونزاع. وما كان من ذلك بين أهل الكتاب إنما هو ناشئ عن الأهواء والبغي لا عن كتب الله وأنبيائه. وقد أمر النبي في آخر الآيات إذا كابر الفريق الذي يتناظر معه وجادل في هذا الذي لا يحتمل نزاعا ولا جدالا بأن يحسم الموقف بإعلانه أنه قد أسلم نفسه هو ومن اتبعه لله وأن يسأل سامعيه من كتابيين وأميين عما إذا كانوا يسلمون لله مثله. فإن أسلموا فيكون هدى الله قد جمعهم، وإن تولوا فعليه أن يعلن أنما عليه البلاغ والله هو البصير بالناس المراقب لأعمالهم.
ويلحظ أن الآية الأخيرة قد احتوت أمرا للنبي بتوجيه الخطاب لأهل الكتاب وغيرهم. فمن المحتمل أن يكون ذلك من قبيل التعميم والاستطراد ؛ لأن الكلام بسبيل الدعوة والتقرير العام. ومن المحتمل أيضا أن يكون بعض مشركي العرب المحايدين أو المسالمين شهدوا المناظرة.
ومع ترجيحنا أن تعبير ﴿ أولي العلم ﴾ في الآية [ ١٨ ] قد قصد به ( أولي الكتاب ) بقرينة ذكرهم في الآيات التالية، فإن لورود التعبير مطلقا مغزى مهما، من حيث احتمال انطوائه على تقرير أن كل من أوتي علما من أي نحلة كان لا بد من أن يشهد هذه الشهادة. وهذا المغزى منطو في آية سورة فاطر ﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ على ما شرحنا ذلك في سياق الآية.
ولقد رأينا القاسمي والطبرسي يقفان عند الكلمة فيقول الأول : إن ذكر ﴿ أولي العلم ﴾ في هذا المقام مرتبة جليلة لهم. ويقول الثاني : إن في ذلك تنويها بفضل أهل العلم. وأورد الثاني بعض الأحاديث النبوية فيها هذا التنويه مما أوردناه في مناسبات سابقة.
ولقد قال الخازن عزوا إلى بعض أهل التأويل : إن جملة ﴿ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ ﴾ منسوخة بآية السيف أو القتال. وهذا مما تكرر قوله من بعض المفسرين والمؤولين في العبارات المماثلة التي مرت أمثلة منها وبخاصة في السور المكية. وقد نبهنا على الوجه الحق في ذلك في المناسبات السابقة وفي تعليقنا المسهب في سورة ( الكافرون ) فنكتفي بهذا التنبيه.
عبارة الآيات واضحة. وقد روى الخازن روايتين في سبب نزولها. الأولى أنها في صدد مناظرة وفد نجران. والثانية تذكر أن حبرين من أحبار الشام قدما إلى المدينة وقالا للنبي : نريد أن نسألك عن شيء إن أخبرتنا به آمنا بك فقال : اسألا فقالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله الآيات. والروايات لم ترد في الصحاح. والآيات كما يتبادر لنا استمرار للسياق السابق الذي رجحنا أنه في صدد وفد نجران وهذا ما يجعلنا نرجح أن هذه الآيات أيضا في صدده. ومن المحتمل أن تكون في صدد المشهد الأول من مشاهد المناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الوفد أو في صدد تلقينه الموقف الذي ينبغي أن يقفه في هذا المشهد. وقد استهدفت انتزاع التسليم المبدئي بوحدة الله المطلقة المنزهة ووجوب الخضوع له وحده وتنزيهه عن كل نقص من الوفد على اعتبار أن التسليم بذلك مبدئيا يمهد لحل كل خلاف ثانوي ولتحقيق التطابق في المسائل المتفرعة عنها. وفي هذا الأسلوب ما هو ظاهر من القوة والرصانة.
والأسلوب الذي بدأت به الآيات من تقرير شهادة الله والملائكة وأولي العلم بوحدة الله هو أسلوب تعبيري لتقوية المعنى المقرر وإعلان كونه حقا وصدقا لا يمكن أن يكون فيه خلاف. وهو كما يظهر أسلوب قوي وملزم يعرض النبي بلسان القرآن به جوهر الدعوة الإسلامية ومبدأها الأساسي وهما وحدة الله المطلقة ووجوب الإسلام له وحده. فهذا هو الدين الحق وهو ما لا ينبغي أن يكون محل خلاف ونزاع. وما كان من ذلك بين أهل الكتاب إنما هو ناشئ عن الأهواء والبغي لا عن كتب الله وأنبيائه. وقد أمر النبي في آخر الآيات إذا كابر الفريق الذي يتناظر معه وجادل في هذا الذي لا يحتمل نزاعا ولا جدالا بأن يحسم الموقف بإعلانه أنه قد أسلم نفسه هو ومن اتبعه لله وأن يسأل سامعيه من كتابيين وأميين عما إذا كانوا يسلمون لله مثله. فإن أسلموا فيكون هدى الله قد جمعهم، وإن تولوا فعليه أن يعلن أنما عليه البلاغ والله هو البصير بالناس المراقب لأعمالهم.
ويلحظ أن الآية الأخيرة قد احتوت أمرا للنبي بتوجيه الخطاب لأهل الكتاب وغيرهم. فمن المحتمل أن يكون ذلك من قبيل التعميم والاستطراد ؛ لأن الكلام بسبيل الدعوة والتقرير العام. ومن المحتمل أيضا أن يكون بعض مشركي العرب المحايدين أو المسالمين شهدوا المناظرة.
ومع ترجيحنا أن تعبير ﴿ أولي العلم ﴾ في الآية [ ١٨ ] قد قصد به ( أولي الكتاب ) بقرينة ذكرهم في الآيات التالية، فإن لورود التعبير مطلقا مغزى مهما، من حيث احتمال انطوائه على تقرير أن كل من أوتي علما من أي نحلة كان لا بد من أن يشهد هذه الشهادة. وهذا المغزى منطو في آية سورة فاطر ﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ على ما شرحنا ذلك في سياق الآية.
ولقد رأينا القاسمي والطبرسي يقفان عند الكلمة فيقول الأول : إن ذكر ﴿ أولي العلم ﴾ في هذا المقام مرتبة جليلة لهم. ويقول الثاني : إن في ذلك تنويها بفضل أهل العلم. وأورد الثاني بعض الأحاديث النبوية فيها هذا التنويه مما أوردناه في مناسبات سابقة.
ولقد قال الخازن عزوا إلى بعض أهل التأويل : إن جملة ﴿ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ ﴾ منسوخة بآية السيف أو القتال. وهذا مما تكرر قوله من بعض المفسرين والمؤولين في العبارات المماثلة التي مرت أمثلة منها وبخاصة في السور المكية. وقد نبهنا على الوجه الحق في ذلك في المناسبات السابقة وفي تعليقنا المسهب في سورة ( الكافرون ) فنكتفي بهذا التنبيه.
عبارة الآيات واضحة. وقد روى الخازن روايتين في سبب نزولها. الأولى أنها في صدد مناظرة وفد نجران. والثانية تذكر أن حبرين من أحبار الشام قدما إلى المدينة وقالا للنبي : نريد أن نسألك عن شيء إن أخبرتنا به آمنا بك فقال : اسألا فقالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله الآيات. والروايات لم ترد في الصحاح. والآيات كما يتبادر لنا استمرار للسياق السابق الذي رجحنا أنه في صدد وفد نجران وهذا ما يجعلنا نرجح أن هذه الآيات أيضا في صدده. ومن المحتمل أن تكون في صدد المشهد الأول من مشاهد المناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الوفد أو في صدد تلقينه الموقف الذي ينبغي أن يقفه في هذا المشهد. وقد استهدفت انتزاع التسليم المبدئي بوحدة الله المطلقة المنزهة ووجوب الخضوع له وحده وتنزيهه عن كل نقص من الوفد على اعتبار أن التسليم بذلك مبدئيا يمهد لحل كل خلاف ثانوي ولتحقيق التطابق في المسائل المتفرعة عنها. وفي هذا الأسلوب ما هو ظاهر من القوة والرصانة.
والأسلوب الذي بدأت به الآيات من تقرير شهادة الله والملائكة وأولي العلم بوحدة الله هو أسلوب تعبيري لتقوية المعنى المقرر وإعلان كونه حقا وصدقا لا يمكن أن يكون فيه خلاف. وهو كما يظهر أسلوب قوي وملزم يعرض النبي بلسان القرآن به جوهر الدعوة الإسلامية ومبدأها الأساسي وهما وحدة الله المطلقة ووجوب الإسلام له وحده. فهذا هو الدين الحق وهو ما لا ينبغي أن يكون محل خلاف ونزاع. وما كان من ذلك بين أهل الكتاب إنما هو ناشئ عن الأهواء والبغي لا عن كتب الله وأنبيائه. وقد أمر النبي في آخر الآيات إذا كابر الفريق الذي يتناظر معه وجادل في هذا الذي لا يحتمل نزاعا ولا جدالا بأن يحسم الموقف بإعلانه أنه قد أسلم نفسه هو ومن اتبعه لله وأن يسأل سامعيه من كتابيين وأميين عما إذا كانوا يسلمون لله مثله. فإن أسلموا فيكون هدى الله قد جمعهم، وإن تولوا فعليه أن يعلن أنما عليه البلاغ والله هو البصير بالناس المراقب لأعمالهم.
ويلحظ أن الآية الأخيرة قد احتوت أمرا للنبي بتوجيه الخطاب لأهل الكتاب وغيرهم. فمن المحتمل أن يكون ذلك من قبيل التعميم والاستطراد ؛ لأن الكلام بسبيل الدعوة والتقرير العام. ومن المحتمل أيضا أن يكون بعض مشركي العرب المحايدين أو المسالمين شهدوا المناظرة.
ومع ترجيحنا أن تعبير ﴿ أولي العلم ﴾ في الآية [ ١٨ ] قد قصد به ( أولي الكتاب ) بقرينة ذكرهم في الآيات التالية، فإن لورود التعبير مطلقا مغزى مهما، من حيث احتمال انطوائه على تقرير أن كل من أوتي علما من أي نحلة كان لا بد من أن يشهد هذه الشهادة. وهذا المغزى منطو في آية سورة فاطر ﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ على ما شرحنا ذلك في سياق الآية.
ولقد رأينا القاسمي والطبرسي يقفان عند الكلمة فيقول الأول : إن ذكر ﴿ أولي العلم ﴾ في هذا المقام مرتبة جليلة لهم. ويقول الثاني : إن في ذلك تنويها بفضل أهل العلم. وأورد الثاني بعض الأحاديث النبوية فيها هذا التنويه مما أوردناه في مناسبات سابقة.
ولقد قال الخازن عزوا إلى بعض أهل التأويل : إن جملة ﴿ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ ﴾ منسوخة بآية السيف أو القتال. وهذا مما تكرر قوله من بعض المفسرين والمؤولين في العبارات المماثلة التي مرت أمثلة منها وبخاصة في السور المكية. وقد نبهنا على الوجه الحق في ذلك في المناسبات السابقة وفي تعليقنا المسهب في سورة ( الكافرون ) فنكتفي بهذا التنبيه.
عبارة الآيتين واضحة. وفيها نعي على الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون أنبياءه ومن يأمر بالقسط من الناس. وتقرير حبوط أعمالهم واستحقاقهم عذاب الله. دون أن يكون لهم أي نصير منه.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ... ﴾ إلخ
والآية التالية لها
لم يذكر المفسرون رواية ما في مناسبة الآيتين. وإنما ساقوا ما يفيد أن المقصود فيها هم اليهود. وهذا صحيح حيث وصف اليهود في بعض حلقات سلسلة سورة البقرة بمثل هذه الأوصاف. ولقد أورد الطبري حديثا عن أبي عبيدة جاء فيه : " قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف ثم قرأ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٢١ ) ﴾ إلى أن انتهى إلى جملة ﴿ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٢٢ ) ﴾ ثم قال رسول الله يا أبا عبيدة قتل بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبادهم وأمروا القاتلين بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار فذلك تأويل الآية ".
والرواية لم ترد في الصحاح. وقد أوردها ابن كثير أيضا كحديث من تخريجات ابن أبي حاتم أحد أئمة الحديث. وصحتها محتملة ؛ لأنها متسقة مع ما روي عن اليهود على ما ذكرناه في سياق تفسير آيات البقرة [ ٨٧ و ٩١ ] التي ذكرت ذلك عنهم. وقد أوردنا في سياق ذلك نصوصا من بعض أسفار اليهود القديمة مؤيدة لذلك. ونذكر هنا شيئا فاتنا ذكره وهو أن المؤرخ اليهودي يوسيفوس من رجال القرن الميلادي الأول ذكر في كتابه أن هيرودوس ملك اليهود قتل كثيرا من علماء اليهود وقتل يوحنا بن زكريا الحبر الأعظم١.
وهكذا تتحدى الآيات القرآنية اليهود في تنديدها وإنذارها المتكررين وتدمغهم بما ورد في أسفارهم وكتبهم بما اقترفوه من جرائم كبرى بقتل الأنبياء والآمرين بالقسط من علمائهم حينما لا يسيرون على هواهم.
ومن المحتمل أن اليهود كانوا طرفا في المناظرة وفي المشهد الذي مرّ بيانه. أو أنهم قالوا بمناسبة العقيدة التي أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم : إنهم يقرون بوحدانية الله ثم أخذوا يعاندون ويحاجون في صحة رسالة النبي في حين أنه يترتب عليهم التصديق بها ؛ لأنها تدعو إلى الله وحده ودينه الحق الإسلام. ولعلهم حاججوا في أمور أخرى يترتب عليهم التسليم بها تبعا للتسليم بالمبدأ في مقتضى الموقف وحكمة التنزيل تذكيرهم بما كان من آبائهم من مواقف مماثلة حيث كانوا يكفرون بآيات الله ويجادلون فيها، ويقتلون الأنبياء ودعاة الحق ومؤيديه بقصد ربط موقف الحاضرين بموقف الغابرين. وهذا أسلوب جرى عليه القرآن مما مرت أمثلة منه في سلسلة سورة البقرة. وفي الآيات التالية قرائن قد تدل على هذه الأمور المفروضة من موقفهم.
والآيات وإن كانت عنت اليهود على ضوء الشرح المتقدم فإن الإطلاق في أسلوبها ينطوي على تلقين مستمر المدى في صدد كل من يكفر بآيات الله ويناوئ دعاة الحق والخير والصلاح ويعتدي عليهم في كل ظرف ومكان.
عبارة الآيتين واضحة. وفيها نعي على الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون أنبياءه ومن يأمر بالقسط من الناس. وتقرير حبوط أعمالهم واستحقاقهم عذاب الله. دون أن يكون لهم أي نصير منه.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ... ﴾ إلخ
والآية التالية لها
لم يذكر المفسرون رواية ما في مناسبة الآيتين. وإنما ساقوا ما يفيد أن المقصود فيها هم اليهود. وهذا صحيح حيث وصف اليهود في بعض حلقات سلسلة سورة البقرة بمثل هذه الأوصاف. ولقد أورد الطبري حديثا عن أبي عبيدة جاء فيه :" قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف ثم قرأ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٢١ ) ﴾ إلى أن انتهى إلى جملة ﴿ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٢٢ ) ﴾ ثم قال رسول الله يا أبا عبيدة قتل بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبادهم وأمروا القاتلين بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار فذلك تأويل الآية ".
والرواية لم ترد في الصحاح. وقد أوردها ابن كثير أيضا كحديث من تخريجات ابن أبي حاتم أحد أئمة الحديث. وصحتها محتملة ؛ لأنها متسقة مع ما روي عن اليهود على ما ذكرناه في سياق تفسير آيات البقرة [ ٨٧ و ٩١ ] التي ذكرت ذلك عنهم. وقد أوردنا في سياق ذلك نصوصا من بعض أسفار اليهود القديمة مؤيدة لذلك. ونذكر هنا شيئا فاتنا ذكره وهو أن المؤرخ اليهودي يوسيفوس من رجال القرن الميلادي الأول ذكر في كتابه أن هيرودوس ملك اليهود قتل كثيرا من علماء اليهود وقتل يوحنا بن زكريا الحبر الأعظم١.
وهكذا تتحدى الآيات القرآنية اليهود في تنديدها وإنذارها المتكررين وتدمغهم بما ورد في أسفارهم وكتبهم بما اقترفوه من جرائم كبرى بقتل الأنبياء والآمرين بالقسط من علمائهم حينما لا يسيرون على هواهم.
ومن المحتمل أن اليهود كانوا طرفا في المناظرة وفي المشهد الذي مرّ بيانه. أو أنهم قالوا بمناسبة العقيدة التي أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم : إنهم يقرون بوحدانية الله ثم أخذوا يعاندون ويحاجون في صحة رسالة النبي في حين أنه يترتب عليهم التصديق بها ؛ لأنها تدعو إلى الله وحده ودينه الحق الإسلام. ولعلهم حاججوا في أمور أخرى يترتب عليهم التسليم بها تبعا للتسليم بالمبدأ في مقتضى الموقف وحكمة التنزيل تذكيرهم بما كان من آبائهم من مواقف مماثلة حيث كانوا يكفرون بآيات الله ويجادلون فيها، ويقتلون الأنبياء ودعاة الحق ومؤيديه بقصد ربط موقف الحاضرين بموقف الغابرين. وهذا أسلوب جرى عليه القرآن مما مرت أمثلة منه في سلسلة سورة البقرة. وفي الآيات التالية قرائن قد تدل على هذه الأمور المفروضة من موقفهم.
والآيات وإن كانت عنت اليهود على ضوء الشرح المتقدم فإن الإطلاق في أسلوبها ينطوي على تلقين مستمر المدى في صدد كل من يكفر بآيات الله ويناوئ دعاة الحق والخير والصلاح ويعتدي عليهم في كل ظرف ومكان.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بفريق من أهل الكتاب يدعون إلى تحكيم كتاب الله فيأبونه ويتبجحون بما لهم من الحظوة عند الله في الآخرة ويزهون بدينهم ويفترون على الله فيه، وإنذارا لهم وإعلانا تقريريا بقدرة الله على منح الملك لمن شاء ونزعه ممن شاء وتغيير الليل بالنهار والنهار بالليل وإخراج الحي من الميت والميت من الحي وإغداقه الرزق على من يشاء بغير حساب.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى الآية [ ٢٧ ]
روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآيات. فرووا في سبب نزول الآيات الثلاث الأولى أن اليهود رفعوا قضية زنا للنبي ليحكم فيها فحكم بالرجم حسب شريعتهم فأنكروا فطلب منهم إحضار التوراة والاحتكام إليها فأبوا. كما رووا في صددها أن اليهود ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا وأن ملته هي اليهودية فكذبهم النبي وطلب منهم الاحتكام للتوراة فأبوا. ورواية ثالثة تذكر أن النبي دعاهم إلى الإيمان به ؛ لأنه مكتوب عندهم في التوراة فأنكروا فطلب الاحتكام للتوراة فأبوا. وفي سبب نزول الآيتين الرابعة والخامسة رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وعد المؤمنين بأن يجعل الله لهم ملك الروم وفارس فقال اليهود والمنافقون : هيهات أين لمحمد ذلك فنزلت الآيات للرد عليهم. ومما روي أن هذا الوعد كان يوم حفر الخندق حينما غزت أحزاب قريش والكفار المدينة. فقد استعصت صخرة عظيمة على المؤمنين حين الحفر، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فضربها ثلاث ضربات حتى كسرها، وكان يتطاير البرق في كل ضربة حتى كأنه مصباح في جوف مظلم فسأل سليمان الفارسي عن ذلك فقال له : أضاءت لي من الضربة الأولى قصور الحيرة ومن الثانية قصور الروم ومن الثالثة قصور كسرى فأبشروا واستبشروا بنصر الله ووعده، فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم بالباطل ويعدكم بقصور كسرى والروم والحيرة وأنتم تحفرون الخندق من الفرق ولا تستطيعون أن تبرزوا لعدوكم فأنزل الله الآيتين لتكذيب المنافقين وتأييد وعد النبي صلى الله عليه وسلم. ورواية ثالثة أن اليهود قالوا حينما دعاهم النبي إلى الإيمان به " لا نتبع رجلا جاء لينقل النبوة من بني إسرائيل ".
وعدا رواية تحكيم اليهود للنبي في قضية زنا لم ترد أي من الروايات في الصحاح. ورواية هذا التحكيم رواها البخاري في صدد الآية [ ٩٣ ] من هذه السورة١. ورواية ما كان أثناء حفر الخندق تبدو مقحمة ؛ لأن الآيات في صدد موقف فريد من أهل الكتاب وغزوة الخندق وقعت بعد مدة ما من غزوة أحد التي ذكرت في فصل آخر من هذه السورة. والمتبادر أن الآيات نزلت قبل ذلك بمدة ما. وحجاج اليهود في ملة إبراهيم ويهوديته قد حكته آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد قليل. مما يجعلنا نستبعد رواية ذلك في صدد الآيات.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات الأولى الثلاث نزلت في موقف دعا النبي صلى الله عليه وسلم فيه فريقا من أهل الكتاب إلى الاحتكام للتوراة، فأبوا وأن الآيتين الرابعة والخامسة نزلتا معقبتين على هذا الموقف. وجملة ﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ حكيت عن اليهود في آية سورة البقرة [ ٨٠ ] حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن هذا الفريق من اليهود. والسياق قد يتسق مع رواية كون الآيات الثلاث الأولى في صدد آباء اليهود الاستجابة إلى دعوة النبي للإيمان به. فهم قد أقروا بوحدانية الله ثم راوغوا وأنكروا صحة رسالة النبي بزعم أن النبوة محصورة ببني إسرائيل أو غيظا من أن تظهر في غيرهم. وقد حكت ذلك عنهم آيات سورة البقرة [ ٨٩ ٩٠ ] فذكرتهم الآيتان [ ٢١ ٢٢ ] بمواقف آبائهم من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، ومن الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم وقتل بعضهم، وهو ما ذكرته عنهم الآيات [ ٨٥ ٨٨ ] من سورة البقرة كذلك فدعاهم النبي إلى الاحتكام إلى التوراة لإفحامهم لما فيها من الدلائل على صحة نبوته التي أشارت إليها آية سورة الأعراف [ ١٥٧ ] وهي :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل... ﴾ [ ١٥٧ ] إلخ فأبوا وعاندوا فنددت بهم الآيات الثلاث لاغترارهم وتبجحهم وافترائهم على الله، ثم قررت الآيتان الأخيرتان ما قررته من مطلق تصرف الله وقدرته في كونه وخلقه ومشاهد ذلك لتقرر ضمنا أنه لا حرج عليه أن ينزع النبوة ممن يشاء ويمنحها من يشاء وأن يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب.
وهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب جعلنا نلحق الآيتين [ ٢٦ ٢٧ ] بالآيات الثلاث كما أنه يسوغ القول : إن الآيات الخمس متصلة بالآيات السابقة واللاحقة وأن السياق متسق ومتصل بمشهد الحجاج والمناظرة القائم بين النبي وأهل الكتاب والذي كان يحتمل أن اليهود كانوا طرفا فيه.
على أن كل هذا لا ينبغي فيما يتبادر لنا أيضا أن تكون الآيات في صدد وفد نصارى نجران، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا هذا الوفد إلى الاحتكام إلى التوراة والإنجيل لإثبات نبوته بما فيهما من دلائل فأبوا وراوغوا. والنصارى يعتبرون التوراة كتاب شريعتهم. وفي آية الأعراف [ ١٥٧ ] تقرير بأن النبي مكتوب في التوراة والإنجيل معا.
ولقد ذكرنا أن قول اليهود ﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ قد حكي عنهم في الآية [ ٨٠ ] من سورة البقرة، فمن المحتمل أن يكون تكرر منهم فاقتضت حكمة التنزيل تكرار حكايته على سبيل التنديد. ولقد أعددنا ما روي في صدد هذا القول في سياق آية سورة البقرة المذكورة فنكتفي بهذا التنبيه.
ولا نرى هذا ينفي احتمال أن تكون الآيات في صدد وفد نجران. فقد حكى القرآن عن النصارى أيضا قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه. والله تعالى أعلم.
والآيات قوية في أسلوبها نافذة في مداها. وتنطوي على تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي التنديد بمن يدعى إلى الاحتكام لكتاب الله فيأتي ويراوغ ويظل سادرا في غيه متمسكا بهواه. أم بمن يتبجح في تزكية نفسه ويغترّ بما يكون له من سلطان أو علوّ مرتبة وسعة رزق وعزة، ولا يتذكر أن الله الذي رفعه وأعزه وآتاه الملك ووسع له الرزق قادر على خفضه وإذلاله ونزع الملك منه وتضييق الرزق عليه، وكأنما تهيب به أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه وذهنه ليتقي سخط الله وغضبه وتغييره نعمه التي أنعمها عليه إلى السوء بصالح العمل وأداء الواجب نحو الله والناس.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بفريق من أهل الكتاب يدعون إلى تحكيم كتاب الله فيأبونه ويتبجحون بما لهم من الحظوة عند الله في الآخرة ويزهون بدينهم ويفترون على الله فيه، وإنذارا لهم وإعلانا تقريريا بقدرة الله على منح الملك لمن شاء ونزعه ممن شاء وتغيير الليل بالنهار والنهار بالليل وإخراج الحي من الميت والميت من الحي وإغداقه الرزق على من يشاء بغير حساب.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى الآية [ ٢٧ ]
روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآيات. فرووا في سبب نزول الآيات الثلاث الأولى أن اليهود رفعوا قضية زنا للنبي ليحكم فيها فحكم بالرجم حسب شريعتهم فأنكروا فطلب منهم إحضار التوراة والاحتكام إليها فأبوا. كما رووا في صددها أن اليهود ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا وأن ملته هي اليهودية فكذبهم النبي وطلب منهم الاحتكام للتوراة فأبوا. ورواية ثالثة تذكر أن النبي دعاهم إلى الإيمان به ؛ لأنه مكتوب عندهم في التوراة فأنكروا فطلب الاحتكام للتوراة فأبوا. وفي سبب نزول الآيتين الرابعة والخامسة رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وعد المؤمنين بأن يجعل الله لهم ملك الروم وفارس فقال اليهود والمنافقون : هيهات أين لمحمد ذلك فنزلت الآيات للرد عليهم. ومما روي أن هذا الوعد كان يوم حفر الخندق حينما غزت أحزاب قريش والكفار المدينة. فقد استعصت صخرة عظيمة على المؤمنين حين الحفر، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فضربها ثلاث ضربات حتى كسرها، وكان يتطاير البرق في كل ضربة حتى كأنه مصباح في جوف مظلم فسأل سليمان الفارسي عن ذلك فقال له : أضاءت لي من الضربة الأولى قصور الحيرة ومن الثانية قصور الروم ومن الثالثة قصور كسرى فأبشروا واستبشروا بنصر الله ووعده، فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم بالباطل ويعدكم بقصور كسرى والروم والحيرة وأنتم تحفرون الخندق من الفرق ولا تستطيعون أن تبرزوا لعدوكم فأنزل الله الآيتين لتكذيب المنافقين وتأييد وعد النبي صلى الله عليه وسلم. ورواية ثالثة أن اليهود قالوا حينما دعاهم النبي إلى الإيمان به " لا نتبع رجلا جاء لينقل النبوة من بني إسرائيل ".
وعدا رواية تحكيم اليهود للنبي في قضية زنا لم ترد أي من الروايات في الصحاح. ورواية هذا التحكيم رواها البخاري في صدد الآية [ ٩٣ ] من هذه السورة١. ورواية ما كان أثناء حفر الخندق تبدو مقحمة ؛ لأن الآيات في صدد موقف فريد من أهل الكتاب وغزوة الخندق وقعت بعد مدة ما من غزوة أحد التي ذكرت في فصل آخر من هذه السورة. والمتبادر أن الآيات نزلت قبل ذلك بمدة ما. وحجاج اليهود في ملة إبراهيم ويهوديته قد حكته آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد قليل. مما يجعلنا نستبعد رواية ذلك في صدد الآيات.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات الأولى الثلاث نزلت في موقف دعا النبي صلى الله عليه وسلم فيه فريقا من أهل الكتاب إلى الاحتكام للتوراة، فأبوا وأن الآيتين الرابعة والخامسة نزلتا معقبتين على هذا الموقف. وجملة ﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ حكيت عن اليهود في آية سورة البقرة [ ٨٠ ] حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن هذا الفريق من اليهود. والسياق قد يتسق مع رواية كون الآيات الثلاث الأولى في صدد آباء اليهود الاستجابة إلى دعوة النبي للإيمان به. فهم قد أقروا بوحدانية الله ثم راوغوا وأنكروا صحة رسالة النبي بزعم أن النبوة محصورة ببني إسرائيل أو غيظا من أن تظهر في غيرهم. وقد حكت ذلك عنهم آيات سورة البقرة [ ٨٩ ٩٠ ] فذكرتهم الآيتان [ ٢١ ٢٢ ] بمواقف آبائهم من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، ومن الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم وقتل بعضهم، وهو ما ذكرته عنهم الآيات [ ٨٥ ٨٨ ] من سورة البقرة كذلك فدعاهم النبي إلى الاحتكام إلى التوراة لإفحامهم لما فيها من الدلائل على صحة نبوته التي أشارت إليها آية سورة الأعراف [ ١٥٧ ] وهي :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل... ﴾ [ ١٥٧ ] إلخ فأبوا وعاندوا فنددت بهم الآيات الثلاث لاغترارهم وتبجحهم وافترائهم على الله، ثم قررت الآيتان الأخيرتان ما قررته من مطلق تصرف الله وقدرته في كونه وخلقه ومشاهد ذلك لتقرر ضمنا أنه لا حرج عليه أن ينزع النبوة ممن يشاء ويمنحها من يشاء وأن يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب.
وهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب جعلنا نلحق الآيتين [ ٢٦ ٢٧ ] بالآيات الثلاث كما أنه يسوغ القول : إن الآيات الخمس متصلة بالآيات السابقة واللاحقة وأن السياق متسق ومتصل بمشهد الحجاج والمناظرة القائم بين النبي وأهل الكتاب والذي كان يحتمل أن اليهود كانوا طرفا فيه.
على أن كل هذا لا ينبغي فيما يتبادر لنا أيضا أن تكون الآيات في صدد وفد نصارى نجران، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا هذا الوفد إلى الاحتكام إلى التوراة والإنجيل لإثبات نبوته بما فيهما من دلائل فأبوا وراوغوا. والنصارى يعتبرون التوراة كتاب شريعتهم. وفي آية الأعراف [ ١٥٧ ] تقرير بأن النبي مكتوب في التوراة والإنجيل معا.
ولقد ذكرنا أن قول اليهود ﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ قد حكي عنهم في الآية [ ٨٠ ] من سورة البقرة، فمن المحتمل أن يكون تكرر منهم فاقتضت حكمة التنزيل تكرار حكايته على سبيل التنديد. ولقد أعددنا ما روي في صدد هذا القول في سياق آية سورة البقرة المذكورة فنكتفي بهذا التنبيه.
ولا نرى هذا ينفي احتمال أن تكون الآيات في صدد وفد نجران. فقد حكى القرآن عن النصارى أيضا قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه. والله تعالى أعلم.
والآيات قوية في أسلوبها نافذة في مداها. وتنطوي على تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي التنديد بمن يدعى إلى الاحتكام لكتاب الله فيأتي ويراوغ ويظل سادرا في غيه متمسكا بهواه. أم بمن يتبجح في تزكية نفسه ويغترّ بما يكون له من سلطان أو علوّ مرتبة وسعة رزق وعزة، ولا يتذكر أن الله الذي رفعه وأعزه وآتاه الملك ووسع له الرزق قادر على خفضه وإذلاله ونزع الملك منه وتضييق الرزق عليه، وكأنما تهيب به أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه وذهنه ليتقي سخط الله وغضبه وتغييره نعمه التي أنعمها عليه إلى السوء بصالح العمل وأداء الواجب نحو الله والناس.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بفريق من أهل الكتاب يدعون إلى تحكيم كتاب الله فيأبونه ويتبجحون بما لهم من الحظوة عند الله في الآخرة ويزهون بدينهم ويفترون على الله فيه، وإنذارا لهم وإعلانا تقريريا بقدرة الله على منح الملك لمن شاء ونزعه ممن شاء وتغيير الليل بالنهار والنهار بالليل وإخراج الحي من الميت والميت من الحي وإغداقه الرزق على من يشاء بغير حساب.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى الآية [ ٢٧ ]
روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآيات. فرووا في سبب نزول الآيات الثلاث الأولى أن اليهود رفعوا قضية زنا للنبي ليحكم فيها فحكم بالرجم حسب شريعتهم فأنكروا فطلب منهم إحضار التوراة والاحتكام إليها فأبوا. كما رووا في صددها أن اليهود ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا وأن ملته هي اليهودية فكذبهم النبي وطلب منهم الاحتكام للتوراة فأبوا. ورواية ثالثة تذكر أن النبي دعاهم إلى الإيمان به ؛ لأنه مكتوب عندهم في التوراة فأنكروا فطلب الاحتكام للتوراة فأبوا. وفي سبب نزول الآيتين الرابعة والخامسة رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وعد المؤمنين بأن يجعل الله لهم ملك الروم وفارس فقال اليهود والمنافقون : هيهات أين لمحمد ذلك فنزلت الآيات للرد عليهم. ومما روي أن هذا الوعد كان يوم حفر الخندق حينما غزت أحزاب قريش والكفار المدينة. فقد استعصت صخرة عظيمة على المؤمنين حين الحفر، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فضربها ثلاث ضربات حتى كسرها، وكان يتطاير البرق في كل ضربة حتى كأنه مصباح في جوف مظلم فسأل سليمان الفارسي عن ذلك فقال له : أضاءت لي من الضربة الأولى قصور الحيرة ومن الثانية قصور الروم ومن الثالثة قصور كسرى فأبشروا واستبشروا بنصر الله ووعده، فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم بالباطل ويعدكم بقصور كسرى والروم والحيرة وأنتم تحفرون الخندق من الفرق ولا تستطيعون أن تبرزوا لعدوكم فأنزل الله الآيتين لتكذيب المنافقين وتأييد وعد النبي صلى الله عليه وسلم. ورواية ثالثة أن اليهود قالوا حينما دعاهم النبي إلى الإيمان به " لا نتبع رجلا جاء لينقل النبوة من بني إسرائيل ".
وعدا رواية تحكيم اليهود للنبي في قضية زنا لم ترد أي من الروايات في الصحاح. ورواية هذا التحكيم رواها البخاري في صدد الآية [ ٩٣ ] من هذه السورة١. ورواية ما كان أثناء حفر الخندق تبدو مقحمة ؛ لأن الآيات في صدد موقف فريد من أهل الكتاب وغزوة الخندق وقعت بعد مدة ما من غزوة أحد التي ذكرت في فصل آخر من هذه السورة. والمتبادر أن الآيات نزلت قبل ذلك بمدة ما. وحجاج اليهود في ملة إبراهيم ويهوديته قد حكته آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد قليل. مما يجعلنا نستبعد رواية ذلك في صدد الآيات.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات الأولى الثلاث نزلت في موقف دعا النبي صلى الله عليه وسلم فيه فريقا من أهل الكتاب إلى الاحتكام للتوراة، فأبوا وأن الآيتين الرابعة والخامسة نزلتا معقبتين على هذا الموقف. وجملة ﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ حكيت عن اليهود في آية سورة البقرة [ ٨٠ ] حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن هذا الفريق من اليهود. والسياق قد يتسق مع رواية كون الآيات الثلاث الأولى في صدد آباء اليهود الاستجابة إلى دعوة النبي للإيمان به. فهم قد أقروا بوحدانية الله ثم راوغوا وأنكروا صحة رسالة النبي بزعم أن النبوة محصورة ببني إسرائيل أو غيظا من أن تظهر في غيرهم. وقد حكت ذلك عنهم آيات سورة البقرة [ ٨٩ ٩٠ ] فذكرتهم الآيتان [ ٢١ ٢٢ ] بمواقف آبائهم من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، ومن الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم وقتل بعضهم، وهو ما ذكرته عنهم الآيات [ ٨٥ ٨٨ ] من سورة البقرة كذلك فدعاهم النبي إلى الاحتكام إلى التوراة لإفحامهم لما فيها من الدلائل على صحة نبوته التي أشارت إليها آية سورة الأعراف [ ١٥٧ ] وهي :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل... ﴾ [ ١٥٧ ] إلخ فأبوا وعاندوا فنددت بهم الآيات الثلاث لاغترارهم وتبجحهم وافترائهم على الله، ثم قررت الآيتان الأخيرتان ما قررته من مطلق تصرف الله وقدرته في كونه وخلقه ومشاهد ذلك لتقرر ضمنا أنه لا حرج عليه أن ينزع النبوة ممن يشاء ويمنحها من يشاء وأن يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب.
وهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب جعلنا نلحق الآيتين [ ٢٦ ٢٧ ] بالآيات الثلاث كما أنه يسوغ القول : إن الآيات الخمس متصلة بالآيات السابقة واللاحقة وأن السياق متسق ومتصل بمشهد الحجاج والمناظرة القائم بين النبي وأهل الكتاب والذي كان يحتمل أن اليهود كانوا طرفا فيه.
على أن كل هذا لا ينبغي فيما يتبادر لنا أيضا أن تكون الآيات في صدد وفد نصارى نجران، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا هذا الوفد إلى الاحتكام إلى التوراة والإنجيل لإثبات نبوته بما فيهما من دلائل فأبوا وراوغوا. والنصارى يعتبرون التوراة كتاب شريعتهم. وفي آية الأعراف [ ١٥٧ ] تقرير بأن النبي مكتوب في التوراة والإنجيل معا.
ولقد ذكرنا أن قول اليهود ﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ قد حكي عنهم في الآية [ ٨٠ ] من سورة البقرة، فمن المحتمل أن يكون تكرر منهم فاقتضت حكمة التنزيل تكرار حكايته على سبيل التنديد. ولقد أعددنا ما روي في صدد هذا القول في سياق آية سورة البقرة المذكورة فنكتفي بهذا التنبيه.
ولا نرى هذا ينفي احتمال أن تكون الآيات في صدد وفد نجران. فقد حكى القرآن عن النصارى أيضا قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه. والله تعالى أعلم.
والآيات قوية في أسلوبها نافذة في مداها. وتنطوي على تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي التنديد بمن يدعى إلى الاحتكام لكتاب الله فيأتي ويراوغ ويظل سادرا في غيه متمسكا بهواه. أم بمن يتبجح في تزكية نفسه ويغترّ بما يكون له من سلطان أو علوّ مرتبة وسعة رزق وعزة، ولا يتذكر أن الله الذي رفعه وأعزه وآتاه الملك ووسع له الرزق قادر على خفضه وإذلاله ونزع الملك منه وتضييق الرزق عليه، وكأنما تهيب به أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه وذهنه ليتقي سخط الله وغضبه وتغييره نعمه التي أنعمها عليه إلى السوء بصالح العمل وأداء الواجب نحو الله والناس.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بفريق من أهل الكتاب يدعون إلى تحكيم كتاب الله فيأبونه ويتبجحون بما لهم من الحظوة عند الله في الآخرة ويزهون بدينهم ويفترون على الله فيه، وإنذارا لهم وإعلانا تقريريا بقدرة الله على منح الملك لمن شاء ونزعه ممن شاء وتغيير الليل بالنهار والنهار بالليل وإخراج الحي من الميت والميت من الحي وإغداقه الرزق على من يشاء بغير حساب.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى الآية [ ٢٧ ]
روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآيات. فرووا في سبب نزول الآيات الثلاث الأولى أن اليهود رفعوا قضية زنا للنبي ليحكم فيها فحكم بالرجم حسب شريعتهم فأنكروا فطلب منهم إحضار التوراة والاحتكام إليها فأبوا. كما رووا في صددها أن اليهود ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا وأن ملته هي اليهودية فكذبهم النبي وطلب منهم الاحتكام للتوراة فأبوا. ورواية ثالثة تذكر أن النبي دعاهم إلى الإيمان به ؛ لأنه مكتوب عندهم في التوراة فأنكروا فطلب الاحتكام للتوراة فأبوا. وفي سبب نزول الآيتين الرابعة والخامسة رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وعد المؤمنين بأن يجعل الله لهم ملك الروم وفارس فقال اليهود والمنافقون : هيهات أين لمحمد ذلك فنزلت الآيات للرد عليهم. ومما روي أن هذا الوعد كان يوم حفر الخندق حينما غزت أحزاب قريش والكفار المدينة. فقد استعصت صخرة عظيمة على المؤمنين حين الحفر، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فضربها ثلاث ضربات حتى كسرها، وكان يتطاير البرق في كل ضربة حتى كأنه مصباح في جوف مظلم فسأل سليمان الفارسي عن ذلك فقال له : أضاءت لي من الضربة الأولى قصور الحيرة ومن الثانية قصور الروم ومن الثالثة قصور كسرى فأبشروا واستبشروا بنصر الله ووعده، فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم بالباطل ويعدكم بقصور كسرى والروم والحيرة وأنتم تحفرون الخندق من الفرق ولا تستطيعون أن تبرزوا لعدوكم فأنزل الله الآيتين لتكذيب المنافقين وتأييد وعد النبي صلى الله عليه وسلم. ورواية ثالثة أن اليهود قالوا حينما دعاهم النبي إلى الإيمان به " لا نتبع رجلا جاء لينقل النبوة من بني إسرائيل ".
وعدا رواية تحكيم اليهود للنبي في قضية زنا لم ترد أي من الروايات في الصحاح. ورواية هذا التحكيم رواها البخاري في صدد الآية [ ٩٣ ] من هذه السورة١. ورواية ما كان أثناء حفر الخندق تبدو مقحمة ؛ لأن الآيات في صدد موقف فريد من أهل الكتاب وغزوة الخندق وقعت بعد مدة ما من غزوة أحد التي ذكرت في فصل آخر من هذه السورة. والمتبادر أن الآيات نزلت قبل ذلك بمدة ما. وحجاج اليهود في ملة إبراهيم ويهوديته قد حكته آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد قليل. مما يجعلنا نستبعد رواية ذلك في صدد الآيات.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات الأولى الثلاث نزلت في موقف دعا النبي صلى الله عليه وسلم فيه فريقا من أهل الكتاب إلى الاحتكام للتوراة، فأبوا وأن الآيتين الرابعة والخامسة نزلتا معقبتين على هذا الموقف. وجملة ﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ حكيت عن اليهود في آية سورة البقرة [ ٨٠ ] حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن هذا الفريق من اليهود. والسياق قد يتسق مع رواية كون الآيات الثلاث الأولى في صدد آباء اليهود الاستجابة إلى دعوة النبي للإيمان به. فهم قد أقروا بوحدانية الله ثم راوغوا وأنكروا صحة رسالة النبي بزعم أن النبوة محصورة ببني إسرائيل أو غيظا من أن تظهر في غيرهم. وقد حكت ذلك عنهم آيات سورة البقرة [ ٨٩ ٩٠ ] فذكرتهم الآيتان [ ٢١ ٢٢ ] بمواقف آبائهم من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، ومن الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم وقتل بعضهم، وهو ما ذكرته عنهم الآيات [ ٨٥ ٨٨ ] من سورة البقرة كذلك فدعاهم النبي إلى الاحتكام إلى التوراة لإفحامهم لما فيها من الدلائل على صحة نبوته التي أشارت إليها آية سورة الأعراف [ ١٥٧ ] وهي :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل... ﴾ [ ١٥٧ ] إلخ فأبوا وعاندوا فنددت بهم الآيات الثلاث لاغترارهم وتبجحهم وافترائهم على الله، ثم قررت الآيتان الأخيرتان ما قررته من مطلق تصرف الله وقدرته في كونه وخلقه ومشاهد ذلك لتقرر ضمنا أنه لا حرج عليه أن ينزع النبوة ممن يشاء ويمنحها من يشاء وأن يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب.
وهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب جعلنا نلحق الآيتين [ ٢٦ ٢٧ ] بالآيات الثلاث كما أنه يسوغ القول : إن الآيات الخمس متصلة بالآيات السابقة واللاحقة وأن السياق متسق ومتصل بمشهد الحجاج والمناظرة القائم بين النبي وأهل الكتاب والذي كان يحتمل أن اليهود كانوا طرفا فيه.
على أن كل هذا لا ينبغي فيما يتبادر لنا أيضا أن تكون الآيات في صدد وفد نصارى نجران، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا هذا الوفد إلى الاحتكام إلى التوراة والإنجيل لإثبات نبوته بما فيهما من دلائل فأبوا وراوغوا. والنصارى يعتبرون التوراة كتاب شريعتهم. وفي آية الأعراف [ ١٥٧ ] تقرير بأن النبي مكتوب في التوراة والإنجيل معا.
ولقد ذكرنا أن قول اليهود ﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ قد حكي عنهم في الآية [ ٨٠ ] من سورة البقرة، فمن المحتمل أن يكون تكرر منهم فاقتضت حكمة التنزيل تكرار حكايته على سبيل التنديد. ولقد أعددنا ما روي في صدد هذا القول في سياق آية سورة البقرة المذكورة فنكتفي بهذا التنبيه.
ولا نرى هذا ينفي احتمال أن تكون الآيات في صدد وفد نجران. فقد حكى القرآن عن النصارى أيضا قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه. والله تعالى أعلم.
والآيات قوية في أسلوبها نافذة في مداها. وتنطوي على تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي التنديد بمن يدعى إلى الاحتكام لكتاب الله فيأتي ويراوغ ويظل سادرا في غيه متمسكا بهواه. أم بمن يتبجح في تزكية نفسه ويغترّ بما يكون له من سلطان أو علوّ مرتبة وسعة رزق وعزة، ولا يتذكر أن الله الذي رفعه وأعزه وآتاه الملك ووسع له الرزق قادر على خفضه وإذلاله ونزع الملك منه وتضييق الرزق عليه، وكأنما تهيب به أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه وذهنه ليتقي سخط الله وغضبه وتغييره نعمه التي أنعمها عليه إلى السوء بصالح العمل وأداء الواجب نحو الله والناس.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بفريق من أهل الكتاب يدعون إلى تحكيم كتاب الله فيأبونه ويتبجحون بما لهم من الحظوة عند الله في الآخرة ويزهون بدينهم ويفترون على الله فيه، وإنذارا لهم وإعلانا تقريريا بقدرة الله على منح الملك لمن شاء ونزعه ممن شاء وتغيير الليل بالنهار والنهار بالليل وإخراج الحي من الميت والميت من الحي وإغداقه الرزق على من يشاء بغير حساب.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى الآية [ ٢٧ ]
روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآيات. فرووا في سبب نزول الآيات الثلاث الأولى أن اليهود رفعوا قضية زنا للنبي ليحكم فيها فحكم بالرجم حسب شريعتهم فأنكروا فطلب منهم إحضار التوراة والاحتكام إليها فأبوا. كما رووا في صددها أن اليهود ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا وأن ملته هي اليهودية فكذبهم النبي وطلب منهم الاحتكام للتوراة فأبوا. ورواية ثالثة تذكر أن النبي دعاهم إلى الإيمان به ؛ لأنه مكتوب عندهم في التوراة فأنكروا فطلب الاحتكام للتوراة فأبوا. وفي سبب نزول الآيتين الرابعة والخامسة رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وعد المؤمنين بأن يجعل الله لهم ملك الروم وفارس فقال اليهود والمنافقون : هيهات أين لمحمد ذلك فنزلت الآيات للرد عليهم. ومما روي أن هذا الوعد كان يوم حفر الخندق حينما غزت أحزاب قريش والكفار المدينة. فقد استعصت صخرة عظيمة على المؤمنين حين الحفر، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فضربها ثلاث ضربات حتى كسرها، وكان يتطاير البرق في كل ضربة حتى كأنه مصباح في جوف مظلم فسأل سليمان الفارسي عن ذلك فقال له : أضاءت لي من الضربة الأولى قصور الحيرة ومن الثانية قصور الروم ومن الثالثة قصور كسرى فأبشروا واستبشروا بنصر الله ووعده، فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم بالباطل ويعدكم بقصور كسرى والروم والحيرة وأنتم تحفرون الخندق من الفرق ولا تستطيعون أن تبرزوا لعدوكم فأنزل الله الآيتين لتكذيب المنافقين وتأييد وعد النبي صلى الله عليه وسلم. ورواية ثالثة أن اليهود قالوا حينما دعاهم النبي إلى الإيمان به " لا نتبع رجلا جاء لينقل النبوة من بني إسرائيل ".
وعدا رواية تحكيم اليهود للنبي في قضية زنا لم ترد أي من الروايات في الصحاح. ورواية هذا التحكيم رواها البخاري في صدد الآية [ ٩٣ ] من هذه السورة١. ورواية ما كان أثناء حفر الخندق تبدو مقحمة ؛ لأن الآيات في صدد موقف فريد من أهل الكتاب وغزوة الخندق وقعت بعد مدة ما من غزوة أحد التي ذكرت في فصل آخر من هذه السورة. والمتبادر أن الآيات نزلت قبل ذلك بمدة ما. وحجاج اليهود في ملة إبراهيم ويهوديته قد حكته آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد قليل. مما يجعلنا نستبعد رواية ذلك في صدد الآيات.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات الأولى الثلاث نزلت في موقف دعا النبي صلى الله عليه وسلم فيه فريقا من أهل الكتاب إلى الاحتكام للتوراة، فأبوا وأن الآيتين الرابعة والخامسة نزلتا معقبتين على هذا الموقف. وجملة ﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ حكيت عن اليهود في آية سورة البقرة [ ٨٠ ] حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن هذا الفريق من اليهود. والسياق قد يتسق مع رواية كون الآيات الثلاث الأولى في صدد آباء اليهود الاستجابة إلى دعوة النبي للإيمان به. فهم قد أقروا بوحدانية الله ثم راوغوا وأنكروا صحة رسالة النبي بزعم أن النبوة محصورة ببني إسرائيل أو غيظا من أن تظهر في غيرهم. وقد حكت ذلك عنهم آيات سورة البقرة [ ٨٩ ٩٠ ] فذكرتهم الآيتان [ ٢١ ٢٢ ] بمواقف آبائهم من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، ومن الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم وقتل بعضهم، وهو ما ذكرته عنهم الآيات [ ٨٥ ٨٨ ] من سورة البقرة كذلك فدعاهم النبي إلى الاحتكام إلى التوراة لإفحامهم لما فيها من الدلائل على صحة نبوته التي أشارت إليها آية سورة الأعراف [ ١٥٧ ] وهي :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل... ﴾ [ ١٥٧ ] إلخ فأبوا وعاندوا فنددت بهم الآيات الثلاث لاغترارهم وتبجحهم وافترائهم على الله، ثم قررت الآيتان الأخيرتان ما قررته من مطلق تصرف الله وقدرته في كونه وخلقه ومشاهد ذلك لتقرر ضمنا أنه لا حرج عليه أن ينزع النبوة ممن يشاء ويمنحها من يشاء وأن يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب.
وهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب جعلنا نلحق الآيتين [ ٢٦ ٢٧ ] بالآيات الثلاث كما أنه يسوغ القول : إن الآيات الخمس متصلة بالآيات السابقة واللاحقة وأن السياق متسق ومتصل بمشهد الحجاج والمناظرة القائم بين النبي وأهل الكتاب والذي كان يحتمل أن اليهود كانوا طرفا فيه.
على أن كل هذا لا ينبغي فيما يتبادر لنا أيضا أن تكون الآيات في صدد وفد نصارى نجران، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا هذا الوفد إلى الاحتكام إلى التوراة والإنجيل لإثبات نبوته بما فيهما من دلائل فأبوا وراوغوا. والنصارى يعتبرون التوراة كتاب شريعتهم. وفي آية الأعراف [ ١٥٧ ] تقرير بأن النبي مكتوب في التوراة والإنجيل معا.
ولقد ذكرنا أن قول اليهود ﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ قد حكي عنهم في الآية [ ٨٠ ] من سورة البقرة، فمن المحتمل أن يكون تكرر منهم فاقتضت حكمة التنزيل تكرار حكايته على سبيل التنديد. ولقد أعددنا ما روي في صدد هذا القول في سياق آية سورة البقرة المذكورة فنكتفي بهذا التنبيه.
ولا نرى هذا ينفي احتمال أن تكون الآيات في صدد وفد نجران. فقد حكى القرآن عن النصارى أيضا قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه. والله تعالى أعلم.
والآيات قوية في أسلوبها نافذة في مداها. وتنطوي على تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي التنديد بمن يدعى إلى الاحتكام لكتاب الله فيأتي ويراوغ ويظل سادرا في غيه متمسكا بهواه. أم بمن يتبجح في تزكية نفسه ويغترّ بما يكون له من سلطان أو علوّ مرتبة وسعة رزق وعزة، ولا يتذكر أن الله الذي رفعه وأعزه وآتاه الملك ووسع له الرزق قادر على خفضه وإذلاله ونزع الملك منه وتضييق الرزق عليه، وكأنما تهيب به أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه وذهنه ليتقي سخط الله وغضبه وتغييره نعمه التي أنعمها عليه إلى السوء بصالح العمل وأداء الواجب نحو الله والناس.
( ٢ ) تقاة : قرئت ( تقية ) والمعنى واحد وهو الاتقاء.
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت تحذيرا مكررا للمؤمنين من تولي الكافرين دون المؤمنين إلا إذا كان بقصد التقية حين الاضطرار. وتنبيها إلى أن الله تعالى يعلم كل ما يبدونه ويسرونه، وأن كل نفس سوف تجد أمامها يوم القيامة ما عملته من خير وشر. فيتمنون حينئذ أن لو كان ما عملوه من سوء وشرّ بعيدا عنهم، وتوكيدا على المسلمين بوجوب طاعة الله والرسول، وبيانا بكون طاعة الله ومحبته منوطتان بطاعة الرسول.
تعليق على الآية
﴿ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى الآية [ ٣٢ ]
ولقد روى المفسرون١ في صدد هذه الآيات روايات عديدة ؛ حيث روى بعضهم أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في بعض المؤمنين أو المنافقين المتظاهرين بالإسلام الذين كانوا يوالون اليهود أو المشركين وأن الآيتين الأخيرتين نزلتا في النصارى الذين كانوا يقولون إننا نعظم عيسى حبا لله، أو نزلتا في حق وفد نجران لقولهم نحن نحب الله، أو في حق المشركين الذين كانوا يقولون : إننا نعظم الملائكة حبا لله، أو في حق اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه. وقد حكت هذا عنهم آية سورة المائدة هذه :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( ١٨ ) ﴾ ومما رواه بعضهم٢ أنها نزلت في حادث حاطب بن أبي بلتعة أحد المهاجرين بسبب كتابته لأبي سفيان بخبر عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم على الزحف على مكة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والرواية الأخيرة بعيدة في ظرفها. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزأة وفي ظروف مختلفة مع أن المستلهم من روحها أنها سياق واحد وأنها متصلة بمشهد المناظرة والحجاج وقد جاءت استطرادية بعدما حملت الآيات السابقة على أهل الكتاب ومنهم اليهود ونددت بكفرهم ومراوغتهم وتبجحهم بالحظوة لدى الله وافترائهم عليه وربطت بين موقفهم الحاضر وموقف آبائهم الغابر لتحذر المؤمنين من موالاتهم ؛ حيث كان بين قبائل اليهود وقبيلتي الأوس والخزرج حلف وولاء قديمان على ما شرحناه في سياق آيات سورة البقرة [ ٨٤ ـ ٨٥ ] وأنها تضمنت دعوة لأهل الكتاب إلى اتباع النبي إذا كانوا حقا يحبون الله ؛ لأنه هو الهادي إلى طريق الله القويم الذي ليس فيه عوج ولا تعقيد ولا انحراف. ولما كانت الآيات التالية لهذه الآيات تلهم أنها في صدد مشهد ثان من مشاهد المناظرة حول العقيدة النصرانية، فإنه يصحّ أن يقال : إن الآيات الخمس جاءت كذلك ختاما لما اقتضت حكمة التنزيل وحيه في صدد المشهد الأول.
وبقطع النظر عن صلة الآيات بمشهد المناظرة، ففي الآية الأولى منها تشريع إسلامي محكم في ذاته. وفي الآيتين التاليتين تدعيم لهذا التشريع.
ولقد انطوى في الآية الأولى مبدآن في صدد تنظيم مناسبات المؤمنين مع غيرهم :
الأول : عدم جواز اتخاذ المؤمنين من غيرهم نصراء وأولياء بدلا من المؤمنين في أي حال.
الثاني : تسويغ مداراة المؤمنين لغيرهم في الظروف التي توجب هذه المداراة لدفع الأذى والشر والضرر.
وفيما يلي شرح لمدى الآية وما يروى في صددها من أقوال وأحكام وتعليق عليه :
١ ـ لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل أو يوردونها لأنفسهم في صدد الفقرة الأولى. من ذلك أن النهي يشمل التناصر والتحالف مع الكفار. ويشمل كذلك اتخاذهم بطانة أو اطلاعهم على أسرار المسلمين ولو كان بينهم قربى رحم أو جنس. ومما قالوه في تأويل ﴿ فليس من الله من شيء ﴾ : إنها بمعنى براءة الله منه والإيذان بأن فاعل ذلك مرتدّ عن الإسلام. وبعضهم أدار الكلام على اعتبار أن النهي هو عن موالاة الكفار الأعداء، من حيث إن هناك كفارا غير أعداء مسالمين أو موادين أو حياديين ومعاهدين. وفي كل هذه الأقوال صواب وسداد.
٢ ـ وتنبيه يهدد المئات ولو كان الأمر بديهيا على أن كلمة ﴿ الكافرين ﴾ في الآية هي نعت لكل جاحد لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم سواء أكان كتابيا أم مشركا أم وثنيا أو ملحدا. وفي آيات في سورة المائدة نهي صريح عن موالاة اليهود والنصارى وأهل الكتاب [ ٥٢ ـ ٥٨ ] حيث يكون في ذلك تدعيم قرآني.
٣ ـ والآية هي أولى آيات ورد فيها النهي عن تولي الكافرين. وقد تكرر ذلك مرارا في سور أخرى حيث يبدو أن من المسلمين سواء منهم المخلصون أو المنافقون المتظاهرون بالإسلام لم يمتنعوا عن تولي الكفار فاقتضت حكمة التنزيل موالاة النهي وبتشديد أقوى مما جاء في الآية.
٤ ـ والنهي في الآية مطلق أي بدون تعليل حيث توجب عدم تولي الكافرين مطلقا. والآيات التي نزلت بعد ذلك مختلفة الصيغ. منها ما جاء مطلقا ومماثلا لهذه الآية مثل آيات سورة النساء [ ١٣٨ و ١٣٩ و ١٤٤ ] والمائدة [ ٥١ و ٥٢ ] والتوبة [ ٢٣ و ٢٤ ] ومنها ما جاء معللا بكون النهي هو للأعداء والمعتدين على المسلمين والإسلام مثل آية المائدة [ ٥٨ ] والممتحنة [ ١ ـ ٢ ].
٥ ـ وفي سورة الممتحنة هذه الآية ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٨ ) ﴾ حيث يمكن أن يكون انطوى فيها استدراك تدعيمي لتعليل النهي المذكور آنفا. وفي الآية التي تلي هذه الآية تدعيم حاسم حيث جاء فيها ﴿ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٩ ) ﴾ والمتبادر أنه يصح أن تعتبر الآيتان ضابطين محكمين لموقف المسلمين من غيرهم مع القول : إن جملة ﴿ أن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ تنسحب على مختلف أنواع التعامل والتعايش والتعاون. والله تعالى أعلم.
٦ ـ وللسيد رشيد رضا كلام سديد وجيه قاله في سياق تفسير آية آل عمران التي نحن بصددها حيث يقول : إنه ليس ما يمنع المسلمين من أن يتحالفوا ويتفقوا مع غيرهم من غير أعدائهم إذا كان لهم مصلحة فضلا عن التعامل الذي ينطوي في آية الممتحنة [ ٨ ] ويسوق كدليل على ذلك حلف خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على شركهم نتيجة لصلح الحديبية ؛ حيث اتفق النبي وقريش على أن يخيروا القبيلتين النازلتين في منطقة مكة وهما بكر وخزاعة بين الدخول في صلح النبي أو صلح قريش فاختارت خزاعة النبي واختارت بكر قريشا ؛ لأنه كان بين القبيلتين عداء وحروب. وصار الصلح شاملا لكلتا القبيلتين مع الحليف الذي اختارته، وهناك دليل آخر وهو كتاب الموادعة الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم حينما حلّ في المدينة وجعله شاملا لليهود فيها. فأقرهم على دينهم وعلى ما كان بينهم وبين الأوس والخزرج من محالفات وأوجب عليهم النصرة للمؤمنين مع حلفائهم، وأوجب لهم النصرة من المؤمنين وحلفائهم وأوجب لهم وعليهم تبادل المساعدات٣. وواضح من الأمثلة أنها شاملة للكتابيين والمشركين. وكل من هو غير مؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر. سواء أكان كتابيا أم غير كتابي.
وعلى هذا يصحّ أن يقال : إن لأولي الأمر من المسلمين أن يلحظوا ما فيه مصلحة المسلمين في صلاتهم مع غيرهم وأن الضابط الذي يجب أن يضبط عملهم هو أولا ما يعرف في الكفار من نوايا المسالمة والموادة أو العداء والغدر والخيانة. فمن كانت نواياه سلمية ودّية جاءت محالفته والاستعانة به في شتى المجالات إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين. وثانيا الحذر الدائم وعدم الاندفاع من حسن الظن والظواهر. ويمكن أن يقال إجمالا : إن آيتي سورة الممتحنة تصحان أن تكون ضابطا في هذه الحالات. والله أعلم.
٧ ـ ولقد جاء في سورة المجادلة التي نزلت بعد هذه السورة حسب روايات ترتيب النزول هذه الآيات :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ( ٢٠ ) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ٢١ ) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ... ﴾ والمتبادر أن الموادة هي دون التولي والتناصر والتحالف الذي نهت عنه الآيات الأخرى. ويمكن أن تكون تبادل محبة وحسن معاشرة ومشايعة وما في نطاق ذلك وأسلوب الآية قوي نافذ. وقد انطوت على تعديل لمدى الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء بحيث صار النهي القرآني شاملا للموالاة والموادة في مداهما المشروع مع التنبيه على مدى جملة ﴿ من حاد الله ورسوله ﴾ التي هي صريحة بأنها في صدد الكفار الأعداء المحاربين لله ورسوله.
٨ ـ وقد يلحظ أن النهي والتحذير متصلان اتصالا شديدا بظروف السيرة النبوية التي كان المؤمنون والمشركون، وبخاصة القرشيين من هؤلاء فيها في حالة عداء وحرب. وكان موقف اليهود الكافرين بالرسالة المحمدية فيها موقف تعطيل ومناوأة ودسّ وعداء أيضا. وكان موقف نصارى الشام بخاصة موقف ترقب وتربص وعداء. وكان بين المؤمنين المكيين ومشركي قريش أوشاج رحم وقربى وكان بين مؤمني المدينة ومشركيها ومنافقيها أوشاج قربى رحم. وكان بين مؤمني المدينة واليهود فيها محالفات قديمة. وكل هذا ملموح في الآيات التي أوردنا أرقامها آنفا وفي سياق بعضها. وهذا يفسر الشدة التي انطوت في الآيات من جهة ويسوغ القول إن الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى جاءت لمعالجة الموقف الراهن من جهة أخرى. غير أن المبدأ الذي احتوته الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى يظل محكما واجب الرعاية في كل ظرف مماثل وفي نطاق ما نوهنا بسداده
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت تحذيرا مكررا للمؤمنين من تولي الكافرين دون المؤمنين إلا إذا كان بقصد التقية حين الاضطرار. وتنبيها إلى أن الله تعالى يعلم كل ما يبدونه ويسرونه، وأن كل نفس سوف تجد أمامها يوم القيامة ما عملته من خير وشر. فيتمنون حينئذ أن لو كان ما عملوه من سوء وشرّ بعيدا عنهم، وتوكيدا على المسلمين بوجوب طاعة الله والرسول، وبيانا بكون طاعة الله ومحبته منوطتان بطاعة الرسول.
تعليق على الآية
﴿ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى الآية [ ٣٢ ]
ولقد روى المفسرون١ في صدد هذه الآيات روايات عديدة ؛ حيث روى بعضهم أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في بعض المؤمنين أو المنافقين المتظاهرين بالإسلام الذين كانوا يوالون اليهود أو المشركين وأن الآيتين الأخيرتين نزلتا في النصارى الذين كانوا يقولون إننا نعظم عيسى حبا لله، أو نزلتا في حق وفد نجران لقولهم نحن نحب الله، أو في حق المشركين الذين كانوا يقولون : إننا نعظم الملائكة حبا لله، أو في حق اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه. وقد حكت هذا عنهم آية سورة المائدة هذه :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( ١٨ ) ﴾ ومما رواه بعضهم٢ أنها نزلت في حادث حاطب بن أبي بلتعة أحد المهاجرين بسبب كتابته لأبي سفيان بخبر عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم على الزحف على مكة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والرواية الأخيرة بعيدة في ظرفها. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزأة وفي ظروف مختلفة مع أن المستلهم من روحها أنها سياق واحد وأنها متصلة بمشهد المناظرة والحجاج وقد جاءت استطرادية بعدما حملت الآيات السابقة على أهل الكتاب ومنهم اليهود ونددت بكفرهم ومراوغتهم وتبجحهم بالحظوة لدى الله وافترائهم عليه وربطت بين موقفهم الحاضر وموقف آبائهم الغابر لتحذر المؤمنين من موالاتهم ؛ حيث كان بين قبائل اليهود وقبيلتي الأوس والخزرج حلف وولاء قديمان على ما شرحناه في سياق آيات سورة البقرة [ ٨٤ ـ ٨٥ ] وأنها تضمنت دعوة لأهل الكتاب إلى اتباع النبي إذا كانوا حقا يحبون الله ؛ لأنه هو الهادي إلى طريق الله القويم الذي ليس فيه عوج ولا تعقيد ولا انحراف. ولما كانت الآيات التالية لهذه الآيات تلهم أنها في صدد مشهد ثان من مشاهد المناظرة حول العقيدة النصرانية، فإنه يصحّ أن يقال : إن الآيات الخمس جاءت كذلك ختاما لما اقتضت حكمة التنزيل وحيه في صدد المشهد الأول.
وبقطع النظر عن صلة الآيات بمشهد المناظرة، ففي الآية الأولى منها تشريع إسلامي محكم في ذاته. وفي الآيتين التاليتين تدعيم لهذا التشريع.
ولقد انطوى في الآية الأولى مبدآن في صدد تنظيم مناسبات المؤمنين مع غيرهم :
الأول : عدم جواز اتخاذ المؤمنين من غيرهم نصراء وأولياء بدلا من المؤمنين في أي حال.
الثاني : تسويغ مداراة المؤمنين لغيرهم في الظروف التي توجب هذه المداراة لدفع الأذى والشر والضرر.
وفيما يلي شرح لمدى الآية وما يروى في صددها من أقوال وأحكام وتعليق عليه :
١ ـ لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل أو يوردونها لأنفسهم في صدد الفقرة الأولى. من ذلك أن النهي يشمل التناصر والتحالف مع الكفار. ويشمل كذلك اتخاذهم بطانة أو اطلاعهم على أسرار المسلمين ولو كان بينهم قربى رحم أو جنس. ومما قالوه في تأويل ﴿ فليس من الله من شيء ﴾ : إنها بمعنى براءة الله منه والإيذان بأن فاعل ذلك مرتدّ عن الإسلام. وبعضهم أدار الكلام على اعتبار أن النهي هو عن موالاة الكفار الأعداء، من حيث إن هناك كفارا غير أعداء مسالمين أو موادين أو حياديين ومعاهدين. وفي كل هذه الأقوال صواب وسداد.
٢ ـ وتنبيه يهدد المئات ولو كان الأمر بديهيا على أن كلمة ﴿ الكافرين ﴾ في الآية هي نعت لكل جاحد لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم سواء أكان كتابيا أم مشركا أم وثنيا أو ملحدا. وفي آيات في سورة المائدة نهي صريح عن موالاة اليهود والنصارى وأهل الكتاب [ ٥٢ ـ ٥٨ ] حيث يكون في ذلك تدعيم قرآني.
٣ ـ والآية هي أولى آيات ورد فيها النهي عن تولي الكافرين. وقد تكرر ذلك مرارا في سور أخرى حيث يبدو أن من المسلمين سواء منهم المخلصون أو المنافقون المتظاهرون بالإسلام لم يمتنعوا عن تولي الكفار فاقتضت حكمة التنزيل موالاة النهي وبتشديد أقوى مما جاء في الآية.
٤ ـ والنهي في الآية مطلق أي بدون تعليل حيث توجب عدم تولي الكافرين مطلقا. والآيات التي نزلت بعد ذلك مختلفة الصيغ. منها ما جاء مطلقا ومماثلا لهذه الآية مثل آيات سورة النساء [ ١٣٨ و ١٣٩ و ١٤٤ ] والمائدة [ ٥١ و ٥٢ ] والتوبة [ ٢٣ و ٢٤ ] ومنها ما جاء معللا بكون النهي هو للأعداء والمعتدين على المسلمين والإسلام مثل آية المائدة [ ٥٨ ] والممتحنة [ ١ ـ ٢ ].
٥ ـ وفي سورة الممتحنة هذه الآية ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٨ ) ﴾ حيث يمكن أن يكون انطوى فيها استدراك تدعيمي لتعليل النهي المذكور آنفا. وفي الآية التي تلي هذه الآية تدعيم حاسم حيث جاء فيها ﴿ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٩ ) ﴾ والمتبادر أنه يصح أن تعتبر الآيتان ضابطين محكمين لموقف المسلمين من غيرهم مع القول : إن جملة ﴿ أن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ تنسحب على مختلف أنواع التعامل والتعايش والتعاون. والله تعالى أعلم.
٦ ـ وللسيد رشيد رضا كلام سديد وجيه قاله في سياق تفسير آية آل عمران التي نحن بصددها حيث يقول : إنه ليس ما يمنع المسلمين من أن يتحالفوا ويتفقوا مع غيرهم من غير أعدائهم إذا كان لهم مصلحة فضلا عن التعامل الذي ينطوي في آية الممتحنة [ ٨ ] ويسوق كدليل على ذلك حلف خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على شركهم نتيجة لصلح الحديبية ؛ حيث اتفق النبي وقريش على أن يخيروا القبيلتين النازلتين في منطقة مكة وهما بكر وخزاعة بين الدخول في صلح النبي أو صلح قريش فاختارت خزاعة النبي واختارت بكر قريشا ؛ لأنه كان بين القبيلتين عداء وحروب. وصار الصلح شاملا لكلتا القبيلتين مع الحليف الذي اختارته، وهناك دليل آخر وهو كتاب الموادعة الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم حينما حلّ في المدينة وجعله شاملا لليهود فيها. فأقرهم على دينهم وعلى ما كان بينهم وبين الأوس والخزرج من محالفات وأوجب عليهم النصرة للمؤمنين مع حلفائهم، وأوجب لهم النصرة من المؤمنين وحلفائهم وأوجب لهم وعليهم تبادل المساعدات٣. وواضح من الأمثلة أنها شاملة للكتابيين والمشركين. وكل من هو غير مؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر. سواء أكان كتابيا أم غير كتابي.
وعلى هذا يصحّ أن يقال : إن لأولي الأمر من المسلمين أن يلحظوا ما فيه مصلحة المسلمين في صلاتهم مع غيرهم وأن الضابط الذي يجب أن يضبط عملهم هو أولا ما يعرف في الكفار من نوايا المسالمة والموادة أو العداء والغدر والخيانة. فمن كانت نواياه سلمية ودّية جاءت محالفته والاستعانة به في شتى المجالات إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين. وثانيا الحذر الدائم وعدم الاندفاع من حسن الظن والظواهر. ويمكن أن يقال إجمالا : إن آيتي سورة الممتحنة تصحان أن تكون ضابطا في هذه الحالات. والله أعلم.
٧ ـ ولقد جاء في سورة المجادلة التي نزلت بعد هذه السورة حسب روايات ترتيب النزول هذه الآيات :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ( ٢٠ ) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ٢١ ) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ... ﴾ والمتبادر أن الموادة هي دون التولي والتناصر والتحالف الذي نهت عنه الآيات الأخرى. ويمكن أن تكون تبادل محبة وحسن معاشرة ومشايعة وما في نطاق ذلك وأسلوب الآية قوي نافذ. وقد انطوت على تعديل لمدى الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء بحيث صار النهي القرآني شاملا للموالاة والموادة في مداهما المشروع مع التنبيه على مدى جملة ﴿ من حاد الله ورسوله ﴾ التي هي صريحة بأنها في صدد الكفار الأعداء المحاربين لله ورسوله.
٨ ـ وقد يلحظ أن النهي والتحذير متصلان اتصالا شديدا بظروف السيرة النبوية التي كان المؤمنون والمشركون، وبخاصة القرشيين من هؤلاء فيها في حالة عداء وحرب. وكان موقف اليهود الكافرين بالرسالة المحمدية فيها موقف تعطيل ومناوأة ودسّ وعداء أيضا. وكان موقف نصارى الشام بخاصة موقف ترقب وتربص وعداء. وكان بين المؤمنين المكيين ومشركي قريش أوشاج رحم وقربى وكان بين مؤمني المدينة ومشركيها ومنافقيها أوشاج قربى رحم. وكان بين مؤمني المدينة واليهود فيها محالفات قديمة. وكل هذا ملموح في الآيات التي أوردنا أرقامها آنفا وفي سياق بعضها. وهذا يفسر الشدة التي انطوت في الآيات من جهة ويسوغ القول إن الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى جاءت لمعالجة الموقف الراهن من جهة أخرى. غير أن المبدأ الذي احتوته الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى يظل محكما واجب الرعاية في كل ظرف مماثل وفي نطاق ما نوهنا بسداده
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت تحذيرا مكررا للمؤمنين من تولي الكافرين دون المؤمنين إلا إذا كان بقصد التقية حين الاضطرار. وتنبيها إلى أن الله تعالى يعلم كل ما يبدونه ويسرونه، وأن كل نفس سوف تجد أمامها يوم القيامة ما عملته من خير وشر. فيتمنون حينئذ أن لو كان ما عملوه من سوء وشرّ بعيدا عنهم، وتوكيدا على المسلمين بوجوب طاعة الله والرسول، وبيانا بكون طاعة الله ومحبته منوطتان بطاعة الرسول.
تعليق على الآية
﴿ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى الآية [ ٣٢ ]
ولقد روى المفسرون١ في صدد هذه الآيات روايات عديدة ؛ حيث روى بعضهم أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في بعض المؤمنين أو المنافقين المتظاهرين بالإسلام الذين كانوا يوالون اليهود أو المشركين وأن الآيتين الأخيرتين نزلتا في النصارى الذين كانوا يقولون إننا نعظم عيسى حبا لله، أو نزلتا في حق وفد نجران لقولهم نحن نحب الله، أو في حق المشركين الذين كانوا يقولون : إننا نعظم الملائكة حبا لله، أو في حق اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه. وقد حكت هذا عنهم آية سورة المائدة هذه :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( ١٨ ) ﴾ ومما رواه بعضهم٢ أنها نزلت في حادث حاطب بن أبي بلتعة أحد المهاجرين بسبب كتابته لأبي سفيان بخبر عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم على الزحف على مكة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والرواية الأخيرة بعيدة في ظرفها. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزأة وفي ظروف مختلفة مع أن المستلهم من روحها أنها سياق واحد وأنها متصلة بمشهد المناظرة والحجاج وقد جاءت استطرادية بعدما حملت الآيات السابقة على أهل الكتاب ومنهم اليهود ونددت بكفرهم ومراوغتهم وتبجحهم بالحظوة لدى الله وافترائهم عليه وربطت بين موقفهم الحاضر وموقف آبائهم الغابر لتحذر المؤمنين من موالاتهم ؛ حيث كان بين قبائل اليهود وقبيلتي الأوس والخزرج حلف وولاء قديمان على ما شرحناه في سياق آيات سورة البقرة [ ٨٤ ـ ٨٥ ] وأنها تضمنت دعوة لأهل الكتاب إلى اتباع النبي إذا كانوا حقا يحبون الله ؛ لأنه هو الهادي إلى طريق الله القويم الذي ليس فيه عوج ولا تعقيد ولا انحراف. ولما كانت الآيات التالية لهذه الآيات تلهم أنها في صدد مشهد ثان من مشاهد المناظرة حول العقيدة النصرانية، فإنه يصحّ أن يقال : إن الآيات الخمس جاءت كذلك ختاما لما اقتضت حكمة التنزيل وحيه في صدد المشهد الأول.
وبقطع النظر عن صلة الآيات بمشهد المناظرة، ففي الآية الأولى منها تشريع إسلامي محكم في ذاته. وفي الآيتين التاليتين تدعيم لهذا التشريع.
ولقد انطوى في الآية الأولى مبدآن في صدد تنظيم مناسبات المؤمنين مع غيرهم :
الأول : عدم جواز اتخاذ المؤمنين من غيرهم نصراء وأولياء بدلا من المؤمنين في أي حال.
الثاني : تسويغ مداراة المؤمنين لغيرهم في الظروف التي توجب هذه المداراة لدفع الأذى والشر والضرر.
وفيما يلي شرح لمدى الآية وما يروى في صددها من أقوال وأحكام وتعليق عليه :
١ ـ لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل أو يوردونها لأنفسهم في صدد الفقرة الأولى. من ذلك أن النهي يشمل التناصر والتحالف مع الكفار. ويشمل كذلك اتخاذهم بطانة أو اطلاعهم على أسرار المسلمين ولو كان بينهم قربى رحم أو جنس. ومما قالوه في تأويل ﴿ فليس من الله من شيء ﴾ : إنها بمعنى براءة الله منه والإيذان بأن فاعل ذلك مرتدّ عن الإسلام. وبعضهم أدار الكلام على اعتبار أن النهي هو عن موالاة الكفار الأعداء، من حيث إن هناك كفارا غير أعداء مسالمين أو موادين أو حياديين ومعاهدين. وفي كل هذه الأقوال صواب وسداد.
٢ ـ وتنبيه يهدد المئات ولو كان الأمر بديهيا على أن كلمة ﴿ الكافرين ﴾ في الآية هي نعت لكل جاحد لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم سواء أكان كتابيا أم مشركا أم وثنيا أو ملحدا. وفي آيات في سورة المائدة نهي صريح عن موالاة اليهود والنصارى وأهل الكتاب [ ٥٢ ـ ٥٨ ] حيث يكون في ذلك تدعيم قرآني.
٣ ـ والآية هي أولى آيات ورد فيها النهي عن تولي الكافرين. وقد تكرر ذلك مرارا في سور أخرى حيث يبدو أن من المسلمين سواء منهم المخلصون أو المنافقون المتظاهرون بالإسلام لم يمتنعوا عن تولي الكفار فاقتضت حكمة التنزيل موالاة النهي وبتشديد أقوى مما جاء في الآية.
٤ ـ والنهي في الآية مطلق أي بدون تعليل حيث توجب عدم تولي الكافرين مطلقا. والآيات التي نزلت بعد ذلك مختلفة الصيغ. منها ما جاء مطلقا ومماثلا لهذه الآية مثل آيات سورة النساء [ ١٣٨ و ١٣٩ و ١٤٤ ] والمائدة [ ٥١ و ٥٢ ] والتوبة [ ٢٣ و ٢٤ ] ومنها ما جاء معللا بكون النهي هو للأعداء والمعتدين على المسلمين والإسلام مثل آية المائدة [ ٥٨ ] والممتحنة [ ١ ـ ٢ ].
٥ ـ وفي سورة الممتحنة هذه الآية ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٨ ) ﴾ حيث يمكن أن يكون انطوى فيها استدراك تدعيمي لتعليل النهي المذكور آنفا. وفي الآية التي تلي هذه الآية تدعيم حاسم حيث جاء فيها ﴿ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٩ ) ﴾ والمتبادر أنه يصح أن تعتبر الآيتان ضابطين محكمين لموقف المسلمين من غيرهم مع القول : إن جملة ﴿ أن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ تنسحب على مختلف أنواع التعامل والتعايش والتعاون. والله تعالى أعلم.
٦ ـ وللسيد رشيد رضا كلام سديد وجيه قاله في سياق تفسير آية آل عمران التي نحن بصددها حيث يقول : إنه ليس ما يمنع المسلمين من أن يتحالفوا ويتفقوا مع غيرهم من غير أعدائهم إذا كان لهم مصلحة فضلا عن التعامل الذي ينطوي في آية الممتحنة [ ٨ ] ويسوق كدليل على ذلك حلف خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على شركهم نتيجة لصلح الحديبية ؛ حيث اتفق النبي وقريش على أن يخيروا القبيلتين النازلتين في منطقة مكة وهما بكر وخزاعة بين الدخول في صلح النبي أو صلح قريش فاختارت خزاعة النبي واختارت بكر قريشا ؛ لأنه كان بين القبيلتين عداء وحروب. وصار الصلح شاملا لكلتا القبيلتين مع الحليف الذي اختارته، وهناك دليل آخر وهو كتاب الموادعة الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم حينما حلّ في المدينة وجعله شاملا لليهود فيها. فأقرهم على دينهم وعلى ما كان بينهم وبين الأوس والخزرج من محالفات وأوجب عليهم النصرة للمؤمنين مع حلفائهم، وأوجب لهم النصرة من المؤمنين وحلفائهم وأوجب لهم وعليهم تبادل المساعدات٣. وواضح من الأمثلة أنها شاملة للكتابيين والمشركين. وكل من هو غير مؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر. سواء أكان كتابيا أم غير كتابي.
وعلى هذا يصحّ أن يقال : إن لأولي الأمر من المسلمين أن يلحظوا ما فيه مصلحة المسلمين في صلاتهم مع غيرهم وأن الضابط الذي يجب أن يضبط عملهم هو أولا ما يعرف في الكفار من نوايا المسالمة والموادة أو العداء والغدر والخيانة. فمن كانت نواياه سلمية ودّية جاءت محالفته والاستعانة به في شتى المجالات إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين. وثانيا الحذر الدائم وعدم الاندفاع من حسن الظن والظواهر. ويمكن أن يقال إجمالا : إن آيتي سورة الممتحنة تصحان أن تكون ضابطا في هذه الحالات. والله أعلم.
٧ ـ ولقد جاء في سورة المجادلة التي نزلت بعد هذه السورة حسب روايات ترتيب النزول هذه الآيات :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ( ٢٠ ) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ٢١ ) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ... ﴾ والمتبادر أن الموادة هي دون التولي والتناصر والتحالف الذي نهت عنه الآيات الأخرى. ويمكن أن تكون تبادل محبة وحسن معاشرة ومشايعة وما في نطاق ذلك وأسلوب الآية قوي نافذ. وقد انطوت على تعديل لمدى الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء بحيث صار النهي القرآني شاملا للموالاة والموادة في مداهما المشروع مع التنبيه على مدى جملة ﴿ من حاد الله ورسوله ﴾ التي هي صريحة بأنها في صدد الكفار الأعداء المحاربين لله ورسوله.
٨ ـ وقد يلحظ أن النهي والتحذير متصلان اتصالا شديدا بظروف السيرة النبوية التي كان المؤمنون والمشركون، وبخاصة القرشيين من هؤلاء فيها في حالة عداء وحرب. وكان موقف اليهود الكافرين بالرسالة المحمدية فيها موقف تعطيل ومناوأة ودسّ وعداء أيضا. وكان موقف نصارى الشام بخاصة موقف ترقب وتربص وعداء. وكان بين المؤمنين المكيين ومشركي قريش أوشاج رحم وقربى وكان بين مؤمني المدينة ومشركيها ومنافقيها أوشاج قربى رحم. وكان بين مؤمني المدينة واليهود فيها محالفات قديمة. وكل هذا ملموح في الآيات التي أوردنا أرقامها آنفا وفي سياق بعضها. وهذا يفسر الشدة التي انطوت في الآيات من جهة ويسوغ القول إن الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى جاءت لمعالجة الموقف الراهن من جهة أخرى. غير أن المبدأ الذي احتوته الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى يظل محكما واجب الرعاية في كل ظرف مماثل وفي نطاق ما نوهنا بسداده
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت تحذيرا مكررا للمؤمنين من تولي الكافرين دون المؤمنين إلا إذا كان بقصد التقية حين الاضطرار. وتنبيها إلى أن الله تعالى يعلم كل ما يبدونه ويسرونه، وأن كل نفس سوف تجد أمامها يوم القيامة ما عملته من خير وشر. فيتمنون حينئذ أن لو كان ما عملوه من سوء وشرّ بعيدا عنهم، وتوكيدا على المسلمين بوجوب طاعة الله والرسول، وبيانا بكون طاعة الله ومحبته منوطتان بطاعة الرسول.
تعليق على الآية
﴿ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى الآية [ ٣٢ ]
ولقد روى المفسرون١ في صدد هذه الآيات روايات عديدة ؛ حيث روى بعضهم أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في بعض المؤمنين أو المنافقين المتظاهرين بالإسلام الذين كانوا يوالون اليهود أو المشركين وأن الآيتين الأخيرتين نزلتا في النصارى الذين كانوا يقولون إننا نعظم عيسى حبا لله، أو نزلتا في حق وفد نجران لقولهم نحن نحب الله، أو في حق المشركين الذين كانوا يقولون : إننا نعظم الملائكة حبا لله، أو في حق اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه. وقد حكت هذا عنهم آية سورة المائدة هذه :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( ١٨ ) ﴾ ومما رواه بعضهم٢ أنها نزلت في حادث حاطب بن أبي بلتعة أحد المهاجرين بسبب كتابته لأبي سفيان بخبر عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم على الزحف على مكة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والرواية الأخيرة بعيدة في ظرفها. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزأة وفي ظروف مختلفة مع أن المستلهم من روحها أنها سياق واحد وأنها متصلة بمشهد المناظرة والحجاج وقد جاءت استطرادية بعدما حملت الآيات السابقة على أهل الكتاب ومنهم اليهود ونددت بكفرهم ومراوغتهم وتبجحهم بالحظوة لدى الله وافترائهم عليه وربطت بين موقفهم الحاضر وموقف آبائهم الغابر لتحذر المؤمنين من موالاتهم ؛ حيث كان بين قبائل اليهود وقبيلتي الأوس والخزرج حلف وولاء قديمان على ما شرحناه في سياق آيات سورة البقرة [ ٨٤ ـ ٨٥ ] وأنها تضمنت دعوة لأهل الكتاب إلى اتباع النبي إذا كانوا حقا يحبون الله ؛ لأنه هو الهادي إلى طريق الله القويم الذي ليس فيه عوج ولا تعقيد ولا انحراف. ولما كانت الآيات التالية لهذه الآيات تلهم أنها في صدد مشهد ثان من مشاهد المناظرة حول العقيدة النصرانية، فإنه يصحّ أن يقال : إن الآيات الخمس جاءت كذلك ختاما لما اقتضت حكمة التنزيل وحيه في صدد المشهد الأول.
وبقطع النظر عن صلة الآيات بمشهد المناظرة، ففي الآية الأولى منها تشريع إسلامي محكم في ذاته. وفي الآيتين التاليتين تدعيم لهذا التشريع.
ولقد انطوى في الآية الأولى مبدآن في صدد تنظيم مناسبات المؤمنين مع غيرهم :
الأول : عدم جواز اتخاذ المؤمنين من غيرهم نصراء وأولياء بدلا من المؤمنين في أي حال.
الثاني : تسويغ مداراة المؤمنين لغيرهم في الظروف التي توجب هذه المداراة لدفع الأذى والشر والضرر.
وفيما يلي شرح لمدى الآية وما يروى في صددها من أقوال وأحكام وتعليق عليه :
١ ـ لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل أو يوردونها لأنفسهم في صدد الفقرة الأولى. من ذلك أن النهي يشمل التناصر والتحالف مع الكفار. ويشمل كذلك اتخاذهم بطانة أو اطلاعهم على أسرار المسلمين ولو كان بينهم قربى رحم أو جنس. ومما قالوه في تأويل ﴿ فليس من الله من شيء ﴾ : إنها بمعنى براءة الله منه والإيذان بأن فاعل ذلك مرتدّ عن الإسلام. وبعضهم أدار الكلام على اعتبار أن النهي هو عن موالاة الكفار الأعداء، من حيث إن هناك كفارا غير أعداء مسالمين أو موادين أو حياديين ومعاهدين. وفي كل هذه الأقوال صواب وسداد.
٢ ـ وتنبيه يهدد المئات ولو كان الأمر بديهيا على أن كلمة ﴿ الكافرين ﴾ في الآية هي نعت لكل جاحد لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم سواء أكان كتابيا أم مشركا أم وثنيا أو ملحدا. وفي آيات في سورة المائدة نهي صريح عن موالاة اليهود والنصارى وأهل الكتاب [ ٥٢ ـ ٥٨ ] حيث يكون في ذلك تدعيم قرآني.
٣ ـ والآية هي أولى آيات ورد فيها النهي عن تولي الكافرين. وقد تكرر ذلك مرارا في سور أخرى حيث يبدو أن من المسلمين سواء منهم المخلصون أو المنافقون المتظاهرون بالإسلام لم يمتنعوا عن تولي الكفار فاقتضت حكمة التنزيل موالاة النهي وبتشديد أقوى مما جاء في الآية.
٤ ـ والنهي في الآية مطلق أي بدون تعليل حيث توجب عدم تولي الكافرين مطلقا. والآيات التي نزلت بعد ذلك مختلفة الصيغ. منها ما جاء مطلقا ومماثلا لهذه الآية مثل آيات سورة النساء [ ١٣٨ و ١٣٩ و ١٤٤ ] والمائدة [ ٥١ و ٥٢ ] والتوبة [ ٢٣ و ٢٤ ] ومنها ما جاء معللا بكون النهي هو للأعداء والمعتدين على المسلمين والإسلام مثل آية المائدة [ ٥٨ ] والممتحنة [ ١ ـ ٢ ].
٥ ـ وفي سورة الممتحنة هذه الآية ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٨ ) ﴾ حيث يمكن أن يكون انطوى فيها استدراك تدعيمي لتعليل النهي المذكور آنفا. وفي الآية التي تلي هذه الآية تدعيم حاسم حيث جاء فيها ﴿ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٩ ) ﴾ والمتبادر أنه يصح أن تعتبر الآيتان ضابطين محكمين لموقف المسلمين من غيرهم مع القول : إن جملة ﴿ أن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ تنسحب على مختلف أنواع التعامل والتعايش والتعاون. والله تعالى أعلم.
٦ ـ وللسيد رشيد رضا كلام سديد وجيه قاله في سياق تفسير آية آل عمران التي نحن بصددها حيث يقول : إنه ليس ما يمنع المسلمين من أن يتحالفوا ويتفقوا مع غيرهم من غير أعدائهم إذا كان لهم مصلحة فضلا عن التعامل الذي ينطوي في آية الممتحنة [ ٨ ] ويسوق كدليل على ذلك حلف خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على شركهم نتيجة لصلح الحديبية ؛ حيث اتفق النبي وقريش على أن يخيروا القبيلتين النازلتين في منطقة مكة وهما بكر وخزاعة بين الدخول في صلح النبي أو صلح قريش فاختارت خزاعة النبي واختارت بكر قريشا ؛ لأنه كان بين القبيلتين عداء وحروب. وصار الصلح شاملا لكلتا القبيلتين مع الحليف الذي اختارته، وهناك دليل آخر وهو كتاب الموادعة الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم حينما حلّ في المدينة وجعله شاملا لليهود فيها. فأقرهم على دينهم وعلى ما كان بينهم وبين الأوس والخزرج من محالفات وأوجب عليهم النصرة للمؤمنين مع حلفائهم، وأوجب لهم النصرة من المؤمنين وحلفائهم وأوجب لهم وعليهم تبادل المساعدات٣. وواضح من الأمثلة أنها شاملة للكتابيين والمشركين. وكل من هو غير مؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر. سواء أكان كتابيا أم غير كتابي.
وعلى هذا يصحّ أن يقال : إن لأولي الأمر من المسلمين أن يلحظوا ما فيه مصلحة المسلمين في صلاتهم مع غيرهم وأن الضابط الذي يجب أن يضبط عملهم هو أولا ما يعرف في الكفار من نوايا المسالمة والموادة أو العداء والغدر والخيانة. فمن كانت نواياه سلمية ودّية جاءت محالفته والاستعانة به في شتى المجالات إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين. وثانيا الحذر الدائم وعدم الاندفاع من حسن الظن والظواهر. ويمكن أن يقال إجمالا : إن آيتي سورة الممتحنة تصحان أن تكون ضابطا في هذه الحالات. والله أعلم.
٧ ـ ولقد جاء في سورة المجادلة التي نزلت بعد هذه السورة حسب روايات ترتيب النزول هذه الآيات :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ( ٢٠ ) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ٢١ ) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ... ﴾ والمتبادر أن الموادة هي دون التولي والتناصر والتحالف الذي نهت عنه الآيات الأخرى. ويمكن أن تكون تبادل محبة وحسن معاشرة ومشايعة وما في نطاق ذلك وأسلوب الآية قوي نافذ. وقد انطوت على تعديل لمدى الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء بحيث صار النهي القرآني شاملا للموالاة والموادة في مداهما المشروع مع التنبيه على مدى جملة ﴿ من حاد الله ورسوله ﴾ التي هي صريحة بأنها في صدد الكفار الأعداء المحاربين لله ورسوله.
٨ ـ وقد يلحظ أن النهي والتحذير متصلان اتصالا شديدا بظروف السيرة النبوية التي كان المؤمنون والمشركون، وبخاصة القرشيين من هؤلاء فيها في حالة عداء وحرب. وكان موقف اليهود الكافرين بالرسالة المحمدية فيها موقف تعطيل ومناوأة ودسّ وعداء أيضا. وكان موقف نصارى الشام بخاصة موقف ترقب وتربص وعداء. وكان بين المؤمنين المكيين ومشركي قريش أوشاج رحم وقربى وكان بين مؤمني المدينة ومشركيها ومنافقيها أوشاج قربى رحم. وكان بين مؤمني المدينة واليهود فيها محالفات قديمة. وكل هذا ملموح في الآيات التي أوردنا أرقامها آنفا وفي سياق بعضها. وهذا يفسر الشدة التي انطوت في الآيات من جهة ويسوغ القول إن الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى جاءت لمعالجة الموقف الراهن من جهة أخرى. غير أن المبدأ الذي احتوته الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى يظل محكما واجب الرعاية في كل ظرف مماثل وفي نطاق ما نوهنا بسداده
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت تحذيرا مكررا للمؤمنين من تولي الكافرين دون المؤمنين إلا إذا كان بقصد التقية حين الاضطرار. وتنبيها إلى أن الله تعالى يعلم كل ما يبدونه ويسرونه، وأن كل نفس سوف تجد أمامها يوم القيامة ما عملته من خير وشر. فيتمنون حينئذ أن لو كان ما عملوه من سوء وشرّ بعيدا عنهم، وتوكيدا على المسلمين بوجوب طاعة الله والرسول، وبيانا بكون طاعة الله ومحبته منوطتان بطاعة الرسول.
تعليق على الآية
﴿ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى الآية [ ٣٢ ]
ولقد روى المفسرون١ في صدد هذه الآيات روايات عديدة ؛ حيث روى بعضهم أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في بعض المؤمنين أو المنافقين المتظاهرين بالإسلام الذين كانوا يوالون اليهود أو المشركين وأن الآيتين الأخيرتين نزلتا في النصارى الذين كانوا يقولون إننا نعظم عيسى حبا لله، أو نزلتا في حق وفد نجران لقولهم نحن نحب الله، أو في حق المشركين الذين كانوا يقولون : إننا نعظم الملائكة حبا لله، أو في حق اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه. وقد حكت هذا عنهم آية سورة المائدة هذه :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( ١٨ ) ﴾ ومما رواه بعضهم٢ أنها نزلت في حادث حاطب بن أبي بلتعة أحد المهاجرين بسبب كتابته لأبي سفيان بخبر عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم على الزحف على مكة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والرواية الأخيرة بعيدة في ظرفها. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزأة وفي ظروف مختلفة مع أن المستلهم من روحها أنها سياق واحد وأنها متصلة بمشهد المناظرة والحجاج وقد جاءت استطرادية بعدما حملت الآيات السابقة على أهل الكتاب ومنهم اليهود ونددت بكفرهم ومراوغتهم وتبجحهم بالحظوة لدى الله وافترائهم عليه وربطت بين موقفهم الحاضر وموقف آبائهم الغابر لتحذر المؤمنين من موالاتهم ؛ حيث كان بين قبائل اليهود وقبيلتي الأوس والخزرج حلف وولاء قديمان على ما شرحناه في سياق آيات سورة البقرة [ ٨٤ ـ ٨٥ ] وأنها تضمنت دعوة لأهل الكتاب إلى اتباع النبي إذا كانوا حقا يحبون الله ؛ لأنه هو الهادي إلى طريق الله القويم الذي ليس فيه عوج ولا تعقيد ولا انحراف. ولما كانت الآيات التالية لهذه الآيات تلهم أنها في صدد مشهد ثان من مشاهد المناظرة حول العقيدة النصرانية، فإنه يصحّ أن يقال : إن الآيات الخمس جاءت كذلك ختاما لما اقتضت حكمة التنزيل وحيه في صدد المشهد الأول.
وبقطع النظر عن صلة الآيات بمشهد المناظرة، ففي الآية الأولى منها تشريع إسلامي محكم في ذاته. وفي الآيتين التاليتين تدعيم لهذا التشريع.
ولقد انطوى في الآية الأولى مبدآن في صدد تنظيم مناسبات المؤمنين مع غيرهم :
الأول : عدم جواز اتخاذ المؤمنين من غيرهم نصراء وأولياء بدلا من المؤمنين في أي حال.
الثاني : تسويغ مداراة المؤمنين لغيرهم في الظروف التي توجب هذه المداراة لدفع الأذى والشر والضرر.
وفيما يلي شرح لمدى الآية وما يروى في صددها من أقوال وأحكام وتعليق عليه :
١ ـ لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل أو يوردونها لأنفسهم في صدد الفقرة الأولى. من ذلك أن النهي يشمل التناصر والتحالف مع الكفار. ويشمل كذلك اتخاذهم بطانة أو اطلاعهم على أسرار المسلمين ولو كان بينهم قربى رحم أو جنس. ومما قالوه في تأويل ﴿ فليس من الله من شيء ﴾ : إنها بمعنى براءة الله منه والإيذان بأن فاعل ذلك مرتدّ عن الإسلام. وبعضهم أدار الكلام على اعتبار أن النهي هو عن موالاة الكفار الأعداء، من حيث إن هناك كفارا غير أعداء مسالمين أو موادين أو حياديين ومعاهدين. وفي كل هذه الأقوال صواب وسداد.
٢ ـ وتنبيه يهدد المئات ولو كان الأمر بديهيا على أن كلمة ﴿ الكافرين ﴾ في الآية هي نعت لكل جاحد لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم سواء أكان كتابيا أم مشركا أم وثنيا أو ملحدا. وفي آيات في سورة المائدة نهي صريح عن موالاة اليهود والنصارى وأهل الكتاب [ ٥٢ ـ ٥٨ ] حيث يكون في ذلك تدعيم قرآني.
٣ ـ والآية هي أولى آيات ورد فيها النهي عن تولي الكافرين. وقد تكرر ذلك مرارا في سور أخرى حيث يبدو أن من المسلمين سواء منهم المخلصون أو المنافقون المتظاهرون بالإسلام لم يمتنعوا عن تولي الكفار فاقتضت حكمة التنزيل موالاة النهي وبتشديد أقوى مما جاء في الآية.
٤ ـ والنهي في الآية مطلق أي بدون تعليل حيث توجب عدم تولي الكافرين مطلقا. والآيات التي نزلت بعد ذلك مختلفة الصيغ. منها ما جاء مطلقا ومماثلا لهذه الآية مثل آيات سورة النساء [ ١٣٨ و ١٣٩ و ١٤٤ ] والمائدة [ ٥١ و ٥٢ ] والتوبة [ ٢٣ و ٢٤ ] ومنها ما جاء معللا بكون النهي هو للأعداء والمعتدين على المسلمين والإسلام مثل آية المائدة [ ٥٨ ] والممتحنة [ ١ ـ ٢ ].
٥ ـ وفي سورة الممتحنة هذه الآية ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٨ ) ﴾ حيث يمكن أن يكون انطوى فيها استدراك تدعيمي لتعليل النهي المذكور آنفا. وفي الآية التي تلي هذه الآية تدعيم حاسم حيث جاء فيها ﴿ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٩ ) ﴾ والمتبادر أنه يصح أن تعتبر الآيتان ضابطين محكمين لموقف المسلمين من غيرهم مع القول : إن جملة ﴿ أن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ تنسحب على مختلف أنواع التعامل والتعايش والتعاون. والله تعالى أعلم.
٦ ـ وللسيد رشيد رضا كلام سديد وجيه قاله في سياق تفسير آية آل عمران التي نحن بصددها حيث يقول : إنه ليس ما يمنع المسلمين من أن يتحالفوا ويتفقوا مع غيرهم من غير أعدائهم إذا كان لهم مصلحة فضلا عن التعامل الذي ينطوي في آية الممتحنة [ ٨ ] ويسوق كدليل على ذلك حلف خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على شركهم نتيجة لصلح الحديبية ؛ حيث اتفق النبي وقريش على أن يخيروا القبيلتين النازلتين في منطقة مكة وهما بكر وخزاعة بين الدخول في صلح النبي أو صلح قريش فاختارت خزاعة النبي واختارت بكر قريشا ؛ لأنه كان بين القبيلتين عداء وحروب. وصار الصلح شاملا لكلتا القبيلتين مع الحليف الذي اختارته، وهناك دليل آخر وهو كتاب الموادعة الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم حينما حلّ في المدينة وجعله شاملا لليهود فيها. فأقرهم على دينهم وعلى ما كان بينهم وبين الأوس والخزرج من محالفات وأوجب عليهم النصرة للمؤمنين مع حلفائهم، وأوجب لهم النصرة من المؤمنين وحلفائهم وأوجب لهم وعليهم تبادل المساعدات٣. وواضح من الأمثلة أنها شاملة للكتابيين والمشركين. وكل من هو غير مؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر. سواء أكان كتابيا أم غير كتابي.
وعلى هذا يصحّ أن يقال : إن لأولي الأمر من المسلمين أن يلحظوا ما فيه مصلحة المسلمين في صلاتهم مع غيرهم وأن الضابط الذي يجب أن يضبط عملهم هو أولا ما يعرف في الكفار من نوايا المسالمة والموادة أو العداء والغدر والخيانة. فمن كانت نواياه سلمية ودّية جاءت محالفته والاستعانة به في شتى المجالات إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين. وثانيا الحذر الدائم وعدم الاندفاع من حسن الظن والظواهر. ويمكن أن يقال إجمالا : إن آيتي سورة الممتحنة تصحان أن تكون ضابطا في هذه الحالات. والله أعلم.
٧ ـ ولقد جاء في سورة المجادلة التي نزلت بعد هذه السورة حسب روايات ترتيب النزول هذه الآيات :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ( ٢٠ ) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ٢١ ) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ... ﴾ والمتبادر أن الموادة هي دون التولي والتناصر والتحالف الذي نهت عنه الآيات الأخرى. ويمكن أن تكون تبادل محبة وحسن معاشرة ومشايعة وما في نطاق ذلك وأسلوب الآية قوي نافذ. وقد انطوت على تعديل لمدى الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء بحيث صار النهي القرآني شاملا للموالاة والموادة في مداهما المشروع مع التنبيه على مدى جملة ﴿ من حاد الله ورسوله ﴾ التي هي صريحة بأنها في صدد الكفار الأعداء المحاربين لله ورسوله.
٨ ـ وقد يلحظ أن النهي والتحذير متصلان اتصالا شديدا بظروف السيرة النبوية التي كان المؤمنون والمشركون، وبخاصة القرشيين من هؤلاء فيها في حالة عداء وحرب. وكان موقف اليهود الكافرين بالرسالة المحمدية فيها موقف تعطيل ومناوأة ودسّ وعداء أيضا. وكان موقف نصارى الشام بخاصة موقف ترقب وتربص وعداء. وكان بين المؤمنين المكيين ومشركي قريش أوشاج رحم وقربى وكان بين مؤمني المدينة ومشركيها ومنافقيها أوشاج قربى رحم. وكان بين مؤمني المدينة واليهود فيها محالفات قديمة. وكل هذا ملموح في الآيات التي أوردنا أرقامها آنفا وفي سياق بعضها. وهذا يفسر الشدة التي انطوت في الآيات من جهة ويسوغ القول إن الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى جاءت لمعالجة الموقف الراهن من جهة أخرى. غير أن المبدأ الذي احتوته الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى يظل محكما واجب الرعاية في كل ظرف مماثل وفي نطاق ما نوهنا بسداده
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٣٤ ) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا( ١ ) فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٥ ) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( ٣٦ ) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٧ ) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ( ٣٨ ) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ( ٢ ) وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ( ٣ ) وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٣٩ ) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( ٤٠ ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( ٤ ) وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( ٤١ ) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( ٤٢ ) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ( ٤٣ ) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ( ٥ ) وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( ٤٤ ) إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ( ٦ ) اسْمُهُ الْمَسِيحُ ( ٧ ) عِيسَى ( ٨ ) ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٤٥ ) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ٤٦ ) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٤٧ ) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( ٤٨ ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ ( ٩ ) والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٤٩ ) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ( ٥٠ ) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( ٥١ ) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ( ١٠ ) نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٥٢ ) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٥٣ ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ٥٤ ) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٥٥ ) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٥٦ ) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( ٥٧ ) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( ٥٨ ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٥٩ ) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ( ٦٠ ) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ( ١١ ) فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( ٦١ ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٦٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( ٦٣ ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ( ١٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٦٤ ) ﴾ [ ٣٣ ٦٤ ].
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
( ٣ ) حصورا : قيل إنها بمعنى عاجزا عن الفساد. وروى الطبري حديثا عن ابن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من الأرض عودا صغيرا ثم قال : لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود. والحديث ليس من الصحاح. وقال القاضي عياض : إن العجز عن النساء عيب لا يليق بالأنبياء. وقيل في معنى الكلمة : إن الله سمّاه حصورا ؛ لأنه كان متعففا عن النساء ترهبا وتزهدا. وقيل : إن معناها معصوما عن الفواحش. وليس في كتب النصارى التي اطلعنا عليها ذكر لمعنى الحصر بمعنى العجز عن النساء، وإن كان المستفاد منه أن يحيى عليه السلام لم يتزوج.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٣٤ ) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا( ١ ) فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٥ ) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( ٣٦ ) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٧ ) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ( ٣٨ ) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ( ٢ ) وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ( ٣ ) وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٣٩ ) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( ٤٠ ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( ٤ ) وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( ٤١ ) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( ٤٢ ) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ( ٤٣ ) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ( ٥ ) وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( ٤٤ ) إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ( ٦ ) اسْمُهُ الْمَسِيحُ ( ٧ ) عِيسَى ( ٨ ) ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٤٥ ) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ٤٦ ) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٤٧ ) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( ٤٨ ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ ( ٩ ) والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٤٩ ) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ( ٥٠ ) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( ٥١ ) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ( ١٠ ) نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٥٢ ) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٥٣ ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ٥٤ ) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٥٥ ) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٥٦ ) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( ٥٧ ) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( ٥٨ ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٥٩ ) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ( ٦٠ ) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ( ١١ ) فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( ٦١ ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٦٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( ٦٣ ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ( ١٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٦٤ ) ﴾ [ ٣٣ ٦٤ ].
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٣٤ ) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا( ١ ) فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٥ ) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( ٣٦ ) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٧ ) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ( ٣٨ ) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ( ٢ ) وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ( ٣ ) وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٣٩ ) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( ٤٠ ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( ٤ ) وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( ٤١ ) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( ٤٢ ) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ( ٤٣ ) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ( ٥ ) وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( ٤٤ ) إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ( ٦ ) اسْمُهُ الْمَسِيحُ ( ٧ ) عِيسَى ( ٨ ) ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٤٥ ) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ٤٦ ) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٤٧ ) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( ٤٨ ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ ( ٩ ) والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٤٩ ) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ( ٥٠ ) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( ٥١ ) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ( ١٠ ) نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٥٢ ) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٥٣ ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ٥٤ ) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٥٥ ) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٥٦ ) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( ٥٧ ) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( ٥٨ ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٥٩ ) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ( ٦٠ ) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ( ١١ ) فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( ٦١ ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٦٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( ٦٣ ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ( ١٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٦٤ ) ﴾ [ ٣٣ ٦٤ ].
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٣٤ ) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا( ١ ) فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٥ ) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( ٣٦ ) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٧ ) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ( ٣٨ ) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ( ٢ ) وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ( ٣ ) وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٣٩ ) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( ٤٠ ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( ٤ ) وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( ٤١ ) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( ٤٢ ) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ( ٤٣ ) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ( ٥ ) وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( ٤٤ ) إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ( ٦ ) اسْمُهُ الْمَسِيحُ ( ٧ ) عِيسَى ( ٨ ) ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٤٥ ) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ٤٦ ) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٤٧ ) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( ٤٨ ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ ( ٩ ) والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٤٩ ) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ( ٥٠ ) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( ٥١ ) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ( ١٠ ) نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٥٢ ) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٥٣ ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ٥٤ ) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٥٥ ) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٥٦ ) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( ٥٧ ) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( ٥٨ ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٥٩ ) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ( ٦٠ ) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ( ١١ ) فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( ٦١ ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٦٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( ٦٣ ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ( ١٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٦٤ ) ﴾ [ ٣٣ ٦٤ ].
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
( ٧ ) المسيح : هذه الكلمة تأتي هنا لأول مرة، ثم تكررت وقد أولها بعضهم بمعنى البركة. وبعضهم بمعنى المطهر من الذنوب. وربط بعضهم بين الكلمة وكلمة ( المسح ) العربية فقال : سمي لذلك ؛ لأنه كان يشفي المرضى بالمسح على رؤوسهم، أو لأنه كان ممسوح أخمص القدمين. وظنها بعضهم أنها من السياحة فقال : إنها أطلقت عليه لكثرة سياحاته، وكل هذه الأقوال تخمينية وفي بعضها إغراب ظاهر والكلمة عبرانية معربة. وقد شرحنا مداها في سياق تعليقنا على المسيح والمسيح الدجال في سورة غافر استئناسا مما جاء في بعض الأسفار فليرجع إليه.
( ٨ ) عيسى : الكلمة تعريب لاسم يسوغ أو يوشع العبراني الأصل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٣٤ ) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا( ١ ) فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٥ ) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( ٣٦ ) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٧ ) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ( ٣٨ ) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ( ٢ ) وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ( ٣ ) وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٣٩ ) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( ٤٠ ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( ٤ ) وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( ٤١ ) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( ٤٢ ) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ( ٤٣ ) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ( ٥ ) وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( ٤٤ ) إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ( ٦ ) اسْمُهُ الْمَسِيحُ ( ٧ ) عِيسَى ( ٨ ) ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٤٥ ) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ٤٦ ) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٤٧ ) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( ٤٨ ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ ( ٩ ) والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٤٩ ) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ( ٥٠ ) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( ٥١ ) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ( ١٠ ) نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٥٢ ) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٥٣ ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ٥٤ ) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٥٥ ) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٥٦ ) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( ٥٧ ) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( ٥٨ ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٥٩ ) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ( ٦٠ ) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ( ١١ ) فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( ٦١ ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٦٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( ٦٣ ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ( ١٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٦٤ ) ﴾ [ ٣٣ ٦٤ ].
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٣٤ ) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا( ١ ) فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٥ ) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( ٣٦ ) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٧ ) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ( ٣٨ ) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ( ٢ ) وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ( ٣ ) وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٣٩ ) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( ٤٠ ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( ٤ ) وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( ٤١ ) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( ٤٢ ) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ( ٤٣ ) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ( ٥ ) وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( ٤٤ ) إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ( ٦ ) اسْمُهُ الْمَسِيحُ ( ٧ ) عِيسَى ( ٨ ) ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٤٥ ) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ٤٦ ) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٤٧ ) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( ٤٨ ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ ( ٩ ) والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٤٩ ) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ( ٥٠ ) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( ٥١ ) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ( ١٠ ) نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٥٢ ) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٥٣ ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ٥٤ ) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٥٥ ) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٥٦ ) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( ٥٧ ) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( ٥٨ ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٥٩ ) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ( ٦٠ ) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ( ١١ ) فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( ٦١ ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٦٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( ٦٣ ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ( ١٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٦٤ ) ﴾ [ ٣٣ ٦٤ ].
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
ولقد أرجع بعض الباحثين الكلمة إلى ( حوارا ) الآرامية بمعنى الأبيض. وقالوا : إنها دخيلة على اللغة العربية. واللغة الآرامية واللغة العربية من أصل واحد فلا يمنع أن تكون الكلمة مشتركة في اللغتين ولا يكون محل للقول : إنها دخيلة. والحور في اللغة شدة بياض العين ومنه الحور العين. وقال رشيد رضا : إن بعض كتاب النصارى زعموا أن الكلمة محرفة عن كلمة ( الحواري ) اليونانية. وقد فنّد هذا الزعم لغويا وصرفا واستعمالا تفنيدا قويا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٣٤ ) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا( ١ ) فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٥ ) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( ٣٦ ) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٧ ) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ( ٣٨ ) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ( ٢ ) وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ( ٣ ) وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٣٩ ) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( ٤٠ ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( ٤ ) وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( ٤١ ) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( ٤٢ ) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ( ٤٣ ) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ( ٥ ) وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( ٤٤ ) إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ( ٦ ) اسْمُهُ الْمَسِيحُ ( ٧ ) عِيسَى ( ٨ ) ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٤٥ ) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ٤٦ ) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٤٧ ) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( ٤٨ ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ ( ٩ ) والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٤٩ ) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ( ٥٠ ) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( ٥١ ) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ( ١٠ ) نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٥٢ ) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٥٣ ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ٥٤ ) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٥٥ ) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٥٦ ) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( ٥٧ ) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( ٥٨ ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٥٩ ) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ( ٦٠ ) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ( ١١ ) فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( ٦١ ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٦٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( ٦٣ ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ( ١٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٦٤ ) ﴾ [ ٣٣ ٦٤ ].
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٣٤ ) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا( ١ ) فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٥ ) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( ٣٦ ) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٧ ) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ( ٣٨ ) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ( ٢ ) وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ( ٣ ) وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٣٩ ) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( ٤٠ ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( ٤ ) وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( ٤١ ) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( ٤٢ ) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ( ٤٣ ) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ( ٥ ) وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( ٤٤ ) إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ( ٦ ) اسْمُهُ الْمَسِيحُ ( ٧ ) عِيسَى ( ٨ ) ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٤٥ ) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ٤٦ ) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٤٧ ) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( ٤٨ ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ ( ٩ ) والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٤٩ ) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ( ٥٠ ) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( ٥١ ) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ( ١٠ ) نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٥٢ ) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٥٣ ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ٥٤ ) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٥٥ ) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٥٦ ) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( ٥٧ ) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( ٥٨ ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٥٩ ) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ( ٦٠ ) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ( ١١ ) فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( ٦١ ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٦٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( ٦٣ ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ( ١٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٦٤ ) ﴾ [ ٣٣ ٦٤ ].
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٣٤ ) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا( ١ ) فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٥ ) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( ٣٦ ) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٧ ) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ( ٣٨ ) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ( ٢ ) وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ( ٣ ) وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٣٩ ) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( ٤٠ ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( ٤ ) وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( ٤١ ) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( ٤٢ ) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ( ٤٣ ) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ( ٥ ) وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( ٤٤ ) إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ( ٦ ) اسْمُهُ الْمَسِيحُ ( ٧ ) عِيسَى ( ٨ ) ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٤٥ ) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ٤٦ ) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٤٧ ) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( ٤٨ ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ ( ٩ ) والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٤٩ ) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ( ٥٠ ) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( ٥١ ) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ( ١٠ ) نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٥٢ ) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( ٥٣ ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ٥٤ ) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٥٥ ) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٥٦ ) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( ٥٧ ) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( ٥٨ ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٥٩ ) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ( ٦٠ ) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ( ١١ ) فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( ٦١ ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٦٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( ٦٣ ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ( ١٢ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ٦٤ ) ﴾ [ ٣٣ ٦٤ ].
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٣ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٦٤ ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته :
١ تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢ وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣ وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [ ٦٠ ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤ وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين١ على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام٢ عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ ٦٤ ] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه. وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [ ٥٨ ٦٤ ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٥..
تعليق على الآية
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( ٦٥ ) ﴾
وما بعدها الآيات [ ٦٦ ٦٨ ]
عبارة الآيات واضحة. وفيها :
١ تنديد بأهل الكتاب لمحاجتهم في إبراهيم مع أن التوراة والإنجيل إنما أنزلا من بعده.
٢ وتنديد آخر لمحاجتهم في شيء ليس عندهم به علم.
٣ ونفي لكون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا.
٤ وتقرير بأنه كان مسلما حنيفا غير مشرك وبأن أولى الناس به هم الذين على ملته ومنهم النبي والذين آمنوا به ؛ لأنهم أيضا عليها.
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت في مناسبة جدال في ملة إبراهيم قام بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد نجران واشتراك فيه فريق من أحبار اليهود. حيث قال اليهود : إن ملة إبراهيم هي اليهودية، وقال النصارى : إنها النصرانية. وأسلوب الآيات ومضمونها يؤيدان الرواية. وهناك حديث رواه الترمذي جاء فيه " لما قالت اليهود نحن على دين إبراهيم وقالت النصارى نحن على دين إبراهيم نزلت الآية " ٢. والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر في مجلس الجدل أنه هو على ملة إبراهيم وداع إليها، فادعى اليهود أنهم هم الذين على هذه الملة وأنهم أولى به وادعى النصارى مثل هذه الدعوى، فنزلت الآيات :
١ مسفهة للدعوى لأن يهودية اليهود هي بعد نزول التوراة ونصرانية النصارى هي بعد نزول الإنجيل في حين أن الكتابين إنما نزلا بعد إبراهيم.
٢ مستهدفة تبرئة إبراهيم من الانحراف الذي انحرفه أهل الكتاب، فلم يعد من حقهم أن يدعوا أنهم على ملته، وتقرير كون هذا الحق إنما هو للذين ثبتوا على هذه الملة دون انحراف وهي الإسلام لله وحده وعدم إشراك شيء به والاستقامة على ذلك، ثم النبي والذين آمنوا به وإعلان كون الله تعالى هو وليّ المؤمنين المخلصين.
ولقد كانت ملة إبراهيم واتبّاع النبي لها ودعوته إليها موضوع آيات ومشاهد عديدة في العهد المكي بين النبي والمشركين على ما نبهنا إليه في مناسبات سابقة٣ وصارت كذلك في العهد المدني بين النبي وأهل الكتاب وبخاصة اليهود. وفي سلسلة آيات البقرة الطويلة آيات عديدة في ذلك ؛ حيث يتبادر من ذلك أن إبراهيم عليه السلام وملته كانا من المسائل الهامة في الدعوة الإسلامية ؛ لأن مشركي العرب واليهود والنصارى يلتقون فيهما. وقد شرحنا في المناسبات السابقة مدى التقاء اليهود ومشركي العرب فيهما. أما التقاء النصارى معهم فيهما فهو آت من كون هؤلاء يؤمنون بأسفار العهد القديم والأنبياء الذين ورد فيها، ومنهم إبراهيم عليه السلام كما هو المتبادر.
وقد قال المفسرون في صدد مفهوم الآية الثانية : إنها احتوت تنديدا باليهود والنصارى ؛ لأنهم إذا صح أن يحاجوا فيما احتوته التوراة والإنجيل ؛ لأنه مفروض أنهم يعرفونها فما كان لهم أن يحاجوا فيما ليس فيها مثل كون ملة إبراهيم هي اليهودية أو النصرانية ؛ لأنهم بذلك يحاجون فيما ليس لهم به علم صحيح٤ وهذا متسق مع فحوى الآيات كما هو المتبادر.
وأسلوب هذه الآية بخاصة وأسلوب الآيات بعامة يلهمان على كل حال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في موقف المستعلي الملزم المستحكم في الحجة والبيان.
وروح الآية الأخيرة ومضمونها يفيدان أنها تعني فريقين، فريقا قبل النبي لزم ملة إبراهيم الموصوفة، ثم النبي والذين آمنوا معه كفريق ثان. وهذا يعني كما هو المتبادر أن أحدا لا يستطيع أن يدعي أنه على ملة إبراهيم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون مؤمنا به من وجهة النظر الإسلامية.
ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآية حديثا رواه أيضا الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي. ثم قرأ ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ( ٦٨ ) ﴾.
والحكمة الملموحة في الحديث توكيد التلازم بين النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام في الملة الواحدة الموصوفة في الآية الثالثة. وتوكيد ما أمر الله نبيه بالهتاف به في آيات سورة الأنعام [ ١٦٠ و ١٦١ ] التي سبق تفسيرها والتعليق عليها.
هذا، وإذا صحت الرواية التي تقول إن الآيات نزلت في مشهد جدلي اشترك فيه وفد نجران وأحبار اليهود فتكون متصلة بسلسلة الآيات السابقة وفصلا من فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران من حيث الأصل. والله تعالى أعلم.
نقول هذا ؛ لأن الآيات التالية التي ذكر فيها أهل الكتاب تفيد أن المقصود منهم اليهود فقط حيث يرد بالبال أن المقصود في الآيات التي نحن في صددها هم اليهود أيضا ولا سيما أن الجدال على ملة إبراهيم سابقا كان بين النبي واليهود. وفي هذه الحالة يكون نفي النصرانية عن إبراهيم من قبيل الاستطراد والتعميم مما ورد مثله وفي مقامه في سلسلة آيات سورة البقرة الواردة في حق يهود بني إسرائيل على ما نبهنا عليه سابقا، وتكون الآيات السابقة خاتمة فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران. وتكون هذه الآيات بداية فصل طويل جديد في حق اليهود. وقد وضعت بعد تلك الفصول للمناسبة الموضوعية أو الزمنية. والله أعلم.
٢ التاج، ج ٤ ص ٦٩..
٣ انظر تفسيرنا لسور الأنعام والرعد والنحل والأنبياء والحج والأعلى..
٤ أنظر تفسير الآيات في الطبري والخازن وابن كثير..
تعليق على الآية
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( ٦٥ ) ﴾
وما بعدها الآيات [ ٦٦ ٦٨ ]
عبارة الآيات واضحة. وفيها :
١ تنديد بأهل الكتاب لمحاجتهم في إبراهيم مع أن التوراة والإنجيل إنما أنزلا من بعده.
٢ وتنديد آخر لمحاجتهم في شيء ليس عندهم به علم.
٣ ونفي لكون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا.
٤ وتقرير بأنه كان مسلما حنيفا غير مشرك وبأن أولى الناس به هم الذين على ملته ومنهم النبي والذين آمنوا به ؛ لأنهم أيضا عليها.
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت في مناسبة جدال في ملة إبراهيم قام بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد نجران واشتراك فيه فريق من أحبار اليهود. حيث قال اليهود : إن ملة إبراهيم هي اليهودية، وقال النصارى : إنها النصرانية. وأسلوب الآيات ومضمونها يؤيدان الرواية. وهناك حديث رواه الترمذي جاء فيه " لما قالت اليهود نحن على دين إبراهيم وقالت النصارى نحن على دين إبراهيم نزلت الآية " ٢. والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر في مجلس الجدل أنه هو على ملة إبراهيم وداع إليها، فادعى اليهود أنهم هم الذين على هذه الملة وأنهم أولى به وادعى النصارى مثل هذه الدعوى، فنزلت الآيات :
١ مسفهة للدعوى لأن يهودية اليهود هي بعد نزول التوراة ونصرانية النصارى هي بعد نزول الإنجيل في حين أن الكتابين إنما نزلا بعد إبراهيم.
٢ مستهدفة تبرئة إبراهيم من الانحراف الذي انحرفه أهل الكتاب، فلم يعد من حقهم أن يدعوا أنهم على ملته، وتقرير كون هذا الحق إنما هو للذين ثبتوا على هذه الملة دون انحراف وهي الإسلام لله وحده وعدم إشراك شيء به والاستقامة على ذلك، ثم النبي والذين آمنوا به وإعلان كون الله تعالى هو وليّ المؤمنين المخلصين.
ولقد كانت ملة إبراهيم واتبّاع النبي لها ودعوته إليها موضوع آيات ومشاهد عديدة في العهد المكي بين النبي والمشركين على ما نبهنا إليه في مناسبات سابقة٣ وصارت كذلك في العهد المدني بين النبي وأهل الكتاب وبخاصة اليهود. وفي سلسلة آيات البقرة الطويلة آيات عديدة في ذلك ؛ حيث يتبادر من ذلك أن إبراهيم عليه السلام وملته كانا من المسائل الهامة في الدعوة الإسلامية ؛ لأن مشركي العرب واليهود والنصارى يلتقون فيهما. وقد شرحنا في المناسبات السابقة مدى التقاء اليهود ومشركي العرب فيهما. أما التقاء النصارى معهم فيهما فهو آت من كون هؤلاء يؤمنون بأسفار العهد القديم والأنبياء الذين ورد فيها، ومنهم إبراهيم عليه السلام كما هو المتبادر.
وقد قال المفسرون في صدد مفهوم الآية الثانية : إنها احتوت تنديدا باليهود والنصارى ؛ لأنهم إذا صح أن يحاجوا فيما احتوته التوراة والإنجيل ؛ لأنه مفروض أنهم يعرفونها فما كان لهم أن يحاجوا فيما ليس فيها مثل كون ملة إبراهيم هي اليهودية أو النصرانية ؛ لأنهم بذلك يحاجون فيما ليس لهم به علم صحيح٤ وهذا متسق مع فحوى الآيات كما هو المتبادر.
وأسلوب هذه الآية بخاصة وأسلوب الآيات بعامة يلهمان على كل حال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في موقف المستعلي الملزم المستحكم في الحجة والبيان.
وروح الآية الأخيرة ومضمونها يفيدان أنها تعني فريقين، فريقا قبل النبي لزم ملة إبراهيم الموصوفة، ثم النبي والذين آمنوا معه كفريق ثان. وهذا يعني كما هو المتبادر أن أحدا لا يستطيع أن يدعي أنه على ملة إبراهيم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون مؤمنا به من وجهة النظر الإسلامية.
ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآية حديثا رواه أيضا الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي. ثم قرأ ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ( ٦٨ ) ﴾.
والحكمة الملموحة في الحديث توكيد التلازم بين النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام في الملة الواحدة الموصوفة في الآية الثالثة. وتوكيد ما أمر الله نبيه بالهتاف به في آيات سورة الأنعام [ ١٦٠ و ١٦١ ] التي سبق تفسيرها والتعليق عليها.
هذا، وإذا صحت الرواية التي تقول إن الآيات نزلت في مشهد جدلي اشترك فيه وفد نجران وأحبار اليهود فتكون متصلة بسلسلة الآيات السابقة وفصلا من فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران من حيث الأصل. والله تعالى أعلم.
نقول هذا ؛ لأن الآيات التالية التي ذكر فيها أهل الكتاب تفيد أن المقصود منهم اليهود فقط حيث يرد بالبال أن المقصود في الآيات التي نحن في صددها هم اليهود أيضا ولا سيما أن الجدال على ملة إبراهيم سابقا كان بين النبي واليهود. وفي هذه الحالة يكون نفي النصرانية عن إبراهيم من قبيل الاستطراد والتعميم مما ورد مثله وفي مقامه في سلسلة آيات سورة البقرة الواردة في حق يهود بني إسرائيل على ما نبهنا عليه سابقا، وتكون الآيات السابقة خاتمة فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران. وتكون هذه الآيات بداية فصل طويل جديد في حق اليهود. وقد وضعت بعد تلك الفصول للمناسبة الموضوعية أو الزمنية. والله أعلم.
٢ التاج، ج ٤ ص ٦٩..
٣ انظر تفسيرنا لسور الأنعام والرعد والنحل والأنبياء والحج والأعلى..
٤ أنظر تفسير الآيات في الطبري والخازن وابن كثير..
تعليق على الآية
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( ٦٥ ) ﴾
وما بعدها الآيات [ ٦٦ ٦٨ ]
عبارة الآيات واضحة. وفيها :
١ تنديد بأهل الكتاب لمحاجتهم في إبراهيم مع أن التوراة والإنجيل إنما أنزلا من بعده.
٢ وتنديد آخر لمحاجتهم في شيء ليس عندهم به علم.
٣ ونفي لكون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا.
٤ وتقرير بأنه كان مسلما حنيفا غير مشرك وبأن أولى الناس به هم الذين على ملته ومنهم النبي والذين آمنوا به ؛ لأنهم أيضا عليها.
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت في مناسبة جدال في ملة إبراهيم قام بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد نجران واشتراك فيه فريق من أحبار اليهود. حيث قال اليهود : إن ملة إبراهيم هي اليهودية، وقال النصارى : إنها النصرانية. وأسلوب الآيات ومضمونها يؤيدان الرواية. وهناك حديث رواه الترمذي جاء فيه " لما قالت اليهود نحن على دين إبراهيم وقالت النصارى نحن على دين إبراهيم نزلت الآية " ٢. والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر في مجلس الجدل أنه هو على ملة إبراهيم وداع إليها، فادعى اليهود أنهم هم الذين على هذه الملة وأنهم أولى به وادعى النصارى مثل هذه الدعوى، فنزلت الآيات :
١ مسفهة للدعوى لأن يهودية اليهود هي بعد نزول التوراة ونصرانية النصارى هي بعد نزول الإنجيل في حين أن الكتابين إنما نزلا بعد إبراهيم.
٢ مستهدفة تبرئة إبراهيم من الانحراف الذي انحرفه أهل الكتاب، فلم يعد من حقهم أن يدعوا أنهم على ملته، وتقرير كون هذا الحق إنما هو للذين ثبتوا على هذه الملة دون انحراف وهي الإسلام لله وحده وعدم إشراك شيء به والاستقامة على ذلك، ثم النبي والذين آمنوا به وإعلان كون الله تعالى هو وليّ المؤمنين المخلصين.
ولقد كانت ملة إبراهيم واتبّاع النبي لها ودعوته إليها موضوع آيات ومشاهد عديدة في العهد المكي بين النبي والمشركين على ما نبهنا إليه في مناسبات سابقة٣ وصارت كذلك في العهد المدني بين النبي وأهل الكتاب وبخاصة اليهود. وفي سلسلة آيات البقرة الطويلة آيات عديدة في ذلك ؛ حيث يتبادر من ذلك أن إبراهيم عليه السلام وملته كانا من المسائل الهامة في الدعوة الإسلامية ؛ لأن مشركي العرب واليهود والنصارى يلتقون فيهما. وقد شرحنا في المناسبات السابقة مدى التقاء اليهود ومشركي العرب فيهما. أما التقاء النصارى معهم فيهما فهو آت من كون هؤلاء يؤمنون بأسفار العهد القديم والأنبياء الذين ورد فيها، ومنهم إبراهيم عليه السلام كما هو المتبادر.
وقد قال المفسرون في صدد مفهوم الآية الثانية : إنها احتوت تنديدا باليهود والنصارى ؛ لأنهم إذا صح أن يحاجوا فيما احتوته التوراة والإنجيل ؛ لأنه مفروض أنهم يعرفونها فما كان لهم أن يحاجوا فيما ليس فيها مثل كون ملة إبراهيم هي اليهودية أو النصرانية ؛ لأنهم بذلك يحاجون فيما ليس لهم به علم صحيح٤ وهذا متسق مع فحوى الآيات كما هو المتبادر.
وأسلوب هذه الآية بخاصة وأسلوب الآيات بعامة يلهمان على كل حال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في موقف المستعلي الملزم المستحكم في الحجة والبيان.
وروح الآية الأخيرة ومضمونها يفيدان أنها تعني فريقين، فريقا قبل النبي لزم ملة إبراهيم الموصوفة، ثم النبي والذين آمنوا معه كفريق ثان. وهذا يعني كما هو المتبادر أن أحدا لا يستطيع أن يدعي أنه على ملة إبراهيم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون مؤمنا به من وجهة النظر الإسلامية.
ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآية حديثا رواه أيضا الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي. ثم قرأ ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ( ٦٨ ) ﴾.
والحكمة الملموحة في الحديث توكيد التلازم بين النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام في الملة الواحدة الموصوفة في الآية الثالثة. وتوكيد ما أمر الله نبيه بالهتاف به في آيات سورة الأنعام [ ١٦٠ و ١٦١ ] التي سبق تفسيرها والتعليق عليها.
هذا، وإذا صحت الرواية التي تقول إن الآيات نزلت في مشهد جدلي اشترك فيه وفد نجران وأحبار اليهود فتكون متصلة بسلسلة الآيات السابقة وفصلا من فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران من حيث الأصل. والله تعالى أعلم.
نقول هذا ؛ لأن الآيات التالية التي ذكر فيها أهل الكتاب تفيد أن المقصود منهم اليهود فقط حيث يرد بالبال أن المقصود في الآيات التي نحن في صددها هم اليهود أيضا ولا سيما أن الجدال على ملة إبراهيم سابقا كان بين النبي واليهود. وفي هذه الحالة يكون نفي النصرانية عن إبراهيم من قبيل الاستطراد والتعميم مما ورد مثله وفي مقامه في سلسلة آيات سورة البقرة الواردة في حق يهود بني إسرائيل على ما نبهنا عليه سابقا، وتكون الآيات السابقة خاتمة فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران. وتكون هذه الآيات بداية فصل طويل جديد في حق اليهود. وقد وضعت بعد تلك الفصول للمناسبة الموضوعية أو الزمنية. والله أعلم.
٢ التاج، ج ٤ ص ٦٩..
٣ انظر تفسيرنا لسور الأنعام والرعد والنحل والأنبياء والحج والأعلى..
٤ أنظر تفسير الآيات في الطبري والخازن وابن كثير..
تعليق على الآية
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( ٦٥ ) ﴾
وما بعدها الآيات [ ٦٦ ٦٨ ]
عبارة الآيات واضحة. وفيها :
١ تنديد بأهل الكتاب لمحاجتهم في إبراهيم مع أن التوراة والإنجيل إنما أنزلا من بعده.
٢ وتنديد آخر لمحاجتهم في شيء ليس عندهم به علم.
٣ ونفي لكون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا.
٤ وتقرير بأنه كان مسلما حنيفا غير مشرك وبأن أولى الناس به هم الذين على ملته ومنهم النبي والذين آمنوا به ؛ لأنهم أيضا عليها.
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت في مناسبة جدال في ملة إبراهيم قام بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد نجران واشتراك فيه فريق من أحبار اليهود. حيث قال اليهود : إن ملة إبراهيم هي اليهودية، وقال النصارى : إنها النصرانية. وأسلوب الآيات ومضمونها يؤيدان الرواية. وهناك حديث رواه الترمذي جاء فيه " لما قالت اليهود نحن على دين إبراهيم وقالت النصارى نحن على دين إبراهيم نزلت الآية " ٢. والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر في مجلس الجدل أنه هو على ملة إبراهيم وداع إليها، فادعى اليهود أنهم هم الذين على هذه الملة وأنهم أولى به وادعى النصارى مثل هذه الدعوى، فنزلت الآيات :
١ مسفهة للدعوى لأن يهودية اليهود هي بعد نزول التوراة ونصرانية النصارى هي بعد نزول الإنجيل في حين أن الكتابين إنما نزلا بعد إبراهيم.
٢ مستهدفة تبرئة إبراهيم من الانحراف الذي انحرفه أهل الكتاب، فلم يعد من حقهم أن يدعوا أنهم على ملته، وتقرير كون هذا الحق إنما هو للذين ثبتوا على هذه الملة دون انحراف وهي الإسلام لله وحده وعدم إشراك شيء به والاستقامة على ذلك، ثم النبي والذين آمنوا به وإعلان كون الله تعالى هو وليّ المؤمنين المخلصين.
ولقد كانت ملة إبراهيم واتبّاع النبي لها ودعوته إليها موضوع آيات ومشاهد عديدة في العهد المكي بين النبي والمشركين على ما نبهنا إليه في مناسبات سابقة٣ وصارت كذلك في العهد المدني بين النبي وأهل الكتاب وبخاصة اليهود. وفي سلسلة آيات البقرة الطويلة آيات عديدة في ذلك ؛ حيث يتبادر من ذلك أن إبراهيم عليه السلام وملته كانا من المسائل الهامة في الدعوة الإسلامية ؛ لأن مشركي العرب واليهود والنصارى يلتقون فيهما. وقد شرحنا في المناسبات السابقة مدى التقاء اليهود ومشركي العرب فيهما. أما التقاء النصارى معهم فيهما فهو آت من كون هؤلاء يؤمنون بأسفار العهد القديم والأنبياء الذين ورد فيها، ومنهم إبراهيم عليه السلام كما هو المتبادر.
وقد قال المفسرون في صدد مفهوم الآية الثانية : إنها احتوت تنديدا باليهود والنصارى ؛ لأنهم إذا صح أن يحاجوا فيما احتوته التوراة والإنجيل ؛ لأنه مفروض أنهم يعرفونها فما كان لهم أن يحاجوا فيما ليس فيها مثل كون ملة إبراهيم هي اليهودية أو النصرانية ؛ لأنهم بذلك يحاجون فيما ليس لهم به علم صحيح٤ وهذا متسق مع فحوى الآيات كما هو المتبادر.
وأسلوب هذه الآية بخاصة وأسلوب الآيات بعامة يلهمان على كل حال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في موقف المستعلي الملزم المستحكم في الحجة والبيان.
وروح الآية الأخيرة ومضمونها يفيدان أنها تعني فريقين، فريقا قبل النبي لزم ملة إبراهيم الموصوفة، ثم النبي والذين آمنوا معه كفريق ثان. وهذا يعني كما هو المتبادر أن أحدا لا يستطيع أن يدعي أنه على ملة إبراهيم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون مؤمنا به من وجهة النظر الإسلامية.
ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآية حديثا رواه أيضا الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي. ثم قرأ ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ( ٦٨ ) ﴾.
والحكمة الملموحة في الحديث توكيد التلازم بين النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام في الملة الواحدة الموصوفة في الآية الثالثة. وتوكيد ما أمر الله نبيه بالهتاف به في آيات سورة الأنعام [ ١٦٠ و ١٦١ ] التي سبق تفسيرها والتعليق عليها.
هذا، وإذا صحت الرواية التي تقول إن الآيات نزلت في مشهد جدلي اشترك فيه وفد نجران وأحبار اليهود فتكون متصلة بسلسلة الآيات السابقة وفصلا من فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران من حيث الأصل. والله تعالى أعلم.
نقول هذا ؛ لأن الآيات التالية التي ذكر فيها أهل الكتاب تفيد أن المقصود منهم اليهود فقط حيث يرد بالبال أن المقصود في الآيات التي نحن في صددها هم اليهود أيضا ولا سيما أن الجدال على ملة إبراهيم سابقا كان بين النبي واليهود. وفي هذه الحالة يكون نفي النصرانية عن إبراهيم من قبيل الاستطراد والتعميم مما ورد مثله وفي مقامه في سلسلة آيات سورة البقرة الواردة في حق يهود بني إسرائيل على ما نبهنا عليه سابقا، وتكون الآيات السابقة خاتمة فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران. وتكون هذه الآيات بداية فصل طويل جديد في حق اليهود. وقد وضعت بعد تلك الفصول للمناسبة الموضوعية أو الزمنية. والله أعلم.
٢ التاج، ج ٤ ص ٦٩..
٣ انظر تفسيرنا لسور الأنعام والرعد والنحل والأنبياء والحج والأعلى..
٤ أنظر تفسير الآيات في الطبري والخازن وابن كثير..
في الآيات :
١ إشارة تقريرية إلى ما كان يتمناه طائفة من أهل الكتاب، وهو تضليل المؤمنين وتشكيكهم في دينهم وتحويلهم عنه.
٢ نعي عليهم بأنهم لا يضلون في الحقيقة إلا أنفسهم دون أن يدروا.
٣ وخطاب موجه إليهم على سبيل التنديد والتقريع بأسلوب السؤال الاستنكاري عن كفرهم بآيات الله مع أنهم يشهدون في سرائرهم بصحتها ويرون أمارات صدقها وعن إلباسهم الحق بالباطل وكتمهم الحق عن عمد وعلم بما في عملهم من بغي وانحراف.
٤ وحكاية لما كانت تتواصى به هذه الطائفة بسبيل تضليل المؤمنين وتشكيكهم ؛ حيث كانت تتواصى بإظهار الإيمان والتصديق بالنبي والقرآن في الصباح ثم إظهار الشك والجحود في المساء لتؤثر بذلك على المسلمين وتجعلهم يرتدون عن دينهم ويرجعون عنه. وحيث كانت تتواصى بأن لا يؤمن بعضهم إلا لبعض ؛ لئلا يعرف غيرهم ما عندهم فحاجوهم به عند ربهم.
٥ وأمر للنبي بأن يعلن إزاء ما يبيته هؤلاء من المؤامرات والحقد وأساليب الكيد أن الهدى هو هدى الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وهو واسع الفضل عليم بمستحقيه وأنه ذو فضل عظيم يختص به من يشاء. وذلك ردا على تواصيهم وأمانيهم ودسائسهم وتثبيتا لنفوس المسلمين.
تعليق على الآية
﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ... ﴾ إلخ
والآيات التابعة لها إلى [ ٧٤ ]
ولقد تعددت روايات المفسرين في مناسبة هذه الآيات : من ذلك أن الآية الأولى بسبب محاولة بعض اليهود إغراء معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بترك الإسلام والتهود١. وقال بعضهم : إن الآيات الثلاث الأولى في حق جماعة من اليهود والنصارى ؛ لأنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق مع أنهم يعلمون أن النبي على حق، وأن دلائل نبوته موجودة في كتبهم وكل هذا بسبيل تضليل المسلمين وتشكيكهم٢. وروى جمهورهم٣ أن الآية الرابعة نزلت في حق جماعة من أحبار اليهود تآمروا على الكيد للمسلمين وتشكيكهم في دينهم والتواصي بعدم إطلاعهم على ما عندهم من دلائل بالأسلوب الذي حكته الآيات. ومما رووه أن أحبار اليهود طلبوا من بعض اليهود اعتناق الإسلام والصلاة مع المسلمين في النهار ثم يعودون إليهم ويقولون : إننا سألنا أحبارنا فقالوا : إن محمدا كاذب، وإن المسلمين ليسوا على شيء فيساورهم الشك ويقولون : إنهم علماء أهل الكتاب، وهم أعلم منا فيرجعون عن الإسلام. وروى بعضهم٤ أن هذه الآيات أو بعضها نزلت في صدد تحويل القبلة ؛ حيث شق ذلك عليهم وأخذوا يتآمرون على المسلمين.
والصفات والأقوال التي وصفت بها الآيات القائلين ونسبتها إليهم قد وصف اليهود بها ونسبت إليهم بصراحة في سلسلة آيات سورة البقرة مثل الآيات [ ٤١ ٤٢ و٧٦ ٧٧ و٨٩ ٩٠ ] والتنديد الذي ندد بهم قد ندد بهم بنفس الصيغة في آيات البقرة المذكورة ؛ حيث يسوغ القول بشيء من الجزم إن جميع الآيات في حق اليهود، وإن مناسبة نزولها هي الرواية التي تذكر تآمر بعض أحبارهم على تشكيك المسلمين. وفحوى الآيات وروحها متسقان مع هذه الرواية دون غيرها من الروايات.
ومن شرح الآيات يبدو ما في الأسلوب الذي عمدوا إليه من كيد شديد. ولهذا استحقوا التقريع اللاذع الذي وجهته إليهم وفضحت به مؤامراتهم الآثمة. وتلهم الآيات إلى هذا أن اليهود كانوا مغترين بما لهم من مركز وتأثير في العرب وأنهم لم يكونوا في حقيقة أمرهم يجهلون قوة دعوة النبي وصدقها وصحتها. وأن ما كانوا يحاولونه ويبيتونه كان منهم بغيا وعدوانا وحسدا وغيظا. وهو ما حكته عنهم آيات سلسلة البقرة أيضا، وهذا ملموح بنوع خاص في الآية [ ٧٣ ].
والفقرة الأخيرة من هذه الآية جديرة بالتنويه بصورة خاصة. فاليهود كانوا يتبجحون بأن فضل الله ونبواته محصورة فيهم. وكانوا يتواصون بعدم الإفضاء بما يعرفون من أسرار دينية حتى لا يحاججهم المسلمون أو يعرفوا ما يعرفونه. فردت عليهم الآية منددة من جهة. وانطوى فيها تثبيت للمسلمين من جهة أخرى. كأنما أريد أن يقال لهم ليس من حرج على فضل الله. فهو يختص به من يشاء. وقد اختصهم بنبوة نبي منهم وبكتاب أنزله بلغتهم.
وهذا الموقف مما كان يتكرر من اليهود على ما يستفاد من آيات سلسلة البقرة التي مرّ تفسيرها ومن الآيات الأولى من سورة الجمعة على ما سوف يمرّ شرحها أيضا.
والسياق يفيد بصراحة تامة أن جملة ﴿ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ هي حكاية لتواصي اليهود لبعضهم وشعار من شعاراتهم وليست تقريرا ربانيا مباشرا موجها فيه الخطاب إلى المسلمين كما يتوهمه بعضهم فيجعلونه شعارا لهم. والشعار أو الجملة تمثل شدة تعصب اليهود إزاء غيرهم وعدم تبادلهم الاعتماد والثقة مع الغير وحذرهم الدائم منه. وقد صار هذا شعارا يهوديا عاما وجبلة من جبلتهم التي جعلت كل الناس في كل ظرف ومكان يزورون منهم ويقفون منهم نفس الموقف.
أما المسلمون فشعارهم تجاه غيرهم يتمثل أولا في الضابطين المنطويين في آيتي سورة الممتحنة [ ٨ و٩ ] اللتين أوردناهما في سياق شرح الآيات [ ٢٧ و٢٨ ] من هذه السورة وهو البر والإقساط وحسن التعامل والتعايش مع المسالمين الموادين لهم وعدم تولي الظالمين المعتدين عليهم. ثم في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي تقرر وجوب التزام الحق والعدل والقسط والتعامل بذلك وأداء الأمانات إلى أهلها والوفاء بالعدل وعدم الخيانة والغدر مطلقا في كل وقت وظرف وحالة وتجاه كل أحد وبقطع النظر عن أي اعتبار وعدم مبادرة أحد بالعدوان والاكتفاء بمقابلة العدوان بمثله وفي نطاق الضرورة على ما مرّ شرحه في السور التي سبق تفسيرها وعلى ما سوف يأتي شرحه في سور يأتي تفسيرها بعد.
هذا، وأسلوب الآيات ومضمونها يحتملان أن تكون متصلة بسابقاتها اتصال سياق وموضوع معا كما يحتملان أن يكون اتصالها اتصال موضوع وزمن نزول معا، وليس من سبيل إلى ترجيح أحد الاحتمالين. والله اعلم.
٢ انظر تفسير الطبري..
٣ انظر الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي..
٤ انظر تفسير الطبرسي..
في الآيات :
١ إشارة تقريرية إلى ما كان يتمناه طائفة من أهل الكتاب، وهو تضليل المؤمنين وتشكيكهم في دينهم وتحويلهم عنه.
٢ نعي عليهم بأنهم لا يضلون في الحقيقة إلا أنفسهم دون أن يدروا.
٣ وخطاب موجه إليهم على سبيل التنديد والتقريع بأسلوب السؤال الاستنكاري عن كفرهم بآيات الله مع أنهم يشهدون في سرائرهم بصحتها ويرون أمارات صدقها وعن إلباسهم الحق بالباطل وكتمهم الحق عن عمد وعلم بما في عملهم من بغي وانحراف.
٤ وحكاية لما كانت تتواصى به هذه الطائفة بسبيل تضليل المؤمنين وتشكيكهم ؛ حيث كانت تتواصى بإظهار الإيمان والتصديق بالنبي والقرآن في الصباح ثم إظهار الشك والجحود في المساء لتؤثر بذلك على المسلمين وتجعلهم يرتدون عن دينهم ويرجعون عنه. وحيث كانت تتواصى بأن لا يؤمن بعضهم إلا لبعض ؛ لئلا يعرف غيرهم ما عندهم فحاجوهم به عند ربهم.
٥ وأمر للنبي بأن يعلن إزاء ما يبيته هؤلاء من المؤامرات والحقد وأساليب الكيد أن الهدى هو هدى الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وهو واسع الفضل عليم بمستحقيه وأنه ذو فضل عظيم يختص به من يشاء. وذلك ردا على تواصيهم وأمانيهم ودسائسهم وتثبيتا لنفوس المسلمين.
تعليق على الآية
﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ... ﴾ إلخ
والآيات التابعة لها إلى [ ٧٤ ]
ولقد تعددت روايات المفسرين في مناسبة هذه الآيات : من ذلك أن الآية الأولى بسبب محاولة بعض اليهود إغراء معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بترك الإسلام والتهود١. وقال بعضهم : إن الآيات الثلاث الأولى في حق جماعة من اليهود والنصارى ؛ لأنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق مع أنهم يعلمون أن النبي على حق، وأن دلائل نبوته موجودة في كتبهم وكل هذا بسبيل تضليل المسلمين وتشكيكهم٢. وروى جمهورهم٣ أن الآية الرابعة نزلت في حق جماعة من أحبار اليهود تآمروا على الكيد للمسلمين وتشكيكهم في دينهم والتواصي بعدم إطلاعهم على ما عندهم من دلائل بالأسلوب الذي حكته الآيات. ومما رووه أن أحبار اليهود طلبوا من بعض اليهود اعتناق الإسلام والصلاة مع المسلمين في النهار ثم يعودون إليهم ويقولون : إننا سألنا أحبارنا فقالوا : إن محمدا كاذب، وإن المسلمين ليسوا على شيء فيساورهم الشك ويقولون : إنهم علماء أهل الكتاب، وهم أعلم منا فيرجعون عن الإسلام. وروى بعضهم٤ أن هذه الآيات أو بعضها نزلت في صدد تحويل القبلة ؛ حيث شق ذلك عليهم وأخذوا يتآمرون على المسلمين.
والصفات والأقوال التي وصفت بها الآيات القائلين ونسبتها إليهم قد وصف اليهود بها ونسبت إليهم بصراحة في سلسلة آيات سورة البقرة مثل الآيات [ ٤١ ٤٢ و٧٦ ٧٧ و٨٩ ٩٠ ] والتنديد الذي ندد بهم قد ندد بهم بنفس الصيغة في آيات البقرة المذكورة ؛ حيث يسوغ القول بشيء من الجزم إن جميع الآيات في حق اليهود، وإن مناسبة نزولها هي الرواية التي تذكر تآمر بعض أحبارهم على تشكيك المسلمين. وفحوى الآيات وروحها متسقان مع هذه الرواية دون غيرها من الروايات.
ومن شرح الآيات يبدو ما في الأسلوب الذي عمدوا إليه من كيد شديد. ولهذا استحقوا التقريع اللاذع الذي وجهته إليهم وفضحت به مؤامراتهم الآثمة. وتلهم الآيات إلى هذا أن اليهود كانوا مغترين بما لهم من مركز وتأثير في العرب وأنهم لم يكونوا في حقيقة أمرهم يجهلون قوة دعوة النبي وصدقها وصحتها. وأن ما كانوا يحاولونه ويبيتونه كان منهم بغيا وعدوانا وحسدا وغيظا. وهو ما حكته عنهم آيات سلسلة البقرة أيضا، وهذا ملموح بنوع خاص في الآية [ ٧٣ ].
والفقرة الأخيرة من هذه الآية جديرة بالتنويه بصورة خاصة. فاليهود كانوا يتبجحون بأن فضل الله ونبواته محصورة فيهم. وكانوا يتواصون بعدم الإفضاء بما يعرفون من أسرار دينية حتى لا يحاججهم المسلمون أو يعرفوا ما يعرفونه. فردت عليهم الآية منددة من جهة. وانطوى فيها تثبيت للمسلمين من جهة أخرى. كأنما أريد أن يقال لهم ليس من حرج على فضل الله. فهو يختص به من يشاء. وقد اختصهم بنبوة نبي منهم وبكتاب أنزله بلغتهم.
وهذا الموقف مما كان يتكرر من اليهود على ما يستفاد من آيات سلسلة البقرة التي مرّ تفسيرها ومن الآيات الأولى من سورة الجمعة على ما سوف يمرّ شرحها أيضا.
والسياق يفيد بصراحة تامة أن جملة ﴿ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ هي حكاية لتواصي اليهود لبعضهم وشعار من شعاراتهم وليست تقريرا ربانيا مباشرا موجها فيه الخطاب إلى المسلمين كما يتوهمه بعضهم فيجعلونه شعارا لهم. والشعار أو الجملة تمثل شدة تعصب اليهود إزاء غيرهم وعدم تبادلهم الاعتماد والثقة مع الغير وحذرهم الدائم منه. وقد صار هذا شعارا يهوديا عاما وجبلة من جبلتهم التي جعلت كل الناس في كل ظرف ومكان يزورون منهم ويقفون منهم نفس الموقف.
أما المسلمون فشعارهم تجاه غيرهم يتمثل أولا في الضابطين المنطويين في آيتي سورة الممتحنة [ ٨ و٩ ] اللتين أوردناهما في سياق شرح الآيات [ ٢٧ و٢٨ ] من هذه السورة وهو البر والإقساط وحسن التعامل والتعايش مع المسالمين الموادين لهم وعدم تولي الظالمين المعتدين عليهم. ثم في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي تقرر وجوب التزام الحق والعدل والقسط والتعامل بذلك وأداء الأمانات إلى أهلها والوفاء بالعدل وعدم الخيانة والغدر مطلقا في كل وقت وظرف وحالة وتجاه كل أحد وبقطع النظر عن أي اعتبار وعدم مبادرة أحد بالعدوان والاكتفاء بمقابلة العدوان بمثله وفي نطاق الضرورة على ما مرّ شرحه في السور التي سبق تفسيرها وعلى ما سوف يأتي شرحه في سور يأتي تفسيرها بعد.
هذا، وأسلوب الآيات ومضمونها يحتملان أن تكون متصلة بسابقاتها اتصال سياق وموضوع معا كما يحتملان أن يكون اتصالها اتصال موضوع وزمن نزول معا، وليس من سبيل إلى ترجيح أحد الاحتمالين. والله اعلم.
٢ انظر تفسير الطبري..
٣ انظر الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي..
٤ انظر تفسير الطبرسي..
في الآيات :
١ إشارة تقريرية إلى ما كان يتمناه طائفة من أهل الكتاب، وهو تضليل المؤمنين وتشكيكهم في دينهم وتحويلهم عنه.
٢ نعي عليهم بأنهم لا يضلون في الحقيقة إلا أنفسهم دون أن يدروا.
٣ وخطاب موجه إليهم على سبيل التنديد والتقريع بأسلوب السؤال الاستنكاري عن كفرهم بآيات الله مع أنهم يشهدون في سرائرهم بصحتها ويرون أمارات صدقها وعن إلباسهم الحق بالباطل وكتمهم الحق عن عمد وعلم بما في عملهم من بغي وانحراف.
٤ وحكاية لما كانت تتواصى به هذه الطائفة بسبيل تضليل المؤمنين وتشكيكهم ؛ حيث كانت تتواصى بإظهار الإيمان والتصديق بالنبي والقرآن في الصباح ثم إظهار الشك والجحود في المساء لتؤثر بذلك على المسلمين وتجعلهم يرتدون عن دينهم ويرجعون عنه. وحيث كانت تتواصى بأن لا يؤمن بعضهم إلا لبعض ؛ لئلا يعرف غيرهم ما عندهم فحاجوهم به عند ربهم.
٥ وأمر للنبي بأن يعلن إزاء ما يبيته هؤلاء من المؤامرات والحقد وأساليب الكيد أن الهدى هو هدى الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وهو واسع الفضل عليم بمستحقيه وأنه ذو فضل عظيم يختص به من يشاء. وذلك ردا على تواصيهم وأمانيهم ودسائسهم وتثبيتا لنفوس المسلمين.
تعليق على الآية
﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ... ﴾ إلخ
والآيات التابعة لها إلى [ ٧٤ ]
ولقد تعددت روايات المفسرين في مناسبة هذه الآيات : من ذلك أن الآية الأولى بسبب محاولة بعض اليهود إغراء معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بترك الإسلام والتهود١. وقال بعضهم : إن الآيات الثلاث الأولى في حق جماعة من اليهود والنصارى ؛ لأنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق مع أنهم يعلمون أن النبي على حق، وأن دلائل نبوته موجودة في كتبهم وكل هذا بسبيل تضليل المسلمين وتشكيكهم٢. وروى جمهورهم٣ أن الآية الرابعة نزلت في حق جماعة من أحبار اليهود تآمروا على الكيد للمسلمين وتشكيكهم في دينهم والتواصي بعدم إطلاعهم على ما عندهم من دلائل بالأسلوب الذي حكته الآيات. ومما رووه أن أحبار اليهود طلبوا من بعض اليهود اعتناق الإسلام والصلاة مع المسلمين في النهار ثم يعودون إليهم ويقولون : إننا سألنا أحبارنا فقالوا : إن محمدا كاذب، وإن المسلمين ليسوا على شيء فيساورهم الشك ويقولون : إنهم علماء أهل الكتاب، وهم أعلم منا فيرجعون عن الإسلام. وروى بعضهم٤ أن هذه الآيات أو بعضها نزلت في صدد تحويل القبلة ؛ حيث شق ذلك عليهم وأخذوا يتآمرون على المسلمين.
والصفات والأقوال التي وصفت بها الآيات القائلين ونسبتها إليهم قد وصف اليهود بها ونسبت إليهم بصراحة في سلسلة آيات سورة البقرة مثل الآيات [ ٤١ ٤٢ و٧٦ ٧٧ و٨٩ ٩٠ ] والتنديد الذي ندد بهم قد ندد بهم بنفس الصيغة في آيات البقرة المذكورة ؛ حيث يسوغ القول بشيء من الجزم إن جميع الآيات في حق اليهود، وإن مناسبة نزولها هي الرواية التي تذكر تآمر بعض أحبارهم على تشكيك المسلمين. وفحوى الآيات وروحها متسقان مع هذه الرواية دون غيرها من الروايات.
ومن شرح الآيات يبدو ما في الأسلوب الذي عمدوا إليه من كيد شديد. ولهذا استحقوا التقريع اللاذع الذي وجهته إليهم وفضحت به مؤامراتهم الآثمة. وتلهم الآيات إلى هذا أن اليهود كانوا مغترين بما لهم من مركز وتأثير في العرب وأنهم لم يكونوا في حقيقة أمرهم يجهلون قوة دعوة النبي وصدقها وصحتها. وأن ما كانوا يحاولونه ويبيتونه كان منهم بغيا وعدوانا وحسدا وغيظا. وهو ما حكته عنهم آيات سلسلة البقرة أيضا، وهذا ملموح بنوع خاص في الآية [ ٧٣ ].
والفقرة الأخيرة من هذه الآية جديرة بالتنويه بصورة خاصة. فاليهود كانوا يتبجحون بأن فضل الله ونبواته محصورة فيهم. وكانوا يتواصون بعدم الإفضاء بما يعرفون من أسرار دينية حتى لا يحاججهم المسلمون أو يعرفوا ما يعرفونه. فردت عليهم الآية منددة من جهة. وانطوى فيها تثبيت للمسلمين من جهة أخرى. كأنما أريد أن يقال لهم ليس من حرج على فضل الله. فهو يختص به من يشاء. وقد اختصهم بنبوة نبي منهم وبكتاب أنزله بلغتهم.
وهذا الموقف مما كان يتكرر من اليهود على ما يستفاد من آيات سلسلة البقرة التي مرّ تفسيرها ومن الآيات الأولى من سورة الجمعة على ما سوف يمرّ شرحها أيضا.
والسياق يفيد بصراحة تامة أن جملة ﴿ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ هي حكاية لتواصي اليهود لبعضهم وشعار من شعاراتهم وليست تقريرا ربانيا مباشرا موجها فيه الخطاب إلى المسلمين كما يتوهمه بعضهم فيجعلونه شعارا لهم. والشعار أو الجملة تمثل شدة تعصب اليهود إزاء غيرهم وعدم تبادلهم الاعتماد والثقة مع الغير وحذرهم الدائم منه. وقد صار هذا شعارا يهوديا عاما وجبلة من جبلتهم التي جعلت كل الناس في كل ظرف ومكان يزورون منهم ويقفون منهم نفس الموقف.
أما المسلمون فشعارهم تجاه غيرهم يتمثل أولا في الضابطين المنطويين في آيتي سورة الممتحنة [ ٨ و٩ ] اللتين أوردناهما في سياق شرح الآيات [ ٢٧ و٢٨ ] من هذه السورة وهو البر والإقساط وحسن التعامل والتعايش مع المسالمين الموادين لهم وعدم تولي الظالمين المعتدين عليهم. ثم في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي تقرر وجوب التزام الحق والعدل والقسط والتعامل بذلك وأداء الأمانات إلى أهلها والوفاء بالعدل وعدم الخيانة والغدر مطلقا في كل وقت وظرف وحالة وتجاه كل أحد وبقطع النظر عن أي اعتبار وعدم مبادرة أحد بالعدوان والاكتفاء بمقابلة العدوان بمثله وفي نطاق الضرورة على ما مرّ شرحه في السور التي سبق تفسيرها وعلى ما سوف يأتي شرحه في سور يأتي تفسيرها بعد.
هذا، وأسلوب الآيات ومضمونها يحتملان أن تكون متصلة بسابقاتها اتصال سياق وموضوع معا كما يحتملان أن يكون اتصالها اتصال موضوع وزمن نزول معا، وليس من سبيل إلى ترجيح أحد الاحتمالين. والله اعلم.
٢ انظر تفسير الطبري..
٣ انظر الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي..
٤ انظر تفسير الطبرسي..
في الآيات :
١ إشارة تقريرية إلى ما كان يتمناه طائفة من أهل الكتاب، وهو تضليل المؤمنين وتشكيكهم في دينهم وتحويلهم عنه.
٢ نعي عليهم بأنهم لا يضلون في الحقيقة إلا أنفسهم دون أن يدروا.
٣ وخطاب موجه إليهم على سبيل التنديد والتقريع بأسلوب السؤال الاستنكاري عن كفرهم بآيات الله مع أنهم يشهدون في سرائرهم بصحتها ويرون أمارات صدقها وعن إلباسهم الحق بالباطل وكتمهم الحق عن عمد وعلم بما في عملهم من بغي وانحراف.
٤ وحكاية لما كانت تتواصى به هذه الطائفة بسبيل تضليل المؤمنين وتشكيكهم ؛ حيث كانت تتواصى بإظهار الإيمان والتصديق بالنبي والقرآن في الصباح ثم إظهار الشك والجحود في المساء لتؤثر بذلك على المسلمين وتجعلهم يرتدون عن دينهم ويرجعون عنه. وحيث كانت تتواصى بأن لا يؤمن بعضهم إلا لبعض ؛ لئلا يعرف غيرهم ما عندهم فحاجوهم به عند ربهم.
٥ وأمر للنبي بأن يعلن إزاء ما يبيته هؤلاء من المؤامرات والحقد وأساليب الكيد أن الهدى هو هدى الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وهو واسع الفضل عليم بمستحقيه وأنه ذو فضل عظيم يختص به من يشاء. وذلك ردا على تواصيهم وأمانيهم ودسائسهم وتثبيتا لنفوس المسلمين.
تعليق على الآية
﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ... ﴾ إلخ
والآيات التابعة لها إلى [ ٧٤ ]
ولقد تعددت روايات المفسرين في مناسبة هذه الآيات : من ذلك أن الآية الأولى بسبب محاولة بعض اليهود إغراء معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بترك الإسلام والتهود١. وقال بعضهم : إن الآيات الثلاث الأولى في حق جماعة من اليهود والنصارى ؛ لأنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق مع أنهم يعلمون أن النبي على حق، وأن دلائل نبوته موجودة في كتبهم وكل هذا بسبيل تضليل المسلمين وتشكيكهم٢. وروى جمهورهم٣ أن الآية الرابعة نزلت في حق جماعة من أحبار اليهود تآمروا على الكيد للمسلمين وتشكيكهم في دينهم والتواصي بعدم إطلاعهم على ما عندهم من دلائل بالأسلوب الذي حكته الآيات. ومما رووه أن أحبار اليهود طلبوا من بعض اليهود اعتناق الإسلام والصلاة مع المسلمين في النهار ثم يعودون إليهم ويقولون : إننا سألنا أحبارنا فقالوا : إن محمدا كاذب، وإن المسلمين ليسوا على شيء فيساورهم الشك ويقولون : إنهم علماء أهل الكتاب، وهم أعلم منا فيرجعون عن الإسلام. وروى بعضهم٤ أن هذه الآيات أو بعضها نزلت في صدد تحويل القبلة ؛ حيث شق ذلك عليهم وأخذوا يتآمرون على المسلمين.
والصفات والأقوال التي وصفت بها الآيات القائلين ونسبتها إليهم قد وصف اليهود بها ونسبت إليهم بصراحة في سلسلة آيات سورة البقرة مثل الآيات [ ٤١ ٤٢ و٧٦ ٧٧ و٨٩ ٩٠ ] والتنديد الذي ندد بهم قد ندد بهم بنفس الصيغة في آيات البقرة المذكورة ؛ حيث يسوغ القول بشيء من الجزم إن جميع الآيات في حق اليهود، وإن مناسبة نزولها هي الرواية التي تذكر تآمر بعض أحبارهم على تشكيك المسلمين. وفحوى الآيات وروحها متسقان مع هذه الرواية دون غيرها من الروايات.
ومن شرح الآيات يبدو ما في الأسلوب الذي عمدوا إليه من كيد شديد. ولهذا استحقوا التقريع اللاذع الذي وجهته إليهم وفضحت به مؤامراتهم الآثمة. وتلهم الآيات إلى هذا أن اليهود كانوا مغترين بما لهم من مركز وتأثير في العرب وأنهم لم يكونوا في حقيقة أمرهم يجهلون قوة دعوة النبي وصدقها وصحتها. وأن ما كانوا يحاولونه ويبيتونه كان منهم بغيا وعدوانا وحسدا وغيظا. وهو ما حكته عنهم آيات سلسلة البقرة أيضا، وهذا ملموح بنوع خاص في الآية [ ٧٣ ].
والفقرة الأخيرة من هذه الآية جديرة بالتنويه بصورة خاصة. فاليهود كانوا يتبجحون بأن فضل الله ونبواته محصورة فيهم. وكانوا يتواصون بعدم الإفضاء بما يعرفون من أسرار دينية حتى لا يحاججهم المسلمون أو يعرفوا ما يعرفونه. فردت عليهم الآية منددة من جهة. وانطوى فيها تثبيت للمسلمين من جهة أخرى. كأنما أريد أن يقال لهم ليس من حرج على فضل الله. فهو يختص به من يشاء. وقد اختصهم بنبوة نبي منهم وبكتاب أنزله بلغتهم.
وهذا الموقف مما كان يتكرر من اليهود على ما يستفاد من آيات سلسلة البقرة التي مرّ تفسيرها ومن الآيات الأولى من سورة الجمعة على ما سوف يمرّ شرحها أيضا.
والسياق يفيد بصراحة تامة أن جملة ﴿ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ هي حكاية لتواصي اليهود لبعضهم وشعار من شعاراتهم وليست تقريرا ربانيا مباشرا موجها فيه الخطاب إلى المسلمين كما يتوهمه بعضهم فيجعلونه شعارا لهم. والشعار أو الجملة تمثل شدة تعصب اليهود إزاء غيرهم وعدم تبادلهم الاعتماد والثقة مع الغير وحذرهم الدائم منه. وقد صار هذا شعارا يهوديا عاما وجبلة من جبلتهم التي جعلت كل الناس في كل ظرف ومكان يزورون منهم ويقفون منهم نفس الموقف.
أما المسلمون فشعارهم تجاه غيرهم يتمثل أولا في الضابطين المنطويين في آيتي سورة الممتحنة [ ٨ و٩ ] اللتين أوردناهما في سياق شرح الآيات [ ٢٧ و٢٨ ] من هذه السورة وهو البر والإقساط وحسن التعامل والتعايش مع المسالمين الموادين لهم وعدم تولي الظالمين المعتدين عليهم. ثم في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي تقرر وجوب التزام الحق والعدل والقسط والتعامل بذلك وأداء الأمانات إلى أهلها والوفاء بالعدل وعدم الخيانة والغدر مطلقا في كل وقت وظرف وحالة وتجاه كل أحد وبقطع النظر عن أي اعتبار وعدم مبادرة أحد بالعدوان والاكتفاء بمقابلة العدوان بمثله وفي نطاق الضرورة على ما مرّ شرحه في السور التي سبق تفسيرها وعلى ما سوف يأتي شرحه في سور يأتي تفسيرها بعد.
هذا، وأسلوب الآيات ومضمونها يحتملان أن تكون متصلة بسابقاتها اتصال سياق وموضوع معا كما يحتملان أن يكون اتصالها اتصال موضوع وزمن نزول معا، وليس من سبيل إلى ترجيح أحد الاحتمالين. والله اعلم.
٢ انظر تفسير الطبري..
٣ انظر الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي..
٤ انظر تفسير الطبرسي..
في الآيات :
١ إشارة تقريرية إلى ما كان يتمناه طائفة من أهل الكتاب، وهو تضليل المؤمنين وتشكيكهم في دينهم وتحويلهم عنه.
٢ نعي عليهم بأنهم لا يضلون في الحقيقة إلا أنفسهم دون أن يدروا.
٣ وخطاب موجه إليهم على سبيل التنديد والتقريع بأسلوب السؤال الاستنكاري عن كفرهم بآيات الله مع أنهم يشهدون في سرائرهم بصحتها ويرون أمارات صدقها وعن إلباسهم الحق بالباطل وكتمهم الحق عن عمد وعلم بما في عملهم من بغي وانحراف.
٤ وحكاية لما كانت تتواصى به هذه الطائفة بسبيل تضليل المؤمنين وتشكيكهم ؛ حيث كانت تتواصى بإظهار الإيمان والتصديق بالنبي والقرآن في الصباح ثم إظهار الشك والجحود في المساء لتؤثر بذلك على المسلمين وتجعلهم يرتدون عن دينهم ويرجعون عنه. وحيث كانت تتواصى بأن لا يؤمن بعضهم إلا لبعض ؛ لئلا يعرف غيرهم ما عندهم فحاجوهم به عند ربهم.
٥ وأمر للنبي بأن يعلن إزاء ما يبيته هؤلاء من المؤامرات والحقد وأساليب الكيد أن الهدى هو هدى الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وهو واسع الفضل عليم بمستحقيه وأنه ذو فضل عظيم يختص به من يشاء. وذلك ردا على تواصيهم وأمانيهم ودسائسهم وتثبيتا لنفوس المسلمين.
تعليق على الآية
﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ... ﴾ إلخ
والآيات التابعة لها إلى [ ٧٤ ]
ولقد تعددت روايات المفسرين في مناسبة هذه الآيات : من ذلك أن الآية الأولى بسبب محاولة بعض اليهود إغراء معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بترك الإسلام والتهود١. وقال بعضهم : إن الآيات الثلاث الأولى في حق جماعة من اليهود والنصارى ؛ لأنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق مع أنهم يعلمون أن النبي على حق، وأن دلائل نبوته موجودة في كتبهم وكل هذا بسبيل تضليل المسلمين وتشكيكهم٢. وروى جمهورهم٣ أن الآية الرابعة نزلت في حق جماعة من أحبار اليهود تآمروا على الكيد للمسلمين وتشكيكهم في دينهم والتواصي بعدم إطلاعهم على ما عندهم من دلائل بالأسلوب الذي حكته الآيات. ومما رووه أن أحبار اليهود طلبوا من بعض اليهود اعتناق الإسلام والصلاة مع المسلمين في النهار ثم يعودون إليهم ويقولون : إننا سألنا أحبارنا فقالوا : إن محمدا كاذب، وإن المسلمين ليسوا على شيء فيساورهم الشك ويقولون : إنهم علماء أهل الكتاب، وهم أعلم منا فيرجعون عن الإسلام. وروى بعضهم٤ أن هذه الآيات أو بعضها نزلت في صدد تحويل القبلة ؛ حيث شق ذلك عليهم وأخذوا يتآمرون على المسلمين.
والصفات والأقوال التي وصفت بها الآيات القائلين ونسبتها إليهم قد وصف اليهود بها ونسبت إليهم بصراحة في سلسلة آيات سورة البقرة مثل الآيات [ ٤١ ٤٢ و٧٦ ٧٧ و٨٩ ٩٠ ] والتنديد الذي ندد بهم قد ندد بهم بنفس الصيغة في آيات البقرة المذكورة ؛ حيث يسوغ القول بشيء من الجزم إن جميع الآيات في حق اليهود، وإن مناسبة نزولها هي الرواية التي تذكر تآمر بعض أحبارهم على تشكيك المسلمين. وفحوى الآيات وروحها متسقان مع هذه الرواية دون غيرها من الروايات.
ومن شرح الآيات يبدو ما في الأسلوب الذي عمدوا إليه من كيد شديد. ولهذا استحقوا التقريع اللاذع الذي وجهته إليهم وفضحت به مؤامراتهم الآثمة. وتلهم الآيات إلى هذا أن اليهود كانوا مغترين بما لهم من مركز وتأثير في العرب وأنهم لم يكونوا في حقيقة أمرهم يجهلون قوة دعوة النبي وصدقها وصحتها. وأن ما كانوا يحاولونه ويبيتونه كان منهم بغيا وعدوانا وحسدا وغيظا. وهو ما حكته عنهم آيات سلسلة البقرة أيضا، وهذا ملموح بنوع خاص في الآية [ ٧٣ ].
والفقرة الأخيرة من هذه الآية جديرة بالتنويه بصورة خاصة. فاليهود كانوا يتبجحون بأن فضل الله ونبواته محصورة فيهم. وكانوا يتواصون بعدم الإفضاء بما يعرفون من أسرار دينية حتى لا يحاججهم المسلمون أو يعرفوا ما يعرفونه. فردت عليهم الآية منددة من جهة. وانطوى فيها تثبيت للمسلمين من جهة أخرى. كأنما أريد أن يقال لهم ليس من حرج على فضل الله. فهو يختص به من يشاء. وقد اختصهم بنبوة نبي منهم وبكتاب أنزله بلغتهم.
وهذا الموقف مما كان يتكرر من اليهود على ما يستفاد من آيات سلسلة البقرة التي مرّ تفسيرها ومن الآيات الأولى من سورة الجمعة على ما سوف يمرّ شرحها أيضا.
والسياق يفيد بصراحة تامة أن جملة ﴿ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ هي حكاية لتواصي اليهود لبعضهم وشعار من شعاراتهم وليست تقريرا ربانيا مباشرا موجها فيه الخطاب إلى المسلمين كما يتوهمه بعضهم فيجعلونه شعارا لهم. والشعار أو الجملة تمثل شدة تعصب اليهود إزاء غيرهم وعدم تبادلهم الاعتماد والثقة مع الغير وحذرهم الدائم منه. وقد صار هذا شعارا يهوديا عاما وجبلة من جبلتهم التي جعلت كل الناس في كل ظرف ومكان يزورون منهم ويقفون منهم نفس الموقف.
أما المسلمون فشعارهم تجاه غيرهم يتمثل أولا في الضابطين المنطويين في آيتي سورة الممتحنة [ ٨ و٩ ] اللتين أوردناهما في سياق شرح الآيات [ ٢٧ و٢٨ ] من هذه السورة وهو البر والإقساط وحسن التعامل والتعايش مع المسالمين الموادين لهم وعدم تولي الظالمين المعتدين عليهم. ثم في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي تقرر وجوب التزام الحق والعدل والقسط والتعامل بذلك وأداء الأمانات إلى أهلها والوفاء بالعدل وعدم الخيانة والغدر مطلقا في كل وقت وظرف وحالة وتجاه كل أحد وبقطع النظر عن أي اعتبار وعدم مبادرة أحد بالعدوان والاكتفاء بمقابلة العدوان بمثله وفي نطاق الضرورة على ما مرّ شرحه في السور التي سبق تفسيرها وعلى ما سوف يأتي شرحه في سور يأتي تفسيرها بعد.
هذا، وأسلوب الآيات ومضمونها يحتملان أن تكون متصلة بسابقاتها اتصال سياق وموضوع معا كما يحتملان أن يكون اتصالها اتصال موضوع وزمن نزول معا، وليس من سبيل إلى ترجيح أحد الاحتمالين. والله اعلم.
٢ انظر تفسير الطبري..
٣ انظر الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي..
٤ انظر تفسير الطبرسي..
في الآيات :
١ إشارة تقريرية إلى ما كان يتمناه طائفة من أهل الكتاب، وهو تضليل المؤمنين وتشكيكهم في دينهم وتحويلهم عنه.
٢ نعي عليهم بأنهم لا يضلون في الحقيقة إلا أنفسهم دون أن يدروا.
٣ وخطاب موجه إليهم على سبيل التنديد والتقريع بأسلوب السؤال الاستنكاري عن كفرهم بآيات الله مع أنهم يشهدون في سرائرهم بصحتها ويرون أمارات صدقها وعن إلباسهم الحق بالباطل وكتمهم الحق عن عمد وعلم بما في عملهم من بغي وانحراف.
٤ وحكاية لما كانت تتواصى به هذه الطائفة بسبيل تضليل المؤمنين وتشكيكهم ؛ حيث كانت تتواصى بإظهار الإيمان والتصديق بالنبي والقرآن في الصباح ثم إظهار الشك والجحود في المساء لتؤثر بذلك على المسلمين وتجعلهم يرتدون عن دينهم ويرجعون عنه. وحيث كانت تتواصى بأن لا يؤمن بعضهم إلا لبعض ؛ لئلا يعرف غيرهم ما عندهم فحاجوهم به عند ربهم.
٥ وأمر للنبي بأن يعلن إزاء ما يبيته هؤلاء من المؤامرات والحقد وأساليب الكيد أن الهدى هو هدى الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وهو واسع الفضل عليم بمستحقيه وأنه ذو فضل عظيم يختص به من يشاء. وذلك ردا على تواصيهم وأمانيهم ودسائسهم وتثبيتا لنفوس المسلمين.
تعليق على الآية
﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ... ﴾ إلخ
والآيات التابعة لها إلى [ ٧٤ ]
ولقد تعددت روايات المفسرين في مناسبة هذه الآيات : من ذلك أن الآية الأولى بسبب محاولة بعض اليهود إغراء معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بترك الإسلام والتهود١. وقال بعضهم : إن الآيات الثلاث الأولى في حق جماعة من اليهود والنصارى ؛ لأنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق مع أنهم يعلمون أن النبي على حق، وأن دلائل نبوته موجودة في كتبهم وكل هذا بسبيل تضليل المسلمين وتشكيكهم٢. وروى جمهورهم٣ أن الآية الرابعة نزلت في حق جماعة من أحبار اليهود تآمروا على الكيد للمسلمين وتشكيكهم في دينهم والتواصي بعدم إطلاعهم على ما عندهم من دلائل بالأسلوب الذي حكته الآيات. ومما رووه أن أحبار اليهود طلبوا من بعض اليهود اعتناق الإسلام والصلاة مع المسلمين في النهار ثم يعودون إليهم ويقولون : إننا سألنا أحبارنا فقالوا : إن محمدا كاذب، وإن المسلمين ليسوا على شيء فيساورهم الشك ويقولون : إنهم علماء أهل الكتاب، وهم أعلم منا فيرجعون عن الإسلام. وروى بعضهم٤ أن هذه الآيات أو بعضها نزلت في صدد تحويل القبلة ؛ حيث شق ذلك عليهم وأخذوا يتآمرون على المسلمين.
والصفات والأقوال التي وصفت بها الآيات القائلين ونسبتها إليهم قد وصف اليهود بها ونسبت إليهم بصراحة في سلسلة آيات سورة البقرة مثل الآيات [ ٤١ ٤٢ و٧٦ ٧٧ و٨٩ ٩٠ ] والتنديد الذي ندد بهم قد ندد بهم بنفس الصيغة في آيات البقرة المذكورة ؛ حيث يسوغ القول بشيء من الجزم إن جميع الآيات في حق اليهود، وإن مناسبة نزولها هي الرواية التي تذكر تآمر بعض أحبارهم على تشكيك المسلمين. وفحوى الآيات وروحها متسقان مع هذه الرواية دون غيرها من الروايات.
ومن شرح الآيات يبدو ما في الأسلوب الذي عمدوا إليه من كيد شديد. ولهذا استحقوا التقريع اللاذع الذي وجهته إليهم وفضحت به مؤامراتهم الآثمة. وتلهم الآيات إلى هذا أن اليهود كانوا مغترين بما لهم من مركز وتأثير في العرب وأنهم لم يكونوا في حقيقة أمرهم يجهلون قوة دعوة النبي وصدقها وصحتها. وأن ما كانوا يحاولونه ويبيتونه كان منهم بغيا وعدوانا وحسدا وغيظا. وهو ما حكته عنهم آيات سلسلة البقرة أيضا، وهذا ملموح بنوع خاص في الآية [ ٧٣ ].
والفقرة الأخيرة من هذه الآية جديرة بالتنويه بصورة خاصة. فاليهود كانوا يتبجحون بأن فضل الله ونبواته محصورة فيهم. وكانوا يتواصون بعدم الإفضاء بما يعرفون من أسرار دينية حتى لا يحاججهم المسلمون أو يعرفوا ما يعرفونه. فردت عليهم الآية منددة من جهة. وانطوى فيها تثبيت للمسلمين من جهة أخرى. كأنما أريد أن يقال لهم ليس من حرج على فضل الله. فهو يختص به من يشاء. وقد اختصهم بنبوة نبي منهم وبكتاب أنزله بلغتهم.
وهذا الموقف مما كان يتكرر من اليهود على ما يستفاد من آيات سلسلة البقرة التي مرّ تفسيرها ومن الآيات الأولى من سورة الجمعة على ما سوف يمرّ شرحها أيضا.
والسياق يفيد بصراحة تامة أن جملة ﴿ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ هي حكاية لتواصي اليهود لبعضهم وشعار من شعاراتهم وليست تقريرا ربانيا مباشرا موجها فيه الخطاب إلى المسلمين كما يتوهمه بعضهم فيجعلونه شعارا لهم. والشعار أو الجملة تمثل شدة تعصب اليهود إزاء غيرهم وعدم تبادلهم الاعتماد والثقة مع الغير وحذرهم الدائم منه. وقد صار هذا شعارا يهوديا عاما وجبلة من جبلتهم التي جعلت كل الناس في كل ظرف ومكان يزورون منهم ويقفون منهم نفس الموقف.
أما المسلمون فشعارهم تجاه غيرهم يتمثل أولا في الضابطين المنطويين في آيتي سورة الممتحنة [ ٨ و٩ ] اللتين أوردناهما في سياق شرح الآيات [ ٢٧ و٢٨ ] من هذه السورة وهو البر والإقساط وحسن التعامل والتعايش مع المسالمين الموادين لهم وعدم تولي الظالمين المعتدين عليهم. ثم في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي تقرر وجوب التزام الحق والعدل والقسط والتعامل بذلك وأداء الأمانات إلى أهلها والوفاء بالعدل وعدم الخيانة والغدر مطلقا في كل وقت وظرف وحالة وتجاه كل أحد وبقطع النظر عن أي اعتبار وعدم مبادرة أحد بالعدوان والاكتفاء بمقابلة العدوان بمثله وفي نطاق الضرورة على ما مرّ شرحه في السور التي سبق تفسيرها وعلى ما سوف يأتي شرحه في سور يأتي تفسيرها بعد.
هذا، وأسلوب الآيات ومضمونها يحتملان أن تكون متصلة بسابقاتها اتصال سياق وموضوع معا كما يحتملان أن يكون اتصالها اتصال موضوع وزمن نزول معا، وليس من سبيل إلى ترجيح أحد الاحتمالين. والله اعلم.
٢ انظر تفسير الطبري..
٣ انظر الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي..
٤ انظر تفسير الطبرسي..
وفي هذه الآيات :
١ ـ إشارة إلى أهل الكتاب فئتان : واحدة تؤدي الأمانة مهما عظمت ولو كانت قنطارا، وأخرى لا تؤديها مهما قلت ولو كانت دينارا إلا إذا ظلّ صاحبها جادا في مطلبه وحقه.
٢ ـ وحكاية لقول الفئة الثانية : وهو أن الله لا يؤاخذها في أي شيء تجاه أحد من غيرهم من الأمم.
٣ ـ ورد تعنيفي على هذا القول فهو كذب على الله وإن القائلين ليعلمون ذلك أيضا.
٤ ـ واستدراك مستأنف بأن كل أمر موضع محاسبة الله في أي موقف وحال دون ما استثناء فالذي يوفي بعهده ويتقي الله فإنه يستحق رضاءه ؛ لأن الله يحب المتقين. أما الذين يبيعون عهد الله وأيمانهم بالثمن البخس والمنفعة الخسيسة فهم غير مستحقين من الله إلا الغضب والسخط وليس لهم في الآخرة أي نصيب من رضائه فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم فيها ولهم العذاب الأليم.
تعليق على الآية
﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
لقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في مناسبة هذه الآيات. من ذلك رواية يرويها البخاري والترمذي أيضا عن الأشعت بن قيس قال :" إن آية ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ ﴾ إلخ.. نزلت فيّ. كانت لي بئر في أرض ابن عمّ لي. فأنكرها عليّ فقال النبي بينتك أو يمينه فقلت : إذن يحلف يا رسول الله. فقال : النبي من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهو منها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان. وأنزل الله الآية " ١. ومن ذلك رواية يرويها البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال :" إن رجلا أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي فيها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت الآية ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ... ﴾ إلخ " ٢. ومن ذلك روايات لم ترد في الصحاح منها أن الآيات نزلت في عبد الله بن سلام الذي ائتمنه رجل على ألف ومائتي أوقية ذهبا فأداها وفي فنحاص بن عذار الذي ائتمنه رجل على دينار فخانه فيه.
ومن ذلك أنه كان لجماعة من العرب ذمم على اليهود، فلما أسلم العرب أنكر اليهود ما لهم من ذمم قبلهم وحلفوا على ذلك كذبا، فأنزل الله الآيات. ومن ذلك رواية تذكر أنه كان لمسلم حق على يهودي فأنكره فكلف النبي المسلم بالبينة فلم يستطع فكلف اليهودي باليمين فقال المسلم : يحلف ويذهب مالي فأنزل الله الآية الثالثة. ومن ذلك أن هذه الآية نزلت في بعض أحبار اليهود الذين استشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما عندهم من دلائل نبوته، فأنكروا وحلفوا أنه ليس عندهم من ذلك شيء.
ويلحظ أولا أن الحديثين يذكران أن الآية الثالثة نزلت في مناسبتين مختلفتين. وثانيا أن عبد الله بن سلام كان قد أسلم واندمج في الإسلام ولم يعد متصفا بصفة كونه من أهل الكتاب. وثالثا أن الحديثين مع الروايات تقتضي أن تكون الآية الثالثة نزلت منفصلة عن الآيتين الأوليين في حين أن المتبادر الذي تلهمه روح الآيات الثلاث ونظنها أنها وحدة تامة وأنها متصلة بسابقاتها ومعقبة عليها. فالآيات السابقة التي ذكرت تواصي اليهود على خداع المسلمين وتضليلهم وعدم إطلاعهم على ما عندهم واحتوت أحد شعاراتهم بعدم الائتمان لغيرهم فجاءت هذه الآيات تذكر شعارا أو صفة أخرى من شعاراتهم وصفاتهم متصلة بالصفات والشعارات المذكورة في الآيات السابقة، وهي جحود الحق والأمانات وحلفهم بالله باطلا في سبيل أعراض الدنيا واستحلالهم أموال الغير واستهانتهم بما يكون للغير قبلهم من حقوق وأمانات وعدم التزامهم بها.
وهذا البيان لا يمنع أن يكون وقع بعض وقائع جحد فيها بعض اليهود أمانات وذمما عندهم للمسلمين وحلفوا كذبا، فكان ذلك مناسبة ملائمة للتذكير بأخلاقهم وتكرار الحملة عليهم والتنديد بهم في سياق موقفهم من النبي والمسلمين وحكاية تآمرهم على تشكيك المسلمين وتضليلهم وكتم ما عندهم من دلائل على صدق نبوة النبي وصحة الوحي القرآني. وقد تكون الرواية التي ذكرت حلف بعض أحبار اليهود على عدم وجود شيء من الدلائل عندهم على صحة نبوة النبي والوحي القرآني صحيحة فكانت من المناسبات لنزول الآيات أيضا.
ويتبادر لنا في صدد الحديثين الصحيحين أن ما ذكر فيهما من أحداث قد وقعت بعد نزول الآيات، وأن الآية الثالثة تليت للاستشهاد بها، فالتبس الأمر على الرواة. والله تعالى أعلم.
ولقد قال الخازن بلفظ ( قيل ) : إن المقصود من الفئة الأولى هم النصارى ومن الفئة الثانية هم اليهود. وهو قول وجيه تطمئن به النفس، وتكون الآيات بذلك قد احتوت وهي مستمرة على التنديد باليهود مقايسة بينهم وبين النصارى لتقوية التنديد. على أن هذا إذا لم يصح وكانت الفئتان من اليهود فإن أسلوب بقية الآية الأولى ومضمونها يلهمان أن الفئة الأولى هي الأقلية والأخرى هي الأكثرية من اليهود. ويظل التنديد بذلك قويا وشاملا لأكثرية اليهود كما هو المتبادر.
ولقد احتوت الآية تكذيبا لقول اليهود إنه ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾ أي إن شريعتنا لا ترتب علينا أي ذنب ومسؤولية مهما فعلنا مع الأمم الأخرى بما في ذلك خيانتهم وأكل أموالهم، وتقريرا بأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولقد احتوت أسفارهم وصايا عديدة بالغريب الساكن بينهم وعدم ظلمه ومضايقته وهضم أمواله وحقوقه بل وفيها وصية بمساعدة أعدائهم ومعاونتهم في المواقف التي يكونون فيها في حاجة إلى ذلك٣ وبذلك استحكمتهم حجة القرآن ودمغهم بتكذيبهم في هذه المسألة.
ومع خصوصية الآيات فإن فيها تلقينات جليلة متسقة مع المبادئ القرآنية العامة ومستمرة المدى سواء أفي الحث على الأمانة والتنويه بالأمناء أم في التنديد بالخائنين أم في تقريع الذين يبيعون عهد الله ويحلفون الأيمان الكاذبة في سبيل خسيس المنافع وأعراض الدنيا.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث نبوية عديدة في صدد ذلك : منها حديث أخرجه الإمام أحمد ورواه مسلم وأهل السنن جاء فيه :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. فقال أبو ذرّ راوي الحديث : من هم ؟ خسروا وخابوا. قال : المسبل والمنّان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " ٤. ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا جاء فيه :
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع مال امرئ مسلم لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان " ٥. ومنها حديث جاء فيه :" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله وفي رواية فضل مائه عن ابن السبيل " ٦. ومنها حديث جاء فيه :" لما قال اليهود ليس علينا في الأميين سبيل قال رسول الله كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا هو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " ٧. حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما يتساوق مع كل الشؤون.
وننبه في هذه المناسبة على أن الحثّ على مراعاة الأمانات والتنويه بمن يفعل ذلك قد تكرر في القرآن والحديث. وكان موضوعا لتعليق لنا في سياق شرح الآيات الأولى من سورة ( المؤمنون ).
وفي هذه الآيات :
١ ـ إشارة إلى أهل الكتاب فئتان : واحدة تؤدي الأمانة مهما عظمت ولو كانت قنطارا، وأخرى لا تؤديها مهما قلت ولو كانت دينارا إلا إذا ظلّ صاحبها جادا في مطلبه وحقه.
٢ ـ وحكاية لقول الفئة الثانية : وهو أن الله لا يؤاخذها في أي شيء تجاه أحد من غيرهم من الأمم.
٣ ـ ورد تعنيفي على هذا القول فهو كذب على الله وإن القائلين ليعلمون ذلك أيضا.
٤ ـ واستدراك مستأنف بأن كل أمر موضع محاسبة الله في أي موقف وحال دون ما استثناء فالذي يوفي بعهده ويتقي الله فإنه يستحق رضاءه ؛ لأن الله يحب المتقين. أما الذين يبيعون عهد الله وأيمانهم بالثمن البخس والمنفعة الخسيسة فهم غير مستحقين من الله إلا الغضب والسخط وليس لهم في الآخرة أي نصيب من رضائه فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم فيها ولهم العذاب الأليم.
تعليق على الآية
﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
لقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في مناسبة هذه الآيات. من ذلك رواية يرويها البخاري والترمذي أيضا عن الأشعت بن قيس قال :" إن آية ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ ﴾ إلخ.. نزلت فيّ. كانت لي بئر في أرض ابن عمّ لي. فأنكرها عليّ فقال النبي بينتك أو يمينه فقلت : إذن يحلف يا رسول الله. فقال : النبي من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهو منها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان. وأنزل الله الآية " ١. ومن ذلك رواية يرويها البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال :" إن رجلا أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي فيها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت الآية ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ... ﴾ إلخ " ٢. ومن ذلك روايات لم ترد في الصحاح منها أن الآيات نزلت في عبد الله بن سلام الذي ائتمنه رجل على ألف ومائتي أوقية ذهبا فأداها وفي فنحاص بن عذار الذي ائتمنه رجل على دينار فخانه فيه.
ومن ذلك أنه كان لجماعة من العرب ذمم على اليهود، فلما أسلم العرب أنكر اليهود ما لهم من ذمم قبلهم وحلفوا على ذلك كذبا، فأنزل الله الآيات. ومن ذلك رواية تذكر أنه كان لمسلم حق على يهودي فأنكره فكلف النبي المسلم بالبينة فلم يستطع فكلف اليهودي باليمين فقال المسلم : يحلف ويذهب مالي فأنزل الله الآية الثالثة. ومن ذلك أن هذه الآية نزلت في بعض أحبار اليهود الذين استشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما عندهم من دلائل نبوته، فأنكروا وحلفوا أنه ليس عندهم من ذلك شيء.
ويلحظ أولا أن الحديثين يذكران أن الآية الثالثة نزلت في مناسبتين مختلفتين. وثانيا أن عبد الله بن سلام كان قد أسلم واندمج في الإسلام ولم يعد متصفا بصفة كونه من أهل الكتاب. وثالثا أن الحديثين مع الروايات تقتضي أن تكون الآية الثالثة نزلت منفصلة عن الآيتين الأوليين في حين أن المتبادر الذي تلهمه روح الآيات الثلاث ونظنها أنها وحدة تامة وأنها متصلة بسابقاتها ومعقبة عليها. فالآيات السابقة التي ذكرت تواصي اليهود على خداع المسلمين وتضليلهم وعدم إطلاعهم على ما عندهم واحتوت أحد شعاراتهم بعدم الائتمان لغيرهم فجاءت هذه الآيات تذكر شعارا أو صفة أخرى من شعاراتهم وصفاتهم متصلة بالصفات والشعارات المذكورة في الآيات السابقة، وهي جحود الحق والأمانات وحلفهم بالله باطلا في سبيل أعراض الدنيا واستحلالهم أموال الغير واستهانتهم بما يكون للغير قبلهم من حقوق وأمانات وعدم التزامهم بها.
وهذا البيان لا يمنع أن يكون وقع بعض وقائع جحد فيها بعض اليهود أمانات وذمما عندهم للمسلمين وحلفوا كذبا، فكان ذلك مناسبة ملائمة للتذكير بأخلاقهم وتكرار الحملة عليهم والتنديد بهم في سياق موقفهم من النبي والمسلمين وحكاية تآمرهم على تشكيك المسلمين وتضليلهم وكتم ما عندهم من دلائل على صدق نبوة النبي وصحة الوحي القرآني. وقد تكون الرواية التي ذكرت حلف بعض أحبار اليهود على عدم وجود شيء من الدلائل عندهم على صحة نبوة النبي والوحي القرآني صحيحة فكانت من المناسبات لنزول الآيات أيضا.
ويتبادر لنا في صدد الحديثين الصحيحين أن ما ذكر فيهما من أحداث قد وقعت بعد نزول الآيات، وأن الآية الثالثة تليت للاستشهاد بها، فالتبس الأمر على الرواة. والله تعالى أعلم.
ولقد قال الخازن بلفظ ( قيل ) : إن المقصود من الفئة الأولى هم النصارى ومن الفئة الثانية هم اليهود. وهو قول وجيه تطمئن به النفس، وتكون الآيات بذلك قد احتوت وهي مستمرة على التنديد باليهود مقايسة بينهم وبين النصارى لتقوية التنديد. على أن هذا إذا لم يصح وكانت الفئتان من اليهود فإن أسلوب بقية الآية الأولى ومضمونها يلهمان أن الفئة الأولى هي الأقلية والأخرى هي الأكثرية من اليهود. ويظل التنديد بذلك قويا وشاملا لأكثرية اليهود كما هو المتبادر.
ولقد احتوت الآية تكذيبا لقول اليهود إنه ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾ أي إن شريعتنا لا ترتب علينا أي ذنب ومسؤولية مهما فعلنا مع الأمم الأخرى بما في ذلك خيانتهم وأكل أموالهم، وتقريرا بأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولقد احتوت أسفارهم وصايا عديدة بالغريب الساكن بينهم وعدم ظلمه ومضايقته وهضم أمواله وحقوقه بل وفيها وصية بمساعدة أعدائهم ومعاونتهم في المواقف التي يكونون فيها في حاجة إلى ذلك٣ وبذلك استحكمتهم حجة القرآن ودمغهم بتكذيبهم في هذه المسألة.
ومع خصوصية الآيات فإن فيها تلقينات جليلة متسقة مع المبادئ القرآنية العامة ومستمرة المدى سواء أفي الحث على الأمانة والتنويه بالأمناء أم في التنديد بالخائنين أم في تقريع الذين يبيعون عهد الله ويحلفون الأيمان الكاذبة في سبيل خسيس المنافع وأعراض الدنيا.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث نبوية عديدة في صدد ذلك : منها حديث أخرجه الإمام أحمد ورواه مسلم وأهل السنن جاء فيه :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. فقال أبو ذرّ راوي الحديث : من هم ؟ خسروا وخابوا. قال : المسبل والمنّان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " ٤. ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا جاء فيه :
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع مال امرئ مسلم لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان " ٥. ومنها حديث جاء فيه :" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله وفي رواية فضل مائه عن ابن السبيل " ٦. ومنها حديث جاء فيه :" لما قال اليهود ليس علينا في الأميين سبيل قال رسول الله كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا هو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " ٧. حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما يتساوق مع كل الشؤون.
وننبه في هذه المناسبة على أن الحثّ على مراعاة الأمانات والتنويه بمن يفعل ذلك قد تكرر في القرآن والحديث. وكان موضوعا لتعليق لنا في سياق شرح الآيات الأولى من سورة ( المؤمنون ).
وفي هذه الآيات :
١ ـ إشارة إلى أهل الكتاب فئتان : واحدة تؤدي الأمانة مهما عظمت ولو كانت قنطارا، وأخرى لا تؤديها مهما قلت ولو كانت دينارا إلا إذا ظلّ صاحبها جادا في مطلبه وحقه.
٢ ـ وحكاية لقول الفئة الثانية : وهو أن الله لا يؤاخذها في أي شيء تجاه أحد من غيرهم من الأمم.
٣ ـ ورد تعنيفي على هذا القول فهو كذب على الله وإن القائلين ليعلمون ذلك أيضا.
٤ ـ واستدراك مستأنف بأن كل أمر موضع محاسبة الله في أي موقف وحال دون ما استثناء فالذي يوفي بعهده ويتقي الله فإنه يستحق رضاءه ؛ لأن الله يحب المتقين. أما الذين يبيعون عهد الله وأيمانهم بالثمن البخس والمنفعة الخسيسة فهم غير مستحقين من الله إلا الغضب والسخط وليس لهم في الآخرة أي نصيب من رضائه فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم فيها ولهم العذاب الأليم.
تعليق على الآية
﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
لقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في مناسبة هذه الآيات. من ذلك رواية يرويها البخاري والترمذي أيضا عن الأشعت بن قيس قال :" إن آية ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ ﴾ إلخ.. نزلت فيّ. كانت لي بئر في أرض ابن عمّ لي. فأنكرها عليّ فقال النبي بينتك أو يمينه فقلت : إذن يحلف يا رسول الله. فقال : النبي من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهو منها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان. وأنزل الله الآية " ١. ومن ذلك رواية يرويها البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال :" إن رجلا أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي فيها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت الآية ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ... ﴾ إلخ " ٢. ومن ذلك روايات لم ترد في الصحاح منها أن الآيات نزلت في عبد الله بن سلام الذي ائتمنه رجل على ألف ومائتي أوقية ذهبا فأداها وفي فنحاص بن عذار الذي ائتمنه رجل على دينار فخانه فيه.
ومن ذلك أنه كان لجماعة من العرب ذمم على اليهود، فلما أسلم العرب أنكر اليهود ما لهم من ذمم قبلهم وحلفوا على ذلك كذبا، فأنزل الله الآيات. ومن ذلك رواية تذكر أنه كان لمسلم حق على يهودي فأنكره فكلف النبي المسلم بالبينة فلم يستطع فكلف اليهودي باليمين فقال المسلم : يحلف ويذهب مالي فأنزل الله الآية الثالثة. ومن ذلك أن هذه الآية نزلت في بعض أحبار اليهود الذين استشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما عندهم من دلائل نبوته، فأنكروا وحلفوا أنه ليس عندهم من ذلك شيء.
ويلحظ أولا أن الحديثين يذكران أن الآية الثالثة نزلت في مناسبتين مختلفتين. وثانيا أن عبد الله بن سلام كان قد أسلم واندمج في الإسلام ولم يعد متصفا بصفة كونه من أهل الكتاب. وثالثا أن الحديثين مع الروايات تقتضي أن تكون الآية الثالثة نزلت منفصلة عن الآيتين الأوليين في حين أن المتبادر الذي تلهمه روح الآيات الثلاث ونظنها أنها وحدة تامة وأنها متصلة بسابقاتها ومعقبة عليها. فالآيات السابقة التي ذكرت تواصي اليهود على خداع المسلمين وتضليلهم وعدم إطلاعهم على ما عندهم واحتوت أحد شعاراتهم بعدم الائتمان لغيرهم فجاءت هذه الآيات تذكر شعارا أو صفة أخرى من شعاراتهم وصفاتهم متصلة بالصفات والشعارات المذكورة في الآيات السابقة، وهي جحود الحق والأمانات وحلفهم بالله باطلا في سبيل أعراض الدنيا واستحلالهم أموال الغير واستهانتهم بما يكون للغير قبلهم من حقوق وأمانات وعدم التزامهم بها.
وهذا البيان لا يمنع أن يكون وقع بعض وقائع جحد فيها بعض اليهود أمانات وذمما عندهم للمسلمين وحلفوا كذبا، فكان ذلك مناسبة ملائمة للتذكير بأخلاقهم وتكرار الحملة عليهم والتنديد بهم في سياق موقفهم من النبي والمسلمين وحكاية تآمرهم على تشكيك المسلمين وتضليلهم وكتم ما عندهم من دلائل على صدق نبوة النبي وصحة الوحي القرآني. وقد تكون الرواية التي ذكرت حلف بعض أحبار اليهود على عدم وجود شيء من الدلائل عندهم على صحة نبوة النبي والوحي القرآني صحيحة فكانت من المناسبات لنزول الآيات أيضا.
ويتبادر لنا في صدد الحديثين الصحيحين أن ما ذكر فيهما من أحداث قد وقعت بعد نزول الآيات، وأن الآية الثالثة تليت للاستشهاد بها، فالتبس الأمر على الرواة. والله تعالى أعلم.
ولقد قال الخازن بلفظ ( قيل ) : إن المقصود من الفئة الأولى هم النصارى ومن الفئة الثانية هم اليهود. وهو قول وجيه تطمئن به النفس، وتكون الآيات بذلك قد احتوت وهي مستمرة على التنديد باليهود مقايسة بينهم وبين النصارى لتقوية التنديد. على أن هذا إذا لم يصح وكانت الفئتان من اليهود فإن أسلوب بقية الآية الأولى ومضمونها يلهمان أن الفئة الأولى هي الأقلية والأخرى هي الأكثرية من اليهود. ويظل التنديد بذلك قويا وشاملا لأكثرية اليهود كما هو المتبادر.
ولقد احتوت الآية تكذيبا لقول اليهود إنه ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾ أي إن شريعتنا لا ترتب علينا أي ذنب ومسؤولية مهما فعلنا مع الأمم الأخرى بما في ذلك خيانتهم وأكل أموالهم، وتقريرا بأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولقد احتوت أسفارهم وصايا عديدة بالغريب الساكن بينهم وعدم ظلمه ومضايقته وهضم أمواله وحقوقه بل وفيها وصية بمساعدة أعدائهم ومعاونتهم في المواقف التي يكونون فيها في حاجة إلى ذلك٣ وبذلك استحكمتهم حجة القرآن ودمغهم بتكذيبهم في هذه المسألة.
ومع خصوصية الآيات فإن فيها تلقينات جليلة متسقة مع المبادئ القرآنية العامة ومستمرة المدى سواء أفي الحث على الأمانة والتنويه بالأمناء أم في التنديد بالخائنين أم في تقريع الذين يبيعون عهد الله ويحلفون الأيمان الكاذبة في سبيل خسيس المنافع وأعراض الدنيا.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث نبوية عديدة في صدد ذلك : منها حديث أخرجه الإمام أحمد ورواه مسلم وأهل السنن جاء فيه :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. فقال أبو ذرّ راوي الحديث : من هم ؟ خسروا وخابوا. قال : المسبل والمنّان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " ٤. ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا جاء فيه :
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع مال امرئ مسلم لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان " ٥. ومنها حديث جاء فيه :" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله وفي رواية فضل مائه عن ابن السبيل " ٦. ومنها حديث جاء فيه :" لما قال اليهود ليس علينا في الأميين سبيل قال رسول الله كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا هو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " ٧. حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما يتساوق مع كل الشؤون.
وننبه في هذه المناسبة على أن الحثّ على مراعاة الأمانات والتنويه بمن يفعل ذلك قد تكرر في القرآن والحديث. وكان موضوعا لتعليق لنا في سياق شرح الآيات الأولى من سورة ( المؤمنون ).
في هذه الآيات :
١ ـ إشارة تنديدية إلى فريق من أهل الكتاب يلوون ألسنتهم بأقوال يزعمون أنها من كتاب الله أو يحرفون كتاب الله كتابة أو تلاوة أو تأويلا ليوهموا المسلمين أن ذلك من كتاب الله وليس هو من كتابه ويفترون على الله وهم يعلمون أنهم كاذبون.
٢ ـ وتقرير بأنه لا يمكن أن يقول شخص ملخص أتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة للناس اعبدوني بدلا من الله تعالى أو اتخذوا الملائكة والنبيين أربابا بدلا من الله ؛ لأنه بذلك يكون قد أمرهم بالكفر بعد أن يكون دعاهم إلى الإسلام فأسلموا. وكل ما يمكن أن يقوله للناس كونوا ربانيين أي مخلصين لله وعبادته. هداة إليه بما تقرؤون وتعلمون وتتدارسون من كتبه.
تعليق على الآية
﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون١ في مناسبة الآيات روايات عديدة. منها أن بعض وفد نجران سأل النبي عما إذا كان يريد أن يعبدون. ومنها أن هذا السؤال كان من بعض وفد نجران ومن بعض يهود المدينة. ومنها أن بعض المسلمين سألوا النبي عما إذا كان يحسن أن يسجدوا له زيادة في تكريمه. ومنها أن المقصد من البشر الذي تنفي عنه الآيتان الثانية والثالثة أمر الناس بأن يكونوا عبادا له أو بأن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا هو عيسى. ومنها أنه هو محمد صلوات الله عليهما. ومنها أنها ردّ على تأويل أهل الكتاب بعض عبارات كتبهم تأويلا يخرجها عن مداها ويجعلها تبرر اعتبار المسيح والعزير أبناء الله أو آلهة وتعظيم الملائكة تعظيما يسبغ عليهم ما ليس لهم من النفع والضر المباشرين٢. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح.
والمفسرون يقولون : إن الفريق المذكور في الآية الأولى هم اليهود. وهذا صحيح. وقد حكت الآيات [ ٧٨ ـ ٧٩ ] من سلسلة آيات سورة البقرة عن اليهود ما حكته هذه الآية.
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بسابقاتها. ولقد نددت هذه السابقات ببعض صفات اليهود فجاءت الآية الأولى تندد بصفات أخرى من صفاتهم وهي تحريف كتب الله ونسبة المحرّف إلى الله كذبا وإلقاؤه بأسلوب من ليّ اللسان ليوهموا المسلمين بأنه من كتاب الله. ويظهر أن من التحريف الذي حرفوه ما فيه تحميل لكلام بعض الأنبياء معنى لا يحتمله وأن في هذا المعنى تبريرا لعقيدة شركية أو لعقيدة تأثير الأنبياء والملائكة تأثيرا يجعلهم بمثابة شركاء لله ويبرر تعظيمهم على هذا الأساس فاحتوت الآيتان الثانية والثالثة رداّ عليهم تبرئة للأنبياء من مثل ذلك، وتقريرا لما يمكن أن يصدر عنهم من قول أو أمر أو دعوة.
وهذا الشرح لا يمنع أن يكون الرد قد احتوى تزييف عقيدة اليهود ببنوة العزير لله وعقيدة النصارى ببنوة المسيح أو ألوهيته وعقيدة تأثير الملائكة واتخاذهم أربابا مع ذلك بسبب ذلك والتماس جلب النفع ودفع الضرر عنهم. ونفي ارتكاز أي شيء من هذا إلى أساس صحيح من الكتب السماوية أو إلى عقل ومنطق، وعدم اتساقه مع إخلاص الأنبياء والملائكة لله تعالى واعتبارهم أنفسهم عبيدا له. وقد يتوافق هذا مع الرواية الأخيرة، وإن كان ذلك يقتضي أن تكون الآيات الثلاث وحدة منفصلة عن سابقاتها. على أن من المحتمل أن تكون الآيتان الثانية والثالثة قد جاءتا بمثابة الاستطراد إلى ذكر بعض آثار التحريف الذي حرفه أهل الكتاب لكتب الله نصا أو تأويلا.
وأسلوب الآيات قوي ومفحم وحاسم، سواء أفي تقريره تحريف اليهود لكتب الله تلاوة وكتابة وتأويلا أم في نفي ارتكاز أي شيء من أقوالهم ودعاويهم وعقائدهم التي فيها انحراف عن عبادة الله وحده وإشراك أحد ما في ذلك بأي شكل من ملك أو نبي على أي أساس صحيح من كتب الله وتقرير كون ذلك من تحريفهم وسوء تأويلهم. وفيها في الوقت نفسه صورة من صور واقع اليهود من ذلك في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وحياته.
في هذه الآيات :
١ ـ إشارة تنديدية إلى فريق من أهل الكتاب يلوون ألسنتهم بأقوال يزعمون أنها من كتاب الله أو يحرفون كتاب الله كتابة أو تلاوة أو تأويلا ليوهموا المسلمين أن ذلك من كتاب الله وليس هو من كتابه ويفترون على الله وهم يعلمون أنهم كاذبون.
٢ ـ وتقرير بأنه لا يمكن أن يقول شخص ملخص أتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة للناس اعبدوني بدلا من الله تعالى أو اتخذوا الملائكة والنبيين أربابا بدلا من الله ؛ لأنه بذلك يكون قد أمرهم بالكفر بعد أن يكون دعاهم إلى الإسلام فأسلموا. وكل ما يمكن أن يقوله للناس كونوا ربانيين أي مخلصين لله وعبادته. هداة إليه بما تقرؤون وتعلمون وتتدارسون من كتبه.
تعليق على الآية
﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون١ في مناسبة الآيات روايات عديدة. منها أن بعض وفد نجران سأل النبي عما إذا كان يريد أن يعبدون. ومنها أن هذا السؤال كان من بعض وفد نجران ومن بعض يهود المدينة. ومنها أن بعض المسلمين سألوا النبي عما إذا كان يحسن أن يسجدوا له زيادة في تكريمه. ومنها أن المقصد من البشر الذي تنفي عنه الآيتان الثانية والثالثة أمر الناس بأن يكونوا عبادا له أو بأن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا هو عيسى. ومنها أنه هو محمد صلوات الله عليهما. ومنها أنها ردّ على تأويل أهل الكتاب بعض عبارات كتبهم تأويلا يخرجها عن مداها ويجعلها تبرر اعتبار المسيح والعزير أبناء الله أو آلهة وتعظيم الملائكة تعظيما يسبغ عليهم ما ليس لهم من النفع والضر المباشرين٢. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح.
والمفسرون يقولون : إن الفريق المذكور في الآية الأولى هم اليهود. وهذا صحيح. وقد حكت الآيات [ ٧٨ ـ ٧٩ ] من سلسلة آيات سورة البقرة عن اليهود ما حكته هذه الآية.
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بسابقاتها. ولقد نددت هذه السابقات ببعض صفات اليهود فجاءت الآية الأولى تندد بصفات أخرى من صفاتهم وهي تحريف كتب الله ونسبة المحرّف إلى الله كذبا وإلقاؤه بأسلوب من ليّ اللسان ليوهموا المسلمين بأنه من كتاب الله. ويظهر أن من التحريف الذي حرفوه ما فيه تحميل لكلام بعض الأنبياء معنى لا يحتمله وأن في هذا المعنى تبريرا لعقيدة شركية أو لعقيدة تأثير الأنبياء والملائكة تأثيرا يجعلهم بمثابة شركاء لله ويبرر تعظيمهم على هذا الأساس فاحتوت الآيتان الثانية والثالثة رداّ عليهم تبرئة للأنبياء من مثل ذلك، وتقريرا لما يمكن أن يصدر عنهم من قول أو أمر أو دعوة.
وهذا الشرح لا يمنع أن يكون الرد قد احتوى تزييف عقيدة اليهود ببنوة العزير لله وعقيدة النصارى ببنوة المسيح أو ألوهيته وعقيدة تأثير الملائكة واتخاذهم أربابا مع ذلك بسبب ذلك والتماس جلب النفع ودفع الضرر عنهم. ونفي ارتكاز أي شيء من هذا إلى أساس صحيح من الكتب السماوية أو إلى عقل ومنطق، وعدم اتساقه مع إخلاص الأنبياء والملائكة لله تعالى واعتبارهم أنفسهم عبيدا له. وقد يتوافق هذا مع الرواية الأخيرة، وإن كان ذلك يقتضي أن تكون الآيات الثلاث وحدة منفصلة عن سابقاتها. على أن من المحتمل أن تكون الآيتان الثانية والثالثة قد جاءتا بمثابة الاستطراد إلى ذكر بعض آثار التحريف الذي حرفه أهل الكتاب لكتب الله نصا أو تأويلا.
وأسلوب الآيات قوي ومفحم وحاسم، سواء أفي تقريره تحريف اليهود لكتب الله تلاوة وكتابة وتأويلا أم في نفي ارتكاز أي شيء من أقوالهم ودعاويهم وعقائدهم التي فيها انحراف عن عبادة الله وحده وإشراك أحد ما في ذلك بأي شكل من ملك أو نبي على أي أساس صحيح من كتب الله وتقرير كون ذلك من تحريفهم وسوء تأويلهم. وفيها في الوقت نفسه صورة من صور واقع اليهود من ذلك في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وحياته.
في هذه الآيات :
١ ـ إشارة تنديدية إلى فريق من أهل الكتاب يلوون ألسنتهم بأقوال يزعمون أنها من كتاب الله أو يحرفون كتاب الله كتابة أو تلاوة أو تأويلا ليوهموا المسلمين أن ذلك من كتاب الله وليس هو من كتابه ويفترون على الله وهم يعلمون أنهم كاذبون.
٢ ـ وتقرير بأنه لا يمكن أن يقول شخص ملخص أتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة للناس اعبدوني بدلا من الله تعالى أو اتخذوا الملائكة والنبيين أربابا بدلا من الله ؛ لأنه بذلك يكون قد أمرهم بالكفر بعد أن يكون دعاهم إلى الإسلام فأسلموا. وكل ما يمكن أن يقوله للناس كونوا ربانيين أي مخلصين لله وعبادته. هداة إليه بما تقرؤون وتعلمون وتتدارسون من كتبه.
تعليق على الآية
﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون١ في مناسبة الآيات روايات عديدة. منها أن بعض وفد نجران سأل النبي عما إذا كان يريد أن يعبدون. ومنها أن هذا السؤال كان من بعض وفد نجران ومن بعض يهود المدينة. ومنها أن بعض المسلمين سألوا النبي عما إذا كان يحسن أن يسجدوا له زيادة في تكريمه. ومنها أن المقصد من البشر الذي تنفي عنه الآيتان الثانية والثالثة أمر الناس بأن يكونوا عبادا له أو بأن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا هو عيسى. ومنها أنه هو محمد صلوات الله عليهما. ومنها أنها ردّ على تأويل أهل الكتاب بعض عبارات كتبهم تأويلا يخرجها عن مداها ويجعلها تبرر اعتبار المسيح والعزير أبناء الله أو آلهة وتعظيم الملائكة تعظيما يسبغ عليهم ما ليس لهم من النفع والضر المباشرين٢. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح.
والمفسرون يقولون : إن الفريق المذكور في الآية الأولى هم اليهود. وهذا صحيح. وقد حكت الآيات [ ٧٨ ـ ٧٩ ] من سلسلة آيات سورة البقرة عن اليهود ما حكته هذه الآية.
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بسابقاتها. ولقد نددت هذه السابقات ببعض صفات اليهود فجاءت الآية الأولى تندد بصفات أخرى من صفاتهم وهي تحريف كتب الله ونسبة المحرّف إلى الله كذبا وإلقاؤه بأسلوب من ليّ اللسان ليوهموا المسلمين بأنه من كتاب الله. ويظهر أن من التحريف الذي حرفوه ما فيه تحميل لكلام بعض الأنبياء معنى لا يحتمله وأن في هذا المعنى تبريرا لعقيدة شركية أو لعقيدة تأثير الأنبياء والملائكة تأثيرا يجعلهم بمثابة شركاء لله ويبرر تعظيمهم على هذا الأساس فاحتوت الآيتان الثانية والثالثة رداّ عليهم تبرئة للأنبياء من مثل ذلك، وتقريرا لما يمكن أن يصدر عنهم من قول أو أمر أو دعوة.
وهذا الشرح لا يمنع أن يكون الرد قد احتوى تزييف عقيدة اليهود ببنوة العزير لله وعقيدة النصارى ببنوة المسيح أو ألوهيته وعقيدة تأثير الملائكة واتخاذهم أربابا مع ذلك بسبب ذلك والتماس جلب النفع ودفع الضرر عنهم. ونفي ارتكاز أي شيء من هذا إلى أساس صحيح من الكتب السماوية أو إلى عقل ومنطق، وعدم اتساقه مع إخلاص الأنبياء والملائكة لله تعالى واعتبارهم أنفسهم عبيدا له. وقد يتوافق هذا مع الرواية الأخيرة، وإن كان ذلك يقتضي أن تكون الآيات الثلاث وحدة منفصلة عن سابقاتها. على أن من المحتمل أن تكون الآيتان الثانية والثالثة قد جاءتا بمثابة الاستطراد إلى ذكر بعض آثار التحريف الذي حرفه أهل الكتاب لكتب الله نصا أو تأويلا.
وأسلوب الآيات قوي ومفحم وحاسم، سواء أفي تقريره تحريف اليهود لكتب الله تلاوة وكتابة وتأويلا أم في نفي ارتكاز أي شيء من أقوالهم ودعاويهم وعقائدهم التي فيها انحراف عن عبادة الله وحده وإشراك أحد ما في ذلك بأي شكل من ملك أو نبي على أي أساس صحيح من كتب الله وتقرير كون ذلك من تحريفهم وسوء تأويلهم. وفيها في الوقت نفسه صورة من صور واقع اليهود من ذلك في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وحياته.
في الآية الأولى تقرير تذكيري بأن الله قد أخذ ميثاقا من الأنبياء بما آتاهم من كتاب وحكمة على أن يؤمنوا بالرسول الذي يجيء من بعدهم مؤيدا لما معهم من الكتاب وأن ينصروه وأنهم قد أشهدوا على أنفسهم بتنفيذ عهده ووصيته. وفي الآية الثانية إنذار لمن يخالف هذا العهد والوصية وتنديد به. فإنه لا يفعل ذلك إلا فاسق غادر متمرد على الله.
والمتبادر أن جملة ﴿ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ أسلوبية لتوكيد العهد الذي أخذه على النبيين والذي اعترفوا به وأقروه. والله أعلم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ... ﴾ إلخ
والآية التالية لها
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة هاتين الآيتين. ويتبادر لنا أنهما متصلتان بسابقاتهما اتصالا استطراديا. فقد بينت هذه السابقات ما يمكن أن يصدر من أنبياء الله مما يتسق مع إخلاصهم لله فجاءت الآيتان تستطردان إلى ذكر العهد الذي أخذه الله عليهم بتصديق السابق منهم اللاحق حينما يراه متطابقا مع ما جاءوا به ونصره. والمتبادر أن العهد المأخوذ يتضمن بأن يأمر السابق منهم أمته بتصديق ونصر من يأتي بعده من الأنبياء ما داموا مصدقين لما جاؤوا به متطابقين معهم في الأسس والأهداف. وبهذا الشرح المتسق مع روح الآيتين ومضمونهما تكون الآيتان قد انطوتا على معنى تدعيمي لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى حجة ملزمة لأهل الكتاب على صدقها ووجوب تصديقها. ولقد قال المفسرون ـ فيما قالوه عزوا إلى علماء التابعين ـ : إن العهد المأخوذ هو في صدد رسالة النبي محمد خاصة. ومع أن ذلك داخل في عهد تصديق كل نبي وأمته المؤمنة به بتصديق ونصر كل نبي يأتي من بعده، فإن لهذا القول وجاهة في مقامه بالنسبة للموقف الجدلي القائم بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب.
وأسلوب الفقرة الأولى من الآية الأولى قد يلهم أن العهد الذي أخذه الله على الأنبياء هو عهد مستمد من طبيعة رسالتهم التي هي مستمرة لجميع الأجيال في كل مكان حيث اقتضت حكمة الله أن يتوالى أنبياؤه برسالاته وتعليماته وتشريعاته للناس إلى أن وصل العهد إلى محمد الذي اصطفاه ليكون خاتم النبيين ورشح رسالته لتكون دين الإنسانية جمعاء في كل زمن ومكان وضمنها من الأسس والمبادئ والتلقينات والمرونة والحلول ما يتسق مع هذا وذاك.
وقد يتمحل اليهود والنصارى فيقولون : إن التوراة والإنجيل لا يحتويان إشارة إلى هذا العهد. وردا عليهم نقول إن ما في أيديهم ليس توراة موسى ولا إنجيل عيسى كتابي الله المنزلين عليهما. وإنما هي أسفار وأناجيل كتبوها بعد موسى وعيسى عليهما السلام على ما شرحناه في سياق كلمتي ( التوراة والإنجيل ) في سورة الأعراف. وفي آية الأعراف [ ١٥٧ ] صراحة أنهم يجدون صفة النبي فيهما على ما مرّ شرحه في تفسير هذه الآية. وفي سورة الصف هذه الآية :﴿ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ﴾ [ ٦ ] وآيات القرآن كانت تتلى على ملأ من اليهود والنصارى ولا يمكن أن يكون ذلك جزافا. ولقد آمن فريق من النصارى واليهود الذين استطاعوا أن يتغلبوا على مآربهم وأهوائهم برسالة النبي والقرآن وقرروا أنه متطابق لما عرفوه من الحق ولما وعدهم الله به على ما ذكرته آيات عديدة أوردناها في سياق آية الأعراف. ولا بد من أنهم رأوا التطابق بين ما جاء في القرآن والرسالة المحمدية وبين ما كان في أيديهم من توراة وإنجيل صحيحين لم يصلا إلينا. ويكون كل من لم يؤمن برسالة النبي قد تحققت فيه صفة الفاسقين التي قررتها الآية الثانية. ومن الجدير بالتنبه أن الأحاديث النبوية التي تذكر مجيء عيسى عليه السلام في آخر الزمان والتي أوردناها في تفسير سورة غافر وعلقنا عليها قد ذكرت أن عيسى سيكون آنئذ على دين الإسلام فلم يعد للنصارى ما يحتجون به فيها. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الحافظ أبو يعلى عن جابر قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا. وإنكم إمّا أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق. وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حلّ له إلاّ أن يتبعني وفي رواية لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي ". والحديث وإن لم يرد في كتب الصحاح فإنه متطابق مع تلقين الآيات مما يجعله محتمل الصحة.
ومع كل ذلك ففي الأسفار والأناجيل المتداولة اليوم دلائل عديدة تشير إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على ما ألمحنا إليه في سياق تفسير آية سورة الأعراف. ووجهة نظر الإسلام في صدد اليهود والنصارى بعد البعثة المحمدية وعدم نجاة أحد منهم عند الله إذا لم يؤمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مشروحة شرحا وافيا أيضا في سياق تفسيرنا للآية [ ٦٢ ] من سورة البقرة والآية [ ٥٥ ] من سورة آل عمران فليرجع إليه.
هذا، ويتبادر لنا أن في الآيات تلقينا مستمر المدى بحيث يكون كل من أمر بما يخالف كتاب الله وسنة رسوله الثابتة من أعمال وعقائد ومواقف داخلا في ما تضمنته من وصف وذمّ وإنذار. ويصدق هذا في الدرجة الأولى على من ينتسب إلى العلم الديني ولقد ذكر ابن كثير شيئا من هذا تعقيبا على الآيات. والله تعالى أعلم.
ولا يترك مفسرو الشيعة هذه الآيات حيث يقولون إن الله يؤذن فيها بأنه أخذ على النبيين العهد بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ونصرة علي عليه السلام رغم ما في هذا القول من مفارقة عجيبة١.
في الآية الأولى تقرير تذكيري بأن الله قد أخذ ميثاقا من الأنبياء بما آتاهم من كتاب وحكمة على أن يؤمنوا بالرسول الذي يجيء من بعدهم مؤيدا لما معهم من الكتاب وأن ينصروه وأنهم قد أشهدوا على أنفسهم بتنفيذ عهده ووصيته. وفي الآية الثانية إنذار لمن يخالف هذا العهد والوصية وتنديد به. فإنه لا يفعل ذلك إلا فاسق غادر متمرد على الله.
والمتبادر أن جملة ﴿ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ أسلوبية لتوكيد العهد الذي أخذه على النبيين والذي اعترفوا به وأقروه. والله أعلم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ... ﴾ إلخ
والآية التالية لها
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة هاتين الآيتين. ويتبادر لنا أنهما متصلتان بسابقاتهما اتصالا استطراديا. فقد بينت هذه السابقات ما يمكن أن يصدر من أنبياء الله مما يتسق مع إخلاصهم لله فجاءت الآيتان تستطردان إلى ذكر العهد الذي أخذه الله عليهم بتصديق السابق منهم اللاحق حينما يراه متطابقا مع ما جاءوا به ونصره. والمتبادر أن العهد المأخوذ يتضمن بأن يأمر السابق منهم أمته بتصديق ونصر من يأتي بعده من الأنبياء ما داموا مصدقين لما جاؤوا به متطابقين معهم في الأسس والأهداف. وبهذا الشرح المتسق مع روح الآيتين ومضمونهما تكون الآيتان قد انطوتا على معنى تدعيمي لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى حجة ملزمة لأهل الكتاب على صدقها ووجوب تصديقها. ولقد قال المفسرون ـ فيما قالوه عزوا إلى علماء التابعين ـ : إن العهد المأخوذ هو في صدد رسالة النبي محمد خاصة. ومع أن ذلك داخل في عهد تصديق كل نبي وأمته المؤمنة به بتصديق ونصر كل نبي يأتي من بعده، فإن لهذا القول وجاهة في مقامه بالنسبة للموقف الجدلي القائم بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب.
وأسلوب الفقرة الأولى من الآية الأولى قد يلهم أن العهد الذي أخذه الله على الأنبياء هو عهد مستمد من طبيعة رسالتهم التي هي مستمرة لجميع الأجيال في كل مكان حيث اقتضت حكمة الله أن يتوالى أنبياؤه برسالاته وتعليماته وتشريعاته للناس إلى أن وصل العهد إلى محمد الذي اصطفاه ليكون خاتم النبيين ورشح رسالته لتكون دين الإنسانية جمعاء في كل زمن ومكان وضمنها من الأسس والمبادئ والتلقينات والمرونة والحلول ما يتسق مع هذا وذاك.
وقد يتمحل اليهود والنصارى فيقولون : إن التوراة والإنجيل لا يحتويان إشارة إلى هذا العهد. وردا عليهم نقول إن ما في أيديهم ليس توراة موسى ولا إنجيل عيسى كتابي الله المنزلين عليهما. وإنما هي أسفار وأناجيل كتبوها بعد موسى وعيسى عليهما السلام على ما شرحناه في سياق كلمتي ( التوراة والإنجيل ) في سورة الأعراف. وفي آية الأعراف [ ١٥٧ ] صراحة أنهم يجدون صفة النبي فيهما على ما مرّ شرحه في تفسير هذه الآية. وفي سورة الصف هذه الآية :﴿ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ﴾ [ ٦ ] وآيات القرآن كانت تتلى على ملأ من اليهود والنصارى ولا يمكن أن يكون ذلك جزافا. ولقد آمن فريق من النصارى واليهود الذين استطاعوا أن يتغلبوا على مآربهم وأهوائهم برسالة النبي والقرآن وقرروا أنه متطابق لما عرفوه من الحق ولما وعدهم الله به على ما ذكرته آيات عديدة أوردناها في سياق آية الأعراف. ولا بد من أنهم رأوا التطابق بين ما جاء في القرآن والرسالة المحمدية وبين ما كان في أيديهم من توراة وإنجيل صحيحين لم يصلا إلينا. ويكون كل من لم يؤمن برسالة النبي قد تحققت فيه صفة الفاسقين التي قررتها الآية الثانية. ومن الجدير بالتنبه أن الأحاديث النبوية التي تذكر مجيء عيسى عليه السلام في آخر الزمان والتي أوردناها في تفسير سورة غافر وعلقنا عليها قد ذكرت أن عيسى سيكون آنئذ على دين الإسلام فلم يعد للنصارى ما يحتجون به فيها. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الحافظ أبو يعلى عن جابر قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا. وإنكم إمّا أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق. وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حلّ له إلاّ أن يتبعني وفي رواية لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي ". والحديث وإن لم يرد في كتب الصحاح فإنه متطابق مع تلقين الآيات مما يجعله محتمل الصحة.
ومع كل ذلك ففي الأسفار والأناجيل المتداولة اليوم دلائل عديدة تشير إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على ما ألمحنا إليه في سياق تفسير آية سورة الأعراف. ووجهة نظر الإسلام في صدد اليهود والنصارى بعد البعثة المحمدية وعدم نجاة أحد منهم عند الله إذا لم يؤمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مشروحة شرحا وافيا أيضا في سياق تفسيرنا للآية [ ٦٢ ] من سورة البقرة والآية [ ٥٥ ] من سورة آل عمران فليرجع إليه.
هذا، ويتبادر لنا أن في الآيات تلقينا مستمر المدى بحيث يكون كل من أمر بما يخالف كتاب الله وسنة رسوله الثابتة من أعمال وعقائد ومواقف داخلا في ما تضمنته من وصف وذمّ وإنذار. ويصدق هذا في الدرجة الأولى على من ينتسب إلى العلم الديني ولقد ذكر ابن كثير شيئا من هذا تعقيبا على الآيات. والله تعالى أعلم.
ولا يترك مفسرو الشيعة هذه الآيات حيث يقولون إن الله يؤذن فيها بأنه أخذ على النبيين العهد بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ونصرة علي عليه السلام رغم ما في هذا القول من مفارقة عجيبة١.
عبارة الآيات واضحة، وفيها استنكار لمن يبتغي غير دين الله وكل من في السموات والأرض مسلم له. وأمر للنبي بإعلان إيمانه بالله وأنبيائه وجميع ما أنزل عليهم دون تفريق. وإسلامه مع اتباعه لله. وتقرير الخسران لكل من يبتغي دينا غير الإسلام في الآخرة وعدم قبول الله دينا غيره.
تعليق على الآية
﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت في مناسبة اختصام أهل الكتاب إلى رسول الله بشأن دين إبراهيم وزعم كل فريق منهم أنه عليه فقال النبي : إن كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا : والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك. والرواية عجيبة بعدما ورد في آيات سابقة من هذه السورة ما ورد من مواقف الحجاج والجحود بين أهل الكتاب والنبي وبخاصة في صدد ملة إبراهيم. وليست واردة في الصحاح بل ولم يروها الطبري شيخ المفسرين وأقدمهم.
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومنسجمة معها ومعقبة عليها تأييدا وتوكيدا. فبعد أن ذكرت الآيات السابقة صفات أهل الكتاب وتحريفاتهم لكتاب الله وتأويلاتهم السيئة وعدم وفائهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم جاءت هذه الآيات تندد بهم وتأمر النبي بإعلان عقيدته في جميع أنبياء الله وكتبه وإسلامه له وتقرر بأن هذا هو دين الله الحق الذي لا يقبل الله غيره ويكون متبع غيره خاسرا.
والإعلان والتقرير اللذان احتوتهما الآيات قويان رائعان ونافذان إلى الأعماق بحيث لا يمكن إلا أن يتأثر بهما من كان ذا عقل سليم وقلب طاهر ونية حسنة ورغبة صادقة في الحق والهدى لا يجمد أمامهما ويكابر إلا مريض القلب خبيث الطوية. والآيات تلهم أن موقف النبي هو موقف المستعلي الفائز الذي هزم خصمه بعد أن ألزمه الحجة.
والآية الثانية قد ورد مثلها في سورة البقرة في سياق الحجاج مع اليهود. وذلك في الآية [ ١٣٦ ] بفروق يسيرة. قد لا يتبين للمرء حكمتها فيجب إيكالها إلى علم الله. ويلحظ أن آية البقرة بدأت بكلمة ﴿ قولوا ﴾ خطابا للمسلمين وآية آل عمران بدأت بكلمة ﴿ قل ﴾ خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر. ولعل في هذا شيئا من تلك الحكمة والله تعالى أعلم. وقد شرحنا مداها في سورة البقرة فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها ويقولها المفسرون لجملة ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾. منها أن المسلمين يكونون قد أسلموا طوعا وأن الكافرين سيعرفون الحقيقة حينما يرون مصداق نذر الله فيسلمون كرها ولا يكون إسلامهم نافعا لهم. ومنها أنها بمعنى أن جميع من في السموات والأرض خاضع له مسخر لأمره داخل في نطاق قدرته وحكمه النافذ دون أن يتوقف ذلك على رضائهم وكرههم. والمتبادر أن العبارة أسلوبية. وقد يكون القول الثاني هو الأكثر وجاهة. وشيء من نوعها ورد في بعض آيات مكية٢، والله تعالى أعلم.
٢ آيات سورة الرعد ١٥ والإسراء"٤٤" وفصلت ١١..
عبارة الآيات واضحة، وفيها استنكار لمن يبتغي غير دين الله وكل من في السموات والأرض مسلم له. وأمر للنبي بإعلان إيمانه بالله وأنبيائه وجميع ما أنزل عليهم دون تفريق. وإسلامه مع اتباعه لله. وتقرير الخسران لكل من يبتغي دينا غير الإسلام في الآخرة وعدم قبول الله دينا غيره.
تعليق على الآية
﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت في مناسبة اختصام أهل الكتاب إلى رسول الله بشأن دين إبراهيم وزعم كل فريق منهم أنه عليه فقال النبي : إن كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا : والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك. والرواية عجيبة بعدما ورد في آيات سابقة من هذه السورة ما ورد من مواقف الحجاج والجحود بين أهل الكتاب والنبي وبخاصة في صدد ملة إبراهيم. وليست واردة في الصحاح بل ولم يروها الطبري شيخ المفسرين وأقدمهم.
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومنسجمة معها ومعقبة عليها تأييدا وتوكيدا. فبعد أن ذكرت الآيات السابقة صفات أهل الكتاب وتحريفاتهم لكتاب الله وتأويلاتهم السيئة وعدم وفائهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم جاءت هذه الآيات تندد بهم وتأمر النبي بإعلان عقيدته في جميع أنبياء الله وكتبه وإسلامه له وتقرر بأن هذا هو دين الله الحق الذي لا يقبل الله غيره ويكون متبع غيره خاسرا.
والإعلان والتقرير اللذان احتوتهما الآيات قويان رائعان ونافذان إلى الأعماق بحيث لا يمكن إلا أن يتأثر بهما من كان ذا عقل سليم وقلب طاهر ونية حسنة ورغبة صادقة في الحق والهدى لا يجمد أمامهما ويكابر إلا مريض القلب خبيث الطوية. والآيات تلهم أن موقف النبي هو موقف المستعلي الفائز الذي هزم خصمه بعد أن ألزمه الحجة.
والآية الثانية قد ورد مثلها في سورة البقرة في سياق الحجاج مع اليهود. وذلك في الآية [ ١٣٦ ] بفروق يسيرة. قد لا يتبين للمرء حكمتها فيجب إيكالها إلى علم الله. ويلحظ أن آية البقرة بدأت بكلمة ﴿ قولوا ﴾ خطابا للمسلمين وآية آل عمران بدأت بكلمة ﴿ قل ﴾ خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر. ولعل في هذا شيئا من تلك الحكمة والله تعالى أعلم. وقد شرحنا مداها في سورة البقرة فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها ويقولها المفسرون لجملة ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾. منها أن المسلمين يكونون قد أسلموا طوعا وأن الكافرين سيعرفون الحقيقة حينما يرون مصداق نذر الله فيسلمون كرها ولا يكون إسلامهم نافعا لهم. ومنها أنها بمعنى أن جميع من في السموات والأرض خاضع له مسخر لأمره داخل في نطاق قدرته وحكمه النافذ دون أن يتوقف ذلك على رضائهم وكرههم. والمتبادر أن العبارة أسلوبية. وقد يكون القول الثاني هو الأكثر وجاهة. وشيء من نوعها ورد في بعض آيات مكية٢، والله تعالى أعلم.
٢ آيات سورة الرعد ١٥ والإسراء"٤٤" وفصلت ١١..
عبارة الآيات واضحة، وفيها استنكار لمن يبتغي غير دين الله وكل من في السموات والأرض مسلم له. وأمر للنبي بإعلان إيمانه بالله وأنبيائه وجميع ما أنزل عليهم دون تفريق. وإسلامه مع اتباعه لله. وتقرير الخسران لكل من يبتغي دينا غير الإسلام في الآخرة وعدم قبول الله دينا غيره.
تعليق على الآية
﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت في مناسبة اختصام أهل الكتاب إلى رسول الله بشأن دين إبراهيم وزعم كل فريق منهم أنه عليه فقال النبي : إن كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا : والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك. والرواية عجيبة بعدما ورد في آيات سابقة من هذه السورة ما ورد من مواقف الحجاج والجحود بين أهل الكتاب والنبي وبخاصة في صدد ملة إبراهيم. وليست واردة في الصحاح بل ولم يروها الطبري شيخ المفسرين وأقدمهم.
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومنسجمة معها ومعقبة عليها تأييدا وتوكيدا. فبعد أن ذكرت الآيات السابقة صفات أهل الكتاب وتحريفاتهم لكتاب الله وتأويلاتهم السيئة وعدم وفائهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم جاءت هذه الآيات تندد بهم وتأمر النبي بإعلان عقيدته في جميع أنبياء الله وكتبه وإسلامه له وتقرر بأن هذا هو دين الله الحق الذي لا يقبل الله غيره ويكون متبع غيره خاسرا.
والإعلان والتقرير اللذان احتوتهما الآيات قويان رائعان ونافذان إلى الأعماق بحيث لا يمكن إلا أن يتأثر بهما من كان ذا عقل سليم وقلب طاهر ونية حسنة ورغبة صادقة في الحق والهدى لا يجمد أمامهما ويكابر إلا مريض القلب خبيث الطوية. والآيات تلهم أن موقف النبي هو موقف المستعلي الفائز الذي هزم خصمه بعد أن ألزمه الحجة.
والآية الثانية قد ورد مثلها في سورة البقرة في سياق الحجاج مع اليهود. وذلك في الآية [ ١٣٦ ] بفروق يسيرة. قد لا يتبين للمرء حكمتها فيجب إيكالها إلى علم الله. ويلحظ أن آية البقرة بدأت بكلمة ﴿ قولوا ﴾ خطابا للمسلمين وآية آل عمران بدأت بكلمة ﴿ قل ﴾ خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر. ولعل في هذا شيئا من تلك الحكمة والله تعالى أعلم. وقد شرحنا مداها في سورة البقرة فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها ويقولها المفسرون لجملة ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾. منها أن المسلمين يكونون قد أسلموا طوعا وأن الكافرين سيعرفون الحقيقة حينما يرون مصداق نذر الله فيسلمون كرها ولا يكون إسلامهم نافعا لهم. ومنها أنها بمعنى أن جميع من في السموات والأرض خاضع له مسخر لأمره داخل في نطاق قدرته وحكمه النافذ دون أن يتوقف ذلك على رضائهم وكرههم. والمتبادر أن العبارة أسلوبية. وقد يكون القول الثاني هو الأكثر وجاهة. وشيء من نوعها ورد في بعض آيات مكية٢، والله تعالى أعلم.
٢ آيات سورة الرعد ١٥ والإسراء"٤٤" وفصلت ١١..
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بالذين كفروا بعد أن آمنوا بالنبي ورأوا الدلائل على ذلك وشهدوا بصدق ما جاء به، وتقريرا بظلمهم وعدم إمكان حصولهم على توفيق الله وهداه واستحقاقهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وخلودهم في جهنم إلا من تاب منهم وسار في طريق الصلاح، وتقريرا بأن الله لن يقبل توبة من كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا، ولن يقبل من الذين كفروا وماتوا على كفرهم فدية ولو كانت ملء الأرض ذهبا. فهؤلاء وأولئك لهم العذاب الأليم. ولن يكون لهم ناصر من الله.
تعليق على الآية
﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى آخر الآية [ ٩١ ]
لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات. منها أن جماعة من المسلمين منهم الحرث بن سويد ارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله فيهم الآيات الثلاث الأولى ثم ندم الحرث فتاب وعاد إلى الإسلام فأنزل الله الرابعة وبقي رفاقه مصرين على الكفر، فأنزل الله فيهم الآيتين الخامسة والسادسة. ومنها أن الآيات الثلاث نزلت في رجل آمن ثم تنصر ولحق بالشام. وأنه تاب وعاد فأنزل الله الرابعة. ومنها أنها نزلت في أهل الكتاب الذين رأوا نعت النبي في كتبهم وعرفوا أن رسالته حق فلما بعث كفروا به. ومنها أن المعني بهذا هم اليهود بخاصة. وهم الذين ذكر خبر موقفهم في الآية [ ٨٩ ] من سورة البقرة، ومنها أن جملة ﴿ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا ﴾ عنت اليهود الذين كفروا بعيسى ثم بمحمد عليهما السلام. وليس من شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح إلا خبر ارتداد الحرث ثم إسلامه ؛ حيث أورد ابن كثير الخبر برواية النسائي والحاكم وابن حبان عن ابن عباس.
وفحوى الآيات ينطبق على هذه الرواية ورفاقه على الوجه الذي أوردناه في إحدى الروايات أكثر من انطباقها على الروايات التي تذكر أهل الكتاب أو اليهود بالصيغة المروية ؛ لأن الآيات تعني أناسا آمنوا ثم كفروا ومنهم من تاب ومنهم من أصرّ على كفره. غير أن رواية الحرث ورفاقه تقتضي أن تكون الآيات منفصلة ومستقلة عن السياق، وأن تكون نزلت مجزأة في حين أنها تبدو وحدة منسجمة أولا وأن الآيات السابقة واللاحقة لها في حق اليهود ثانيا ؛ حيث يتبادر أكثر أن تكون الآيات جزءا من السياق وفي حق اليهود بخاصة وأن الإشارة إلى إيمانهم ثم كفرهم قصدت ما ذكرته الآية [ ٧٢ ] من هذه السورة التي حكت تواصي اليهود بالإيمان بصحة نبوة النبي وما أنزل عليه وجه النهار والكفر آخره حتى يشككوا المسلمين في دينهم. فاليهود على ما تلهمه الآيات في ضوء هذا الشرح نفذوا مؤامرتهم فتظاهروا بالإيمان ثم أظهروا الشك وتراجعوا فاستحقوا الحملة العنيفة في الآيات الثلاث مع فتح باب التوبة في الآية الرابعة وإنذار من لا يغتنم الفرصة ويظل مصرا على كفره والإنذار الشديد الذي تضمنته الآيتان الخامسة والسادسة. ومثل هذا تكرر في القرآن. ولا نريد بهذا أن ننفي رواية حادثة الحرث ورفاقه. وقد جاءت الآيات مطابقة لصورة هذه الحادثة فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها فيهم. ولا نستعبد أن يكون اليهود استطاعوا بمكرهم ومؤامرتهم أن يؤثروا كما توقعوا على بعض المسلمين فارتدوا، ثم ندم منهم فريق فتاب وبقي فريق على كفره وارتداده.
وفي هذا صور متنوعة من السيرة النبوية في مكائد اليهود وحالات مرضى القلوب ومجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك كله.
والشدة في الإنذار والتقريع تلهم أن أثر الارتداد كان شديدا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين سواء أكان من اليهود أم من العرب. ولعلّ هذا يفسر ما أثر من حديث نبوي صحيح في حلّ دم المرتد إذا لم يتب على ما شرحناه في سياق الآية [ ٢١٩ ] من سورة البقرة.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين لمفهوم الآية [ ٩٠ ] الذي يمنع قبول توبة الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا. فقال بعضهم : إنها تعني أن لا تقبل توبتهم ما داموا مشتدين في كفرهم. وقال بعضهم : لا تقبل منهم أعمال خير وهم على كفرهم، وهذا وذاك من تحصيل الحاصل. وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم حين الظفر بهم ؛ لأن توبتهم تكون غير صادقة. وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم إذا تابوا حين الموت١. وقد يكون في القولين الأخيرين الوجاهة والصواب. وفي سورة النساء آيات تؤيد القول الأخير خاصة حيث جاء فيها :﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ١٧ ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٨ ) ﴾.
ويتبادر لنا إلى ذلك أن أسلوب الآية والآية التي تليها هو أسلوب تعبيري في صدد شدة الإنذار تتناسب مع فظاعة العمل.
والمتبادر أن تعبير ﴿ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ﴾ هو تعبير مستمد من شدة تقدير قيمة الذهب في أذهان السامعين بقصد التعبير عن استحالة غفران الله للذين يموتون وهم كفار. وقد تكرر هذا التعبير أو ما يقاربه في سور مكية٢.
٢ انظر آية سورة يونس [٥٤] والزمر [٤٧]..
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بالذين كفروا بعد أن آمنوا بالنبي ورأوا الدلائل على ذلك وشهدوا بصدق ما جاء به، وتقريرا بظلمهم وعدم إمكان حصولهم على توفيق الله وهداه واستحقاقهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وخلودهم في جهنم إلا من تاب منهم وسار في طريق الصلاح، وتقريرا بأن الله لن يقبل توبة من كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا، ولن يقبل من الذين كفروا وماتوا على كفرهم فدية ولو كانت ملء الأرض ذهبا. فهؤلاء وأولئك لهم العذاب الأليم. ولن يكون لهم ناصر من الله.
تعليق على الآية
﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى آخر الآية [ ٩١ ]
لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات. منها أن جماعة من المسلمين منهم الحرث بن سويد ارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله فيهم الآيات الثلاث الأولى ثم ندم الحرث فتاب وعاد إلى الإسلام فأنزل الله الرابعة وبقي رفاقه مصرين على الكفر، فأنزل الله فيهم الآيتين الخامسة والسادسة. ومنها أن الآيات الثلاث نزلت في رجل آمن ثم تنصر ولحق بالشام. وأنه تاب وعاد فأنزل الله الرابعة. ومنها أنها نزلت في أهل الكتاب الذين رأوا نعت النبي في كتبهم وعرفوا أن رسالته حق فلما بعث كفروا به. ومنها أن المعني بهذا هم اليهود بخاصة. وهم الذين ذكر خبر موقفهم في الآية [ ٨٩ ] من سورة البقرة، ومنها أن جملة ﴿ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا ﴾ عنت اليهود الذين كفروا بعيسى ثم بمحمد عليهما السلام. وليس من شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح إلا خبر ارتداد الحرث ثم إسلامه ؛ حيث أورد ابن كثير الخبر برواية النسائي والحاكم وابن حبان عن ابن عباس.
وفحوى الآيات ينطبق على هذه الرواية ورفاقه على الوجه الذي أوردناه في إحدى الروايات أكثر من انطباقها على الروايات التي تذكر أهل الكتاب أو اليهود بالصيغة المروية ؛ لأن الآيات تعني أناسا آمنوا ثم كفروا ومنهم من تاب ومنهم من أصرّ على كفره. غير أن رواية الحرث ورفاقه تقتضي أن تكون الآيات منفصلة ومستقلة عن السياق، وأن تكون نزلت مجزأة في حين أنها تبدو وحدة منسجمة أولا وأن الآيات السابقة واللاحقة لها في حق اليهود ثانيا ؛ حيث يتبادر أكثر أن تكون الآيات جزءا من السياق وفي حق اليهود بخاصة وأن الإشارة إلى إيمانهم ثم كفرهم قصدت ما ذكرته الآية [ ٧٢ ] من هذه السورة التي حكت تواصي اليهود بالإيمان بصحة نبوة النبي وما أنزل عليه وجه النهار والكفر آخره حتى يشككوا المسلمين في دينهم. فاليهود على ما تلهمه الآيات في ضوء هذا الشرح نفذوا مؤامرتهم فتظاهروا بالإيمان ثم أظهروا الشك وتراجعوا فاستحقوا الحملة العنيفة في الآيات الثلاث مع فتح باب التوبة في الآية الرابعة وإنذار من لا يغتنم الفرصة ويظل مصرا على كفره والإنذار الشديد الذي تضمنته الآيتان الخامسة والسادسة. ومثل هذا تكرر في القرآن. ولا نريد بهذا أن ننفي رواية حادثة الحرث ورفاقه. وقد جاءت الآيات مطابقة لصورة هذه الحادثة فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها فيهم. ولا نستعبد أن يكون اليهود استطاعوا بمكرهم ومؤامرتهم أن يؤثروا كما توقعوا على بعض المسلمين فارتدوا، ثم ندم منهم فريق فتاب وبقي فريق على كفره وارتداده.
وفي هذا صور متنوعة من السيرة النبوية في مكائد اليهود وحالات مرضى القلوب ومجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك كله.
والشدة في الإنذار والتقريع تلهم أن أثر الارتداد كان شديدا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين سواء أكان من اليهود أم من العرب. ولعلّ هذا يفسر ما أثر من حديث نبوي صحيح في حلّ دم المرتد إذا لم يتب على ما شرحناه في سياق الآية [ ٢١٩ ] من سورة البقرة.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين لمفهوم الآية [ ٩٠ ] الذي يمنع قبول توبة الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا. فقال بعضهم : إنها تعني أن لا تقبل توبتهم ما داموا مشتدين في كفرهم. وقال بعضهم : لا تقبل منهم أعمال خير وهم على كفرهم، وهذا وذاك من تحصيل الحاصل. وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم حين الظفر بهم ؛ لأن توبتهم تكون غير صادقة. وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم إذا تابوا حين الموت١. وقد يكون في القولين الأخيرين الوجاهة والصواب. وفي سورة النساء آيات تؤيد القول الأخير خاصة حيث جاء فيها :﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ١٧ ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٨ ) ﴾.
ويتبادر لنا إلى ذلك أن أسلوب الآية والآية التي تليها هو أسلوب تعبيري في صدد شدة الإنذار تتناسب مع فظاعة العمل.
والمتبادر أن تعبير ﴿ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ﴾ هو تعبير مستمد من شدة تقدير قيمة الذهب في أذهان السامعين بقصد التعبير عن استحالة غفران الله للذين يموتون وهم كفار. وقد تكرر هذا التعبير أو ما يقاربه في سور مكية٢.
٢ انظر آية سورة يونس [٥٤] والزمر [٤٧]..
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بالذين كفروا بعد أن آمنوا بالنبي ورأوا الدلائل على ذلك وشهدوا بصدق ما جاء به، وتقريرا بظلمهم وعدم إمكان حصولهم على توفيق الله وهداه واستحقاقهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وخلودهم في جهنم إلا من تاب منهم وسار في طريق الصلاح، وتقريرا بأن الله لن يقبل توبة من كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا، ولن يقبل من الذين كفروا وماتوا على كفرهم فدية ولو كانت ملء الأرض ذهبا. فهؤلاء وأولئك لهم العذاب الأليم. ولن يكون لهم ناصر من الله.
تعليق على الآية
﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى آخر الآية [ ٩١ ]
لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات. منها أن جماعة من المسلمين منهم الحرث بن سويد ارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله فيهم الآيات الثلاث الأولى ثم ندم الحرث فتاب وعاد إلى الإسلام فأنزل الله الرابعة وبقي رفاقه مصرين على الكفر، فأنزل الله فيهم الآيتين الخامسة والسادسة. ومنها أن الآيات الثلاث نزلت في رجل آمن ثم تنصر ولحق بالشام. وأنه تاب وعاد فأنزل الله الرابعة. ومنها أنها نزلت في أهل الكتاب الذين رأوا نعت النبي في كتبهم وعرفوا أن رسالته حق فلما بعث كفروا به. ومنها أن المعني بهذا هم اليهود بخاصة. وهم الذين ذكر خبر موقفهم في الآية [ ٨٩ ] من سورة البقرة، ومنها أن جملة ﴿ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا ﴾ عنت اليهود الذين كفروا بعيسى ثم بمحمد عليهما السلام. وليس من شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح إلا خبر ارتداد الحرث ثم إسلامه ؛ حيث أورد ابن كثير الخبر برواية النسائي والحاكم وابن حبان عن ابن عباس.
وفحوى الآيات ينطبق على هذه الرواية ورفاقه على الوجه الذي أوردناه في إحدى الروايات أكثر من انطباقها على الروايات التي تذكر أهل الكتاب أو اليهود بالصيغة المروية ؛ لأن الآيات تعني أناسا آمنوا ثم كفروا ومنهم من تاب ومنهم من أصرّ على كفره. غير أن رواية الحرث ورفاقه تقتضي أن تكون الآيات منفصلة ومستقلة عن السياق، وأن تكون نزلت مجزأة في حين أنها تبدو وحدة منسجمة أولا وأن الآيات السابقة واللاحقة لها في حق اليهود ثانيا ؛ حيث يتبادر أكثر أن تكون الآيات جزءا من السياق وفي حق اليهود بخاصة وأن الإشارة إلى إيمانهم ثم كفرهم قصدت ما ذكرته الآية [ ٧٢ ] من هذه السورة التي حكت تواصي اليهود بالإيمان بصحة نبوة النبي وما أنزل عليه وجه النهار والكفر آخره حتى يشككوا المسلمين في دينهم. فاليهود على ما تلهمه الآيات في ضوء هذا الشرح نفذوا مؤامرتهم فتظاهروا بالإيمان ثم أظهروا الشك وتراجعوا فاستحقوا الحملة العنيفة في الآيات الثلاث مع فتح باب التوبة في الآية الرابعة وإنذار من لا يغتنم الفرصة ويظل مصرا على كفره والإنذار الشديد الذي تضمنته الآيتان الخامسة والسادسة. ومثل هذا تكرر في القرآن. ولا نريد بهذا أن ننفي رواية حادثة الحرث ورفاقه. وقد جاءت الآيات مطابقة لصورة هذه الحادثة فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها فيهم. ولا نستعبد أن يكون اليهود استطاعوا بمكرهم ومؤامرتهم أن يؤثروا كما توقعوا على بعض المسلمين فارتدوا، ثم ندم منهم فريق فتاب وبقي فريق على كفره وارتداده.
وفي هذا صور متنوعة من السيرة النبوية في مكائد اليهود وحالات مرضى القلوب ومجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك كله.
والشدة في الإنذار والتقريع تلهم أن أثر الارتداد كان شديدا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين سواء أكان من اليهود أم من العرب. ولعلّ هذا يفسر ما أثر من حديث نبوي صحيح في حلّ دم المرتد إذا لم يتب على ما شرحناه في سياق الآية [ ٢١٩ ] من سورة البقرة.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين لمفهوم الآية [ ٩٠ ] الذي يمنع قبول توبة الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا. فقال بعضهم : إنها تعني أن لا تقبل توبتهم ما داموا مشتدين في كفرهم. وقال بعضهم : لا تقبل منهم أعمال خير وهم على كفرهم، وهذا وذاك من تحصيل الحاصل. وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم حين الظفر بهم ؛ لأن توبتهم تكون غير صادقة. وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم إذا تابوا حين الموت١. وقد يكون في القولين الأخيرين الوجاهة والصواب. وفي سورة النساء آيات تؤيد القول الأخير خاصة حيث جاء فيها :﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ١٧ ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٨ ) ﴾.
ويتبادر لنا إلى ذلك أن أسلوب الآية والآية التي تليها هو أسلوب تعبيري في صدد شدة الإنذار تتناسب مع فظاعة العمل.
والمتبادر أن تعبير ﴿ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ﴾ هو تعبير مستمد من شدة تقدير قيمة الذهب في أذهان السامعين بقصد التعبير عن استحالة غفران الله للذين يموتون وهم كفار. وقد تكرر هذا التعبير أو ما يقاربه في سور مكية٢.
٢ انظر آية سورة يونس [٥٤] والزمر [٤٧]..
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بالذين كفروا بعد أن آمنوا بالنبي ورأوا الدلائل على ذلك وشهدوا بصدق ما جاء به، وتقريرا بظلمهم وعدم إمكان حصولهم على توفيق الله وهداه واستحقاقهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وخلودهم في جهنم إلا من تاب منهم وسار في طريق الصلاح، وتقريرا بأن الله لن يقبل توبة من كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا، ولن يقبل من الذين كفروا وماتوا على كفرهم فدية ولو كانت ملء الأرض ذهبا. فهؤلاء وأولئك لهم العذاب الأليم. ولن يكون لهم ناصر من الله.
تعليق على الآية
﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى آخر الآية [ ٩١ ]
لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات. منها أن جماعة من المسلمين منهم الحرث بن سويد ارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله فيهم الآيات الثلاث الأولى ثم ندم الحرث فتاب وعاد إلى الإسلام فأنزل الله الرابعة وبقي رفاقه مصرين على الكفر، فأنزل الله فيهم الآيتين الخامسة والسادسة. ومنها أن الآيات الثلاث نزلت في رجل آمن ثم تنصر ولحق بالشام. وأنه تاب وعاد فأنزل الله الرابعة. ومنها أنها نزلت في أهل الكتاب الذين رأوا نعت النبي في كتبهم وعرفوا أن رسالته حق فلما بعث كفروا به. ومنها أن المعني بهذا هم اليهود بخاصة. وهم الذين ذكر خبر موقفهم في الآية [ ٨٩ ] من سورة البقرة، ومنها أن جملة ﴿ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا ﴾ عنت اليهود الذين كفروا بعيسى ثم بمحمد عليهما السلام. وليس من شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح إلا خبر ارتداد الحرث ثم إسلامه ؛ حيث أورد ابن كثير الخبر برواية النسائي والحاكم وابن حبان عن ابن عباس.
وفحوى الآيات ينطبق على هذه الرواية ورفاقه على الوجه الذي أوردناه في إحدى الروايات أكثر من انطباقها على الروايات التي تذكر أهل الكتاب أو اليهود بالصيغة المروية ؛ لأن الآيات تعني أناسا آمنوا ثم كفروا ومنهم من تاب ومنهم من أصرّ على كفره. غير أن رواية الحرث ورفاقه تقتضي أن تكون الآيات منفصلة ومستقلة عن السياق، وأن تكون نزلت مجزأة في حين أنها تبدو وحدة منسجمة أولا وأن الآيات السابقة واللاحقة لها في حق اليهود ثانيا ؛ حيث يتبادر أكثر أن تكون الآيات جزءا من السياق وفي حق اليهود بخاصة وأن الإشارة إلى إيمانهم ثم كفرهم قصدت ما ذكرته الآية [ ٧٢ ] من هذه السورة التي حكت تواصي اليهود بالإيمان بصحة نبوة النبي وما أنزل عليه وجه النهار والكفر آخره حتى يشككوا المسلمين في دينهم. فاليهود على ما تلهمه الآيات في ضوء هذا الشرح نفذوا مؤامرتهم فتظاهروا بالإيمان ثم أظهروا الشك وتراجعوا فاستحقوا الحملة العنيفة في الآيات الثلاث مع فتح باب التوبة في الآية الرابعة وإنذار من لا يغتنم الفرصة ويظل مصرا على كفره والإنذار الشديد الذي تضمنته الآيتان الخامسة والسادسة. ومثل هذا تكرر في القرآن. ولا نريد بهذا أن ننفي رواية حادثة الحرث ورفاقه. وقد جاءت الآيات مطابقة لصورة هذه الحادثة فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها فيهم. ولا نستعبد أن يكون اليهود استطاعوا بمكرهم ومؤامرتهم أن يؤثروا كما توقعوا على بعض المسلمين فارتدوا، ثم ندم منهم فريق فتاب وبقي فريق على كفره وارتداده.
وفي هذا صور متنوعة من السيرة النبوية في مكائد اليهود وحالات مرضى القلوب ومجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك كله.
والشدة في الإنذار والتقريع تلهم أن أثر الارتداد كان شديدا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين سواء أكان من اليهود أم من العرب. ولعلّ هذا يفسر ما أثر من حديث نبوي صحيح في حلّ دم المرتد إذا لم يتب على ما شرحناه في سياق الآية [ ٢١٩ ] من سورة البقرة.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين لمفهوم الآية [ ٩٠ ] الذي يمنع قبول توبة الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا. فقال بعضهم : إنها تعني أن لا تقبل توبتهم ما داموا مشتدين في كفرهم. وقال بعضهم : لا تقبل منهم أعمال خير وهم على كفرهم، وهذا وذاك من تحصيل الحاصل. وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم حين الظفر بهم ؛ لأن توبتهم تكون غير صادقة. وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم إذا تابوا حين الموت١. وقد يكون في القولين الأخيرين الوجاهة والصواب. وفي سورة النساء آيات تؤيد القول الأخير خاصة حيث جاء فيها :﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ١٧ ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٨ ) ﴾.
ويتبادر لنا إلى ذلك أن أسلوب الآية والآية التي تليها هو أسلوب تعبيري في صدد شدة الإنذار تتناسب مع فظاعة العمل.
والمتبادر أن تعبير ﴿ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ﴾ هو تعبير مستمد من شدة تقدير قيمة الذهب في أذهان السامعين بقصد التعبير عن استحالة غفران الله للذين يموتون وهم كفار. وقد تكرر هذا التعبير أو ما يقاربه في سور مكية٢.
٢ انظر آية سورة يونس [٥٤] والزمر [٤٧]..
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بالذين كفروا بعد أن آمنوا بالنبي ورأوا الدلائل على ذلك وشهدوا بصدق ما جاء به، وتقريرا بظلمهم وعدم إمكان حصولهم على توفيق الله وهداه واستحقاقهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وخلودهم في جهنم إلا من تاب منهم وسار في طريق الصلاح، وتقريرا بأن الله لن يقبل توبة من كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا، ولن يقبل من الذين كفروا وماتوا على كفرهم فدية ولو كانت ملء الأرض ذهبا. فهؤلاء وأولئك لهم العذاب الأليم. ولن يكون لهم ناصر من الله.
تعليق على الآية
﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى آخر الآية [ ٩١ ]
لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات. منها أن جماعة من المسلمين منهم الحرث بن سويد ارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله فيهم الآيات الثلاث الأولى ثم ندم الحرث فتاب وعاد إلى الإسلام فأنزل الله الرابعة وبقي رفاقه مصرين على الكفر، فأنزل الله فيهم الآيتين الخامسة والسادسة. ومنها أن الآيات الثلاث نزلت في رجل آمن ثم تنصر ولحق بالشام. وأنه تاب وعاد فأنزل الله الرابعة. ومنها أنها نزلت في أهل الكتاب الذين رأوا نعت النبي في كتبهم وعرفوا أن رسالته حق فلما بعث كفروا به. ومنها أن المعني بهذا هم اليهود بخاصة. وهم الذين ذكر خبر موقفهم في الآية [ ٨٩ ] من سورة البقرة، ومنها أن جملة ﴿ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا ﴾ عنت اليهود الذين كفروا بعيسى ثم بمحمد عليهما السلام. وليس من شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح إلا خبر ارتداد الحرث ثم إسلامه ؛ حيث أورد ابن كثير الخبر برواية النسائي والحاكم وابن حبان عن ابن عباس.
وفحوى الآيات ينطبق على هذه الرواية ورفاقه على الوجه الذي أوردناه في إحدى الروايات أكثر من انطباقها على الروايات التي تذكر أهل الكتاب أو اليهود بالصيغة المروية ؛ لأن الآيات تعني أناسا آمنوا ثم كفروا ومنهم من تاب ومنهم من أصرّ على كفره. غير أن رواية الحرث ورفاقه تقتضي أن تكون الآيات منفصلة ومستقلة عن السياق، وأن تكون نزلت مجزأة في حين أنها تبدو وحدة منسجمة أولا وأن الآيات السابقة واللاحقة لها في حق اليهود ثانيا ؛ حيث يتبادر أكثر أن تكون الآيات جزءا من السياق وفي حق اليهود بخاصة وأن الإشارة إلى إيمانهم ثم كفرهم قصدت ما ذكرته الآية [ ٧٢ ] من هذه السورة التي حكت تواصي اليهود بالإيمان بصحة نبوة النبي وما أنزل عليه وجه النهار والكفر آخره حتى يشككوا المسلمين في دينهم. فاليهود على ما تلهمه الآيات في ضوء هذا الشرح نفذوا مؤامرتهم فتظاهروا بالإيمان ثم أظهروا الشك وتراجعوا فاستحقوا الحملة العنيفة في الآيات الثلاث مع فتح باب التوبة في الآية الرابعة وإنذار من لا يغتنم الفرصة ويظل مصرا على كفره والإنذار الشديد الذي تضمنته الآيتان الخامسة والسادسة. ومثل هذا تكرر في القرآن. ولا نريد بهذا أن ننفي رواية حادثة الحرث ورفاقه. وقد جاءت الآيات مطابقة لصورة هذه الحادثة فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها فيهم. ولا نستعبد أن يكون اليهود استطاعوا بمكرهم ومؤامرتهم أن يؤثروا كما توقعوا على بعض المسلمين فارتدوا، ثم ندم منهم فريق فتاب وبقي فريق على كفره وارتداده.
وفي هذا صور متنوعة من السيرة النبوية في مكائد اليهود وحالات مرضى القلوب ومجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك كله.
والشدة في الإنذار والتقريع تلهم أن أثر الارتداد كان شديدا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين سواء أكان من اليهود أم من العرب. ولعلّ هذا يفسر ما أثر من حديث نبوي صحيح في حلّ دم المرتد إذا لم يتب على ما شرحناه في سياق الآية [ ٢١٩ ] من سورة البقرة.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين لمفهوم الآية [ ٩٠ ] الذي يمنع قبول توبة الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا. فقال بعضهم : إنها تعني أن لا تقبل توبتهم ما داموا مشتدين في كفرهم. وقال بعضهم : لا تقبل منهم أعمال خير وهم على كفرهم، وهذا وذاك من تحصيل الحاصل. وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم حين الظفر بهم ؛ لأن توبتهم تكون غير صادقة. وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم إذا تابوا حين الموت١. وقد يكون في القولين الأخيرين الوجاهة والصواب. وفي سورة النساء آيات تؤيد القول الأخير خاصة حيث جاء فيها :﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ١٧ ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٨ ) ﴾.
ويتبادر لنا إلى ذلك أن أسلوب الآية والآية التي تليها هو أسلوب تعبيري في صدد شدة الإنذار تتناسب مع فظاعة العمل.
والمتبادر أن تعبير ﴿ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ﴾ هو تعبير مستمد من شدة تقدير قيمة الذهب في أذهان السامعين بقصد التعبير عن استحالة غفران الله للذين يموتون وهم كفار. وقد تكرر هذا التعبير أو ما يقاربه في سور مكية٢.
٢ انظر آية سورة يونس [٥٤] والزمر [٤٧]..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٦:﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٨٦ ) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( ٨٧ ) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ( ٨٨ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٨٩ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ ( ٩٠ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ ( ١ ) افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٩١ ) ﴾ [ ٨٦ ٩١ ].
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بالذين كفروا بعد أن آمنوا بالنبي ورأوا الدلائل على ذلك وشهدوا بصدق ما جاء به، وتقريرا بظلمهم وعدم إمكان حصولهم على توفيق الله وهداه واستحقاقهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وخلودهم في جهنم إلا من تاب منهم وسار في طريق الصلاح، وتقريرا بأن الله لن يقبل توبة من كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا، ولن يقبل من الذين كفروا وماتوا على كفرهم فدية ولو كانت ملء الأرض ذهبا. فهؤلاء وأولئك لهم العذاب الأليم. ولن يكون لهم ناصر من الله.
تعليق على الآية
﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ... ﴾ إلخ
والآيات التالية لها إلى آخر الآية [ ٩١ ]
لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات. منها أن جماعة من المسلمين منهم الحرث بن سويد ارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله فيهم الآيات الثلاث الأولى ثم ندم الحرث فتاب وعاد إلى الإسلام فأنزل الله الرابعة وبقي رفاقه مصرين على الكفر، فأنزل الله فيهم الآيتين الخامسة والسادسة. ومنها أن الآيات الثلاث نزلت في رجل آمن ثم تنصر ولحق بالشام. وأنه تاب وعاد فأنزل الله الرابعة. ومنها أنها نزلت في أهل الكتاب الذين رأوا نعت النبي في كتبهم وعرفوا أن رسالته حق فلما بعث كفروا به. ومنها أن المعني بهذا هم اليهود بخاصة. وهم الذين ذكر خبر موقفهم في الآية [ ٨٩ ] من سورة البقرة، ومنها أن جملة ﴿ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا ﴾ عنت اليهود الذين كفروا بعيسى ثم بمحمد عليهما السلام. وليس من شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح إلا خبر ارتداد الحرث ثم إسلامه ؛ حيث أورد ابن كثير الخبر برواية النسائي والحاكم وابن حبان عن ابن عباس.
وفحوى الآيات ينطبق على هذه الرواية ورفاقه على الوجه الذي أوردناه في إحدى الروايات أكثر من انطباقها على الروايات التي تذكر أهل الكتاب أو اليهود بالصيغة المروية ؛ لأن الآيات تعني أناسا آمنوا ثم كفروا ومنهم من تاب ومنهم من أصرّ على كفره. غير أن رواية الحرث ورفاقه تقتضي أن تكون الآيات منفصلة ومستقلة عن السياق، وأن تكون نزلت مجزأة في حين أنها تبدو وحدة منسجمة أولا وأن الآيات السابقة واللاحقة لها في حق اليهود ثانيا ؛ حيث يتبادر أكثر أن تكون الآيات جزءا من السياق وفي حق اليهود بخاصة وأن الإشارة إلى إيمانهم ثم كفرهم قصدت ما ذكرته الآية [ ٧٢ ] من هذه السورة التي حكت تواصي اليهود بالإيمان بصحة نبوة النبي وما أنزل عليه وجه النهار والكفر آخره حتى يشككوا المسلمين في دينهم. فاليهود على ما تلهمه الآيات في ضوء هذا الشرح نفذوا مؤامرتهم فتظاهروا بالإيمان ثم أظهروا الشك وتراجعوا فاستحقوا الحملة العنيفة في الآيات الثلاث مع فتح باب التوبة في الآية الرابعة وإنذار من لا يغتنم الفرصة ويظل مصرا على كفره والإنذار الشديد الذي تضمنته الآيتان الخامسة والسادسة. ومثل هذا تكرر في القرآن. ولا نريد بهذا أن ننفي رواية حادثة الحرث ورفاقه. وقد جاءت الآيات مطابقة لصورة هذه الحادثة فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها فيهم. ولا نستعبد أن يكون اليهود استطاعوا بمكرهم ومؤامرتهم أن يؤثروا كما توقعوا على بعض المسلمين فارتدوا، ثم ندم منهم فريق فتاب وبقي فريق على كفره وارتداده.
وفي هذا صور متنوعة من السيرة النبوية في مكائد اليهود وحالات مرضى القلوب ومجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك كله.
والشدة في الإنذار والتقريع تلهم أن أثر الارتداد كان شديدا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين سواء أكان من اليهود أم من العرب. ولعلّ هذا يفسر ما أثر من حديث نبوي صحيح في حلّ دم المرتد إذا لم يتب على ما شرحناه في سياق الآية [ ٢١٩ ] من سورة البقرة.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين لمفهوم الآية [ ٩٠ ] الذي يمنع قبول توبة الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا. فقال بعضهم : إنها تعني أن لا تقبل توبتهم ما داموا مشتدين في كفرهم. وقال بعضهم : لا تقبل منهم أعمال خير وهم على كفرهم، وهذا وذاك من تحصيل الحاصل. وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم حين الظفر بهم ؛ لأن توبتهم تكون غير صادقة. وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم إذا تابوا حين الموت١. وقد يكون في القولين الأخيرين الوجاهة والصواب. وفي سورة النساء آيات تؤيد القول الأخير خاصة حيث جاء فيها :﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ١٧ ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٨ ) ﴾.
ويتبادر لنا إلى ذلك أن أسلوب الآية والآية التي تليها هو أسلوب تعبيري في صدد شدة الإنذار تتناسب مع فظاعة العمل.
والمتبادر أن تعبير ﴿ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ﴾ هو تعبير مستمد من شدة تقدير قيمة الذهب في أذهان السامعين بقصد التعبير عن استحالة غفران الله للذين يموتون وهم كفار. وقد تكرر هذا التعبير أو ما يقاربه في سور مكية٢.
٢ انظر آية سورة يونس [٥٤] والزمر [٤٧]..
( ١ ) البر : هنا بمعنى رضاء الله ورحمته على ما هو المتبادر. وقد جاءت في هذا المعنى في آية سورة البقرة [ ١٧٧ ] ولقد أولها بعضهم بالجنة ولكن المعنى الأول هو الأوجه.
تعليق على الآية
﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ... ﴾ إلخ
عبارة الآية واضحة، والخطاب فيها موجه على ما يتبادر إلى المسلمين، ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة نزولها. وتبدو الصلة منقطعة بينها وبين ما سبقها وما لحقها.
ولقد رويت رواية في صدد الآية التالية لها تفيد أن إسرائيل نذر تحريم أحبّ المطعومات إليه تقربا إلى الله. وبين مفهوم هذا النذر ومفهوم الآية شيء من الاتصال كما هو المتبادر ولا ندري إذا كان هذا يسوغ القول إذا صحت الرواية أن هذه الآية تمهيد للمشهد الذي احتوته الآيات التالية لها وأنها متصلة بها. ومثل هذه التمهيدات من أساليب النظم القرآني مما مرت منه أمثلة عديدة. بل نحن نرجح ذلك ؛ لأن الآية بدون هذا الغرض تبدو كما قلنا منقطعة عن السياق السابق واللاحق الذي هو في حق اليهود بدون حكمة مفهومة. والله تعالى أعلم.
والآية في حد ذاتها جملة تامة محكمة ؛ ولذلك أفردناها لحدتها. وقد احتوت تعليما في آداب الصدقات موجها إلى السامعين الذين هم المسلمون أو الذين منهم المسلمون. وقد جاء هذا الأدب بأسلوب آخر في آية سورة البقرة [ ٢٦٧ ] وهو وجوب التصدق من طيب ما في حيازة المتصدق وطيب كسبه وكراهيته التصدق بالرديء غير المحبب إلى صاحبه. وأسلوب الآية هنا قوي يجعل هذا الشرط واجبا. وهو أقوى من أسلوب آية البقرة، وفيه توكيد للتلقين الجليل الذي نبهنا عليه في سياق تفسير سورة البقرة.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن هذا الشرط يتناول الزكاة ونوافل الصدقات معا. وإطلاق الآية يلهم ذلك. وهذا متسق مع المبادئ القرآنية العامة التي تأمر بالإحسان في جميع الأعمال أيضا.
وهناك أحاديث تذكر ما كان من تأثر بعض أصحاب رسول الله بهذه الآية. من ذلك حديث رواه البخاري والترمذي عن أنس قال : " كان أبو طلحة أكثر أنصاريي المدينة نخلا. وكان أحبّ أمواله إليه ( بيرحا ) وكانت مستقبلة المسجد. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. فلما نزلت الآية قال : يا رسول الله إن الله يقول : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون. وإن أحب أموالي إليّ ( بيرحا ) وإنها لصدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال : بخ بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. قال أفعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه وبني عمه " ١.
ومن ذلك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال : " أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال : يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قطّ هو أنفس عندي منه فما تأمرني به ؟ قال : إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق بها على أن لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا تورث ولا توهب. وتصدق بها عمر في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. وعلى أن لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول " ٢. ومنها حديث رواه ابن كثير في سياق الآية عن ابن عمر قال : " حضرتني هذه الآية فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا أحبّ إليّ من جارية لي رومية. فقلت : هي حرة لوجه الله. فلو أني أعود في شيء جعلته لله لتزوجتها ".
والفقهاء يعتبرون حديث ابن عمر عن أرض خيبر لعمر مستندا لإجازة الوقف في الإسلام. وظاهر أن ما يعنيه هو الوقف الخيري البحت. والاستناد في محله على هذا الوجه وفي العمل أسوة للقادرين من المسلمين.
٢ التاج، ج ٢ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٣..
( ٢ ) إسرائيل : جمهور المفسرين على أنه اسم ثان ليعقوب، وقد ورد في الإصحاح ( ٣٢ ) من سفر التكوين أن الله سمى يعقوب بإسرائيل وقال له لا يكون اسمك يعقوب فيما بعد بل إسرائيل.
في هذه الآيات :
١ ـ تقرير بأن كل المطعومات كانت مباحة لبني إسرائيل قبل نزول التوراة باستثناء ما حرمه يعقوب على نفسه من نفسه.
٢ ـ وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحدي اليهود بتلاوة نصوص التوراة إن كانوا صادقين في دعوى عكس ذلك.
٣ ـ وتنديد بمن يفتري على الله الكذب بعد ظهور الحق ووصفه بالباغي الظالم.
٤ ـ وأمر آخر للنبي بإعلان صدق الله فيما يوحي به والدعوة إلى اتباع ملة إبراهيم الذي كان حنيفا مسلما ولم يكن مشركا.
تعليق على الآية
﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
ولقد روى المفسرون روايات عديدة١ في مناسبة نزول هذه الآيات. منها أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة عديدة تختلف الروايات فيها ووعدوه باتباعه إذا أجابهم عليها بما يعرفون أنه الحق، ومن ذلك أحبّ الطعام إلى جدهم إسرائيل فأجابهم على أسئلتهم أجوبة شهدوا أنها الحق إلا جوابه على أحب الطعام لإسرائيل حيث قال لهم : إنه لحوم الإبل أو لحومها وألبانها. أو عرق النسا منها وأنه حرمها على نفسه بنفسه وتقربا لله ووفاء بنذر نذره بأن يحرم على نفسه أحب الطعام إليه إذا شفاه من مرض ألمّ به، فشفاه، فأنكروا ذلك وادعوا أن لحوم الإبل أو عرق النسا كانت محرمة في ملة إبراهيم، فسار يعقوب على ذلك وحرمت على ذريته بالتبعية فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم. ومنها أنهم احتجوا على تحليل النبي لحوم الإبل، وهي محرمة في التوراة وادعوا أن ذلك التحريم سابقا للتوراة وأنه من ملة إبراهيم في حين أنه يزعم أنه على هذه الملة، فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم وتقرر أنه لم يكن شيء من الطعام محرما دينيا على بني إسرائيل قبل التوراة. وأن ما حرمه إسرائيل إنما حرمه بنفسه ودون أمر رباني سابق، ولم ترد أية من الروايتين في الصحاح غير أن كلا منهما متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر٢.
والآيات تلهم والروايات تفيد أن هذا كان مشهدا جدليا بين النبي واليهود. وقد تحدتهم الآيات بإثبات دعواهم من نصوص التوراة بأسلوب يلهم أنهم عجزوا أو راوغوا، وأن موقف النبي صلى الله عليه وسلم في المشهد كان موقف الملزم المستعلي ؛ حيث نسبت الآيات إليهم افتراء الكذب على الله في ما ادعوا، ثم عقبت الآية الثالثة وبأسلوب المنتصر في الحجة مقررة صدق الله وداعية إلى اتباع ملة إبراهيم الحقيقية التي عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد ورد في الإصحاح ( ٣٢ ) من سفر التكوين أن بني إسرائيل لا يأكلون عرق النسا الذي مع ( حق الورك ) في سياق خيالي مفاده أن الله تعالى وتنزه تمثل ليعقوب رجلا، فتصارع معه فلم يقدر الرجل على يعقوب حتى طلع الفجر فقال له : أطلقني. فقال يعقوب : لا أطلقك حتى تباركني فباركه. وقال له : لا يكن اسمك يعقوب فيما بعد بل إسرائيل. ولمس الرجل حق ورك يعقوب فصار يظلع فصار بنو إسرائيل لا يأكلون عرق النسا ؛ لأن الله لمس حق ورك يعقوب على عرق النسا.
وسفر التكوين كان مما يتداوله اليهود على ما شرحناه في تعليقنا على التوراة. في سورة الأعراف. ويمكن أن يكون اليهود استندوا إلى ما جاء في السفر وزعموا أن عرق النسا محرم عليهم في التوراة التي هي غير سفر التكوين فتحداهم بتلاوتها. ومع ذلك فعبارة سفر التكوين ليس فيها تحريم رباني حتى ولا تحريم يعقوب لعرق النسا فيكون احتجاجهم في غير محله أيضا وتكون الحجة القرآنية مستحكمة عليهم على كل حال.
هذا، وهناك حديث في فصل التفسير من كتاب التاج وفي سياق الآيات رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر قال :" جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا. فقال لهم : كيف تفعلون في من زنى منكم ؟ قال : نحممهما ونضربهما فقال : لا تجدون في التوراة الرجم. قالوا : لا. فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فلما أتوا بها وضع مدارسها الذي يقرأ لهم كفه على أية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن مكانها وقال : ما هذه ؟ قالوا : هي آية الرجم، فأمر النبي بهما فرجما قريبا من المسجد، فرأيت صاحبها يحني عليها يقيها من الحجارة ".
وظاهر من النص أن الجملة القرآنية ﴿ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا ﴾ تليت في هذه المناسبة تلاوة. ولا يذكر الحديث. أنها نزلت في الحادثة. وتظل الروايات السابقة هي الواردة على نحو ما شرحناه.
في هذه الآيات :
١ ـ تقرير بأن كل المطعومات كانت مباحة لبني إسرائيل قبل نزول التوراة باستثناء ما حرمه يعقوب على نفسه من نفسه.
٢ ـ وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحدي اليهود بتلاوة نصوص التوراة إن كانوا صادقين في دعوى عكس ذلك.
٣ ـ وتنديد بمن يفتري على الله الكذب بعد ظهور الحق ووصفه بالباغي الظالم.
٤ ـ وأمر آخر للنبي بإعلان صدق الله فيما يوحي به والدعوة إلى اتباع ملة إبراهيم الذي كان حنيفا مسلما ولم يكن مشركا.
تعليق على الآية
﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
ولقد روى المفسرون روايات عديدة١ في مناسبة نزول هذه الآيات. منها أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة عديدة تختلف الروايات فيها ووعدوه باتباعه إذا أجابهم عليها بما يعرفون أنه الحق، ومن ذلك أحبّ الطعام إلى جدهم إسرائيل فأجابهم على أسئلتهم أجوبة شهدوا أنها الحق إلا جوابه على أحب الطعام لإسرائيل حيث قال لهم : إنه لحوم الإبل أو لحومها وألبانها. أو عرق النسا منها وأنه حرمها على نفسه بنفسه وتقربا لله ووفاء بنذر نذره بأن يحرم على نفسه أحب الطعام إليه إذا شفاه من مرض ألمّ به، فشفاه، فأنكروا ذلك وادعوا أن لحوم الإبل أو عرق النسا كانت محرمة في ملة إبراهيم، فسار يعقوب على ذلك وحرمت على ذريته بالتبعية فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم. ومنها أنهم احتجوا على تحليل النبي لحوم الإبل، وهي محرمة في التوراة وادعوا أن ذلك التحريم سابقا للتوراة وأنه من ملة إبراهيم في حين أنه يزعم أنه على هذه الملة، فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم وتقرر أنه لم يكن شيء من الطعام محرما دينيا على بني إسرائيل قبل التوراة. وأن ما حرمه إسرائيل إنما حرمه بنفسه ودون أمر رباني سابق، ولم ترد أية من الروايتين في الصحاح غير أن كلا منهما متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر٢.
والآيات تلهم والروايات تفيد أن هذا كان مشهدا جدليا بين النبي واليهود. وقد تحدتهم الآيات بإثبات دعواهم من نصوص التوراة بأسلوب يلهم أنهم عجزوا أو راوغوا، وأن موقف النبي صلى الله عليه وسلم في المشهد كان موقف الملزم المستعلي ؛ حيث نسبت الآيات إليهم افتراء الكذب على الله في ما ادعوا، ثم عقبت الآية الثالثة وبأسلوب المنتصر في الحجة مقررة صدق الله وداعية إلى اتباع ملة إبراهيم الحقيقية التي عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد ورد في الإصحاح ( ٣٢ ) من سفر التكوين أن بني إسرائيل لا يأكلون عرق النسا الذي مع ( حق الورك ) في سياق خيالي مفاده أن الله تعالى وتنزه تمثل ليعقوب رجلا، فتصارع معه فلم يقدر الرجل على يعقوب حتى طلع الفجر فقال له : أطلقني. فقال يعقوب : لا أطلقك حتى تباركني فباركه. وقال له : لا يكن اسمك يعقوب فيما بعد بل إسرائيل. ولمس الرجل حق ورك يعقوب فصار يظلع فصار بنو إسرائيل لا يأكلون عرق النسا ؛ لأن الله لمس حق ورك يعقوب على عرق النسا.
وسفر التكوين كان مما يتداوله اليهود على ما شرحناه في تعليقنا على التوراة. في سورة الأعراف. ويمكن أن يكون اليهود استندوا إلى ما جاء في السفر وزعموا أن عرق النسا محرم عليهم في التوراة التي هي غير سفر التكوين فتحداهم بتلاوتها. ومع ذلك فعبارة سفر التكوين ليس فيها تحريم رباني حتى ولا تحريم يعقوب لعرق النسا فيكون احتجاجهم في غير محله أيضا وتكون الحجة القرآنية مستحكمة عليهم على كل حال.
هذا، وهناك حديث في فصل التفسير من كتاب التاج وفي سياق الآيات رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر قال :" جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا. فقال لهم : كيف تفعلون في من زنى منكم ؟ قال : نحممهما ونضربهما فقال : لا تجدون في التوراة الرجم. قالوا : لا. فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فلما أتوا بها وضع مدارسها الذي يقرأ لهم كفه على أية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن مكانها وقال : ما هذه ؟ قالوا : هي آية الرجم، فأمر النبي بهما فرجما قريبا من المسجد، فرأيت صاحبها يحني عليها يقيها من الحجارة ".
وظاهر من النص أن الجملة القرآنية ﴿ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا ﴾ تليت في هذه المناسبة تلاوة. ولا يذكر الحديث. أنها نزلت في الحادثة. وتظل الروايات السابقة هي الواردة على نحو ما شرحناه.
في هذه الآيات :
١ ـ تقرير بأن كل المطعومات كانت مباحة لبني إسرائيل قبل نزول التوراة باستثناء ما حرمه يعقوب على نفسه من نفسه.
٢ ـ وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحدي اليهود بتلاوة نصوص التوراة إن كانوا صادقين في دعوى عكس ذلك.
٣ ـ وتنديد بمن يفتري على الله الكذب بعد ظهور الحق ووصفه بالباغي الظالم.
٤ ـ وأمر آخر للنبي بإعلان صدق الله فيما يوحي به والدعوة إلى اتباع ملة إبراهيم الذي كان حنيفا مسلما ولم يكن مشركا.
تعليق على الآية
﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
ولقد روى المفسرون روايات عديدة١ في مناسبة نزول هذه الآيات. منها أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة عديدة تختلف الروايات فيها ووعدوه باتباعه إذا أجابهم عليها بما يعرفون أنه الحق، ومن ذلك أحبّ الطعام إلى جدهم إسرائيل فأجابهم على أسئلتهم أجوبة شهدوا أنها الحق إلا جوابه على أحب الطعام لإسرائيل حيث قال لهم : إنه لحوم الإبل أو لحومها وألبانها. أو عرق النسا منها وأنه حرمها على نفسه بنفسه وتقربا لله ووفاء بنذر نذره بأن يحرم على نفسه أحب الطعام إليه إذا شفاه من مرض ألمّ به، فشفاه، فأنكروا ذلك وادعوا أن لحوم الإبل أو عرق النسا كانت محرمة في ملة إبراهيم، فسار يعقوب على ذلك وحرمت على ذريته بالتبعية فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم. ومنها أنهم احتجوا على تحليل النبي لحوم الإبل، وهي محرمة في التوراة وادعوا أن ذلك التحريم سابقا للتوراة وأنه من ملة إبراهيم في حين أنه يزعم أنه على هذه الملة، فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم وتقرر أنه لم يكن شيء من الطعام محرما دينيا على بني إسرائيل قبل التوراة. وأن ما حرمه إسرائيل إنما حرمه بنفسه ودون أمر رباني سابق، ولم ترد أية من الروايتين في الصحاح غير أن كلا منهما متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر٢.
والآيات تلهم والروايات تفيد أن هذا كان مشهدا جدليا بين النبي واليهود. وقد تحدتهم الآيات بإثبات دعواهم من نصوص التوراة بأسلوب يلهم أنهم عجزوا أو راوغوا، وأن موقف النبي صلى الله عليه وسلم في المشهد كان موقف الملزم المستعلي ؛ حيث نسبت الآيات إليهم افتراء الكذب على الله في ما ادعوا، ثم عقبت الآية الثالثة وبأسلوب المنتصر في الحجة مقررة صدق الله وداعية إلى اتباع ملة إبراهيم الحقيقية التي عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد ورد في الإصحاح ( ٣٢ ) من سفر التكوين أن بني إسرائيل لا يأكلون عرق النسا الذي مع ( حق الورك ) في سياق خيالي مفاده أن الله تعالى وتنزه تمثل ليعقوب رجلا، فتصارع معه فلم يقدر الرجل على يعقوب حتى طلع الفجر فقال له : أطلقني. فقال يعقوب : لا أطلقك حتى تباركني فباركه. وقال له : لا يكن اسمك يعقوب فيما بعد بل إسرائيل. ولمس الرجل حق ورك يعقوب فصار يظلع فصار بنو إسرائيل لا يأكلون عرق النسا ؛ لأن الله لمس حق ورك يعقوب على عرق النسا.
وسفر التكوين كان مما يتداوله اليهود على ما شرحناه في تعليقنا على التوراة. في سورة الأعراف. ويمكن أن يكون اليهود استندوا إلى ما جاء في السفر وزعموا أن عرق النسا محرم عليهم في التوراة التي هي غير سفر التكوين فتحداهم بتلاوتها. ومع ذلك فعبارة سفر التكوين ليس فيها تحريم رباني حتى ولا تحريم يعقوب لعرق النسا فيكون احتجاجهم في غير محله أيضا وتكون الحجة القرآنية مستحكمة عليهم على كل حال.
هذا، وهناك حديث في فصل التفسير من كتاب التاج وفي سياق الآيات رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر قال :" جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا. فقال لهم : كيف تفعلون في من زنى منكم ؟ قال : نحممهما ونضربهما فقال : لا تجدون في التوراة الرجم. قالوا : لا. فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فلما أتوا بها وضع مدارسها الذي يقرأ لهم كفه على أية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن مكانها وقال : ما هذه ؟ قالوا : هي آية الرجم، فأمر النبي بهما فرجما قريبا من المسجد، فرأيت صاحبها يحني عليها يقيها من الحجارة ".
وظاهر من النص أن الجملة القرآنية ﴿ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا ﴾ تليت في هذه المناسبة تلاوة. ولا يذكر الحديث. أنها نزلت في الحادثة. وتظل الروايات السابقة هي الواردة على نحو ما شرحناه.
عبارة الآيتين واضحة. وفيها تنويه بفضل الكعبة وتقرير بأنها أول بيت قام لعبادة الله وهو مبارك وهدى للعالمين، وفيه علامات واضحة تدل على مقام إبراهيم. ومن دخله كان آمنا. وقد فرض الله زيارته وحجه على كل فرد من الناس استطاع إلى ذلك سبيلا تقربا لله وعبادة له. ومن يكفر بذلك فليس بضار الله الذي هو غني عن العالمين وعبادتهم.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ... ﴾ إلخ
والآية التالية لها
وقد روى المفسرون أن الآيتين نزلتا في مناسبة محاجة قامت بين النبي واليهود أو بين المسلمين واليهود، ادعى اليهود فيها فضل معبدهم في بيت المقدس وفضل استقباله دون الكعبة. وقالوا : إن إبراهيم كان يعظم بين المقدس ويتجه إليه في عبادته فتابعه أبناؤه وذريته، وأن النبي لو كان حقا على ملته كما يقول لتابعه ولم يخالفه. ورووا في سبب نزول جملة ﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( ٩٧ ) ﴾ أن النبي لما نزلت آية الحج جمع أهل الأديان كلها وقال : يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فآمن بذلك ملّة وهم المسلمون وكفرت الملل الأخرى والروايات لم ترد في الصحاح. والرواية الأخيرة تقتضي أن تكون الآية الثانية نزلت مجزأة مع أن سبكها لا يفيد ذلك وهي منسجمة كل الانسجام. وباستثناء ذلك يتبادر لنا أن الرواية الأولى واردة. وقد احتوت الآيتان تكذيبا لليهود وتقريرا بنقل الكعبة وسبق قيامها لعبادة الله وصلتها بإبراهيم عليه السلام بدليل العلامات الظاهرة المعروفة بمقام إبراهيم عندها. وكون الله قد فرض حجها على من استطاع من الناس بناء على ذلك. أما جملة ﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( ٩٧ ) ﴾ فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضتها كإعلان مسبق لكفر مفروض بذلك من اليهود. ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أن الآيتين متصلتان بالمشهد الذي تضمنته الآيات السابقة، وأن مسألة المفاضلة بين الكعبة وبيت المقدس قد أثيرت فيه. ولقد انتهت الآيات السابقة بإعلان صدق ما حرره الله والدعوة إلى اتباع ملة إبراهيم فاحتوت الآيتان ما احتوتاه لتوكيد سير النبي صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم دون اليهود. ولعل اليهود قالوا فيما قالوه : إن الكعبة لم تذكر في التوراة، ولو كان لإبراهيم صلة بها وكانت هي الأفضل لذكرت، فأريد أن يقال لهم : إن التوراة لا تذكر أشياء كثيرة مما كان قبل نزولها، وضرب لهم مثل بمحرمات الأطعمة التي ذكرتها التوراة مع أن كل طعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه قبل نزولها. وإن ذلك لم يذكر في التوراة. فراوغوا فتحدتهم الآيات بتلاوة التوراة وإثبات عكس ذلك. والله تعالى أعلم.
ولقد قال بعضهم : إن فرض الحج في الآية الثانية كان في السنة التاسعة١ وسياق الآيات وما روي في نزولها يؤيد أن ما ذكرناه في سياق تفسير فصل الحج في سورة البقرة من أن الحج قد فرض على المسلمين في وقت مبكر من العهد المدني. فالسياق يدل بصراحة على أن اليهود كانوا ذا وجود قوي في المدينة حينما نزلت الآيات. في حين أنهم لم يعد لهم وجود في السنة التاسعة. هذا فضلا عن الدليل الآخر المنطوي في جملة ﴿ وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ﴾ في الآية [ ١٩٦ ] من سورة البقرة على ما شرحنا الأمر في سياقها. والله أعلم.
ولقد ذكر مقام إبراهيم في آية البقرة [ ١٢٥ ] والتي احتوت أمرا باتخاذه مصلى والتي ذكر فيها أن الله قد جعل البيت مثابة وأمنا. وبين هذا وما جاء في الآيتين تشابه. ولقد خمنا أن سلسلة آيات البقرة [ ١٠٤ ١٥٢ ] قد تضمنت فيما تضمنته مواقف حجاج وجدل في صدد الكعبة وبيت المقدس حينما تحول النبي في صلاته نحو الكعبة بدلا من سمت بيت المقدس. وقد علقنا على ذلك بما يغني عن التكرار إلا أن نقول : إن الآيات التي نحن في صددها قد تدل على أن هذا الجدل قد ثار ثانية بين النبي واليهود فاقتضت حكمة التنزيل الوحي بها لوضع الأمر في نصابه الحق للمرة الثانية. ولقد قررت الآية [ ١٤٤ ] من سلسلة البقرة المذكورة أن اليهود يعرفون حقيقة أفضلية الكعبة والاتجاه إليها فجاءت الآيات لتؤكد ذلك بأسلوب مفحم وحاسم آخر. والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الروايات والتأويلات التي يرويها المفسرون في صدد أولية البيت المذكور في الآية الأولى. وقد أوردنا هذه الروايات وأوردنا معها حديثا رواه الشيخان والنسائي عن أبي ذر في سياق تفسير سورة قريش التي ورد فيها كلمة ﴿ البيت ﴾ لأول مرة، وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذا التنبيه فليرجع القارئ إلى ذلك التعليق.
ولقد تعددت تخريجات المفسرين والمؤولين لكلمة ( بكة ). منها أنها اسم آخر لمكة، وأن العرب يعاقبون بين الباء والميم ومن ذلك ضربة لازم وضربة لازب. ومنها البك يعني الازدحام وأن مكة سميت بكة وصفا ؛ لأنها تزدحم بالناس بالطواف والحج. ومنها أن بكة اسم للموضع الذي فيه البيت ومكة اسم لما عداه. ومنها أنها من التباكي لكثرة ما يكون فيها من ابتهال وبكاء. وليس شيء من ذلك في الصحاح. والمتبادر من روح الجملة أنها اسم آخر لمكة والله أعلم.
ومع ما للآيات من خصوصية جدلية وزمنية فإن جملة ﴿ وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾ اتخذت سندا تشريعيا قرآنيا لفريضة الحج في الإسلام ؛ لأنها أقوى في هذا المعنى مما جاء في آيات الحج في سورتي البقرة والحج. ولا يخلو هذا من وجاهة ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات الحج في سورة البقرة ما روي في مدى الاستطاعة الواردة في الجملة من أحاديث نبوية وصحابية وتابعية في جملة ما أوردناه من ذلك في سائر تقاليد الحج ومناسكه وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار فنكتفي هنا بالتنبيه على ذلك.
ومع أن جملة ﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( ٩٧ ) ﴾ هي على ما ذكرناه كإعلان مسبق باستغناء الله عن الذين يكفرون أو يمارون بما تقرره الآيات فإن بعض المؤولين قالوا : إنها في صدد تقرير كفر المسلم الذي ينكر فرض الحج. وقد أورد الطبري حديثا عن أبي داود قال : " تلا رسول الله الآية فقام رجل من هذيل فقال : يا رسول الله من تركه كفر ؟ فقال : من تركه لا يخاف عقوبة ومن حجّ ولا يرجو ثوابه فهو كذلك ". والحديث لم يرد في الصحاح. ولكن هذا لا يمنع صحته. والمتبادر أن من يكون هذا موقفه من الحج فإنه يكون منكرا أو كالمنكر لفرضه. وعلى كل حال فكفر من ينكر فرض الحج ولا يعتقد أن في تركه عقوبة وفي القيام به أجرا بديهي بقطع النظر عن قصور الآية تقرير ذلك أو عدمه والله أعلم.
استطراد إلى شمول أمن البيت
مع أن جملة ﴿ ومن دخله كان آمنا ﴾ في الآية الثانية تنطوي على تقرير ما كان يمنحه البيت من أمن لمن دخله أو كان فيه بصورة عامة وكون ذلك متصلا بتقاليد ما قبل الإسلام فامتد إلى الإسلام على ما ذكرناه في تعليقنا في سورة قريش، فإن هناك اختلافا بين المؤولين والفقهاء في صدد تطبيقه على من يرتكب جريمة في الإسلام تستوجب إقامة الحد الشرعي حيث قال بعضهم : إن من لجأ إلى بيت الله وقد ارتكب مثل تلك الجريمة يكون آمنا. وروي عن ابن عباس وغيره رواية تفيد عدم تنفيذ القصاص عليه فيه وانتظاره إلى أن يخرج منه. وقد أخذ بهذا الإمامان أبو حنيفة وابن حنبل على ما ذكره المفسر القاسمي الذي ذكر أيضا أن الإمامين الشافعي ومالك يذهبان إلى جواز تنفيذ القصاص وقال : إن أصحاب هذا الرأي يستدلون على ذلك بحديث رواه البخاري عن أنس بن مالك جاء فيه : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال : إن ابن الأخطل متعلق بأستار الكعبة فقال : اقتلوه ". وكان من أشد أعداء رسول الله ومؤذيه. ثم بحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والعقرب والغراب الأبقع والطارد والكلب العقور ". وقالوا : إن علة تحليل قتل هذه الفواسق هو ضررها، وإن هذا يقاس عليه الفاسق من الناس. وقد أورد القاسمي حديثا عن النبي لم يذكر راويه جاء فيه : " إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة " ٢ كدليل نبوي آخر. ويظهر أن الحديث لم يصح عند أصحاب القول الأول ؛ لأنه لو صح لكان فيه القول الفصل.
ومع ذلك، فالذي يتبادر لنا أن حكمة الله في منح الأمان لمن دخل الحرم وحكمة رسوله في الأحاديث المتساوقة مع القرآن، والتي أوردناها في تعليقنا في سورة قريش تبدو واضحة أكثر إذا أوّلت بأنها منع عدوان أحد على دم أحد وماله في الحرم بحيث يكون من دخله آمنا عليهما. وأن مذهب الإمامين الشافعي ومالك هو الأوجه ؛ لأن فيه منعا لإساءة استعمال هذه المنحة الربانية من قبل المجرمين. والله تعالى أعلم.
٢ فسّر المفسر كلمة (بخربة) بسرقة يستحق عليها الحد الشرعي وهو قطع اليد..
عبارة الآيتين واضحة. وفيها تنويه بفضل الكعبة وتقرير بأنها أول بيت قام لعبادة الله وهو مبارك وهدى للعالمين، وفيه علامات واضحة تدل على مقام إبراهيم. ومن دخله كان آمنا. وقد فرض الله زيارته وحجه على كل فرد من الناس استطاع إلى ذلك سبيلا تقربا لله وعبادة له. ومن يكفر بذلك فليس بضار الله الذي هو غني عن العالمين وعبادتهم.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ... ﴾ إلخ
والآية التالية لها
وقد روى المفسرون أن الآيتين نزلتا في مناسبة محاجة قامت بين النبي واليهود أو بين المسلمين واليهود، ادعى اليهود فيها فضل معبدهم في بيت المقدس وفضل استقباله دون الكعبة. وقالوا : إن إبراهيم كان يعظم بين المقدس ويتجه إليه في عبادته فتابعه أبناؤه وذريته، وأن النبي لو كان حقا على ملته كما يقول لتابعه ولم يخالفه. ورووا في سبب نزول جملة ﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( ٩٧ ) ﴾ أن النبي لما نزلت آية الحج جمع أهل الأديان كلها وقال : يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فآمن بذلك ملّة وهم المسلمون وكفرت الملل الأخرى والروايات لم ترد في الصحاح. والرواية الأخيرة تقتضي أن تكون الآية الثانية نزلت مجزأة مع أن سبكها لا يفيد ذلك وهي منسجمة كل الانسجام. وباستثناء ذلك يتبادر لنا أن الرواية الأولى واردة. وقد احتوت الآيتان تكذيبا لليهود وتقريرا بنقل الكعبة وسبق قيامها لعبادة الله وصلتها بإبراهيم عليه السلام بدليل العلامات الظاهرة المعروفة بمقام إبراهيم عندها. وكون الله قد فرض حجها على من استطاع من الناس بناء على ذلك. أما جملة ﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( ٩٧ ) ﴾ فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضتها كإعلان مسبق لكفر مفروض بذلك من اليهود. ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أن الآيتين متصلتان بالمشهد الذي تضمنته الآيات السابقة، وأن مسألة المفاضلة بين الكعبة وبيت المقدس قد أثيرت فيه. ولقد انتهت الآيات السابقة بإعلان صدق ما حرره الله والدعوة إلى اتباع ملة إبراهيم فاحتوت الآيتان ما احتوتاه لتوكيد سير النبي صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم دون اليهود. ولعل اليهود قالوا فيما قالوه : إن الكعبة لم تذكر في التوراة، ولو كان لإبراهيم صلة بها وكانت هي الأفضل لذكرت، فأريد أن يقال لهم : إن التوراة لا تذكر أشياء كثيرة مما كان قبل نزولها، وضرب لهم مثل بمحرمات الأطعمة التي ذكرتها التوراة مع أن كل طعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه قبل نزولها. وإن ذلك لم يذكر في التوراة. فراوغوا فتحدتهم الآيات بتلاوة التوراة وإثبات عكس ذلك. والله تعالى أعلم.
ولقد قال بعضهم : إن فرض الحج في الآية الثانية كان في السنة التاسعة١ وسياق الآيات وما روي في نزولها يؤيد أن ما ذكرناه في سياق تفسير فصل الحج في سورة البقرة من أن الحج قد فرض على المسلمين في وقت مبكر من العهد المدني. فالسياق يدل بصراحة على أن اليهود كانوا ذا وجود قوي في المدينة حينما نزلت الآيات. في حين أنهم لم يعد لهم وجود في السنة التاسعة. هذا فضلا عن الدليل الآخر المنطوي في جملة ﴿ وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ﴾ في الآية [ ١٩٦ ] من سورة البقرة على ما شرحنا الأمر في سياقها. والله أعلم.
ولقد ذكر مقام إبراهيم في آية البقرة [ ١٢٥ ] والتي احتوت أمرا باتخاذه مصلى والتي ذكر فيها أن الله قد جعل البيت مثابة وأمنا. وبين هذا وما جاء في الآيتين تشابه. ولقد خمنا أن سلسلة آيات البقرة [ ١٠٤ ١٥٢ ] قد تضمنت فيما تضمنته مواقف حجاج وجدل في صدد الكعبة وبيت المقدس حينما تحول النبي في صلاته نحو الكعبة بدلا من سمت بيت المقدس. وقد علقنا على ذلك بما يغني عن التكرار إلا أن نقول : إن الآيات التي نحن في صددها قد تدل على أن هذا الجدل قد ثار ثانية بين النبي واليهود فاقتضت حكمة التنزيل الوحي بها لوضع الأمر في نصابه الحق للمرة الثانية. ولقد قررت الآية [ ١٤٤ ] من سلسلة البقرة المذكورة أن اليهود يعرفون حقيقة أفضلية الكعبة والاتجاه إليها فجاءت الآيات لتؤكد ذلك بأسلوب مفحم وحاسم آخر. والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الروايات والتأويلات التي يرويها المفسرون في صدد أولية البيت المذكور في الآية الأولى. وقد أوردنا هذه الروايات وأوردنا معها حديثا رواه الشيخان والنسائي عن أبي ذر في سياق تفسير سورة قريش التي ورد فيها كلمة ﴿ البيت ﴾ لأول مرة، وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذا التنبيه فليرجع القارئ إلى ذلك التعليق.
ولقد تعددت تخريجات المفسرين والمؤولين لكلمة ( بكة ). منها أنها اسم آخر لمكة، وأن العرب يعاقبون بين الباء والميم ومن ذلك ضربة لازم وضربة لازب. ومنها البك يعني الازدحام وأن مكة سميت بكة وصفا ؛ لأنها تزدحم بالناس بالطواف والحج. ومنها أن بكة اسم للموضع الذي فيه البيت ومكة اسم لما عداه. ومنها أنها من التباكي لكثرة ما يكون فيها من ابتهال وبكاء. وليس شيء من ذلك في الصحاح. والمتبادر من روح الجملة أنها اسم آخر لمكة والله أعلم.
ومع ما للآيات من خصوصية جدلية وزمنية فإن جملة ﴿ وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾ اتخذت سندا تشريعيا قرآنيا لفريضة الحج في الإسلام ؛ لأنها أقوى في هذا المعنى مما جاء في آيات الحج في سورتي البقرة والحج. ولا يخلو هذا من وجاهة ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات الحج في سورة البقرة ما روي في مدى الاستطاعة الواردة في الجملة من أحاديث نبوية وصحابية وتابعية في جملة ما أوردناه من ذلك في سائر تقاليد الحج ومناسكه وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار فنكتفي هنا بالتنبيه على ذلك.
ومع أن جملة ﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( ٩٧ ) ﴾ هي على ما ذكرناه كإعلان مسبق باستغناء الله عن الذين يكفرون أو يمارون بما تقرره الآيات فإن بعض المؤولين قالوا : إنها في صدد تقرير كفر المسلم الذي ينكر فرض الحج. وقد أورد الطبري حديثا عن أبي داود قال :" تلا رسول الله الآية فقام رجل من هذيل فقال : يا رسول الله من تركه كفر ؟ فقال : من تركه لا يخاف عقوبة ومن حجّ ولا يرجو ثوابه فهو كذلك ". والحديث لم يرد في الصحاح. ولكن هذا لا يمنع صحته. والمتبادر أن من يكون هذا موقفه من الحج فإنه يكون منكرا أو كالمنكر لفرضه. وعلى كل حال فكفر من ينكر فرض الحج ولا يعتقد أن في تركه عقوبة وفي القيام به أجرا بديهي بقطع النظر عن قصور الآية تقرير ذلك أو عدمه والله أعلم.
استطراد إلى شمول أمن البيت
مع أن جملة ﴿ ومن دخله كان آمنا ﴾ في الآية الثانية تنطوي على تقرير ما كان يمنحه البيت من أمن لمن دخله أو كان فيه بصورة عامة وكون ذلك متصلا بتقاليد ما قبل الإسلام فامتد إلى الإسلام على ما ذكرناه في تعليقنا في سورة قريش، فإن هناك اختلافا بين المؤولين والفقهاء في صدد تطبيقه على من يرتكب جريمة في الإسلام تستوجب إقامة الحد الشرعي حيث قال بعضهم : إن من لجأ إلى بيت الله وقد ارتكب مثل تلك الجريمة يكون آمنا. وروي عن ابن عباس وغيره رواية تفيد عدم تنفيذ القصاص عليه فيه وانتظاره إلى أن يخرج منه. وقد أخذ بهذا الإمامان أبو حنيفة وابن حنبل على ما ذكره المفسر القاسمي الذي ذكر أيضا أن الإمامين الشافعي ومالك يذهبان إلى جواز تنفيذ القصاص وقال : إن أصحاب هذا الرأي يستدلون على ذلك بحديث رواه البخاري عن أنس بن مالك جاء فيه :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال : إن ابن الأخطل متعلق بأستار الكعبة فقال : اقتلوه ". وكان من أشد أعداء رسول الله ومؤذيه. ثم بحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :" خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والعقرب والغراب الأبقع والطارد والكلب العقور ". وقالوا : إن علة تحليل قتل هذه الفواسق هو ضررها، وإن هذا يقاس عليه الفاسق من الناس. وقد أورد القاسمي حديثا عن النبي لم يذكر راويه جاء فيه :" إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة " ٢ كدليل نبوي آخر. ويظهر أن الحديث لم يصح عند أصحاب القول الأول ؛ لأنه لو صح لكان فيه القول الفصل.
ومع ذلك، فالذي يتبادر لنا أن حكمة الله في منح الأمان لمن دخل الحرم وحكمة رسوله في الأحاديث المتساوقة مع القرآن، والتي أوردناها في تعليقنا في سورة قريش تبدو واضحة أكثر إذا أوّلت بأنها منع عدوان أحد على دم أحد وماله في الحرم بحيث يكون من دخله آمنا عليهما. وأن مذهب الإمامين الشافعي ومالك هو الأوجه ؛ لأن فيه منعا لإساءة استعمال هذه المنحة الربانية من قبل المجرمين. والله تعالى أعلم.
٢ فسّر المفسر كلمة (بخربة) بسرقة يستحق عليها الحد الشرعي وهو قطع اليد..
في الآيات :
١ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه السؤال على سبيل الاستنكار إلى أهل الكتاب عن كفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله الذين آمنوا وساروا فيها بقصد تعطيلها وتعويجها.
٢ وتنديد بهم لأنهم يفعلون ذلك وهم يعلمون في قرارة نفوسهم صحة رسالة النبي وصدق دعوته.
٣ وإنذار لهم بأن الله شهيد عليهم وغير غافل عمّا يفعلون.
٤ وخطاب موجه إلى المسلمين يحذرون به من الإصغاء لأقوالهم وإطاعتهم فيها ويبين لهم به إنما يريدون بها ردّهم إلى الكفر بعد الإيمان، فإذا سمعوا لهم وأطاعوا حققوا ما يريدونه لهم.
٥ وتساؤل ينطوي على التحذير أيضا عما إذا كان يصح أن يكفروا بعد إيمانهم ولا يزال رسول الله هاديهم بين أظهرهم وما زالت آيات الله تتلى عليهم.
٦ وتنبيه على أن الذي يتمسك بالله وآياته ويقف عند حدوده فهو الناجي المهدي إلى طريق الحق القويم.
٧ وخطاب آخر موجه إليهم أيضا يؤمرون فيه بالحرص أشد الحرص على تقوى الله كما يجب وعلى البقاء على الإسلام والموت عليه. والتمسك بحبل الله المتين متحدين يدا واحدة وقلبا واحدا وعدم التفرق. ويذكرون فيه بما كان من نعمة الله عليهم وعنايته بهم حيث ألف بين قلوبهم، فأصبحوا إخوانا بعد أن كانوا أعداء، وحيث نجاهم وأنقذهم من حفرة النار التي كانوا على حافتها. ففي كل هذا ما يزعهم عن الخلاف والجحود، ويقوي اتحادهم وتمسكهم بحبل الله وما يضمن لهم الهدى.
تعليق على الآية
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ( ٩٨ ) ﴾
والآيات الأربع التالية لها
جمهور المفسرين١ على أن أهل الكتاب هنا هم اليهود أيضا. وقد رووا رواية ملخصها أن بعض يهود المدينة كبر عليهم أن يروا مركز النبي يقوى ودعوته تتسع، ورأوا أن هذا إنما كان بخاصة بتآخي قبيلتي الأوس والخزرج المدنيتين في ظل الإسلام وتوطد الوحدة الدينية بينهما وتناسيهما نتيجة لذلك ما كان بينهما من عداء وحروب في الجاهلية فتآمروا على إثارة الفتنة بينهما، وأخذ بعضهم يذكرون بعض الأوس والخزرج بما كان من مفاخر الجاهلية وحروبها، فلم تلبث نخوة الجاهلية أن تحركت فيهم ودفعتهم إلى التراد في التفاخر، ثم اشتد الأمر بينهم إلى التصايح فإلى التداعي إلى السلاح ليعيدوا الحرب بينهما ويحكموا السيف فيمن هو الأولى بالفخر منهما. وأتى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسارع هو وكبار المهاجرين إليهم يذكرونهم بالإسلام والأخوة الإسلامية ويهدئون من روعهم حتى سكنوا وأدركوا أنها نزغة من نزغات الشيطان ودسيسة من دسائس اليهود، ثم تعانقوا وتباكوا وكرروا الحمد لله ولرسوله على ما كان لهما من فضل ونعمة سابقة ولاحقة، فأنزل الله الآيات منددة باليهود وفاضحة لمكرهم ومحذرة للمسلمين، ومذكرة لهم بما كان من نعمة الله عليهم وتوطد الأخوة بينهم في ظل الإسلام.
والروايات لم تردّ في الصحاح. ولكنها قوية الاحتمال ؛ لأنها متسقة مع فحوى الآيات. وقد تضمنت خبر جريمة مروعة أقدم على ارتكابها اليهود وكادوا يهدمون بها بنيان الإسلام الذي وطده الله ورسوله على الأخوة الإسلامية وأسلوب الآيات متناسب مع تنبيهه وتحذيره وتذكيره مع ذلك الخبر.
ويتبادر لنا إلى ذلك أن الآيات غير منقطعة سياقا وموضوعا عن الآيات السابقة لها، وأن وضعها بعدها قد كان بسبب ذلك حيث تضمنت صورة أخرى من صور مكائد اليهود ودسائسهم بين المسلمين.
والروايات متفقة على أن الآية [ ١٠٣ ] منطوية على التذكير بما كان بين الخزرج والأوس من عداء وحروب قبل الإسلام. وقد أورد المفسرون في سياقها بعض الروايات التي فيها تفصيل لذلك. ولقد أشرنا إلى هذا وأوردنا بعض التفصيل عنه في تعليقنا على الآيات [ ٨٤ و ٨٥ ] من سلسلة آيات البقرة ثم في تعليقنا على الهجرة النبوية في سورة الأنفال فنكتفي بهذا التنبيه.
ومع خصوصية الآيات الزمنية، فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة المدى. سواء أفي التنديد بمن يغلبه هواه وغيظه فيتآمر على دعوة الله ورسوله وهو يعرف أنها حق ويحاول أن يصد المؤمنين بها ويعرقل سيرها. أم في وجوب تمسك المسلمين بأهداف دينهم وهدى قرآنهم وسنة نبيهم. أم في وجوب الحرص على الأخوة الدينية التي جمعت بينهم والتي من شأنها أن تجعلهم كتلة قوية. أم في التحذير من الاستماع لدسائس الأغيار الذين يريدون لهم الضرر والضعف والفرقة والتخاذل.
هذا، وفي كتب التفسير تأويلات لمدى بعض هذه الآيات نوردها ونعلق عليها كما يلي :
١ ففي صدد جملة ﴿ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ روى الطبري بطرق مختلفة عن ابن مسعود وغيره أن معناها : " أن يطاع الله فلا يعصى. وأن يشكر فلا يكفر. وأن يذكر فلا ينسى ". وعن ابن عباس أن معناها : " جاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم وقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم ". وقال ابن كثير إن الرواية الأولى مروية عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها الحاكم في مستدركه مرفوعا وقال إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وكلا التأويلين وجيه. وقد روى الطبري عن قتادة أن الآية منسوخة بآية سورة التغابن [ ١٦ ] التي فيها جملة ﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ كتيسير وتخفيف من الله. وروى ابن عباس أنها غير منسوخة. ويتبادر لنا أن الجملة وردت في مقام يوجب التشديد في التحذير، فتكون في كل مقام مثله محكمة. أما كون الله إنما يطلب من المسلمين أن يتقوه ما استطاعوا فيمكن أن يقال بدون القول بنسخ الأولى بالثانية : إن ذلك من المبادئ القرآنية التي تكرر تقريرها ومن السنة النبوية التي تعددت الأحاديث الصحيحة فيها على ما ذكرناه وأوردناه في تعليقنا على جملة ﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ في الآية [ ٤٢ ] من سورة الأعراف فليرجع إليه.
٢ وفي مدى معنى ﴿ بحبل الله ﴾ روى الطبري أقوالا منها أن الجملة بمعنى الجماعة أو التوحيد، أو الإخلاص لله أو القرآن. وقد أورد الطبري حديثا في سياق الجملة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ). ولقد أوردنا في سياق الآية [ ٩ ] من سورة الإسراء حديثا رواه الترمذي فيه ما جاء في حديث أبي سعيد. وعلى كل حال فالقرآن حقا هو حبل الله الذي يجب أن يعتصم به المسلمون والذي يعصم من تمسك به منهم ؛ لأن فيه جماع أسباب سعادة الإنسان في دنياه وآخرته.
٣ وفي صدد جملة ﴿ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن جابر قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل ). وهناك صيغ أخرى أوردها ابن كثير في الحث على إحسان الظن بالله وكون الله عند ظن عبده به. ٢ وليس في الأحاديث ما يفيد أنها تأويل للجملة القرآنية التي يتبادر لنا أنها أوسع شمولا مما تضمنته الأحاديث ؛ حيث توجب على المسلمين أن يظلوا مسلمين أنفسهم إلى الله عز وجل مخلصين له وحده في كل حال حتى الموت. والله أعلم.
٤ ويروي الطبري عن أهل التأويل أن المقصود من جملة ﴿ ولا تفرقوا ﴾ هو نهي المسلمين عن الفرقة والاختلاف فيما بينهم والحث على الألفة والجماعة وهو الوجيه السديد. وقد أورد في سياقها حديثا عن أنس عن رسول الله جاء فيه :( إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة فقيل : يا رسول الله ما هي ؟ فقبض يده وقال الجماعة. واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ). وقد روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة هذه الصيغة : " افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة )٣. وقد يصح أن يساق في هذا المقام حديث رواه الخمسة عن عبد الله جاء فيه : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة ". حيث ينطوي فيه بيان عظم جريمة الافتراق عن الجماعة. وهناك أحاديث صحيحة أخرى يصح أن تساق في هذا السياق. منها حديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية ). ٤ وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات ميتة جاهلية. ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية فليس من أمتي. ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس من أمتي )٥.
والمتبادر أن المقصود من الجماعة هو جمهور المسلمين المخلصين في إيمانهم وإسلامهم القائمين بالحق والواجب. وأن المقصود من جملة ( ما يكره ) في الحديث السابق هو ما لا يلائم المرء ؛ لأن هناك أمورا قد لا تلائم المرء ولا تكون معصية. أما إذا أمر بمعصية أو كانت معصية محققة فلا طاعة ولا صبر. وهذا ما جاء في حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )٦. وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم٧.
ولقد ورد في سورة الأنعام نهي عن التفرق عن سبيل الله واتباع السبل الأخرى ونعي على الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [ الآيات : ١٥٣ و ١٥٩ ] وعلقنا على ذلك وأوردنا بعض الأحاديث في سياقها. وهذه الأحاديث تفيد أن أهل البدع والأهواء بعض الأحاديث في سياقها ويلحظ فرق بين المقامين ؛ حيث إن آيات الأنعام تنهى في الدرجة الأولى عن التفرق في أمر الدين وأن الجملة التي نحن في صددها تنهى عن
٢ منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي)، التاج ج ٥ ص ٦٥..
٣ التاج، ج ١ ص ٣٩ و ٤٠..
٤ التاج، ج ٣ ص ٤٠..
٥ المصدر نفسه..
٦ المصدر نفسه..
٧ أنظر المصدر نفسه، ص ٣٥ ـ ٤٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٨:﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ( ٩٨ ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء( ١ ) وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ٩٩ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ( ١٠٠ ) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم( ٢ ) بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ١٠١ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٠٢ ) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا ( ٣ ) حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( ١٠٣ ) ﴾ [ ٩٨ ١٠٣ ].
في الآيات :
١ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه السؤال على سبيل الاستنكار إلى أهل الكتاب عن كفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله الذين آمنوا وساروا فيها بقصد تعطيلها وتعويجها.
٢ وتنديد بهم لأنهم يفعلون ذلك وهم يعلمون في قرارة نفوسهم صحة رسالة النبي وصدق دعوته.
٣ وإنذار لهم بأن الله شهيد عليهم وغير غافل عمّا يفعلون.
٤ وخطاب موجه إلى المسلمين يحذرون به من الإصغاء لأقوالهم وإطاعتهم فيها ويبين لهم به إنما يريدون بها ردّهم إلى الكفر بعد الإيمان، فإذا سمعوا لهم وأطاعوا حققوا ما يريدونه لهم.
٥ وتساؤل ينطوي على التحذير أيضا عما إذا كان يصح أن يكفروا بعد إيمانهم ولا يزال رسول الله هاديهم بين أظهرهم وما زالت آيات الله تتلى عليهم.
٦ وتنبيه على أن الذي يتمسك بالله وآياته ويقف عند حدوده فهو الناجي المهدي إلى طريق الحق القويم.
٧ وخطاب آخر موجه إليهم أيضا يؤمرون فيه بالحرص أشد الحرص على تقوى الله كما يجب وعلى البقاء على الإسلام والموت عليه. والتمسك بحبل الله المتين متحدين يدا واحدة وقلبا واحدا وعدم التفرق. ويذكرون فيه بما كان من نعمة الله عليهم وعنايته بهم حيث ألف بين قلوبهم، فأصبحوا إخوانا بعد أن كانوا أعداء، وحيث نجاهم وأنقذهم من حفرة النار التي كانوا على حافتها. ففي كل هذا ما يزعهم عن الخلاف والجحود، ويقوي اتحادهم وتمسكهم بحبل الله وما يضمن لهم الهدى.
تعليق على الآية
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ( ٩٨ ) ﴾
والآيات الأربع التالية لها
جمهور المفسرين١ على أن أهل الكتاب هنا هم اليهود أيضا. وقد رووا رواية ملخصها أن بعض يهود المدينة كبر عليهم أن يروا مركز النبي يقوى ودعوته تتسع، ورأوا أن هذا إنما كان بخاصة بتآخي قبيلتي الأوس والخزرج المدنيتين في ظل الإسلام وتوطد الوحدة الدينية بينهما وتناسيهما نتيجة لذلك ما كان بينهما من عداء وحروب في الجاهلية فتآمروا على إثارة الفتنة بينهما، وأخذ بعضهم يذكرون بعض الأوس والخزرج بما كان من مفاخر الجاهلية وحروبها، فلم تلبث نخوة الجاهلية أن تحركت فيهم ودفعتهم إلى التراد في التفاخر، ثم اشتد الأمر بينهم إلى التصايح فإلى التداعي إلى السلاح ليعيدوا الحرب بينهما ويحكموا السيف فيمن هو الأولى بالفخر منهما. وأتى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسارع هو وكبار المهاجرين إليهم يذكرونهم بالإسلام والأخوة الإسلامية ويهدئون من روعهم حتى سكنوا وأدركوا أنها نزغة من نزغات الشيطان ودسيسة من دسائس اليهود، ثم تعانقوا وتباكوا وكرروا الحمد لله ولرسوله على ما كان لهما من فضل ونعمة سابقة ولاحقة، فأنزل الله الآيات منددة باليهود وفاضحة لمكرهم ومحذرة للمسلمين، ومذكرة لهم بما كان من نعمة الله عليهم وتوطد الأخوة بينهم في ظل الإسلام.
والروايات لم تردّ في الصحاح. ولكنها قوية الاحتمال ؛ لأنها متسقة مع فحوى الآيات. وقد تضمنت خبر جريمة مروعة أقدم على ارتكابها اليهود وكادوا يهدمون بها بنيان الإسلام الذي وطده الله ورسوله على الأخوة الإسلامية وأسلوب الآيات متناسب مع تنبيهه وتحذيره وتذكيره مع ذلك الخبر.
ويتبادر لنا إلى ذلك أن الآيات غير منقطعة سياقا وموضوعا عن الآيات السابقة لها، وأن وضعها بعدها قد كان بسبب ذلك حيث تضمنت صورة أخرى من صور مكائد اليهود ودسائسهم بين المسلمين.
والروايات متفقة على أن الآية [ ١٠٣ ] منطوية على التذكير بما كان بين الخزرج والأوس من عداء وحروب قبل الإسلام. وقد أورد المفسرون في سياقها بعض الروايات التي فيها تفصيل لذلك. ولقد أشرنا إلى هذا وأوردنا بعض التفصيل عنه في تعليقنا على الآيات [ ٨٤ و ٨٥ ] من سلسلة آيات البقرة ثم في تعليقنا على الهجرة النبوية في سورة الأنفال فنكتفي بهذا التنبيه.
ومع خصوصية الآيات الزمنية، فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة المدى. سواء أفي التنديد بمن يغلبه هواه وغيظه فيتآمر على دعوة الله ورسوله وهو يعرف أنها حق ويحاول أن يصد المؤمنين بها ويعرقل سيرها. أم في وجوب تمسك المسلمين بأهداف دينهم وهدى قرآنهم وسنة نبيهم. أم في وجوب الحرص على الأخوة الدينية التي جمعت بينهم والتي من شأنها أن تجعلهم كتلة قوية. أم في التحذير من الاستماع لدسائس الأغيار الذين يريدون لهم الضرر والضعف والفرقة والتخاذل.
هذا، وفي كتب التفسير تأويلات لمدى بعض هذه الآيات نوردها ونعلق عليها كما يلي :
١ ففي صدد جملة ﴿ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ روى الطبري بطرق مختلفة عن ابن مسعود وغيره أن معناها :" أن يطاع الله فلا يعصى. وأن يشكر فلا يكفر. وأن يذكر فلا ينسى ". وعن ابن عباس أن معناها :" جاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم وقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم ". وقال ابن كثير إن الرواية الأولى مروية عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها الحاكم في مستدركه مرفوعا وقال إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وكلا التأويلين وجيه. وقد روى الطبري عن قتادة أن الآية منسوخة بآية سورة التغابن [ ١٦ ] التي فيها جملة ﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ كتيسير وتخفيف من الله. وروى ابن عباس أنها غير منسوخة. ويتبادر لنا أن الجملة وردت في مقام يوجب التشديد في التحذير، فتكون في كل مقام مثله محكمة. أما كون الله إنما يطلب من المسلمين أن يتقوه ما استطاعوا فيمكن أن يقال بدون القول بنسخ الأولى بالثانية : إن ذلك من المبادئ القرآنية التي تكرر تقريرها ومن السنة النبوية التي تعددت الأحاديث الصحيحة فيها على ما ذكرناه وأوردناه في تعليقنا على جملة ﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ في الآية [ ٤٢ ] من سورة الأعراف فليرجع إليه.
٢ وفي مدى معنى ﴿ بحبل الله ﴾ روى الطبري أقوالا منها أن الجملة بمعنى الجماعة أو التوحيد، أو الإخلاص لله أو القرآن. وقد أورد الطبري حديثا في سياق الجملة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ). ولقد أوردنا في سياق الآية [ ٩ ] من سورة الإسراء حديثا رواه الترمذي فيه ما جاء في حديث أبي سعيد. وعلى كل حال فالقرآن حقا هو حبل الله الذي يجب أن يعتصم به المسلمون والذي يعصم من تمسك به منهم ؛ لأن فيه جماع أسباب سعادة الإنسان في دنياه وآخرته.
٣ وفي صدد جملة ﴿ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن جابر قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل ). وهناك صيغ أخرى أوردها ابن كثير في الحث على إحسان الظن بالله وكون الله عند ظن عبده به. ٢ وليس في الأحاديث ما يفيد أنها تأويل للجملة القرآنية التي يتبادر لنا أنها أوسع شمولا مما تضمنته الأحاديث ؛ حيث توجب على المسلمين أن يظلوا مسلمين أنفسهم إلى الله عز وجل مخلصين له وحده في كل حال حتى الموت. والله أعلم.
٤ ويروي الطبري عن أهل التأويل أن المقصود من جملة ﴿ ولا تفرقوا ﴾ هو نهي المسلمين عن الفرقة والاختلاف فيما بينهم والحث على الألفة والجماعة وهو الوجيه السديد. وقد أورد في سياقها حديثا عن أنس عن رسول الله جاء فيه :( إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة فقيل : يا رسول الله ما هي ؟ فقبض يده وقال الجماعة. واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ). وقد روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة هذه الصيغة :" افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة )٣. وقد يصح أن يساق في هذا المقام حديث رواه الخمسة عن عبد الله جاء فيه :" لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة ". حيث ينطوي فيه بيان عظم جريمة الافتراق عن الجماعة. وهناك أحاديث صحيحة أخرى يصح أن تساق في هذا السياق. منها حديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية ). ٤ وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات ميتة جاهلية. ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية فليس من أمتي. ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس من أمتي )٥.
والمتبادر أن المقصود من الجماعة هو جمهور المسلمين المخلصين في إيمانهم وإسلامهم القائمين بالحق والواجب. وأن المقصود من جملة ( ما يكره ) في الحديث السابق هو ما لا يلائم المرء ؛ لأن هناك أمورا قد لا تلائم المرء ولا تكون معصية. أما إذا أمر بمعصية أو كانت معصية محققة فلا طاعة ولا صبر. وهذا ما جاء في حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )٦. وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم٧.
ولقد ورد في سورة الأنعام نهي عن التفرق عن سبيل الله واتباع السبل الأخرى ونعي على الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [ الآيات : ١٥٣ و ١٥٩ ] وعلقنا على ذلك وأوردنا بعض الأحاديث في سياقها. وهذه الأحاديث تفيد أن أهل البدع والأهواء بعض الأحاديث في سياقها ويلحظ فرق بين المقامين ؛ حيث إن آيات الأنعام تنهى في الدرجة الأولى عن التفرق في أمر الدين وأن الجملة التي نحن في صددها تنهى عن
٢ منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي)، التاج ج ٥ ص ٦٥..
٣ التاج، ج ١ ص ٣٩ و ٤٠..
٤ التاج، ج ٣ ص ٤٠..
٥ المصدر نفسه..
٦ المصدر نفسه..
٧ أنظر المصدر نفسه، ص ٣٥ ـ ٤٥..
في هذه السورة ثلاثة فصول طويلة : الأول في صدد مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب. والثاني في صدد مواقف اليهود ومكائدهم. والثالث في صدد وقعة حربية بين النبي والمسلمين والمشركين. وقد تخلل كل فصل ما يناسب موضوعه من محاجات وتنديدات وتنويهات ومواعظ ومعالجات وتلقينات ومبادئ جليلة.
وجمهور المفسرين وكتاب السيرة١ متفقون على أن المناظرة التي جاء الفصل الأول في صددها كانت مع وفد نصارى نجران. ولكنهم لا يذكرون متى قدم هذا الوفد إلى المدينة. وفي سياق لابن سعد في الجزء الثاني من طبقاته٢ وللإمام أبي يوسف في كتابه الخراج٣ نصّ عهد نبوي لهم من شهوده أبو سفيان بن حرب. وهذا قد يعني إن صح أن العهد كتب بعد فتح مكة بما لا يقل عن سنة. ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب العهد الذي كتبه لهم أمنهم على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وبيعهم وأن لا يغير أسقف عن أسقفيته وفرض عليهم جزية سنوية مقدارها ألفا حلة وآذنهم فيه أن ذمته بريئة ممن أكل الربا منهم.. إلخ. لأن هذا لا يمكن أن يكون وقع إلا بعد أن صار للنبي سلطان على اليمن. وهذا إنما ثمّ بعد فتح مكة. وقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد من نصارى نجران على النبي في سلسلة أخبار وقعت أحداثها قبل فتح مكة بمدة طويلة بل وقبل خبر وقعة أحد التي كانت في السنة الهجرية الثالثة. ولم يذكر تاريخا ولا كتاب عهد مع ذكره أن الشطر الأول من السورة قد نزل في مناسبة قدومه، وأنهم تناظروا معه في أمر المسيح وأنه اقترح عليهم المباهلة وجعل لعنة الله على الكاذبين امتنعوا وقالوا له : نوادعك ونبقى على ديننا٤.
وإجماع الروايات على أن الفصل الأول هو في صدد هذا الوفد ومجيء السورة في الترتيبات المروية بعد سورة الأنفال يسوغان القول : إن وفد نجران قد قدم في وقت مبكر جدا من العهد المدني وقبل فتح مكة. ويكون خبر نزول سورة آل عمران بعد سورة الأنفال بسبب الفصل الذي فيه خبر المناظرة مع الوفد واردا صحيحا. وحينئذ يكون الخبر الذي رواه ابن سعد وأبو يوسف عن قدوم الوفد بعد فتح مكة وكتابة النبي صلى الله عليه وسلم عهدا له حادثا ثانيا.
وجمهور المفسرين متفقون كذلك على أن الوقعة الحربية التي جاء الفصل الثالث من فصول السور في صددها هي وقعة أحد التي جرت بين المسلمين وبين جيش كفار قريش عند جبل أحد قرب المدينة بعد خمسة عشر شهرا من وقعة بدر حيث زحف صناديد قريش على رأس جيش كبير من مكة على يثرب لأخذ ثأرهم من يوم بدر. وورود هذا الفصل في السورة يؤيد وجاهة كون السورة نزلت بعد سورة الأنفال التي دار معظمها على وقعة بدر. ولقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد نجران قبل خبر وقعة أحد. وقد يؤيد كون وفد نجران جاء قبل وقعة أحد ورود فصل المناظرة في السورة قبل فصل أحد. ولعل انتصار النبي والمسلمين في بدر على أهل مكة كان ذا دويّ عظيم في أنحاء الجزيرة وهذا مما لا يتحمل ريبا حفز نصارى نجران على إرسال وفدهم لاستطلاع النبأ النبوي العظيم وسهل قدومه. والله تعالى أعلم.
ومن المحتمل أن تكون مواقف اليهود التي جاء الفصل الثاني في صددها قد كانت في ظروف قدوم وفد نجران فوضعت فصلا ثانيا. وفي كتب التفسير٥ روايات تذكر أن اليهود كانوا طرفا ثالثا في ما كان يجري من مناظرة بين النبي ووفد نجران. وفي هذا الفصل خطاب موجه إلى أهل الكتاب عامة حينا وإلى النصارى واليهود حينا مما فيه تأييد لذلك. ولقد ذكرت روايات المفسرين٦ اسم بني النضير في سياق تفصيل المواقف اليهودية التي حكاها الفصل. وبنو النضير إنما أجلوا عن المدينة بعد وقعة أحد. وفي هذا تأييد آخر. وقد يدل هذا أن وقعة أحد قد كانت بعد ذلك فوضع فصلها بعد الفصلين. ومع كل ما تقدم فنحن نرجح أن فصول السورة وآياتها قد رتبت بعد استكمال نزولها كما هو شأن سورة البقرة. والله أعلم.
٢ طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٥٥ ـ ١١٩..
٣ ص ٤٠ ـ ٤١..
٤ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٦..
٥ أنظر كتب التفسير السابقة الذكر. وانظر في صدد وقعة أحد ابن سعد ج ٣ ص ٧٨ ـ ٩١. وابن هشام ج ٣ ص ٣ ـ ١٥٩..
٦ أنظر المصدر نفسه..
سورة آل عمران
في هذه السورة ثلاثة فصول طويلة : الأول في صدد مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب. والثاني في صدد مواقف اليهود ومكائدهم. والثالث في صدد وقعة حربية بين النبي والمسلمين والمشركين. وقد تخلل كل فصل ما يناسب موضوعه من محاجات وتنديدات وتنويهات ومواعظ ومعالجات وتلقينات ومبادئ جليلة.
وجمهور المفسرين وكتاب السيرة١ متفقون على أن المناظرة التي جاء الفصل الأول في صددها كانت مع وفد نصارى نجران. ولكنهم لا يذكرون متى قدم هذا الوفد إلى المدينة. وفي سياق لابن سعد في الجزء الثاني من طبقاته٢ وللإمام أبي يوسف في كتابه الخراج٣ نصّ عهد نبوي لهم من شهوده أبو سفيان بن حرب. وهذا قد يعني إن صح أن العهد كتب بعد فتح مكة بما لا يقل عن سنة. ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب العهد الذي كتبه لهم أمنهم على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وبيعهم وأن لا يغير أسقف عن أسقفيته وفرض عليهم جزية سنوية مقدارها ألفا حلة وآذنهم فيه أن ذمته بريئة ممن أكل الربا منهم.. إلخ. لأن هذا لا يمكن أن يكون وقع إلا بعد أن صار للنبي سلطان على اليمن. وهذا إنما ثمّ بعد فتح مكة. وقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد من نصارى نجران على النبي في سلسلة أخبار وقعت أحداثها قبل فتح مكة بمدة طويلة بل وقبل خبر وقعة أحد التي كانت في السنة الهجرية الثالثة. ولم يذكر تاريخا ولا كتاب عهد مع ذكره أن الشطر الأول من السورة قد نزل في مناسبة قدومه، وأنهم تناظروا معه في أمر المسيح وأنه اقترح عليهم المباهلة وجعل لعنة الله على الكاذبين امتنعوا وقالوا له : نوادعك ونبقى على ديننا٤.
وإجماع الروايات على أن الفصل الأول هو في صدد هذا الوفد ومجيء السورة في الترتيبات المروية بعد سورة الأنفال يسوغان القول : إن وفد نجران قد قدم في وقت مبكر جدا من العهد المدني وقبل فتح مكة. ويكون خبر نزول سورة آل عمران بعد سورة الأنفال بسبب الفصل الذي فيه خبر المناظرة مع الوفد واردا صحيحا. وحينئذ يكون الخبر الذي رواه ابن سعد وأبو يوسف عن قدوم الوفد بعد فتح مكة وكتابة النبي صلى الله عليه وسلم عهدا له حادثا ثانيا.
وجمهور المفسرين متفقون كذلك على أن الوقعة الحربية التي جاء الفصل الثالث من فصول السور في صددها هي وقعة أحد التي جرت بين المسلمين وبين جيش كفار قريش عند جبل أحد قرب المدينة بعد خمسة عشر شهرا من وقعة بدر حيث زحف صناديد قريش على رأس جيش كبير من مكة على يثرب لأخذ ثأرهم من يوم بدر. وورود هذا الفصل في السورة يؤيد وجاهة كون السورة نزلت بعد سورة الأنفال التي دار معظمها على وقعة بدر. ولقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد نجران قبل خبر وقعة أحد. وقد يؤيد كون وفد نجران جاء قبل وقعة أحد ورود فصل المناظرة في السورة قبل فصل أحد. ولعل انتصار النبي والمسلمين في بدر على أهل مكة كان ذا دويّ عظيم في أنحاء الجزيرة وهذا مما لا يتحمل ريبا حفز نصارى نجران على إرسال وفدهم لاستطلاع النبأ النبوي العظيم وسهل قدومه. والله تعالى أعلم.
ومن المحتمل أن تكون مواقف اليهود التي جاء الفصل الثاني في صددها قد كانت في ظروف قدوم وفد نجران فوضعت فصلا ثانيا. وفي كتب التفسير٥ روايات تذكر أن اليهود كانوا طرفا ثالثا في ما كان يجري من مناظرة بين النبي ووفد نجران. وفي هذا الفصل خطاب موجه إلى أهل الكتاب عامة حينا وإلى النصارى واليهود حينا مما فيه تأييد لذلك. ولقد ذكرت روايات المفسرين٦ اسم بني النضير في سياق تفصيل المواقف اليهودية التي حكاها الفصل. وبنو النضير إنما أجلوا عن المدينة بعد وقعة أحد. وفي هذا تأييد آخر. وقد يدل هذا أن وقعة أحد قد كانت بعد ذلك فوضع فصلها بعد الفصلين. ومع كل ما تقدم فنحن نرجح أن فصول السورة وآياتها قد رتبت بعد استكمال نزولها كما هو شأن سورة البقرة. والله أعلم.
٢ طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٥٥ ـ ١١٩..
٣ ص ٤٠ ـ ٤١..
٤ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٦..
٥ أنظر كتب التفسير السابقة الذكر. وانظر في صدد وقعة أحد ابن سعد ج ٣ ص ٧٨ ـ ٩١. وابن هشام ج ٣ ص ٣ ـ ١٥٩..
٦ أنظر المصدر نفسه..
سورة آل عمران
في هذه السورة ثلاثة فصول طويلة : الأول في صدد مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب. والثاني في صدد مواقف اليهود ومكائدهم. والثالث في صدد وقعة حربية بين النبي والمسلمين والمشركين. وقد تخلل كل فصل ما يناسب موضوعه من محاجات وتنديدات وتنويهات ومواعظ ومعالجات وتلقينات ومبادئ جليلة.
وجمهور المفسرين وكتاب السيرة١ متفقون على أن المناظرة التي جاء الفصل الأول في صددها كانت مع وفد نصارى نجران. ولكنهم لا يذكرون متى قدم هذا الوفد إلى المدينة. وفي سياق لابن سعد في الجزء الثاني من طبقاته٢ وللإمام أبي يوسف في كتابه الخراج٣ نصّ عهد نبوي لهم من شهوده أبو سفيان بن حرب. وهذا قد يعني إن صح أن العهد كتب بعد فتح مكة بما لا يقل عن سنة. ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب العهد الذي كتبه لهم أمنهم على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وبيعهم وأن لا يغير أسقف عن أسقفيته وفرض عليهم جزية سنوية مقدارها ألفا حلة وآذنهم فيه أن ذمته بريئة ممن أكل الربا منهم.. إلخ. لأن هذا لا يمكن أن يكون وقع إلا بعد أن صار للنبي سلطان على اليمن. وهذا إنما ثمّ بعد فتح مكة. وقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد من نصارى نجران على النبي في سلسلة أخبار وقعت أحداثها قبل فتح مكة بمدة طويلة بل وقبل خبر وقعة أحد التي كانت في السنة الهجرية الثالثة. ولم يذكر تاريخا ولا كتاب عهد مع ذكره أن الشطر الأول من السورة قد نزل في مناسبة قدومه، وأنهم تناظروا معه في أمر المسيح وأنه اقترح عليهم المباهلة وجعل لعنة الله على الكاذبين امتنعوا وقالوا له : نوادعك ونبقى على ديننا٤.
وإجماع الروايات على أن الفصل الأول هو في صدد هذا الوفد ومجيء السورة في الترتيبات المروية بعد سورة الأنفال يسوغان القول : إن وفد نجران قد قدم في وقت مبكر جدا من العهد المدني وقبل فتح مكة. ويكون خبر نزول سورة آل عمران بعد سورة الأنفال بسبب الفصل الذي فيه خبر المناظرة مع الوفد واردا صحيحا. وحينئذ يكون الخبر الذي رواه ابن سعد وأبو يوسف عن قدوم الوفد بعد فتح مكة وكتابة النبي صلى الله عليه وسلم عهدا له حادثا ثانيا.
وجمهور المفسرين متفقون كذلك على أن الوقعة الحربية التي جاء الفصل الثالث من فصول السور في صددها هي وقعة أحد التي جرت بين المسلمين وبين جيش كفار قريش عند جبل أحد قرب المدينة بعد خمسة عشر شهرا من وقعة بدر حيث زحف صناديد قريش على رأس جيش كبير من مكة على يثرب لأخذ ثأرهم من يوم بدر. وورود هذا الفصل في السورة يؤيد وجاهة كون السورة نزلت بعد سورة الأنفال التي دار معظمها على وقعة بدر. ولقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد نجران قبل خبر وقعة أحد. وقد يؤيد كون وفد نجران جاء قبل وقعة أحد ورود فصل المناظرة في السورة قبل فصل أحد. ولعل انتصار النبي والمسلمين في بدر على أهل مكة كان ذا دويّ عظيم في أنحاء الجزيرة وهذا مما لا يتحمل ريبا حفز نصارى نجران على إرسال وفدهم لاستطلاع النبأ النبوي العظيم وسهل قدومه. والله تعالى أعلم.
ومن المحتمل أن تكون مواقف اليهود التي جاء الفصل الثاني في صددها قد كانت في ظروف قدوم وفد نجران فوضعت فصلا ثانيا. وفي كتب التفسير٥ روايات تذكر أن اليهود كانوا طرفا ثالثا في ما كان يجري من مناظرة بين النبي ووفد نجران. وفي هذا الفصل خطاب موجه إلى أهل الكتاب عامة حينا وإلى النصارى واليهود حينا مما فيه تأييد لذلك. ولقد ذكرت روايات المفسرين٦ اسم بني النضير في سياق تفصيل المواقف اليهودية التي حكاها الفصل. وبنو النضير إنما أجلوا عن المدينة بعد وقعة أحد. وفي هذا تأييد آخر. وقد يدل هذا أن وقعة أحد قد كانت بعد ذلك فوضع فصلها بعد الفصلين. ومع كل ما تقدم فنحن نرجح أن فصول السورة وآياتها قد رتبت بعد استكمال نزولها كما هو شأن سورة البقرة. والله أعلم.
٢ طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٥٥ ـ ١١٩..
٣ ص ٤٠ ـ ٤١..
٤ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٦..
٥ أنظر كتب التفسير السابقة الذكر. وانظر في صدد وقعة أحد ابن سعد ج ٣ ص ٧٨ ـ ٩١. وابن هشام ج ٣ ص ٣ ـ ١٥٩..
٦ أنظر المصدر نفسه..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٨:﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ( ٩٨ ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء( ١ ) وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ٩٩ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ( ١٠٠ ) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم( ٢ ) بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ١٠١ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٠٢ ) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا ( ٣ ) حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( ١٠٣ ) ﴾ [ ٩٨ ١٠٣ ].
في الآيات :
١ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه السؤال على سبيل الاستنكار إلى أهل الكتاب عن كفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله الذين آمنوا وساروا فيها بقصد تعطيلها وتعويجها.
٢ وتنديد بهم لأنهم يفعلون ذلك وهم يعلمون في قرارة نفوسهم صحة رسالة النبي وصدق دعوته.
٣ وإنذار لهم بأن الله شهيد عليهم وغير غافل عمّا يفعلون.
٤ وخطاب موجه إلى المسلمين يحذرون به من الإصغاء لأقوالهم وإطاعتهم فيها ويبين لهم به إنما يريدون بها ردّهم إلى الكفر بعد الإيمان، فإذا سمعوا لهم وأطاعوا حققوا ما يريدونه لهم.
٥ وتساؤل ينطوي على التحذير أيضا عما إذا كان يصح أن يكفروا بعد إيمانهم ولا يزال رسول الله هاديهم بين أظهرهم وما زالت آيات الله تتلى عليهم.
٦ وتنبيه على أن الذي يتمسك بالله وآياته ويقف عند حدوده فهو الناجي المهدي إلى طريق الحق القويم.
٧ وخطاب آخر موجه إليهم أيضا يؤمرون فيه بالحرص أشد الحرص على تقوى الله كما يجب وعلى البقاء على الإسلام والموت عليه. والتمسك بحبل الله المتين متحدين يدا واحدة وقلبا واحدا وعدم التفرق. ويذكرون فيه بما كان من نعمة الله عليهم وعنايته بهم حيث ألف بين قلوبهم، فأصبحوا إخوانا بعد أن كانوا أعداء، وحيث نجاهم وأنقذهم من حفرة النار التي كانوا على حافتها. ففي كل هذا ما يزعهم عن الخلاف والجحود، ويقوي اتحادهم وتمسكهم بحبل الله وما يضمن لهم الهدى.
تعليق على الآية
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ( ٩٨ ) ﴾
والآيات الأربع التالية لها
جمهور المفسرين١ على أن أهل الكتاب هنا هم اليهود أيضا. وقد رووا رواية ملخصها أن بعض يهود المدينة كبر عليهم أن يروا مركز النبي يقوى ودعوته تتسع، ورأوا أن هذا إنما كان بخاصة بتآخي قبيلتي الأوس والخزرج المدنيتين في ظل الإسلام وتوطد الوحدة الدينية بينهما وتناسيهما نتيجة لذلك ما كان بينهما من عداء وحروب في الجاهلية فتآمروا على إثارة الفتنة بينهما، وأخذ بعضهم يذكرون بعض الأوس والخزرج بما كان من مفاخر الجاهلية وحروبها، فلم تلبث نخوة الجاهلية أن تحركت فيهم ودفعتهم إلى التراد في التفاخر، ثم اشتد الأمر بينهم إلى التصايح فإلى التداعي إلى السلاح ليعيدوا الحرب بينهما ويحكموا السيف فيمن هو الأولى بالفخر منهما. وأتى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسارع هو وكبار المهاجرين إليهم يذكرونهم بالإسلام والأخوة الإسلامية ويهدئون من روعهم حتى سكنوا وأدركوا أنها نزغة من نزغات الشيطان ودسيسة من دسائس اليهود، ثم تعانقوا وتباكوا وكرروا الحمد لله ولرسوله على ما كان لهما من فضل ونعمة سابقة ولاحقة، فأنزل الله الآيات منددة باليهود وفاضحة لمكرهم ومحذرة للمسلمين، ومذكرة لهم بما كان من نعمة الله عليهم وتوطد الأخوة بينهم في ظل الإسلام.
والروايات لم تردّ في الصحاح. ولكنها قوية الاحتمال ؛ لأنها متسقة مع فحوى الآيات. وقد تضمنت خبر جريمة مروعة أقدم على ارتكابها اليهود وكادوا يهدمون بها بنيان الإسلام الذي وطده الله ورسوله على الأخوة الإسلامية وأسلوب الآيات متناسب مع تنبيهه وتحذيره وتذكيره مع ذلك الخبر.
ويتبادر لنا إلى ذلك أن الآيات غير منقطعة سياقا وموضوعا عن الآيات السابقة لها، وأن وضعها بعدها قد كان بسبب ذلك حيث تضمنت صورة أخرى من صور مكائد اليهود ودسائسهم بين المسلمين.
والروايات متفقة على أن الآية [ ١٠٣ ] منطوية على التذكير بما كان بين الخزرج والأوس من عداء وحروب قبل الإسلام. وقد أورد المفسرون في سياقها بعض الروايات التي فيها تفصيل لذلك. ولقد أشرنا إلى هذا وأوردنا بعض التفصيل عنه في تعليقنا على الآيات [ ٨٤ و ٨٥ ] من سلسلة آيات البقرة ثم في تعليقنا على الهجرة النبوية في سورة الأنفال فنكتفي بهذا التنبيه.
ومع خصوصية الآيات الزمنية، فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة المدى. سواء أفي التنديد بمن يغلبه هواه وغيظه فيتآمر على دعوة الله ورسوله وهو يعرف أنها حق ويحاول أن يصد المؤمنين بها ويعرقل سيرها. أم في وجوب تمسك المسلمين بأهداف دينهم وهدى قرآنهم وسنة نبيهم. أم في وجوب الحرص على الأخوة الدينية التي جمعت بينهم والتي من شأنها أن تجعلهم كتلة قوية. أم في التحذير من الاستماع لدسائس الأغيار الذين يريدون لهم الضرر والضعف والفرقة والتخاذل.
هذا، وفي كتب التفسير تأويلات لمدى بعض هذه الآيات نوردها ونعلق عليها كما يلي :
١ ففي صدد جملة ﴿ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ روى الطبري بطرق مختلفة عن ابن مسعود وغيره أن معناها :" أن يطاع الله فلا يعصى. وأن يشكر فلا يكفر. وأن يذكر فلا ينسى ". وعن ابن عباس أن معناها :" جاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم وقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم ". وقال ابن كثير إن الرواية الأولى مروية عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها الحاكم في مستدركه مرفوعا وقال إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وكلا التأويلين وجيه. وقد روى الطبري عن قتادة أن الآية منسوخة بآية سورة التغابن [ ١٦ ] التي فيها جملة ﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ كتيسير وتخفيف من الله. وروى ابن عباس أنها غير منسوخة. ويتبادر لنا أن الجملة وردت في مقام يوجب التشديد في التحذير، فتكون في كل مقام مثله محكمة. أما كون الله إنما يطلب من المسلمين أن يتقوه ما استطاعوا فيمكن أن يقال بدون القول بنسخ الأولى بالثانية : إن ذلك من المبادئ القرآنية التي تكرر تقريرها ومن السنة النبوية التي تعددت الأحاديث الصحيحة فيها على ما ذكرناه وأوردناه في تعليقنا على جملة ﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ في الآية [ ٤٢ ] من سورة الأعراف فليرجع إليه.
٢ وفي مدى معنى ﴿ بحبل الله ﴾ روى الطبري أقوالا منها أن الجملة بمعنى الجماعة أو التوحيد، أو الإخلاص لله أو القرآن. وقد أورد الطبري حديثا في سياق الجملة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ). ولقد أوردنا في سياق الآية [ ٩ ] من سورة الإسراء حديثا رواه الترمذي فيه ما جاء في حديث أبي سعيد. وعلى كل حال فالقرآن حقا هو حبل الله الذي يجب أن يعتصم به المسلمون والذي يعصم من تمسك به منهم ؛ لأن فيه جماع أسباب سعادة الإنسان في دنياه وآخرته.
٣ وفي صدد جملة ﴿ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن جابر قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل ). وهناك صيغ أخرى أوردها ابن كثير في الحث على إحسان الظن بالله وكون الله عند ظن عبده به. ٢ وليس في الأحاديث ما يفيد أنها تأويل للجملة القرآنية التي يتبادر لنا أنها أوسع شمولا مما تضمنته الأحاديث ؛ حيث توجب على المسلمين أن يظلوا مسلمين أنفسهم إلى الله عز وجل مخلصين له وحده في كل حال حتى الموت. والله أعلم.
٤ ويروي الطبري عن أهل التأويل أن المقصود من جملة ﴿ ولا تفرقوا ﴾ هو نهي المسلمين عن الفرقة والاختلاف فيما بينهم والحث على الألفة والجماعة وهو الوجيه السديد. وقد أورد في سياقها حديثا عن أنس عن رسول الله جاء فيه :( إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة فقيل : يا رسول الله ما هي ؟ فقبض يده وقال الجماعة. واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ). وقد روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة هذه الصيغة :" افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة )٣. وقد يصح أن يساق في هذا المقام حديث رواه الخمسة عن عبد الله جاء فيه :" لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة ". حيث ينطوي فيه بيان عظم جريمة الافتراق عن الجماعة. وهناك أحاديث صحيحة أخرى يصح أن تساق في هذا السياق. منها حديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية ). ٤ وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات ميتة جاهلية. ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية فليس من أمتي. ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس من أمتي )٥.
والمتبادر أن المقصود من الجماعة هو جمهور المسلمين المخلصين في إيمانهم وإسلامهم القائمين بالحق والواجب. وأن المقصود من جملة ( ما يكره ) في الحديث السابق هو ما لا يلائم المرء ؛ لأن هناك أمورا قد لا تلائم المرء ولا تكون معصية. أما إذا أمر بمعصية أو كانت معصية محققة فلا طاعة ولا صبر. وهذا ما جاء في حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )٦. وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم٧.
ولقد ورد في سورة الأنعام نهي عن التفرق عن سبيل الله واتباع السبل الأخرى ونعي على الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [ الآيات : ١٥٣ و ١٥٩ ] وعلقنا على ذلك وأوردنا بعض الأحاديث في سياقها. وهذه الأحاديث تفيد أن أهل البدع والأهواء بعض الأحاديث في سياقها ويلحظ فرق بين المقامين ؛ حيث إن آيات الأنعام تنهى في الدرجة الأولى عن التفرق في أمر الدين وأن الجملة التي نحن في صددها تنهى عن
٢ منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي)، التاج ج ٥ ص ٦٥..
٣ التاج، ج ١ ص ٣٩ و ٤٠..
٤ التاج، ج ٣ ص ٤٠..
٥ المصدر نفسه..
٦ المصدر نفسه..
٧ أنظر المصدر نفسه، ص ٣٥ ـ ٤٥..
الخطاب في الآيات موجه إلى المسلمين. وقد أمرتهم الآية الأولى بأن يكون منهم دائما جماعة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وحيث نهتهم الثانية عن احتذاء سيرة الذين من قبلهم الذين اختلفوا وتفرقوا بعد أن جاءتهم آيات الله وبيناته ووضحت لهم طريق الحق والباطل والهدى والضلال، فالذين يفعلون بما أمرت الآية الأولى هم الناجون المفلحون والذين يفعلون ما نهت عنه الثانية لهم عذاب الله العظيم.
تعليق على الآية
﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ... ﴾ إلخ
والآية التالية لها
يروي الطبري أن هاتين الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة لها في المناسبة التي روتها الروايات. ولا مانع من صحة الرواية. وقد جاءتا معقبة على ما قبلها لبيان ما هو الأوجب على المسلمين والأولى بهم والأصلح والأنفع لهم ولبيان الخطر العظيم الذي ينتج عن تفرقهم واختلافهم.
ولقد احتوت الآيتان تلقينات ومبادئ جليلة شاملة لكل ظرف ومكان حيث توجب على المسلمين بأسلوب حاسم وفرضي أن يكون بينهم دائما جماعة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأن يحافظوا على الروابط الأخوية فيما بينهم فلا يتفرقوا كما تفرق من قبلهم، وأن يستمسكوا بهدي دينهم الواضح فلا يختلفوا فيه كما اختلف من قبلهم.
والواجبات الثلاث التي احتوتها الآية الأولى مطلقة وعامة المدى لتكون كما هو المتبادر متسقة مع جميع الظروف والأمكنة والأدوار والأطوار. وهي ( الدعوة ) إلى كل ما فيه برّ وعدل وحقّ وإحسان ونفع وتعاون، وهذا ما تشمله كلمة الخير. ( والأمر ) بكل ما عرف أن فيه صلاح المجتمع وقوامه وحياته وصلاح الأفراد وقوامهم وحياتهم. ( والنهي ) عن كل ما عرف أن فيه فساد المجتمع وضرره وفساد الأفراد وضررهم.
وواضح أن هذه الواجبات أو المبادئ من أجل المبادئ والواجبات التي من شأنها حفظ كيان المجتمع الذي يسير عليها قويا سعيدا صالحا متعاونا على البرّ والتقوى والفضيلة ومكارم الأخلاق خاليا من الشرّ والبغي والظلم والإثم والفواحش. والمبادئ والواجبات المنطوية فيها واسعة المدى تتناول عشرات المواضيع الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية والإصلاحية سلفا وإيجابا. وتكون الآيات بذلك منبع قوة لا ينضب للنشاط في شتى وجوه الإصلاح والاجتماع والأخلاق والتكافل.
ومن الجدير بالتنبيه أن هذه المبادئ والواجبات لا ترد في القرآن هنا لأول مرة.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكرا لأول مرة في آية سورة الأعراف [ ١٥٧ ] كبيان لمحتوى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفة من صفاته ثم ذكر كصفات من صفات المؤمنين في آية سورة الحج [ ٤٠ ].
والأمر بفعل الخير والتنويه بفاعليه والتنديد بمعانيه ورد في سور عديدة منها سور ( القلم ) و( ق ) و( الحج ).
والنهي عن التفرقة جاء في الآيات التي سبقت هذه الآيات وفي آيات سورة الأنعام [ ١٥٣ و١٥٩ ].
ولقد شرحنا مدى الموضوع الأول وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث وأقوال وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق آية سورة الأعراف كما شرحنا مدى الموضوع التالي، وأوردنا ما فيه من أحاديث وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق تفسير سور القلم وق والحج، وشرحنا مدى الموضوع الثالث، وأوردنا ما فيه من أحاديث وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق الآيات التي سبقت هذه الآيات وآيات سورة الأنعام فنكتفي بهذا التنبيه ليرجع إلى ذلك.
الخطاب في الآيات موجه إلى المسلمين. وقد أمرتهم الآية الأولى بأن يكون منهم دائما جماعة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وحيث نهتهم الثانية عن احتذاء سيرة الذين من قبلهم الذين اختلفوا وتفرقوا بعد أن جاءتهم آيات الله وبيناته ووضحت لهم طريق الحق والباطل والهدى والضلال، فالذين يفعلون بما أمرت الآية الأولى هم الناجون المفلحون والذين يفعلون ما نهت عنه الثانية لهم عذاب الله العظيم.
تعليق على الآية
﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ... ﴾ إلخ
والآية التالية لها
يروي الطبري أن هاتين الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة لها في المناسبة التي روتها الروايات. ولا مانع من صحة الرواية. وقد جاءتا معقبة على ما قبلها لبيان ما هو الأوجب على المسلمين والأولى بهم والأصلح والأنفع لهم ولبيان الخطر العظيم الذي ينتج عن تفرقهم واختلافهم.
ولقد احتوت الآيتان تلقينات ومبادئ جليلة شاملة لكل ظرف ومكان حيث توجب على المسلمين بأسلوب حاسم وفرضي أن يكون بينهم دائما جماعة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأن يحافظوا على الروابط الأخوية فيما بينهم فلا يتفرقوا كما تفرق من قبلهم، وأن يستمسكوا بهدي دينهم الواضح فلا يختلفوا فيه كما اختلف من قبلهم.
والواجبات الثلاث التي احتوتها الآية الأولى مطلقة وعامة المدى لتكون كما هو المتبادر متسقة مع جميع الظروف والأمكنة والأدوار والأطوار. وهي ( الدعوة ) إلى كل ما فيه برّ وعدل وحقّ وإحسان ونفع وتعاون، وهذا ما تشمله كلمة الخير. ( والأمر ) بكل ما عرف أن فيه صلاح المجتمع وقوامه وحياته وصلاح الأفراد وقوامهم وحياتهم. ( والنهي ) عن كل ما عرف أن فيه فساد المجتمع وضرره وفساد الأفراد وضررهم.
وواضح أن هذه الواجبات أو المبادئ من أجل المبادئ والواجبات التي من شأنها حفظ كيان المجتمع الذي يسير عليها قويا سعيدا صالحا متعاونا على البرّ والتقوى والفضيلة ومكارم الأخلاق خاليا من الشرّ والبغي والظلم والإثم والفواحش. والمبادئ والواجبات المنطوية فيها واسعة المدى تتناول عشرات المواضيع الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية والإصلاحية سلفا وإيجابا. وتكون الآيات بذلك منبع قوة لا ينضب للنشاط في شتى وجوه الإصلاح والاجتماع والأخلاق والتكافل.
ومن الجدير بالتنبيه أن هذه المبادئ والواجبات لا ترد في القرآن هنا لأول مرة.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكرا لأول مرة في آية سورة الأعراف [ ١٥٧ ] كبيان لمحتوى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفة من صفاته ثم ذكر كصفات من صفات المؤمنين في آية سورة الحج [ ٤٠ ].
والأمر بفعل الخير والتنويه بفاعليه والتنديد بمعانيه ورد في سور عديدة منها سور ( القلم ) و( ق ) و( الحج ).
والنهي عن التفرقة جاء في الآيات التي سبقت هذه الآيات وفي آيات سورة الأنعام [ ١٥٣ و١٥٩ ].
ولقد شرحنا مدى الموضوع الأول وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث وأقوال وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق آية سورة الأعراف كما شرحنا مدى الموضوع التالي، وأوردنا ما فيه من أحاديث وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق تفسير سور القلم وق والحج، وشرحنا مدى الموضوع الثالث، وأوردنا ما فيه من أحاديث وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق الآيات التي سبقت هذه الآيات وآيات سورة الأنعام فنكتفي بهذا التنبيه ليرجع إلى ذلك.
في الآيات :
١ تذكير بيوم القيامة الذي تبيض فيه وجوه أناس وتسود وجوه آخرين وفقا لأعمال أصحابها.
٢ وتقرير ضمني بأن الذين تسود وجوههم هم الذين كفروا بعد إيمانهم، وبأن الذين تبيض وجوههم هم المؤمنون الثابتون المخلصون ؛ حيث يقرع الأولون على كفرهم بعد الإيمان ويقال لهم : ذوقوا العذاب على كفركم، وحيث ينال الآخرون رحمة الله مخلدين فيها.
٣ وتنبيه وجه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الآيات التي يوحيها الله إليه قد انطوت على الحق. وبأن الله لا يريد للناس ظلما وبأن له ما في السموات والأرض وإليه ترجع جميع الأمور.
تعليق على الآية
﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ... ﴾ إلخ
والآيات الثلاث التالية لها
لا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية في مناسبة نزول هذه الآيات. والمتبادر أنها استمرار وتعقيب على الآيات السابقة التي انتهت بالإنذار لمن يشذّ عن حبل الله ويضلّ عن هداه بعدما جاءته البينات واضحة.
وواضح أن الآيات احتوت توكيدا لما قرره القرآن في مواضع كثيرة مماثلة من كون ضلال الناس وهداهم وبغيهم واستقامتهم من كسبهم واختيارهم وهم مسؤولون عن أعمالهم ولا يمكن أن يظلمهم الله في ذلك كما لا يمكن أن يريد للناس شرا ولا ضلالا ولا ظلما. ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى في الآيتين فقد يكون من الحكمة في ذكر ابيضاض الوجوه واسودادها ما اعتاد الناس أن يقولوه في حالة الفوز والفرح والعزّة والنصر والإخفاق والحزن والذلّة والقهر. وقد يكون من مقاصد الآية الترهيب والترغيب والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في منّ عنتهم جملة ﴿ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾. منها أنهم المنافقون والكتابيون. أو الذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وحاربهم أبو بكر. أو الخوارج الذين حاربهم علي. أو أهل الفتن والبدع والأهواء. وروى ابن كثير عن ابن عباس أن الذين تبيض وجوههم أهل السنة والجماعة والذين تسود وجوههم أهل البدع والفرقة.
والأوامر والنواهي التي تضمنتها الآيات السابقة لهذه الآيات موجهة للمسلمين. وهذا ما يجعلنا نستبعد الكتابيين. ونستبعد أن يكون المقصود في الجملة المنافقين أيضا ؛ لأن حالتهم معلومة.
والقرآن قرر أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم، وأنهم في الدرك الأسفل من النار إذا لم يتوبوا، كما جاء في آيات النساء [ ٨٨ و ٨٩ و ١٤٥ و ١٤٦ ] والتوبة [ ٥٦ و ٦٨ و ٧٣ ] وبقية الأقوال تطبيقية من وحي الأحداث بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يكن في زمن ابن عباس جماعة مميزة باسم أهل السنة والجماعة مثلا.
ومهما يكن من أمر، فيصح القول إن الآيتين الأوليين في صدد من يلتزم بما أمر الله به وما نهى عنه في الآيات السابقة ومن يشذ عنها بصورة عامة. ويدخل كل فريق من فرقاء المسلمين ثبت على كتاب الله وسنة رسوله وكل فريق شذّ عنهما في كل ظرف.
ويسوق الخازن في سياق الآيات أحاديث ورد بعضها في الصحاح من ذلك حديث رواه أيضا الشيخان عن سهل بن سعد جاء فيه :( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنا فرطكم على الحوض، من مرّ عليّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، وليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم فأقول : إنهم منّي فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول : سحقا سحقا لمن غيّر بعدي )١.
وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي ذر أن رسول الله قال :( إن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شرّ الخلق والخليقة )٢. ولفظ أبي داود لهذا الحديث " سيكون في أمتي اختلاف وفرقة. قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية لا يرجعون حتى يرتدّ على فوقه. هم شرّ الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم وقتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قاتلهم كان أولى بالله منهم. قالوا : يا رسول الله وما سيماهم ؟ قال : التحليق ".
وحديث عن أبي هريرة جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض الدنيا )٣.
ولا تبدو صلة بين هذه الأحاديث والآيات التي تساق في سياقها إلا ما تفيده من شذوذ فئات من المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الإسلام الصحيح وسوء مصيرهم الأخروي مما يمكن أن يتصل بمدى جملة ﴿ أكفرتم بعد إيمانكم ﴾ ومما يمكن أن تكون الحكمة النبوية فيها إنذارا وتحذيرا. والله تعالى أعلم.
٢ فضلنا نقل الصيغة من التاج على صيغة الخازن؛ لأن فيها فروقا وإن كانت يسيرة. التاج ج ٥، ص ٣٨٦ ـ ٣٨٧..
٣ شيء من هذا النص وارد في حديث رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر. أنظر التاج ج ٥ ص ٣٧٩..
في الآيات :
١ تذكير بيوم القيامة الذي تبيض فيه وجوه أناس وتسود وجوه آخرين وفقا لأعمال أصحابها.
٢ وتقرير ضمني بأن الذين تسود وجوههم هم الذين كفروا بعد إيمانهم، وبأن الذين تبيض وجوههم هم المؤمنون الثابتون المخلصون ؛ حيث يقرع الأولون على كفرهم بعد الإيمان ويقال لهم : ذوقوا العذاب على كفركم، وحيث ينال الآخرون رحمة الله مخلدين فيها.
٣ وتنبيه وجه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الآيات التي يوحيها الله إليه قد انطوت على الحق. وبأن الله لا يريد للناس ظلما وبأن له ما في السموات والأرض وإليه ترجع جميع الأمور.
تعليق على الآية
﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ... ﴾ إلخ
والآيات الثلاث التالية لها
لا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية في مناسبة نزول هذه الآيات. والمتبادر أنها استمرار وتعقيب على الآيات السابقة التي انتهت بالإنذار لمن يشذّ عن حبل الله ويضلّ عن هداه بعدما جاءته البينات واضحة.
وواضح أن الآيات احتوت توكيدا لما قرره القرآن في مواضع كثيرة مماثلة من كون ضلال الناس وهداهم وبغيهم واستقامتهم من كسبهم واختيارهم وهم مسؤولون عن أعمالهم ولا يمكن أن يظلمهم الله في ذلك كما لا يمكن أن يريد للناس شرا ولا ضلالا ولا ظلما. ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى في الآيتين فقد يكون من الحكمة في ذكر ابيضاض الوجوه واسودادها ما اعتاد الناس أن يقولوه في حالة الفوز والفرح والعزّة والنصر والإخفاق والحزن والذلّة والقهر. وقد يكون من مقاصد الآية الترهيب والترغيب والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في منّ عنتهم جملة ﴿ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾. منها أنهم المنافقون والكتابيون. أو الذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وحاربهم أبو بكر. أو الخوارج الذين حاربهم علي. أو أهل الفتن والبدع والأهواء. وروى ابن كثير عن ابن عباس أن الذين تبيض وجوههم أهل السنة والجماعة والذين تسود وجوههم أهل البدع والفرقة.
والأوامر والنواهي التي تضمنتها الآيات السابقة لهذه الآيات موجهة للمسلمين. وهذا ما يجعلنا نستبعد الكتابيين. ونستبعد أن يكون المقصود في الجملة المنافقين أيضا ؛ لأن حالتهم معلومة.
والقرآن قرر أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم، وأنهم في الدرك الأسفل من النار إذا لم يتوبوا، كما جاء في آيات النساء [ ٨٨ و ٨٩ و ١٤٥ و ١٤٦ ] والتوبة [ ٥٦ و ٦٨ و ٧٣ ] وبقية الأقوال تطبيقية من وحي الأحداث بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يكن في زمن ابن عباس جماعة مميزة باسم أهل السنة والجماعة مثلا.
ومهما يكن من أمر، فيصح القول إن الآيتين الأوليين في صدد من يلتزم بما أمر الله به وما نهى عنه في الآيات السابقة ومن يشذ عنها بصورة عامة. ويدخل كل فريق من فرقاء المسلمين ثبت على كتاب الله وسنة رسوله وكل فريق شذّ عنهما في كل ظرف.
ويسوق الخازن في سياق الآيات أحاديث ورد بعضها في الصحاح من ذلك حديث رواه أيضا الشيخان عن سهل بن سعد جاء فيه :( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنا فرطكم على الحوض، من مرّ عليّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، وليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم فأقول : إنهم منّي فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول : سحقا سحقا لمن غيّر بعدي )١.
وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي ذر أن رسول الله قال :( إن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شرّ الخلق والخليقة )٢. ولفظ أبي داود لهذا الحديث " سيكون في أمتي اختلاف وفرقة. قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية لا يرجعون حتى يرتدّ على فوقه. هم شرّ الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم وقتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قاتلهم كان أولى بالله منهم. قالوا : يا رسول الله وما سيماهم ؟ قال : التحليق ".
وحديث عن أبي هريرة جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض الدنيا )٣.
ولا تبدو صلة بين هذه الأحاديث والآيات التي تساق في سياقها إلا ما تفيده من شذوذ فئات من المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الإسلام الصحيح وسوء مصيرهم الأخروي مما يمكن أن يتصل بمدى جملة ﴿ أكفرتم بعد إيمانكم ﴾ ومما يمكن أن تكون الحكمة النبوية فيها إنذارا وتحذيرا. والله تعالى أعلم.
٢ فضلنا نقل الصيغة من التاج على صيغة الخازن؛ لأن فيها فروقا وإن كانت يسيرة. التاج ج ٥، ص ٣٨٦ ـ ٣٨٧..
٣ شيء من هذا النص وارد في حديث رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر. أنظر التاج ج ٥ ص ٣٧٩..
في الآيات :
١ تذكير بيوم القيامة الذي تبيض فيه وجوه أناس وتسود وجوه آخرين وفقا لأعمال أصحابها.
٢ وتقرير ضمني بأن الذين تسود وجوههم هم الذين كفروا بعد إيمانهم، وبأن الذين تبيض وجوههم هم المؤمنون الثابتون المخلصون ؛ حيث يقرع الأولون على كفرهم بعد الإيمان ويقال لهم : ذوقوا العذاب على كفركم، وحيث ينال الآخرون رحمة الله مخلدين فيها.
٣ وتنبيه وجه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الآيات التي يوحيها الله إليه قد انطوت على الحق. وبأن الله لا يريد للناس ظلما وبأن له ما في السموات والأرض وإليه ترجع جميع الأمور.
تعليق على الآية
﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ... ﴾ إلخ
والآيات الثلاث التالية لها
لا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية في مناسبة نزول هذه الآيات. والمتبادر أنها استمرار وتعقيب على الآيات السابقة التي انتهت بالإنذار لمن يشذّ عن حبل الله ويضلّ عن هداه بعدما جاءته البينات واضحة.
وواضح أن الآيات احتوت توكيدا لما قرره القرآن في مواضع كثيرة مماثلة من كون ضلال الناس وهداهم وبغيهم واستقامتهم من كسبهم واختيارهم وهم مسؤولون عن أعمالهم ولا يمكن أن يظلمهم الله في ذلك كما لا يمكن أن يريد للناس شرا ولا ضلالا ولا ظلما. ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى في الآيتين فقد يكون من الحكمة في ذكر ابيضاض الوجوه واسودادها ما اعتاد الناس أن يقولوه في حالة الفوز والفرح والعزّة والنصر والإخفاق والحزن والذلّة والقهر. وقد يكون من مقاصد الآية الترهيب والترغيب والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في منّ عنتهم جملة ﴿ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾. منها أنهم المنافقون والكتابيون. أو الذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وحاربهم أبو بكر. أو الخوارج الذين حاربهم علي. أو أهل الفتن والبدع والأهواء. وروى ابن كثير عن ابن عباس أن الذين تبيض وجوههم أهل السنة والجماعة والذين تسود وجوههم أهل البدع والفرقة.
والأوامر والنواهي التي تضمنتها الآيات السابقة لهذه الآيات موجهة للمسلمين. وهذا ما يجعلنا نستبعد الكتابيين. ونستبعد أن يكون المقصود في الجملة المنافقين أيضا ؛ لأن حالتهم معلومة.
والقرآن قرر أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم، وأنهم في الدرك الأسفل من النار إذا لم يتوبوا، كما جاء في آيات النساء [ ٨٨ و ٨٩ و ١٤٥ و ١٤٦ ] والتوبة [ ٥٦ و ٦٨ و ٧٣ ] وبقية الأقوال تطبيقية من وحي الأحداث بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يكن في زمن ابن عباس جماعة مميزة باسم أهل السنة والجماعة مثلا.
ومهما يكن من أمر، فيصح القول إن الآيتين الأوليين في صدد من يلتزم بما أمر الله به وما نهى عنه في الآيات السابقة ومن يشذ عنها بصورة عامة. ويدخل كل فريق من فرقاء المسلمين ثبت على كتاب الله وسنة رسوله وكل فريق شذّ عنهما في كل ظرف.
ويسوق الخازن في سياق الآيات أحاديث ورد بعضها في الصحاح من ذلك حديث رواه أيضا الشيخان عن سهل بن سعد جاء فيه :( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنا فرطكم على الحوض، من مرّ عليّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، وليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم فأقول : إنهم منّي فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول : سحقا سحقا لمن غيّر بعدي )١.
وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي ذر أن رسول الله قال :( إن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شرّ الخلق والخليقة )٢. ولفظ أبي داود لهذا الحديث " سيكون في أمتي اختلاف وفرقة. قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية لا يرجعون حتى يرتدّ على فوقه. هم شرّ الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم وقتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قاتلهم كان أولى بالله منهم. قالوا : يا رسول الله وما سيماهم ؟ قال : التحليق ".
وحديث عن أبي هريرة جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض الدنيا )٣.
ولا تبدو صلة بين هذه الأحاديث والآيات التي تساق في سياقها إلا ما تفيده من شذوذ فئات من المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الإسلام الصحيح وسوء مصيرهم الأخروي مما يمكن أن يتصل بمدى جملة ﴿ أكفرتم بعد إيمانكم ﴾ ومما يمكن أن تكون الحكمة النبوية فيها إنذارا وتحذيرا. والله تعالى أعلم.
٢ فضلنا نقل الصيغة من التاج على صيغة الخازن؛ لأن فيها فروقا وإن كانت يسيرة. التاج ج ٥، ص ٣٨٦ ـ ٣٨٧..
٣ شيء من هذا النص وارد في حديث رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر. أنظر التاج ج ٥ ص ٣٧٩..
في الآيات :
١ تذكير بيوم القيامة الذي تبيض فيه وجوه أناس وتسود وجوه آخرين وفقا لأعمال أصحابها.
٢ وتقرير ضمني بأن الذين تسود وجوههم هم الذين كفروا بعد إيمانهم، وبأن الذين تبيض وجوههم هم المؤمنون الثابتون المخلصون ؛ حيث يقرع الأولون على كفرهم بعد الإيمان ويقال لهم : ذوقوا العذاب على كفركم، وحيث ينال الآخرون رحمة الله مخلدين فيها.
٣ وتنبيه وجه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الآيات التي يوحيها الله إليه قد انطوت على الحق. وبأن الله لا يريد للناس ظلما وبأن له ما في السموات والأرض وإليه ترجع جميع الأمور.
تعليق على الآية
﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ... ﴾ إلخ
والآيات الثلاث التالية لها
لا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية في مناسبة نزول هذه الآيات. والمتبادر أنها استمرار وتعقيب على الآيات السابقة التي انتهت بالإنذار لمن يشذّ عن حبل الله ويضلّ عن هداه بعدما جاءته البينات واضحة.
وواضح أن الآيات احتوت توكيدا لما قرره القرآن في مواضع كثيرة مماثلة من كون ضلال الناس وهداهم وبغيهم واستقامتهم من كسبهم واختيارهم وهم مسؤولون عن أعمالهم ولا يمكن أن يظلمهم الله في ذلك كما لا يمكن أن يريد للناس شرا ولا ضلالا ولا ظلما. ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى في الآيتين فقد يكون من الحكمة في ذكر ابيضاض الوجوه واسودادها ما اعتاد الناس أن يقولوه في حالة الفوز والفرح والعزّة والنصر والإخفاق والحزن والذلّة والقهر. وقد يكون من مقاصد الآية الترهيب والترغيب والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في منّ عنتهم جملة ﴿ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾. منها أنهم المنافقون والكتابيون. أو الذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وحاربهم أبو بكر. أو الخوارج الذين حاربهم علي. أو أهل الفتن والبدع والأهواء. وروى ابن كثير عن ابن عباس أن الذين تبيض وجوههم أهل السنة والجماعة والذين تسود وجوههم أهل البدع والفرقة.
والأوامر والنواهي التي تضمنتها الآيات السابقة لهذه الآيات موجهة للمسلمين. وهذا ما يجعلنا نستبعد الكتابيين. ونستبعد أن يكون المقصود في الجملة المنافقين أيضا ؛ لأن حالتهم معلومة.
والقرآن قرر أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم، وأنهم في الدرك الأسفل من النار إذا لم يتوبوا، كما جاء في آيات النساء [ ٨٨ و ٨٩ و ١٤٥ و ١٤٦ ] والتوبة [ ٥٦ و ٦٨ و ٧٣ ] وبقية الأقوال تطبيقية من وحي الأحداث بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يكن في زمن ابن عباس جماعة مميزة باسم أهل السنة والجماعة مثلا.
ومهما يكن من أمر، فيصح القول إن الآيتين الأوليين في صدد من يلتزم بما أمر الله به وما نهى عنه في الآيات السابقة ومن يشذ عنها بصورة عامة. ويدخل كل فريق من فرقاء المسلمين ثبت على كتاب الله وسنة رسوله وكل فريق شذّ عنهما في كل ظرف.
ويسوق الخازن في سياق الآيات أحاديث ورد بعضها في الصحاح من ذلك حديث رواه أيضا الشيخان عن سهل بن سعد جاء فيه :( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنا فرطكم على الحوض، من مرّ عليّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، وليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم فأقول : إنهم منّي فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول : سحقا سحقا لمن غيّر بعدي )١.
وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي ذر أن رسول الله قال :( إن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شرّ الخلق والخليقة )٢. ولفظ أبي داود لهذا الحديث " سيكون في أمتي اختلاف وفرقة. قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية لا يرجعون حتى يرتدّ على فوقه. هم شرّ الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم وقتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قاتلهم كان أولى بالله منهم. قالوا : يا رسول الله وما سيماهم ؟ قال : التحليق ".
وحديث عن أبي هريرة جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض الدنيا )٣.
ولا تبدو صلة بين هذه الأحاديث والآيات التي تساق في سياقها إلا ما تفيده من شذوذ فئات من المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الإسلام الصحيح وسوء مصيرهم الأخروي مما يمكن أن يتصل بمدى جملة ﴿ أكفرتم بعد إيمانكم ﴾ ومما يمكن أن تكون الحكمة النبوية فيها إنذارا وتحذيرا. والله تعالى أعلم.
٢ فضلنا نقل الصيغة من التاج على صيغة الخازن؛ لأن فيها فروقا وإن كانت يسيرة. التاج ج ٥، ص ٣٨٦ ـ ٣٨٧..
٣ شيء من هذا النص وارد في حديث رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر. أنظر التاج ج ٥ ص ٣٧٩..
في هذه الآيات :
١ خطاب تبشيري موجه إلى المسلمين بأنهم خير أمة أخرجت للناس لإيمانهم بالله وقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٢ وإشارة تنديدية إلى أهل الكتاب. فلو أنهم آمنوا برسالة النبي لكان خيرا لهم ولتمتعوا بتلك المزية التي جعلها الله للمؤمنين. ولكن لم يؤمن منهم إلا القليل وأما الأكثر فهم فاسقون.
٣ وخطاب تطميني موجه إلى المسلمين : فليس أهل الكتاب ممن يخشى لهم بأس أو يخاف من ضرر أكيد منهم فضررهم قاصر على الأذى بالدس والكيد واللسان. ولو حدثتهم نفوسهم بقتال المسلمين لما ثبتوا في الميدان ولولوا الأدبار ولما كتب لهم أي نصر. فقد لزمتهم المسكنة في كل ظرف ومكان باستثناء بعض الظروف التي يتمسكون فيها بحبل الله ويتعاملون فيها مع الناس بالحق ويرعون معهم العهود. وقد لزمهم غضب الله وسخطه ؛ لأنهم اتخذوا الكفر بآيات الله وقتل أنبيائه بغير حق وعصيان أوامره والوقوف موقف المعتدي ديدنا.
تعليق على الآية
﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
روى المفسرون روايتين في سبب نزول الآيات. واحدة تذكر أنها نزلت في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم مثل عبد الله بن سلام وغيره. وثانية تذكر أنها نزلت في مناسبة فخر اليهود بتفضيل الله إياهم على العالمين. ومع ذلك فقد رووا عن أهل التأويل قولين في المقصود من أهل الكتاب. أحدهما أنهم اليهود خاصة، وثانيهما أنهم اليهود والنصارى معا.
وليس شيء من ذلك واردا في كتب الصحاح. وروح الآيات ومضمونها وتطابق الصفات الواردة فيها مع الصفات الواردة في اليهود صراحة في آيات أخرى وبخاصة في آية سورة البقرة [ ٦١ ] تجعل القول بأن الآيات في اليهود هو الأوجه. مع التنبيه على أننا لسنا نرى في الآيات ما يمكن أن يؤيد احتمال صحة رواية نزولها في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم، ونرى الرواية التي تذكر أنها في مناسبة فخر اليهود بأنهم أفضل العالمين محتملة الصحة أكثر بل قوية احتمال الصحة. ومن المحتمل أن يكونوا قد دعموا فخرهم أمام المسلمين بما ورد في القرآن من ذلك في آيات عديدة مثل آيات البقرة [ ٤٧ و ١٢٢ ] والدخان [ ٣٢ ] والجاثية [ ١٦ و ١٧ ] فضلا عما كانوا يستندون إليه في ذلك من نصوص أسفارهم، فاقتضت حكمة التنزيل بالإيحاء بالآيات لتقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية التي تقرر وحدانية الله بدون أي شائبة وربوبيته الشاملة صاروا هم الأولى بوصف كونهم خير أمة أخرجت للناس ؛ لأنهم صاروا بالهدى الذي اهتدوا به دون غيرهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله إيمانا صادقا وخالصا.
على أن مما تلهمه الآيات أيضا بالإضافة إلى ذلك أن اليهود كانوا يتبجحون بقدرتهم على القتال وإمكانهم أن يغلبوا المسلمين وأن بعض المسلمين كانوا يحسبون لهم حسابا من هذه الناحية. وهذا مما روي عنهم وأوردناه في سياق تفسير آيات الأنفال [ ٥٥ ٥٨ ] وآيات آل عمران [ ١٢ ١٣ ] ومما تضمنت الإشارة إليه آية سورة الحشر هذه ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ ﴾ [ ٢ ]. فاحتوت الآيات ما احتوته من تكذيب لليهود في ذلك وتطمين للمسلمين على النحو الذي شرحناه. وقد انطوى فيها إشارة على ما كان من واقع أمرهم في معظم أدوارهم التاريخية من ذلّ ومسكنة وشتات مما هو مؤيد بقوة وبمقياس واسع بتاريخهم الذي فصلته أسفارهم وعزته إلى انحرافاتهم الدينية والأخلاقية وأيدته الكتب والروايات القديمة١.
والآيات كما يبدو من هذا البيان متصلة بمشهد حجاجي بين المسلمين واليهود أو بالسياق السابق وحلقة من سلسلته كما يبدو من خلالها وصف ما كان عليه اليهود في مختلف أنحاء الأرض في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من جبن وذلة ومسكنة.
لقد قال بعض المفسرين٢ : إن المقصود من تعبير ﴿ منهم المؤمنون ﴾ هم الذين آمنوا من النصارى ومنهم النجاشي كما قال بعضهم٣ : إنهم هم الذين آمنوا من اليهود. والذي نرجحه هو القول الثاني ؛ لأن الآيات والسلسلة السابقة لها هي في حق اليهود في الدرجة الأولى.
ولقد جاءت الآيات وبخاصة الفقرة الأولى من الآية الأولى التي تقرر أن المؤمنين بالرسالة المحمدية هم خير أمة أخرجت للناس في مقامها الذي هو في صدد اليهود ناسخة لكل ما ورد في الآيات القرآنية السابقة عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين أو حاصرة لذلك في زمن مضى حينما كانوا صابرين مستقيمين على وصايا الله وشرائعه.
ومعظم ما جاء في الآية [ ١١٢ ] ورد في الآية [ ٦١ ] من سورة البقرة، وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
ولقد اختلف المؤولون في مدى الاستثناء في جملة ﴿ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ﴾ فقال بعضهم : إنه متصل وقال بعضهم : إنه منفصل. والفرق هو أنه في الحالة الأولى لا يكون عليهم ذلة بسبب اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس وتعاملهم معهم بالحق. أما في الحالة الثانية فتكون الذلة مضروبة عليهم على كل حال بسبب الجرائم الخطيرة التي اقترفوها. وقد أخذنا في شرحنا للآيات بالرأي الأول ؛ حيث يتبادر لنا أنه الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآية ونظمها والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأقوال المروية في مدى تعبير ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ منها أن ﴿ كنتم ﴾ زائدة أو تامة ويكون المعنى ( أنتم ) أو ( صرتم ) أو ( وجدتم ). ومنها أن المقصودين هم خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المهاجرين منهم بنوع خاص. أو هم ( ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ) وليس شيء من ذلك في الصحاح. والخطاب عام وموجه من حيث الواقع المباشر إلى السامعين من المؤمنين. وهم مهاجرون وأنصار. وهذا ما جعلنا نشرح العبارة القرآنية بما شرحناه من كونها قصدت تقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية صاروا دون غيرهم أولى الناس بوصف أنهم خير أمة أخرجت للناس.
وقد يصح أن يضاف إلى هذا : أن الآية قد خاطبت ظرفيا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين وصفتهم آيات عديدة٤ بعظيم صفات الإخلاص والاستغراق في دين الله ونصرته وبذل كل مال ونفس وجهد في سبيله فكانوا فعلا متحققين بالصفة التي وصفتهم بها الآية.
على أن هذا لا يمنع القول : إن إطلاق الخطاب للسامعين يمكن أن يكون شاملا لكل مؤمن في كل وقت ومكان، وهو المتفق عليه عند المؤولين والمفسرين في كل خطاب مماثل ليس فيه دليل تخصيصي على ما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة والمماثلة. وهذا ما قاله المفسرون والمؤولون في صدد هذه الآية بالذات، مع التنبيه على أمر مهم، وهو أن يكون المسلم الذي يستحق هذا الخطاب مخلصا في إيمانه قائما بواجباته التي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فبهذا فقط يكون من مشمول فقرة ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ ولقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى الناس في دعة فقرأ في خطبة له في حجة حجها الآية ثم قال : من سرّه أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها.
وعلى ضوء ما تقدم يصح أن يقال : إن الآية قد جعلت الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفات متلازمة وأوجب على المسلمين التحقق بها ورشحهم في حال هذا التحقق بكونهم خير أمة أخرجت للناس يحملون لهم مشاعل الهداية ويخرجونهم من الظلمات إلى النور ويقيمون المجتمع الإنساني الفاضل الذي يسوده العدل والإحسان والبرّ والتعاون والتضامن والحرية ويتحرر المرء فيه من الظلم والطغيان والإثم والفواحش. وإنه لواجب عظيم مشرف. وقد كان المسلمون حينما قاموا به في صدد الإسلام خير أمة أخرجت للناس حقا. والمسلمون مرشحون لأن يكونوا كذلك في كل ظرف تحققت فيه فيهم تلك الصفات وقاموا بما توجبه عليه من واجبات.
وقد يصح أن يقال : إن العرب المسلمين كانوا أول المخاطبين بذلك، وإن لهم فيه النصيب الأكبر. فقد اختار الله خاتم أنبيائه الذي رشح رسالته لتكون دين العالم أجمع منهم. وأنزل كتابه المجيد الذي صار كتاب جميع المسلمين المقدس في كل أقطار الدنيا بلغتهم. وجعل مهبط وحيه في قلب جزيرتهم ومهدهم قبلة يتجه إليها جميع مسلمي الأرض في صلواتهم اليومية العديدة ومحجا يحجون إليه سنويا من جميع أقطار الأرض أبد الدهر وجعلهم وسطا ليكونوا شهداء على الناس كما جاء في آيتي سورتي البقرة والحج [ ١٤٣ و ٧٨ ] ولا يمكن إلا أن يكون ذلك لحكمة اختصاصية للعرب والله تعالى أعلم.
ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا رواه بطرقه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله ). وروى الحديث الترمذي بسند حسن بفرق يسير في بدئه وهو : " تتمون سبعين أمة.. ٥ ". والكلام النبوي موجه للعرب لأول مرة فيكون فيه تدعيم لما قلناه مساق في سياق الآية والله تعالى أعلم.
٢ انظر كتب التفسير السابقة الذكر..
٣ انظر المصدر نفسه.
.
٤ أنظر آيات سور المعارج (٢٢ و ٣٥) والذاريات (١٦ و ١٩) والشورى (٣٦ و ٤٣) وفاطر (٢٩ و ٣٤) والفرقان (٦٤ و ٧٦) والمؤمنون (١ و ١١ و ٥٧ و ٦١) والرعد (٢٠ و ٢٤) والحشر (٨ و ١٠) والأحزاب (٢٢) وآل عمران (١٦٩ و ١٧٤ و ١٩٥) والتوبة (٧١ و ٧٢ و ٨٨ و ٨٩ و ١٠٠)..
٥ أنظر التاج، ج ٤ ص ٧٣، والحديث مساق في تفسير الآية ووارد في فصل التفسير في كتاب التاج..
في هذه الآيات :
١ خطاب تبشيري موجه إلى المسلمين بأنهم خير أمة أخرجت للناس لإيمانهم بالله وقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٢ وإشارة تنديدية إلى أهل الكتاب. فلو أنهم آمنوا برسالة النبي لكان خيرا لهم ولتمتعوا بتلك المزية التي جعلها الله للمؤمنين. ولكن لم يؤمن منهم إلا القليل وأما الأكثر فهم فاسقون.
٣ وخطاب تطميني موجه إلى المسلمين : فليس أهل الكتاب ممن يخشى لهم بأس أو يخاف من ضرر أكيد منهم فضررهم قاصر على الأذى بالدس والكيد واللسان. ولو حدثتهم نفوسهم بقتال المسلمين لما ثبتوا في الميدان ولولوا الأدبار ولما كتب لهم أي نصر. فقد لزمتهم المسكنة في كل ظرف ومكان باستثناء بعض الظروف التي يتمسكون فيها بحبل الله ويتعاملون فيها مع الناس بالحق ويرعون معهم العهود. وقد لزمهم غضب الله وسخطه ؛ لأنهم اتخذوا الكفر بآيات الله وقتل أنبيائه بغير حق وعصيان أوامره والوقوف موقف المعتدي ديدنا.
تعليق على الآية
﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
روى المفسرون روايتين في سبب نزول الآيات. واحدة تذكر أنها نزلت في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم مثل عبد الله بن سلام وغيره. وثانية تذكر أنها نزلت في مناسبة فخر اليهود بتفضيل الله إياهم على العالمين. ومع ذلك فقد رووا عن أهل التأويل قولين في المقصود من أهل الكتاب. أحدهما أنهم اليهود خاصة، وثانيهما أنهم اليهود والنصارى معا.
وليس شيء من ذلك واردا في كتب الصحاح. وروح الآيات ومضمونها وتطابق الصفات الواردة فيها مع الصفات الواردة في اليهود صراحة في آيات أخرى وبخاصة في آية سورة البقرة [ ٦١ ] تجعل القول بأن الآيات في اليهود هو الأوجه. مع التنبيه على أننا لسنا نرى في الآيات ما يمكن أن يؤيد احتمال صحة رواية نزولها في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم، ونرى الرواية التي تذكر أنها في مناسبة فخر اليهود بأنهم أفضل العالمين محتملة الصحة أكثر بل قوية احتمال الصحة. ومن المحتمل أن يكونوا قد دعموا فخرهم أمام المسلمين بما ورد في القرآن من ذلك في آيات عديدة مثل آيات البقرة [ ٤٧ و ١٢٢ ] والدخان [ ٣٢ ] والجاثية [ ١٦ و ١٧ ] فضلا عما كانوا يستندون إليه في ذلك من نصوص أسفارهم، فاقتضت حكمة التنزيل بالإيحاء بالآيات لتقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية التي تقرر وحدانية الله بدون أي شائبة وربوبيته الشاملة صاروا هم الأولى بوصف كونهم خير أمة أخرجت للناس ؛ لأنهم صاروا بالهدى الذي اهتدوا به دون غيرهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله إيمانا صادقا وخالصا.
على أن مما تلهمه الآيات أيضا بالإضافة إلى ذلك أن اليهود كانوا يتبجحون بقدرتهم على القتال وإمكانهم أن يغلبوا المسلمين وأن بعض المسلمين كانوا يحسبون لهم حسابا من هذه الناحية. وهذا مما روي عنهم وأوردناه في سياق تفسير آيات الأنفال [ ٥٥ ٥٨ ] وآيات آل عمران [ ١٢ ١٣ ] ومما تضمنت الإشارة إليه آية سورة الحشر هذه ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ ﴾ [ ٢ ]. فاحتوت الآيات ما احتوته من تكذيب لليهود في ذلك وتطمين للمسلمين على النحو الذي شرحناه. وقد انطوى فيها إشارة على ما كان من واقع أمرهم في معظم أدوارهم التاريخية من ذلّ ومسكنة وشتات مما هو مؤيد بقوة وبمقياس واسع بتاريخهم الذي فصلته أسفارهم وعزته إلى انحرافاتهم الدينية والأخلاقية وأيدته الكتب والروايات القديمة١.
والآيات كما يبدو من هذا البيان متصلة بمشهد حجاجي بين المسلمين واليهود أو بالسياق السابق وحلقة من سلسلته كما يبدو من خلالها وصف ما كان عليه اليهود في مختلف أنحاء الأرض في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من جبن وذلة ومسكنة.
لقد قال بعض المفسرين٢ : إن المقصود من تعبير ﴿ منهم المؤمنون ﴾ هم الذين آمنوا من النصارى ومنهم النجاشي كما قال بعضهم٣ : إنهم هم الذين آمنوا من اليهود. والذي نرجحه هو القول الثاني ؛ لأن الآيات والسلسلة السابقة لها هي في حق اليهود في الدرجة الأولى.
ولقد جاءت الآيات وبخاصة الفقرة الأولى من الآية الأولى التي تقرر أن المؤمنين بالرسالة المحمدية هم خير أمة أخرجت للناس في مقامها الذي هو في صدد اليهود ناسخة لكل ما ورد في الآيات القرآنية السابقة عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين أو حاصرة لذلك في زمن مضى حينما كانوا صابرين مستقيمين على وصايا الله وشرائعه.
ومعظم ما جاء في الآية [ ١١٢ ] ورد في الآية [ ٦١ ] من سورة البقرة، وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
ولقد اختلف المؤولون في مدى الاستثناء في جملة ﴿ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ﴾ فقال بعضهم : إنه متصل وقال بعضهم : إنه منفصل. والفرق هو أنه في الحالة الأولى لا يكون عليهم ذلة بسبب اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس وتعاملهم معهم بالحق. أما في الحالة الثانية فتكون الذلة مضروبة عليهم على كل حال بسبب الجرائم الخطيرة التي اقترفوها. وقد أخذنا في شرحنا للآيات بالرأي الأول ؛ حيث يتبادر لنا أنه الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآية ونظمها والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأقوال المروية في مدى تعبير ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ منها أن ﴿ كنتم ﴾ زائدة أو تامة ويكون المعنى ( أنتم ) أو ( صرتم ) أو ( وجدتم ). ومنها أن المقصودين هم خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المهاجرين منهم بنوع خاص. أو هم ( ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ) وليس شيء من ذلك في الصحاح. والخطاب عام وموجه من حيث الواقع المباشر إلى السامعين من المؤمنين. وهم مهاجرون وأنصار. وهذا ما جعلنا نشرح العبارة القرآنية بما شرحناه من كونها قصدت تقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية صاروا دون غيرهم أولى الناس بوصف أنهم خير أمة أخرجت للناس.
وقد يصح أن يضاف إلى هذا : أن الآية قد خاطبت ظرفيا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين وصفتهم آيات عديدة٤ بعظيم صفات الإخلاص والاستغراق في دين الله ونصرته وبذل كل مال ونفس وجهد في سبيله فكانوا فعلا متحققين بالصفة التي وصفتهم بها الآية.
على أن هذا لا يمنع القول : إن إطلاق الخطاب للسامعين يمكن أن يكون شاملا لكل مؤمن في كل وقت ومكان، وهو المتفق عليه عند المؤولين والمفسرين في كل خطاب مماثل ليس فيه دليل تخصيصي على ما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة والمماثلة. وهذا ما قاله المفسرون والمؤولون في صدد هذه الآية بالذات، مع التنبيه على أمر مهم، وهو أن يكون المسلم الذي يستحق هذا الخطاب مخلصا في إيمانه قائما بواجباته التي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فبهذا فقط يكون من مشمول فقرة ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ ولقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى الناس في دعة فقرأ في خطبة له في حجة حجها الآية ثم قال : من سرّه أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها.
وعلى ضوء ما تقدم يصح أن يقال : إن الآية قد جعلت الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفات متلازمة وأوجب على المسلمين التحقق بها ورشحهم في حال هذا التحقق بكونهم خير أمة أخرجت للناس يحملون لهم مشاعل الهداية ويخرجونهم من الظلمات إلى النور ويقيمون المجتمع الإنساني الفاضل الذي يسوده العدل والإحسان والبرّ والتعاون والتضامن والحرية ويتحرر المرء فيه من الظلم والطغيان والإثم والفواحش. وإنه لواجب عظيم مشرف. وقد كان المسلمون حينما قاموا به في صدد الإسلام خير أمة أخرجت للناس حقا. والمسلمون مرشحون لأن يكونوا كذلك في كل ظرف تحققت فيه فيهم تلك الصفات وقاموا بما توجبه عليه من واجبات.
وقد يصح أن يقال : إن العرب المسلمين كانوا أول المخاطبين بذلك، وإن لهم فيه النصيب الأكبر. فقد اختار الله خاتم أنبيائه الذي رشح رسالته لتكون دين العالم أجمع منهم. وأنزل كتابه المجيد الذي صار كتاب جميع المسلمين المقدس في كل أقطار الدنيا بلغتهم. وجعل مهبط وحيه في قلب جزيرتهم ومهدهم قبلة يتجه إليها جميع مسلمي الأرض في صلواتهم اليومية العديدة ومحجا يحجون إليه سنويا من جميع أقطار الأرض أبد الدهر وجعلهم وسطا ليكونوا شهداء على الناس كما جاء في آيتي سورتي البقرة والحج [ ١٤٣ و ٧٨ ] ولا يمكن إلا أن يكون ذلك لحكمة اختصاصية للعرب والله تعالى أعلم.
ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا رواه بطرقه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله ). وروى الحديث الترمذي بسند حسن بفرق يسير في بدئه وهو :" تتمون سبعين أمة.. ٥ ". والكلام النبوي موجه للعرب لأول مرة فيكون فيه تدعيم لما قلناه مساق في سياق الآية والله تعالى أعلم.
٢ انظر كتب التفسير السابقة الذكر..
٣ انظر المصدر نفسه.
.
٤ أنظر آيات سور المعارج (٢٢ و ٣٥) والذاريات (١٦ و ١٩) والشورى (٣٦ و ٤٣) وفاطر (٢٩ و ٣٤) والفرقان (٦٤ و ٧٦) والمؤمنون (١ و ١١ و ٥٧ و ٦١) والرعد (٢٠ و ٢٤) والحشر (٨ و ١٠) والأحزاب (٢٢) وآل عمران (١٦٩ و ١٧٤ و ١٩٥) والتوبة (٧١ و ٧٢ و ٨٨ و ٨٩ و ١٠٠)..
٥ أنظر التاج، ج ٤ ص ٧٣، والحديث مساق في تفسير الآية ووارد في فصل التفسير في كتاب التاج..
في هذه الآيات :
١ خطاب تبشيري موجه إلى المسلمين بأنهم خير أمة أخرجت للناس لإيمانهم بالله وقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٢ وإشارة تنديدية إلى أهل الكتاب. فلو أنهم آمنوا برسالة النبي لكان خيرا لهم ولتمتعوا بتلك المزية التي جعلها الله للمؤمنين. ولكن لم يؤمن منهم إلا القليل وأما الأكثر فهم فاسقون.
٣ وخطاب تطميني موجه إلى المسلمين : فليس أهل الكتاب ممن يخشى لهم بأس أو يخاف من ضرر أكيد منهم فضررهم قاصر على الأذى بالدس والكيد واللسان. ولو حدثتهم نفوسهم بقتال المسلمين لما ثبتوا في الميدان ولولوا الأدبار ولما كتب لهم أي نصر. فقد لزمتهم المسكنة في كل ظرف ومكان باستثناء بعض الظروف التي يتمسكون فيها بحبل الله ويتعاملون فيها مع الناس بالحق ويرعون معهم العهود. وقد لزمهم غضب الله وسخطه ؛ لأنهم اتخذوا الكفر بآيات الله وقتل أنبيائه بغير حق وعصيان أوامره والوقوف موقف المعتدي ديدنا.
تعليق على الآية
﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
روى المفسرون روايتين في سبب نزول الآيات. واحدة تذكر أنها نزلت في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم مثل عبد الله بن سلام وغيره. وثانية تذكر أنها نزلت في مناسبة فخر اليهود بتفضيل الله إياهم على العالمين. ومع ذلك فقد رووا عن أهل التأويل قولين في المقصود من أهل الكتاب. أحدهما أنهم اليهود خاصة، وثانيهما أنهم اليهود والنصارى معا.
وليس شيء من ذلك واردا في كتب الصحاح. وروح الآيات ومضمونها وتطابق الصفات الواردة فيها مع الصفات الواردة في اليهود صراحة في آيات أخرى وبخاصة في آية سورة البقرة [ ٦١ ] تجعل القول بأن الآيات في اليهود هو الأوجه. مع التنبيه على أننا لسنا نرى في الآيات ما يمكن أن يؤيد احتمال صحة رواية نزولها في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم، ونرى الرواية التي تذكر أنها في مناسبة فخر اليهود بأنهم أفضل العالمين محتملة الصحة أكثر بل قوية احتمال الصحة. ومن المحتمل أن يكونوا قد دعموا فخرهم أمام المسلمين بما ورد في القرآن من ذلك في آيات عديدة مثل آيات البقرة [ ٤٧ و ١٢٢ ] والدخان [ ٣٢ ] والجاثية [ ١٦ و ١٧ ] فضلا عما كانوا يستندون إليه في ذلك من نصوص أسفارهم، فاقتضت حكمة التنزيل بالإيحاء بالآيات لتقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية التي تقرر وحدانية الله بدون أي شائبة وربوبيته الشاملة صاروا هم الأولى بوصف كونهم خير أمة أخرجت للناس ؛ لأنهم صاروا بالهدى الذي اهتدوا به دون غيرهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله إيمانا صادقا وخالصا.
على أن مما تلهمه الآيات أيضا بالإضافة إلى ذلك أن اليهود كانوا يتبجحون بقدرتهم على القتال وإمكانهم أن يغلبوا المسلمين وأن بعض المسلمين كانوا يحسبون لهم حسابا من هذه الناحية. وهذا مما روي عنهم وأوردناه في سياق تفسير آيات الأنفال [ ٥٥ ٥٨ ] وآيات آل عمران [ ١٢ ١٣ ] ومما تضمنت الإشارة إليه آية سورة الحشر هذه ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ ﴾ [ ٢ ]. فاحتوت الآيات ما احتوته من تكذيب لليهود في ذلك وتطمين للمسلمين على النحو الذي شرحناه. وقد انطوى فيها إشارة على ما كان من واقع أمرهم في معظم أدوارهم التاريخية من ذلّ ومسكنة وشتات مما هو مؤيد بقوة وبمقياس واسع بتاريخهم الذي فصلته أسفارهم وعزته إلى انحرافاتهم الدينية والأخلاقية وأيدته الكتب والروايات القديمة١.
والآيات كما يبدو من هذا البيان متصلة بمشهد حجاجي بين المسلمين واليهود أو بالسياق السابق وحلقة من سلسلته كما يبدو من خلالها وصف ما كان عليه اليهود في مختلف أنحاء الأرض في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من جبن وذلة ومسكنة.
لقد قال بعض المفسرين٢ : إن المقصود من تعبير ﴿ منهم المؤمنون ﴾ هم الذين آمنوا من النصارى ومنهم النجاشي كما قال بعضهم٣ : إنهم هم الذين آمنوا من اليهود. والذي نرجحه هو القول الثاني ؛ لأن الآيات والسلسلة السابقة لها هي في حق اليهود في الدرجة الأولى.
ولقد جاءت الآيات وبخاصة الفقرة الأولى من الآية الأولى التي تقرر أن المؤمنين بالرسالة المحمدية هم خير أمة أخرجت للناس في مقامها الذي هو في صدد اليهود ناسخة لكل ما ورد في الآيات القرآنية السابقة عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين أو حاصرة لذلك في زمن مضى حينما كانوا صابرين مستقيمين على وصايا الله وشرائعه.
ومعظم ما جاء في الآية [ ١١٢ ] ورد في الآية [ ٦١ ] من سورة البقرة، وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
ولقد اختلف المؤولون في مدى الاستثناء في جملة ﴿ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ﴾ فقال بعضهم : إنه متصل وقال بعضهم : إنه منفصل. والفرق هو أنه في الحالة الأولى لا يكون عليهم ذلة بسبب اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس وتعاملهم معهم بالحق. أما في الحالة الثانية فتكون الذلة مضروبة عليهم على كل حال بسبب الجرائم الخطيرة التي اقترفوها. وقد أخذنا في شرحنا للآيات بالرأي الأول ؛ حيث يتبادر لنا أنه الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآية ونظمها والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأقوال المروية في مدى تعبير ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ منها أن ﴿ كنتم ﴾ زائدة أو تامة ويكون المعنى ( أنتم ) أو ( صرتم ) أو ( وجدتم ). ومنها أن المقصودين هم خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المهاجرين منهم بنوع خاص. أو هم ( ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ) وليس شيء من ذلك في الصحاح. والخطاب عام وموجه من حيث الواقع المباشر إلى السامعين من المؤمنين. وهم مهاجرون وأنصار. وهذا ما جعلنا نشرح العبارة القرآنية بما شرحناه من كونها قصدت تقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية صاروا دون غيرهم أولى الناس بوصف أنهم خير أمة أخرجت للناس.
وقد يصح أن يضاف إلى هذا : أن الآية قد خاطبت ظرفيا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين وصفتهم آيات عديدة٤ بعظيم صفات الإخلاص والاستغراق في دين الله ونصرته وبذل كل مال ونفس وجهد في سبيله فكانوا فعلا متحققين بالصفة التي وصفتهم بها الآية.
على أن هذا لا يمنع القول : إن إطلاق الخطاب للسامعين يمكن أن يكون شاملا لكل مؤمن في كل وقت ومكان، وهو المتفق عليه عند المؤولين والمفسرين في كل خطاب مماثل ليس فيه دليل تخصيصي على ما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة والمماثلة. وهذا ما قاله المفسرون والمؤولون في صدد هذه الآية بالذات، مع التنبيه على أمر مهم، وهو أن يكون المسلم الذي يستحق هذا الخطاب مخلصا في إيمانه قائما بواجباته التي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فبهذا فقط يكون من مشمول فقرة ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ ولقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى الناس في دعة فقرأ في خطبة له في حجة حجها الآية ثم قال : من سرّه أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها.
وعلى ضوء ما تقدم يصح أن يقال : إن الآية قد جعلت الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفات متلازمة وأوجب على المسلمين التحقق بها ورشحهم في حال هذا التحقق بكونهم خير أمة أخرجت للناس يحملون لهم مشاعل الهداية ويخرجونهم من الظلمات إلى النور ويقيمون المجتمع الإنساني الفاضل الذي يسوده العدل والإحسان والبرّ والتعاون والتضامن والحرية ويتحرر المرء فيه من الظلم والطغيان والإثم والفواحش. وإنه لواجب عظيم مشرف. وقد كان المسلمون حينما قاموا به في صدد الإسلام خير أمة أخرجت للناس حقا. والمسلمون مرشحون لأن يكونوا كذلك في كل ظرف تحققت فيه فيهم تلك الصفات وقاموا بما توجبه عليه من واجبات.
وقد يصح أن يقال : إن العرب المسلمين كانوا أول المخاطبين بذلك، وإن لهم فيه النصيب الأكبر. فقد اختار الله خاتم أنبيائه الذي رشح رسالته لتكون دين العالم أجمع منهم. وأنزل كتابه المجيد الذي صار كتاب جميع المسلمين المقدس في كل أقطار الدنيا بلغتهم. وجعل مهبط وحيه في قلب جزيرتهم ومهدهم قبلة يتجه إليها جميع مسلمي الأرض في صلواتهم اليومية العديدة ومحجا يحجون إليه سنويا من جميع أقطار الأرض أبد الدهر وجعلهم وسطا ليكونوا شهداء على الناس كما جاء في آيتي سورتي البقرة والحج [ ١٤٣ و ٧٨ ] ولا يمكن إلا أن يكون ذلك لحكمة اختصاصية للعرب والله تعالى أعلم.
ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا رواه بطرقه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله ). وروى الحديث الترمذي بسند حسن بفرق يسير في بدئه وهو :" تتمون سبعين أمة.. ٥ ". والكلام النبوي موجه للعرب لأول مرة فيكون فيه تدعيم لما قلناه مساق في سياق الآية والله تعالى أعلم.
٢ انظر كتب التفسير السابقة الذكر..
٣ انظر المصدر نفسه.
.
٤ أنظر آيات سور المعارج (٢٢ و ٣٥) والذاريات (١٦ و ١٩) والشورى (٣٦ و ٤٣) وفاطر (٢٩ و ٣٤) والفرقان (٦٤ و ٧٦) والمؤمنون (١ و ١١ و ٥٧ و ٦١) والرعد (٢٠ و ٢٤) والحشر (٨ و ١٠) والأحزاب (٢٢) وآل عمران (١٦٩ و ١٧٤ و ١٩٥) والتوبة (٧١ و ٧٢ و ٨٨ و ٨٩ و ١٠٠)..
٥ أنظر التاج، ج ٤ ص ٧٣، والحديث مساق في تفسير الآية ووارد في فصل التفسير في كتاب التاج..
من المؤولين من اعتبر جملة ﴿ لَيْسُواْ سَوَاء ﴾ مستقلة عن ما بعدها. واعتبروا الجملة التالية لها كلاما مستأنفا مستقلا عنها. ومنهم من اعتبر هذه الجملة متصلة بالجملة التالية لها. وأصحاب القول الأول أوّلوا الجملة بأنها في صدد تقرير كون المسلمين وأهل الكتاب الموصوفين بالآيات السابقة لا يصح أن يكونوا سواء. ثم استؤنف الكلام لتقرير كون من أهل الكتاب من هو صالح يتصف بما جاء في الآيات من صفات. ولو أن ما يفعله هذا الفريق لن يجحد من الله تعالى الذي هو العليم بالمتقين. وأصحاب القول الثاني أوّلوا الآيتين بأنهما في صدد الاستدراك لتقرير كون أهل الكتاب ليسوا سواء. فإذا كان منهم الفاسق المعتدي الذي وصف في الآيات السابقة ضمن الصالح المتقي المؤمن بآيات الله والمتعبد لله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمسارع في الخيرات.
ويتبادر لنا أن القول الثاني هذا هو الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآيات ومقامها ومع السياق السابق واللاحق. والله تعالى أعلم.
تعليق على الآية
﴿ لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ... ﴾
والآيتين التاليتين لها
روى المفسرون كسبب لنزول الآيات أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة آخرون من يهود قالت أحبار اليهود وأهل الكفر منهم ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم فأنزل الله الآيات. كما رووا أنها في وصف حالة أربعين من أهل نجران وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فآمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والروايات لم ترد في الصحاح، ويتبادر لنا أن الآيات استمرار في السياق وتعقيب عليه. فقد جاء في الآيات السابقة أن أهل الكتاب، وإن كان أكثرهم فاسقين فإن منهم مؤمنين أيضا ثم أخذت تحمل على الفاسقين وتهون من شأنهم فجاءت الآيات تستدرك وتستثني من الجملة الفئة المؤمنة وتذكر مظاهر إيمانهم وإخلاصهم وعملهم الصالح. ونظم الآيات ومضمونها يلهمان هذا بقوة حين الإمعان فيها. وهذا لا ينفي أن تكون الآيات قد قصدت الذين آمنوا بالرسالة المحمدية من أهل الكتاب الذين ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية خبر إيمانهم على ما ذكرناه في مناسبات سابقة. مع القول : إننا نرجح أن تكون الآيات في صدد وصف مؤمني اليهود بخاصة ؛ لأن الآيات للاستثناء والاستدراك. والسياق في صدد اليهود والله تعالى أعلم.
وبعض المبشرين يزعمون أن الآيات في وصف رهبان النصارى في حالة احتفاظهم بنصرانيتهم. وبقطع النظر رجحنا بأنها في صدد اليهود فإن وصف الإيمان بعد البعثة المحمدية لا يكون إلا لمن آمن بالرسالة المحمدية. وقد وصف القرآن الكافرين بهذه الرسالة من أهل الكتاب بالكفار على ما نبهنا عليه وأوردنا شواهده القرآنية في مناسبات سابقة. ولا يصح أن يعارض القرآن نفسه فيصف بعضهم بالإيمان وهم جاحدون للرسالة المحمدية. وهذا ما يجعلنا نؤكد أن الآيات في صدد فريق من أهل الكتاب قد آمنوا بهذه الرسالة مع ترجيحنا أنهم من اليهود والله تعالى أعلم.
والوصف الذي احتوته الآيات عظيم الروعة. يدل على أن الذين آمنوا من أهل الكتاب بالرسالة المحمدية قد فعلوا ذلك بإخلاص وتجرد شديدين نتيجة لاقتناعهم بصدق الرسالة المحمدية وما جاءت به من مبادئ وتعاليم ثم استغرقوا في عبادة الله تعالى والتقرب إليه بصالح الأعمال والأخلاق في ظلّ الدين الجديد الذي اعتنقوه وتأثروا بمبادئه وتعاليمه. وفي القرآن المكي والمدني صور مقاربة١ حيث يصح القول : إن هذا كان عاما في من استطاع أن يتغلب على عناده ومكابرته وهواه ومآربه من أهل الكتاب. وقد استمر هذا يتكرر وبمقياس واسع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى اليوم وإلى الأبد.
من المؤولين من اعتبر جملة ﴿ لَيْسُواْ سَوَاء ﴾ مستقلة عن ما بعدها. واعتبروا الجملة التالية لها كلاما مستأنفا مستقلا عنها. ومنهم من اعتبر هذه الجملة متصلة بالجملة التالية لها. وأصحاب القول الأول أوّلوا الجملة بأنها في صدد تقرير كون المسلمين وأهل الكتاب الموصوفين بالآيات السابقة لا يصح أن يكونوا سواء. ثم استؤنف الكلام لتقرير كون من أهل الكتاب من هو صالح يتصف بما جاء في الآيات من صفات. ولو أن ما يفعله هذا الفريق لن يجحد من الله تعالى الذي هو العليم بالمتقين. وأصحاب القول الثاني أوّلوا الآيتين بأنهما في صدد الاستدراك لتقرير كون أهل الكتاب ليسوا سواء. فإذا كان منهم الفاسق المعتدي الذي وصف في الآيات السابقة ضمن الصالح المتقي المؤمن بآيات الله والمتعبد لله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمسارع في الخيرات.
ويتبادر لنا أن القول الثاني هذا هو الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآيات ومقامها ومع السياق السابق واللاحق. والله تعالى أعلم.
تعليق على الآية
﴿ لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ... ﴾
والآيتين التاليتين لها
روى المفسرون كسبب لنزول الآيات أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة آخرون من يهود قالت أحبار اليهود وأهل الكفر منهم ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم فأنزل الله الآيات. كما رووا أنها في وصف حالة أربعين من أهل نجران وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فآمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والروايات لم ترد في الصحاح، ويتبادر لنا أن الآيات استمرار في السياق وتعقيب عليه. فقد جاء في الآيات السابقة أن أهل الكتاب، وإن كان أكثرهم فاسقين فإن منهم مؤمنين أيضا ثم أخذت تحمل على الفاسقين وتهون من شأنهم فجاءت الآيات تستدرك وتستثني من الجملة الفئة المؤمنة وتذكر مظاهر إيمانهم وإخلاصهم وعملهم الصالح. ونظم الآيات ومضمونها يلهمان هذا بقوة حين الإمعان فيها. وهذا لا ينفي أن تكون الآيات قد قصدت الذين آمنوا بالرسالة المحمدية من أهل الكتاب الذين ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية خبر إيمانهم على ما ذكرناه في مناسبات سابقة. مع القول : إننا نرجح أن تكون الآيات في صدد وصف مؤمني اليهود بخاصة ؛ لأن الآيات للاستثناء والاستدراك. والسياق في صدد اليهود والله تعالى أعلم.
وبعض المبشرين يزعمون أن الآيات في وصف رهبان النصارى في حالة احتفاظهم بنصرانيتهم. وبقطع النظر رجحنا بأنها في صدد اليهود فإن وصف الإيمان بعد البعثة المحمدية لا يكون إلا لمن آمن بالرسالة المحمدية. وقد وصف القرآن الكافرين بهذه الرسالة من أهل الكتاب بالكفار على ما نبهنا عليه وأوردنا شواهده القرآنية في مناسبات سابقة. ولا يصح أن يعارض القرآن نفسه فيصف بعضهم بالإيمان وهم جاحدون للرسالة المحمدية. وهذا ما يجعلنا نؤكد أن الآيات في صدد فريق من أهل الكتاب قد آمنوا بهذه الرسالة مع ترجيحنا أنهم من اليهود والله تعالى أعلم.
والوصف الذي احتوته الآيات عظيم الروعة. يدل على أن الذين آمنوا من أهل الكتاب بالرسالة المحمدية قد فعلوا ذلك بإخلاص وتجرد شديدين نتيجة لاقتناعهم بصدق الرسالة المحمدية وما جاءت به من مبادئ وتعاليم ثم استغرقوا في عبادة الله تعالى والتقرب إليه بصالح الأعمال والأخلاق في ظلّ الدين الجديد الذي اعتنقوه وتأثروا بمبادئه وتعاليمه. وفي القرآن المكي والمدني صور مقاربة١ حيث يصح القول : إن هذا كان عاما في من استطاع أن يتغلب على عناده ومكابرته وهواه ومآربه من أهل الكتاب. وقد استمر هذا يتكرر وبمقياس واسع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى اليوم وإلى الأبد.
من المؤولين من اعتبر جملة ﴿ لَيْسُواْ سَوَاء ﴾ مستقلة عن ما بعدها. واعتبروا الجملة التالية لها كلاما مستأنفا مستقلا عنها. ومنهم من اعتبر هذه الجملة متصلة بالجملة التالية لها. وأصحاب القول الأول أوّلوا الجملة بأنها في صدد تقرير كون المسلمين وأهل الكتاب الموصوفين بالآيات السابقة لا يصح أن يكونوا سواء. ثم استؤنف الكلام لتقرير كون من أهل الكتاب من هو صالح يتصف بما جاء في الآيات من صفات. ولو أن ما يفعله هذا الفريق لن يجحد من الله تعالى الذي هو العليم بالمتقين. وأصحاب القول الثاني أوّلوا الآيتين بأنهما في صدد الاستدراك لتقرير كون أهل الكتاب ليسوا سواء. فإذا كان منهم الفاسق المعتدي الذي وصف في الآيات السابقة ضمن الصالح المتقي المؤمن بآيات الله والمتعبد لله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمسارع في الخيرات.
ويتبادر لنا أن القول الثاني هذا هو الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآيات ومقامها ومع السياق السابق واللاحق. والله تعالى أعلم.
تعليق على الآية
﴿ لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ... ﴾
والآيتين التاليتين لها
روى المفسرون كسبب لنزول الآيات أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة آخرون من يهود قالت أحبار اليهود وأهل الكفر منهم ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم فأنزل الله الآيات. كما رووا أنها في وصف حالة أربعين من أهل نجران وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فآمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والروايات لم ترد في الصحاح، ويتبادر لنا أن الآيات استمرار في السياق وتعقيب عليه. فقد جاء في الآيات السابقة أن أهل الكتاب، وإن كان أكثرهم فاسقين فإن منهم مؤمنين أيضا ثم أخذت تحمل على الفاسقين وتهون من شأنهم فجاءت الآيات تستدرك وتستثني من الجملة الفئة المؤمنة وتذكر مظاهر إيمانهم وإخلاصهم وعملهم الصالح. ونظم الآيات ومضمونها يلهمان هذا بقوة حين الإمعان فيها. وهذا لا ينفي أن تكون الآيات قد قصدت الذين آمنوا بالرسالة المحمدية من أهل الكتاب الذين ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية خبر إيمانهم على ما ذكرناه في مناسبات سابقة. مع القول : إننا نرجح أن تكون الآيات في صدد وصف مؤمني اليهود بخاصة ؛ لأن الآيات للاستثناء والاستدراك. والسياق في صدد اليهود والله تعالى أعلم.
وبعض المبشرين يزعمون أن الآيات في وصف رهبان النصارى في حالة احتفاظهم بنصرانيتهم. وبقطع النظر رجحنا بأنها في صدد اليهود فإن وصف الإيمان بعد البعثة المحمدية لا يكون إلا لمن آمن بالرسالة المحمدية. وقد وصف القرآن الكافرين بهذه الرسالة من أهل الكتاب بالكفار على ما نبهنا عليه وأوردنا شواهده القرآنية في مناسبات سابقة. ولا يصح أن يعارض القرآن نفسه فيصف بعضهم بالإيمان وهم جاحدون للرسالة المحمدية. وهذا ما يجعلنا نؤكد أن الآيات في صدد فريق من أهل الكتاب قد آمنوا بهذه الرسالة مع ترجيحنا أنهم من اليهود والله تعالى أعلم.
والوصف الذي احتوته الآيات عظيم الروعة. يدل على أن الذين آمنوا من أهل الكتاب بالرسالة المحمدية قد فعلوا ذلك بإخلاص وتجرد شديدين نتيجة لاقتناعهم بصدق الرسالة المحمدية وما جاءت به من مبادئ وتعاليم ثم استغرقوا في عبادة الله تعالى والتقرب إليه بصالح الأعمال والأخلاق في ظلّ الدين الجديد الذي اعتنقوه وتأثروا بمبادئه وتعاليمه. وفي القرآن المكي والمدني صور مقاربة١ حيث يصح القول : إن هذا كان عاما في من استطاع أن يتغلب على عناده ومكابرته وهواه ومآربه من أهل الكتاب. وقد استمر هذا يتكرر وبمقياس واسع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى اليوم وإلى الأبد.
في الآيتين : تقرير ينطوي على التهوين والتقريع والإنذار بأن الكفار لن يجديهم كثرة أموالهم وأولادهم نفعا عند الله. فهم أصحاب النار المقضى عليهم بالخلود فيها، وإن ما ينفقونه في الحياة الدنيا لن يكون عليهم إلا بلاء وإنه كالريح التي فيها صرّ تتلف الزرع الذي تصيبه. وليس في هذا ظلم من الله سبحانه. وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم فاستحقوه.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في نزول الآيات وإنما قالوا١ ـ ومنهم من عزا القول إلى ابن عباس وغيره ـ إن المقصود من جملة ﴿ الذين كفروا ﴾ هم أبو جهل وأبو سفيان اللذان كانا يتفاخران بكثرة أموالهما وقدرتهما على الإنفاق لقهر المسلمين، كما قالوا أيضا : إن المقصود هم اليهود الذين كانوا ينفقون الأموال في مناوأة ومعاداة رسول الله ورسالته.
والمتبادر أن الآيتين متصلتان بالسياق السابق أيضا، وأنهما تعنيان كفار اليهود بعد استثناء المؤمنين منهم، وتلهمان أنهم كانوا يتفاخرون بكثرة أموالهم كما كانوا يتفاخرون بقدرتهم على القتال. وأن المسلمين كانوا يحسبون لهذه الأموال حسابا ؛ لأنها تمكنهم من الإنفاق والاستعداد للحرب والقتال فجاءتا لتهونا من شأن هذه الأموال كما هونت الآيات السابقة من شأن قدرتهم على القتال ولتطمئنا المسلمين من هذه الناحية أيضا.
والعبارة في الآيتين مطلقة ؛ حيث يكون فيهما بالإضافة إلى خصوصيتهما الزمنية تلقين تبشيري وتطمين للمسلمين في كل ظرف مع واجب التنبيه على أن على المسلمين أن يكونوا مسلمين حقا إيمانا وجهادا وعملا واستقامة واستعدادا حتى يحقق الله وعده وتصدق لهم البشرى.
في الآيتين : تقرير ينطوي على التهوين والتقريع والإنذار بأن الكفار لن يجديهم كثرة أموالهم وأولادهم نفعا عند الله. فهم أصحاب النار المقضى عليهم بالخلود فيها، وإن ما ينفقونه في الحياة الدنيا لن يكون عليهم إلا بلاء وإنه كالريح التي فيها صرّ تتلف الزرع الذي تصيبه. وليس في هذا ظلم من الله سبحانه. وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم فاستحقوه.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في نزول الآيات وإنما قالوا١ ـ ومنهم من عزا القول إلى ابن عباس وغيره ـ إن المقصود من جملة ﴿ الذين كفروا ﴾ هم أبو جهل وأبو سفيان اللذان كانا يتفاخران بكثرة أموالهما وقدرتهما على الإنفاق لقهر المسلمين، كما قالوا أيضا : إن المقصود هم اليهود الذين كانوا ينفقون الأموال في مناوأة ومعاداة رسول الله ورسالته.
والمتبادر أن الآيتين متصلتان بالسياق السابق أيضا، وأنهما تعنيان كفار اليهود بعد استثناء المؤمنين منهم، وتلهمان أنهم كانوا يتفاخرون بكثرة أموالهم كما كانوا يتفاخرون بقدرتهم على القتال. وأن المسلمين كانوا يحسبون لهذه الأموال حسابا ؛ لأنها تمكنهم من الإنفاق والاستعداد للحرب والقتال فجاءتا لتهونا من شأن هذه الأموال كما هونت الآيات السابقة من شأن قدرتهم على القتال ولتطمئنا المسلمين من هذه الناحية أيضا.
والعبارة في الآيتين مطلقة ؛ حيث يكون فيهما بالإضافة إلى خصوصيتهما الزمنية تلقين تبشيري وتطمين للمسلمين في كل ظرف مع واجب التنبيه على أن على المسلمين أن يكونوا مسلمين حقا إيمانا وجهادا وعملا واستقامة واستعدادا حتى يحقق الله وعده وتصدق لهم البشرى.
( ٢ ) من دونكم : من غيركم.
( ٣ ) لا يألونكم : لا يقصرون فيكم.
( ٤ ) خبالا : فسادا أو تشويشا.
( ٥ ) ودوا ما عنتم : تمنوا أن يصيبكم العنت والمشقة.
في هذه الآيات :
١ ـ خطاب موجه للمسلمين ينهون به عن اتخاذ أخصّاء وأولياء لهم من غيرهم يطلعون على أسرارهم وبواطن أمورهم.
٢ ـ وتعليل لهذا النهي : فإن هؤلاء لا يقصرون في أي عمل يسبب لهم الفتنة والفساد والتشويش. ويتمنون لهم كل عنت ومشقة. وقد ظهرت علامات البغض والكراهية لهم على ألسنتهم وما تخفيه صدورهم من ذلك أشد. وفي حين أن المسلمين يحبونهم ويودون لهم الخير ويؤمنون بكل ما أنزل الله، ومن ذلك ما أنزله من الكتب السابقة، فإنهم لا يقابلون حبهم بحب ولا رغبة الخير لهم بمثلها ولا يؤمنون بما أنزل الله جميعه. وإذا لقوهم تظاهروا بالإيمان كذبا ورياء. وإذا خلوا إلى بعضهم عضوا أناملهم من شدة غيظهم وحقدهم عليهم، وإذا نالهم خير استاءوا وإذا أصابتهم مصيبة فرحوا.
٣ ـ تطمين للمسلمين فإنهم إذا صبروا وثبتوا في مواقفهم وراقبوا الله واتقوه لن يضرهم كيدهم وأذاهم، وبأن الله محيط بكل ما يعملون ومحبطه.
وقد تخللت الآيات فقرات تعقيبية جريا على الأسلوب القرآني : فالله يبين للمسلمين الآيات ويوضح لهم الحقائق حتى يعقلوها ويسترشدوا بها. وليميت هؤلاء الأغيار بغيظهم الذي يأكل قلوبهم. والله عليم بخفايا صدورهم.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت في جماعة من المسلمين كانوا يواصلون اليهود ويصادقونهم ويخالطونهم بحجة الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، كما رووا٢ أنها نزلت في جماعة من المسلمين كانوا يفعلون ذلك مع المنافقين بحجة القربى والوشائج الرحمية والقبلية. والروايات لم ترد في الصحاح، ولكن فحوى الآيات يتحمل أيا من الراويتين كما أن الواقع في المدينة في ظرف نزولها يتحمل أيا منهما أيضا. غير أن جملة ﴿ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ﴾ وجملة ﴿ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ ﴾ المماثلة بعض المماثلة للآية [ ٧٦ ] من سلسلة آيات البقرة الواردة في حق اليهود قرائن تسوغ ترجيح كونها في حق اليهود أكثر. والمتبادر أن جملة ﴿ من دونكم ﴾ تنطبق كذلك على اليهود أكثر ؛ لأن المنافقين عرب من جنس المخاطبين أولا، وكانوا يتظاهرون بالإسلام ويؤدون فرائضه حتى إنهم كانوا يشتركون في الحركات الحربية بقطع النظر عن مواقفهم المريبة. وقد رجح الطبري ذلك. وإذا صح الترجيح تكون الآيات قد احتوت صورة قوية لشدة ما كان يضمره اليهود من العداء والحقد والغيظ للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والحركة الإسلامية. ونهيا قويا متناسبا مع ذلك ومستندا إلى الواقع المشاهد الملموس عن الاستمرار في موادتهم وموالاتهم من قبل المسلمين واختلاطهم بهم. وهذه الصورة مؤيدة بآية سورة المائدة هذه :﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ﴾ [ ٨٢ ].
والآية تدل على أن الآيات الكثيرة الواردة قبلها في سورة آل عمران وسورتي الأنفال والبقرة والتي فيها بيان مواقف اليهود الكيدية والعدائية والتشكيكية نحو المسلمين لم تؤثر في فريق من المسلمين الذين يرجح أنهم المنافقون الظاهرون والمستترون ؛ حيث ظلوا يواصلونهم بالمودة ويختلطون بهم. بل لقد ظل هذا مستمرا طيلة وجود اليهود في المدينة أي إلى السنة الهجرية السادسة على ما تدل عليه آيات عديدة وردت في سور أخرى بعد هذه السورة على ما سوف يأتي.
ومع الخصوصية الزمنية للنهي والتحذير اللذين احتوتهما الآيات فإن إطلاق الأمر وإطلاق الخطاب يجعل تلقينها شاملا لكل زمان ومكان. وظاهر من التعليلات والأوصاف الواردة أن النهي والتحذير هما بالنسبة إلى الجماعات غير الإسلامية التي تقف من المسلمين مواقف الكيد والعداء والحقد والكراهية ومظاهرة الأعداء، وأنهما لا يشملان من يكون موادا مسالما كافا يده ولسانه عن المسلمين من غير المسلمين على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه :" قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن ههنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال : قد اتخذت إذا بطانة من دون المسلمين ". وعقب ابن كثير على هذا بقوله : إن الآية مع هذا الأثر دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين وإطلاع على دواخل أمورهم. وفي كتاب تاريخ عمر بن الخطاب للجوزي بعض أخبار مماثلة
أو مقاربة لما رواه ابن أبي حاتم.
ونقول تعليقا على ذلك : إن التعليلات التي احتوتها الآيات قوية الدلالة على أن النهي هو عن الذين عرفوا بعدائهم ومكرهم وكيدهم وقصدهم السوء بكل موقف ووسيلة للمسلمين. أو على الأقل الذين يغلب الظن على أنهم كذلك. أما من كانوا أو غلب الظن على أنهم كانوا غير ذلك فلا نرى في الآية دليلا على عدم جواز انتفاع المسلمين بخبراتهم المتنوعة بالإضافة إلى حسن التعايش معهم. وإذا صح ما روي عن عمر للظرف الذي كان الذميون فيه مظنة ريب وخيانة وغدر فليس من شأنه أن يكون قاعدة عامة مستمرة إلا في نطاق ذلك. ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة بكلام طويل انتهى فيه إلى النتيجة التي قررناها آنفا. والله تعالى أعلم.
ويأتي بعد هذه الآيات فصل جديد طويل في صدد وقعة أحد. وبذلك ينتهي الشطر الأول من السورة الذي كان في صدد أهل الكتاب من نصارى ويهود. والذي نستلهمه من فحوى الآيات أن ما يتصل بمناظرة وفد نجران منه ينتهي بالآية [ ٦٨ ] وليس فيه عنف وقسوة ؛ لأن الوفد قد جاء مستطلعا مناظرا ثم توادع مع النبي ورجع إلى بلاده على ما شرحناه قبل. وأن الآية [ ٦٩ ] وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٢٠ ] هي في صدد اليهود ومواقفهم الكيدية والتشكيكية والعدائية ولذلك تميزت عن الآيات السابقة لها بالعنف في التنديد والاستنكار والتحذير. وهكذا تكون سورة آل عمران كسورة البقرة قد احتوت سلسلة طويلة في حق اليهود اقتصرت على ذكر هذه المواقف دون استطراد إلى ربط حاضرهم بغابرهم إلا لماما. والسلسلتان تدلان على ما كان لليهود من أثر في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ما كان من نشاطهم الشديد في مناوأة النبي والمسلمين والإسلام، فاقتضت حكمة التنزيل أن تأتيا بالأسلوب القوي العنيف الذي جاءتا به ليكون متناسبا مع ذلك من جهة، ولفضحهم وإضعاف أثرهم من جهة أخرى.
في هذه الآيات :
١ ـ خطاب موجه للمسلمين ينهون به عن اتخاذ أخصّاء وأولياء لهم من غيرهم يطلعون على أسرارهم وبواطن أمورهم.
٢ ـ وتعليل لهذا النهي : فإن هؤلاء لا يقصرون في أي عمل يسبب لهم الفتنة والفساد والتشويش. ويتمنون لهم كل عنت ومشقة. وقد ظهرت علامات البغض والكراهية لهم على ألسنتهم وما تخفيه صدورهم من ذلك أشد. وفي حين أن المسلمين يحبونهم ويودون لهم الخير ويؤمنون بكل ما أنزل الله، ومن ذلك ما أنزله من الكتب السابقة، فإنهم لا يقابلون حبهم بحب ولا رغبة الخير لهم بمثلها ولا يؤمنون بما أنزل الله جميعه. وإذا لقوهم تظاهروا بالإيمان كذبا ورياء. وإذا خلوا إلى بعضهم عضوا أناملهم من شدة غيظهم وحقدهم عليهم، وإذا نالهم خير استاءوا وإذا أصابتهم مصيبة فرحوا.
٣ ـ تطمين للمسلمين فإنهم إذا صبروا وثبتوا في مواقفهم وراقبوا الله واتقوه لن يضرهم كيدهم وأذاهم، وبأن الله محيط بكل ما يعملون ومحبطه.
وقد تخللت الآيات فقرات تعقيبية جريا على الأسلوب القرآني : فالله يبين للمسلمين الآيات ويوضح لهم الحقائق حتى يعقلوها ويسترشدوا بها. وليميت هؤلاء الأغيار بغيظهم الذي يأكل قلوبهم. والله عليم بخفايا صدورهم.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت في جماعة من المسلمين كانوا يواصلون اليهود ويصادقونهم ويخالطونهم بحجة الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، كما رووا٢ أنها نزلت في جماعة من المسلمين كانوا يفعلون ذلك مع المنافقين بحجة القربى والوشائج الرحمية والقبلية. والروايات لم ترد في الصحاح، ولكن فحوى الآيات يتحمل أيا من الراويتين كما أن الواقع في المدينة في ظرف نزولها يتحمل أيا منهما أيضا. غير أن جملة ﴿ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ﴾ وجملة ﴿ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ ﴾ المماثلة بعض المماثلة للآية [ ٧٦ ] من سلسلة آيات البقرة الواردة في حق اليهود قرائن تسوغ ترجيح كونها في حق اليهود أكثر. والمتبادر أن جملة ﴿ من دونكم ﴾ تنطبق كذلك على اليهود أكثر ؛ لأن المنافقين عرب من جنس المخاطبين أولا، وكانوا يتظاهرون بالإسلام ويؤدون فرائضه حتى إنهم كانوا يشتركون في الحركات الحربية بقطع النظر عن مواقفهم المريبة. وقد رجح الطبري ذلك. وإذا صح الترجيح تكون الآيات قد احتوت صورة قوية لشدة ما كان يضمره اليهود من العداء والحقد والغيظ للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والحركة الإسلامية. ونهيا قويا متناسبا مع ذلك ومستندا إلى الواقع المشاهد الملموس عن الاستمرار في موادتهم وموالاتهم من قبل المسلمين واختلاطهم بهم. وهذه الصورة مؤيدة بآية سورة المائدة هذه :﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ﴾ [ ٨٢ ].
والآية تدل على أن الآيات الكثيرة الواردة قبلها في سورة آل عمران وسورتي الأنفال والبقرة والتي فيها بيان مواقف اليهود الكيدية والعدائية والتشكيكية نحو المسلمين لم تؤثر في فريق من المسلمين الذين يرجح أنهم المنافقون الظاهرون والمستترون ؛ حيث ظلوا يواصلونهم بالمودة ويختلطون بهم. بل لقد ظل هذا مستمرا طيلة وجود اليهود في المدينة أي إلى السنة الهجرية السادسة على ما تدل عليه آيات عديدة وردت في سور أخرى بعد هذه السورة على ما سوف يأتي.
ومع الخصوصية الزمنية للنهي والتحذير اللذين احتوتهما الآيات فإن إطلاق الأمر وإطلاق الخطاب يجعل تلقينها شاملا لكل زمان ومكان. وظاهر من التعليلات والأوصاف الواردة أن النهي والتحذير هما بالنسبة إلى الجماعات غير الإسلامية التي تقف من المسلمين مواقف الكيد والعداء والحقد والكراهية ومظاهرة الأعداء، وأنهما لا يشملان من يكون موادا مسالما كافا يده ولسانه عن المسلمين من غير المسلمين على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه :" قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن ههنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال : قد اتخذت إذا بطانة من دون المسلمين ". وعقب ابن كثير على هذا بقوله : إن الآية مع هذا الأثر دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين وإطلاع على دواخل أمورهم. وفي كتاب تاريخ عمر بن الخطاب للجوزي بعض أخبار مماثلة
أو مقاربة لما رواه ابن أبي حاتم.
ونقول تعليقا على ذلك : إن التعليلات التي احتوتها الآيات قوية الدلالة على أن النهي هو عن الذين عرفوا بعدائهم ومكرهم وكيدهم وقصدهم السوء بكل موقف ووسيلة للمسلمين. أو على الأقل الذين يغلب الظن على أنهم كذلك. أما من كانوا أو غلب الظن على أنهم كانوا غير ذلك فلا نرى في الآية دليلا على عدم جواز انتفاع المسلمين بخبراتهم المتنوعة بالإضافة إلى حسن التعايش معهم. وإذا صح ما روي عن عمر للظرف الذي كان الذميون فيه مظنة ريب وخيانة وغدر فليس من شأنه أن يكون قاعدة عامة مستمرة إلا في نطاق ذلك. ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة بكلام طويل انتهى فيه إلى النتيجة التي قررناها آنفا. والله تعالى أعلم.
ويأتي بعد هذه الآيات فصل جديد طويل في صدد وقعة أحد. وبذلك ينتهي الشطر الأول من السورة الذي كان في صدد أهل الكتاب من نصارى ويهود. والذي نستلهمه من فحوى الآيات أن ما يتصل بمناظرة وفد نجران منه ينتهي بالآية [ ٦٨ ] وليس فيه عنف وقسوة ؛ لأن الوفد قد جاء مستطلعا مناظرا ثم توادع مع النبي ورجع إلى بلاده على ما شرحناه قبل. وأن الآية [ ٦٩ ] وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٢٠ ] هي في صدد اليهود ومواقفهم الكيدية والتشكيكية والعدائية ولذلك تميزت عن الآيات السابقة لها بالعنف في التنديد والاستنكار والتحذير. وهكذا تكون سورة آل عمران كسورة البقرة قد احتوت سلسلة طويلة في حق اليهود اقتصرت على ذكر هذه المواقف دون استطراد إلى ربط حاضرهم بغابرهم إلا لماما. والسلسلتان تدلان على ما كان لليهود من أثر في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ما كان من نشاطهم الشديد في مناوأة النبي والمسلمين والإسلام، فاقتضت حكمة التنزيل أن تأتيا بالأسلوب القوي العنيف الذي جاءتا به ليكون متناسبا مع ذلك من جهة، ولفضحهم وإضعاف أثرهم من جهة أخرى.
في هذه الآيات :
١ ـ خطاب موجه للمسلمين ينهون به عن اتخاذ أخصّاء وأولياء لهم من غيرهم يطلعون على أسرارهم وبواطن أمورهم.
٢ ـ وتعليل لهذا النهي : فإن هؤلاء لا يقصرون في أي عمل يسبب لهم الفتنة والفساد والتشويش. ويتمنون لهم كل عنت ومشقة. وقد ظهرت علامات البغض والكراهية لهم على ألسنتهم وما تخفيه صدورهم من ذلك أشد. وفي حين أن المسلمين يحبونهم ويودون لهم الخير ويؤمنون بكل ما أنزل الله، ومن ذلك ما أنزله من الكتب السابقة، فإنهم لا يقابلون حبهم بحب ولا رغبة الخير لهم بمثلها ولا يؤمنون بما أنزل الله جميعه. وإذا لقوهم تظاهروا بالإيمان كذبا ورياء. وإذا خلوا إلى بعضهم عضوا أناملهم من شدة غيظهم وحقدهم عليهم، وإذا نالهم خير استاءوا وإذا أصابتهم مصيبة فرحوا.
٣ ـ تطمين للمسلمين فإنهم إذا صبروا وثبتوا في مواقفهم وراقبوا الله واتقوه لن يضرهم كيدهم وأذاهم، وبأن الله محيط بكل ما يعملون ومحبطه.
وقد تخللت الآيات فقرات تعقيبية جريا على الأسلوب القرآني : فالله يبين للمسلمين الآيات ويوضح لهم الحقائق حتى يعقلوها ويسترشدوا بها. وليميت هؤلاء الأغيار بغيظهم الذي يأكل قلوبهم. والله عليم بخفايا صدورهم.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ... ﴾ إلخ
والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت في جماعة من المسلمين كانوا يواصلون اليهود ويصادقونهم ويخالطونهم بحجة الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، كما رووا٢ أنها نزلت في جماعة من المسلمين كانوا يفعلون ذلك مع المنافقين بحجة القربى والوشائج الرحمية والقبلية. والروايات لم ترد في الصحاح، ولكن فحوى الآيات يتحمل أيا من الراويتين كما أن الواقع في المدينة في ظرف نزولها يتحمل أيا منهما أيضا. غير أن جملة ﴿ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ﴾ وجملة ﴿ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ ﴾ المماثلة بعض المماثلة للآية [ ٧٦ ] من سلسلة آيات البقرة الواردة في حق اليهود قرائن تسوغ ترجيح كونها في حق اليهود أكثر. والمتبادر أن جملة ﴿ من دونكم ﴾ تنطبق كذلك على اليهود أكثر ؛ لأن المنافقين عرب من جنس المخاطبين أولا، وكانوا يتظاهرون بالإسلام ويؤدون فرائضه حتى إنهم كانوا يشتركون في الحركات الحربية بقطع النظر عن مواقفهم المريبة. وقد رجح الطبري ذلك. وإذا صح الترجيح تكون الآيات قد احتوت صورة قوية لشدة ما كان يضمره اليهود من العداء والحقد والغيظ للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والحركة الإسلامية. ونهيا قويا متناسبا مع ذلك ومستندا إلى الواقع المشاهد الملموس عن الاستمرار في موادتهم وموالاتهم من قبل المسلمين واختلاطهم بهم. وهذه الصورة مؤيدة بآية سورة المائدة هذه :﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ﴾ [ ٨٢ ].
والآية تدل على أن الآيات الكثيرة الواردة قبلها في سورة آل عمران وسورتي الأنفال والبقرة والتي فيها بيان مواقف اليهود الكيدية والعدائية والتشكيكية نحو المسلمين لم تؤثر في فريق من المسلمين الذين يرجح أنهم المنافقون الظاهرون والمستترون ؛ حيث ظلوا يواصلونهم بالمودة ويختلطون بهم. بل لقد ظل هذا مستمرا طيلة وجود اليهود في المدينة أي إلى السنة الهجرية السادسة على ما تدل عليه آيات عديدة وردت في سور أخرى بعد هذه السورة على ما سوف يأتي.
ومع الخصوصية الزمنية للنهي والتحذير اللذين احتوتهما الآيات فإن إطلاق الأمر وإطلاق الخطاب يجعل تلقينها شاملا لكل زمان ومكان. وظاهر من التعليلات والأوصاف الواردة أن النهي والتحذير هما بالنسبة إلى الجماعات غير الإسلامية التي تقف من المسلمين مواقف الكيد والعداء والحقد والكراهية ومظاهرة الأعداء، وأنهما لا يشملان من يكون موادا مسالما كافا يده ولسانه عن المسلمين من غير المسلمين على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه :" قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن ههنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال : قد اتخذت إذا بطانة من دون المسلمين ". وعقب ابن كثير على هذا بقوله : إن الآية مع هذا الأثر دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين وإطلاع على دواخل أمورهم. وفي كتاب تاريخ عمر بن الخطاب للجوزي بعض أخبار مماثلة
أو مقاربة لما رواه ابن أبي حاتم.
ونقول تعليقا على ذلك : إن التعليلات التي احتوتها الآيات قوية الدلالة على أن النهي هو عن الذين عرفوا بعدائهم ومكرهم وكيدهم وقصدهم السوء بكل موقف ووسيلة للمسلمين. أو على الأقل الذين يغلب الظن على أنهم كذلك. أما من كانوا أو غلب الظن على أنهم كانوا غير ذلك فلا نرى في الآية دليلا على عدم جواز انتفاع المسلمين بخبراتهم المتنوعة بالإضافة إلى حسن التعايش معهم. وإذا صح ما روي عن عمر للظرف الذي كان الذميون فيه مظنة ريب وخيانة وغدر فليس من شأنه أن يكون قاعدة عامة مستمرة إلا في نطاق ذلك. ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة بكلام طويل انتهى فيه إلى النتيجة التي قررناها آنفا. والله تعالى أعلم.
ويأتي بعد هذه الآيات فصل جديد طويل في صدد وقعة أحد. وبذلك ينتهي الشطر الأول من السورة الذي كان في صدد أهل الكتاب من نصارى ويهود. والذي نستلهمه من فحوى الآيات أن ما يتصل بمناظرة وفد نجران منه ينتهي بالآية [ ٦٨ ] وليس فيه عنف وقسوة ؛ لأن الوفد قد جاء مستطلعا مناظرا ثم توادع مع النبي ورجع إلى بلاده على ما شرحناه قبل. وأن الآية [ ٦٩ ] وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٢٠ ] هي في صدد اليهود ومواقفهم الكيدية والتشكيكية والعدائية ولذلك تميزت عن الآيات السابقة لها بالعنف في التنديد والاستنكار والتحذير. وهكذا تكون سورة آل عمران كسورة البقرة قد احتوت سلسلة طويلة في حق اليهود اقتصرت على ذكر هذه المواقف دون استطراد إلى ربط حاضرهم بغابرهم إلا لماما. والسلسلتان تدلان على ما كان لليهود من أثر في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ما كان من نشاطهم الشديد في مناوأة النبي والمسلمين والإسلام، فاقتضت حكمة التنزيل أن تأتيا بالأسلوب القوي العنيف الذي جاءتا به ليكون متناسبا مع ذلك من جهة، ولفضحهم وإضعاف أثرهم من جهة أخرى.
( ٢ ) من أهلك : من بيتك.
( ٣ ) تبوئ : تعد أو تهيئ.
( ٤ ) أن تفشلا : أن تضعفا وتنخذلا.
( ٥ ) مسومين : معلمين أي بعلامة.
( ٦ ) ليقطع طرفا : ليستأصل فريقا.
( ٧ ) يكبتهم : يكبّهم على وجوههم خزيا وخيبة.
في هذه الآيات :
١ ـ تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بخروجه صباحا من بيته إلى خارج المدينة ليهيئ للمسلمين الأماكن الملائمة لقتال العدو، وبما كان في أثناء ذلك من أقوال ونوايا سمعها الله وعلم بها وهو السميع العليم، وبما كان من تردد فرقتين من المؤمنين حتى كادتا تنخذلان وترتدان مع أن الله وليهما وناصرهما ومع أن من واجب المؤمنين أن يتوكلوا عليه.
٢ ـ وتذكير للمؤمنين بما كان من نصر الله لهم في وقعة بدر في ظرف كانوا في أذلة من القلة والضعف. وحثّ لهم على تقوى الله والإخلاص له حتى ييسر لهم ما يحمدونه ويشكرونه عليه من النتائج والمواقف.
٣ ـ وتذكير آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان يوجهه إلى المسلمين من سؤال عما إذا كان لا يكفيهم أن يمدهم ربهم بثلاثة آلاف من الملائكة ينزلها لنصرهم.
٤ ـ وتوكيد تأييدي بأن ربهم سوف يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة المتميزين بعلامات خاصة إذا كرّ أعداؤهم عليهم وثبتوا وصبروا واتقوا الله.
٥ ـ واستدراك بأن الله إنما يبين أعداد الملائكة ويخبر أنه ينزلهم لتأييدهم ونصرهم لأجل تطمين قلوب المسلمين وبعث الاستبشار في نفوسهم وبأن النصر في حقيقته هو من عند الله وحده القادر على أن يهب لهم النصر على كل حال. وهو العزيز الحكيم القادر على كل شيء والغني عن كل شيء والذي يقضي بما فيه الصواب والحكمة.
٦ ـ وبيان لناحية من حكمة الله في ما دار ويدور من حروب بين المسلمين والكفار : فالله يتوخى في ذلك استئصال شأفة الكفار أو قهرهم وارتدادهم خائبين أو بعث الرغبة فيهم في الارعواء والتوبة عما هم فيه أو تعذيبهم لظلمهم وبغيهم. فالأمر في كل ذلك له والحكمة هي في ما ييسره ويسيره وليس للنبي ولا لغيره تأثير فيه. فهو الذي له ما في السموات والأرض وهو مطلق التصرف في كونه وخلقه، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٢١ ) ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٢٩ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد
وجمهور المفسرين على أن هذه الآيات والآيات العديدة الأخرى التي وردت فيما بعد إلى الآية [ ١٧٩ ] قد احتوت إشارات إلى مشاهد وظروف ونتائج وقعة أحد التي وقعت عند جبل أحد قرب المدينة بعد وقعة بدر بنحو خمسة عشر شهرا بين كفار قريش والمسلمين حيث جمع الكفار جموعهم وجاءوا لغزو المدينة وأخذ ثأر وقعة بدر.
وليس في هذه الآيات ولا فيما بعدها بسط قصصي تفصيلي لمشاهد الوقعة، وإنما هي إشارات لمواضع وشؤون اقتضتها حكمة التنزيل للعظة والعبرة شأن ما جاء في صدد وقعة بدر في سورة الأنفال وغيرهما من الوقائع وهو الأسلوب القرآني فيما ورد في القرآن من قصص ووقائع بصورة عامة.
وهذه الآيات قد احتوت شيئا من العتاب والتطمين والعظة والتسلية. وقد جاءت كمقدمة تمهيدية بين يدي المشاهد والظروف التي اقتضت الحكمة الإشارة إليها والأقوال التي قيلت والمواقف التي وقفتها فئات المسلمين بعد الوقعة. وقد نزلت هذه الآيات وسائر الآيات الأخرى التي تتصل بيوم أحد والتي تأتي بعدها بعد انتهاء المعركة.
ومما يروي في صدد ما له صلة بهذه الآيات من ظروف وأسباب الوقعة١ أن النبي لما علم بزحف كفار قريش نحو المدينة استشار الناس في الموقف، وأن كبير المنافقين عبد الله بن أبي وبعض أصحابه ومتابعيه وفريقا من المخلصين من أهل المدينة أشاروا بالتحصن في المدينة وعدم الخروج لمقابلة العدو خارجها والاستعداد لقتاله إذا هاجمهم في عقر بيوتهم، وقالوا له : ما دخل علينا أحد إلا غلب وما خرجنا منها إلا أصبنا. وأشار آخرون بالخروج للقائهم وعدم الظهور بمظهر الخائف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جنح إلى الرأي الأول بادئ الأمر غير أن أصحاب الرأي الثاني استعظموا ذلك، وأخذوا يلحون على الخروج وكانت نفوسهم قوية بما كان من نصر الله لهم في بدر. ومنهم من لم يشهد بدرا ورغبوا في أن يكون لهم حظ من الجهاد والنصر مثل ما كان لمن شهد بدرا حتى مال النبي إلى هذا الرأي فدخل بيته ولبس عدة حربه، ونادى بالناس إلى الخروج وفي وجهه شيء من الاستكراه. وقد روي فيما روى أن أصحاب الرأي الثاني ندموا على الإلحاح وما شعروا به من استكراه النبي فأعادوا الأمر إليه واعتذروا له فقال لهم : إنه لا يصح لنبي لبس عدة حربه أن يخلعها قبل أن يقاتل وأكد نداءه إلى الخروج فخرجوا في نحو ألف وكان عدد أعدائهم نحو ثلاثة آلاف. وفي الطريق انسحب عبد الله بن أبي كبير المنافقين قائلا : أطاعهم وعصاني. وإني لا أرى قتالا سيقع فانسحب معه نحو ثلاثمائة أكثرهم من المنافقين أشياعه. وكاد بطنان من الخزرج قبيلته ومن المخلصين في إيمانهم أن يتأثروا بالمنسحبين وينسحبا لولا أن ثبتهما الله وهما بنو حارثة وبنو سلمة على ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال :" فينا نزلت إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما. قال : نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل بقول الله والله وليهما " ٢.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي على الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال : لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمركم بالقتال. وباستثناء حديث جابر ليس شيء مما روي وأوردنا خلاصته واردا في الصحاح مع التنبيه على أن هناك أحاديث في الصحاح في صدد مشاهد أخرى من مشاهد يوم أحد على ما سوف نورده بعد. ومع التنبيه على أن بعض الروايات تتسق مع بعض الآيات وبعضها لا تتسق. فليس في الآيات ما يدل على أن المنافقين خرجوا ثم انسحبوا. وهناك آيات تأتي بعد تدل على أنهم لم يخرجوا مع الذين خرجوا ؛ لأن الخروج كان على خلاف رأيهم ثم احتجوا بأنه لن يقع قتال. كذلك فإنه ليس في الآيات ما يؤيد ما روي من جنوح النبي صلى الله عليه وسلم للرأي القائل بعدم الخروج أولا ثم جنوحه للرأي القائل بالخروج. ولا يؤيد ما روي من أن الكثرة كانت مع الرأي الأول. والذي نرجحه استلهاما من هذه الآيات والآيات التالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس للقاء العدو خارج المدينة فاعترض بعض المخلصين والمنافقون واقترحوا البقاء في المدينة والقتال من وراء الجدران. فعارضهم أكثر المخلصين وحبذوا الخروج وأظهروا الاستعداد للجهاد والموت في سبيل الله وهذا مما ذكر في بعض الآيات. فكان هذا من مشجعات النبي على تنفيذ عزيمته بالخروج وعدم الأخذ برأي الذين اقترحوا البقاء والقتال من وراء الجدران وكان هذا مما أغاظ المنافقين فقعدوا ولم يخرجوا، وكاد قعودهم يؤثر على بطني الخزرج المخلصين ولكن الله ثبتهما.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة فيما رووه أن الفتيان من أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يتسابقون إلى الاشتراك في الحرب. وكانوا شديدي الحرص على ذلك، وأن النبي كان يستعرضهم فيأخذ من يراه أهلا لبنيته أو وقوته ممن بلغ الخامسة عشرة. وأن منهم من كان يرفع قامته أو يقف على أصابع قدميه ليبدو طويلا، وأن منهم من قال للنبي حينما ردّه وأخذ رفيقا له : إنه أقوى منه وقادر على صرعه فأذن لهما بالمصارعة أمامه فصرع رفيقه فأخذه. وذكروا من أسمائهم رافع بن خديج وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، والمتصارعان كانا الأولين. وقد روى أصحاب الصحاح حديثا فيه شيء من ذلك عن ابن عمر قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه )٣.
وفي كل هذا صور مشرقة فيها العبرة والأسوة فأحببنا إيرادها.
والمفسرون يروون في صدد ما جاء في مدد الملائكة المذكور في الآيتين [ ١٢٤ ـ ١٢٥ ] أقوالا معزوة على بعض التابعين وتابعيهم٤. منها أن الوعدين بالثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف كانا في يوم بدر. وأن الكلام تتمة للآية [ ١٢٣ ] التي ذكر فيها هذا اليوم. ومما يروون في صدد الوعد الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أحد رؤساء مشركي الأعراب واسمه كرز وعد قريشا بالمدد يوم بدر وأن ذلك شق على المسلمين فوعدهم النبي بمدد آخر من الملائكة إذا جاء هذا المدد. وقد تمت الهزيمة على قريش فلم يأت هذا المدد. من هذه الأقوال أن الوعد بالثلاثة الآلاف خاص ببدر والوعد بالخمسة الآلاف خاص بأحد. وقد تحقق الوعد الأول فأيد الله المجاهدين بالملائكة. أما الوعد الثاني فلم يتحقق ؛ لأنه كان مشروطا بصبر المسلمين وتقواهم فلم يصبروا وتمت عليهم الهزيمة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وفي سورة الأنفال التي نزلت في ظروف يوم بدر ومشاهده هذه الآية ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ( ٩ ) ﴾ وهذا النص ينقض الروايات التي تذكر أن الوعدين أو أحدهما كانا يوم بدر على ما هو المتبادر من اختلاف العدد. وعبارة ﴿ ويأتوكم من فورهم هذا ﴾ في الآية [ ١٢٥ ] تنقض بدورها الرواية التي تذكر أن وعد الخمسة آلاف كان يوم أحد وكان مشروطا على صبرهم ؛ لأن العبارة تفيد أن الوعد كان موقوفا على أن يأتيهم العدو ثانية، ولقد روي أن قريشا بعد أن انصرفوا من أحد توقفوا في الطريق وفكروا في الكرة على المسلمين ثانية. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فندب الناس إلى لقائهم فاستجابوا له على ما كان فيهم من جروح وحزن من الهزيمة. وكان النبي نفسه مجروحا وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وقد أشير إلى ذلك في آيات تأتي هي وشرحها بعد.
والذي يتبادر لنا ويلهمه نظم السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب المسلمين إلى الخروج بشرهم بمدد من الملائكة في ثلاثة آلاف. فحكت الآية [ ١٢٤ ] ذلك ثم أعقبتها الآية [ ١٢٥ ] بشرى ربانية مباشر
في هذه الآيات :
١ ـ تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بخروجه صباحا من بيته إلى خارج المدينة ليهيئ للمسلمين الأماكن الملائمة لقتال العدو، وبما كان في أثناء ذلك من أقوال ونوايا سمعها الله وعلم بها وهو السميع العليم، وبما كان من تردد فرقتين من المؤمنين حتى كادتا تنخذلان وترتدان مع أن الله وليهما وناصرهما ومع أن من واجب المؤمنين أن يتوكلوا عليه.
٢ ـ وتذكير للمؤمنين بما كان من نصر الله لهم في وقعة بدر في ظرف كانوا في أذلة من القلة والضعف. وحثّ لهم على تقوى الله والإخلاص له حتى ييسر لهم ما يحمدونه ويشكرونه عليه من النتائج والمواقف.
٣ ـ وتذكير آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان يوجهه إلى المسلمين من سؤال عما إذا كان لا يكفيهم أن يمدهم ربهم بثلاثة آلاف من الملائكة ينزلها لنصرهم.
٤ ـ وتوكيد تأييدي بأن ربهم سوف يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة المتميزين بعلامات خاصة إذا كرّ أعداؤهم عليهم وثبتوا وصبروا واتقوا الله.
٥ ـ واستدراك بأن الله إنما يبين أعداد الملائكة ويخبر أنه ينزلهم لتأييدهم ونصرهم لأجل تطمين قلوب المسلمين وبعث الاستبشار في نفوسهم وبأن النصر في حقيقته هو من عند الله وحده القادر على أن يهب لهم النصر على كل حال. وهو العزيز الحكيم القادر على كل شيء والغني عن كل شيء والذي يقضي بما فيه الصواب والحكمة.
٦ ـ وبيان لناحية من حكمة الله في ما دار ويدور من حروب بين المسلمين والكفار : فالله يتوخى في ذلك استئصال شأفة الكفار أو قهرهم وارتدادهم خائبين أو بعث الرغبة فيهم في الارعواء والتوبة عما هم فيه أو تعذيبهم لظلمهم وبغيهم. فالأمر في كل ذلك له والحكمة هي في ما ييسره ويسيره وليس للنبي ولا لغيره تأثير فيه. فهو الذي له ما في السموات والأرض وهو مطلق التصرف في كونه وخلقه، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٢١ ) ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٢٩ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد
وجمهور المفسرين على أن هذه الآيات والآيات العديدة الأخرى التي وردت فيما بعد إلى الآية [ ١٧٩ ] قد احتوت إشارات إلى مشاهد وظروف ونتائج وقعة أحد التي وقعت عند جبل أحد قرب المدينة بعد وقعة بدر بنحو خمسة عشر شهرا بين كفار قريش والمسلمين حيث جمع الكفار جموعهم وجاءوا لغزو المدينة وأخذ ثأر وقعة بدر.
وليس في هذه الآيات ولا فيما بعدها بسط قصصي تفصيلي لمشاهد الوقعة، وإنما هي إشارات لمواضع وشؤون اقتضتها حكمة التنزيل للعظة والعبرة شأن ما جاء في صدد وقعة بدر في سورة الأنفال وغيرهما من الوقائع وهو الأسلوب القرآني فيما ورد في القرآن من قصص ووقائع بصورة عامة.
وهذه الآيات قد احتوت شيئا من العتاب والتطمين والعظة والتسلية. وقد جاءت كمقدمة تمهيدية بين يدي المشاهد والظروف التي اقتضت الحكمة الإشارة إليها والأقوال التي قيلت والمواقف التي وقفتها فئات المسلمين بعد الوقعة. وقد نزلت هذه الآيات وسائر الآيات الأخرى التي تتصل بيوم أحد والتي تأتي بعدها بعد انتهاء المعركة.
ومما يروي في صدد ما له صلة بهذه الآيات من ظروف وأسباب الوقعة١ أن النبي لما علم بزحف كفار قريش نحو المدينة استشار الناس في الموقف، وأن كبير المنافقين عبد الله بن أبي وبعض أصحابه ومتابعيه وفريقا من المخلصين من أهل المدينة أشاروا بالتحصن في المدينة وعدم الخروج لمقابلة العدو خارجها والاستعداد لقتاله إذا هاجمهم في عقر بيوتهم، وقالوا له : ما دخل علينا أحد إلا غلب وما خرجنا منها إلا أصبنا. وأشار آخرون بالخروج للقائهم وعدم الظهور بمظهر الخائف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جنح إلى الرأي الأول بادئ الأمر غير أن أصحاب الرأي الثاني استعظموا ذلك، وأخذوا يلحون على الخروج وكانت نفوسهم قوية بما كان من نصر الله لهم في بدر. ومنهم من لم يشهد بدرا ورغبوا في أن يكون لهم حظ من الجهاد والنصر مثل ما كان لمن شهد بدرا حتى مال النبي إلى هذا الرأي فدخل بيته ولبس عدة حربه، ونادى بالناس إلى الخروج وفي وجهه شيء من الاستكراه. وقد روي فيما روى أن أصحاب الرأي الثاني ندموا على الإلحاح وما شعروا به من استكراه النبي فأعادوا الأمر إليه واعتذروا له فقال لهم : إنه لا يصح لنبي لبس عدة حربه أن يخلعها قبل أن يقاتل وأكد نداءه إلى الخروج فخرجوا في نحو ألف وكان عدد أعدائهم نحو ثلاثة آلاف. وفي الطريق انسحب عبد الله بن أبي كبير المنافقين قائلا : أطاعهم وعصاني. وإني لا أرى قتالا سيقع فانسحب معه نحو ثلاثمائة أكثرهم من المنافقين أشياعه. وكاد بطنان من الخزرج قبيلته ومن المخلصين في إيمانهم أن يتأثروا بالمنسحبين وينسحبا لولا أن ثبتهما الله وهما بنو حارثة وبنو سلمة على ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال :" فينا نزلت إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما. قال : نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل بقول الله والله وليهما " ٢.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي على الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال : لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمركم بالقتال. وباستثناء حديث جابر ليس شيء مما روي وأوردنا خلاصته واردا في الصحاح مع التنبيه على أن هناك أحاديث في الصحاح في صدد مشاهد أخرى من مشاهد يوم أحد على ما سوف نورده بعد. ومع التنبيه على أن بعض الروايات تتسق مع بعض الآيات وبعضها لا تتسق. فليس في الآيات ما يدل على أن المنافقين خرجوا ثم انسحبوا. وهناك آيات تأتي بعد تدل على أنهم لم يخرجوا مع الذين خرجوا ؛ لأن الخروج كان على خلاف رأيهم ثم احتجوا بأنه لن يقع قتال. كذلك فإنه ليس في الآيات ما يؤيد ما روي من جنوح النبي صلى الله عليه وسلم للرأي القائل بعدم الخروج أولا ثم جنوحه للرأي القائل بالخروج. ولا يؤيد ما روي من أن الكثرة كانت مع الرأي الأول. والذي نرجحه استلهاما من هذه الآيات والآيات التالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس للقاء العدو خارج المدينة فاعترض بعض المخلصين والمنافقون واقترحوا البقاء في المدينة والقتال من وراء الجدران. فعارضهم أكثر المخلصين وحبذوا الخروج وأظهروا الاستعداد للجهاد والموت في سبيل الله وهذا مما ذكر في بعض الآيات. فكان هذا من مشجعات النبي على تنفيذ عزيمته بالخروج وعدم الأخذ برأي الذين اقترحوا البقاء والقتال من وراء الجدران وكان هذا مما أغاظ المنافقين فقعدوا ولم يخرجوا، وكاد قعودهم يؤثر على بطني الخزرج المخلصين ولكن الله ثبتهما.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة فيما رووه أن الفتيان من أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يتسابقون إلى الاشتراك في الحرب. وكانوا شديدي الحرص على ذلك، وأن النبي كان يستعرضهم فيأخذ من يراه أهلا لبنيته أو وقوته ممن بلغ الخامسة عشرة. وأن منهم من كان يرفع قامته أو يقف على أصابع قدميه ليبدو طويلا، وأن منهم من قال للنبي حينما ردّه وأخذ رفيقا له : إنه أقوى منه وقادر على صرعه فأذن لهما بالمصارعة أمامه فصرع رفيقه فأخذه. وذكروا من أسمائهم رافع بن خديج وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، والمتصارعان كانا الأولين. وقد روى أصحاب الصحاح حديثا فيه شيء من ذلك عن ابن عمر قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه )٣.
وفي كل هذا صور مشرقة فيها العبرة والأسوة فأحببنا إيرادها.
والمفسرون يروون في صدد ما جاء في مدد الملائكة المذكور في الآيتين [ ١٢٤ ـ ١٢٥ ] أقوالا معزوة على بعض التابعين وتابعيهم٤. منها أن الوعدين بالثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف كانا في يوم بدر. وأن الكلام تتمة للآية [ ١٢٣ ] التي ذكر فيها هذا اليوم. ومما يروون في صدد الوعد الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أحد رؤساء مشركي الأعراب واسمه كرز وعد قريشا بالمدد يوم بدر وأن ذلك شق على المسلمين فوعدهم النبي بمدد آخر من الملائكة إذا جاء هذا المدد. وقد تمت الهزيمة على قريش فلم يأت هذا المدد. من هذه الأقوال أن الوعد بالثلاثة الآلاف خاص ببدر والوعد بالخمسة الآلاف خاص بأحد. وقد تحقق الوعد الأول فأيد الله المجاهدين بالملائكة. أما الوعد الثاني فلم يتحقق ؛ لأنه كان مشروطا بصبر المسلمين وتقواهم فلم يصبروا وتمت عليهم الهزيمة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وفي سورة الأنفال التي نزلت في ظروف يوم بدر ومشاهده هذه الآية ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ( ٩ ) ﴾ وهذا النص ينقض الروايات التي تذكر أن الوعدين أو أحدهما كانا يوم بدر على ما هو المتبادر من اختلاف العدد. وعبارة ﴿ ويأتوكم من فورهم هذا ﴾ في الآية [ ١٢٥ ] تنقض بدورها الرواية التي تذكر أن وعد الخمسة آلاف كان يوم أحد وكان مشروطا على صبرهم ؛ لأن العبارة تفيد أن الوعد كان موقوفا على أن يأتيهم العدو ثانية، ولقد روي أن قريشا بعد أن انصرفوا من أحد توقفوا في الطريق وفكروا في الكرة على المسلمين ثانية. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فندب الناس إلى لقائهم فاستجابوا له على ما كان فيهم من جروح وحزن من الهزيمة. وكان النبي نفسه مجروحا وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وقد أشير إلى ذلك في آيات تأتي هي وشرحها بعد.
والذي يتبادر لنا ويلهمه نظم السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب المسلمين إلى الخروج بشرهم بمدد من الملائكة في ثلاثة آلاف. فحكت الآية [ ١٢٤ ] ذلك ثم أعقبتها الآية [ ١٢٥ ] بشرى ربانية مباشر
في هذه الآيات :
١ ـ تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بخروجه صباحا من بيته إلى خارج المدينة ليهيئ للمسلمين الأماكن الملائمة لقتال العدو، وبما كان في أثناء ذلك من أقوال ونوايا سمعها الله وعلم بها وهو السميع العليم، وبما كان من تردد فرقتين من المؤمنين حتى كادتا تنخذلان وترتدان مع أن الله وليهما وناصرهما ومع أن من واجب المؤمنين أن يتوكلوا عليه.
٢ ـ وتذكير للمؤمنين بما كان من نصر الله لهم في وقعة بدر في ظرف كانوا في أذلة من القلة والضعف. وحثّ لهم على تقوى الله والإخلاص له حتى ييسر لهم ما يحمدونه ويشكرونه عليه من النتائج والمواقف.
٣ ـ وتذكير آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان يوجهه إلى المسلمين من سؤال عما إذا كان لا يكفيهم أن يمدهم ربهم بثلاثة آلاف من الملائكة ينزلها لنصرهم.
٤ ـ وتوكيد تأييدي بأن ربهم سوف يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة المتميزين بعلامات خاصة إذا كرّ أعداؤهم عليهم وثبتوا وصبروا واتقوا الله.
٥ ـ واستدراك بأن الله إنما يبين أعداد الملائكة ويخبر أنه ينزلهم لتأييدهم ونصرهم لأجل تطمين قلوب المسلمين وبعث الاستبشار في نفوسهم وبأن النصر في حقيقته هو من عند الله وحده القادر على أن يهب لهم النصر على كل حال. وهو العزيز الحكيم القادر على كل شيء والغني عن كل شيء والذي يقضي بما فيه الصواب والحكمة.
٦ ـ وبيان لناحية من حكمة الله في ما دار ويدور من حروب بين المسلمين والكفار : فالله يتوخى في ذلك استئصال شأفة الكفار أو قهرهم وارتدادهم خائبين أو بعث الرغبة فيهم في الارعواء والتوبة عما هم فيه أو تعذيبهم لظلمهم وبغيهم. فالأمر في كل ذلك له والحكمة هي في ما ييسره ويسيره وليس للنبي ولا لغيره تأثير فيه. فهو الذي له ما في السموات والأرض وهو مطلق التصرف في كونه وخلقه، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٢١ ) ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٢٩ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد
وجمهور المفسرين على أن هذه الآيات والآيات العديدة الأخرى التي وردت فيما بعد إلى الآية [ ١٧٩ ] قد احتوت إشارات إلى مشاهد وظروف ونتائج وقعة أحد التي وقعت عند جبل أحد قرب المدينة بعد وقعة بدر بنحو خمسة عشر شهرا بين كفار قريش والمسلمين حيث جمع الكفار جموعهم وجاءوا لغزو المدينة وأخذ ثأر وقعة بدر.
وليس في هذه الآيات ولا فيما بعدها بسط قصصي تفصيلي لمشاهد الوقعة، وإنما هي إشارات لمواضع وشؤون اقتضتها حكمة التنزيل للعظة والعبرة شأن ما جاء في صدد وقعة بدر في سورة الأنفال وغيرهما من الوقائع وهو الأسلوب القرآني فيما ورد في القرآن من قصص ووقائع بصورة عامة.
وهذه الآيات قد احتوت شيئا من العتاب والتطمين والعظة والتسلية. وقد جاءت كمقدمة تمهيدية بين يدي المشاهد والظروف التي اقتضت الحكمة الإشارة إليها والأقوال التي قيلت والمواقف التي وقفتها فئات المسلمين بعد الوقعة. وقد نزلت هذه الآيات وسائر الآيات الأخرى التي تتصل بيوم أحد والتي تأتي بعدها بعد انتهاء المعركة.
ومما يروي في صدد ما له صلة بهذه الآيات من ظروف وأسباب الوقعة١ أن النبي لما علم بزحف كفار قريش نحو المدينة استشار الناس في الموقف، وأن كبير المنافقين عبد الله بن أبي وبعض أصحابه ومتابعيه وفريقا من المخلصين من أهل المدينة أشاروا بالتحصن في المدينة وعدم الخروج لمقابلة العدو خارجها والاستعداد لقتاله إذا هاجمهم في عقر بيوتهم، وقالوا له : ما دخل علينا أحد إلا غلب وما خرجنا منها إلا أصبنا. وأشار آخرون بالخروج للقائهم وعدم الظهور بمظهر الخائف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جنح إلى الرأي الأول بادئ الأمر غير أن أصحاب الرأي الثاني استعظموا ذلك، وأخذوا يلحون على الخروج وكانت نفوسهم قوية بما كان من نصر الله لهم في بدر. ومنهم من لم يشهد بدرا ورغبوا في أن يكون لهم حظ من الجهاد والنصر مثل ما كان لمن شهد بدرا حتى مال النبي إلى هذا الرأي فدخل بيته ولبس عدة حربه، ونادى بالناس إلى الخروج وفي وجهه شيء من الاستكراه. وقد روي فيما روى أن أصحاب الرأي الثاني ندموا على الإلحاح وما شعروا به من استكراه النبي فأعادوا الأمر إليه واعتذروا له فقال لهم : إنه لا يصح لنبي لبس عدة حربه أن يخلعها قبل أن يقاتل وأكد نداءه إلى الخروج فخرجوا في نحو ألف وكان عدد أعدائهم نحو ثلاثة آلاف. وفي الطريق انسحب عبد الله بن أبي كبير المنافقين قائلا : أطاعهم وعصاني. وإني لا أرى قتالا سيقع فانسحب معه نحو ثلاثمائة أكثرهم من المنافقين أشياعه. وكاد بطنان من الخزرج قبيلته ومن المخلصين في إيمانهم أن يتأثروا بالمنسحبين وينسحبا لولا أن ثبتهما الله وهما بنو حارثة وبنو سلمة على ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال :" فينا نزلت إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما. قال : نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل بقول الله والله وليهما " ٢.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي على الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال : لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمركم بالقتال. وباستثناء حديث جابر ليس شيء مما روي وأوردنا خلاصته واردا في الصحاح مع التنبيه على أن هناك أحاديث في الصحاح في صدد مشاهد أخرى من مشاهد يوم أحد على ما سوف نورده بعد. ومع التنبيه على أن بعض الروايات تتسق مع بعض الآيات وبعضها لا تتسق. فليس في الآيات ما يدل على أن المنافقين خرجوا ثم انسحبوا. وهناك آيات تأتي بعد تدل على أنهم لم يخرجوا مع الذين خرجوا ؛ لأن الخروج كان على خلاف رأيهم ثم احتجوا بأنه لن يقع قتال. كذلك فإنه ليس في الآيات ما يؤيد ما روي من جنوح النبي صلى الله عليه وسلم للرأي القائل بعدم الخروج أولا ثم جنوحه للرأي القائل بالخروج. ولا يؤيد ما روي من أن الكثرة كانت مع الرأي الأول. والذي نرجحه استلهاما من هذه الآيات والآيات التالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس للقاء العدو خارج المدينة فاعترض بعض المخلصين والمنافقون واقترحوا البقاء في المدينة والقتال من وراء الجدران. فعارضهم أكثر المخلصين وحبذوا الخروج وأظهروا الاستعداد للجهاد والموت في سبيل الله وهذا مما ذكر في بعض الآيات. فكان هذا من مشجعات النبي على تنفيذ عزيمته بالخروج وعدم الأخذ برأي الذين اقترحوا البقاء والقتال من وراء الجدران وكان هذا مما أغاظ المنافقين فقعدوا ولم يخرجوا، وكاد قعودهم يؤثر على بطني الخزرج المخلصين ولكن الله ثبتهما.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة فيما رووه أن الفتيان من أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يتسابقون إلى الاشتراك في الحرب. وكانوا شديدي الحرص على ذلك، وأن النبي كان يستعرضهم فيأخذ من يراه أهلا لبنيته أو وقوته ممن بلغ الخامسة عشرة. وأن منهم من كان يرفع قامته أو يقف على أصابع قدميه ليبدو طويلا، وأن منهم من قال للنبي حينما ردّه وأخذ رفيقا له : إنه أقوى منه وقادر على صرعه فأذن لهما بالمصارعة أمامه فصرع رفيقه فأخذه. وذكروا من أسمائهم رافع بن خديج وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، والمتصارعان كانا الأولين. وقد روى أصحاب الصحاح حديثا فيه شيء من ذلك عن ابن عمر قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه )٣.
وفي كل هذا صور مشرقة فيها العبرة والأسوة فأحببنا إيرادها.
والمفسرون يروون في صدد ما جاء في مدد الملائكة المذكور في الآيتين [ ١٢٤ ـ ١٢٥ ] أقوالا معزوة على بعض التابعين وتابعيهم٤. منها أن الوعدين بالثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف كانا في يوم بدر. وأن الكلام تتمة للآية [ ١٢٣ ] التي ذكر فيها هذا اليوم. ومما يروون في صدد الوعد الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أحد رؤساء مشركي الأعراب واسمه كرز وعد قريشا بالمدد يوم بدر وأن ذلك شق على المسلمين فوعدهم النبي بمدد آخر من الملائكة إذا جاء هذا المدد. وقد تمت الهزيمة على قريش فلم يأت هذا المدد. من هذه الأقوال أن الوعد بالثلاثة الآلاف خاص ببدر والوعد بالخمسة الآلاف خاص بأحد. وقد تحقق الوعد الأول فأيد الله المجاهدين بالملائكة. أما الوعد الثاني فلم يتحقق ؛ لأنه كان مشروطا بصبر المسلمين وتقواهم فلم يصبروا وتمت عليهم الهزيمة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وفي سورة الأنفال التي نزلت في ظروف يوم بدر ومشاهده هذه الآية ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ( ٩ ) ﴾ وهذا النص ينقض الروايات التي تذكر أن الوعدين أو أحدهما كانا يوم بدر على ما هو المتبادر من اختلاف العدد. وعبارة ﴿ ويأتوكم من فورهم هذا ﴾ في الآية [ ١٢٥ ] تنقض بدورها الرواية التي تذكر أن وعد الخمسة آلاف كان يوم أحد وكان مشروطا على صبرهم ؛ لأن العبارة تفيد أن الوعد كان موقوفا على أن يأتيهم العدو ثانية، ولقد روي أن قريشا بعد أن انصرفوا من أحد توقفوا في الطريق وفكروا في الكرة على المسلمين ثانية. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فندب الناس إلى لقائهم فاستجابوا له على ما كان فيهم من جروح وحزن من الهزيمة. وكان النبي نفسه مجروحا وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وقد أشير إلى ذلك في آيات تأتي هي وشرحها بعد.
والذي يتبادر لنا ويلهمه نظم السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب المسلمين إلى الخروج بشرهم بمدد من الملائكة في ثلاثة آلاف. فحكت الآية [ ١٢٤ ] ذلك ثم أعقبتها الآية [ ١٢٥ ] بشرى ربانية مباشر
في هذه الآيات :
١ ـ تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بخروجه صباحا من بيته إلى خارج المدينة ليهيئ للمسلمين الأماكن الملائمة لقتال العدو، وبما كان في أثناء ذلك من أقوال ونوايا سمعها الله وعلم بها وهو السميع العليم، وبما كان من تردد فرقتين من المؤمنين حتى كادتا تنخذلان وترتدان مع أن الله وليهما وناصرهما ومع أن من واجب المؤمنين أن يتوكلوا عليه.
٢ ـ وتذكير للمؤمنين بما كان من نصر الله لهم في وقعة بدر في ظرف كانوا في أذلة من القلة والضعف. وحثّ لهم على تقوى الله والإخلاص له حتى ييسر لهم ما يحمدونه ويشكرونه عليه من النتائج والمواقف.
٣ ـ وتذكير آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان يوجهه إلى المسلمين من سؤال عما إذا كان لا يكفيهم أن يمدهم ربهم بثلاثة آلاف من الملائكة ينزلها لنصرهم.
٤ ـ وتوكيد تأييدي بأن ربهم سوف يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة المتميزين بعلامات خاصة إذا كرّ أعداؤهم عليهم وثبتوا وصبروا واتقوا الله.
٥ ـ واستدراك بأن الله إنما يبين أعداد الملائكة ويخبر أنه ينزلهم لتأييدهم ونصرهم لأجل تطمين قلوب المسلمين وبعث الاستبشار في نفوسهم وبأن النصر في حقيقته هو من عند الله وحده القادر على أن يهب لهم النصر على كل حال. وهو العزيز الحكيم القادر على كل شيء والغني عن كل شيء والذي يقضي بما فيه الصواب والحكمة.
٦ ـ وبيان لناحية من حكمة الله في ما دار ويدور من حروب بين المسلمين والكفار : فالله يتوخى في ذلك استئصال شأفة الكفار أو قهرهم وارتدادهم خائبين أو بعث الرغبة فيهم في الارعواء والتوبة عما هم فيه أو تعذيبهم لظلمهم وبغيهم. فالأمر في كل ذلك له والحكمة هي في ما ييسره ويسيره وليس للنبي ولا لغيره تأثير فيه. فهو الذي له ما في السموات والأرض وهو مطلق التصرف في كونه وخلقه، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٢١ ) ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٢٩ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد
وجمهور المفسرين على أن هذه الآيات والآيات العديدة الأخرى التي وردت فيما بعد إلى الآية [ ١٧٩ ] قد احتوت إشارات إلى مشاهد وظروف ونتائج وقعة أحد التي وقعت عند جبل أحد قرب المدينة بعد وقعة بدر بنحو خمسة عشر شهرا بين كفار قريش والمسلمين حيث جمع الكفار جموعهم وجاءوا لغزو المدينة وأخذ ثأر وقعة بدر.
وليس في هذه الآيات ولا فيما بعدها بسط قصصي تفصيلي لمشاهد الوقعة، وإنما هي إشارات لمواضع وشؤون اقتضتها حكمة التنزيل للعظة والعبرة شأن ما جاء في صدد وقعة بدر في سورة الأنفال وغيرهما من الوقائع وهو الأسلوب القرآني فيما ورد في القرآن من قصص ووقائع بصورة عامة.
وهذه الآيات قد احتوت شيئا من العتاب والتطمين والعظة والتسلية. وقد جاءت كمقدمة تمهيدية بين يدي المشاهد والظروف التي اقتضت الحكمة الإشارة إليها والأقوال التي قيلت والمواقف التي وقفتها فئات المسلمين بعد الوقعة. وقد نزلت هذه الآيات وسائر الآيات الأخرى التي تتصل بيوم أحد والتي تأتي بعدها بعد انتهاء المعركة.
ومما يروي في صدد ما له صلة بهذه الآيات من ظروف وأسباب الوقعة١ أن النبي لما علم بزحف كفار قريش نحو المدينة استشار الناس في الموقف، وأن كبير المنافقين عبد الله بن أبي وبعض أصحابه ومتابعيه وفريقا من المخلصين من أهل المدينة أشاروا بالتحصن في المدينة وعدم الخروج لمقابلة العدو خارجها والاستعداد لقتاله إذا هاجمهم في عقر بيوتهم، وقالوا له : ما دخل علينا أحد إلا غلب وما خرجنا منها إلا أصبنا. وأشار آخرون بالخروج للقائهم وعدم الظهور بمظهر الخائف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جنح إلى الرأي الأول بادئ الأمر غير أن أصحاب الرأي الثاني استعظموا ذلك، وأخذوا يلحون على الخروج وكانت نفوسهم قوية بما كان من نصر الله لهم في بدر. ومنهم من لم يشهد بدرا ورغبوا في أن يكون لهم حظ من الجهاد والنصر مثل ما كان لمن شهد بدرا حتى مال النبي إلى هذا الرأي فدخل بيته ولبس عدة حربه، ونادى بالناس إلى الخروج وفي وجهه شيء من الاستكراه. وقد روي فيما روى أن أصحاب الرأي الثاني ندموا على الإلحاح وما شعروا به من استكراه النبي فأعادوا الأمر إليه واعتذروا له فقال لهم : إنه لا يصح لنبي لبس عدة حربه أن يخلعها قبل أن يقاتل وأكد نداءه إلى الخروج فخرجوا في نحو ألف وكان عدد أعدائهم نحو ثلاثة آلاف. وفي الطريق انسحب عبد الله بن أبي كبير المنافقين قائلا : أطاعهم وعصاني. وإني لا أرى قتالا سيقع فانسحب معه نحو ثلاثمائة أكثرهم من المنافقين أشياعه. وكاد بطنان من الخزرج قبيلته ومن المخلصين في إيمانهم أن يتأثروا بالمنسحبين وينسحبا لولا أن ثبتهما الله وهما بنو حارثة وبنو سلمة على ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال :" فينا نزلت إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما. قال : نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل بقول الله والله وليهما " ٢.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي على الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال : لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمركم بالقتال. وباستثناء حديث جابر ليس شيء مما روي وأوردنا خلاصته واردا في الصحاح مع التنبيه على أن هناك أحاديث في الصحاح في صدد مشاهد أخرى من مشاهد يوم أحد على ما سوف نورده بعد. ومع التنبيه على أن بعض الروايات تتسق مع بعض الآيات وبعضها لا تتسق. فليس في الآيات ما يدل على أن المنافقين خرجوا ثم انسحبوا. وهناك آيات تأتي بعد تدل على أنهم لم يخرجوا مع الذين خرجوا ؛ لأن الخروج كان على خلاف رأيهم ثم احتجوا بأنه لن يقع قتال. كذلك فإنه ليس في الآيات ما يؤيد ما روي من جنوح النبي صلى الله عليه وسلم للرأي القائل بعدم الخروج أولا ثم جنوحه للرأي القائل بالخروج. ولا يؤيد ما روي من أن الكثرة كانت مع الرأي الأول. والذي نرجحه استلهاما من هذه الآيات والآيات التالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس للقاء العدو خارج المدينة فاعترض بعض المخلصين والمنافقون واقترحوا البقاء في المدينة والقتال من وراء الجدران. فعارضهم أكثر المخلصين وحبذوا الخروج وأظهروا الاستعداد للجهاد والموت في سبيل الله وهذا مما ذكر في بعض الآيات. فكان هذا من مشجعات النبي على تنفيذ عزيمته بالخروج وعدم الأخذ برأي الذين اقترحوا البقاء والقتال من وراء الجدران وكان هذا مما أغاظ المنافقين فقعدوا ولم يخرجوا، وكاد قعودهم يؤثر على بطني الخزرج المخلصين ولكن الله ثبتهما.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة فيما رووه أن الفتيان من أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يتسابقون إلى الاشتراك في الحرب. وكانوا شديدي الحرص على ذلك، وأن النبي كان يستعرضهم فيأخذ من يراه أهلا لبنيته أو وقوته ممن بلغ الخامسة عشرة. وأن منهم من كان يرفع قامته أو يقف على أصابع قدميه ليبدو طويلا، وأن منهم من قال للنبي حينما ردّه وأخذ رفيقا له : إنه أقوى منه وقادر على صرعه فأذن لهما بالمصارعة أمامه فصرع رفيقه فأخذه. وذكروا من أسمائهم رافع بن خديج وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، والمتصارعان كانا الأولين. وقد روى أصحاب الصحاح حديثا فيه شيء من ذلك عن ابن عمر قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه )٣.
وفي كل هذا صور مشرقة فيها العبرة والأسوة فأحببنا إيرادها.
والمفسرون يروون في صدد ما جاء في مدد الملائكة المذكور في الآيتين [ ١٢٤ ـ ١٢٥ ] أقوالا معزوة على بعض التابعين وتابعيهم٤. منها أن الوعدين بالثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف كانا في يوم بدر. وأن الكلام تتمة للآية [ ١٢٣ ] التي ذكر فيها هذا اليوم. ومما يروون في صدد الوعد الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أحد رؤساء مشركي الأعراب واسمه كرز وعد قريشا بالمدد يوم بدر وأن ذلك شق على المسلمين فوعدهم النبي بمدد آخر من الملائكة إذا جاء هذا المدد. وقد تمت الهزيمة على قريش فلم يأت هذا المدد. من هذه الأقوال أن الوعد بالثلاثة الآلاف خاص ببدر والوعد بالخمسة الآلاف خاص بأحد. وقد تحقق الوعد الأول فأيد الله المجاهدين بالملائكة. أما الوعد الثاني فلم يتحقق ؛ لأنه كان مشروطا بصبر المسلمين وتقواهم فلم يصبروا وتمت عليهم الهزيمة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وفي سورة الأنفال التي نزلت في ظروف يوم بدر ومشاهده هذه الآية ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ( ٩ ) ﴾ وهذا النص ينقض الروايات التي تذكر أن الوعدين أو أحدهما كانا يوم بدر على ما هو المتبادر من اختلاف العدد. وعبارة ﴿ ويأتوكم من فورهم هذا ﴾ في الآية [ ١٢٥ ] تنقض بدورها الرواية التي تذكر أن وعد الخمسة آلاف كان يوم أحد وكان مشروطا على صبرهم ؛ لأن العبارة تفيد أن الوعد كان موقوفا على أن يأتيهم العدو ثانية، ولقد روي أن قريشا بعد أن انصرفوا من أحد توقفوا في الطريق وفكروا في الكرة على المسلمين ثانية. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فندب الناس إلى لقائهم فاستجابوا له على ما كان فيهم من جروح وحزن من الهزيمة. وكان النبي نفسه مجروحا وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وقد أشير إلى ذلك في آيات تأتي هي وشرحها بعد.
والذي يتبادر لنا ويلهمه نظم السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب المسلمين إلى الخروج بشرهم بمدد من الملائكة في ثلاثة آلاف. فحكت الآية [ ١٢٤ ] ذلك ثم أعقبتها الآية [ ١٢٥ ] بشرى ربانية مباشر
في هذه الآيات :
١ ـ تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بخروجه صباحا من بيته إلى خارج المدينة ليهيئ للمسلمين الأماكن الملائمة لقتال العدو، وبما كان في أثناء ذلك من أقوال ونوايا سمعها الله وعلم بها وهو السميع العليم، وبما كان من تردد فرقتين من المؤمنين حتى كادتا تنخذلان وترتدان مع أن الله وليهما وناصرهما ومع أن من واجب المؤمنين أن يتوكلوا عليه.
٢ ـ وتذكير للمؤمنين بما كان من نصر الله لهم في وقعة بدر في ظرف كانوا في أذلة من القلة والضعف. وحثّ لهم على تقوى الله والإخلاص له حتى ييسر لهم ما يحمدونه ويشكرونه عليه من النتائج والمواقف.
٣ ـ وتذكير آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان يوجهه إلى المسلمين من سؤال عما إذا كان لا يكفيهم أن يمدهم ربهم بثلاثة آلاف من الملائكة ينزلها لنصرهم.
٤ ـ وتوكيد تأييدي بأن ربهم سوف يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة المتميزين بعلامات خاصة إذا كرّ أعداؤهم عليهم وثبتوا وصبروا واتقوا الله.
٥ ـ واستدراك بأن الله إنما يبين أعداد الملائكة ويخبر أنه ينزلهم لتأييدهم ونصرهم لأجل تطمين قلوب المسلمين وبعث الاستبشار في نفوسهم وبأن النصر في حقيقته هو من عند الله وحده القادر على أن يهب لهم النصر على كل حال. وهو العزيز الحكيم القادر على كل شيء والغني عن كل شيء والذي يقضي بما فيه الصواب والحكمة.
٦ ـ وبيان لناحية من حكمة الله في ما دار ويدور من حروب بين المسلمين والكفار : فالله يتوخى في ذلك استئصال شأفة الكفار أو قهرهم وارتدادهم خائبين أو بعث الرغبة فيهم في الارعواء والتوبة عما هم فيه أو تعذيبهم لظلمهم وبغيهم. فالأمر في كل ذلك له والحكمة هي في ما ييسره ويسيره وليس للنبي ولا لغيره تأثير فيه. فهو الذي له ما في السموات والأرض وهو مطلق التصرف في كونه وخلقه، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٢١ ) ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٢٩ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد
وجمهور المفسرين على أن هذه الآيات والآيات العديدة الأخرى التي وردت فيما بعد إلى الآية [ ١٧٩ ] قد احتوت إشارات إلى مشاهد وظروف ونتائج وقعة أحد التي وقعت عند جبل أحد قرب المدينة بعد وقعة بدر بنحو خمسة عشر شهرا بين كفار قريش والمسلمين حيث جمع الكفار جموعهم وجاءوا لغزو المدينة وأخذ ثأر وقعة بدر.
وليس في هذه الآيات ولا فيما بعدها بسط قصصي تفصيلي لمشاهد الوقعة، وإنما هي إشارات لمواضع وشؤون اقتضتها حكمة التنزيل للعظة والعبرة شأن ما جاء في صدد وقعة بدر في سورة الأنفال وغيرهما من الوقائع وهو الأسلوب القرآني فيما ورد في القرآن من قصص ووقائع بصورة عامة.
وهذه الآيات قد احتوت شيئا من العتاب والتطمين والعظة والتسلية. وقد جاءت كمقدمة تمهيدية بين يدي المشاهد والظروف التي اقتضت الحكمة الإشارة إليها والأقوال التي قيلت والمواقف التي وقفتها فئات المسلمين بعد الوقعة. وقد نزلت هذه الآيات وسائر الآيات الأخرى التي تتصل بيوم أحد والتي تأتي بعدها بعد انتهاء المعركة.
ومما يروي في صدد ما له صلة بهذه الآيات من ظروف وأسباب الوقعة١ أن النبي لما علم بزحف كفار قريش نحو المدينة استشار الناس في الموقف، وأن كبير المنافقين عبد الله بن أبي وبعض أصحابه ومتابعيه وفريقا من المخلصين من أهل المدينة أشاروا بالتحصن في المدينة وعدم الخروج لمقابلة العدو خارجها والاستعداد لقتاله إذا هاجمهم في عقر بيوتهم، وقالوا له : ما دخل علينا أحد إلا غلب وما خرجنا منها إلا أصبنا. وأشار آخرون بالخروج للقائهم وعدم الظهور بمظهر الخائف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جنح إلى الرأي الأول بادئ الأمر غير أن أصحاب الرأي الثاني استعظموا ذلك، وأخذوا يلحون على الخروج وكانت نفوسهم قوية بما كان من نصر الله لهم في بدر. ومنهم من لم يشهد بدرا ورغبوا في أن يكون لهم حظ من الجهاد والنصر مثل ما كان لمن شهد بدرا حتى مال النبي إلى هذا الرأي فدخل بيته ولبس عدة حربه، ونادى بالناس إلى الخروج وفي وجهه شيء من الاستكراه. وقد روي فيما روى أن أصحاب الرأي الثاني ندموا على الإلحاح وما شعروا به من استكراه النبي فأعادوا الأمر إليه واعتذروا له فقال لهم : إنه لا يصح لنبي لبس عدة حربه أن يخلعها قبل أن يقاتل وأكد نداءه إلى الخروج فخرجوا في نحو ألف وكان عدد أعدائهم نحو ثلاثة آلاف. وفي الطريق انسحب عبد الله بن أبي كبير المنافقين قائلا : أطاعهم وعصاني. وإني لا أرى قتالا سيقع فانسحب معه نحو ثلاثمائة أكثرهم من المنافقين أشياعه. وكاد بطنان من الخزرج قبيلته ومن المخلصين في إيمانهم أن يتأثروا بالمنسحبين وينسحبا لولا أن ثبتهما الله وهما بنو حارثة وبنو سلمة على ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال :" فينا نزلت إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما. قال : نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل بقول الله والله وليهما " ٢.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي على الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال : لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمركم بالقتال. وباستثناء حديث جابر ليس شيء مما روي وأوردنا خلاصته واردا في الصحاح مع التنبيه على أن هناك أحاديث في الصحاح في صدد مشاهد أخرى من مشاهد يوم أحد على ما سوف نورده بعد. ومع التنبيه على أن بعض الروايات تتسق مع بعض الآيات وبعضها لا تتسق. فليس في الآيات ما يدل على أن المنافقين خرجوا ثم انسحبوا. وهناك آيات تأتي بعد تدل على أنهم لم يخرجوا مع الذين خرجوا ؛ لأن الخروج كان على خلاف رأيهم ثم احتجوا بأنه لن يقع قتال. كذلك فإنه ليس في الآيات ما يؤيد ما روي من جنوح النبي صلى الله عليه وسلم للرأي القائل بعدم الخروج أولا ثم جنوحه للرأي القائل بالخروج. ولا يؤيد ما روي من أن الكثرة كانت مع الرأي الأول. والذي نرجحه استلهاما من هذه الآيات والآيات التالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس للقاء العدو خارج المدينة فاعترض بعض المخلصين والمنافقون واقترحوا البقاء في المدينة والقتال من وراء الجدران. فعارضهم أكثر المخلصين وحبذوا الخروج وأظهروا الاستعداد للجهاد والموت في سبيل الله وهذا مما ذكر في بعض الآيات. فكان هذا من مشجعات النبي على تنفيذ عزيمته بالخروج وعدم الأخذ برأي الذين اقترحوا البقاء والقتال من وراء الجدران وكان هذا مما أغاظ المنافقين فقعدوا ولم يخرجوا، وكاد قعودهم يؤثر على بطني الخزرج المخلصين ولكن الله ثبتهما.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة فيما رووه أن الفتيان من أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يتسابقون إلى الاشتراك في الحرب. وكانوا شديدي الحرص على ذلك، وأن النبي كان يستعرضهم فيأخذ من يراه أهلا لبنيته أو وقوته ممن بلغ الخامسة عشرة. وأن منهم من كان يرفع قامته أو يقف على أصابع قدميه ليبدو طويلا، وأن منهم من قال للنبي حينما ردّه وأخذ رفيقا له : إنه أقوى منه وقادر على صرعه فأذن لهما بالمصارعة أمامه فصرع رفيقه فأخذه. وذكروا من أسمائهم رافع بن خديج وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، والمتصارعان كانا الأولين. وقد روى أصحاب الصحاح حديثا فيه شيء من ذلك عن ابن عمر قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه )٣.
وفي كل هذا صور مشرقة فيها العبرة والأسوة فأحببنا إيرادها.
والمفسرون يروون في صدد ما جاء في مدد الملائكة المذكور في الآيتين [ ١٢٤ ـ ١٢٥ ] أقوالا معزوة على بعض التابعين وتابعيهم٤. منها أن الوعدين بالثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف كانا في يوم بدر. وأن الكلام تتمة للآية [ ١٢٣ ] التي ذكر فيها هذا اليوم. ومما يروون في صدد الوعد الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أحد رؤساء مشركي الأعراب واسمه كرز وعد قريشا بالمدد يوم بدر وأن ذلك شق على المسلمين فوعدهم النبي بمدد آخر من الملائكة إذا جاء هذا المدد. وقد تمت الهزيمة على قريش فلم يأت هذا المدد. من هذه الأقوال أن الوعد بالثلاثة الآلاف خاص ببدر والوعد بالخمسة الآلاف خاص بأحد. وقد تحقق الوعد الأول فأيد الله المجاهدين بالملائكة. أما الوعد الثاني فلم يتحقق ؛ لأنه كان مشروطا بصبر المسلمين وتقواهم فلم يصبروا وتمت عليهم الهزيمة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وفي سورة الأنفال التي نزلت في ظروف يوم بدر ومشاهده هذه الآية ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ( ٩ ) ﴾ وهذا النص ينقض الروايات التي تذكر أن الوعدين أو أحدهما كانا يوم بدر على ما هو المتبادر من اختلاف العدد. وعبارة ﴿ ويأتوكم من فورهم هذا ﴾ في الآية [ ١٢٥ ] تنقض بدورها الرواية التي تذكر أن وعد الخمسة آلاف كان يوم أحد وكان مشروطا على صبرهم ؛ لأن العبارة تفيد أن الوعد كان موقوفا على أن يأتيهم العدو ثانية، ولقد روي أن قريشا بعد أن انصرفوا من أحد توقفوا في الطريق وفكروا في الكرة على المسلمين ثانية. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فندب الناس إلى لقائهم فاستجابوا له على ما كان فيهم من جروح وحزن من الهزيمة. وكان النبي نفسه مجروحا وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وقد أشير إلى ذلك في آيات تأتي هي وشرحها بعد.
والذي يتبادر لنا ويلهمه نظم السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب المسلمين إلى الخروج بشرهم بمدد من الملائكة في ثلاثة آلاف. فحكت الآية [ ١٢٤ ] ذلك ثم أعقبتها الآية [ ١٢٥ ] بشرى ربانية مباشر
في هذه الآيات :
١ ـ تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بخروجه صباحا من بيته إلى خارج المدينة ليهيئ للمسلمين الأماكن الملائمة لقتال العدو، وبما كان في أثناء ذلك من أقوال ونوايا سمعها الله وعلم بها وهو السميع العليم، وبما كان من تردد فرقتين من المؤمنين حتى كادتا تنخذلان وترتدان مع أن الله وليهما وناصرهما ومع أن من واجب المؤمنين أن يتوكلوا عليه.
٢ ـ وتذكير للمؤمنين بما كان من نصر الله لهم في وقعة بدر في ظرف كانوا في أذلة من القلة والضعف. وحثّ لهم على تقوى الله والإخلاص له حتى ييسر لهم ما يحمدونه ويشكرونه عليه من النتائج والمواقف.
٣ ـ وتذكير آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان يوجهه إلى المسلمين من سؤال عما إذا كان لا يكفيهم أن يمدهم ربهم بثلاثة آلاف من الملائكة ينزلها لنصرهم.
٤ ـ وتوكيد تأييدي بأن ربهم سوف يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة المتميزين بعلامات خاصة إذا كرّ أعداؤهم عليهم وثبتوا وصبروا واتقوا الله.
٥ ـ واستدراك بأن الله إنما يبين أعداد الملائكة ويخبر أنه ينزلهم لتأييدهم ونصرهم لأجل تطمين قلوب المسلمين وبعث الاستبشار في نفوسهم وبأن النصر في حقيقته هو من عند الله وحده القادر على أن يهب لهم النصر على كل حال. وهو العزيز الحكيم القادر على كل شيء والغني عن كل شيء والذي يقضي بما فيه الصواب والحكمة.
٦ ـ وبيان لناحية من حكمة الله في ما دار ويدور من حروب بين المسلمين والكفار : فالله يتوخى في ذلك استئصال شأفة الكفار أو قهرهم وارتدادهم خائبين أو بعث الرغبة فيهم في الارعواء والتوبة عما هم فيه أو تعذيبهم لظلمهم وبغيهم. فالأمر في كل ذلك له والحكمة هي في ما ييسره ويسيره وليس للنبي ولا لغيره تأثير فيه. فهو الذي له ما في السموات والأرض وهو مطلق التصرف في كونه وخلقه، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٢١ ) ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٢٩ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد
وجمهور المفسرين على أن هذه الآيات والآيات العديدة الأخرى التي وردت فيما بعد إلى الآية [ ١٧٩ ] قد احتوت إشارات إلى مشاهد وظروف ونتائج وقعة أحد التي وقعت عند جبل أحد قرب المدينة بعد وقعة بدر بنحو خمسة عشر شهرا بين كفار قريش والمسلمين حيث جمع الكفار جموعهم وجاءوا لغزو المدينة وأخذ ثأر وقعة بدر.
وليس في هذه الآيات ولا فيما بعدها بسط قصصي تفصيلي لمشاهد الوقعة، وإنما هي إشارات لمواضع وشؤون اقتضتها حكمة التنزيل للعظة والعبرة شأن ما جاء في صدد وقعة بدر في سورة الأنفال وغيرهما من الوقائع وهو الأسلوب القرآني فيما ورد في القرآن من قصص ووقائع بصورة عامة.
وهذه الآيات قد احتوت شيئا من العتاب والتطمين والعظة والتسلية. وقد جاءت كمقدمة تمهيدية بين يدي المشاهد والظروف التي اقتضت الحكمة الإشارة إليها والأقوال التي قيلت والمواقف التي وقفتها فئات المسلمين بعد الوقعة. وقد نزلت هذه الآيات وسائر الآيات الأخرى التي تتصل بيوم أحد والتي تأتي بعدها بعد انتهاء المعركة.
ومما يروي في صدد ما له صلة بهذه الآيات من ظروف وأسباب الوقعة١ أن النبي لما علم بزحف كفار قريش نحو المدينة استشار الناس في الموقف، وأن كبير المنافقين عبد الله بن أبي وبعض أصحابه ومتابعيه وفريقا من المخلصين من أهل المدينة أشاروا بالتحصن في المدينة وعدم الخروج لمقابلة العدو خارجها والاستعداد لقتاله إذا هاجمهم في عقر بيوتهم، وقالوا له : ما دخل علينا أحد إلا غلب وما خرجنا منها إلا أصبنا. وأشار آخرون بالخروج للقائهم وعدم الظهور بمظهر الخائف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جنح إلى الرأي الأول بادئ الأمر غير أن أصحاب الرأي الثاني استعظموا ذلك، وأخذوا يلحون على الخروج وكانت نفوسهم قوية بما كان من نصر الله لهم في بدر. ومنهم من لم يشهد بدرا ورغبوا في أن يكون لهم حظ من الجهاد والنصر مثل ما كان لمن شهد بدرا حتى مال النبي إلى هذا الرأي فدخل بيته ولبس عدة حربه، ونادى بالناس إلى الخروج وفي وجهه شيء من الاستكراه. وقد روي فيما روى أن أصحاب الرأي الثاني ندموا على الإلحاح وما شعروا به من استكراه النبي فأعادوا الأمر إليه واعتذروا له فقال لهم : إنه لا يصح لنبي لبس عدة حربه أن يخلعها قبل أن يقاتل وأكد نداءه إلى الخروج فخرجوا في نحو ألف وكان عدد أعدائهم نحو ثلاثة آلاف. وفي الطريق انسحب عبد الله بن أبي كبير المنافقين قائلا : أطاعهم وعصاني. وإني لا أرى قتالا سيقع فانسحب معه نحو ثلاثمائة أكثرهم من المنافقين أشياعه. وكاد بطنان من الخزرج قبيلته ومن المخلصين في إيمانهم أن يتأثروا بالمنسحبين وينسحبا لولا أن ثبتهما الله وهما بنو حارثة وبنو سلمة على ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال :" فينا نزلت إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما. قال : نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل بقول الله والله وليهما " ٢.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي على الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال : لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمركم بالقتال. وباستثناء حديث جابر ليس شيء مما روي وأوردنا خلاصته واردا في الصحاح مع التنبيه على أن هناك أحاديث في الصحاح في صدد مشاهد أخرى من مشاهد يوم أحد على ما سوف نورده بعد. ومع التنبيه على أن بعض الروايات تتسق مع بعض الآيات وبعضها لا تتسق. فليس في الآيات ما يدل على أن المنافقين خرجوا ثم انسحبوا. وهناك آيات تأتي بعد تدل على أنهم لم يخرجوا مع الذين خرجوا ؛ لأن الخروج كان على خلاف رأيهم ثم احتجوا بأنه لن يقع قتال. كذلك فإنه ليس في الآيات ما يؤيد ما روي من جنوح النبي صلى الله عليه وسلم للرأي القائل بعدم الخروج أولا ثم جنوحه للرأي القائل بالخروج. ولا يؤيد ما روي من أن الكثرة كانت مع الرأي الأول. والذي نرجحه استلهاما من هذه الآيات والآيات التالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس للقاء العدو خارج المدينة فاعترض بعض المخلصين والمنافقون واقترحوا البقاء في المدينة والقتال من وراء الجدران. فعارضهم أكثر المخلصين وحبذوا الخروج وأظهروا الاستعداد للجهاد والموت في سبيل الله وهذا مما ذكر في بعض الآيات. فكان هذا من مشجعات النبي على تنفيذ عزيمته بالخروج وعدم الأخذ برأي الذين اقترحوا البقاء والقتال من وراء الجدران وكان هذا مما أغاظ المنافقين فقعدوا ولم يخرجوا، وكاد قعودهم يؤثر على بطني الخزرج المخلصين ولكن الله ثبتهما.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة فيما رووه أن الفتيان من أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يتسابقون إلى الاشتراك في الحرب. وكانوا شديدي الحرص على ذلك، وأن النبي كان يستعرضهم فيأخذ من يراه أهلا لبنيته أو وقوته ممن بلغ الخامسة عشرة. وأن منهم من كان يرفع قامته أو يقف على أصابع قدميه ليبدو طويلا، وأن منهم من قال للنبي حينما ردّه وأخذ رفيقا له : إنه أقوى منه وقادر على صرعه فأذن لهما بالمصارعة أمامه فصرع رفيقه فأخذه. وذكروا من أسمائهم رافع بن خديج وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، والمتصارعان كانا الأولين. وقد روى أصحاب الصحاح حديثا فيه شيء من ذلك عن ابن عمر قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه )٣.
وفي كل هذا صور مشرقة فيها العبرة والأسوة فأحببنا إيرادها.
والمفسرون يروون في صدد ما جاء في مدد الملائكة المذكور في الآيتين [ ١٢٤ ـ ١٢٥ ] أقوالا معزوة على بعض التابعين وتابعيهم٤. منها أن الوعدين بالثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف كانا في يوم بدر. وأن الكلام تتمة للآية [ ١٢٣ ] التي ذكر فيها هذا اليوم. ومما يروون في صدد الوعد الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أحد رؤساء مشركي الأعراب واسمه كرز وعد قريشا بالمدد يوم بدر وأن ذلك شق على المسلمين فوعدهم النبي بمدد آخر من الملائكة إذا جاء هذا المدد. وقد تمت الهزيمة على قريش فلم يأت هذا المدد. من هذه الأقوال أن الوعد بالثلاثة الآلاف خاص ببدر والوعد بالخمسة الآلاف خاص بأحد. وقد تحقق الوعد الأول فأيد الله المجاهدين بالملائكة. أما الوعد الثاني فلم يتحقق ؛ لأنه كان مشروطا بصبر المسلمين وتقواهم فلم يصبروا وتمت عليهم الهزيمة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وفي سورة الأنفال التي نزلت في ظروف يوم بدر ومشاهده هذه الآية ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ( ٩ ) ﴾ وهذا النص ينقض الروايات التي تذكر أن الوعدين أو أحدهما كانا يوم بدر على ما هو المتبادر من اختلاف العدد. وعبارة ﴿ ويأتوكم من فورهم هذا ﴾ في الآية [ ١٢٥ ] تنقض بدورها الرواية التي تذكر أن وعد الخمسة آلاف كان يوم أحد وكان مشروطا على صبرهم ؛ لأن العبارة تفيد أن الوعد كان موقوفا على أن يأتيهم العدو ثانية، ولقد روي أن قريشا بعد أن انصرفوا من أحد توقفوا في الطريق وفكروا في الكرة على المسلمين ثانية. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فندب الناس إلى لقائهم فاستجابوا له على ما كان فيهم من جروح وحزن من الهزيمة. وكان النبي نفسه مجروحا وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وقد أشير إلى ذلك في آيات تأتي هي وشرحها بعد.
والذي يتبادر لنا ويلهمه نظم السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب المسلمين إلى الخروج بشرهم بمدد من الملائكة في ثلاثة آلاف. فحكت الآية [ ١٢٤ ] ذلك ثم أعقبتها الآية [ ١٢٥ ] بشرى ربانية مباشر
( ٧ ) يكبتهم : يكبّهم على وجوههم خزيا وخيبة.
في هذه الآيات :
١ ـ تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بخروجه صباحا من بيته إلى خارج المدينة ليهيئ للمسلمين الأماكن الملائمة لقتال العدو، وبما كان في أثناء ذلك من أقوال ونوايا سمعها الله وعلم بها وهو السميع العليم، وبما كان من تردد فرقتين من المؤمنين حتى كادتا تنخذلان وترتدان مع أن الله وليهما وناصرهما ومع أن من واجب المؤمنين أن يتوكلوا عليه.
٢ ـ وتذكير للمؤمنين بما كان من نصر الله لهم في وقعة بدر في ظرف كانوا في أذلة من القلة والضعف. وحثّ لهم على تقوى الله والإخلاص له حتى ييسر لهم ما يحمدونه ويشكرونه عليه من النتائج والمواقف.
٣ ـ وتذكير آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان يوجهه إلى المسلمين من سؤال عما إذا كان لا يكفيهم أن يمدهم ربهم بثلاثة آلاف من الملائكة ينزلها لنصرهم.
٤ ـ وتوكيد تأييدي بأن ربهم سوف يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة المتميزين بعلامات خاصة إذا كرّ أعداؤهم عليهم وثبتوا وصبروا واتقوا الله.
٥ ـ واستدراك بأن الله إنما يبين أعداد الملائكة ويخبر أنه ينزلهم لتأييدهم ونصرهم لأجل تطمين قلوب المسلمين وبعث الاستبشار في نفوسهم وبأن النصر في حقيقته هو من عند الله وحده القادر على أن يهب لهم النصر على كل حال. وهو العزيز الحكيم القادر على كل شيء والغني عن كل شيء والذي يقضي بما فيه الصواب والحكمة.
٦ ـ وبيان لناحية من حكمة الله في ما دار ويدور من حروب بين المسلمين والكفار : فالله يتوخى في ذلك استئصال شأفة الكفار أو قهرهم وارتدادهم خائبين أو بعث الرغبة فيهم في الارعواء والتوبة عما هم فيه أو تعذيبهم لظلمهم وبغيهم. فالأمر في كل ذلك له والحكمة هي في ما ييسره ويسيره وليس للنبي ولا لغيره تأثير فيه. فهو الذي له ما في السموات والأرض وهو مطلق التصرف في كونه وخلقه، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٢١ ) ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٢٩ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد
وجمهور المفسرين على أن هذه الآيات والآيات العديدة الأخرى التي وردت فيما بعد إلى الآية [ ١٧٩ ] قد احتوت إشارات إلى مشاهد وظروف ونتائج وقعة أحد التي وقعت عند جبل أحد قرب المدينة بعد وقعة بدر بنحو خمسة عشر شهرا بين كفار قريش والمسلمين حيث جمع الكفار جموعهم وجاءوا لغزو المدينة وأخذ ثأر وقعة بدر.
وليس في هذه الآيات ولا فيما بعدها بسط قصصي تفصيلي لمشاهد الوقعة، وإنما هي إشارات لمواضع وشؤون اقتضتها حكمة التنزيل للعظة والعبرة شأن ما جاء في صدد وقعة بدر في سورة الأنفال وغيرهما من الوقائع وهو الأسلوب القرآني فيما ورد في القرآن من قصص ووقائع بصورة عامة.
وهذه الآيات قد احتوت شيئا من العتاب والتطمين والعظة والتسلية. وقد جاءت كمقدمة تمهيدية بين يدي المشاهد والظروف التي اقتضت الحكمة الإشارة إليها والأقوال التي قيلت والمواقف التي وقفتها فئات المسلمين بعد الوقعة. وقد نزلت هذه الآيات وسائر الآيات الأخرى التي تتصل بيوم أحد والتي تأتي بعدها بعد انتهاء المعركة.
ومما يروي في صدد ما له صلة بهذه الآيات من ظروف وأسباب الوقعة١ أن النبي لما علم بزحف كفار قريش نحو المدينة استشار الناس في الموقف، وأن كبير المنافقين عبد الله بن أبي وبعض أصحابه ومتابعيه وفريقا من المخلصين من أهل المدينة أشاروا بالتحصن في المدينة وعدم الخروج لمقابلة العدو خارجها والاستعداد لقتاله إذا هاجمهم في عقر بيوتهم، وقالوا له : ما دخل علينا أحد إلا غلب وما خرجنا منها إلا أصبنا. وأشار آخرون بالخروج للقائهم وعدم الظهور بمظهر الخائف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جنح إلى الرأي الأول بادئ الأمر غير أن أصحاب الرأي الثاني استعظموا ذلك، وأخذوا يلحون على الخروج وكانت نفوسهم قوية بما كان من نصر الله لهم في بدر. ومنهم من لم يشهد بدرا ورغبوا في أن يكون لهم حظ من الجهاد والنصر مثل ما كان لمن شهد بدرا حتى مال النبي إلى هذا الرأي فدخل بيته ولبس عدة حربه، ونادى بالناس إلى الخروج وفي وجهه شيء من الاستكراه. وقد روي فيما روى أن أصحاب الرأي الثاني ندموا على الإلحاح وما شعروا به من استكراه النبي فأعادوا الأمر إليه واعتذروا له فقال لهم : إنه لا يصح لنبي لبس عدة حربه أن يخلعها قبل أن يقاتل وأكد نداءه إلى الخروج فخرجوا في نحو ألف وكان عدد أعدائهم نحو ثلاثة آلاف. وفي الطريق انسحب عبد الله بن أبي كبير المنافقين قائلا : أطاعهم وعصاني. وإني لا أرى قتالا سيقع فانسحب معه نحو ثلاثمائة أكثرهم من المنافقين أشياعه. وكاد بطنان من الخزرج قبيلته ومن المخلصين في إيمانهم أن يتأثروا بالمنسحبين وينسحبا لولا أن ثبتهما الله وهما بنو حارثة وبنو سلمة على ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال :" فينا نزلت إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما. قال : نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل بقول الله والله وليهما " ٢.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي على الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال : لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمركم بالقتال. وباستثناء حديث جابر ليس شيء مما روي وأوردنا خلاصته واردا في الصحاح مع التنبيه على أن هناك أحاديث في الصحاح في صدد مشاهد أخرى من مشاهد يوم أحد على ما سوف نورده بعد. ومع التنبيه على أن بعض الروايات تتسق مع بعض الآيات وبعضها لا تتسق. فليس في الآيات ما يدل على أن المنافقين خرجوا ثم انسحبوا. وهناك آيات تأتي بعد تدل على أنهم لم يخرجوا مع الذين خرجوا ؛ لأن الخروج كان على خلاف رأيهم ثم احتجوا بأنه لن يقع قتال. كذلك فإنه ليس في الآيات ما يؤيد ما روي من جنوح النبي صلى الله عليه وسلم للرأي القائل بعدم الخروج أولا ثم جنوحه للرأي القائل بالخروج. ولا يؤيد ما روي من أن الكثرة كانت مع الرأي الأول. والذي نرجحه استلهاما من هذه الآيات والآيات التالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس للقاء العدو خارج المدينة فاعترض بعض المخلصين والمنافقون واقترحوا البقاء في المدينة والقتال من وراء الجدران. فعارضهم أكثر المخلصين وحبذوا الخروج وأظهروا الاستعداد للجهاد والموت في سبيل الله وهذا مما ذكر في بعض الآيات. فكان هذا من مشجعات النبي على تنفيذ عزيمته بالخروج وعدم الأخذ برأي الذين اقترحوا البقاء والقتال من وراء الجدران وكان هذا مما أغاظ المنافقين فقعدوا ولم يخرجوا، وكاد قعودهم يؤثر على بطني الخزرج المخلصين ولكن الله ثبتهما.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة فيما رووه أن الفتيان من أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يتسابقون إلى الاشتراك في الحرب. وكانوا شديدي الحرص على ذلك، وأن النبي كان يستعرضهم فيأخذ من يراه أهلا لبنيته أو وقوته ممن بلغ الخامسة عشرة. وأن منهم من كان يرفع قامته أو يقف على أصابع قدميه ليبدو طويلا، وأن منهم من قال للنبي حينما ردّه وأخذ رفيقا له : إنه أقوى منه وقادر على صرعه فأذن لهما بالمصارعة أمامه فصرع رفيقه فأخذه. وذكروا من أسمائهم رافع بن خديج وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، والمتصارعان كانا الأولين. وقد روى أصحاب الصحاح حديثا فيه شيء من ذلك عن ابن عمر قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه )٣.
وفي كل هذا صور مشرقة فيها العبرة والأسوة فأحببنا إيرادها.
والمفسرون يروون في صدد ما جاء في مدد الملائكة المذكور في الآيتين [ ١٢٤ ـ ١٢٥ ] أقوالا معزوة على بعض التابعين وتابعيهم٤. منها أن الوعدين بالثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف كانا في يوم بدر. وأن الكلام تتمة للآية [ ١٢٣ ] التي ذكر فيها هذا اليوم. ومما يروون في صدد الوعد الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أحد رؤساء مشركي الأعراب واسمه كرز وعد قريشا بالمدد يوم بدر وأن ذلك شق على المسلمين فوعدهم النبي بمدد آخر من الملائكة إذا جاء هذا المدد. وقد تمت الهزيمة على قريش فلم يأت هذا المدد. من هذه الأقوال أن الوعد بالثلاثة الآلاف خاص ببدر والوعد بالخمسة الآلاف خاص بأحد. وقد تحقق الوعد الأول فأيد الله المجاهدين بالملائكة. أما الوعد الثاني فلم يتحقق ؛ لأنه كان مشروطا بصبر المسلمين وتقواهم فلم يصبروا وتمت عليهم الهزيمة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وفي سورة الأنفال التي نزلت في ظروف يوم بدر ومشاهده هذه الآية ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ( ٩ ) ﴾ وهذا النص ينقض الروايات التي تذكر أن الوعدين أو أحدهما كانا يوم بدر على ما هو المتبادر من اختلاف العدد. وعبارة ﴿ ويأتوكم من فورهم هذا ﴾ في الآية [ ١٢٥ ] تنقض بدورها الرواية التي تذكر أن وعد الخمسة آلاف كان يوم أحد وكان مشروطا على صبرهم ؛ لأن العبارة تفيد أن الوعد كان موقوفا على أن يأتيهم العدو ثانية، ولقد روي أن قريشا بعد أن انصرفوا من أحد توقفوا في الطريق وفكروا في الكرة على المسلمين ثانية. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فندب الناس إلى لقائهم فاستجابوا له على ما كان فيهم من جروح وحزن من الهزيمة. وكان النبي نفسه مجروحا وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وقد أشير إلى ذلك في آيات تأتي هي وشرحها بعد.
والذي يتبادر لنا ويلهمه نظم السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب المسلمين إلى الخروج بشرهم بمدد من الملائكة في ثلاثة آلاف. فحكت الآية [ ١٢٤ ] ذلك ثم أعقبتها الآية [ ١٢٥ ] بشرى ربانية مباشر
في هذه الآيات :
١ ـ تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بخروجه صباحا من بيته إلى خارج المدينة ليهيئ للمسلمين الأماكن الملائمة لقتال العدو، وبما كان في أثناء ذلك من أقوال ونوايا سمعها الله وعلم بها وهو السميع العليم، وبما كان من تردد فرقتين من المؤمنين حتى كادتا تنخذلان وترتدان مع أن الله وليهما وناصرهما ومع أن من واجب المؤمنين أن يتوكلوا عليه.
٢ ـ وتذكير للمؤمنين بما كان من نصر الله لهم في وقعة بدر في ظرف كانوا في أذلة من القلة والضعف. وحثّ لهم على تقوى الله والإخلاص له حتى ييسر لهم ما يحمدونه ويشكرونه عليه من النتائج والمواقف.
٣ ـ وتذكير آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان يوجهه إلى المسلمين من سؤال عما إذا كان لا يكفيهم أن يمدهم ربهم بثلاثة آلاف من الملائكة ينزلها لنصرهم.
٤ ـ وتوكيد تأييدي بأن ربهم سوف يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة المتميزين بعلامات خاصة إذا كرّ أعداؤهم عليهم وثبتوا وصبروا واتقوا الله.
٥ ـ واستدراك بأن الله إنما يبين أعداد الملائكة ويخبر أنه ينزلهم لتأييدهم ونصرهم لأجل تطمين قلوب المسلمين وبعث الاستبشار في نفوسهم وبأن النصر في حقيقته هو من عند الله وحده القادر على أن يهب لهم النصر على كل حال. وهو العزيز الحكيم القادر على كل شيء والغني عن كل شيء والذي يقضي بما فيه الصواب والحكمة.
٦ ـ وبيان لناحية من حكمة الله في ما دار ويدور من حروب بين المسلمين والكفار : فالله يتوخى في ذلك استئصال شأفة الكفار أو قهرهم وارتدادهم خائبين أو بعث الرغبة فيهم في الارعواء والتوبة عما هم فيه أو تعذيبهم لظلمهم وبغيهم. فالأمر في كل ذلك له والحكمة هي في ما ييسره ويسيره وليس للنبي ولا لغيره تأثير فيه. فهو الذي له ما في السموات والأرض وهو مطلق التصرف في كونه وخلقه، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٢١ ) ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٢٩ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد
وجمهور المفسرين على أن هذه الآيات والآيات العديدة الأخرى التي وردت فيما بعد إلى الآية [ ١٧٩ ] قد احتوت إشارات إلى مشاهد وظروف ونتائج وقعة أحد التي وقعت عند جبل أحد قرب المدينة بعد وقعة بدر بنحو خمسة عشر شهرا بين كفار قريش والمسلمين حيث جمع الكفار جموعهم وجاءوا لغزو المدينة وأخذ ثأر وقعة بدر.
وليس في هذه الآيات ولا فيما بعدها بسط قصصي تفصيلي لمشاهد الوقعة، وإنما هي إشارات لمواضع وشؤون اقتضتها حكمة التنزيل للعظة والعبرة شأن ما جاء في صدد وقعة بدر في سورة الأنفال وغيرهما من الوقائع وهو الأسلوب القرآني فيما ورد في القرآن من قصص ووقائع بصورة عامة.
وهذه الآيات قد احتوت شيئا من العتاب والتطمين والعظة والتسلية. وقد جاءت كمقدمة تمهيدية بين يدي المشاهد والظروف التي اقتضت الحكمة الإشارة إليها والأقوال التي قيلت والمواقف التي وقفتها فئات المسلمين بعد الوقعة. وقد نزلت هذه الآيات وسائر الآيات الأخرى التي تتصل بيوم أحد والتي تأتي بعدها بعد انتهاء المعركة.
ومما يروي في صدد ما له صلة بهذه الآيات من ظروف وأسباب الوقعة١ أن النبي لما علم بزحف كفار قريش نحو المدينة استشار الناس في الموقف، وأن كبير المنافقين عبد الله بن أبي وبعض أصحابه ومتابعيه وفريقا من المخلصين من أهل المدينة أشاروا بالتحصن في المدينة وعدم الخروج لمقابلة العدو خارجها والاستعداد لقتاله إذا هاجمهم في عقر بيوتهم، وقالوا له : ما دخل علينا أحد إلا غلب وما خرجنا منها إلا أصبنا. وأشار آخرون بالخروج للقائهم وعدم الظهور بمظهر الخائف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جنح إلى الرأي الأول بادئ الأمر غير أن أصحاب الرأي الثاني استعظموا ذلك، وأخذوا يلحون على الخروج وكانت نفوسهم قوية بما كان من نصر الله لهم في بدر. ومنهم من لم يشهد بدرا ورغبوا في أن يكون لهم حظ من الجهاد والنصر مثل ما كان لمن شهد بدرا حتى مال النبي إلى هذا الرأي فدخل بيته ولبس عدة حربه، ونادى بالناس إلى الخروج وفي وجهه شيء من الاستكراه. وقد روي فيما روى أن أصحاب الرأي الثاني ندموا على الإلحاح وما شعروا به من استكراه النبي فأعادوا الأمر إليه واعتذروا له فقال لهم : إنه لا يصح لنبي لبس عدة حربه أن يخلعها قبل أن يقاتل وأكد نداءه إلى الخروج فخرجوا في نحو ألف وكان عدد أعدائهم نحو ثلاثة آلاف. وفي الطريق انسحب عبد الله بن أبي كبير المنافقين قائلا : أطاعهم وعصاني. وإني لا أرى قتالا سيقع فانسحب معه نحو ثلاثمائة أكثرهم من المنافقين أشياعه. وكاد بطنان من الخزرج قبيلته ومن المخلصين في إيمانهم أن يتأثروا بالمنسحبين وينسحبا لولا أن ثبتهما الله وهما بنو حارثة وبنو سلمة على ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال :" فينا نزلت إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما. قال : نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل بقول الله والله وليهما " ٢.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي على الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال : لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمركم بالقتال. وباستثناء حديث جابر ليس شيء مما روي وأوردنا خلاصته واردا في الصحاح مع التنبيه على أن هناك أحاديث في الصحاح في صدد مشاهد أخرى من مشاهد يوم أحد على ما سوف نورده بعد. ومع التنبيه على أن بعض الروايات تتسق مع بعض الآيات وبعضها لا تتسق. فليس في الآيات ما يدل على أن المنافقين خرجوا ثم انسحبوا. وهناك آيات تأتي بعد تدل على أنهم لم يخرجوا مع الذين خرجوا ؛ لأن الخروج كان على خلاف رأيهم ثم احتجوا بأنه لن يقع قتال. كذلك فإنه ليس في الآيات ما يؤيد ما روي من جنوح النبي صلى الله عليه وسلم للرأي القائل بعدم الخروج أولا ثم جنوحه للرأي القائل بالخروج. ولا يؤيد ما روي من أن الكثرة كانت مع الرأي الأول. والذي نرجحه استلهاما من هذه الآيات والآيات التالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس للقاء العدو خارج المدينة فاعترض بعض المخلصين والمنافقون واقترحوا البقاء في المدينة والقتال من وراء الجدران. فعارضهم أكثر المخلصين وحبذوا الخروج وأظهروا الاستعداد للجهاد والموت في سبيل الله وهذا مما ذكر في بعض الآيات. فكان هذا من مشجعات النبي على تنفيذ عزيمته بالخروج وعدم الأخذ برأي الذين اقترحوا البقاء والقتال من وراء الجدران وكان هذا مما أغاظ المنافقين فقعدوا ولم يخرجوا، وكاد قعودهم يؤثر على بطني الخزرج المخلصين ولكن الله ثبتهما.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة فيما رووه أن الفتيان من أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يتسابقون إلى الاشتراك في الحرب. وكانوا شديدي الحرص على ذلك، وأن النبي كان يستعرضهم فيأخذ من يراه أهلا لبنيته أو وقوته ممن بلغ الخامسة عشرة. وأن منهم من كان يرفع قامته أو يقف على أصابع قدميه ليبدو طويلا، وأن منهم من قال للنبي حينما ردّه وأخذ رفيقا له : إنه أقوى منه وقادر على صرعه فأذن لهما بالمصارعة أمامه فصرع رفيقه فأخذه. وذكروا من أسمائهم رافع بن خديج وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، والمتصارعان كانا الأولين. وقد روى أصحاب الصحاح حديثا فيه شيء من ذلك عن ابن عمر قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه )٣.
وفي كل هذا صور مشرقة فيها العبرة والأسوة فأحببنا إيرادها.
والمفسرون يروون في صدد ما جاء في مدد الملائكة المذكور في الآيتين [ ١٢٤ ـ ١٢٥ ] أقوالا معزوة على بعض التابعين وتابعيهم٤. منها أن الوعدين بالثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف كانا في يوم بدر. وأن الكلام تتمة للآية [ ١٢٣ ] التي ذكر فيها هذا اليوم. ومما يروون في صدد الوعد الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أحد رؤساء مشركي الأعراب واسمه كرز وعد قريشا بالمدد يوم بدر وأن ذلك شق على المسلمين فوعدهم النبي بمدد آخر من الملائكة إذا جاء هذا المدد. وقد تمت الهزيمة على قريش فلم يأت هذا المدد. من هذه الأقوال أن الوعد بالثلاثة الآلاف خاص ببدر والوعد بالخمسة الآلاف خاص بأحد. وقد تحقق الوعد الأول فأيد الله المجاهدين بالملائكة. أما الوعد الثاني فلم يتحقق ؛ لأنه كان مشروطا بصبر المسلمين وتقواهم فلم يصبروا وتمت عليهم الهزيمة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وفي سورة الأنفال التي نزلت في ظروف يوم بدر ومشاهده هذه الآية ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ( ٩ ) ﴾ وهذا النص ينقض الروايات التي تذكر أن الوعدين أو أحدهما كانا يوم بدر على ما هو المتبادر من اختلاف العدد. وعبارة ﴿ ويأتوكم من فورهم هذا ﴾ في الآية [ ١٢٥ ] تنقض بدورها الرواية التي تذكر أن وعد الخمسة آلاف كان يوم أحد وكان مشروطا على صبرهم ؛ لأن العبارة تفيد أن الوعد كان موقوفا على أن يأتيهم العدو ثانية، ولقد روي أن قريشا بعد أن انصرفوا من أحد توقفوا في الطريق وفكروا في الكرة على المسلمين ثانية. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فندب الناس إلى لقائهم فاستجابوا له على ما كان فيهم من جروح وحزن من الهزيمة. وكان النبي نفسه مجروحا وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وقد أشير إلى ذلك في آيات تأتي هي وشرحها بعد.
والذي يتبادر لنا ويلهمه نظم السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب المسلمين إلى الخروج بشرهم بمدد من الملائكة في ثلاثة آلاف. فحكت الآية [ ١٢٤ ] ذلك ثم أعقبتها الآية [ ١٢٥ ] بشرى ربانية مباشر
في هذه الآيات :
١ ـ تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بخروجه صباحا من بيته إلى خارج المدينة ليهيئ للمسلمين الأماكن الملائمة لقتال العدو، وبما كان في أثناء ذلك من أقوال ونوايا سمعها الله وعلم بها وهو السميع العليم، وبما كان من تردد فرقتين من المؤمنين حتى كادتا تنخذلان وترتدان مع أن الله وليهما وناصرهما ومع أن من واجب المؤمنين أن يتوكلوا عليه.
٢ ـ وتذكير للمؤمنين بما كان من نصر الله لهم في وقعة بدر في ظرف كانوا في أذلة من القلة والضعف. وحثّ لهم على تقوى الله والإخلاص له حتى ييسر لهم ما يحمدونه ويشكرونه عليه من النتائج والمواقف.
٣ ـ وتذكير آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان يوجهه إلى المسلمين من سؤال عما إذا كان لا يكفيهم أن يمدهم ربهم بثلاثة آلاف من الملائكة ينزلها لنصرهم.
٤ ـ وتوكيد تأييدي بأن ربهم سوف يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة المتميزين بعلامات خاصة إذا كرّ أعداؤهم عليهم وثبتوا وصبروا واتقوا الله.
٥ ـ واستدراك بأن الله إنما يبين أعداد الملائكة ويخبر أنه ينزلهم لتأييدهم ونصرهم لأجل تطمين قلوب المسلمين وبعث الاستبشار في نفوسهم وبأن النصر في حقيقته هو من عند الله وحده القادر على أن يهب لهم النصر على كل حال. وهو العزيز الحكيم القادر على كل شيء والغني عن كل شيء والذي يقضي بما فيه الصواب والحكمة.
٦ ـ وبيان لناحية من حكمة الله في ما دار ويدور من حروب بين المسلمين والكفار : فالله يتوخى في ذلك استئصال شأفة الكفار أو قهرهم وارتدادهم خائبين أو بعث الرغبة فيهم في الارعواء والتوبة عما هم فيه أو تعذيبهم لظلمهم وبغيهم. فالأمر في كل ذلك له والحكمة هي في ما ييسره ويسيره وليس للنبي ولا لغيره تأثير فيه. فهو الذي له ما في السموات والأرض وهو مطلق التصرف في كونه وخلقه، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٢١ ) ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٢٩ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد
وجمهور المفسرين على أن هذه الآيات والآيات العديدة الأخرى التي وردت فيما بعد إلى الآية [ ١٧٩ ] قد احتوت إشارات إلى مشاهد وظروف ونتائج وقعة أحد التي وقعت عند جبل أحد قرب المدينة بعد وقعة بدر بنحو خمسة عشر شهرا بين كفار قريش والمسلمين حيث جمع الكفار جموعهم وجاءوا لغزو المدينة وأخذ ثأر وقعة بدر.
وليس في هذه الآيات ولا فيما بعدها بسط قصصي تفصيلي لمشاهد الوقعة، وإنما هي إشارات لمواضع وشؤون اقتضتها حكمة التنزيل للعظة والعبرة شأن ما جاء في صدد وقعة بدر في سورة الأنفال وغيرهما من الوقائع وهو الأسلوب القرآني فيما ورد في القرآن من قصص ووقائع بصورة عامة.
وهذه الآيات قد احتوت شيئا من العتاب والتطمين والعظة والتسلية. وقد جاءت كمقدمة تمهيدية بين يدي المشاهد والظروف التي اقتضت الحكمة الإشارة إليها والأقوال التي قيلت والمواقف التي وقفتها فئات المسلمين بعد الوقعة. وقد نزلت هذه الآيات وسائر الآيات الأخرى التي تتصل بيوم أحد والتي تأتي بعدها بعد انتهاء المعركة.
ومما يروي في صدد ما له صلة بهذه الآيات من ظروف وأسباب الوقعة١ أن النبي لما علم بزحف كفار قريش نحو المدينة استشار الناس في الموقف، وأن كبير المنافقين عبد الله بن أبي وبعض أصحابه ومتابعيه وفريقا من المخلصين من أهل المدينة أشاروا بالتحصن في المدينة وعدم الخروج لمقابلة العدو خارجها والاستعداد لقتاله إذا هاجمهم في عقر بيوتهم، وقالوا له : ما دخل علينا أحد إلا غلب وما خرجنا منها إلا أصبنا. وأشار آخرون بالخروج للقائهم وعدم الظهور بمظهر الخائف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جنح إلى الرأي الأول بادئ الأمر غير أن أصحاب الرأي الثاني استعظموا ذلك، وأخذوا يلحون على الخروج وكانت نفوسهم قوية بما كان من نصر الله لهم في بدر. ومنهم من لم يشهد بدرا ورغبوا في أن يكون لهم حظ من الجهاد والنصر مثل ما كان لمن شهد بدرا حتى مال النبي إلى هذا الرأي فدخل بيته ولبس عدة حربه، ونادى بالناس إلى الخروج وفي وجهه شيء من الاستكراه. وقد روي فيما روى أن أصحاب الرأي الثاني ندموا على الإلحاح وما شعروا به من استكراه النبي فأعادوا الأمر إليه واعتذروا له فقال لهم : إنه لا يصح لنبي لبس عدة حربه أن يخلعها قبل أن يقاتل وأكد نداءه إلى الخروج فخرجوا في نحو ألف وكان عدد أعدائهم نحو ثلاثة آلاف. وفي الطريق انسحب عبد الله بن أبي كبير المنافقين قائلا : أطاعهم وعصاني. وإني لا أرى قتالا سيقع فانسحب معه نحو ثلاثمائة أكثرهم من المنافقين أشياعه. وكاد بطنان من الخزرج قبيلته ومن المخلصين في إيمانهم أن يتأثروا بالمنسحبين وينسحبا لولا أن ثبتهما الله وهما بنو حارثة وبنو سلمة على ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال :" فينا نزلت إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما. قال : نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل بقول الله والله وليهما " ٢.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي على الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال : لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمركم بالقتال. وباستثناء حديث جابر ليس شيء مما روي وأوردنا خلاصته واردا في الصحاح مع التنبيه على أن هناك أحاديث في الصحاح في صدد مشاهد أخرى من مشاهد يوم أحد على ما سوف نورده بعد. ومع التنبيه على أن بعض الروايات تتسق مع بعض الآيات وبعضها لا تتسق. فليس في الآيات ما يدل على أن المنافقين خرجوا ثم انسحبوا. وهناك آيات تأتي بعد تدل على أنهم لم يخرجوا مع الذين خرجوا ؛ لأن الخروج كان على خلاف رأيهم ثم احتجوا بأنه لن يقع قتال. كذلك فإنه ليس في الآيات ما يؤيد ما روي من جنوح النبي صلى الله عليه وسلم للرأي القائل بعدم الخروج أولا ثم جنوحه للرأي القائل بالخروج. ولا يؤيد ما روي من أن الكثرة كانت مع الرأي الأول. والذي نرجحه استلهاما من هذه الآيات والآيات التالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس للقاء العدو خارج المدينة فاعترض بعض المخلصين والمنافقون واقترحوا البقاء في المدينة والقتال من وراء الجدران. فعارضهم أكثر المخلصين وحبذوا الخروج وأظهروا الاستعداد للجهاد والموت في سبيل الله وهذا مما ذكر في بعض الآيات. فكان هذا من مشجعات النبي على تنفيذ عزيمته بالخروج وعدم الأخذ برأي الذين اقترحوا البقاء والقتال من وراء الجدران وكان هذا مما أغاظ المنافقين فقعدوا ولم يخرجوا، وكاد قعودهم يؤثر على بطني الخزرج المخلصين ولكن الله ثبتهما.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة فيما رووه أن الفتيان من أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يتسابقون إلى الاشتراك في الحرب. وكانوا شديدي الحرص على ذلك، وأن النبي كان يستعرضهم فيأخذ من يراه أهلا لبنيته أو وقوته ممن بلغ الخامسة عشرة. وأن منهم من كان يرفع قامته أو يقف على أصابع قدميه ليبدو طويلا، وأن منهم من قال للنبي حينما ردّه وأخذ رفيقا له : إنه أقوى منه وقادر على صرعه فأذن لهما بالمصارعة أمامه فصرع رفيقه فأخذه. وذكروا من أسمائهم رافع بن خديج وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، والمتصارعان كانا الأولين. وقد روى أصحاب الصحاح حديثا فيه شيء من ذلك عن ابن عمر قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه )٣.
وفي كل هذا صور مشرقة فيها العبرة والأسوة فأحببنا إيرادها.
والمفسرون يروون في صدد ما جاء في مدد الملائكة المذكور في الآيتين [ ١٢٤ ـ ١٢٥ ] أقوالا معزوة على بعض التابعين وتابعيهم٤. منها أن الوعدين بالثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف كانا في يوم بدر. وأن الكلام تتمة للآية [ ١٢٣ ] التي ذكر فيها هذا اليوم. ومما يروون في صدد الوعد الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أحد رؤساء مشركي الأعراب واسمه كرز وعد قريشا بالمدد يوم بدر وأن ذلك شق على المسلمين فوعدهم النبي بمدد آخر من الملائكة إذا جاء هذا المدد. وقد تمت الهزيمة على قريش فلم يأت هذا المدد. من هذه الأقوال أن الوعد بالثلاثة الآلاف خاص ببدر والوعد بالخمسة الآلاف خاص بأحد. وقد تحقق الوعد الأول فأيد الله المجاهدين بالملائكة. أما الوعد الثاني فلم يتحقق ؛ لأنه كان مشروطا بصبر المسلمين وتقواهم فلم يصبروا وتمت عليهم الهزيمة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وفي سورة الأنفال التي نزلت في ظروف يوم بدر ومشاهده هذه الآية ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ( ٩ ) ﴾ وهذا النص ينقض الروايات التي تذكر أن الوعدين أو أحدهما كانا يوم بدر على ما هو المتبادر من اختلاف العدد. وعبارة ﴿ ويأتوكم من فورهم هذا ﴾ في الآية [ ١٢٥ ] تنقض بدورها الرواية التي تذكر أن وعد الخمسة آلاف كان يوم أحد وكان مشروطا على صبرهم ؛ لأن العبارة تفيد أن الوعد كان موقوفا على أن يأتيهم العدو ثانية، ولقد روي أن قريشا بعد أن انصرفوا من أحد توقفوا في الطريق وفكروا في الكرة على المسلمين ثانية. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فندب الناس إلى لقائهم فاستجابوا له على ما كان فيهم من جروح وحزن من الهزيمة. وكان النبي نفسه مجروحا وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وقد أشير إلى ذلك في آيات تأتي هي وشرحها بعد.
والذي يتبادر لنا ويلهمه نظم السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب المسلمين إلى الخروج بشرهم بمدد من الملائكة في ثلاثة آلاف. فحكت الآية [ ١٢٤ ] ذلك ثم أعقبتها الآية [ ١٢٥ ] بشرى ربانية مباشر
( ٢ ) فاحشة : روى الطبري عن السدي أن الكلمة هنا بمعنى الزنا وفي القرآن آيات وردت فيها الكلمة بهذا المعنى حقا. منها آيات النساء [ ١٥ و ٢٥ ] غير أن فحوى الآية وخطورة جريمة الزنا التي عليها حدّ شرعي ولا تذهب بالاستغفار يجعل تأويلها هنا بالزنا في غير محله ويجعل تأويلها الأوجه هو الفعل القبيح العادي. وهذا ما رجحه الطبري أيضا.
عبارة الآيات واضحة. وفيها :
١ ـ نهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة.
٢ ـ وتوكيد بوجوب تقوى الله وإطاعته وإطاعة رسوله.
٣ ـ وتنويه بالمتقين الذين ينفقون أموالهم في أيام الشدائد ويكظمون غيظهم ويعفون عن الناس إذا ما بدر منهم إساءة ما يذكرون الله إذا ألموا بفاحشة وذنب فيه ظلم لأنفسهم واستغفروه ولم يصروا على عملهم. فهؤلاء هم المحسنون الذين يحب الله أمثالهم ويقابلهم بالمغفرة ويجعل خلود الجنة لهم جزاء.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٣٠ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٣٦ ]
ولم يرو المفسرون رواية في مناسبة نزول هذه الآيات إلا الآية [ ١٣٥ ] حيث رووا روايتين في ذلك١. ذكر في إحداهما أن واحدا من المسلمين جاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها : في البيت ما هو أجود، فلما خلا بها في بيته ضمها وقبلها. فقالت له : اتق الله فتركها، ثم داخله خوف وفزع فهام على وجهه، ثم أتى رسول الله فاعترف له فنزلت. وذكر في ثانيتهما أن بعض المسلمين قالوا : يا رسول الله بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، فإذا ما أذنبوا وجدوا الكفارة التي يجب أن يكفروها عن ذنبهم مكتوبة على عتبات أبوابهم فكفروا وزال عنهم الذنب، فلم تلبث الآية أن نزلت، فقال : ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم. والروايات لم ترد في الصحاح وتبدو الآيات جميعها منسجمة متساوقة كأنما هي وحدة تامة. وإلى هذا فالآيات تبدو لأول وهلة فصلا مستقلا لا صلة له بسياق مشاهد وقعة أحد ويبدو وضعه في محله غير مفهوم الحكمة ؛ لأن ما قبله وما بعده متصل بمشاهد هذه الوقعة.
ولقد احتوت آيات آتية في صدد مشاهد يوم أحد أن من المسلمين من استمع إلى وساوس المنافقين وتذمر من عدم سماع النبي لرأيه. وأن منهم من عصا النبي وترك المكان الذي عينه له في الحرب وأن منهم من لم يستطع كظم غيظه. مما قد يجعل احتمال صلة بين هذه الآيات وبين ما كان من بعض المسلمين أثناء وقعة أحد وبعدها. غير أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة في الآيات لا يبدو متصلا بشيء من ذلك.
وعلى كل حال ففي الآيات كما هو المتبادر نهي وموعظة وتنبيه وتنويه في صدد أمور وقعت فعلا قبل نزولها فشاءت حكمة التنزيل الوحي بها ووضعها في موضعها.
ولقد روينا في صدد آيات الربا [ ٢٧٥ ـ ٢٨١ ] في سورة البقرة أن هذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن. والمتبادر والحالة هذه أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة الوارد في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها قد نزل قبل آيات البقرة وأنه الخطوة الثانية في صدد تحريم الربا بعد الخطوة الأولى التي تضمنتها آية سورة الروم هذه ﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله... ﴾ [ ٣٩ ] على ما نبهنا عليه في سياق تفسير هذه الآية ثم في سياق تفسير آيات البقرة.
ولقد علقنا بما فيه الكفاية على موضوع الربا ونبهنا على أن مآسيه التي تنطوي في تعبير ﴿ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ هي تعليل حكمة تحريم الربا بالمرة في آيات سورة البقرة، فلا نرى محلا للإعادة أو الزيادة إلا رواية أوردها الطبري في سياق الآية الأولى كمثال على مدى جملة ﴿ أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ جاء فيه :" أن الدائن في الجاهلية كان يأتي إلى مدينه فيقول له : تقضي أو تزيد، فإذا لم يستطع القضاء أجل الدين سنة وضاعفه. فإذا انقضت السنة ولم يستطع المدين القضاء ضوعف الدين المضاعف لسنة أخرى فيصبح أربعة أضعاف بعد سنين " مما ينطوي في ذلك صورة مأساوية للربا توضح ذلك التعليل المنطوي في الآية.
ويتبادر لنا أن ما احتوته الآيات [ ١٣٤ و ١٣٥ ] من التنويه بالذين ينفقون في أيام الشدائد في سبيل الله ووجوه البر ومساعدة المحتاجين ويكظمون غيظهم ويتجملون بالصبر ويعفون عن الناس ويذكرون الله ويستغفرونه حينما يلمون بذنب ولا يصرون عليه متصل بموضوع الآية الأولى من حيث وجوب معاملة المدينين بالبر والتقوى والصبر عليهم والتصدق بما لم يستطيعوا أداءه من دين. وقد احتوت آيات الربا في سورة البقرة وبخاصة الآيتين [ ٢٨٠ و ٢٨١ ] شيئا من ذلك. وبالإضافة إلى هذا فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها ذات تلقين جليل مستمر المدى في صدد الأخلاق الفاضلة والمواقف الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المسلم ويقفها تجاه الله وتجاه الغير في كل ظرف ومكان. وهو ما تكرر بأساليب ومناسبات عديدة في السور المكية والمدنية. ولقد علقنا على هذه الأخلاق والأفعال وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيها والمتساوقة في تلقينها مع تلقين الآيات في السور المفسرة سابقا فنكتفي بهذا التنبيه. مع التنبيه على أمر وهو أن حكمة التنويه في الآيات بالمنفقين في الشدائد ظاهرة. إلا أن ذلك لا يعني بخس أجر وعمل المنفقين في الأوقات الأخرى بطبيعة الحال.
عبارة الآيات واضحة. وفيها :
١ ـ نهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة.
٢ ـ وتوكيد بوجوب تقوى الله وإطاعته وإطاعة رسوله.
٣ ـ وتنويه بالمتقين الذين ينفقون أموالهم في أيام الشدائد ويكظمون غيظهم ويعفون عن الناس إذا ما بدر منهم إساءة ما يذكرون الله إذا ألموا بفاحشة وذنب فيه ظلم لأنفسهم واستغفروه ولم يصروا على عملهم. فهؤلاء هم المحسنون الذين يحب الله أمثالهم ويقابلهم بالمغفرة ويجعل خلود الجنة لهم جزاء.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٣٠ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٣٦ ]
ولم يرو المفسرون رواية في مناسبة نزول هذه الآيات إلا الآية [ ١٣٥ ] حيث رووا روايتين في ذلك١. ذكر في إحداهما أن واحدا من المسلمين جاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها : في البيت ما هو أجود، فلما خلا بها في بيته ضمها وقبلها. فقالت له : اتق الله فتركها، ثم داخله خوف وفزع فهام على وجهه، ثم أتى رسول الله فاعترف له فنزلت. وذكر في ثانيتهما أن بعض المسلمين قالوا : يا رسول الله بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، فإذا ما أذنبوا وجدوا الكفارة التي يجب أن يكفروها عن ذنبهم مكتوبة على عتبات أبوابهم فكفروا وزال عنهم الذنب، فلم تلبث الآية أن نزلت، فقال : ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم. والروايات لم ترد في الصحاح وتبدو الآيات جميعها منسجمة متساوقة كأنما هي وحدة تامة. وإلى هذا فالآيات تبدو لأول وهلة فصلا مستقلا لا صلة له بسياق مشاهد وقعة أحد ويبدو وضعه في محله غير مفهوم الحكمة ؛ لأن ما قبله وما بعده متصل بمشاهد هذه الوقعة.
ولقد احتوت آيات آتية في صدد مشاهد يوم أحد أن من المسلمين من استمع إلى وساوس المنافقين وتذمر من عدم سماع النبي لرأيه. وأن منهم من عصا النبي وترك المكان الذي عينه له في الحرب وأن منهم من لم يستطع كظم غيظه. مما قد يجعل احتمال صلة بين هذه الآيات وبين ما كان من بعض المسلمين أثناء وقعة أحد وبعدها. غير أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة في الآيات لا يبدو متصلا بشيء من ذلك.
وعلى كل حال ففي الآيات كما هو المتبادر نهي وموعظة وتنبيه وتنويه في صدد أمور وقعت فعلا قبل نزولها فشاءت حكمة التنزيل الوحي بها ووضعها في موضعها.
ولقد روينا في صدد آيات الربا [ ٢٧٥ ـ ٢٨١ ] في سورة البقرة أن هذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن. والمتبادر والحالة هذه أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة الوارد في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها قد نزل قبل آيات البقرة وأنه الخطوة الثانية في صدد تحريم الربا بعد الخطوة الأولى التي تضمنتها آية سورة الروم هذه ﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله... ﴾ [ ٣٩ ] على ما نبهنا عليه في سياق تفسير هذه الآية ثم في سياق تفسير آيات البقرة.
ولقد علقنا بما فيه الكفاية على موضوع الربا ونبهنا على أن مآسيه التي تنطوي في تعبير ﴿ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ هي تعليل حكمة تحريم الربا بالمرة في آيات سورة البقرة، فلا نرى محلا للإعادة أو الزيادة إلا رواية أوردها الطبري في سياق الآية الأولى كمثال على مدى جملة ﴿ أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ جاء فيه :" أن الدائن في الجاهلية كان يأتي إلى مدينه فيقول له : تقضي أو تزيد، فإذا لم يستطع القضاء أجل الدين سنة وضاعفه. فإذا انقضت السنة ولم يستطع المدين القضاء ضوعف الدين المضاعف لسنة أخرى فيصبح أربعة أضعاف بعد سنين " مما ينطوي في ذلك صورة مأساوية للربا توضح ذلك التعليل المنطوي في الآية.
ويتبادر لنا أن ما احتوته الآيات [ ١٣٤ و ١٣٥ ] من التنويه بالذين ينفقون في أيام الشدائد في سبيل الله ووجوه البر ومساعدة المحتاجين ويكظمون غيظهم ويتجملون بالصبر ويعفون عن الناس ويذكرون الله ويستغفرونه حينما يلمون بذنب ولا يصرون عليه متصل بموضوع الآية الأولى من حيث وجوب معاملة المدينين بالبر والتقوى والصبر عليهم والتصدق بما لم يستطيعوا أداءه من دين. وقد احتوت آيات الربا في سورة البقرة وبخاصة الآيتين [ ٢٨٠ و ٢٨١ ] شيئا من ذلك. وبالإضافة إلى هذا فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها ذات تلقين جليل مستمر المدى في صدد الأخلاق الفاضلة والمواقف الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المسلم ويقفها تجاه الله وتجاه الغير في كل ظرف ومكان. وهو ما تكرر بأساليب ومناسبات عديدة في السور المكية والمدنية. ولقد علقنا على هذه الأخلاق والأفعال وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيها والمتساوقة في تلقينها مع تلقين الآيات في السور المفسرة سابقا فنكتفي بهذا التنبيه. مع التنبيه على أمر وهو أن حكمة التنويه في الآيات بالمنفقين في الشدائد ظاهرة. إلا أن ذلك لا يعني بخس أجر وعمل المنفقين في الأوقات الأخرى بطبيعة الحال.
عبارة الآيات واضحة. وفيها :
١ ـ نهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة.
٢ ـ وتوكيد بوجوب تقوى الله وإطاعته وإطاعة رسوله.
٣ ـ وتنويه بالمتقين الذين ينفقون أموالهم في أيام الشدائد ويكظمون غيظهم ويعفون عن الناس إذا ما بدر منهم إساءة ما يذكرون الله إذا ألموا بفاحشة وذنب فيه ظلم لأنفسهم واستغفروه ولم يصروا على عملهم. فهؤلاء هم المحسنون الذين يحب الله أمثالهم ويقابلهم بالمغفرة ويجعل خلود الجنة لهم جزاء.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٣٠ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٣٦ ]
ولم يرو المفسرون رواية في مناسبة نزول هذه الآيات إلا الآية [ ١٣٥ ] حيث رووا روايتين في ذلك١. ذكر في إحداهما أن واحدا من المسلمين جاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها : في البيت ما هو أجود، فلما خلا بها في بيته ضمها وقبلها. فقالت له : اتق الله فتركها، ثم داخله خوف وفزع فهام على وجهه، ثم أتى رسول الله فاعترف له فنزلت. وذكر في ثانيتهما أن بعض المسلمين قالوا : يا رسول الله بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، فإذا ما أذنبوا وجدوا الكفارة التي يجب أن يكفروها عن ذنبهم مكتوبة على عتبات أبوابهم فكفروا وزال عنهم الذنب، فلم تلبث الآية أن نزلت، فقال : ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم. والروايات لم ترد في الصحاح وتبدو الآيات جميعها منسجمة متساوقة كأنما هي وحدة تامة. وإلى هذا فالآيات تبدو لأول وهلة فصلا مستقلا لا صلة له بسياق مشاهد وقعة أحد ويبدو وضعه في محله غير مفهوم الحكمة ؛ لأن ما قبله وما بعده متصل بمشاهد هذه الوقعة.
ولقد احتوت آيات آتية في صدد مشاهد يوم أحد أن من المسلمين من استمع إلى وساوس المنافقين وتذمر من عدم سماع النبي لرأيه. وأن منهم من عصا النبي وترك المكان الذي عينه له في الحرب وأن منهم من لم يستطع كظم غيظه. مما قد يجعل احتمال صلة بين هذه الآيات وبين ما كان من بعض المسلمين أثناء وقعة أحد وبعدها. غير أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة في الآيات لا يبدو متصلا بشيء من ذلك.
وعلى كل حال ففي الآيات كما هو المتبادر نهي وموعظة وتنبيه وتنويه في صدد أمور وقعت فعلا قبل نزولها فشاءت حكمة التنزيل الوحي بها ووضعها في موضعها.
ولقد روينا في صدد آيات الربا [ ٢٧٥ ـ ٢٨١ ] في سورة البقرة أن هذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن. والمتبادر والحالة هذه أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة الوارد في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها قد نزل قبل آيات البقرة وأنه الخطوة الثانية في صدد تحريم الربا بعد الخطوة الأولى التي تضمنتها آية سورة الروم هذه ﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله... ﴾ [ ٣٩ ] على ما نبهنا عليه في سياق تفسير هذه الآية ثم في سياق تفسير آيات البقرة.
ولقد علقنا بما فيه الكفاية على موضوع الربا ونبهنا على أن مآسيه التي تنطوي في تعبير ﴿ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ هي تعليل حكمة تحريم الربا بالمرة في آيات سورة البقرة، فلا نرى محلا للإعادة أو الزيادة إلا رواية أوردها الطبري في سياق الآية الأولى كمثال على مدى جملة ﴿ أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ جاء فيه :" أن الدائن في الجاهلية كان يأتي إلى مدينه فيقول له : تقضي أو تزيد، فإذا لم يستطع القضاء أجل الدين سنة وضاعفه. فإذا انقضت السنة ولم يستطع المدين القضاء ضوعف الدين المضاعف لسنة أخرى فيصبح أربعة أضعاف بعد سنين " مما ينطوي في ذلك صورة مأساوية للربا توضح ذلك التعليل المنطوي في الآية.
ويتبادر لنا أن ما احتوته الآيات [ ١٣٤ و ١٣٥ ] من التنويه بالذين ينفقون في أيام الشدائد في سبيل الله ووجوه البر ومساعدة المحتاجين ويكظمون غيظهم ويتجملون بالصبر ويعفون عن الناس ويذكرون الله ويستغفرونه حينما يلمون بذنب ولا يصرون عليه متصل بموضوع الآية الأولى من حيث وجوب معاملة المدينين بالبر والتقوى والصبر عليهم والتصدق بما لم يستطيعوا أداءه من دين. وقد احتوت آيات الربا في سورة البقرة وبخاصة الآيتين [ ٢٨٠ و ٢٨١ ] شيئا من ذلك. وبالإضافة إلى هذا فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها ذات تلقين جليل مستمر المدى في صدد الأخلاق الفاضلة والمواقف الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المسلم ويقفها تجاه الله وتجاه الغير في كل ظرف ومكان. وهو ما تكرر بأساليب ومناسبات عديدة في السور المكية والمدنية. ولقد علقنا على هذه الأخلاق والأفعال وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيها والمتساوقة في تلقينها مع تلقين الآيات في السور المفسرة سابقا فنكتفي بهذا التنبيه. مع التنبيه على أمر وهو أن حكمة التنويه في الآيات بالمنفقين في الشدائد ظاهرة. إلا أن ذلك لا يعني بخس أجر وعمل المنفقين في الأوقات الأخرى بطبيعة الحال.
عبارة الآيات واضحة. وفيها :
١ ـ نهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة.
٢ ـ وتوكيد بوجوب تقوى الله وإطاعته وإطاعة رسوله.
٣ ـ وتنويه بالمتقين الذين ينفقون أموالهم في أيام الشدائد ويكظمون غيظهم ويعفون عن الناس إذا ما بدر منهم إساءة ما يذكرون الله إذا ألموا بفاحشة وذنب فيه ظلم لأنفسهم واستغفروه ولم يصروا على عملهم. فهؤلاء هم المحسنون الذين يحب الله أمثالهم ويقابلهم بالمغفرة ويجعل خلود الجنة لهم جزاء.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٣٠ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٣٦ ]
ولم يرو المفسرون رواية في مناسبة نزول هذه الآيات إلا الآية [ ١٣٥ ] حيث رووا روايتين في ذلك١. ذكر في إحداهما أن واحدا من المسلمين جاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها : في البيت ما هو أجود، فلما خلا بها في بيته ضمها وقبلها. فقالت له : اتق الله فتركها، ثم داخله خوف وفزع فهام على وجهه، ثم أتى رسول الله فاعترف له فنزلت. وذكر في ثانيتهما أن بعض المسلمين قالوا : يا رسول الله بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، فإذا ما أذنبوا وجدوا الكفارة التي يجب أن يكفروها عن ذنبهم مكتوبة على عتبات أبوابهم فكفروا وزال عنهم الذنب، فلم تلبث الآية أن نزلت، فقال : ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم. والروايات لم ترد في الصحاح وتبدو الآيات جميعها منسجمة متساوقة كأنما هي وحدة تامة. وإلى هذا فالآيات تبدو لأول وهلة فصلا مستقلا لا صلة له بسياق مشاهد وقعة أحد ويبدو وضعه في محله غير مفهوم الحكمة ؛ لأن ما قبله وما بعده متصل بمشاهد هذه الوقعة.
ولقد احتوت آيات آتية في صدد مشاهد يوم أحد أن من المسلمين من استمع إلى وساوس المنافقين وتذمر من عدم سماع النبي لرأيه. وأن منهم من عصا النبي وترك المكان الذي عينه له في الحرب وأن منهم من لم يستطع كظم غيظه. مما قد يجعل احتمال صلة بين هذه الآيات وبين ما كان من بعض المسلمين أثناء وقعة أحد وبعدها. غير أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة في الآيات لا يبدو متصلا بشيء من ذلك.
وعلى كل حال ففي الآيات كما هو المتبادر نهي وموعظة وتنبيه وتنويه في صدد أمور وقعت فعلا قبل نزولها فشاءت حكمة التنزيل الوحي بها ووضعها في موضعها.
ولقد روينا في صدد آيات الربا [ ٢٧٥ ـ ٢٨١ ] في سورة البقرة أن هذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن. والمتبادر والحالة هذه أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة الوارد في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها قد نزل قبل آيات البقرة وأنه الخطوة الثانية في صدد تحريم الربا بعد الخطوة الأولى التي تضمنتها آية سورة الروم هذه ﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله... ﴾ [ ٣٩ ] على ما نبهنا عليه في سياق تفسير هذه الآية ثم في سياق تفسير آيات البقرة.
ولقد علقنا بما فيه الكفاية على موضوع الربا ونبهنا على أن مآسيه التي تنطوي في تعبير ﴿ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ هي تعليل حكمة تحريم الربا بالمرة في آيات سورة البقرة، فلا نرى محلا للإعادة أو الزيادة إلا رواية أوردها الطبري في سياق الآية الأولى كمثال على مدى جملة ﴿ أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ جاء فيه :" أن الدائن في الجاهلية كان يأتي إلى مدينه فيقول له : تقضي أو تزيد، فإذا لم يستطع القضاء أجل الدين سنة وضاعفه. فإذا انقضت السنة ولم يستطع المدين القضاء ضوعف الدين المضاعف لسنة أخرى فيصبح أربعة أضعاف بعد سنين " مما ينطوي في ذلك صورة مأساوية للربا توضح ذلك التعليل المنطوي في الآية.
ويتبادر لنا أن ما احتوته الآيات [ ١٣٤ و ١٣٥ ] من التنويه بالذين ينفقون في أيام الشدائد في سبيل الله ووجوه البر ومساعدة المحتاجين ويكظمون غيظهم ويتجملون بالصبر ويعفون عن الناس ويذكرون الله ويستغفرونه حينما يلمون بذنب ولا يصرون عليه متصل بموضوع الآية الأولى من حيث وجوب معاملة المدينين بالبر والتقوى والصبر عليهم والتصدق بما لم يستطيعوا أداءه من دين. وقد احتوت آيات الربا في سورة البقرة وبخاصة الآيتين [ ٢٨٠ و ٢٨١ ] شيئا من ذلك. وبالإضافة إلى هذا فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها ذات تلقين جليل مستمر المدى في صدد الأخلاق الفاضلة والمواقف الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المسلم ويقفها تجاه الله وتجاه الغير في كل ظرف ومكان. وهو ما تكرر بأساليب ومناسبات عديدة في السور المكية والمدنية. ولقد علقنا على هذه الأخلاق والأفعال وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيها والمتساوقة في تلقينها مع تلقين الآيات في السور المفسرة سابقا فنكتفي بهذا التنبيه. مع التنبيه على أمر وهو أن حكمة التنويه في الآيات بالمنفقين في الشدائد ظاهرة. إلا أن ذلك لا يعني بخس أجر وعمل المنفقين في الأوقات الأخرى بطبيعة الحال.
عبارة الآيات واضحة. وفيها :
١ ـ نهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة.
٢ ـ وتوكيد بوجوب تقوى الله وإطاعته وإطاعة رسوله.
٣ ـ وتنويه بالمتقين الذين ينفقون أموالهم في أيام الشدائد ويكظمون غيظهم ويعفون عن الناس إذا ما بدر منهم إساءة ما يذكرون الله إذا ألموا بفاحشة وذنب فيه ظلم لأنفسهم واستغفروه ولم يصروا على عملهم. فهؤلاء هم المحسنون الذين يحب الله أمثالهم ويقابلهم بالمغفرة ويجعل خلود الجنة لهم جزاء.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٣٠ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٣٦ ]
ولم يرو المفسرون رواية في مناسبة نزول هذه الآيات إلا الآية [ ١٣٥ ] حيث رووا روايتين في ذلك١. ذكر في إحداهما أن واحدا من المسلمين جاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها : في البيت ما هو أجود، فلما خلا بها في بيته ضمها وقبلها. فقالت له : اتق الله فتركها، ثم داخله خوف وفزع فهام على وجهه، ثم أتى رسول الله فاعترف له فنزلت. وذكر في ثانيتهما أن بعض المسلمين قالوا : يا رسول الله بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، فإذا ما أذنبوا وجدوا الكفارة التي يجب أن يكفروها عن ذنبهم مكتوبة على عتبات أبوابهم فكفروا وزال عنهم الذنب، فلم تلبث الآية أن نزلت، فقال : ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم. والروايات لم ترد في الصحاح وتبدو الآيات جميعها منسجمة متساوقة كأنما هي وحدة تامة. وإلى هذا فالآيات تبدو لأول وهلة فصلا مستقلا لا صلة له بسياق مشاهد وقعة أحد ويبدو وضعه في محله غير مفهوم الحكمة ؛ لأن ما قبله وما بعده متصل بمشاهد هذه الوقعة.
ولقد احتوت آيات آتية في صدد مشاهد يوم أحد أن من المسلمين من استمع إلى وساوس المنافقين وتذمر من عدم سماع النبي لرأيه. وأن منهم من عصا النبي وترك المكان الذي عينه له في الحرب وأن منهم من لم يستطع كظم غيظه. مما قد يجعل احتمال صلة بين هذه الآيات وبين ما كان من بعض المسلمين أثناء وقعة أحد وبعدها. غير أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة في الآيات لا يبدو متصلا بشيء من ذلك.
وعلى كل حال ففي الآيات كما هو المتبادر نهي وموعظة وتنبيه وتنويه في صدد أمور وقعت فعلا قبل نزولها فشاءت حكمة التنزيل الوحي بها ووضعها في موضعها.
ولقد روينا في صدد آيات الربا [ ٢٧٥ ـ ٢٨١ ] في سورة البقرة أن هذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن. والمتبادر والحالة هذه أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة الوارد في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها قد نزل قبل آيات البقرة وأنه الخطوة الثانية في صدد تحريم الربا بعد الخطوة الأولى التي تضمنتها آية سورة الروم هذه ﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله... ﴾ [ ٣٩ ] على ما نبهنا عليه في سياق تفسير هذه الآية ثم في سياق تفسير آيات البقرة.
ولقد علقنا بما فيه الكفاية على موضوع الربا ونبهنا على أن مآسيه التي تنطوي في تعبير ﴿ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ هي تعليل حكمة تحريم الربا بالمرة في آيات سورة البقرة، فلا نرى محلا للإعادة أو الزيادة إلا رواية أوردها الطبري في سياق الآية الأولى كمثال على مدى جملة ﴿ أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ جاء فيه :" أن الدائن في الجاهلية كان يأتي إلى مدينه فيقول له : تقضي أو تزيد، فإذا لم يستطع القضاء أجل الدين سنة وضاعفه. فإذا انقضت السنة ولم يستطع المدين القضاء ضوعف الدين المضاعف لسنة أخرى فيصبح أربعة أضعاف بعد سنين " مما ينطوي في ذلك صورة مأساوية للربا توضح ذلك التعليل المنطوي في الآية.
ويتبادر لنا أن ما احتوته الآيات [ ١٣٤ و ١٣٥ ] من التنويه بالذين ينفقون في أيام الشدائد في سبيل الله ووجوه البر ومساعدة المحتاجين ويكظمون غيظهم ويتجملون بالصبر ويعفون عن الناس ويذكرون الله ويستغفرونه حينما يلمون بذنب ولا يصرون عليه متصل بموضوع الآية الأولى من حيث وجوب معاملة المدينين بالبر والتقوى والصبر عليهم والتصدق بما لم يستطيعوا أداءه من دين. وقد احتوت آيات الربا في سورة البقرة وبخاصة الآيتين [ ٢٨٠ و ٢٨١ ] شيئا من ذلك. وبالإضافة إلى هذا فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها ذات تلقين جليل مستمر المدى في صدد الأخلاق الفاضلة والمواقف الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المسلم ويقفها تجاه الله وتجاه الغير في كل ظرف ومكان. وهو ما تكرر بأساليب ومناسبات عديدة في السور المكية والمدنية. ولقد علقنا على هذه الأخلاق والأفعال وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيها والمتساوقة في تلقينها مع تلقين الآيات في السور المفسرة سابقا فنكتفي بهذا التنبيه. مع التنبيه على أمر وهو أن حكمة التنويه في الآيات بالمنفقين في الشدائد ظاهرة. إلا أن ذلك لا يعني بخس أجر وعمل المنفقين في الأوقات الأخرى بطبيعة الحال.
عبارة الآيات واضحة. وفيها :
١ ـ نهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة.
٢ ـ وتوكيد بوجوب تقوى الله وإطاعته وإطاعة رسوله.
٣ ـ وتنويه بالمتقين الذين ينفقون أموالهم في أيام الشدائد ويكظمون غيظهم ويعفون عن الناس إذا ما بدر منهم إساءة ما يذكرون الله إذا ألموا بفاحشة وذنب فيه ظلم لأنفسهم واستغفروه ولم يصروا على عملهم. فهؤلاء هم المحسنون الذين يحب الله أمثالهم ويقابلهم بالمغفرة ويجعل خلود الجنة لهم جزاء.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٣٠ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٣٦ ]
ولم يرو المفسرون رواية في مناسبة نزول هذه الآيات إلا الآية [ ١٣٥ ] حيث رووا روايتين في ذلك١. ذكر في إحداهما أن واحدا من المسلمين جاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها : في البيت ما هو أجود، فلما خلا بها في بيته ضمها وقبلها. فقالت له : اتق الله فتركها، ثم داخله خوف وفزع فهام على وجهه، ثم أتى رسول الله فاعترف له فنزلت. وذكر في ثانيتهما أن بعض المسلمين قالوا : يا رسول الله بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، فإذا ما أذنبوا وجدوا الكفارة التي يجب أن يكفروها عن ذنبهم مكتوبة على عتبات أبوابهم فكفروا وزال عنهم الذنب، فلم تلبث الآية أن نزلت، فقال : ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم. والروايات لم ترد في الصحاح وتبدو الآيات جميعها منسجمة متساوقة كأنما هي وحدة تامة. وإلى هذا فالآيات تبدو لأول وهلة فصلا مستقلا لا صلة له بسياق مشاهد وقعة أحد ويبدو وضعه في محله غير مفهوم الحكمة ؛ لأن ما قبله وما بعده متصل بمشاهد هذه الوقعة.
ولقد احتوت آيات آتية في صدد مشاهد يوم أحد أن من المسلمين من استمع إلى وساوس المنافقين وتذمر من عدم سماع النبي لرأيه. وأن منهم من عصا النبي وترك المكان الذي عينه له في الحرب وأن منهم من لم يستطع كظم غيظه. مما قد يجعل احتمال صلة بين هذه الآيات وبين ما كان من بعض المسلمين أثناء وقعة أحد وبعدها. غير أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة في الآيات لا يبدو متصلا بشيء من ذلك.
وعلى كل حال ففي الآيات كما هو المتبادر نهي وموعظة وتنبيه وتنويه في صدد أمور وقعت فعلا قبل نزولها فشاءت حكمة التنزيل الوحي بها ووضعها في موضعها.
ولقد روينا في صدد آيات الربا [ ٢٧٥ ـ ٢٨١ ] في سورة البقرة أن هذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن. والمتبادر والحالة هذه أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة الوارد في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها قد نزل قبل آيات البقرة وأنه الخطوة الثانية في صدد تحريم الربا بعد الخطوة الأولى التي تضمنتها آية سورة الروم هذه ﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله... ﴾ [ ٣٩ ] على ما نبهنا عليه في سياق تفسير هذه الآية ثم في سياق تفسير آيات البقرة.
ولقد علقنا بما فيه الكفاية على موضوع الربا ونبهنا على أن مآسيه التي تنطوي في تعبير ﴿ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ هي تعليل حكمة تحريم الربا بالمرة في آيات سورة البقرة، فلا نرى محلا للإعادة أو الزيادة إلا رواية أوردها الطبري في سياق الآية الأولى كمثال على مدى جملة ﴿ أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ جاء فيه :" أن الدائن في الجاهلية كان يأتي إلى مدينه فيقول له : تقضي أو تزيد، فإذا لم يستطع القضاء أجل الدين سنة وضاعفه. فإذا انقضت السنة ولم يستطع المدين القضاء ضوعف الدين المضاعف لسنة أخرى فيصبح أربعة أضعاف بعد سنين " مما ينطوي في ذلك صورة مأساوية للربا توضح ذلك التعليل المنطوي في الآية.
ويتبادر لنا أن ما احتوته الآيات [ ١٣٤ و ١٣٥ ] من التنويه بالذين ينفقون في أيام الشدائد في سبيل الله ووجوه البر ومساعدة المحتاجين ويكظمون غيظهم ويتجملون بالصبر ويعفون عن الناس ويذكرون الله ويستغفرونه حينما يلمون بذنب ولا يصرون عليه متصل بموضوع الآية الأولى من حيث وجوب معاملة المدينين بالبر والتقوى والصبر عليهم والتصدق بما لم يستطيعوا أداءه من دين. وقد احتوت آيات الربا في سورة البقرة وبخاصة الآيتين [ ٢٨٠ و ٢٨١ ] شيئا من ذلك. وبالإضافة إلى هذا فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها ذات تلقين جليل مستمر المدى في صدد الأخلاق الفاضلة والمواقف الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المسلم ويقفها تجاه الله وتجاه الغير في كل ظرف ومكان. وهو ما تكرر بأساليب ومناسبات عديدة في السور المكية والمدنية. ولقد علقنا على هذه الأخلاق والأفعال وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيها والمتساوقة في تلقينها مع تلقين الآيات في السور المفسرة سابقا فنكتفي بهذا التنبيه. مع التنبيه على أمر وهو أن حكمة التنويه في الآيات بالمنفقين في الشدائد ظاهرة. إلا أن ذلك لا يعني بخس أجر وعمل المنفقين في الأوقات الأخرى بطبيعة الحال.
عبارة الآيات واضحة. وفيها :
١ ـ نهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة.
٢ ـ وتوكيد بوجوب تقوى الله وإطاعته وإطاعة رسوله.
٣ ـ وتنويه بالمتقين الذين ينفقون أموالهم في أيام الشدائد ويكظمون غيظهم ويعفون عن الناس إذا ما بدر منهم إساءة ما يذكرون الله إذا ألموا بفاحشة وذنب فيه ظلم لأنفسهم واستغفروه ولم يصروا على عملهم. فهؤلاء هم المحسنون الذين يحب الله أمثالهم ويقابلهم بالمغفرة ويجعل خلود الجنة لهم جزاء.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٣٠ ) ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٣٦ ]
ولم يرو المفسرون رواية في مناسبة نزول هذه الآيات إلا الآية [ ١٣٥ ] حيث رووا روايتين في ذلك١. ذكر في إحداهما أن واحدا من المسلمين جاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها : في البيت ما هو أجود، فلما خلا بها في بيته ضمها وقبلها. فقالت له : اتق الله فتركها، ثم داخله خوف وفزع فهام على وجهه، ثم أتى رسول الله فاعترف له فنزلت. وذكر في ثانيتهما أن بعض المسلمين قالوا : يا رسول الله بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، فإذا ما أذنبوا وجدوا الكفارة التي يجب أن يكفروها عن ذنبهم مكتوبة على عتبات أبوابهم فكفروا وزال عنهم الذنب، فلم تلبث الآية أن نزلت، فقال : ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم. والروايات لم ترد في الصحاح وتبدو الآيات جميعها منسجمة متساوقة كأنما هي وحدة تامة. وإلى هذا فالآيات تبدو لأول وهلة فصلا مستقلا لا صلة له بسياق مشاهد وقعة أحد ويبدو وضعه في محله غير مفهوم الحكمة ؛ لأن ما قبله وما بعده متصل بمشاهد هذه الوقعة.
ولقد احتوت آيات آتية في صدد مشاهد يوم أحد أن من المسلمين من استمع إلى وساوس المنافقين وتذمر من عدم سماع النبي لرأيه. وأن منهم من عصا النبي وترك المكان الذي عينه له في الحرب وأن منهم من لم يستطع كظم غيظه. مما قد يجعل احتمال صلة بين هذه الآيات وبين ما كان من بعض المسلمين أثناء وقعة أحد وبعدها. غير أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة في الآيات لا يبدو متصلا بشيء من ذلك.
وعلى كل حال ففي الآيات كما هو المتبادر نهي وموعظة وتنبيه وتنويه في صدد أمور وقعت فعلا قبل نزولها فشاءت حكمة التنزيل الوحي بها ووضعها في موضعها.
ولقد روينا في صدد آيات الربا [ ٢٧٥ ـ ٢٨١ ] في سورة البقرة أن هذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن. والمتبادر والحالة هذه أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة الوارد في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها قد نزل قبل آيات البقرة وأنه الخطوة الثانية في صدد تحريم الربا بعد الخطوة الأولى التي تضمنتها آية سورة الروم هذه ﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله... ﴾ [ ٣٩ ] على ما نبهنا عليه في سياق تفسير هذه الآية ثم في سياق تفسير آيات البقرة.
ولقد علقنا بما فيه الكفاية على موضوع الربا ونبهنا على أن مآسيه التي تنطوي في تعبير ﴿ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ هي تعليل حكمة تحريم الربا بالمرة في آيات سورة البقرة، فلا نرى محلا للإعادة أو الزيادة إلا رواية أوردها الطبري في سياق الآية الأولى كمثال على مدى جملة ﴿ أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ جاء فيه :" أن الدائن في الجاهلية كان يأتي إلى مدينه فيقول له : تقضي أو تزيد، فإذا لم يستطع القضاء أجل الدين سنة وضاعفه. فإذا انقضت السنة ولم يستطع المدين القضاء ضوعف الدين المضاعف لسنة أخرى فيصبح أربعة أضعاف بعد سنين " مما ينطوي في ذلك صورة مأساوية للربا توضح ذلك التعليل المنطوي في الآية.
ويتبادر لنا أن ما احتوته الآيات [ ١٣٤ و ١٣٥ ] من التنويه بالذين ينفقون في أيام الشدائد في سبيل الله ووجوه البر ومساعدة المحتاجين ويكظمون غيظهم ويتجملون بالصبر ويعفون عن الناس ويذكرون الله ويستغفرونه حينما يلمون بذنب ولا يصرون عليه متصل بموضوع الآية الأولى من حيث وجوب معاملة المدينين بالبر والتقوى والصبر عليهم والتصدق بما لم يستطيعوا أداءه من دين. وقد احتوت آيات الربا في سورة البقرة وبخاصة الآيتين [ ٢٨٠ و ٢٨١ ] شيئا من ذلك. وبالإضافة إلى هذا فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها ذات تلقين جليل مستمر المدى في صدد الأخلاق الفاضلة والمواقف الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المسلم ويقفها تجاه الله وتجاه الغير في كل ظرف ومكان. وهو ما تكرر بأساليب ومناسبات عديدة في السور المكية والمدنية. ولقد علقنا على هذه الأخلاق والأفعال وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيها والمتساوقة في تلقينها مع تلقين الآيات في السور المفسرة سابقا فنكتفي بهذا التنبيه. مع التنبيه على أمر وهو أن حكمة التنويه في الآيات بالمنفقين في الشدائد ظاهرة. إلا أن ذلك لا يعني بخس أجر وعمل المنفقين في الأوقات الأخرى بطبيعة الحال.
( ٢ ) قرح : بمعنى الأذى والسوء. قيل إنها هنا بمعنى ما أصاب المسلمين في أحد من جروح وقتل.
( ٣ ) وليعلم الله : ولما يعلم الله، المتبادر أنهما تعبيران أسلوبيان بمعنى ليظهر الله.
( ٤ ) وليمحص : ولينقي. أو ليختبر.
في هذه الآيات وجه الخطاب إلى المؤمنين وهي :
١ ـ مقررة أنه قد جرت سنة الله قبلهم في خذل الكافرين والمكذبين، وأنه لمن الممكن أن يروا مصداق ذلك في الأمم السابقة إذا ساروا في الأرض وزاروا مساكنها وآثارها، وأن القرآن قد احتوى من القصص والأمثال ما فيه البيان الكافي والهدى والموعظة لمن يتقي الله ويؤمن به.
٢ ـ وناهية عن أن يهنوا ويحزنوا لما أصابهم. فهم الأعلون على أعدائهم على كل حال. وفي البداية والنهاية على ما جرت سنة الله وعليهم أن يطمئنوا بذلك كل الطمأنينة إذا كانوا مؤمنين حقا.
٣ ـ ومنبهة إلى أنه إذا كان أصابهم أذى وسوء فقد أصاب أعداءهم مثل ذلك أيضا، وأن الأيام دول وسجال بين الناس، وأن ما أصابهم في هذا اليوم مما اقتضته حكمة الله ؛ حيث أراد أن يختبر الناس ويظهرهم على حقيقتهم ويميز المؤمنين الصادقين ويكرم بعضهم بالشهادة وينقي نفوسهم ويطهرها فلا ينبغي أن يخطر ببال أحد منهم أنه تخلى عنهم. فإن الله لا يحب البغاة الظالمين ولا بد له من محق الكافرين والمكذبين، وأنه لا ينبغي لهم أن يحسبوا أن دخول الجنة أمر سهل، وإنما هو منوط باختبارات يختبر الله بها عباده ويتميز فيها المجاهدون منهم والصابرون بالفعل والبرهان.
تعليق على الآية
﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ... ﴾ إلخ
وما بعدها لغاية الآية [ ١٤٢ ]
وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة
وواضح أن أسلوب الآيات هو أسلوب تطمين وتسكين وتسلية وتعزية وتقوية نفس وتهدئة روع وبعث أمل.
وقد روى المفسرون أن الآيتين [ ١٣٩ ـ ١٤٠ ] نزلتا حينما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد وقعة أحد إلى الخروج إلى الكفار الذين بلغه أنهم فكروا في الكرة على المسلمين على ما ذكرناه قبل، كما رووا أنهما نزلتا في تسلية المسلمين عن دوران الدائرة عليهم في وقعة أحد.
والرواية الثانية هي الأكثر اتساقا مع فحوى الآيات مع القول : إن ما جاء فيها ينسحب على الآيات جميعها ؛ لأنها سلسلة منسجمة. ولقد حلّ بالمؤمنين في وقعة أحد آلام وأحزان وضحايا فاقتضت حكمة التنزيل معالجتها بهذه الآيات القوية النافذة حقا التي من شأنها بعث الطمأنينة والعزاء والأمل في المسلمين.
وخلاصة ما روي من وقائع وقعة أحد١ أن قريشا زحفوا بثلاثة آلاف فيهم ٧٠٠ دارع ومعهم ٢٠٠ فرس و٣٠٠٠ بعير وخمس عشرة امرأة منهن هند زوجة أبي سفيان ليذكرن الرجال بقتلى بدر ويحمسنهم على القتال والثأر. وكان الذين خرجوا مع رسول الله وشهدوا المعركة ٧٠٠ وقد طمأنهم النبي بتأييد الله ونصره إذا صبروا وثبتوا. وجعل الرماة في مكان عال وشدد عليهم الوصية بأن لا يغادروا مكانهم مهما جرى، وأن يستمروا على رشق العدو بالنبال من ورائهم وحماية ظهرهم. ثم رتب الصفوف. ونشب القتال بالمبارزة ثم بالتزاحف فانكشف المشركون وانهزموا لا يلوون على شيء وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح حتى أجهضوهم ـ أبعدوهم ـ عن معسكرهم، ثم أقبلوا ينتبهون هذا المعسكر. ورأى الرماة ما جرى فظنوا أن المعركة انتهت وتداولوا الأمر في النزول والاشتراك في النهب، فاعترض البعض وقالوا : إن هذا مخالف لوصية رسول الله. وتنازعوا ثم ترك أكثرهم مكانه ولم يبق ثابتا إلا ثلاثة عشر بقيادة عبد الله بن جبير ظلوا يرمون المشركين بنبالهم. ورأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ـ وكانا على خيالة قريش ـ خلو المرتفع من حماته الرماة فكرا بالخيل على هذه الناحية وقتلوا من بقي من الرماة فيه، ثم أتوا المسلمين من ورائهم فانتقضت صفوف المسلمين وانقلبت المعركة ضدهم وأخذوا ينهزمون صاعدين الجبل، ونادى مناد من ناحية قريش : إن محمدا قد قتل، فازداد الذعر والفوضى، وانهزم معظم المسلمين لا يلوون على شيء.
وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من أصحابه في الميدان. وسقط في حفرة فكسرت رباعيته وشج رأسه، ولكنه ظلّ ثابت الجنان يهتف بالمسلمين ويدعوهم إلى العودة، فلم يلبثوا أن آب إليهم رشدهم وعادوا إلى النبي وكان القتال قد توقف وقد استشهد نحو عشرة من المهاجرين في رواية وأقل من ذلك في رواية، منهم حمزة عمّ النبي ومصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله إلى المدينة بعد اتفاقه مع أهلها قارئا وإماما وداعيا، وكان صاحب راية رسول الله يوم أحد، ونحو سبعين من الأنصار رضي الله عنهم جميعا. وكان قاتل حمزة حبشيا مملوكا اسمه وحشي عند جبير بن مطعم فوعده بالعتق إن هو قتل حمزة ثأرا لعمه طعمة الذي قتل في بدر. وكان وحشي ماهرا برمي الحربة ففعل. وروي أن هند زوجة أبي سفيان كانت من المحرضات له ثأرا لأخيها وأبيها وابن لها قتلوا في بدر أيضا، ومما روي أنها بقرت بطن حمزة وأخذت قطعة من قلبه أو كبده ولاكتها. وكان عدد قتلى قريش ٢٣ فيهم بعض الصناديد. وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا منهم هو أبي بن خلف الجمحي حيث هاجم النبي وقال له : سأقتلك، فقال له : بل أنا الذي أقتلك، ثم رماه بحربة كسرت أضلاعه، وما لبث أن هلك.
ومما روي من صور بطولات المخلصين في المعركة أن عمّ أنس بن مالك كان غاب عن بدر فقال :" لئن أشهدني الله مع النبي يوما ليرين مني ما أحب، فجاهد يوم أحد، فلما انهزم الناس قال : اللهم إني أعتذر إليك ما صنع المسلمون، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، ثم تقدم فما زال يقاتل حتى قتل وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية سهم ". وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد بسبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين، فلما رهقه المشركون قال : من يردهم وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم تقدم أخر فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الآخرون يتقدمون واحد بعد آخر دون رسول الله حتى قتلوا. وأن أبا طلحة وكان رجلا راميا شديد النزع فقام على رأس رسول الله، فيما انهزم الناس وأخذ يرمي بسهامه حتى كسر قوسين أو ثلاثة. والنبي يقول لمن يمرّ عليه بحجفة من النبل : انثرها لأبي طلحة. ولقد أشرف النبي على الناس فقال له أبو طلحة : بأبي أنت وأمي لا تشرف. يصبك سهم ونحري دون نحرك. وروى الطبرسي عن الإمام أبي جعفر أن عليا رضي الله عنه أصابه يوم أحد ستون جرحا فعالجته أم عطية بأمر رسول الله، وكان رسول الله والمسلمون يعودونه، وكان عليّ يقول : الحمد لله لم أفرّ ولم أول الدبر.
ومما روي أن أبا سفيان هتف : أفي القوم محمد ؟ ثلاث مرات فأمر النبي بأن لا يجيبوه. ثم هتف : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثم هتف : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فلما لم يسمع جوابا قال لقومه : أما هؤلاء فقد قتلوا وكفيتموهم. فما ملك عمر نفسه أن قال : كذبت يا عدو الله إنهم لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك. كذلك مما روي أن أبا سفيان هتف ( يوم بيوم بدر ) والحرب سجال وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز ( اعل هبل. اعل هبل ) فردّ عليه المسلمون بأمر النبي ( الله أعلى وأجل ) وهتف ( لنا العزى ولا عزى لكم ) فأجابوه ( الله مولانا ولا مولى لكم ).
ومما روي أن قريشا ندموا لعدم استئصال المسلمين وفكروا في الكرة عليهم، وعلم النبي بذلك فندب المسلمين إلى الخروج، فاستجابوا له وخرجوا رغم ما كان ألمّ به وبهم من جروح وتعب وحزن فوصلوا مكانا اسمه حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا.
وفي الآيات التالية إشارات عديدة تؤيد صحة كثير مما جاء في هذه المرويات التي ورد كثير منها في صحيح البخاري ومسلم أيضا٢.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها جديرة أن تكون منبع قوة روحية مستمرة ينهل منه المسلمون المخلصون في كل زمن ومكان، يقع عليهم مثل ما وقع على المسلمين في يوم أحد، فيردّ عنهم شعور الفزع واليأس ويمدهم بالتأييد الذي يحفزهم على مقابلة الموقف بما يقتضيه من النشاط والتفاني.
ولقد كان ثبات النبي صلى الله عليه وسلم في الميدان وشجاعته ورباطة جأشه وهو ما أيدته الآيات التي تأتي بعد قليل رغم ما أصابه من جروح ورغم انهزام معظم جيشه موقفا لائقا بالعظمة النبوية. وكان فيما هو المتبادر العامل الأقوى في وقوف كفار قريش عند الحد الذي وقفت عنده المعركة على كثرة عددهم وقوة عددهم ؛ حيث عاد المنهزمون وانضووا إليه وتجلدوا وتماسكوا أمام عدوهم القوي. وقد تجلت مثل هذه العظمة في خروجه على رأس المسلمين للقاء هذا العدو الذي قيل : إنه كان يفكر في الكرة. وفي هذا وذاك أروع الأمثلة وأقوى الأسوة لزعماء المسلمين وقادتهم الذي يجب أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة.
في هذه الآيات وجه الخطاب إلى المؤمنين وهي :
١ ـ مقررة أنه قد جرت سنة الله قبلهم في خذل الكافرين والمكذبين، وأنه لمن الممكن أن يروا مصداق ذلك في الأمم السابقة إذا ساروا في الأرض وزاروا مساكنها وآثارها، وأن القرآن قد احتوى من القصص والأمثال ما فيه البيان الكافي والهدى والموعظة لمن يتقي الله ويؤمن به.
٢ ـ وناهية عن أن يهنوا ويحزنوا لما أصابهم. فهم الأعلون على أعدائهم على كل حال. وفي البداية والنهاية على ما جرت سنة الله وعليهم أن يطمئنوا بذلك كل الطمأنينة إذا كانوا مؤمنين حقا.
٣ ـ ومنبهة إلى أنه إذا كان أصابهم أذى وسوء فقد أصاب أعداءهم مثل ذلك أيضا، وأن الأيام دول وسجال بين الناس، وأن ما أصابهم في هذا اليوم مما اقتضته حكمة الله ؛ حيث أراد أن يختبر الناس ويظهرهم على حقيقتهم ويميز المؤمنين الصادقين ويكرم بعضهم بالشهادة وينقي نفوسهم ويطهرها فلا ينبغي أن يخطر ببال أحد منهم أنه تخلى عنهم. فإن الله لا يحب البغاة الظالمين ولا بد له من محق الكافرين والمكذبين، وأنه لا ينبغي لهم أن يحسبوا أن دخول الجنة أمر سهل، وإنما هو منوط باختبارات يختبر الله بها عباده ويتميز فيها المجاهدون منهم والصابرون بالفعل والبرهان.
تعليق على الآية
﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ... ﴾ إلخ
وما بعدها لغاية الآية [ ١٤٢ ]
وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة
وواضح أن أسلوب الآيات هو أسلوب تطمين وتسكين وتسلية وتعزية وتقوية نفس وتهدئة روع وبعث أمل.
وقد روى المفسرون أن الآيتين [ ١٣٩ ـ ١٤٠ ] نزلتا حينما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد وقعة أحد إلى الخروج إلى الكفار الذين بلغه أنهم فكروا في الكرة على المسلمين على ما ذكرناه قبل، كما رووا أنهما نزلتا في تسلية المسلمين عن دوران الدائرة عليهم في وقعة أحد.
والرواية الثانية هي الأكثر اتساقا مع فحوى الآيات مع القول : إن ما جاء فيها ينسحب على الآيات جميعها ؛ لأنها سلسلة منسجمة. ولقد حلّ بالمؤمنين في وقعة أحد آلام وأحزان وضحايا فاقتضت حكمة التنزيل معالجتها بهذه الآيات القوية النافذة حقا التي من شأنها بعث الطمأنينة والعزاء والأمل في المسلمين.
وخلاصة ما روي من وقائع وقعة أحد١ أن قريشا زحفوا بثلاثة آلاف فيهم ٧٠٠ دارع ومعهم ٢٠٠ فرس و٣٠٠٠ بعير وخمس عشرة امرأة منهن هند زوجة أبي سفيان ليذكرن الرجال بقتلى بدر ويحمسنهم على القتال والثأر. وكان الذين خرجوا مع رسول الله وشهدوا المعركة ٧٠٠ وقد طمأنهم النبي بتأييد الله ونصره إذا صبروا وثبتوا. وجعل الرماة في مكان عال وشدد عليهم الوصية بأن لا يغادروا مكانهم مهما جرى، وأن يستمروا على رشق العدو بالنبال من ورائهم وحماية ظهرهم. ثم رتب الصفوف. ونشب القتال بالمبارزة ثم بالتزاحف فانكشف المشركون وانهزموا لا يلوون على شيء وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح حتى أجهضوهم ـ أبعدوهم ـ عن معسكرهم، ثم أقبلوا ينتبهون هذا المعسكر. ورأى الرماة ما جرى فظنوا أن المعركة انتهت وتداولوا الأمر في النزول والاشتراك في النهب، فاعترض البعض وقالوا : إن هذا مخالف لوصية رسول الله. وتنازعوا ثم ترك أكثرهم مكانه ولم يبق ثابتا إلا ثلاثة عشر بقيادة عبد الله بن جبير ظلوا يرمون المشركين بنبالهم. ورأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ـ وكانا على خيالة قريش ـ خلو المرتفع من حماته الرماة فكرا بالخيل على هذه الناحية وقتلوا من بقي من الرماة فيه، ثم أتوا المسلمين من ورائهم فانتقضت صفوف المسلمين وانقلبت المعركة ضدهم وأخذوا ينهزمون صاعدين الجبل، ونادى مناد من ناحية قريش : إن محمدا قد قتل، فازداد الذعر والفوضى، وانهزم معظم المسلمين لا يلوون على شيء.
وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من أصحابه في الميدان. وسقط في حفرة فكسرت رباعيته وشج رأسه، ولكنه ظلّ ثابت الجنان يهتف بالمسلمين ويدعوهم إلى العودة، فلم يلبثوا أن آب إليهم رشدهم وعادوا إلى النبي وكان القتال قد توقف وقد استشهد نحو عشرة من المهاجرين في رواية وأقل من ذلك في رواية، منهم حمزة عمّ النبي ومصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله إلى المدينة بعد اتفاقه مع أهلها قارئا وإماما وداعيا، وكان صاحب راية رسول الله يوم أحد، ونحو سبعين من الأنصار رضي الله عنهم جميعا. وكان قاتل حمزة حبشيا مملوكا اسمه وحشي عند جبير بن مطعم فوعده بالعتق إن هو قتل حمزة ثأرا لعمه طعمة الذي قتل في بدر. وكان وحشي ماهرا برمي الحربة ففعل. وروي أن هند زوجة أبي سفيان كانت من المحرضات له ثأرا لأخيها وأبيها وابن لها قتلوا في بدر أيضا، ومما روي أنها بقرت بطن حمزة وأخذت قطعة من قلبه أو كبده ولاكتها. وكان عدد قتلى قريش ٢٣ فيهم بعض الصناديد. وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا منهم هو أبي بن خلف الجمحي حيث هاجم النبي وقال له : سأقتلك، فقال له : بل أنا الذي أقتلك، ثم رماه بحربة كسرت أضلاعه، وما لبث أن هلك.
ومما روي من صور بطولات المخلصين في المعركة أن عمّ أنس بن مالك كان غاب عن بدر فقال :" لئن أشهدني الله مع النبي يوما ليرين مني ما أحب، فجاهد يوم أحد، فلما انهزم الناس قال : اللهم إني أعتذر إليك ما صنع المسلمون، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، ثم تقدم فما زال يقاتل حتى قتل وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية سهم ". وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد بسبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين، فلما رهقه المشركون قال : من يردهم وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم تقدم أخر فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الآخرون يتقدمون واحد بعد آخر دون رسول الله حتى قتلوا. وأن أبا طلحة وكان رجلا راميا شديد النزع فقام على رأس رسول الله، فيما انهزم الناس وأخذ يرمي بسهامه حتى كسر قوسين أو ثلاثة. والنبي يقول لمن يمرّ عليه بحجفة من النبل : انثرها لأبي طلحة. ولقد أشرف النبي على الناس فقال له أبو طلحة : بأبي أنت وأمي لا تشرف. يصبك سهم ونحري دون نحرك. وروى الطبرسي عن الإمام أبي جعفر أن عليا رضي الله عنه أصابه يوم أحد ستون جرحا فعالجته أم عطية بأمر رسول الله، وكان رسول الله والمسلمون يعودونه، وكان عليّ يقول : الحمد لله لم أفرّ ولم أول الدبر.
ومما روي أن أبا سفيان هتف : أفي القوم محمد ؟ ثلاث مرات فأمر النبي بأن لا يجيبوه. ثم هتف : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثم هتف : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فلما لم يسمع جوابا قال لقومه : أما هؤلاء فقد قتلوا وكفيتموهم. فما ملك عمر نفسه أن قال : كذبت يا عدو الله إنهم لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك. كذلك مما روي أن أبا سفيان هتف ( يوم بيوم بدر ) والحرب سجال وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز ( اعل هبل. اعل هبل ) فردّ عليه المسلمون بأمر النبي ( الله أعلى وأجل ) وهتف ( لنا العزى ولا عزى لكم ) فأجابوه ( الله مولانا ولا مولى لكم ).
ومما روي أن قريشا ندموا لعدم استئصال المسلمين وفكروا في الكرة عليهم، وعلم النبي بذلك فندب المسلمين إلى الخروج، فاستجابوا له وخرجوا رغم ما كان ألمّ به وبهم من جروح وتعب وحزن فوصلوا مكانا اسمه حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا.
وفي الآيات التالية إشارات عديدة تؤيد صحة كثير مما جاء في هذه المرويات التي ورد كثير منها في صحيح البخاري ومسلم أيضا٢.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها جديرة أن تكون منبع قوة روحية مستمرة ينهل منه المسلمون المخلصون في كل زمن ومكان، يقع عليهم مثل ما وقع على المسلمين في يوم أحد، فيردّ عنهم شعور الفزع واليأس ويمدهم بالتأييد الذي يحفزهم على مقابلة الموقف بما يقتضيه من النشاط والتفاني.
ولقد كان ثبات النبي صلى الله عليه وسلم في الميدان وشجاعته ورباطة جأشه وهو ما أيدته الآيات التي تأتي بعد قليل رغم ما أصابه من جروح ورغم انهزام معظم جيشه موقفا لائقا بالعظمة النبوية. وكان فيما هو المتبادر العامل الأقوى في وقوف كفار قريش عند الحد الذي وقفت عنده المعركة على كثرة عددهم وقوة عددهم ؛ حيث عاد المنهزمون وانضووا إليه وتجلدوا وتماسكوا أمام عدوهم القوي. وقد تجلت مثل هذه العظمة في خروجه على رأس المسلمين للقاء هذا العدو الذي قيل : إنه كان يفكر في الكرة. وفي هذا وذاك أروع الأمثلة وأقوى الأسوة لزعماء المسلمين وقادتهم الذي يجب أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة.
في هذه الآيات وجه الخطاب إلى المؤمنين وهي :
١ ـ مقررة أنه قد جرت سنة الله قبلهم في خذل الكافرين والمكذبين، وأنه لمن الممكن أن يروا مصداق ذلك في الأمم السابقة إذا ساروا في الأرض وزاروا مساكنها وآثارها، وأن القرآن قد احتوى من القصص والأمثال ما فيه البيان الكافي والهدى والموعظة لمن يتقي الله ويؤمن به.
٢ ـ وناهية عن أن يهنوا ويحزنوا لما أصابهم. فهم الأعلون على أعدائهم على كل حال. وفي البداية والنهاية على ما جرت سنة الله وعليهم أن يطمئنوا بذلك كل الطمأنينة إذا كانوا مؤمنين حقا.
٣ ـ ومنبهة إلى أنه إذا كان أصابهم أذى وسوء فقد أصاب أعداءهم مثل ذلك أيضا، وأن الأيام دول وسجال بين الناس، وأن ما أصابهم في هذا اليوم مما اقتضته حكمة الله ؛ حيث أراد أن يختبر الناس ويظهرهم على حقيقتهم ويميز المؤمنين الصادقين ويكرم بعضهم بالشهادة وينقي نفوسهم ويطهرها فلا ينبغي أن يخطر ببال أحد منهم أنه تخلى عنهم. فإن الله لا يحب البغاة الظالمين ولا بد له من محق الكافرين والمكذبين، وأنه لا ينبغي لهم أن يحسبوا أن دخول الجنة أمر سهل، وإنما هو منوط باختبارات يختبر الله بها عباده ويتميز فيها المجاهدون منهم والصابرون بالفعل والبرهان.
تعليق على الآية
﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ... ﴾ إلخ
وما بعدها لغاية الآية [ ١٤٢ ]
وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة
وواضح أن أسلوب الآيات هو أسلوب تطمين وتسكين وتسلية وتعزية وتقوية نفس وتهدئة روع وبعث أمل.
وقد روى المفسرون أن الآيتين [ ١٣٩ ـ ١٤٠ ] نزلتا حينما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد وقعة أحد إلى الخروج إلى الكفار الذين بلغه أنهم فكروا في الكرة على المسلمين على ما ذكرناه قبل، كما رووا أنهما نزلتا في تسلية المسلمين عن دوران الدائرة عليهم في وقعة أحد.
والرواية الثانية هي الأكثر اتساقا مع فحوى الآيات مع القول : إن ما جاء فيها ينسحب على الآيات جميعها ؛ لأنها سلسلة منسجمة. ولقد حلّ بالمؤمنين في وقعة أحد آلام وأحزان وضحايا فاقتضت حكمة التنزيل معالجتها بهذه الآيات القوية النافذة حقا التي من شأنها بعث الطمأنينة والعزاء والأمل في المسلمين.
وخلاصة ما روي من وقائع وقعة أحد١ أن قريشا زحفوا بثلاثة آلاف فيهم ٧٠٠ دارع ومعهم ٢٠٠ فرس و٣٠٠٠ بعير وخمس عشرة امرأة منهن هند زوجة أبي سفيان ليذكرن الرجال بقتلى بدر ويحمسنهم على القتال والثأر. وكان الذين خرجوا مع رسول الله وشهدوا المعركة ٧٠٠ وقد طمأنهم النبي بتأييد الله ونصره إذا صبروا وثبتوا. وجعل الرماة في مكان عال وشدد عليهم الوصية بأن لا يغادروا مكانهم مهما جرى، وأن يستمروا على رشق العدو بالنبال من ورائهم وحماية ظهرهم. ثم رتب الصفوف. ونشب القتال بالمبارزة ثم بالتزاحف فانكشف المشركون وانهزموا لا يلوون على شيء وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح حتى أجهضوهم ـ أبعدوهم ـ عن معسكرهم، ثم أقبلوا ينتبهون هذا المعسكر. ورأى الرماة ما جرى فظنوا أن المعركة انتهت وتداولوا الأمر في النزول والاشتراك في النهب، فاعترض البعض وقالوا : إن هذا مخالف لوصية رسول الله. وتنازعوا ثم ترك أكثرهم مكانه ولم يبق ثابتا إلا ثلاثة عشر بقيادة عبد الله بن جبير ظلوا يرمون المشركين بنبالهم. ورأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ـ وكانا على خيالة قريش ـ خلو المرتفع من حماته الرماة فكرا بالخيل على هذه الناحية وقتلوا من بقي من الرماة فيه، ثم أتوا المسلمين من ورائهم فانتقضت صفوف المسلمين وانقلبت المعركة ضدهم وأخذوا ينهزمون صاعدين الجبل، ونادى مناد من ناحية قريش : إن محمدا قد قتل، فازداد الذعر والفوضى، وانهزم معظم المسلمين لا يلوون على شيء.
وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من أصحابه في الميدان. وسقط في حفرة فكسرت رباعيته وشج رأسه، ولكنه ظلّ ثابت الجنان يهتف بالمسلمين ويدعوهم إلى العودة، فلم يلبثوا أن آب إليهم رشدهم وعادوا إلى النبي وكان القتال قد توقف وقد استشهد نحو عشرة من المهاجرين في رواية وأقل من ذلك في رواية، منهم حمزة عمّ النبي ومصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله إلى المدينة بعد اتفاقه مع أهلها قارئا وإماما وداعيا، وكان صاحب راية رسول الله يوم أحد، ونحو سبعين من الأنصار رضي الله عنهم جميعا. وكان قاتل حمزة حبشيا مملوكا اسمه وحشي عند جبير بن مطعم فوعده بالعتق إن هو قتل حمزة ثأرا لعمه طعمة الذي قتل في بدر. وكان وحشي ماهرا برمي الحربة ففعل. وروي أن هند زوجة أبي سفيان كانت من المحرضات له ثأرا لأخيها وأبيها وابن لها قتلوا في بدر أيضا، ومما روي أنها بقرت بطن حمزة وأخذت قطعة من قلبه أو كبده ولاكتها. وكان عدد قتلى قريش ٢٣ فيهم بعض الصناديد. وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا منهم هو أبي بن خلف الجمحي حيث هاجم النبي وقال له : سأقتلك، فقال له : بل أنا الذي أقتلك، ثم رماه بحربة كسرت أضلاعه، وما لبث أن هلك.
ومما روي من صور بطولات المخلصين في المعركة أن عمّ أنس بن مالك كان غاب عن بدر فقال :" لئن أشهدني الله مع النبي يوما ليرين مني ما أحب، فجاهد يوم أحد، فلما انهزم الناس قال : اللهم إني أعتذر إليك ما صنع المسلمون، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، ثم تقدم فما زال يقاتل حتى قتل وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية سهم ". وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد بسبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين، فلما رهقه المشركون قال : من يردهم وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم تقدم أخر فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الآخرون يتقدمون واحد بعد آخر دون رسول الله حتى قتلوا. وأن أبا طلحة وكان رجلا راميا شديد النزع فقام على رأس رسول الله، فيما انهزم الناس وأخذ يرمي بسهامه حتى كسر قوسين أو ثلاثة. والنبي يقول لمن يمرّ عليه بحجفة من النبل : انثرها لأبي طلحة. ولقد أشرف النبي على الناس فقال له أبو طلحة : بأبي أنت وأمي لا تشرف. يصبك سهم ونحري دون نحرك. وروى الطبرسي عن الإمام أبي جعفر أن عليا رضي الله عنه أصابه يوم أحد ستون جرحا فعالجته أم عطية بأمر رسول الله، وكان رسول الله والمسلمون يعودونه، وكان عليّ يقول : الحمد لله لم أفرّ ولم أول الدبر.
ومما روي أن أبا سفيان هتف : أفي القوم محمد ؟ ثلاث مرات فأمر النبي بأن لا يجيبوه. ثم هتف : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثم هتف : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فلما لم يسمع جوابا قال لقومه : أما هؤلاء فقد قتلوا وكفيتموهم. فما ملك عمر نفسه أن قال : كذبت يا عدو الله إنهم لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك. كذلك مما روي أن أبا سفيان هتف ( يوم بيوم بدر ) والحرب سجال وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز ( اعل هبل. اعل هبل ) فردّ عليه المسلمون بأمر النبي ( الله أعلى وأجل ) وهتف ( لنا العزى ولا عزى لكم ) فأجابوه ( الله مولانا ولا مولى لكم ).
ومما روي أن قريشا ندموا لعدم استئصال المسلمين وفكروا في الكرة عليهم، وعلم النبي بذلك فندب المسلمين إلى الخروج، فاستجابوا له وخرجوا رغم ما كان ألمّ به وبهم من جروح وتعب وحزن فوصلوا مكانا اسمه حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا.
وفي الآيات التالية إشارات عديدة تؤيد صحة كثير مما جاء في هذه المرويات التي ورد كثير منها في صحيح البخاري ومسلم أيضا٢.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها جديرة أن تكون منبع قوة روحية مستمرة ينهل منه المسلمون المخلصون في كل زمن ومكان، يقع عليهم مثل ما وقع على المسلمين في يوم أحد، فيردّ عنهم شعور الفزع واليأس ويمدهم بالتأييد الذي يحفزهم على مقابلة الموقف بما يقتضيه من النشاط والتفاني.
ولقد كان ثبات النبي صلى الله عليه وسلم في الميدان وشجاعته ورباطة جأشه وهو ما أيدته الآيات التي تأتي بعد قليل رغم ما أصابه من جروح ورغم انهزام معظم جيشه موقفا لائقا بالعظمة النبوية. وكان فيما هو المتبادر العامل الأقوى في وقوف كفار قريش عند الحد الذي وقفت عنده المعركة على كثرة عددهم وقوة عددهم ؛ حيث عاد المنهزمون وانضووا إليه وتجلدوا وتماسكوا أمام عدوهم القوي. وقد تجلت مثل هذه العظمة في خروجه على رأس المسلمين للقاء هذا العدو الذي قيل : إنه كان يفكر في الكرة. وفي هذا وذاك أروع الأمثلة وأقوى الأسوة لزعماء المسلمين وقادتهم الذي يجب أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة.
( ٣ ) وليعلم الله : ولما يعلم الله، المتبادر أنهما تعبيران أسلوبيان بمعنى ليظهر الله.
في هذه الآيات وجه الخطاب إلى المؤمنين وهي :
١ ـ مقررة أنه قد جرت سنة الله قبلهم في خذل الكافرين والمكذبين، وأنه لمن الممكن أن يروا مصداق ذلك في الأمم السابقة إذا ساروا في الأرض وزاروا مساكنها وآثارها، وأن القرآن قد احتوى من القصص والأمثال ما فيه البيان الكافي والهدى والموعظة لمن يتقي الله ويؤمن به.
٢ ـ وناهية عن أن يهنوا ويحزنوا لما أصابهم. فهم الأعلون على أعدائهم على كل حال. وفي البداية والنهاية على ما جرت سنة الله وعليهم أن يطمئنوا بذلك كل الطمأنينة إذا كانوا مؤمنين حقا.
٣ ـ ومنبهة إلى أنه إذا كان أصابهم أذى وسوء فقد أصاب أعداءهم مثل ذلك أيضا، وأن الأيام دول وسجال بين الناس، وأن ما أصابهم في هذا اليوم مما اقتضته حكمة الله ؛ حيث أراد أن يختبر الناس ويظهرهم على حقيقتهم ويميز المؤمنين الصادقين ويكرم بعضهم بالشهادة وينقي نفوسهم ويطهرها فلا ينبغي أن يخطر ببال أحد منهم أنه تخلى عنهم. فإن الله لا يحب البغاة الظالمين ولا بد له من محق الكافرين والمكذبين، وأنه لا ينبغي لهم أن يحسبوا أن دخول الجنة أمر سهل، وإنما هو منوط باختبارات يختبر الله بها عباده ويتميز فيها المجاهدون منهم والصابرون بالفعل والبرهان.
تعليق على الآية
﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ... ﴾ إلخ
وما بعدها لغاية الآية [ ١٤٢ ]
وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة
وواضح أن أسلوب الآيات هو أسلوب تطمين وتسكين وتسلية وتعزية وتقوية نفس وتهدئة روع وبعث أمل.
وقد روى المفسرون أن الآيتين [ ١٣٩ ـ ١٤٠ ] نزلتا حينما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد وقعة أحد إلى الخروج إلى الكفار الذين بلغه أنهم فكروا في الكرة على المسلمين على ما ذكرناه قبل، كما رووا أنهما نزلتا في تسلية المسلمين عن دوران الدائرة عليهم في وقعة أحد.
والرواية الثانية هي الأكثر اتساقا مع فحوى الآيات مع القول : إن ما جاء فيها ينسحب على الآيات جميعها ؛ لأنها سلسلة منسجمة. ولقد حلّ بالمؤمنين في وقعة أحد آلام وأحزان وضحايا فاقتضت حكمة التنزيل معالجتها بهذه الآيات القوية النافذة حقا التي من شأنها بعث الطمأنينة والعزاء والأمل في المسلمين.
وخلاصة ما روي من وقائع وقعة أحد١ أن قريشا زحفوا بثلاثة آلاف فيهم ٧٠٠ دارع ومعهم ٢٠٠ فرس و٣٠٠٠ بعير وخمس عشرة امرأة منهن هند زوجة أبي سفيان ليذكرن الرجال بقتلى بدر ويحمسنهم على القتال والثأر. وكان الذين خرجوا مع رسول الله وشهدوا المعركة ٧٠٠ وقد طمأنهم النبي بتأييد الله ونصره إذا صبروا وثبتوا. وجعل الرماة في مكان عال وشدد عليهم الوصية بأن لا يغادروا مكانهم مهما جرى، وأن يستمروا على رشق العدو بالنبال من ورائهم وحماية ظهرهم. ثم رتب الصفوف. ونشب القتال بالمبارزة ثم بالتزاحف فانكشف المشركون وانهزموا لا يلوون على شيء وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح حتى أجهضوهم ـ أبعدوهم ـ عن معسكرهم، ثم أقبلوا ينتبهون هذا المعسكر. ورأى الرماة ما جرى فظنوا أن المعركة انتهت وتداولوا الأمر في النزول والاشتراك في النهب، فاعترض البعض وقالوا : إن هذا مخالف لوصية رسول الله. وتنازعوا ثم ترك أكثرهم مكانه ولم يبق ثابتا إلا ثلاثة عشر بقيادة عبد الله بن جبير ظلوا يرمون المشركين بنبالهم. ورأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ـ وكانا على خيالة قريش ـ خلو المرتفع من حماته الرماة فكرا بالخيل على هذه الناحية وقتلوا من بقي من الرماة فيه، ثم أتوا المسلمين من ورائهم فانتقضت صفوف المسلمين وانقلبت المعركة ضدهم وأخذوا ينهزمون صاعدين الجبل، ونادى مناد من ناحية قريش : إن محمدا قد قتل، فازداد الذعر والفوضى، وانهزم معظم المسلمين لا يلوون على شيء.
وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من أصحابه في الميدان. وسقط في حفرة فكسرت رباعيته وشج رأسه، ولكنه ظلّ ثابت الجنان يهتف بالمسلمين ويدعوهم إلى العودة، فلم يلبثوا أن آب إليهم رشدهم وعادوا إلى النبي وكان القتال قد توقف وقد استشهد نحو عشرة من المهاجرين في رواية وأقل من ذلك في رواية، منهم حمزة عمّ النبي ومصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله إلى المدينة بعد اتفاقه مع أهلها قارئا وإماما وداعيا، وكان صاحب راية رسول الله يوم أحد، ونحو سبعين من الأنصار رضي الله عنهم جميعا. وكان قاتل حمزة حبشيا مملوكا اسمه وحشي عند جبير بن مطعم فوعده بالعتق إن هو قتل حمزة ثأرا لعمه طعمة الذي قتل في بدر. وكان وحشي ماهرا برمي الحربة ففعل. وروي أن هند زوجة أبي سفيان كانت من المحرضات له ثأرا لأخيها وأبيها وابن لها قتلوا في بدر أيضا، ومما روي أنها بقرت بطن حمزة وأخذت قطعة من قلبه أو كبده ولاكتها. وكان عدد قتلى قريش ٢٣ فيهم بعض الصناديد. وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا منهم هو أبي بن خلف الجمحي حيث هاجم النبي وقال له : سأقتلك، فقال له : بل أنا الذي أقتلك، ثم رماه بحربة كسرت أضلاعه، وما لبث أن هلك.
ومما روي من صور بطولات المخلصين في المعركة أن عمّ أنس بن مالك كان غاب عن بدر فقال :" لئن أشهدني الله مع النبي يوما ليرين مني ما أحب، فجاهد يوم أحد، فلما انهزم الناس قال : اللهم إني أعتذر إليك ما صنع المسلمون، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، ثم تقدم فما زال يقاتل حتى قتل وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية سهم ". وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد بسبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين، فلما رهقه المشركون قال : من يردهم وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم تقدم أخر فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الآخرون يتقدمون واحد بعد آخر دون رسول الله حتى قتلوا. وأن أبا طلحة وكان رجلا راميا شديد النزع فقام على رأس رسول الله، فيما انهزم الناس وأخذ يرمي بسهامه حتى كسر قوسين أو ثلاثة. والنبي يقول لمن يمرّ عليه بحجفة من النبل : انثرها لأبي طلحة. ولقد أشرف النبي على الناس فقال له أبو طلحة : بأبي أنت وأمي لا تشرف. يصبك سهم ونحري دون نحرك. وروى الطبرسي عن الإمام أبي جعفر أن عليا رضي الله عنه أصابه يوم أحد ستون جرحا فعالجته أم عطية بأمر رسول الله، وكان رسول الله والمسلمون يعودونه، وكان عليّ يقول : الحمد لله لم أفرّ ولم أول الدبر.
ومما روي أن أبا سفيان هتف : أفي القوم محمد ؟ ثلاث مرات فأمر النبي بأن لا يجيبوه. ثم هتف : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثم هتف : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فلما لم يسمع جوابا قال لقومه : أما هؤلاء فقد قتلوا وكفيتموهم. فما ملك عمر نفسه أن قال : كذبت يا عدو الله إنهم لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك. كذلك مما روي أن أبا سفيان هتف ( يوم بيوم بدر ) والحرب سجال وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز ( اعل هبل. اعل هبل ) فردّ عليه المسلمون بأمر النبي ( الله أعلى وأجل ) وهتف ( لنا العزى ولا عزى لكم ) فأجابوه ( الله مولانا ولا مولى لكم ).
ومما روي أن قريشا ندموا لعدم استئصال المسلمين وفكروا في الكرة عليهم، وعلم النبي بذلك فندب المسلمين إلى الخروج، فاستجابوا له وخرجوا رغم ما كان ألمّ به وبهم من جروح وتعب وحزن فوصلوا مكانا اسمه حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا.
وفي الآيات التالية إشارات عديدة تؤيد صحة كثير مما جاء في هذه المرويات التي ورد كثير منها في صحيح البخاري ومسلم أيضا٢.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها جديرة أن تكون منبع قوة روحية مستمرة ينهل منه المسلمون المخلصون في كل زمن ومكان، يقع عليهم مثل ما وقع على المسلمين في يوم أحد، فيردّ عنهم شعور الفزع واليأس ويمدهم بالتأييد الذي يحفزهم على مقابلة الموقف بما يقتضيه من النشاط والتفاني.
ولقد كان ثبات النبي صلى الله عليه وسلم في الميدان وشجاعته ورباطة جأشه وهو ما أيدته الآيات التي تأتي بعد قليل رغم ما أصابه من جروح ورغم انهزام معظم جيشه موقفا لائقا بالعظمة النبوية. وكان فيما هو المتبادر العامل الأقوى في وقوف كفار قريش عند الحد الذي وقفت عنده المعركة على كثرة عددهم وقوة عددهم ؛ حيث عاد المنهزمون وانضووا إليه وتجلدوا وتماسكوا أمام عدوهم القوي. وقد تجلت مثل هذه العظمة في خروجه على رأس المسلمين للقاء هذا العدو الذي قيل : إنه كان يفكر في الكرة. وفي هذا وذاك أروع الأمثلة وأقوى الأسوة لزعماء المسلمين وقادتهم الذي يجب أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة.
في هذه الآيات وجه الخطاب إلى المؤمنين وهي :
١ ـ مقررة أنه قد جرت سنة الله قبلهم في خذل الكافرين والمكذبين، وأنه لمن الممكن أن يروا مصداق ذلك في الأمم السابقة إذا ساروا في الأرض وزاروا مساكنها وآثارها، وأن القرآن قد احتوى من القصص والأمثال ما فيه البيان الكافي والهدى والموعظة لمن يتقي الله ويؤمن به.
٢ ـ وناهية عن أن يهنوا ويحزنوا لما أصابهم. فهم الأعلون على أعدائهم على كل حال. وفي البداية والنهاية على ما جرت سنة الله وعليهم أن يطمئنوا بذلك كل الطمأنينة إذا كانوا مؤمنين حقا.
٣ ـ ومنبهة إلى أنه إذا كان أصابهم أذى وسوء فقد أصاب أعداءهم مثل ذلك أيضا، وأن الأيام دول وسجال بين الناس، وأن ما أصابهم في هذا اليوم مما اقتضته حكمة الله ؛ حيث أراد أن يختبر الناس ويظهرهم على حقيقتهم ويميز المؤمنين الصادقين ويكرم بعضهم بالشهادة وينقي نفوسهم ويطهرها فلا ينبغي أن يخطر ببال أحد منهم أنه تخلى عنهم. فإن الله لا يحب البغاة الظالمين ولا بد له من محق الكافرين والمكذبين، وأنه لا ينبغي لهم أن يحسبوا أن دخول الجنة أمر سهل، وإنما هو منوط باختبارات يختبر الله بها عباده ويتميز فيها المجاهدون منهم والصابرون بالفعل والبرهان.
تعليق على الآية
﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ... ﴾ إلخ
وما بعدها لغاية الآية [ ١٤٢ ]
وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة
وواضح أن أسلوب الآيات هو أسلوب تطمين وتسكين وتسلية وتعزية وتقوية نفس وتهدئة روع وبعث أمل.
وقد روى المفسرون أن الآيتين [ ١٣٩ ـ ١٤٠ ] نزلتا حينما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد وقعة أحد إلى الخروج إلى الكفار الذين بلغه أنهم فكروا في الكرة على المسلمين على ما ذكرناه قبل، كما رووا أنهما نزلتا في تسلية المسلمين عن دوران الدائرة عليهم في وقعة أحد.
والرواية الثانية هي الأكثر اتساقا مع فحوى الآيات مع القول : إن ما جاء فيها ينسحب على الآيات جميعها ؛ لأنها سلسلة منسجمة. ولقد حلّ بالمؤمنين في وقعة أحد آلام وأحزان وضحايا فاقتضت حكمة التنزيل معالجتها بهذه الآيات القوية النافذة حقا التي من شأنها بعث الطمأنينة والعزاء والأمل في المسلمين.
وخلاصة ما روي من وقائع وقعة أحد١ أن قريشا زحفوا بثلاثة آلاف فيهم ٧٠٠ دارع ومعهم ٢٠٠ فرس و٣٠٠٠ بعير وخمس عشرة امرأة منهن هند زوجة أبي سفيان ليذكرن الرجال بقتلى بدر ويحمسنهم على القتال والثأر. وكان الذين خرجوا مع رسول الله وشهدوا المعركة ٧٠٠ وقد طمأنهم النبي بتأييد الله ونصره إذا صبروا وثبتوا. وجعل الرماة في مكان عال وشدد عليهم الوصية بأن لا يغادروا مكانهم مهما جرى، وأن يستمروا على رشق العدو بالنبال من ورائهم وحماية ظهرهم. ثم رتب الصفوف. ونشب القتال بالمبارزة ثم بالتزاحف فانكشف المشركون وانهزموا لا يلوون على شيء وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح حتى أجهضوهم ـ أبعدوهم ـ عن معسكرهم، ثم أقبلوا ينتبهون هذا المعسكر. ورأى الرماة ما جرى فظنوا أن المعركة انتهت وتداولوا الأمر في النزول والاشتراك في النهب، فاعترض البعض وقالوا : إن هذا مخالف لوصية رسول الله. وتنازعوا ثم ترك أكثرهم مكانه ولم يبق ثابتا إلا ثلاثة عشر بقيادة عبد الله بن جبير ظلوا يرمون المشركين بنبالهم. ورأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ـ وكانا على خيالة قريش ـ خلو المرتفع من حماته الرماة فكرا بالخيل على هذه الناحية وقتلوا من بقي من الرماة فيه، ثم أتوا المسلمين من ورائهم فانتقضت صفوف المسلمين وانقلبت المعركة ضدهم وأخذوا ينهزمون صاعدين الجبل، ونادى مناد من ناحية قريش : إن محمدا قد قتل، فازداد الذعر والفوضى، وانهزم معظم المسلمين لا يلوون على شيء.
وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من أصحابه في الميدان. وسقط في حفرة فكسرت رباعيته وشج رأسه، ولكنه ظلّ ثابت الجنان يهتف بالمسلمين ويدعوهم إلى العودة، فلم يلبثوا أن آب إليهم رشدهم وعادوا إلى النبي وكان القتال قد توقف وقد استشهد نحو عشرة من المهاجرين في رواية وأقل من ذلك في رواية، منهم حمزة عمّ النبي ومصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله إلى المدينة بعد اتفاقه مع أهلها قارئا وإماما وداعيا، وكان صاحب راية رسول الله يوم أحد، ونحو سبعين من الأنصار رضي الله عنهم جميعا. وكان قاتل حمزة حبشيا مملوكا اسمه وحشي عند جبير بن مطعم فوعده بالعتق إن هو قتل حمزة ثأرا لعمه طعمة الذي قتل في بدر. وكان وحشي ماهرا برمي الحربة ففعل. وروي أن هند زوجة أبي سفيان كانت من المحرضات له ثأرا لأخيها وأبيها وابن لها قتلوا في بدر أيضا، ومما روي أنها بقرت بطن حمزة وأخذت قطعة من قلبه أو كبده ولاكتها. وكان عدد قتلى قريش ٢٣ فيهم بعض الصناديد. وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا منهم هو أبي بن خلف الجمحي حيث هاجم النبي وقال له : سأقتلك، فقال له : بل أنا الذي أقتلك، ثم رماه بحربة كسرت أضلاعه، وما لبث أن هلك.
ومما روي من صور بطولات المخلصين في المعركة أن عمّ أنس بن مالك كان غاب عن بدر فقال :" لئن أشهدني الله مع النبي يوما ليرين مني ما أحب، فجاهد يوم أحد، فلما انهزم الناس قال : اللهم إني أعتذر إليك ما صنع المسلمون، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، ثم تقدم فما زال يقاتل حتى قتل وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية سهم ". وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد بسبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين، فلما رهقه المشركون قال : من يردهم وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم تقدم أخر فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الآخرون يتقدمون واحد بعد آخر دون رسول الله حتى قتلوا. وأن أبا طلحة وكان رجلا راميا شديد النزع فقام على رأس رسول الله، فيما انهزم الناس وأخذ يرمي بسهامه حتى كسر قوسين أو ثلاثة. والنبي يقول لمن يمرّ عليه بحجفة من النبل : انثرها لأبي طلحة. ولقد أشرف النبي على الناس فقال له أبو طلحة : بأبي أنت وأمي لا تشرف. يصبك سهم ونحري دون نحرك. وروى الطبرسي عن الإمام أبي جعفر أن عليا رضي الله عنه أصابه يوم أحد ستون جرحا فعالجته أم عطية بأمر رسول الله، وكان رسول الله والمسلمون يعودونه، وكان عليّ يقول : الحمد لله لم أفرّ ولم أول الدبر.
ومما روي أن أبا سفيان هتف : أفي القوم محمد ؟ ثلاث مرات فأمر النبي بأن لا يجيبوه. ثم هتف : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثم هتف : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فلما لم يسمع جوابا قال لقومه : أما هؤلاء فقد قتلوا وكفيتموهم. فما ملك عمر نفسه أن قال : كذبت يا عدو الله إنهم لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك. كذلك مما روي أن أبا سفيان هتف ( يوم بيوم بدر ) والحرب سجال وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز ( اعل هبل. اعل هبل ) فردّ عليه المسلمون بأمر النبي ( الله أعلى وأجل ) وهتف ( لنا العزى ولا عزى لكم ) فأجابوه ( الله مولانا ولا مولى لكم ).
ومما روي أن قريشا ندموا لعدم استئصال المسلمين وفكروا في الكرة عليهم، وعلم النبي بذلك فندب المسلمين إلى الخروج، فاستجابوا له وخرجوا رغم ما كان ألمّ به وبهم من جروح وتعب وحزن فوصلوا مكانا اسمه حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا.
وفي الآيات التالية إشارات عديدة تؤيد صحة كثير مما جاء في هذه المرويات التي ورد كثير منها في صحيح البخاري ومسلم أيضا٢.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها جديرة أن تكون منبع قوة روحية مستمرة ينهل منه المسلمون المخلصون في كل زمن ومكان، يقع عليهم مثل ما وقع على المسلمين في يوم أحد، فيردّ عنهم شعور الفزع واليأس ويمدهم بالتأييد الذي يحفزهم على مقابلة الموقف بما يقتضيه من النشاط والتفاني.
ولقد كان ثبات النبي صلى الله عليه وسلم في الميدان وشجاعته ورباطة جأشه وهو ما أيدته الآيات التي تأتي بعد قليل رغم ما أصابه من جروح ورغم انهزام معظم جيشه موقفا لائقا بالعظمة النبوية. وكان فيما هو المتبادر العامل الأقوى في وقوف كفار قريش عند الحد الذي وقفت عنده المعركة على كثرة عددهم وقوة عددهم ؛ حيث عاد المنهزمون وانضووا إليه وتجلدوا وتماسكوا أمام عدوهم القوي. وقد تجلت مثل هذه العظمة في خروجه على رأس المسلمين للقاء هذا العدو الذي قيل : إنه كان يفكر في الكرة. وفي هذا وذاك أروع الأمثلة وأقوى الأسوة لزعماء المسلمين وقادتهم الذي يجب أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة.
في هذه الآيات وجه الخطاب إلى المؤمنين وهي :
١ ـ مقررة أنه قد جرت سنة الله قبلهم في خذل الكافرين والمكذبين، وأنه لمن الممكن أن يروا مصداق ذلك في الأمم السابقة إذا ساروا في الأرض وزاروا مساكنها وآثارها، وأن القرآن قد احتوى من القصص والأمثال ما فيه البيان الكافي والهدى والموعظة لمن يتقي الله ويؤمن به.
٢ ـ وناهية عن أن يهنوا ويحزنوا لما أصابهم. فهم الأعلون على أعدائهم على كل حال. وفي البداية والنهاية على ما جرت سنة الله وعليهم أن يطمئنوا بذلك كل الطمأنينة إذا كانوا مؤمنين حقا.
٣ ـ ومنبهة إلى أنه إذا كان أصابهم أذى وسوء فقد أصاب أعداءهم مثل ذلك أيضا، وأن الأيام دول وسجال بين الناس، وأن ما أصابهم في هذا اليوم مما اقتضته حكمة الله ؛ حيث أراد أن يختبر الناس ويظهرهم على حقيقتهم ويميز المؤمنين الصادقين ويكرم بعضهم بالشهادة وينقي نفوسهم ويطهرها فلا ينبغي أن يخطر ببال أحد منهم أنه تخلى عنهم. فإن الله لا يحب البغاة الظالمين ولا بد له من محق الكافرين والمكذبين، وأنه لا ينبغي لهم أن يحسبوا أن دخول الجنة أمر سهل، وإنما هو منوط باختبارات يختبر الله بها عباده ويتميز فيها المجاهدون منهم والصابرون بالفعل والبرهان.
تعليق على الآية
﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ... ﴾ إلخ
وما بعدها لغاية الآية [ ١٤٢ ]
وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة
وواضح أن أسلوب الآيات هو أسلوب تطمين وتسكين وتسلية وتعزية وتقوية نفس وتهدئة روع وبعث أمل.
وقد روى المفسرون أن الآيتين [ ١٣٩ ـ ١٤٠ ] نزلتا حينما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد وقعة أحد إلى الخروج إلى الكفار الذين بلغه أنهم فكروا في الكرة على المسلمين على ما ذكرناه قبل، كما رووا أنهما نزلتا في تسلية المسلمين عن دوران الدائرة عليهم في وقعة أحد.
والرواية الثانية هي الأكثر اتساقا مع فحوى الآيات مع القول : إن ما جاء فيها ينسحب على الآيات جميعها ؛ لأنها سلسلة منسجمة. ولقد حلّ بالمؤمنين في وقعة أحد آلام وأحزان وضحايا فاقتضت حكمة التنزيل معالجتها بهذه الآيات القوية النافذة حقا التي من شأنها بعث الطمأنينة والعزاء والأمل في المسلمين.
وخلاصة ما روي من وقائع وقعة أحد١ أن قريشا زحفوا بثلاثة آلاف فيهم ٧٠٠ دارع ومعهم ٢٠٠ فرس و٣٠٠٠ بعير وخمس عشرة امرأة منهن هند زوجة أبي سفيان ليذكرن الرجال بقتلى بدر ويحمسنهم على القتال والثأر. وكان الذين خرجوا مع رسول الله وشهدوا المعركة ٧٠٠ وقد طمأنهم النبي بتأييد الله ونصره إذا صبروا وثبتوا. وجعل الرماة في مكان عال وشدد عليهم الوصية بأن لا يغادروا مكانهم مهما جرى، وأن يستمروا على رشق العدو بالنبال من ورائهم وحماية ظهرهم. ثم رتب الصفوف. ونشب القتال بالمبارزة ثم بالتزاحف فانكشف المشركون وانهزموا لا يلوون على شيء وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح حتى أجهضوهم ـ أبعدوهم ـ عن معسكرهم، ثم أقبلوا ينتبهون هذا المعسكر. ورأى الرماة ما جرى فظنوا أن المعركة انتهت وتداولوا الأمر في النزول والاشتراك في النهب، فاعترض البعض وقالوا : إن هذا مخالف لوصية رسول الله. وتنازعوا ثم ترك أكثرهم مكانه ولم يبق ثابتا إلا ثلاثة عشر بقيادة عبد الله بن جبير ظلوا يرمون المشركين بنبالهم. ورأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ـ وكانا على خيالة قريش ـ خلو المرتفع من حماته الرماة فكرا بالخيل على هذه الناحية وقتلوا من بقي من الرماة فيه، ثم أتوا المسلمين من ورائهم فانتقضت صفوف المسلمين وانقلبت المعركة ضدهم وأخذوا ينهزمون صاعدين الجبل، ونادى مناد من ناحية قريش : إن محمدا قد قتل، فازداد الذعر والفوضى، وانهزم معظم المسلمين لا يلوون على شيء.
وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من أصحابه في الميدان. وسقط في حفرة فكسرت رباعيته وشج رأسه، ولكنه ظلّ ثابت الجنان يهتف بالمسلمين ويدعوهم إلى العودة، فلم يلبثوا أن آب إليهم رشدهم وعادوا إلى النبي وكان القتال قد توقف وقد استشهد نحو عشرة من المهاجرين في رواية وأقل من ذلك في رواية، منهم حمزة عمّ النبي ومصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله إلى المدينة بعد اتفاقه مع أهلها قارئا وإماما وداعيا، وكان صاحب راية رسول الله يوم أحد، ونحو سبعين من الأنصار رضي الله عنهم جميعا. وكان قاتل حمزة حبشيا مملوكا اسمه وحشي عند جبير بن مطعم فوعده بالعتق إن هو قتل حمزة ثأرا لعمه طعمة الذي قتل في بدر. وكان وحشي ماهرا برمي الحربة ففعل. وروي أن هند زوجة أبي سفيان كانت من المحرضات له ثأرا لأخيها وأبيها وابن لها قتلوا في بدر أيضا، ومما روي أنها بقرت بطن حمزة وأخذت قطعة من قلبه أو كبده ولاكتها. وكان عدد قتلى قريش ٢٣ فيهم بعض الصناديد. وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا منهم هو أبي بن خلف الجمحي حيث هاجم النبي وقال له : سأقتلك، فقال له : بل أنا الذي أقتلك، ثم رماه بحربة كسرت أضلاعه، وما لبث أن هلك.
ومما روي من صور بطولات المخلصين في المعركة أن عمّ أنس بن مالك كان غاب عن بدر فقال :" لئن أشهدني الله مع النبي يوما ليرين مني ما أحب، فجاهد يوم أحد، فلما انهزم الناس قال : اللهم إني أعتذر إليك ما صنع المسلمون، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، ثم تقدم فما زال يقاتل حتى قتل وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية سهم ". وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد بسبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين، فلما رهقه المشركون قال : من يردهم وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم تقدم أخر فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الآخرون يتقدمون واحد بعد آخر دون رسول الله حتى قتلوا. وأن أبا طلحة وكان رجلا راميا شديد النزع فقام على رأس رسول الله، فيما انهزم الناس وأخذ يرمي بسهامه حتى كسر قوسين أو ثلاثة. والنبي يقول لمن يمرّ عليه بحجفة من النبل : انثرها لأبي طلحة. ولقد أشرف النبي على الناس فقال له أبو طلحة : بأبي أنت وأمي لا تشرف. يصبك سهم ونحري دون نحرك. وروى الطبرسي عن الإمام أبي جعفر أن عليا رضي الله عنه أصابه يوم أحد ستون جرحا فعالجته أم عطية بأمر رسول الله، وكان رسول الله والمسلمون يعودونه، وكان عليّ يقول : الحمد لله لم أفرّ ولم أول الدبر.
ومما روي أن أبا سفيان هتف : أفي القوم محمد ؟ ثلاث مرات فأمر النبي بأن لا يجيبوه. ثم هتف : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثم هتف : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فلما لم يسمع جوابا قال لقومه : أما هؤلاء فقد قتلوا وكفيتموهم. فما ملك عمر نفسه أن قال : كذبت يا عدو الله إنهم لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك. كذلك مما روي أن أبا سفيان هتف ( يوم بيوم بدر ) والحرب سجال وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز ( اعل هبل. اعل هبل ) فردّ عليه المسلمون بأمر النبي ( الله أعلى وأجل ) وهتف ( لنا العزى ولا عزى لكم ) فأجابوه ( الله مولانا ولا مولى لكم ).
ومما روي أن قريشا ندموا لعدم استئصال المسلمين وفكروا في الكرة عليهم، وعلم النبي بذلك فندب المسلمين إلى الخروج، فاستجابوا له وخرجوا رغم ما كان ألمّ به وبهم من جروح وتعب وحزن فوصلوا مكانا اسمه حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا.
وفي الآيات التالية إشارات عديدة تؤيد صحة كثير مما جاء في هذه المرويات التي ورد كثير منها في صحيح البخاري ومسلم أيضا٢.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها جديرة أن تكون منبع قوة روحية مستمرة ينهل منه المسلمون المخلصون في كل زمن ومكان، يقع عليهم مثل ما وقع على المسلمين في يوم أحد، فيردّ عنهم شعور الفزع واليأس ويمدهم بالتأييد الذي يحفزهم على مقابلة الموقف بما يقتضيه من النشاط والتفاني.
ولقد كان ثبات النبي صلى الله عليه وسلم في الميدان وشجاعته ورباطة جأشه وهو ما أيدته الآيات التي تأتي بعد قليل رغم ما أصابه من جروح ورغم انهزام معظم جيشه موقفا لائقا بالعظمة النبوية. وكان فيما هو المتبادر العامل الأقوى في وقوف كفار قريش عند الحد الذي وقفت عنده المعركة على كثرة عددهم وقوة عددهم ؛ حيث عاد المنهزمون وانضووا إليه وتجلدوا وتماسكوا أمام عدوهم القوي. وقد تجلت مثل هذه العظمة في خروجه على رأس المسلمين للقاء هذا العدو الذي قيل : إنه كان يفكر في الكرة. وفي هذا وذاك أروع الأمثلة وأقوى الأسوة لزعماء المسلمين وقادتهم الذي يجب أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة.
( ٢ ) وما استكانوا : وما ذلوا وتخاذلوا واستسلموا للمسكنة.
( ٣ ) وإسرافنا : ما أوغلنا فيه من الأخطاء.
وفي هذه الآيات وجه الخطاب أيضا إلى المسلمين :
١ ـ مقررة بأنهم كانوا يتمنون الموت في سبيل الله قبل نشوب القتال. وقد تحققت أمنيتهم ونشب القتال، ولاقى بعضهم الموت فليس في هذا أمر مفاجئ لهم.
٢ ـ ومنبهة بأن محمدا ليس إلا رسول من رسل الله جاء قبله رسل كثيرون وهو معرض كسائر البشر للموت أو القتل، وكان ذلك أمر الرسل السابقين له. فلم يكن يصح أن ينقلبوا على أعقابهم ويتخاذلوا وينهزموا إذا حل فيه ما هو طبيعي ومعرض له، وبأن الله لن يأبه لمن ينقلب على عقبيه في مثل هذه الحالة ولن يضر الله هذا شيئا، وبأن الله مجزي الشاكرين الصابرين أحسن الجزاء، وبأن لكل نفس أجلا معينا عند الله لا تموت إلا به، وبأن من قصر نيته وهمّه على الدنيا نال نصيبه منها وانتهى أمره عند هذا الحدّ. ومن رغب في الآخرة وسعى لها أناله الله ثوابه وهو مجزي الشاكرين الصابرين.
٣ ـ ومذكرة بما كان من أمر الأنبياء قبله، فكثير منهم قاتلوا وقاتل معهم أتباعهم من عباد الله المخلصين وأصيبوا بالأذى والسوء فصبروا ولم يهتموا ولم يضعفوا لما أصابهم في سبيل الله ولم يتخاذلوا ولم يستكينوا. وكل ما كان منهم أن طلبوا من ربهم غفران ما قد يكون وقع منهم من ذنوب والتجاوز عما قد يكون بدا منهم من تقصير في جانب الله وحقه، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على أعدائهم الكفار، فكان من الله أن استجاب دعاءهم فآتاهم ثواب الدنيا بالنصر والتأييد وثواب الآخرة بالرضا والغفران. وهكذا قابلهم الله على إحسانهم وهو الذي يحبّ المحسنين.
تعليق على الآية
﴿ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( ١٤٣ ) ﴾
والآية :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ… ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١٤٨ ]
المتبادر من فحوى الآيات جملة أنها استمرار للسياق السابق لها. ويمكن أن تكون قد نزلت معه أو نزلت بعده تتمة له. وهي موجهة للمسلمين وتضمنت عتابا لهم وتنبيها وتذكيرا وتمثيلا بالمخلصين السابقين من عباد الله وأتباع رسله الذين كانوا يقاتلون معهم دون ضعف ولا استكانة، دون أن يتأثروا بما أصابهم في القتال من أذى وشدة، وأسلوبها قوي نافذ كسابقاتها. واستهدفت ما استهدفته من معالجة الحالة الروحية التي ألمت بالمسلمين تأثرا من وقعة أحد ونتائجها.
ولقد روى الطبري أن الآية الأولى نزلت في أناس كانوا غائبين عن بدر. فكانوا يتمنون يوما مثله فكانوا من المنهزمين يوم أحد فعوتبوا بالآية والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن قصارى الذين كانوا غائبين عن بدر وتمنوا لو شهدوها وشهدوا غيرها أن لا يكونوا أكثر من أفراد في حين أن الخطاب عام وأن الذين انهزموا واستحقوا العتاب كانوا أكثر المشتركين في المعركة. ولذلك نتوقف في الرواية ونرى في الآية دليلا مؤيدا لما خمناه من أن الذين كانوا إلى جانب الخروج للقاء العدو ومتحمسين كانوا أكثر المسلمين المخلصين من مهاجرين وأنصار.
ولقد روى الطبري أن الآية الثانية هي في صدد ما كان من مواقف المسلمين حينما شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال بعضهم : لو كان نبيا لما قتل ودعا بعضهم إلى العودة إلى دين الآباء. ودعا بعضهم إلى أخذ الذمة من أبي سفيان قائد المشركين، ثم انهزم هؤلاء فدب الذعر في صفوف المسلمين فكانت الهزيمة. والرواية لم ترد في الصحاح كذلك. وأسلوب الآية عام يتبادر منه أنها تتمة للعتاب الذي احتوته الآية الأولى للذين انهزموا.
ولقد أورد القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى جاء فيه :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال : أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قال : اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ".
ولقد أورد الخازن في سياق جملة ﴿ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( ١٤٥ ) ﴾ حديثا رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
وفي الحديث تنبيه وتأديب وتحذير. فالله تعالى يعلم نية كل امرئ في ما يقدم عليه. ولا يشكر إلا الذين خلصت نياتهم له وفي سبيله. وإذا ظنّ امرؤ أنه قد يخدع الناس بتظاهره خلافا لما بيّته في نفسه فليس بخادع الله تعالى. والجملة القرآنية مما تكرر مثالها في آيات عديدة منها آية سورة هود [ ١٥ ] وآية سورة الإسراء [ ١٨ ] وآية سورة الشورى [ ٢٠ ].
وقد روى الطبري عن الإمام أبي جعفر أن جملة ﴿ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( ١٤٥ ) ﴾ هي في حق علي رضي الله عنه الذي جرح ستون جرحا في أحد وكان يقول الحمد لله لم أفروا ولم أول الدبر. وجهاد علي رضي الله عنه وثباته معروفان ولا شك في أنه مستحق عليهما شكر الله تعالى. ولكن في صرف الجملة له وحده تعسفا ؛ لأن فحواها مطلق شامل لجميع من شكر الله وقام بواجبه قياما حسنا.
هذا، والآيات مع خصوصيتها جديرة بأن تكون كسابقاتها منبع قوة لا ينضب ينهل منه المؤمن المخلص في كل ظرف مماثل ويستمد منه القوة والجرأة والإقدام على كل تضحية في سبيل دين الله ومبادئه السامية.
والآية الثانية بخاصة عظيمة التلقين والمدى. فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر معرّض للموت والقتل. وعلى المسلمين أن يحملوا الواجب الذي حملهم إياه القرآن وهو الاستمساك برسالته ونشرها والدفاع عنها، وبكلمة أخرى القيام بمهمة النبي الدينية والدنيوية إذا مات أو قتل، ولا يجوز أن يتخاذلوا في ذلك وينقلبوا على أعقابهم. وسواء أكان ذلك في أثناء الحرب أم في الظروف الأخرى.
ولقد ذهل الناس حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، حينما توفي النبي صلى الله عليه وسلم فأمدت هذه الآية الرائعة أبا بكر رضي الله عنه بالقوة التي ساعدته على الوقوف موقفه الرائع والهتاف بالناس بعد أن تلاها عليهم : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت١. فثابوا إلى وعيهم واستمسكوا بحبل الله ورسالة نبيه ودافعوا عنها وقاموا بواجبهم في نشرها في مشارق الأرض ومغاربها، وكانوا نعم الأسوة الحسنة لمن يأتي بعدهم من المسلمين.
وفي هذه الآيات وجه الخطاب أيضا إلى المسلمين :
١ ـ مقررة بأنهم كانوا يتمنون الموت في سبيل الله قبل نشوب القتال. وقد تحققت أمنيتهم ونشب القتال، ولاقى بعضهم الموت فليس في هذا أمر مفاجئ لهم.
٢ ـ ومنبهة بأن محمدا ليس إلا رسول من رسل الله جاء قبله رسل كثيرون وهو معرض كسائر البشر للموت أو القتل، وكان ذلك أمر الرسل السابقين له. فلم يكن يصح أن ينقلبوا على أعقابهم ويتخاذلوا وينهزموا إذا حل فيه ما هو طبيعي ومعرض له، وبأن الله لن يأبه لمن ينقلب على عقبيه في مثل هذه الحالة ولن يضر الله هذا شيئا، وبأن الله مجزي الشاكرين الصابرين أحسن الجزاء، وبأن لكل نفس أجلا معينا عند الله لا تموت إلا به، وبأن من قصر نيته وهمّه على الدنيا نال نصيبه منها وانتهى أمره عند هذا الحدّ. ومن رغب في الآخرة وسعى لها أناله الله ثوابه وهو مجزي الشاكرين الصابرين.
٣ ـ ومذكرة بما كان من أمر الأنبياء قبله، فكثير منهم قاتلوا وقاتل معهم أتباعهم من عباد الله المخلصين وأصيبوا بالأذى والسوء فصبروا ولم يهتموا ولم يضعفوا لما أصابهم في سبيل الله ولم يتخاذلوا ولم يستكينوا. وكل ما كان منهم أن طلبوا من ربهم غفران ما قد يكون وقع منهم من ذنوب والتجاوز عما قد يكون بدا منهم من تقصير في جانب الله وحقه، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على أعدائهم الكفار، فكان من الله أن استجاب دعاءهم فآتاهم ثواب الدنيا بالنصر والتأييد وثواب الآخرة بالرضا والغفران. وهكذا قابلهم الله على إحسانهم وهو الذي يحبّ المحسنين.
تعليق على الآية
﴿ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( ١٤٣ ) ﴾
والآية :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ… ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١٤٨ ]
المتبادر من فحوى الآيات جملة أنها استمرار للسياق السابق لها. ويمكن أن تكون قد نزلت معه أو نزلت بعده تتمة له. وهي موجهة للمسلمين وتضمنت عتابا لهم وتنبيها وتذكيرا وتمثيلا بالمخلصين السابقين من عباد الله وأتباع رسله الذين كانوا يقاتلون معهم دون ضعف ولا استكانة، دون أن يتأثروا بما أصابهم في القتال من أذى وشدة، وأسلوبها قوي نافذ كسابقاتها. واستهدفت ما استهدفته من معالجة الحالة الروحية التي ألمت بالمسلمين تأثرا من وقعة أحد ونتائجها.
ولقد روى الطبري أن الآية الأولى نزلت في أناس كانوا غائبين عن بدر. فكانوا يتمنون يوما مثله فكانوا من المنهزمين يوم أحد فعوتبوا بالآية والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن قصارى الذين كانوا غائبين عن بدر وتمنوا لو شهدوها وشهدوا غيرها أن لا يكونوا أكثر من أفراد في حين أن الخطاب عام وأن الذين انهزموا واستحقوا العتاب كانوا أكثر المشتركين في المعركة. ولذلك نتوقف في الرواية ونرى في الآية دليلا مؤيدا لما خمناه من أن الذين كانوا إلى جانب الخروج للقاء العدو ومتحمسين كانوا أكثر المسلمين المخلصين من مهاجرين وأنصار.
ولقد روى الطبري أن الآية الثانية هي في صدد ما كان من مواقف المسلمين حينما شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال بعضهم : لو كان نبيا لما قتل ودعا بعضهم إلى العودة إلى دين الآباء. ودعا بعضهم إلى أخذ الذمة من أبي سفيان قائد المشركين، ثم انهزم هؤلاء فدب الذعر في صفوف المسلمين فكانت الهزيمة. والرواية لم ترد في الصحاح كذلك. وأسلوب الآية عام يتبادر منه أنها تتمة للعتاب الذي احتوته الآية الأولى للذين انهزموا.
ولقد أورد القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى جاء فيه :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال : أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قال : اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ".
ولقد أورد الخازن في سياق جملة ﴿ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( ١٤٥ ) ﴾ حديثا رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
وفي الحديث تنبيه وتأديب وتحذير. فالله تعالى يعلم نية كل امرئ في ما يقدم عليه. ولا يشكر إلا الذين خلصت نياتهم له وفي سبيله. وإذا ظنّ امرؤ أنه قد يخدع الناس بتظاهره خلافا لما بيّته في نفسه فليس بخادع الله تعالى. والجملة القرآنية مما تكرر مثالها في آيات عديدة منها آية سورة هود [ ١٥ ] وآية سورة الإسراء [ ١٨ ] وآية سورة الشورى [ ٢٠ ].
وقد روى الطبري عن الإمام أبي جعفر أن جملة ﴿ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( ١٤٥ ) ﴾ هي في حق علي رضي الله عنه الذي جرح ستون جرحا في أحد وكان يقول الحمد لله لم أفروا ولم أول الدبر. وجهاد علي رضي الله عنه وثباته معروفان ولا شك في أنه مستحق عليهما شكر الله تعالى. ولكن في صرف الجملة له وحده تعسفا ؛ لأن فحواها مطلق شامل لجميع من شكر الله وقام بواجبه قياما حسنا.
هذا، والآيات مع خصوصيتها جديرة بأن تكون كسابقاتها منبع قوة لا ينضب ينهل منه المؤمن المخلص في كل ظرف مماثل ويستمد منه القوة والجرأة والإقدام على كل تضحية في سبيل دين الله ومبادئه السامية.
والآية الثانية بخاصة عظيمة التلقين والمدى. فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر معرّض للموت والقتل. وعلى المسلمين أن يحملوا الواجب الذي حملهم إياه القرآن وهو الاستمساك برسالته ونشرها والدفاع عنها، وبكلمة أخرى القيام بمهمة النبي الدينية والدنيوية إذا مات أو قتل، ولا يجوز أن يتخاذلوا في ذلك وينقلبوا على أعقابهم. وسواء أكان ذلك في أثناء الحرب أم في الظروف الأخرى.
ولقد ذهل الناس حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، حينما توفي النبي صلى الله عليه وسلم فأمدت هذه الآية الرائعة أبا بكر رضي الله عنه بالقوة التي ساعدته على الوقوف موقفه الرائع والهتاف بالناس بعد أن تلاها عليهم : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت١. فثابوا إلى وعيهم واستمسكوا بحبل الله ورسالة نبيه ودافعوا عنها وقاموا بواجبهم في نشرها في مشارق الأرض ومغاربها، وكانوا نعم الأسوة الحسنة لمن يأتي بعدهم من المسلمين.
وفي هذه الآيات وجه الخطاب أيضا إلى المسلمين :
١ ـ مقررة بأنهم كانوا يتمنون الموت في سبيل الله قبل نشوب القتال. وقد تحققت أمنيتهم ونشب القتال، ولاقى بعضهم الموت فليس في هذا أمر مفاجئ لهم.
٢ ـ ومنبهة بأن محمدا ليس إلا رسول من رسل الله جاء قبله رسل كثيرون وهو معرض كسائر البشر للموت أو القتل، وكان ذلك أمر الرسل السابقين له. فلم يكن يصح أن ينقلبوا على أعقابهم ويتخاذلوا وينهزموا إذا حل فيه ما هو طبيعي ومعرض له، وبأن الله لن يأبه لمن ينقلب على عقبيه في مثل هذه الحالة ولن يضر الله هذا شيئا، وبأن الله مجزي الشاكرين الصابرين أحسن الجزاء، وبأن لكل نفس أجلا معينا عند الله لا تموت إلا به، وبأن من قصر نيته وهمّه على الدنيا نال نصيبه منها وانتهى أمره عند هذا الحدّ. ومن رغب في الآخرة وسعى لها أناله الله ثوابه وهو مجزي الشاكرين الصابرين.
٣ ـ ومذكرة بما كان من أمر الأنبياء قبله، فكثير منهم قاتلوا وقاتل معهم أتباعهم من عباد الله المخلصين وأصيبوا بالأذى والسوء فصبروا ولم يهتموا ولم يضعفوا لما أصابهم في سبيل الله ولم يتخاذلوا ولم يستكينوا. وكل ما كان منهم أن طلبوا من ربهم غفران ما قد يكون وقع منهم من ذنوب والتجاوز عما قد يكون بدا منهم من تقصير في جانب الله وحقه، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على أعدائهم الكفار، فكان من الله أن استجاب دعاءهم فآتاهم ثواب الدنيا بالنصر والتأييد وثواب الآخرة بالرضا والغفران. وهكذا قابلهم الله على إحسانهم وهو الذي يحبّ المحسنين.
تعليق على الآية
﴿ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( ١٤٣ ) ﴾
والآية :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ… ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١٤٨ ]
المتبادر من فحوى الآيات جملة أنها استمرار للسياق السابق لها. ويمكن أن تكون قد نزلت معه أو نزلت بعده تتمة له. وهي موجهة للمسلمين وتضمنت عتابا لهم وتنبيها وتذكيرا وتمثيلا بالمخلصين السابقين من عباد الله وأتباع رسله الذين كانوا يقاتلون معهم دون ضعف ولا استكانة، دون أن يتأثروا بما أصابهم في القتال من أذى وشدة، وأسلوبها قوي نافذ كسابقاتها. واستهدفت ما استهدفته من معالجة الحالة الروحية التي ألمت بالمسلمين تأثرا من وقعة أحد ونتائجها.
ولقد روى الطبري أن الآية الأولى نزلت في أناس كانوا غائبين عن بدر. فكانوا يتمنون يوما مثله فكانوا من المنهزمين يوم أحد فعوتبوا بالآية والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن قصارى الذين كانوا غائبين عن بدر وتمنوا لو شهدوها وشهدوا غيرها أن لا يكونوا أكثر من أفراد في حين أن الخطاب عام وأن الذين انهزموا واستحقوا العتاب كانوا أكثر المشتركين في المعركة. ولذلك نتوقف في الرواية ونرى في الآية دليلا مؤيدا لما خمناه من أن الذين كانوا إلى جانب الخروج للقاء العدو ومتحمسين كانوا أكثر المسلمين المخلصين من مهاجرين وأنصار.
ولقد روى الطبري أن الآية الثانية هي في صدد ما كان من مواقف المسلمين حينما شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال بعضهم : لو كان نبيا لما قتل ودعا بعضهم إلى العودة إلى دين الآباء. ودعا بعضهم إلى أخذ الذمة من أبي سفيان قائد المشركين، ثم انهزم هؤلاء فدب الذعر في صفوف المسلمين فكانت الهزيمة. والرواية لم ترد في الصحاح كذلك. وأسلوب الآية عام يتبادر منه أنها تتمة للعتاب الذي احتوته الآية الأولى للذين انهزموا.
ولقد أورد القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى جاء فيه :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال : أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قال : اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ".
ولقد أورد الخازن في سياق جملة ﴿ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( ١٤٥ ) ﴾ حديثا رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
وفي الحديث تنبيه وتأديب وتحذير. فالله تعالى يعلم نية كل امرئ في ما يقدم عليه. ولا يشكر إلا الذين خلصت نياتهم له وفي سبيله. وإذا ظنّ امرؤ أنه قد يخدع الناس بتظاهره خلافا لما بيّته في نفسه فليس بخادع الله تعالى. والجملة القرآنية مما تكرر مثالها في آيات عديدة منها آية سورة هود [ ١٥ ] وآية سورة الإسراء [ ١٨ ] وآية سورة الشورى [ ٢٠ ].
وقد روى الطبري عن الإمام أبي جعفر أن جملة ﴿ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( ١٤٥ ) ﴾ هي في حق علي رضي الله عنه الذي جرح ستون جرحا في أحد وكان يقول الحمد لله لم أفروا ولم أول الدبر. وجهاد علي رضي الله عنه وثباته معروفان ولا شك في أنه مستحق عليهما شكر الله تعالى. ولكن في صرف الجملة له وحده تعسفا ؛ لأن فحواها مطلق شامل لجميع من شكر الله وقام بواجبه قياما حسنا.
هذا، والآيات مع خصوصيتها جديرة بأن تكون كسابقاتها منبع قوة لا ينضب ينهل منه المؤمن المخلص في كل ظرف مماثل ويستمد منه القوة والجرأة والإقدام على كل تضحية في سبيل دين الله ومبادئه السامية.
والآية الثانية بخاصة عظيمة التلقين والمدى. فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر معرّض للموت والقتل. وعلى المسلمين أن يحملوا الواجب الذي حملهم إياه القرآن وهو الاستمساك برسالته ونشرها والدفاع عنها، وبكلمة أخرى القيام بمهمة النبي الدينية والدنيوية إذا مات أو قتل، ولا يجوز أن يتخاذلوا في ذلك وينقلبوا على أعقابهم. وسواء أكان ذلك في أثناء الحرب أم في الظروف الأخرى.
ولقد ذهل الناس حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، حينما توفي النبي صلى الله عليه وسلم فأمدت هذه الآية الرائعة أبا بكر رضي الله عنه بالقوة التي ساعدته على الوقوف موقفه الرائع والهتاف بالناس بعد أن تلاها عليهم : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت١. فثابوا إلى وعيهم واستمسكوا بحبل الله ورسالة نبيه ودافعوا عنها وقاموا بواجبهم في نشرها في مشارق الأرض ومغاربها، وكانوا نعم الأسوة الحسنة لمن يأتي بعدهم من المسلمين.
( ٢ ) وما استكانوا : وما ذلوا وتخاذلوا واستسلموا للمسكنة.
وفي هذه الآيات وجه الخطاب أيضا إلى المسلمين :
١ ـ مقررة بأنهم كانوا يتمنون الموت في سبيل الله قبل نشوب القتال. وقد تحققت أمنيتهم ونشب القتال، ولاقى بعضهم الموت فليس في هذا أمر مفاجئ لهم.
٢ ـ ومنبهة بأن محمدا ليس إلا رسول من رسل الله جاء قبله رسل كثيرون وهو معرض كسائر البشر للموت أو القتل، وكان ذلك أمر الرسل السابقين له. فلم يكن يصح أن ينقلبوا على أعقابهم ويتخاذلوا وينهزموا إذا حل فيه ما هو طبيعي ومعرض له، وبأن الله لن يأبه لمن ينقلب على عقبيه في مثل هذه الحالة ولن يضر الله هذا شيئا، وبأن الله مجزي الشاكرين الصابرين أحسن الجزاء، وبأن لكل نفس أجلا معينا عند الله لا تموت إلا به، وبأن من قصر نيته وهمّه على الدنيا نال نصيبه منها وانتهى أمره عند هذا الحدّ. ومن رغب في الآخرة وسعى لها أناله الله ثوابه وهو مجزي الشاكرين الصابرين.
٣ ـ ومذكرة بما كان من أمر الأنبياء قبله، فكثير منهم قاتلوا وقاتل معهم أتباعهم من عباد الله المخلصين وأصيبوا بالأذى والسوء فصبروا ولم يهتموا ولم يضعفوا لما أصابهم في سبيل الله ولم يتخاذلوا ولم يستكينوا. وكل ما كان منهم أن طلبوا من ربهم غفران ما قد يكون وقع منهم من ذنوب والتجاوز عما قد يكون بدا منهم من تقصير في جانب الله وحقه، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على أعدائهم الكفار، فكان من الله أن استجاب دعاءهم فآتاهم ثواب الدنيا بالنصر والتأييد وثواب الآخرة بالرضا والغفران. وهكذا قابلهم الله على إحسانهم وهو الذي يحبّ المحسنين.
تعليق على الآية
﴿ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( ١٤٣ ) ﴾
والآية :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ… ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١٤٨ ]
المتبادر من فحوى الآيات جملة أنها استمرار للسياق السابق لها. ويمكن أن تكون قد نزلت معه أو نزلت بعده تتمة له. وهي موجهة للمسلمين وتضمنت عتابا لهم وتنبيها وتذكيرا وتمثيلا بالمخلصين السابقين من عباد الله وأتباع رسله الذين كانوا يقاتلون معهم دون ضعف ولا استكانة، دون أن يتأثروا بما أصابهم في القتال من أذى وشدة، وأسلوبها قوي نافذ كسابقاتها. واستهدفت ما استهدفته من معالجة الحالة الروحية التي ألمت بالمسلمين تأثرا من وقعة أحد ونتائجها.
ولقد روى الطبري أن الآية الأولى نزلت في أناس كانوا غائبين عن بدر. فكانوا يتمنون يوما مثله فكانوا من المنهزمين يوم أحد فعوتبوا بالآية والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن قصارى الذين كانوا غائبين عن بدر وتمنوا لو شهدوها وشهدوا غيرها أن لا يكونوا أكثر من أفراد في حين أن الخطاب عام وأن الذين انهزموا واستحقوا العتاب كانوا أكثر المشتركين في المعركة. ولذلك نتوقف في الرواية ونرى في الآية دليلا مؤيدا لما خمناه من أن الذين كانوا إلى جانب الخروج للقاء العدو ومتحمسين كانوا أكثر المسلمين المخلصين من مهاجرين وأنصار.
ولقد روى الطبري أن الآية الثانية هي في صدد ما كان من مواقف المسلمين حينما شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال بعضهم : لو كان نبيا لما قتل ودعا بعضهم إلى العودة إلى دين الآباء. ودعا بعضهم إلى أخذ الذمة من أبي سفيان قائد المشركين، ثم انهزم هؤلاء فدب الذعر في صفوف المسلمين فكانت الهزيمة. والرواية لم ترد في الصحاح كذلك. وأسلوب الآية عام يتبادر منه أنها تتمة للعتاب الذي احتوته الآية الأولى للذين انهزموا.
ولقد أورد القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى جاء فيه :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال : أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قال : اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ".
ولقد أورد الخازن في سياق جملة ﴿ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( ١٤٥ ) ﴾ حديثا رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
وفي الحديث تنبيه وتأديب وتحذير. فالله تعالى يعلم نية كل امرئ في ما يقدم عليه. ولا يشكر إلا الذين خلصت نياتهم له وفي سبيله. وإذا ظنّ امرؤ أنه قد يخدع الناس بتظاهره خلافا لما بيّته في نفسه فليس بخادع الله تعالى. والجملة القرآنية مما تكرر مثالها في آيات عديدة منها آية سورة هود [ ١٥ ] وآية سورة الإسراء [ ١٨ ] وآية سورة الشورى [ ٢٠ ].
وقد روى الطبري عن الإمام أبي جعفر أن جملة ﴿ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( ١٤٥ ) ﴾ هي في حق علي رضي الله عنه الذي جرح ستون جرحا في أحد وكان يقول الحمد لله لم أفروا ولم أول الدبر. وجهاد علي رضي الله عنه وثباته معروفان ولا شك في أنه مستحق عليهما شكر الله تعالى. ولكن في صرف الجملة له وحده تعسفا ؛ لأن فحواها مطلق شامل لجميع من شكر الله وقام بواجبه قياما حسنا.
هذا، والآيات مع خصوصيتها جديرة بأن تكون كسابقاتها منبع قوة لا ينضب ينهل منه المؤمن المخلص في كل ظرف مماثل ويستمد منه القوة والجرأة والإقدام على كل تضحية في سبيل دين الله ومبادئه السامية.
والآية الثانية بخاصة عظيمة التلقين والمدى. فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر معرّض للموت والقتل. وعلى المسلمين أن يحملوا الواجب الذي حملهم إياه القرآن وهو الاستمساك برسالته ونشرها والدفاع عنها، وبكلمة أخرى القيام بمهمة النبي الدينية والدنيوية إذا مات أو قتل، ولا يجوز أن يتخاذلوا في ذلك وينقلبوا على أعقابهم. وسواء أكان ذلك في أثناء الحرب أم في الظروف الأخرى.
ولقد ذهل الناس حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، حينما توفي النبي صلى الله عليه وسلم فأمدت هذه الآية الرائعة أبا بكر رضي الله عنه بالقوة التي ساعدته على الوقوف موقفه الرائع والهتاف بالناس بعد أن تلاها عليهم : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت١. فثابوا إلى وعيهم واستمسكوا بحبل الله ورسالة نبيه ودافعوا عنها وقاموا بواجبهم في نشرها في مشارق الأرض ومغاربها، وكانوا نعم الأسوة الحسنة لمن يأتي بعدهم من المسلمين.
وفي هذه الآيات وجه الخطاب أيضا إلى المسلمين :
١ ـ مقررة بأنهم كانوا يتمنون الموت في سبيل الله قبل نشوب القتال. وقد تحققت أمنيتهم ونشب القتال، ولاقى بعضهم الموت فليس في هذا أمر مفاجئ لهم.
٢ ـ ومنبهة بأن محمدا ليس إلا رسول من رسل الله جاء قبله رسل كثيرون وهو معرض كسائر البشر للموت أو القتل، وكان ذلك أمر الرسل السابقين له. فلم يكن يصح أن ينقلبوا على أعقابهم ويتخاذلوا وينهزموا إذا حل فيه ما هو طبيعي ومعرض له، وبأن الله لن يأبه لمن ينقلب على عقبيه في مثل هذه الحالة ولن يضر الله هذا شيئا، وبأن الله مجزي الشاكرين الصابرين أحسن الجزاء، وبأن لكل نفس أجلا معينا عند الله لا تموت إلا به، وبأن من قصر نيته وهمّه على الدنيا نال نصيبه منها وانتهى أمره عند هذا الحدّ. ومن رغب في الآخرة وسعى لها أناله الله ثوابه وهو مجزي الشاكرين الصابرين.
٣ ـ ومذكرة بما كان من أمر الأنبياء قبله، فكثير منهم قاتلوا وقاتل معهم أتباعهم من عباد الله المخلصين وأصيبوا بالأذى والسوء فصبروا ولم يهتموا ولم يضعفوا لما أصابهم في سبيل الله ولم يتخاذلوا ولم يستكينوا. وكل ما كان منهم أن طلبوا من ربهم غفران ما قد يكون وقع منهم من ذنوب والتجاوز عما قد يكون بدا منهم من تقصير في جانب الله وحقه، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على أعدائهم الكفار، فكان من الله أن استجاب دعاءهم فآتاهم ثواب الدنيا بالنصر والتأييد وثواب الآخرة بالرضا والغفران. وهكذا قابلهم الله على إحسانهم وهو الذي يحبّ المحسنين.
تعليق على الآية
﴿ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( ١٤٣ ) ﴾
والآية :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ… ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١٤٨ ]
المتبادر من فحوى الآيات جملة أنها استمرار للسياق السابق لها. ويمكن أن تكون قد نزلت معه أو نزلت بعده تتمة له. وهي موجهة للمسلمين وتضمنت عتابا لهم وتنبيها وتذكيرا وتمثيلا بالمخلصين السابقين من عباد الله وأتباع رسله الذين كانوا يقاتلون معهم دون ضعف ولا استكانة، دون أن يتأثروا بما أصابهم في القتال من أذى وشدة، وأسلوبها قوي نافذ كسابقاتها. واستهدفت ما استهدفته من معالجة الحالة الروحية التي ألمت بالمسلمين تأثرا من وقعة أحد ونتائجها.
ولقد روى الطبري أن الآية الأولى نزلت في أناس كانوا غائبين عن بدر. فكانوا يتمنون يوما مثله فكانوا من المنهزمين يوم أحد فعوتبوا بالآية والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن قصارى الذين كانوا غائبين عن بدر وتمنوا لو شهدوها وشهدوا غيرها أن لا يكونوا أكثر من أفراد في حين أن الخطاب عام وأن الذين انهزموا واستحقوا العتاب كانوا أكثر المشتركين في المعركة. ولذلك نتوقف في الرواية ونرى في الآية دليلا مؤيدا لما خمناه من أن الذين كانوا إلى جانب الخروج للقاء العدو ومتحمسين كانوا أكثر المسلمين المخلصين من مهاجرين وأنصار.
ولقد روى الطبري أن الآية الثانية هي في صدد ما كان من مواقف المسلمين حينما شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال بعضهم : لو كان نبيا لما قتل ودعا بعضهم إلى العودة إلى دين الآباء. ودعا بعضهم إلى أخذ الذمة من أبي سفيان قائد المشركين، ثم انهزم هؤلاء فدب الذعر في صفوف المسلمين فكانت الهزيمة. والرواية لم ترد في الصحاح كذلك. وأسلوب الآية عام يتبادر منه أنها تتمة للعتاب الذي احتوته الآية الأولى للذين انهزموا.
ولقد أورد القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى جاء فيه :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال : أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قال : اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ".
ولقد أورد الخازن في سياق جملة ﴿ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( ١٤٥ ) ﴾ حديثا رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
وفي الحديث تنبيه وتأديب وتحذير. فالله تعالى يعلم نية كل امرئ في ما يقدم عليه. ولا يشكر إلا الذين خلصت نياتهم له وفي سبيله. وإذا ظنّ امرؤ أنه قد يخدع الناس بتظاهره خلافا لما بيّته في نفسه فليس بخادع الله تعالى. والجملة القرآنية مما تكرر مثالها في آيات عديدة منها آية سورة هود [ ١٥ ] وآية سورة الإسراء [ ١٨ ] وآية سورة الشورى [ ٢٠ ].
وقد روى الطبري عن الإمام أبي جعفر أن جملة ﴿ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( ١٤٥ ) ﴾ هي في حق علي رضي الله عنه الذي جرح ستون جرحا في أحد وكان يقول الحمد لله لم أفروا ولم أول الدبر. وجهاد علي رضي الله عنه وثباته معروفان ولا شك في أنه مستحق عليهما شكر الله تعالى. ولكن في صرف الجملة له وحده تعسفا ؛ لأن فحواها مطلق شامل لجميع من شكر الله وقام بواجبه قياما حسنا.
هذا، والآيات مع خصوصيتها جديرة بأن تكون كسابقاتها منبع قوة لا ينضب ينهل منه المؤمن المخلص في كل ظرف مماثل ويستمد منه القوة والجرأة والإقدام على كل تضحية في سبيل دين الله ومبادئه السامية.
والآية الثانية بخاصة عظيمة التلقين والمدى. فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر معرّض للموت والقتل. وعلى المسلمين أن يحملوا الواجب الذي حملهم إياه القرآن وهو الاستمساك برسالته ونشرها والدفاع عنها، وبكلمة أخرى القيام بمهمة النبي الدينية والدنيوية إذا مات أو قتل، ولا يجوز أن يتخاذلوا في ذلك وينقلبوا على أعقابهم. وسواء أكان ذلك في أثناء الحرب أم في الظروف الأخرى.
ولقد ذهل الناس حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، حينما توفي النبي صلى الله عليه وسلم فأمدت هذه الآية الرائعة أبا بكر رضي الله عنه بالقوة التي ساعدته على الوقوف موقفه الرائع والهتاف بالناس بعد أن تلاها عليهم : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت١. فثابوا إلى وعيهم واستمسكوا بحبل الله ورسالة نبيه ودافعوا عنها وقاموا بواجبهم في نشرها في مشارق الأرض ومغاربها، وكانوا نعم الأسوة الحسنة لمن يأتي بعدهم من المسلمين.
وفي هذه الآيات وجه الخطاب أيضا إلى المسلمين :
١ ـ مقررة بأنهم كانوا يتمنون الموت في سبيل الله قبل نشوب القتال. وقد تحققت أمنيتهم ونشب القتال، ولاقى بعضهم الموت فليس في هذا أمر مفاجئ لهم.
٢ ـ ومنبهة بأن محمدا ليس إلا رسول من رسل الله جاء قبله رسل كثيرون وهو معرض كسائر البشر للموت أو القتل، وكان ذلك أمر الرسل السابقين له. فلم يكن يصح أن ينقلبوا على أعقابهم ويتخاذلوا وينهزموا إذا حل فيه ما هو طبيعي ومعرض له، وبأن الله لن يأبه لمن ينقلب على عقبيه في مثل هذه الحالة ولن يضر الله هذا شيئا، وبأن الله مجزي الشاكرين الصابرين أحسن الجزاء، وبأن لكل نفس أجلا معينا عند الله لا تموت إلا به، وبأن من قصر نيته وهمّه على الدنيا نال نصيبه منها وانتهى أمره عند هذا الحدّ. ومن رغب في الآخرة وسعى لها أناله الله ثوابه وهو مجزي الشاكرين الصابرين.
٣ ـ ومذكرة بما كان من أمر الأنبياء قبله، فكثير منهم قاتلوا وقاتل معهم أتباعهم من عباد الله المخلصين وأصيبوا بالأذى والسوء فصبروا ولم يهتموا ولم يضعفوا لما أصابهم في سبيل الله ولم يتخاذلوا ولم يستكينوا. وكل ما كان منهم أن طلبوا من ربهم غفران ما قد يكون وقع منهم من ذنوب والتجاوز عما قد يكون بدا منهم من تقصير في جانب الله وحقه، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على أعدائهم الكفار، فكان من الله أن استجاب دعاءهم فآتاهم ثواب الدنيا بالنصر والتأييد وثواب الآخرة بالرضا والغفران. وهكذا قابلهم الله على إحسانهم وهو الذي يحبّ المحسنين.
تعليق على الآية
﴿ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( ١٤٣ ) ﴾
والآية :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ… ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١٤٨ ]
المتبادر من فحوى الآيات جملة أنها استمرار للسياق السابق لها. ويمكن أن تكون قد نزلت معه أو نزلت بعده تتمة له. وهي موجهة للمسلمين وتضمنت عتابا لهم وتنبيها وتذكيرا وتمثيلا بالمخلصين السابقين من عباد الله وأتباع رسله الذين كانوا يقاتلون معهم دون ضعف ولا استكانة، دون أن يتأثروا بما أصابهم في القتال من أذى وشدة، وأسلوبها قوي نافذ كسابقاتها. واستهدفت ما استهدفته من معالجة الحالة الروحية التي ألمت بالمسلمين تأثرا من وقعة أحد ونتائجها.
ولقد روى الطبري أن الآية الأولى نزلت في أناس كانوا غائبين عن بدر. فكانوا يتمنون يوما مثله فكانوا من المنهزمين يوم أحد فعوتبوا بالآية والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن قصارى الذين كانوا غائبين عن بدر وتمنوا لو شهدوها وشهدوا غيرها أن لا يكونوا أكثر من أفراد في حين أن الخطاب عام وأن الذين انهزموا واستحقوا العتاب كانوا أكثر المشتركين في المعركة. ولذلك نتوقف في الرواية ونرى في الآية دليلا مؤيدا لما خمناه من أن الذين كانوا إلى جانب الخروج للقاء العدو ومتحمسين كانوا أكثر المسلمين المخلصين من مهاجرين وأنصار.
ولقد روى الطبري أن الآية الثانية هي في صدد ما كان من مواقف المسلمين حينما شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال بعضهم : لو كان نبيا لما قتل ودعا بعضهم إلى العودة إلى دين الآباء. ودعا بعضهم إلى أخذ الذمة من أبي سفيان قائد المشركين، ثم انهزم هؤلاء فدب الذعر في صفوف المسلمين فكانت الهزيمة. والرواية لم ترد في الصحاح كذلك. وأسلوب الآية عام يتبادر منه أنها تتمة للعتاب الذي احتوته الآية الأولى للذين انهزموا.
ولقد أورد القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى جاء فيه :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال : أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قال : اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ".
ولقد أورد الخازن في سياق جملة ﴿ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( ١٤٥ ) ﴾ حديثا رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
وفي الحديث تنبيه وتأديب وتحذير. فالله تعالى يعلم نية كل امرئ في ما يقدم عليه. ولا يشكر إلا الذين خلصت نياتهم له وفي سبيله. وإذا ظنّ امرؤ أنه قد يخدع الناس بتظاهره خلافا لما بيّته في نفسه فليس بخادع الله تعالى. والجملة القرآنية مما تكرر مثالها في آيات عديدة منها آية سورة هود [ ١٥ ] وآية سورة الإسراء [ ١٨ ] وآية سورة الشورى [ ٢٠ ].
وقد روى الطبري عن الإمام أبي جعفر أن جملة ﴿ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( ١٤٥ ) ﴾ هي في حق علي رضي الله عنه الذي جرح ستون جرحا في أحد وكان يقول الحمد لله لم أفروا ولم أول الدبر. وجهاد علي رضي الله عنه وثباته معروفان ولا شك في أنه مستحق عليهما شكر الله تعالى. ولكن في صرف الجملة له وحده تعسفا ؛ لأن فحواها مطلق شامل لجميع من شكر الله وقام بواجبه قياما حسنا.
هذا، والآيات مع خصوصيتها جديرة بأن تكون كسابقاتها منبع قوة لا ينضب ينهل منه المؤمن المخلص في كل ظرف مماثل ويستمد منه القوة والجرأة والإقدام على كل تضحية في سبيل دين الله ومبادئه السامية.
والآية الثانية بخاصة عظيمة التلقين والمدى. فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر معرّض للموت والقتل. وعلى المسلمين أن يحملوا الواجب الذي حملهم إياه القرآن وهو الاستمساك برسالته ونشرها والدفاع عنها، وبكلمة أخرى القيام بمهمة النبي الدينية والدنيوية إذا مات أو قتل، ولا يجوز أن يتخاذلوا في ذلك وينقلبوا على أعقابهم. وسواء أكان ذلك في أثناء الحرب أم في الظروف الأخرى.
ولقد ذهل الناس حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، حينما توفي النبي صلى الله عليه وسلم فأمدت هذه الآية الرائعة أبا بكر رضي الله عنه بالقوة التي ساعدته على الوقوف موقفه الرائع والهتاف بالناس بعد أن تلاها عليهم : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت١. فثابوا إلى وعيهم واستمسكوا بحبل الله ورسالة نبيه ودافعوا عنها وقاموا بواجبهم في نشرها في مشارق الأرض ومغاربها، وكانوا نعم الأسوة الحسنة لمن يأتي بعدهم من المسلمين.
( ٢ ) إذ تصعدون : قرئت بفتح التاء وضمها. ومعناها في الجملة الأولى من الصعود إلى الجبل. وفي الثانية من الإصعاد وهو الهبوط أو السير في مستوى الأرض وبطون الأودية. وهناك من قال : إنها هنا أيضا بمعنى الصعود إلى الجبل. والروايات تذكر أن النبي نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد. فإذا كان هذا المنزل كان بين المدينة وأحد فتكون الكلمة من الإصعاد، وإذا كان من وراء الجبل فتكون من الصعود.
( ٣ ) يدعوكم في أخراكم : يناديكم من ورائكم وأنتم منهزمون.
( ٤ ) أثابكم غمّا بغمّ : قالوا ّإن فعل ( أثاب ) في أصله بمعنى جزي وكافأ. وإنه يستعمل في الجزاء الحسن والسيئ على السواء. وإن كان استعماله في الحسن أكثر، وهنا في معناه الأصلي. وقيل في الجملة إنها بمعنى أصابكم بغمّ مقابل الغم الذي أصاب عدوكم يوم بدر فكانت واحدة بواحدة. وقيل : إنها بمعنى أصابكم أو جازاكم بغمّ بعد غمّ، وهو خبر قتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم ما كان من قتل في المسلمين وهزيمتهم. وقيل : إنها بمعنى جازاكم بغمّ القتل والهزيمة على ما سببتموه للنبي من غم بعصيان أمره والمعنى الأول للتهوين. ولعله يتسق أكثر مع الجملة التي أتت بعد هذه الجملة ﴿ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ﴾ والمعنى الثالث قوي الورود أيضا.
( ٥ ) ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا : ثم سلّط عليكم بعد الغمّ الذي حلّ فيكم من الهزيمة نعاسا تشعرون معه بالأمن والسكينة.
( ٦ ) لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم : لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى المكان الذي قدر عليهم أن يموتوا فيه حينما يكون أجلهم قد أتى ولا يمنع ذلك أن يبقوا في بيوتهم.
( ٧ ) وليبتلي الله ما في صدوركم : ليختبر الله وليظهر ما في قلوبكم.
( ٨ ) وليمحص ما في قلوبكم : ليصفي ويطهّر ما في صدوركم.
في الآية خطاب موجه للمسلمين :
١ ـ حذروا به من استماع أقوال الكفار وإطاعتهم ؛ لأنهم إن فعلوا ذلك ردوهم عن إيمانهم فانقلبوا خاسرين.
٢ ـ وطمئنوا به بأن الله مولاهم وناصرهم دائما، وهو خير الناصرين وبأنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار بسبب إشراكهم مع الله شركاء ما أنزل بهم من سلطان، وبأنه أعد لهم في الآخرة مأوى بئس هو من مأوى للظالمين أمثالهم.
٣ ـ ودلل به لهم على ذلك بما كان من ظروف معركة أحد في أول أمرها : فقد صدقهم الله وعده بنصرهم فمكنهم من عدوهم وجعلهم يمنعون فيهم قتلا. وأراهم ما أحبوا من النصر. وإذا كان الموقف انقلب ضدهم، فلم يكن ذلك إلا بسبب تخاذلهم وقلة صبرهم وعصيانهم أمر الرسول وتنازعهم. وانقسامهم إلى فئتين واحدة منهما كان همها الدنيا، بينما كان هم الأخرى الآخرة. وقد كان نتيجة ذلك أن انهزموا مصعدين لا يلوون على شيء والرسول يهتف بهم من ورائهم ويدعوهم إلى الرجوع إليه.
٤ ـ وسكن به مع ذلك روعهم، فلقد كان ما كان من صرف النصر عنهم اختبارا من الله عز وجل، ومقابلة عاجلة على ما بدا منهم من تقصير وعصيان وفشل ونزاع، ولقد شملهم الله مع ذلك بعفوه وفضله، وهو ذو الفضل على المؤمنين حتى لقد كان من مظاهر ذلك أن ألقى الأمن والسكينة في قلوبهم فأخذهم النعاس وهو لا يغشى إلا الآمن المطمئن، وكل هذا حتى لا يحزنوا ولا يجزعوا على ما فاتهم من نصر ولا ما أصابهم من هزيمة.
٥ ـ وندد بفريق منهم أهمتهم أنفسهم همّا عظيما، ولم يذعنوا لقضاء الله ويسلموا لحكمه وحكمته فيما جرى مندفعين في ذلك وراء الظنون والخواطر الجاهلية التي تتناقض مع الإيمان بالله متسائلين عما إذا كان من الحق أن لا يقام لهم وزن، ولا يكون لهم رأي في الموقف كاتمين في صدورهم خواطر مريبة أخرى لا يجرؤون على إظهارها، قائلين إنهم لو كان لهم في الموقف رأي وفي الأمر والتدبير كلمة مسموعة لما قتل الذين قتلوا منهم، ولما كانت الهزيمة التي حلت بهم.
٦ ـ وتنبيه لهؤلاء خاصة بأن عليهم أن يعلموا أن الأمر كله لله، وأن الطاعة له وحده وأن موت من مات إنما كان بالأجل الذي ليس فيه تقدم ولا تأخر، وأن الناس لو ظلوا في بيوتهم ولم يخرجوا إلى المعركة لما كان من معدى عن خروج الذين قتلوا بأي حال وسبب حتى يموتوا في الأماكن التي قتلوا فيها، وأن الله عليم بكل ما يدور في صدورهم. وأنه قضى بما قضى ليختبر ما في هذه الصدور حتى يظهر ويعرف الناس بعضهم بعضا على حقائقهم وليطهر قلوب المؤمنين وينقيها.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِين ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٥٤ ]
وما فيها من مشاهد وقعة أحد
وقد روي المفسرون١ أن الآية [ ١٤٩ ] نزلت في المنافقين الذين قالوا للمؤمنين ارجعوا إلى إخوانكم أو ارجعوا إلى دينهم أو كفوا عن القتال. وأن الآية [ ١٥١ ] نزلت في قريش الذين توقفوا في الطريق، ولاموا أنفسهم على تركهم المسلمين دون أن يستأصلوهم مع أنهم لم يبق منهم إلا الشريد، ثم عزموا على الكرة فألقى الله الرعب في قلوبهم وجعلهم ينكصون عن عزيمتهم.
والمتبادر أن الآيات وحدة مترابطة وأنها استمرار للسياق السابق وقد نزلت جميعها مع جميع الآيات الأخرى بعد انتهاء المعركة.
وهذا لا ينفي أن يكون للرواية الأولى أصل ما وأن يكون بعض كفار قريش أو بعض منافقي المدينة أوعزوا إلى أقاربهم من المخلصين بالانقضاض من حول النبي، وقد ألم بهم ما ألم من هزيمة ومصيبة، فاحتوت الآية الأولى إشارة إلى ذلك وتحذيرا من الاستماع إلى الكفار وما في ذلك من خسران في معرض ما احتوته الآيات من تطمينات وتنبيهات. وكذلك يقال بالنسبة للرواية الثانية أيضا. ولقد روينا قبل أن قريشا ندموا على الرجوع قبل استئصال المسلمين وفكروا في الكرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك ندب المسلمين إلى الخروج للقائهم ووصل إلى مكان اسمه حمراء الأسد فوجد المشركين قد انصرفوا٢. وكان ذلك رعبا وخوفا حينما بلغهم أن النبي هو الذي سارع إليهم على رأس المسلمين رغم ما أصابهم بدلا من أن يخافوا من كرتهم.
ولقد احتوت الآيات بعض مشاهد المعركة وهي متوافقة إجمالا مع ما ذكرته الروايات ورويناه في السياق تفسير الآيات [ ١٣٧ ـ ١٤٢ ] وهو ليس بقصد السرد القصصي، وإنما بقصد العتاب والتأنيب للذين انهزموا وتذمروا وجزعوا وعصوا أمر رسول الله وتنازعوا وتخاذلوا بعد أن كان الله قد حقق لهم وعده ونصرهم في الجولة الأولى، ثم بقصد تحذيرهم من طاعة الكفار وتصديقهم.
ولقد أول المؤولون جملة ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ بمعنى أنهم ظنوا كظن المشركين أن الله لن ينصر رسوله خلافا لما وعده به من النصر ؛ لأن النبي في قلة والمشركين في كثرة. وهو في محله.
ولقد روى المفسرون في سياق جملة ﴿ ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾ حديثا عن أبي طلحة رواه البخاري والترمذي أيضا جاء فيه :" كنت ممن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه. وزاد الترمذي والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم. أجبن قوم وأرغبه وأخذله للحق " ٣. وحديثا آخر عن أبي طلحة رواه الترمذي جاء فيه :" رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قول الله ﴿ ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾٤.
ونحن نتوقف في التسليم بأن الطائفة الأخرى هم المنافقون على ما جاء في الزيادة التي يرويها الترمذي في الحديث الأول برغم أن جمهور المفسرين أخذوا بذلك، وتوقفنا هو استلهام من روح الآيات ومضمونها. ونرجح أنهم فئة من المخلصين الذين اشتدت عليهم المصيبة والجزع. وربما كانوا ممن استشهد أقاربهم في الوقعة. ويؤيد توقفنا وترجيحنا أن الروايات ذكرت أن المنافقين انسحبوا ولم يشهدوا المعركة على ما ذكرناه قبل، وقد أيدت هذا الآيات [ ١٦٧ و١٦٨ ] التي تأتي بعد قليل بقوة أكثر من الرواية لأنها حكت دعوة المنافقين إلى القتال وعدم تلبيتهم وقولهم لو نعلم قتالا لاتبعناكم. وهناك دليل آخر على كون هذه الفئة هي من غير المنافقين وهو منطو في الآيات [ ١٥٦ ـ ١٥٩ ] التي تأتي بعد قليل أيضا، ولعل الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها أي [ ١٤٩ ] التي فيها تحذير للمؤمنين من طاعة الكفار والاستماع إليهم تصح أن تكون دليلا آخر على ذلك أيضا. وفي جملة ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ أيضا قرينة أخرى. فلو كانوا منافقين لما عوتبوا على ظنهم بالله غير الحق لأن هذا من ديدنهم.
وواضح أن الآيات كسابقاتها بسبيل معالجة الحالة المريرة التي نتجت عن هزيمة أحد. وما أصاب المسلمين فيها من خسائر في الأرواح والجراحات بما فيها من تطمين وتنبيه وتأديب ثم من تحذير من المنافقين والكفار والغلو من اليأس أو الانحراف إلى ما لا يليق بالمؤمن المخلص تجاه الله عز وجل.
ومع خصوصيتها الزمنية، فإن فيها تلقينا مستمر المدى لكل مسلم في كل موقف مماثل وبخاصة في وجوب عدم الاستماع إلى وساوس الكفار والمنافقين الذين يغتنمون فرصة الظروف والحالات التي يكون المسلمون فيها أمام مواقف حرجة وأزمات خطرة فيتقدمون إليهم بأسلوب النصح الذي يكون كالسم في الدسم. وفيها في الوقت نفسه معالجة روحية وقوة نافذة من شأنها أن تمد المؤمن بالجرأة والصبر وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا في كل موقف مماثل.
ولقد استطرد بعض المفسرين إلى مسألة القدرة في مناسبة جملة ﴿ قل إنما الأمر كله لله ﴾ ولقد كتبنا تعليقا مسهبا على هذه المسألة في سورة القمر، فنكتفي بهذا التنبيه مع القول : إن الجملة هنا هي في صدد معالجة الموقف. والله تعالى أعلم.
تعليق على تعبير ﴿ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾
وهذا التعبير يرد هنا لأول مرة. ولقد ورد في آيات أخرى، منها ما جاء في مقام مماثل لما ورد فيه هنا وذلك في آية سورة الفتح [ ٢٦ ] :﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ ومنها ما جاء في معنى الحكم الذي لا يستند إلى حق وشرع وكتاب من الله وذلك في آية سورة المائدة هذه :﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ ومنها ما جاء في معنى الدور الذي سبق الإسلام وذلك في الآية [ ٣٣ ] من سورة الأحزاب :﴿ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾.
وأصل الكلمة اشتقاق من فعل ( جهل ) الذي هو في الغالب ضد ( علم ) والذي يأتي في الاستعمال العربي المتواتر في معان عديدة أخرى لا تبعد عن معنى الجهل ومظاهره. مثل التطاول على الغير وارتكاب الموبقات والتسرع والرعونة وعدم التروي وعدم النضج والانفعال النفساني والعاطفي. ومن ذلك خطاب يوسف لإخوته المحكي في الآية [ ٨٩ ] من سورة يوسف :{ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُو
في الآية خطاب موجه للمسلمين :
١ ـ حذروا به من استماع أقوال الكفار وإطاعتهم ؛ لأنهم إن فعلوا ذلك ردوهم عن إيمانهم فانقلبوا خاسرين.
٢ ـ وطمئنوا به بأن الله مولاهم وناصرهم دائما، وهو خير الناصرين وبأنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار بسبب إشراكهم مع الله شركاء ما أنزل بهم من سلطان، وبأنه أعد لهم في الآخرة مأوى بئس هو من مأوى للظالمين أمثالهم.
٣ ـ ودلل به لهم على ذلك بما كان من ظروف معركة أحد في أول أمرها : فقد صدقهم الله وعده بنصرهم فمكنهم من عدوهم وجعلهم يمنعون فيهم قتلا. وأراهم ما أحبوا من النصر. وإذا كان الموقف انقلب ضدهم، فلم يكن ذلك إلا بسبب تخاذلهم وقلة صبرهم وعصيانهم أمر الرسول وتنازعهم. وانقسامهم إلى فئتين واحدة منهما كان همها الدنيا، بينما كان هم الأخرى الآخرة. وقد كان نتيجة ذلك أن انهزموا مصعدين لا يلوون على شيء والرسول يهتف بهم من ورائهم ويدعوهم إلى الرجوع إليه.
٤ ـ وسكن به مع ذلك روعهم، فلقد كان ما كان من صرف النصر عنهم اختبارا من الله عز وجل، ومقابلة عاجلة على ما بدا منهم من تقصير وعصيان وفشل ونزاع، ولقد شملهم الله مع ذلك بعفوه وفضله، وهو ذو الفضل على المؤمنين حتى لقد كان من مظاهر ذلك أن ألقى الأمن والسكينة في قلوبهم فأخذهم النعاس وهو لا يغشى إلا الآمن المطمئن، وكل هذا حتى لا يحزنوا ولا يجزعوا على ما فاتهم من نصر ولا ما أصابهم من هزيمة.
٥ ـ وندد بفريق منهم أهمتهم أنفسهم همّا عظيما، ولم يذعنوا لقضاء الله ويسلموا لحكمه وحكمته فيما جرى مندفعين في ذلك وراء الظنون والخواطر الجاهلية التي تتناقض مع الإيمان بالله متسائلين عما إذا كان من الحق أن لا يقام لهم وزن، ولا يكون لهم رأي في الموقف كاتمين في صدورهم خواطر مريبة أخرى لا يجرؤون على إظهارها، قائلين إنهم لو كان لهم في الموقف رأي وفي الأمر والتدبير كلمة مسموعة لما قتل الذين قتلوا منهم، ولما كانت الهزيمة التي حلت بهم.
٦ ـ وتنبيه لهؤلاء خاصة بأن عليهم أن يعلموا أن الأمر كله لله، وأن الطاعة له وحده وأن موت من مات إنما كان بالأجل الذي ليس فيه تقدم ولا تأخر، وأن الناس لو ظلوا في بيوتهم ولم يخرجوا إلى المعركة لما كان من معدى عن خروج الذين قتلوا بأي حال وسبب حتى يموتوا في الأماكن التي قتلوا فيها، وأن الله عليم بكل ما يدور في صدورهم. وأنه قضى بما قضى ليختبر ما في هذه الصدور حتى يظهر ويعرف الناس بعضهم بعضا على حقائقهم وليطهر قلوب المؤمنين وينقيها.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِين ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٥٤ ]
وما فيها من مشاهد وقعة أحد
وقد روي المفسرون١ أن الآية [ ١٤٩ ] نزلت في المنافقين الذين قالوا للمؤمنين ارجعوا إلى إخوانكم أو ارجعوا إلى دينهم أو كفوا عن القتال. وأن الآية [ ١٥١ ] نزلت في قريش الذين توقفوا في الطريق، ولاموا أنفسهم على تركهم المسلمين دون أن يستأصلوهم مع أنهم لم يبق منهم إلا الشريد، ثم عزموا على الكرة فألقى الله الرعب في قلوبهم وجعلهم ينكصون عن عزيمتهم.
والمتبادر أن الآيات وحدة مترابطة وأنها استمرار للسياق السابق وقد نزلت جميعها مع جميع الآيات الأخرى بعد انتهاء المعركة.
وهذا لا ينفي أن يكون للرواية الأولى أصل ما وأن يكون بعض كفار قريش أو بعض منافقي المدينة أوعزوا إلى أقاربهم من المخلصين بالانقضاض من حول النبي، وقد ألم بهم ما ألم من هزيمة ومصيبة، فاحتوت الآية الأولى إشارة إلى ذلك وتحذيرا من الاستماع إلى الكفار وما في ذلك من خسران في معرض ما احتوته الآيات من تطمينات وتنبيهات. وكذلك يقال بالنسبة للرواية الثانية أيضا. ولقد روينا قبل أن قريشا ندموا على الرجوع قبل استئصال المسلمين وفكروا في الكرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك ندب المسلمين إلى الخروج للقائهم ووصل إلى مكان اسمه حمراء الأسد فوجد المشركين قد انصرفوا٢. وكان ذلك رعبا وخوفا حينما بلغهم أن النبي هو الذي سارع إليهم على رأس المسلمين رغم ما أصابهم بدلا من أن يخافوا من كرتهم.
ولقد احتوت الآيات بعض مشاهد المعركة وهي متوافقة إجمالا مع ما ذكرته الروايات ورويناه في السياق تفسير الآيات [ ١٣٧ ـ ١٤٢ ] وهو ليس بقصد السرد القصصي، وإنما بقصد العتاب والتأنيب للذين انهزموا وتذمروا وجزعوا وعصوا أمر رسول الله وتنازعوا وتخاذلوا بعد أن كان الله قد حقق لهم وعده ونصرهم في الجولة الأولى، ثم بقصد تحذيرهم من طاعة الكفار وتصديقهم.
ولقد أول المؤولون جملة ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ بمعنى أنهم ظنوا كظن المشركين أن الله لن ينصر رسوله خلافا لما وعده به من النصر ؛ لأن النبي في قلة والمشركين في كثرة. وهو في محله.
ولقد روى المفسرون في سياق جملة ﴿ ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾ حديثا عن أبي طلحة رواه البخاري والترمذي أيضا جاء فيه :" كنت ممن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه. وزاد الترمذي والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم. أجبن قوم وأرغبه وأخذله للحق " ٣. وحديثا آخر عن أبي طلحة رواه الترمذي جاء فيه :" رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قول الله ﴿ ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾٤.
ونحن نتوقف في التسليم بأن الطائفة الأخرى هم المنافقون على ما جاء في الزيادة التي يرويها الترمذي في الحديث الأول برغم أن جمهور المفسرين أخذوا بذلك، وتوقفنا هو استلهام من روح الآيات ومضمونها. ونرجح أنهم فئة من المخلصين الذين اشتدت عليهم المصيبة والجزع. وربما كانوا ممن استشهد أقاربهم في الوقعة. ويؤيد توقفنا وترجيحنا أن الروايات ذكرت أن المنافقين انسحبوا ولم يشهدوا المعركة على ما ذكرناه قبل، وقد أيدت هذا الآيات [ ١٦٧ و١٦٨ ] التي تأتي بعد قليل بقوة أكثر من الرواية لأنها حكت دعوة المنافقين إلى القتال وعدم تلبيتهم وقولهم لو نعلم قتالا لاتبعناكم. وهناك دليل آخر على كون هذه الفئة هي من غير المنافقين وهو منطو في الآيات [ ١٥٦ ـ ١٥٩ ] التي تأتي بعد قليل أيضا، ولعل الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها أي [ ١٤٩ ] التي فيها تحذير للمؤمنين من طاعة الكفار والاستماع إليهم تصح أن تكون دليلا آخر على ذلك أيضا. وفي جملة ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ أيضا قرينة أخرى. فلو كانوا منافقين لما عوتبوا على ظنهم بالله غير الحق لأن هذا من ديدنهم.
وواضح أن الآيات كسابقاتها بسبيل معالجة الحالة المريرة التي نتجت عن هزيمة أحد. وما أصاب المسلمين فيها من خسائر في الأرواح والجراحات بما فيها من تطمين وتنبيه وتأديب ثم من تحذير من المنافقين والكفار والغلو من اليأس أو الانحراف إلى ما لا يليق بالمؤمن المخلص تجاه الله عز وجل.
ومع خصوصيتها الزمنية، فإن فيها تلقينا مستمر المدى لكل مسلم في كل موقف مماثل وبخاصة في وجوب عدم الاستماع إلى وساوس الكفار والمنافقين الذين يغتنمون فرصة الظروف والحالات التي يكون المسلمون فيها أمام مواقف حرجة وأزمات خطرة فيتقدمون إليهم بأسلوب النصح الذي يكون كالسم في الدسم. وفيها في الوقت نفسه معالجة روحية وقوة نافذة من شأنها أن تمد المؤمن بالجرأة والصبر وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا في كل موقف مماثل.
ولقد استطرد بعض المفسرين إلى مسألة القدرة في مناسبة جملة ﴿ قل إنما الأمر كله لله ﴾ ولقد كتبنا تعليقا مسهبا على هذه المسألة في سورة القمر، فنكتفي بهذا التنبيه مع القول : إن الجملة هنا هي في صدد معالجة الموقف. والله تعالى أعلم.
تعليق على تعبير ﴿ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾
وهذا التعبير يرد هنا لأول مرة. ولقد ورد في آيات أخرى، منها ما جاء في مقام مماثل لما ورد فيه هنا وذلك في آية سورة الفتح [ ٢٦ ] :﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ ومنها ما جاء في معنى الحكم الذي لا يستند إلى حق وشرع وكتاب من الله وذلك في آية سورة المائدة هذه :﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ ومنها ما جاء في معنى الدور الذي سبق الإسلام وذلك في الآية [ ٣٣ ] من سورة الأحزاب :﴿ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾.
وأصل الكلمة اشتقاق من فعل ( جهل ) الذي هو في الغالب ضد ( علم ) والذي يأتي في الاستعمال العربي المتواتر في معان عديدة أخرى لا تبعد عن معنى الجهل ومظاهره. مثل التطاول على الغير وارتكاب الموبقات والتسرع والرعونة وعدم التروي وعدم النضج والانفعال النفساني والعاطفي. ومن ذلك خطاب يوسف لإخوته المحكي في الآية [ ٨٩ ] من سورة يوسف :{ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُو
في الآية خطاب موجه للمسلمين :
١ ـ حذروا به من استماع أقوال الكفار وإطاعتهم ؛ لأنهم إن فعلوا ذلك ردوهم عن إيمانهم فانقلبوا خاسرين.
٢ ـ وطمئنوا به بأن الله مولاهم وناصرهم دائما، وهو خير الناصرين وبأنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار بسبب إشراكهم مع الله شركاء ما أنزل بهم من سلطان، وبأنه أعد لهم في الآخرة مأوى بئس هو من مأوى للظالمين أمثالهم.
٣ ـ ودلل به لهم على ذلك بما كان من ظروف معركة أحد في أول أمرها : فقد صدقهم الله وعده بنصرهم فمكنهم من عدوهم وجعلهم يمنعون فيهم قتلا. وأراهم ما أحبوا من النصر. وإذا كان الموقف انقلب ضدهم، فلم يكن ذلك إلا بسبب تخاذلهم وقلة صبرهم وعصيانهم أمر الرسول وتنازعهم. وانقسامهم إلى فئتين واحدة منهما كان همها الدنيا، بينما كان هم الأخرى الآخرة. وقد كان نتيجة ذلك أن انهزموا مصعدين لا يلوون على شيء والرسول يهتف بهم من ورائهم ويدعوهم إلى الرجوع إليه.
٤ ـ وسكن به مع ذلك روعهم، فلقد كان ما كان من صرف النصر عنهم اختبارا من الله عز وجل، ومقابلة عاجلة على ما بدا منهم من تقصير وعصيان وفشل ونزاع، ولقد شملهم الله مع ذلك بعفوه وفضله، وهو ذو الفضل على المؤمنين حتى لقد كان من مظاهر ذلك أن ألقى الأمن والسكينة في قلوبهم فأخذهم النعاس وهو لا يغشى إلا الآمن المطمئن، وكل هذا حتى لا يحزنوا ولا يجزعوا على ما فاتهم من نصر ولا ما أصابهم من هزيمة.
٥ ـ وندد بفريق منهم أهمتهم أنفسهم همّا عظيما، ولم يذعنوا لقضاء الله ويسلموا لحكمه وحكمته فيما جرى مندفعين في ذلك وراء الظنون والخواطر الجاهلية التي تتناقض مع الإيمان بالله متسائلين عما إذا كان من الحق أن لا يقام لهم وزن، ولا يكون لهم رأي في الموقف كاتمين في صدورهم خواطر مريبة أخرى لا يجرؤون على إظهارها، قائلين إنهم لو كان لهم في الموقف رأي وفي الأمر والتدبير كلمة مسموعة لما قتل الذين قتلوا منهم، ولما كانت الهزيمة التي حلت بهم.
٦ ـ وتنبيه لهؤلاء خاصة بأن عليهم أن يعلموا أن الأمر كله لله، وأن الطاعة له وحده وأن موت من مات إنما كان بالأجل الذي ليس فيه تقدم ولا تأخر، وأن الناس لو ظلوا في بيوتهم ولم يخرجوا إلى المعركة لما كان من معدى عن خروج الذين قتلوا بأي حال وسبب حتى يموتوا في الأماكن التي قتلوا فيها، وأن الله عليم بكل ما يدور في صدورهم. وأنه قضى بما قضى ليختبر ما في هذه الصدور حتى يظهر ويعرف الناس بعضهم بعضا على حقائقهم وليطهر قلوب المؤمنين وينقيها.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِين ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٥٤ ]
وما فيها من مشاهد وقعة أحد
وقد روي المفسرون١ أن الآية [ ١٤٩ ] نزلت في المنافقين الذين قالوا للمؤمنين ارجعوا إلى إخوانكم أو ارجعوا إلى دينهم أو كفوا عن القتال. وأن الآية [ ١٥١ ] نزلت في قريش الذين توقفوا في الطريق، ولاموا أنفسهم على تركهم المسلمين دون أن يستأصلوهم مع أنهم لم يبق منهم إلا الشريد، ثم عزموا على الكرة فألقى الله الرعب في قلوبهم وجعلهم ينكصون عن عزيمتهم.
والمتبادر أن الآيات وحدة مترابطة وأنها استمرار للسياق السابق وقد نزلت جميعها مع جميع الآيات الأخرى بعد انتهاء المعركة.
وهذا لا ينفي أن يكون للرواية الأولى أصل ما وأن يكون بعض كفار قريش أو بعض منافقي المدينة أوعزوا إلى أقاربهم من المخلصين بالانقضاض من حول النبي، وقد ألم بهم ما ألم من هزيمة ومصيبة، فاحتوت الآية الأولى إشارة إلى ذلك وتحذيرا من الاستماع إلى الكفار وما في ذلك من خسران في معرض ما احتوته الآيات من تطمينات وتنبيهات. وكذلك يقال بالنسبة للرواية الثانية أيضا. ولقد روينا قبل أن قريشا ندموا على الرجوع قبل استئصال المسلمين وفكروا في الكرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك ندب المسلمين إلى الخروج للقائهم ووصل إلى مكان اسمه حمراء الأسد فوجد المشركين قد انصرفوا٢. وكان ذلك رعبا وخوفا حينما بلغهم أن النبي هو الذي سارع إليهم على رأس المسلمين رغم ما أصابهم بدلا من أن يخافوا من كرتهم.
ولقد احتوت الآيات بعض مشاهد المعركة وهي متوافقة إجمالا مع ما ذكرته الروايات ورويناه في السياق تفسير الآيات [ ١٣٧ ـ ١٤٢ ] وهو ليس بقصد السرد القصصي، وإنما بقصد العتاب والتأنيب للذين انهزموا وتذمروا وجزعوا وعصوا أمر رسول الله وتنازعوا وتخاذلوا بعد أن كان الله قد حقق لهم وعده ونصرهم في الجولة الأولى، ثم بقصد تحذيرهم من طاعة الكفار وتصديقهم.
ولقد أول المؤولون جملة ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ بمعنى أنهم ظنوا كظن المشركين أن الله لن ينصر رسوله خلافا لما وعده به من النصر ؛ لأن النبي في قلة والمشركين في كثرة. وهو في محله.
ولقد روى المفسرون في سياق جملة ﴿ ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾ حديثا عن أبي طلحة رواه البخاري والترمذي أيضا جاء فيه :" كنت ممن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه. وزاد الترمذي والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم. أجبن قوم وأرغبه وأخذله للحق " ٣. وحديثا آخر عن أبي طلحة رواه الترمذي جاء فيه :" رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قول الله ﴿ ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾٤.
ونحن نتوقف في التسليم بأن الطائفة الأخرى هم المنافقون على ما جاء في الزيادة التي يرويها الترمذي في الحديث الأول برغم أن جمهور المفسرين أخذوا بذلك، وتوقفنا هو استلهام من روح الآيات ومضمونها. ونرجح أنهم فئة من المخلصين الذين اشتدت عليهم المصيبة والجزع. وربما كانوا ممن استشهد أقاربهم في الوقعة. ويؤيد توقفنا وترجيحنا أن الروايات ذكرت أن المنافقين انسحبوا ولم يشهدوا المعركة على ما ذكرناه قبل، وقد أيدت هذا الآيات [ ١٦٧ و١٦٨ ] التي تأتي بعد قليل بقوة أكثر من الرواية لأنها حكت دعوة المنافقين إلى القتال وعدم تلبيتهم وقولهم لو نعلم قتالا لاتبعناكم. وهناك دليل آخر على كون هذه الفئة هي من غير المنافقين وهو منطو في الآيات [ ١٥٦ ـ ١٥٩ ] التي تأتي بعد قليل أيضا، ولعل الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها أي [ ١٤٩ ] التي فيها تحذير للمؤمنين من طاعة الكفار والاستماع إليهم تصح أن تكون دليلا آخر على ذلك أيضا. وفي جملة ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ أيضا قرينة أخرى. فلو كانوا منافقين لما عوتبوا على ظنهم بالله غير الحق لأن هذا من ديدنهم.
وواضح أن الآيات كسابقاتها بسبيل معالجة الحالة المريرة التي نتجت عن هزيمة أحد. وما أصاب المسلمين فيها من خسائر في الأرواح والجراحات بما فيها من تطمين وتنبيه وتأديب ثم من تحذير من المنافقين والكفار والغلو من اليأس أو الانحراف إلى ما لا يليق بالمؤمن المخلص تجاه الله عز وجل.
ومع خصوصيتها الزمنية، فإن فيها تلقينا مستمر المدى لكل مسلم في كل موقف مماثل وبخاصة في وجوب عدم الاستماع إلى وساوس الكفار والمنافقين الذين يغتنمون فرصة الظروف والحالات التي يكون المسلمون فيها أمام مواقف حرجة وأزمات خطرة فيتقدمون إليهم بأسلوب النصح الذي يكون كالسم في الدسم. وفيها في الوقت نفسه معالجة روحية وقوة نافذة من شأنها أن تمد المؤمن بالجرأة والصبر وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا في كل موقف مماثل.
ولقد استطرد بعض المفسرين إلى مسألة القدرة في مناسبة جملة ﴿ قل إنما الأمر كله لله ﴾ ولقد كتبنا تعليقا مسهبا على هذه المسألة في سورة القمر، فنكتفي بهذا التنبيه مع القول : إن الجملة هنا هي في صدد معالجة الموقف. والله تعالى أعلم.
تعليق على تعبير ﴿ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾
وهذا التعبير يرد هنا لأول مرة. ولقد ورد في آيات أخرى، منها ما جاء في مقام مماثل لما ورد فيه هنا وذلك في آية سورة الفتح [ ٢٦ ] :﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ ومنها ما جاء في معنى الحكم الذي لا يستند إلى حق وشرع وكتاب من الله وذلك في آية سورة المائدة هذه :﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ ومنها ما جاء في معنى الدور الذي سبق الإسلام وذلك في الآية [ ٣٣ ] من سورة الأحزاب :﴿ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾.
وأصل الكلمة اشتقاق من فعل ( جهل ) الذي هو في الغالب ضد ( علم ) والذي يأتي في الاستعمال العربي المتواتر في معان عديدة أخرى لا تبعد عن معنى الجهل ومظاهره. مثل التطاول على الغير وارتكاب الموبقات والتسرع والرعونة وعدم التروي وعدم النضج والانفعال النفساني والعاطفي. ومن ذلك خطاب يوسف لإخوته المحكي في الآية [ ٨٩ ] من سورة يوسف :{ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُو
في الآية خطاب موجه للمسلمين :
١ ـ حذروا به من استماع أقوال الكفار وإطاعتهم ؛ لأنهم إن فعلوا ذلك ردوهم عن إيمانهم فانقلبوا خاسرين.
٢ ـ وطمئنوا به بأن الله مولاهم وناصرهم دائما، وهو خير الناصرين وبأنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار بسبب إشراكهم مع الله شركاء ما أنزل بهم من سلطان، وبأنه أعد لهم في الآخرة مأوى بئس هو من مأوى للظالمين أمثالهم.
٣ ـ ودلل به لهم على ذلك بما كان من ظروف معركة أحد في أول أمرها : فقد صدقهم الله وعده بنصرهم فمكنهم من عدوهم وجعلهم يمنعون فيهم قتلا. وأراهم ما أحبوا من النصر. وإذا كان الموقف انقلب ضدهم، فلم يكن ذلك إلا بسبب تخاذلهم وقلة صبرهم وعصيانهم أمر الرسول وتنازعهم. وانقسامهم إلى فئتين واحدة منهما كان همها الدنيا، بينما كان هم الأخرى الآخرة. وقد كان نتيجة ذلك أن انهزموا مصعدين لا يلوون على شيء والرسول يهتف بهم من ورائهم ويدعوهم إلى الرجوع إليه.
٤ ـ وسكن به مع ذلك روعهم، فلقد كان ما كان من صرف النصر عنهم اختبارا من الله عز وجل، ومقابلة عاجلة على ما بدا منهم من تقصير وعصيان وفشل ونزاع، ولقد شملهم الله مع ذلك بعفوه وفضله، وهو ذو الفضل على المؤمنين حتى لقد كان من مظاهر ذلك أن ألقى الأمن والسكينة في قلوبهم فأخذهم النعاس وهو لا يغشى إلا الآمن المطمئن، وكل هذا حتى لا يحزنوا ولا يجزعوا على ما فاتهم من نصر ولا ما أصابهم من هزيمة.
٥ ـ وندد بفريق منهم أهمتهم أنفسهم همّا عظيما، ولم يذعنوا لقضاء الله ويسلموا لحكمه وحكمته فيما جرى مندفعين في ذلك وراء الظنون والخواطر الجاهلية التي تتناقض مع الإيمان بالله متسائلين عما إذا كان من الحق أن لا يقام لهم وزن، ولا يكون لهم رأي في الموقف كاتمين في صدورهم خواطر مريبة أخرى لا يجرؤون على إظهارها، قائلين إنهم لو كان لهم في الموقف رأي وفي الأمر والتدبير كلمة مسموعة لما قتل الذين قتلوا منهم، ولما كانت الهزيمة التي حلت بهم.
٦ ـ وتنبيه لهؤلاء خاصة بأن عليهم أن يعلموا أن الأمر كله لله، وأن الطاعة له وحده وأن موت من مات إنما كان بالأجل الذي ليس فيه تقدم ولا تأخر، وأن الناس لو ظلوا في بيوتهم ولم يخرجوا إلى المعركة لما كان من معدى عن خروج الذين قتلوا بأي حال وسبب حتى يموتوا في الأماكن التي قتلوا فيها، وأن الله عليم بكل ما يدور في صدورهم. وأنه قضى بما قضى ليختبر ما في هذه الصدور حتى يظهر ويعرف الناس بعضهم بعضا على حقائقهم وليطهر قلوب المؤمنين وينقيها.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِين ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٥٤ ]
وما فيها من مشاهد وقعة أحد
وقد روي المفسرون١ أن الآية [ ١٤٩ ] نزلت في المنافقين الذين قالوا للمؤمنين ارجعوا إلى إخوانكم أو ارجعوا إلى دينهم أو كفوا عن القتال. وأن الآية [ ١٥١ ] نزلت في قريش الذين توقفوا في الطريق، ولاموا أنفسهم على تركهم المسلمين دون أن يستأصلوهم مع أنهم لم يبق منهم إلا الشريد، ثم عزموا على الكرة فألقى الله الرعب في قلوبهم وجعلهم ينكصون عن عزيمتهم.
والمتبادر أن الآيات وحدة مترابطة وأنها استمرار للسياق السابق وقد نزلت جميعها مع جميع الآيات الأخرى بعد انتهاء المعركة.
وهذا لا ينفي أن يكون للرواية الأولى أصل ما وأن يكون بعض كفار قريش أو بعض منافقي المدينة أوعزوا إلى أقاربهم من المخلصين بالانقضاض من حول النبي، وقد ألم بهم ما ألم من هزيمة ومصيبة، فاحتوت الآية الأولى إشارة إلى ذلك وتحذيرا من الاستماع إلى الكفار وما في ذلك من خسران في معرض ما احتوته الآيات من تطمينات وتنبيهات. وكذلك يقال بالنسبة للرواية الثانية أيضا. ولقد روينا قبل أن قريشا ندموا على الرجوع قبل استئصال المسلمين وفكروا في الكرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك ندب المسلمين إلى الخروج للقائهم ووصل إلى مكان اسمه حمراء الأسد فوجد المشركين قد انصرفوا٢. وكان ذلك رعبا وخوفا حينما بلغهم أن النبي هو الذي سارع إليهم على رأس المسلمين رغم ما أصابهم بدلا من أن يخافوا من كرتهم.
ولقد احتوت الآيات بعض مشاهد المعركة وهي متوافقة إجمالا مع ما ذكرته الروايات ورويناه في السياق تفسير الآيات [ ١٣٧ ـ ١٤٢ ] وهو ليس بقصد السرد القصصي، وإنما بقصد العتاب والتأنيب للذين انهزموا وتذمروا وجزعوا وعصوا أمر رسول الله وتنازعوا وتخاذلوا بعد أن كان الله قد حقق لهم وعده ونصرهم في الجولة الأولى، ثم بقصد تحذيرهم من طاعة الكفار وتصديقهم.
ولقد أول المؤولون جملة ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ بمعنى أنهم ظنوا كظن المشركين أن الله لن ينصر رسوله خلافا لما وعده به من النصر ؛ لأن النبي في قلة والمشركين في كثرة. وهو في محله.
ولقد روى المفسرون في سياق جملة ﴿ ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾ حديثا عن أبي طلحة رواه البخاري والترمذي أيضا جاء فيه :" كنت ممن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه. وزاد الترمذي والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم. أجبن قوم وأرغبه وأخذله للحق " ٣. وحديثا آخر عن أبي طلحة رواه الترمذي جاء فيه :" رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قول الله ﴿ ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾٤.
ونحن نتوقف في التسليم بأن الطائفة الأخرى هم المنافقون على ما جاء في الزيادة التي يرويها الترمذي في الحديث الأول برغم أن جمهور المفسرين أخذوا بذلك، وتوقفنا هو استلهام من روح الآيات ومضمونها. ونرجح أنهم فئة من المخلصين الذين اشتدت عليهم المصيبة والجزع. وربما كانوا ممن استشهد أقاربهم في الوقعة. ويؤيد توقفنا وترجيحنا أن الروايات ذكرت أن المنافقين انسحبوا ولم يشهدوا المعركة على ما ذكرناه قبل، وقد أيدت هذا الآيات [ ١٦٧ و١٦٨ ] التي تأتي بعد قليل بقوة أكثر من الرواية لأنها حكت دعوة المنافقين إلى القتال وعدم تلبيتهم وقولهم لو نعلم قتالا لاتبعناكم. وهناك دليل آخر على كون هذه الفئة هي من غير المنافقين وهو منطو في الآيات [ ١٥٦ ـ ١٥٩ ] التي تأتي بعد قليل أيضا، ولعل الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها أي [ ١٤٩ ] التي فيها تحذير للمؤمنين من طاعة الكفار والاستماع إليهم تصح أن تكون دليلا آخر على ذلك أيضا. وفي جملة ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ أيضا قرينة أخرى. فلو كانوا منافقين لما عوتبوا على ظنهم بالله غير الحق لأن هذا من ديدنهم.
وواضح أن الآيات كسابقاتها بسبيل معالجة الحالة المريرة التي نتجت عن هزيمة أحد. وما أصاب المسلمين فيها من خسائر في الأرواح والجراحات بما فيها من تطمين وتنبيه وتأديب ثم من تحذير من المنافقين والكفار والغلو من اليأس أو الانحراف إلى ما لا يليق بالمؤمن المخلص تجاه الله عز وجل.
ومع خصوصيتها الزمنية، فإن فيها تلقينا مستمر المدى لكل مسلم في كل موقف مماثل وبخاصة في وجوب عدم الاستماع إلى وساوس الكفار والمنافقين الذين يغتنمون فرصة الظروف والحالات التي يكون المسلمون فيها أمام مواقف حرجة وأزمات خطرة فيتقدمون إليهم بأسلوب النصح الذي يكون كالسم في الدسم. وفيها في الوقت نفسه معالجة روحية وقوة نافذة من شأنها أن تمد المؤمن بالجرأة والصبر وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا في كل موقف مماثل.
ولقد استطرد بعض المفسرين إلى مسألة القدرة في مناسبة جملة ﴿ قل إنما الأمر كله لله ﴾ ولقد كتبنا تعليقا مسهبا على هذه المسألة في سورة القمر، فنكتفي بهذا التنبيه مع القول : إن الجملة هنا هي في صدد معالجة الموقف. والله تعالى أعلم.
تعليق على تعبير ﴿ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾
وهذا التعبير يرد هنا لأول مرة. ولقد ورد في آيات أخرى، منها ما جاء في مقام مماثل لما ورد فيه هنا وذلك في آية سورة الفتح [ ٢٦ ] :﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ ومنها ما جاء في معنى الحكم الذي لا يستند إلى حق وشرع وكتاب من الله وذلك في آية سورة المائدة هذه :﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ ومنها ما جاء في معنى الدور الذي سبق الإسلام وذلك في الآية [ ٣٣ ] من سورة الأحزاب :﴿ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾.
وأصل الكلمة اشتقاق من فعل ( جهل ) الذي هو في الغالب ضد ( علم ) والذي يأتي في الاستعمال العربي المتواتر في معان عديدة أخرى لا تبعد عن معنى الجهل ومظاهره. مثل التطاول على الغير وارتكاب الموبقات والتسرع والرعونة وعدم التروي وعدم النضج والانفعال النفساني والعاطفي. ومن ذلك خطاب يوسف لإخوته المحكي في الآية [ ٨٩ ] من سورة يوسف :{ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُو
( ٣ ) يدعوكم في أخراكم : يناديكم من ورائكم وأنتم منهزمون.
( ٤ ) أثابكم غمّا بغمّ : قالوا إن فعل ( أثاب ) في أصله بمعنى جزي وكافأ. وإنه يستعمل في الجزاء الحسن والسيئ على السواء. وإن كان استعماله في الحسن أكثر. وهنا في معناه الأصلي. وقيل في الجملة : إنها بمعنى أصابكم بغمّ مقابل الغم الذي أصاب عدوكم يوم بدر فكانت واحدة بواحدة. وقيل : إنها بمعنى أصابكم أو جازاكم بغمّ بعد غمّ وهو خبر قتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم ما كان من قتل في المسلمين وهزيمتهم. وقيل : إنها بمعنى جازاكم بغمّ القتل والهزيمة على ما سببتموه للنبي من غم بعصيان أمره والمعنى الأول للتهوين. ولعله يتسق أكثر مع الجملة التي أتت بعد هذه الجملة ﴿ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ﴾ والمعنى الثالث قوي الورود أيضا.
في الآية خطاب موجه للمسلمين :
١ ـ حذروا به من استماع أقوال الكفار وإطاعتهم ؛ لأنهم إن فعلوا ذلك ردوهم عن إيمانهم فانقلبوا خاسرين.
٢ ـ وطمئنوا به بأن الله مولاهم وناصرهم دائما، وهو خير الناصرين وبأنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار بسبب إشراكهم مع الله شركاء ما أنزل بهم من سلطان، وبأنه أعد لهم في الآخرة مأوى بئس هو من مأوى للظالمين أمثالهم.
٣ ـ ودلل به لهم على ذلك بما كان من ظروف معركة أحد في أول أمرها : فقد صدقهم الله وعده بنصرهم فمكنهم من عدوهم وجعلهم يمنعون فيهم قتلا. وأراهم ما أحبوا من النصر. وإذا كان الموقف انقلب ضدهم، فلم يكن ذلك إلا بسبب تخاذلهم وقلة صبرهم وعصيانهم أمر الرسول وتنازعهم. وانقسامهم إلى فئتين واحدة منهما كان همها الدنيا، بينما كان هم الأخرى الآخرة. وقد كان نتيجة ذلك أن انهزموا مصعدين لا يلوون على شيء والرسول يهتف بهم من ورائهم ويدعوهم إلى الرجوع إليه.
٤ ـ وسكن به مع ذلك روعهم، فلقد كان ما كان من صرف النصر عنهم اختبارا من الله عز وجل، ومقابلة عاجلة على ما بدا منهم من تقصير وعصيان وفشل ونزاع، ولقد شملهم الله مع ذلك بعفوه وفضله، وهو ذو الفضل على المؤمنين حتى لقد كان من مظاهر ذلك أن ألقى الأمن والسكينة في قلوبهم فأخذهم النعاس وهو لا يغشى إلا الآمن المطمئن، وكل هذا حتى لا يحزنوا ولا يجزعوا على ما فاتهم من نصر ولا ما أصابهم من هزيمة.
٥ ـ وندد بفريق منهم أهمتهم أنفسهم همّا عظيما، ولم يذعنوا لقضاء الله ويسلموا لحكمه وحكمته فيما جرى مندفعين في ذلك وراء الظنون والخواطر الجاهلية التي تتناقض مع الإيمان بالله متسائلين عما إذا كان من الحق أن لا يقام لهم وزن، ولا يكون لهم رأي في الموقف كاتمين في صدورهم خواطر مريبة أخرى لا يجرؤون على إظهارها، قائلين إنهم لو كان لهم في الموقف رأي وفي الأمر والتدبير كلمة مسموعة لما قتل الذين قتلوا منهم، ولما كانت الهزيمة التي حلت بهم.
٦ ـ وتنبيه لهؤلاء خاصة بأن عليهم أن يعلموا أن الأمر كله لله، وأن الطاعة له وحده وأن موت من مات إنما كان بالأجل الذي ليس فيه تقدم ولا تأخر، وأن الناس لو ظلوا في بيوتهم ولم يخرجوا إلى المعركة لما كان من معدى عن خروج الذين قتلوا بأي حال وسبب حتى يموتوا في الأماكن التي قتلوا فيها، وأن الله عليم بكل ما يدور في صدورهم. وأنه قضى بما قضى ليختبر ما في هذه الصدور حتى يظهر ويعرف الناس بعضهم بعضا على حقائقهم وليطهر قلوب المؤمنين وينقيها.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِين ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٥٤ ]
وما فيها من مشاهد وقعة أحد
وقد روي المفسرون١ أن الآية [ ١٤٩ ] نزلت في المنافقين الذين قالوا للمؤمنين ارجعوا إلى إخوانكم أو ارجعوا إلى دينهم أو كفوا عن القتال. وأن الآية [ ١٥١ ] نزلت في قريش الذين توقفوا في الطريق، ولاموا أنفسهم على تركهم المسلمين دون أن يستأصلوهم مع أنهم لم يبق منهم إلا الشريد، ثم عزموا على الكرة فألقى الله الرعب في قلوبهم وجعلهم ينكصون عن عزيمتهم.
والمتبادر أن الآيات وحدة مترابطة وأنها استمرار للسياق السابق وقد نزلت جميعها مع جميع الآيات الأخرى بعد انتهاء المعركة.
وهذا لا ينفي أن يكون للرواية الأولى أصل ما وأن يكون بعض كفار قريش أو بعض منافقي المدينة أوعزوا إلى أقاربهم من المخلصين بالانقضاض من حول النبي، وقد ألم بهم ما ألم من هزيمة ومصيبة، فاحتوت الآية الأولى إشارة إلى ذلك وتحذيرا من الاستماع إلى الكفار وما في ذلك من خسران في معرض ما احتوته الآيات من تطمينات وتنبيهات. وكذلك يقال بالنسبة للرواية الثانية أيضا. ولقد روينا قبل أن قريشا ندموا على الرجوع قبل استئصال المسلمين وفكروا في الكرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك ندب المسلمين إلى الخروج للقائهم ووصل إلى مكان اسمه حمراء الأسد فوجد المشركين قد انصرفوا٢. وكان ذلك رعبا وخوفا حينما بلغهم أن النبي هو الذي سارع إليهم على رأس المسلمين رغم ما أصابهم بدلا من أن يخافوا من كرتهم.
ولقد احتوت الآيات بعض مشاهد المعركة وهي متوافقة إجمالا مع ما ذكرته الروايات ورويناه في السياق تفسير الآيات [ ١٣٧ ـ ١٤٢ ] وهو ليس بقصد السرد القصصي، وإنما بقصد العتاب والتأنيب للذين انهزموا وتذمروا وجزعوا وعصوا أمر رسول الله وتنازعوا وتخاذلوا بعد أن كان الله قد حقق لهم وعده ونصرهم في الجولة الأولى، ثم بقصد تحذيرهم من طاعة الكفار وتصديقهم.
ولقد أول المؤولون جملة ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ بمعنى أنهم ظنوا كظن المشركين أن الله لن ينصر رسوله خلافا لما وعده به من النصر ؛ لأن النبي في قلة والمشركين في كثرة. وهو في محله.
ولقد روى المفسرون في سياق جملة ﴿ ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾ حديثا عن أبي طلحة رواه البخاري والترمذي أيضا جاء فيه :" كنت ممن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه. وزاد الترمذي والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم. أجبن قوم وأرغبه وأخذله للحق " ٣. وحديثا آخر عن أبي طلحة رواه الترمذي جاء فيه :" رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قول الله ﴿ ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾٤.
ونحن نتوقف في التسليم بأن الطائفة الأخرى هم المنافقون على ما جاء في الزيادة التي يرويها الترمذي في الحديث الأول برغم أن جمهور المفسرين أخذوا بذلك، وتوقفنا هو استلهام من روح الآيات ومضمونها. ونرجح أنهم فئة من المخلصين الذين اشتدت عليهم المصيبة والجزع. وربما كانوا ممن استشهد أقاربهم في الوقعة. ويؤيد توقفنا وترجيحنا أن الروايات ذكرت أن المنافقين انسحبوا ولم يشهدوا المعركة على ما ذكرناه قبل، وقد أيدت هذا الآيات [ ١٦٧ و١٦٨ ] التي تأتي بعد قليل بقوة أكثر من الرواية لأنها حكت دعوة المنافقين إلى القتال وعدم تلبيتهم وقولهم لو نعلم قتالا لاتبعناكم. وهناك دليل آخر على كون هذه الفئة هي من غير المنافقين وهو منطو في الآيات [ ١٥٦ ـ ١٥٩ ] التي تأتي بعد قليل أيضا، ولعل الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها أي [ ١٤٩ ] التي فيها تحذير للمؤمنين من طاعة الكفار والاستماع إليهم تصح أن تكون دليلا آخر على ذلك أيضا. وفي جملة ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ أيضا قرينة أخرى. فلو كانوا منافقين لما عوتبوا على ظنهم بالله غير الحق لأن هذا من ديدنهم.
وواضح أن الآيات كسابقاتها بسبيل معالجة الحالة المريرة التي نتجت عن هزيمة أحد. وما أصاب المسلمين فيها من خسائر في الأرواح والجراحات بما فيها من تطمين وتنبيه وتأديب ثم من تحذير من المنافقين والكفار والغلو من اليأس أو الانحراف إلى ما لا يليق بالمؤمن المخلص تجاه الله عز وجل.
ومع خصوصيتها الزمنية، فإن فيها تلقينا مستمر المدى لكل مسلم في كل موقف مماثل وبخاصة في وجوب عدم الاستماع إلى وساوس الكفار والمنافقين الذين يغتنمون فرصة الظروف والحالات التي يكون المسلمون فيها أمام مواقف حرجة وأزمات خطرة فيتقدمون إليهم بأسلوب النصح الذي يكون كالسم في الدسم. وفيها في الوقت نفسه معالجة روحية وقوة نافذة من شأنها أن تمد المؤمن بالجرأة والصبر وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا في كل موقف مماثل.
ولقد استطرد بعض المفسرين إلى مسألة القدرة في مناسبة جملة ﴿ قل إنما الأمر كله لله ﴾ ولقد كتبنا تعليقا مسهبا على هذه المسألة في سورة القمر، فنكتفي بهذا التنبيه مع القول : إن الجملة هنا هي في صدد معالجة الموقف. والله تعالى أعلم.
تعليق على تعبير ﴿ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾
وهذا التعبير يرد هنا لأول مرة. ولقد ورد في آيات أخرى، منها ما جاء في مقام مماثل لما ورد فيه هنا وذلك في آية سورة الفتح [ ٢٦ ] :﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ ومنها ما جاء في معنى الحكم الذي لا يستند إلى حق وشرع وكتاب من الله وذلك في آية سورة المائدة هذه :﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ ومنها ما جاء في معنى الدور الذي سبق الإسلام وذلك في الآية [ ٣٣ ] من سورة الأحزاب :﴿ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾.
وأصل الكلمة اشتقاق من فعل ( جهل ) الذي هو في الغالب ضد ( علم ) والذي يأتي في الاستعمال العربي المتواتر في معان عديدة أخرى لا تبعد عن معنى الجهل ومظاهره. مثل التطاول على الغير وارتكاب الموبقات والتسرع والرعونة وعدم التروي وعدم النضج والانفعال النفساني والعاطفي. ومن ذلك خطاب يوسف لإخوته المحكي في الآية [ ٨٩ ] من سورة يوسف :{ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُو
( ٦ ) لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم : لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى المكان الذي قدر عليهم أن يموتوا فيه، حينما يكون أجلهم قد أتى ولا يمنع ذلك أن يبقوا في بيوتهم.
( ٧ ) وليبتلي الله ما في صدوركم : ليختبر الله وليظهر ما في قلوبكم.
( ٨ ) وليمحص ما في قلوبكم : ليصفي ويطهّر ما في صدوركم.
في الآية خطاب موجه للمسلمين :
١ ـ حذروا به من استماع أقوال الكفار وإطاعتهم ؛ لأنهم إن فعلوا ذلك ردوهم عن إيمانهم فانقلبوا خاسرين.
٢ ـ وطمئنوا به بأن الله مولاهم وناصرهم دائما، وهو خير الناصرين وبأنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار بسبب إشراكهم مع الله شركاء ما أنزل بهم من سلطان، وبأنه أعد لهم في الآخرة مأوى بئس هو من مأوى للظالمين أمثالهم.
٣ ـ ودلل به لهم على ذلك بما كان من ظروف معركة أحد في أول أمرها : فقد صدقهم الله وعده بنصرهم فمكنهم من عدوهم وجعلهم يمنعون فيهم قتلا. وأراهم ما أحبوا من النصر. وإذا كان الموقف انقلب ضدهم، فلم يكن ذلك إلا بسبب تخاذلهم وقلة صبرهم وعصيانهم أمر الرسول وتنازعهم. وانقسامهم إلى فئتين واحدة منهما كان همها الدنيا، بينما كان هم الأخرى الآخرة. وقد كان نتيجة ذلك أن انهزموا مصعدين لا يلوون على شيء والرسول يهتف بهم من ورائهم ويدعوهم إلى الرجوع إليه.
٤ ـ وسكن به مع ذلك روعهم، فلقد كان ما كان من صرف النصر عنهم اختبارا من الله عز وجل، ومقابلة عاجلة على ما بدا منهم من تقصير وعصيان وفشل ونزاع، ولقد شملهم الله مع ذلك بعفوه وفضله، وهو ذو الفضل على المؤمنين حتى لقد كان من مظاهر ذلك أن ألقى الأمن والسكينة في قلوبهم فأخذهم النعاس وهو لا يغشى إلا الآمن المطمئن، وكل هذا حتى لا يحزنوا ولا يجزعوا على ما فاتهم من نصر ولا ما أصابهم من هزيمة.
٥ ـ وندد بفريق منهم أهمتهم أنفسهم همّا عظيما، ولم يذعنوا لقضاء الله ويسلموا لحكمه وحكمته فيما جرى مندفعين في ذلك وراء الظنون والخواطر الجاهلية التي تتناقض مع الإيمان بالله متسائلين عما إذا كان من الحق أن لا يقام لهم وزن، ولا يكون لهم رأي في الموقف كاتمين في صدورهم خواطر مريبة أخرى لا يجرؤون على إظهارها، قائلين إنهم لو كان لهم في الموقف رأي وفي الأمر والتدبير كلمة مسموعة لما قتل الذين قتلوا منهم، ولما كانت الهزيمة التي حلت بهم.
٦ ـ وتنبيه لهؤلاء خاصة بأن عليهم أن يعلموا أن الأمر كله لله، وأن الطاعة له وحده وأن موت من مات إنما كان بالأجل الذي ليس فيه تقدم ولا تأخر، وأن الناس لو ظلوا في بيوتهم ولم يخرجوا إلى المعركة لما كان من معدى عن خروج الذين قتلوا بأي حال وسبب حتى يموتوا في الأماكن التي قتلوا فيها، وأن الله عليم بكل ما يدور في صدورهم. وأنه قضى بما قضى ليختبر ما في هذه الصدور حتى يظهر ويعرف الناس بعضهم بعضا على حقائقهم وليطهر قلوب المؤمنين وينقيها.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِين ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ١٥٤ ]
وما فيها من مشاهد وقعة أحد
وقد روي المفسرون١ أن الآية [ ١٤٩ ] نزلت في المنافقين الذين قالوا للمؤمنين ارجعوا إلى إخوانكم أو ارجعوا إلى دينهم أو كفوا عن القتال. وأن الآية [ ١٥١ ] نزلت في قريش الذين توقفوا في الطريق، ولاموا أنفسهم على تركهم المسلمين دون أن يستأصلوهم مع أنهم لم يبق منهم إلا الشريد، ثم عزموا على الكرة فألقى الله الرعب في قلوبهم وجعلهم ينكصون عن عزيمتهم.
والمتبادر أن الآيات وحدة مترابطة وأنها استمرار للسياق السابق وقد نزلت جميعها مع جميع الآيات الأخرى بعد انتهاء المعركة.
وهذا لا ينفي أن يكون للرواية الأولى أصل ما وأن يكون بعض كفار قريش أو بعض منافقي المدينة أوعزوا إلى أقاربهم من المخلصين بالانقضاض من حول النبي، وقد ألم بهم ما ألم من هزيمة ومصيبة، فاحتوت الآية الأولى إشارة إلى ذلك وتحذيرا من الاستماع إلى الكفار وما في ذلك من خسران في معرض ما احتوته الآيات من تطمينات وتنبيهات. وكذلك يقال بالنسبة للرواية الثانية أيضا. ولقد روينا قبل أن قريشا ندموا على الرجوع قبل استئصال المسلمين وفكروا في الكرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك ندب المسلمين إلى الخروج للقائهم ووصل إلى مكان اسمه حمراء الأسد فوجد المشركين قد انصرفوا٢. وكان ذلك رعبا وخوفا حينما بلغهم أن النبي هو الذي سارع إليهم على رأس المسلمين رغم ما أصابهم بدلا من أن يخافوا من كرتهم.
ولقد احتوت الآيات بعض مشاهد المعركة وهي متوافقة إجمالا مع ما ذكرته الروايات ورويناه في السياق تفسير الآيات [ ١٣٧ ـ ١٤٢ ] وهو ليس بقصد السرد القصصي، وإنما بقصد العتاب والتأنيب للذين انهزموا وتذمروا وجزعوا وعصوا أمر رسول الله وتنازعوا وتخاذلوا بعد أن كان الله قد حقق لهم وعده ونصرهم في الجولة الأولى، ثم بقصد تحذيرهم من طاعة الكفار وتصديقهم.
ولقد أول المؤولون جملة ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ بمعنى أنهم ظنوا كظن المشركين أن الله لن ينصر رسوله خلافا لما وعده به من النصر ؛ لأن النبي في قلة والمشركين في كثرة. وهو في محله.
ولقد روى المفسرون في سياق جملة ﴿ ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾ حديثا عن أبي طلحة رواه البخاري والترمذي أيضا جاء فيه :" كنت ممن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه. وزاد الترمذي والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم. أجبن قوم وأرغبه وأخذله للحق " ٣. وحديثا آخر عن أبي طلحة رواه الترمذي جاء فيه :" رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قول الله ﴿ ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾٤.
ونحن نتوقف في التسليم بأن الطائفة الأخرى هم المنافقون على ما جاء في الزيادة التي يرويها الترمذي في الحديث الأول برغم أن جمهور المفسرين أخذوا بذلك، وتوقفنا هو استلهام من روح الآيات ومضمونها. ونرجح أنهم فئة من المخلصين الذين اشتدت عليهم المصيبة والجزع. وربما كانوا ممن استشهد أقاربهم في الوقعة. ويؤيد توقفنا وترجيحنا أن الروايات ذكرت أن المنافقين انسحبوا ولم يشهدوا المعركة على ما ذكرناه قبل، وقد أيدت هذا الآيات [ ١٦٧ و١٦٨ ] التي تأتي بعد قليل بقوة أكثر من الرواية لأنها حكت دعوة المنافقين إلى القتال وعدم تلبيتهم وقولهم لو نعلم قتالا لاتبعناكم. وهناك دليل آخر على كون هذه الفئة هي من غير المنافقين وهو منطو في الآيات [ ١٥٦ ـ ١٥٩ ] التي تأتي بعد قليل أيضا، ولعل الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها أي [ ١٤٩ ] التي فيها تحذير للمؤمنين من طاعة الكفار والاستماع إليهم تصح أن تكون دليلا آخر على ذلك أيضا. وفي جملة ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ أيضا قرينة أخرى. فلو كانوا منافقين لما عوتبوا على ظنهم بالله غير الحق لأن هذا من ديدنهم.
وواضح أن الآيات كسابقاتها بسبيل معالجة الحالة المريرة التي نتجت عن هزيمة أحد. وما أصاب المسلمين فيها من خسائر في الأرواح والجراحات بما فيها من تطمين وتنبيه وتأديب ثم من تحذير من المنافقين والكفار والغلو من اليأس أو الانحراف إلى ما لا يليق بالمؤمن المخلص تجاه الله عز وجل.
ومع خصوصيتها الزمنية، فإن فيها تلقينا مستمر المدى لكل مسلم في كل موقف مماثل وبخاصة في وجوب عدم الاستماع إلى وساوس الكفار والمنافقين الذين يغتنمون فرصة الظروف والحالات التي يكون المسلمون فيها أمام مواقف حرجة وأزمات خطرة فيتقدمون إليهم بأسلوب النصح الذي يكون كالسم في الدسم. وفيها في الوقت نفسه معالجة روحية وقوة نافذة من شأنها أن تمد المؤمن بالجرأة والصبر وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا في كل موقف مماثل.
ولقد استطرد بعض المفسرين إلى مسألة القدرة في مناسبة جملة ﴿ قل إنما الأمر كله لله ﴾ ولقد كتبنا تعليقا مسهبا على هذه المسألة في سورة القمر، فنكتفي بهذا التنبيه مع القول : إن الجملة هنا هي في صدد معالجة الموقف. والله تعالى أعلم.
تعليق على تعبير ﴿ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾
وهذا التعبير يرد هنا لأول مرة. ولقد ورد في آيات أخرى، منها ما جاء في مقام مماثل لما ورد فيه هنا وذلك في آية سورة الفتح [ ٢٦ ] :﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ ومنها ما جاء في معنى الحكم الذي لا يستند إلى حق وشرع وكتاب من الله وذلك في آية سورة المائدة هذه :﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ ومنها ما جاء في معنى الدور الذي سبق الإسلام وذلك في الآية [ ٣٣ ] من سورة الأحزاب :﴿ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾.
وأصل الكلمة اشتقاق من فعل ( جهل ) الذي هو في الغالب ضد ( علم ) والذي يأتي في الاستعمال العربي المتواتر في معان عديدة أخرى لا تبعد عن معنى الجهل ومظاهره. مثل التطاول على الغير وارتكاب الموبقات والتسرع والرعونة وعدم التروي وعدم النضج والانفعال النفساني والعاطفي. ومن ذلك خطاب يوسف لإخوته المحكي في الآية [ ٨٩ ] من سورة يوسف :{ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُو
في الآية تقرير بأن الذين انهزموا حينما التقى المسلمون والكفار إنما أوقعهم الشيطان في هذه الزلة بسبب ما اقترفوه من الخطايا. وبشرى بأن الله قد عفا عنهم مع ذلك، فإنه غفور للذنوب حليم متسامح مع عباده.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( ١٥٥ ) ﴾.
يتبادر لنا أن المؤمنين الذين فروا من المعركة قد خافوا مغبة ذلك، ولا سيما أن آيات الأنفال [ ١٥ ـ ١٦ ] قد نهتهم عن الفرار، وأنذرتهم إنذارا قاصما على ما شرحناه في سياقها. كما أن آية الأنفال [ ٤٥ ] قد أمرتهم بالصبر والثبات. ولقد علم الله إخلاصهم وما أصابهم من خسائر في الأرواح وجروح في الأجساد وحزن وجزع فاقتضت حكمته أن يغفر لهم زلتهم، وأن يبشرهم بهذه البشرى تهدئة لروعهم وتضميدا لجراحهم، وأن يكتفي بما وجه إليهم في الآيات من عتاب وتأنيب وتحذير وتنبيه، وفي ذلك ما فيه من معالجة ربانية جليلة للموقف العصيب وتأميل في عفو الله وحلمه وغفرانه في كل موقف مماثل إذا لم تشبه شائبة من سوء نية وخبث طوية.
ولقد قال المفسرون في صدد جملة ﴿ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ﴾ : إنها تعني عصيان رسول الله وحب الغنيمة وكراهية الموت، ولا يخلو هذا من وجاهة متصلة بظروف ما وقع يوم أحد.
( ٢ ) غزى : جمع غاز.
وفي هذه الآيات :
١ ـ تحذير للمؤمنين بأن لا يكونوا كالكفار الذين ينسون الله وقضاءه وحكمته ويقولون لمن يخرج غازيا أو سائحا أو تاجرا فيموت أو يقتل : إنه لو لم يخرج لما مات أو قتل.
٢ ـ وتقرير بأنه ليس من وراء مثل هذه الأقوال إلا الحسرة، وليست هي من الحق والحقيقة والإيمان في شيء. فالمحيي والمميت هو الله، ولكل نفس أجل معين لا تتقدم ولا تتأخر عنه.
٣ ـ وتنبيه للمؤمنين بأن من الواجب عليهم أن يعلموا بالإضافة إلى ما تقدم أن القتل والموت في سبيل الله ليسا مصيبة تستوجب الحسرة والجزع، وأن فيهما من مغفرة الله ورحمته ما يفوق كل ما يجمعه الجامعون من حطام الدنيا وأيامها. وأن مصير الناس إلى الله في كل حال ولا معدى عن ذلك سواء أماتوا موتا طبيعيا أم ماتوا قتلا.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أوْ كَانُوا غُزًّى... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها
والآيات كذلك استمرارا للآيات السابقة سياقا وموضوعا وهدفا، وجمهور المفسرين١ يقولون : ومنهم من يعزو القول إلى تابعين وتابعي تابعين أن المراد من جملة ﴿ الذين كفروا ﴾ هم المنافقون، ومنهم من يخص بالذكر كبيرهم عبد الله بن أبي. وفي آية تأتي بعد قليل نسب مثل هذا القول إلى المنافقين صراحة حيث يكون صرف الكلام إلى المنافقين هنا في محله. وفحوى الآية الأولى يدل على أن هذا القول مما كان يصدر من المنافقين قبل وقعة أحد وكلما مات أو قتل أحد من أقاربهم ومعارفهم في غزوة أو سفرة في سبيل الله وطاعته، إما على سبيل الشماتة أم على سبيل التعطيل والصد، ويدل كذلك على صحة ما قلناه قبل قليل من أن المتذمرين الذين حكت الآية [ ١٥٤ ] أقوالهم ومن جملتها ﴿ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾ هم من المؤمنين المخلصين، وقد وجه الكلام في هذه الآيات إليهم على سبيل التأنيب والعظة ومعالجة الحالة الروحية التي ألمت بهم نتيجة لآلام الوقعة ووسوسة المنافقين.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فهي كسابقتها مستمرة التلقين لكل مسلم في كل ظرف بوجوب عدم التشبه بالكفار والمنافقين والاندماج في دسائسهم والاستماع إلى وساوسهم المؤدية إلى الانحراف عن الإخلاص لله تعالى والجهاد والتضحية في سبيله. ومن شأنها أن تمد المؤمن المخلص بالصبر والرضا والتسليم لحكمة الله والجرأة والإقدام، وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا ومتاعها.
وفي هذه الآيات :
١ ـ تحذير للمؤمنين بأن لا يكونوا كالكفار الذين ينسون الله وقضاءه وحكمته ويقولون لمن يخرج غازيا أو سائحا أو تاجرا فيموت أو يقتل : إنه لو لم يخرج لما مات أو قتل.
٢ ـ وتقرير بأنه ليس من وراء مثل هذه الأقوال إلا الحسرة، وليست هي من الحق والحقيقة والإيمان في شيء. فالمحيي والمميت هو الله، ولكل نفس أجل معين لا تتقدم ولا تتأخر عنه.
٣ ـ وتنبيه للمؤمنين بأن من الواجب عليهم أن يعلموا بالإضافة إلى ما تقدم أن القتل والموت في سبيل الله ليسا مصيبة تستوجب الحسرة والجزع، وأن فيهما من مغفرة الله ورحمته ما يفوق كل ما يجمعه الجامعون من حطام الدنيا وأيامها. وأن مصير الناس إلى الله في كل حال ولا معدى عن ذلك سواء أماتوا موتا طبيعيا أم ماتوا قتلا.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أوْ كَانُوا غُزًّى... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها
والآيات كذلك استمرارا للآيات السابقة سياقا وموضوعا وهدفا، وجمهور المفسرين١ يقولون : ومنهم من يعزو القول إلى تابعين وتابعي تابعين أن المراد من جملة ﴿ الذين كفروا ﴾ هم المنافقون، ومنهم من يخص بالذكر كبيرهم عبد الله بن أبي. وفي آية تأتي بعد قليل نسب مثل هذا القول إلى المنافقين صراحة حيث يكون صرف الكلام إلى المنافقين هنا في محله. وفحوى الآية الأولى يدل على أن هذا القول مما كان يصدر من المنافقين قبل وقعة أحد وكلما مات أو قتل أحد من أقاربهم ومعارفهم في غزوة أو سفرة في سبيل الله وطاعته، إما على سبيل الشماتة أم على سبيل التعطيل والصد، ويدل كذلك على صحة ما قلناه قبل قليل من أن المتذمرين الذين حكت الآية [ ١٥٤ ] أقوالهم ومن جملتها ﴿ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾ هم من المؤمنين المخلصين، وقد وجه الكلام في هذه الآيات إليهم على سبيل التأنيب والعظة ومعالجة الحالة الروحية التي ألمت بهم نتيجة لآلام الوقعة ووسوسة المنافقين.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فهي كسابقتها مستمرة التلقين لكل مسلم في كل ظرف بوجوب عدم التشبه بالكفار والمنافقين والاندماج في دسائسهم والاستماع إلى وساوسهم المؤدية إلى الانحراف عن الإخلاص لله تعالى والجهاد والتضحية في سبيله. ومن شأنها أن تمد المؤمن المخلص بالصبر والرضا والتسليم لحكمة الله والجرأة والإقدام، وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا ومتاعها.
وفي هذه الآيات :
١ ـ تحذير للمؤمنين بأن لا يكونوا كالكفار الذين ينسون الله وقضاءه وحكمته ويقولون لمن يخرج غازيا أو سائحا أو تاجرا فيموت أو يقتل : إنه لو لم يخرج لما مات أو قتل.
٢ ـ وتقرير بأنه ليس من وراء مثل هذه الأقوال إلا الحسرة، وليست هي من الحق والحقيقة والإيمان في شيء. فالمحيي والمميت هو الله، ولكل نفس أجل معين لا تتقدم ولا تتأخر عنه.
٣ ـ وتنبيه للمؤمنين بأن من الواجب عليهم أن يعلموا بالإضافة إلى ما تقدم أن القتل والموت في سبيل الله ليسا مصيبة تستوجب الحسرة والجزع، وأن فيهما من مغفرة الله ورحمته ما يفوق كل ما يجمعه الجامعون من حطام الدنيا وأيامها. وأن مصير الناس إلى الله في كل حال ولا معدى عن ذلك سواء أماتوا موتا طبيعيا أم ماتوا قتلا.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أوْ كَانُوا غُزًّى... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها
والآيات كذلك استمرارا للآيات السابقة سياقا وموضوعا وهدفا، وجمهور المفسرين١ يقولون : ومنهم من يعزو القول إلى تابعين وتابعي تابعين أن المراد من جملة ﴿ الذين كفروا ﴾ هم المنافقون، ومنهم من يخص بالذكر كبيرهم عبد الله بن أبي. وفي آية تأتي بعد قليل نسب مثل هذا القول إلى المنافقين صراحة حيث يكون صرف الكلام إلى المنافقين هنا في محله. وفحوى الآية الأولى يدل على أن هذا القول مما كان يصدر من المنافقين قبل وقعة أحد وكلما مات أو قتل أحد من أقاربهم ومعارفهم في غزوة أو سفرة في سبيل الله وطاعته، إما على سبيل الشماتة أم على سبيل التعطيل والصد، ويدل كذلك على صحة ما قلناه قبل قليل من أن المتذمرين الذين حكت الآية [ ١٥٤ ] أقوالهم ومن جملتها ﴿ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾ هم من المؤمنين المخلصين، وقد وجه الكلام في هذه الآيات إليهم على سبيل التأنيب والعظة ومعالجة الحالة الروحية التي ألمت بهم نتيجة لآلام الوقعة ووسوسة المنافقين.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فهي كسابقتها مستمرة التلقين لكل مسلم في كل ظرف بوجوب عدم التشبه بالكفار والمنافقين والاندماج في دسائسهم والاستماع إلى وساوسهم المؤدية إلى الانحراف عن الإخلاص لله تعالى والجهاد والتضحية في سبيله. ومن شأنها أن تمد المؤمن المخلص بالصبر والرضا والتسليم لحكمة الله والجرأة والإقدام، وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا ومتاعها.
تعليق على الآية
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ... ﴾ الخ.
وأمر الشورى في الإسلام
الآية متصلة بالسياق ومعقبة على ما جاء في الآيات السابقة كما هو المتبادر. وعبارتها واضحة. وفيها وصف لموقف النبي صلى الله عليه وسلم مما بدا من بعض المخلصين من أقوال وتذمر ومرارة وحسرة. فقد وسعهم بحلمه الذي جبله الله عليه فكظم غيظه وعاملهم باللين والرقة. وقد احتوت تنويها بهذا الموقف الكريم وإقرارا له وبيانا لما كان يمكن أن ينتج في مثل هذا الظرف الذي ثارت فيه النفوس وغلت الأفكار وهاجت وغلبت عاطفة الحسرة والندم والتذمر لو كان فظا غليظ القلب ؛ حيث كان من الممكن أن ينفضوا من حوله، وأمرت بما هو أكثر من ذلك وهو العفو عنهم واستغفار الله لهم ومشاورتهم في الأمر.
وتتجلى في الفقرة الأولى صورة رائعة للخلق النبوي الكريم من لين وعدم فظاظة وقسوة قلب مما كان متحليا به من قبل وكان من دون ريب من أسباب اصطفاء الله له للرسالة العظمى و ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ سورة الأنعام [ ١٢٤ ] والذي انطوى في التقرير التنويهي في جملة ﴿ وإنك على خلق عظيم ﴾ سورة القلم [ ٤ ] مما علقنا عليه في سياق تفسير السورتين تعليقا يغني عن التكرار.
وينطوي في الآية علاج قوي محبب وشاف لثورة النفوس وهياج الأفكار وغلبة العواطف مما كان من آثار يوم أحد، ومما لا شك فيه أن هذا العلاج قد آتى نفعه فهدأ النفوس والأفكار وطمأنها بالنسبة للموقف الحاضر والمواقف المستقبلة معا.
والآية كما قلنا قبل تنطوي على دلالة على أن المتذمرين الذين قالوا ﴿ هل لنا من الأمر من شيء ﴾ و﴿ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾ على ما حكته الآية [ ١٥٤ ] كانوا من المخلصين وليسوا من المنافقين كما هو واضح من روحها ومضمونها وتلقينها.
ومع خصوصية الآية الموضوعية والزمنية فإن فيها تلقينا جليلا مستمر المدى، فالذي يختار لرئاسة المسلمين وكل زعيم وحاكم فيهم يجب أن يكونوا متصفين باللين والرقة. بعيدين عن الجفاء والغلظة والقسوة، مدركين لمقتضيات المواقف، واسعي الصدر والحلم إزاء استفزاز المستفزين عن جهل أو خبث طوية ولا سيما في الظروف الحرجة والأزمات العصيبة. وعليهم فوق ذلك أن لا يستبدوا بالرأي والعزائم، بل يشاوروا أهل العلم والرأي والمكانة والخبرة والعقول الراجحة قبل أن يضطلعوا بمسؤولية السير فيما يعتزمون أن يسيروا فيه، وأن لا يسيروا إلا بعد نضوج الرأي وتبين أصح الوجوه وأصلحها وأكثرها اتساقا مع الظروف القائمة ومصلحة المسلمين العامة. وكل مخالفة أو إهمال لأي من ذلك هو مخالفة وإهمال للتلقين الذي انطوى في الآية.
وروح الآيات ومضمونها يحددان أولا واجب كل من الرئيس أو الزعيم الحاكم أو المستشار. فللمستشار أن يبدي رأيه، وللرئيس والزعيم والحاكم أن يضطلعوا بمسؤولية اختبار أصح الآراء وأفضلها وبمسؤولية المبادرة والتنفيذ. ويوجبان ثانيا على الرئيس والزعيم والحاكم الاستشارة في كل أمر وعزيمة. ويوجبان ثالثا التوسع في الاستشارة، بحيث لا يهمل أي فريق من الجماعات التي يتألف منها المجتمع الإسلامي، ويلهمان رابعا إقرار حق الاعتراض لأصحاب الشأن والرأي والعلم إذا ما رأوا ما يوجب ذلك من خطط وعزائم. ويوجبان خامسا على أولياء الأمور توسيع صدورهم لذلك والنظر فيه بترو بقصد تبين الحق والمصلحة.
وفي كل هذا قواعد صريحة ورائعة للحكم في الإسلام كما هو واضح. وجملة ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ تفيد أن الحكم في الإسلام يشبه ما يسمى اليوم بالنظام الرأسي الذي يكون فيه رئيس الدولة صاحب السلطة التنفيذية الذي يجب عليه أن يستشير أصحاب الشأن والعلم من مختلف الفئات ثم يضطلع بمسؤولية اختيار أصح الآراء وأفضلها وبمسؤولية المبادرة والتنفيذ، ولقد تركت الآية أسلوب المشاورة بدون تعيين وتحديد. ويتبادر لنا من حكمة ذلك والله أعلم أن كون هذا الأمر مما لا يمكن تحديده ؛ لأن ظروف الاجتماع عرضة للتطور والتبديل فينبغي تركه للظروف والأحوال. وهذا هو أسلوب القرآن الذي جعل للشريعة الإسلامية صلاحية الخلود والإلهام في كل زمان ومكان.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن القرآن المكي قد نوه بالشورى وجعلها من خصائص المسلمين الصالحين، كما جاء في آية سورة الشورى هذه :﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( ٣٨ ) ﴾ فلما صار للإسلام سلطان نافذ في شخص النبي صلى الله عليه وسلم أكد القرآن هذا المبدأ بأسلوب الإيجاب والتنفيذ حين اقتضت حكمة التنزيل والمناسبة.
ولعل من الحق أن يقال : إن تشريع إيجاب استشارة أهل الرأي والمكانة والعلم من مختلف الجماعات على الرؤساء والزعماء والحكام بالأسلوب الذي جاء به في القرآن من خصائص ما انفردت به الشريعة الإسلامية ومن جملة مرشحاتها للخلود والعموم.
ولقد قال المفسرون١ عزوا إلى بعض التابعين وتابعي تابعين : إن المشاورة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها هي فيما ليس فيه نصوص قرآنية ووحي رباني وفيما ليس له علاقة بالمبادئ الدينية والشرعية الأساسية، وهذا قول وجيه واجب التسليم به من دون ريب، وإذا صح هذا في حق النبي فإنه يكون من باب أولى بالنسبة لمن يخلفه في رئاسة المسلمين، وهذا متسق مع القاعدة العامة التي تقول ( لا اجتهاد مع النص ). غير أنه يلاحظ أن كثيرا مما ورد في القرآن من تعاليم ومبادئ في شؤون السياسة والحكم والجهاد والمال والقضاء والاجتماع قد ورد على الأكثر كخطوط وأسس عامة. وقلما جاء محدود الأشكال والجزئيات. وقد ترك أسلوب تنظيمها وتنفيذها على ما هو المتبادر إلى ظروف المسلمين وأحوالهم مما بينا حكمته أكثر من مرة، فمن المعقول أن تكون هذه محلا للتشاور والاجتهاد ضمن الخطوط والحدود الأساسية القرآنية، ونضيف إلى هذا أن ما ورد في تحديده وتنظيمه سنة نبوية ثابتة وصريحة هو واجب الإتباع وليس محلا للاجتهاد. وقد أمر الله المسلمين بأن يأخذوا ما آتاهم الرسول وينتهوا عما نهاهم فيه في آيات سورة الحشر [ ٧ ]. كما أمرهم بإطاعة الرسول مثل إطاعتهم لله ورد الأمر إليه وإلى سنته بعد الله وقرآنه في آيات عديدة مثل :﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ النساء [ ٥٩ ].
ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس أن المقصود في جملة ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ أبو بكر وعمر، وهذا غريب مناقض لروح الآية وفحواها وسياقها وظروف نزولها على ما شرحناه قبل، بل إن ذلك ينطوي على مشاورة الذين تذمروا وقالوا ما لا ينبغي أن يقال، نتيجة لهيجان أفكارهم ومرارتهم وحسرتهم، وهذا يعني أن المشاورة يجب أن تكون مع ذوي الرأي والشأن والعلم والخبرة من مختلف طبقات الناس كما قلنا قبل.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا أخرجه ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال :" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم. فقال : مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم ". ولم يرد هذا الحديث في الصحاح، فإن صح ولا مانع من صحته فيكون الاتباع لما يكون عليه رأي أكثرهم واختيار الأصلح من الآراء والأخذ به، وجواب رسول الله يفيد أن الأخذ بالرأي الذي يتفق عليه أكثر المستشارين أمر واجب. ويتبادر لنا أن هذا منطو في صيغة الآية والله تعالى أعلم.
ولقد أورد المفسر المذكور حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمان بن غنيم قال :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر : لو اجتمعتما في مشورة لما خالفتكما ". والحديث لم يرد في الصحاح، فإذا صح ولا مانع من صحته فيكون فيه تلقين بوجوب الأخذ بآراء المخلصين الموثوقين من ذوي العقل والرأي. وهناك أحاديث وردت في الصحاح يمكن أن تؤيد معنى الحديث، منها حديث رواه الترمذي عن عبد الله بن حنطب قال :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال : هذان السمع والبصر " ٢. وحديث رواه الترمذي أيضا عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض. فأما وزيراي من أهل السماء فهما جبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر " ٣.
ولقد روى البغوي بسنده عن عائشة أنها قالت :" ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي هذا الحديث إن صح ولا مانع من صحته سير رسول الله في الخطة التي أمر الله رسوله بها، ولقد كان رسول الله يستشير أصحابه في كل أمر هام وفي كل موقف عام مما كثرت أمثلته في كتب التفسير في مناسبات عديدة، ومما كثرت أمثلته في روايات السيرة وأوردناه في مناسبات سابقة. ومن واجب المسلمين أن يكون لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة.
ولقد قال بعض المفسرين ورووا عن بعض أهل التأويل : إن الله أمر رسوله بمشاورة المسلمين لتعليم المسلمين ورؤسائهم ليستنوا بذلك وحسب ؛ لأنه لم يكن في حاجة إلى ذلك وهو يتلقى الوحي من الله أو ليعلم الناصح من الغاش منهم أو ليعلم مدى عقولهم وأفهامهم أو لتطيب قلوبهم ورفع شأنهم وجمعهم.
وما دام النص القرآني مطلق وصريح بأمر الله لرسوله بمشاورة المسلمين، فالذي يتبادر لنا أن الأولى أخذه على مفهومه دون التزيد بتعليلات لا قرينة عليها من كتاب وحديث، وليس من تعارض بين هذا وبين كون النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى وحي الله. فكل ما فيه وحي رباني لا يحتاج بطبيعة الحال إلى مشاورة. ولكن هناك كما قلنا آنفا شؤونا كثيرة لا يكون فيها وحي رباني، وهذه هي التي أمر الله رسوله بمشاورة المسلمين فيها، وهناك مأثورات كثيرة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستشير المسلمين في شؤون متنوعة من شؤون الحرب وغير الحرب ويعمل بما يشيرون، فإذا كان ذلك خلاف الأولى نزل القرآن بالتنبيه أو العتاب، وإذا كان حائزا لرضاء الله وموافقته نزل قرآن بذلك أو بقي الأمر سكوتا عنه وماضيا. وقد أوردنا أمثلة من ذلك في مناسبات سابقة بحيث يكون ذلك القول على إطلاقه في غير محله.
وهناك بعض الأحاديث في أدب الاستشارة والمشيرين يصح أن تساق في هذا المساق. منها حديث أورده ابن كثير وهو من مرويات أصحاب السنن أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" المستشار مؤتمن " ٤. وحديث أورده ابن كثير معزوا إلى ابن ماجة عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه ". وحديث ثالث أورده ابن كثير رواه أيضا أبو داود والحاكم عن أبي هريرة جاء فيه :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه. وزاد في رواية : ومن أشار على أخ
الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين منبه لهم إلى أن الله إذا ما نصرهم، فلن يغلبهم أحد وسائلا سؤال يتضمن النفي عمن يمكن أن ينصرهم إذا هو خذلهم. وداعيا للمؤمنين المخلصين إلى الاتكال عليه وحده، وليس هناك رواية خاصة فيها، والمتبادر أنها متصلة بالسياق واستمرار في التعقيب على الآيات السابقة. وفيها تثبيت للمسلمين ودعوة إلى التمسك بالله والإخلاص له بالاعتماد عليه وحده. ولعل فيها ردا على وساوس الكفار والمنافقين التي حاول هؤلاء أن يبثوها في نفوس المسلمين.
وقد انطوى فيها تلقين مستمر المدى يمد المؤمن بالقوة الروحية في كل ظرف وبخاصة في الأزمات المحرجة.
في الآية تنزيه لأي نبي أن يغل أي أن يخفي شيئا من غنائم الحرب التي توضع بين يديه، وإنذار للغالين فإنهم يأتون يوم القيامة بما غلوا مفضوحين مخزيين، فيوفيهم الله ما كسبوا دون نقص وظلم.
تعليق على الآية
﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( ١٦١ ) ﴾
لقد روى المفسرون في صدد هذه الآية روايات عديدة، وبعض هذه الروايات مروي بصيغ عديدة ومن طرق مختلفة، ومن هذه الروايات رواية رواها الترمذي وأبو داود أيضا بسند حسن عن ابن عباس جاء فيها :" افتقدت قطيفة حمراء يوم بدر فقال بعض الناس : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله الآية لتقرر أنه لا يمكن لنبي أن يغل ". ورواية مروية عن قتادة قال :" إن الآية نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة مركزهم للغنيمة وقالوا : نخشى أن يقول رسول الله من أخذ شيئا فهو له ولا يقسم كما قسم في بدر فقال لهم رسول الله : ظننتم أننا نغل ولا نقسم لكم فنزلت الآية ردا على ظنهم ". ورواية تذكر أن رسول الله بعث طلائع ثم الغنم لم يقسم للطلائع فأنزل الله الآية عتابا على ذلك. ورواية تذكر أن طائفة من الأقوياء ألحوا على رسول الله أن يختصهم بالغنائم، فأنزل الله الآية إيذانا بأن النبي لا يصح أن يفعل ذلك، ورواية تذكر أنها بسبيل نفي كتم النبي شيئا مما أنزله الله عليه.
وهناك قراءة لكلمة ( يغل ) بضم الياء وفتح الغين لتكون الجملة بمعنى أن النبي لا يصح أن يخون أصحابه أو يخفوا عنه شيئا.
وباستثناء الرواية التي يرويها الترمذي وأبو داود ليس شيء من الروايات واردا في الصحاح، وباستثناء رواية قتادة فليس شيء من الروايات متصلا بوقعة أحد التي يدور السياق عليها. ورواية الترمذي وأبي داود في صدد بدر التي نزلت فيها سورة الأنفال، ولسنا نرى لها محلا أو مناسبة هنا. والآية [ ١٥٣ ] تذكر ما كان من تنازع الرماة وعصيانهم لأمر رسول الله رغبة في حطام الدنيا فيكون احتمال صحة رواية قتادة هو الأقوى، وتكون الآية قد نزلت لتنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن ما ظنه الرماة، مع الترجيح أن الآية لم تنزل بمفردها وإنما نزلت مع السياق الذي نزل جميعه بعد الواقعة، وقد جاءت مطلقة لتنزيه كل نبي عن هذه النقيصة التي يجل مقام النبوة عنها.
وبالإضافة إلى ذلك فإن جملة ﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ َيَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ مطلقة المدى بحيث انطوى فيها إنذار ووعيد لكل من يقترف هذه الجريمة في كل وقت.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة فيها إنذار ووعيد للذين يغلون، ومما هو متساوق مع الآية. ومن هذه الأحاديث ما يتصل بالغلول من غنائم الحرب ومنها ما يتصل بالغلول من العمل الحكومي بصورة عامة، ومن هذه الأحاديث ما ورد في كتب الصحاح، ومنها ما ورد في كتب أئمة حديث آخرين، وهذه من باب ما ورد في كتب الصحاح. فمما ورد في غلول الغنائم الحربية حديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة قال :" خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلا الثياب والمتاع، فتوجه رسول الله نحو وادي القرى وقد أهدي له عبد أسود يسمى : مدعما، فبينما هو يحط رحل رسول الله أصابه سهم فقتله، فقال الناس : هنيئا له الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خبير من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا، فلما سمعوا ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي فقال : شراك أو شراكان من نار " ١. وحديث رواه البخاري عن عبد الله بن عمروا وقال :" كان على ثقل رسول الله رجل يقال له كركرة فمات فقال النبي هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها٢. ومما ورد في غلول العمال حديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي حميد قال :" استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأسد يقال له : ابن اللتبية على الصدقة. فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام رسول الله على المنبر فحمد الله، وأثنى عليه وقال : ما بال عامل أبعثه. فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا ؟. والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تعير، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال اللهم هل بلغت، مرتين " ٣.
وحديث رواه أبو داود والحاكم عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ". وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي حميد قال :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هدايا العمل غلول " ٤.
وواضح أن الأحاديث تنطوي على أن هذه الآية قد احتوت تلقينا مستمر المدى وإن نزلت في تنزيه مقام النبوة عن الغلول. وهو تلقين في وجوب رعاية كل إنسان ما يوكل إليه حفظه والتصرف فيه من الأموال العامة والأمانات بكل دقة وعدم إساءة استعماله وفي وجوب التزام كل عامل من عمال الدولة النزاهة والتجرد وتجنب التهمة والشبهة واستغلال عمله، وفي التشنيع على من يخالف ذلك بأي شكل من الأشكال. وفي ذلك من الروعة والجلال ما يغني عن الإطناب.
في الآيتين تساؤل ينطوي على النفي عما إذا كان يصح التسوية بين الذين يتبعون ما فيه رضوان الله وبين الذين يستحقون غضبه وسخطه بخبثهم وكفرهم. فهؤلاء مأواهم جهنم وبئس هي من مصير، والله بصير بما يعمله الناس جميعا. وإن عنده مقامات ومنازل لكل منهم وفق عمله.
وقد روى الطبرسي والخازن الآيتين نزلتا في المقايسة بين الذين استجابوا لدعوة النبي وخرجوا لمقابلة الغزاة، وبين المنافقين الذين لم يستجيبوا وقعدوا. وقال الطبري : إن الآيتين متصلتان بآية الغلول، وفيها إنذار لمن يغل وتنويه بالمستقيم الأمين، وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. ونحن نرى توجيه الطبري هو الأوجه ؛ لأنه الأقرب إلى ما في الآية السابقة لهما.
وفيهما على كل حال تنويه عام مستمر المدى بالذين يتوخون بأعمالهم رضاء الله ويلتزمون أوامره ونواهيه، وإنذار وتنديد عامان مستمرا المدى كذلك بالذين يفعلون ما يغضبه ويسخطه.
في الآيتين تساؤل ينطوي على النفي عما إذا كان يصح التسوية بين الذين يتبعون ما فيه رضوان الله وبين الذين يستحقون غضبه وسخطه بخبثهم وكفرهم. فهؤلاء مأواهم جهنم وبئس هي من مصير، والله بصير بما يعمله الناس جميعا. وإن عنده مقامات ومنازل لكل منهم وفق عمله.
وقد روى الطبرسي والخازن الآيتين نزلتا في المقايسة بين الذين استجابوا لدعوة النبي وخرجوا لمقابلة الغزاة، وبين المنافقين الذين لم يستجيبوا وقعدوا. وقال الطبري : إن الآيتين متصلتان بآية الغلول، وفيها إنذار لمن يغل وتنويه بالمستقيم الأمين، وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. ونحن نرى توجيه الطبري هو الأوجه ؛ لأنه الأقرب إلى ما في الآية السابقة لهما.
وفيهما على كل حال تنويه عام مستمر المدى بالذين يتوخون بأعمالهم رضاء الله ويلتزمون أوامره ونواهيه، وإنذار وتنديد عامان مستمرا المدى كذلك بالذين يفعلون ما يغضبه ويسخطه.
في الآية تقرير لنعمة الله وفضله على المؤمنين ببعثه إليهم رسولا منهم يبلغهم آياته ويطهر نفوسهم من الخبائث النفسية والفكرية والجاهلية ويعلمهم كتاب الله ويبصرهم بحكمته بعد أن كانوا قبله في ضلال شديد.
ولم نر المفسرين يذكرون شيئا كمناسبة للآية. والمتبادر أنها استمرار للسياق وفيها كذلك معنى التعقيب والتعليق على حوادث وقعة أحد، ولعل فيها تمهيد للآيات التالية أيضا.
ولقد انطوى في الآية تنويه بالرسالة المحمدية وأهدافها بأسلوب وجيز رائع.
ولقد وجه الخطاب فيها إلى العرب بصراحة مما انطوى في تعبير ﴿ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ وفي هذا توكيد لشأنية العرب في الرسالة الإسلامية وكونهم حملتها ؛ لأنهم أولا المخاطبين بها والمتلقين كتاب الله عن رسوله مباشرة والسامعين لتعليمه وحكمته. ولقد انطوت هذه المعاني في آيات سابقة أيضا ١. وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت توكيدها في هذا المقام بسبب ما ألم بالمسلمين من وقعة أحد لتهدأ نفوسهم وتسكن قلوبهم.
ولقد قرأ بعضهم ﴿ أَنْفُسِهِمْ ﴾ هنا و ﴿ أَنْفُسِكمْ ﴾ في آية سورة التوبة هذه ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٢٨ ) ﴾ بفتح الفاء من النفاسة أو النبل حيث يكون معنى الكلمة أن النبي من أنفس وأنبل أروماتهم. ومع أن هذا مما وردت فيه أحاديث صحيحة أوردناها في سياق تفسير آية النحل [ ١١٣ ] فإن الجمهور على قراءة الفاء بالضم كجمع للنفس. وقد يدعم صواب هذه القراءات آيات سورة البقرة [ ١٢٩ و ١٥١ ] والنحل [ ١١٣ ] والجمعة [ ٢ ] التي ورد فيها تعبيرات منهم ومنكم من مقام من أنفسكم وأنفسهم. كما يدعمها ما روي عن ابن عباس وأوردناه في سياق آية سورة النحل كتوضيح لذلك، وهذا الاستدراك ليس في مقام نفي ما وردت به الأحاديث من كون النبي خير البشر أسرة وعشيرة وقبيلة وبطنا مما ورد في تلك الأحاديث كما هو واضح.
( ٢ ) فادرأوا : فامنعوا.
تضمنت الآيات :
١ ـ حكاية لتساؤل بعض المسلمين تساؤل المتألم المستنكر عما وقع عليهم من المصيبة في يوم أحد.
٢ ـ وأمر للنبي بإجابتهم أولا بأن ما أصابهم في هذا اليوم هو نصف ما أصاب أعداءهم في يوم بدر فلا موجب لهذا الجزع الذي يظهرونه، وثانيا بأن ما كان إنما وقع بسبب تصرفهم. وينطوي في الجواب ـ استلهاما من جملة إن الله على كل شيء قدير ـ أن ما كان ليس هو خلافا من الله بوعده بالنصر ولا عجزا منه عن نصرهم فهو قدير على كل شيء، وثالثا بأن ما كان إنما كان كذلك بإذن الله حتى يمتاز المؤمنون من المنافقين ويظهر كل منهم على حقيقته.
٣ ـ وإشارة استطرادية إلى موقف المنافقين. فقد قيل لهم : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو اشتركوا في الدفاع عن بلدكم وأعراضكم وأموالكم فلم يلبوا وقالوا : إنا لا نتوقع قتالا ولو كنا متأكدين من ذلك لاتبعناكم.
٤ ـ وتفنيد لقولهم وأفعالهم : فهم إنما يقولون ذلك بأفواههم ويضمرون في قلوبهم خلافه مما يعلمه الله، وهو الأعلم بما يضمرون ولقد كانوا في هذا الموقف أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، ثم إنهم لم يكتفوا بالقعود عن القتال وخذل إخوانهم بل أخذوا بعد الوقعة يثيرون في نفوسهم المرارة ويظهرون فيهم الشماتة ؛ حيث أخذوا يقولون لهم لو أطعتمونا ولم تخرجوا مثلنا لما قتل منكم من قتل ولما أصابكم ما أصابكم..
٤ـ وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحديهم بدفع الموت عن أنفسهم إن كانوا صادقين فيما يقولون تحديا منطويا على التهكم والإلزام.
تعليق على الآية
﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٦٨ ]
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد نزول الآيات وإنما أعادوا بعض ما قالوه من وقائع وقعة أحد ومواقف المنافقين مما روينا تفصيله عليه قبل.
والمتبادر أنها استمرار للسياق، وقد احتوت شيئا من العتاب وكثيرا من التسكين والتطمين والتهوين وحملة على المنافقين. بالإضافة إلى بعض مشاهد الوقعة وموقف المنافقين فيها.
ومن الإعجاز القرآني أن تكون صورة المنافقين التي رسمتها الآيات كثير ما تتكرر وتظهر في ظروف النضال مع البغاة والظالمين وفي الأزمات الحرجة التي تواجهها الأمم والجماعات في سبيل الحق والعقيدة والكرامة، ومن الطبيعي أن يكون ما في الآيات من تشنيع وتقبيح لاحقين بأصحاب مثل هذه الصورة في كل ظرف، وأن يكون في الآيات من هذا الاعتبار تلقين جليل مستمر المدى.
وفيما حكته الآيات عن دعوة المنافقين إلى القتال في سبيل الله أو في سبيل الدفاع عن بلدهم وجوابهم وفي جملة ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا ﴾ كوصف لهم دليل قرآني على أنهم لم يخرجوا مع الخارجين إلى لقاء قريش عند جبل أحد كما روى المفسرون وكتاب السيرة ذلك وذكرناه قبل، والمتبادر أن كبير المنافقين لما أشار مع بعض أشياعه على النبي بالبقاء في المدينة وعدم الخروج، ثم عمل النبي بما أشار به أكثر المسلمين قال : أطاعهم وعصاني وأظهر السخط وقعد مع أشياعه.
ولقد روى ابن سعد رواية١ جاء فيها أن النبي بعد أن جاوز ثنية الوداع مع أصحابه في طريقهم إلى سفح أحد إذا هو بكتيبة خشناء فقال من هؤلاء ؟ قالوا هذا عبد الله بن أبي في ستمائة من مواليه من يهود بني قينقاع. فسأل ( أوقد أسلموا ؟ ) قالوا : لا يا رسول الله. فقال : قولوا لهم فليرجعوا فإننا لا نستعين على المشركين بالمشركين. والرواية لم ترد في الصحاح وهي غريبة من نواح عديدة، فإن بني قينقاع قد أجلوا عن المدينة قبل وقعة أحد بخمسة عشر شهرا، والآيات التي نحن في صددها تذكر أن النبي أو المسلمين طلبوا من المنافقين أن يخرجوا معهم فأبوا بحجة أنهم لا يتوقعون قتالا. ولقد روى ابن كثير عن مجاهد وجابر أن جملة ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾ هي في عبد الله بن أبي كبير المنافقين وأصحابه المنافقين. وهو في محله وتؤيده الآية التي سبقت هذه الجملة التي حكت أقوال المنافقين.
ولقد روى الطبري عن قتادة بسبيل توضيح جملة ﴿ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ في الآية [ ١٦٥ ] أنها عنت ما كان من عصيان الرماة لأمر النبي وتركهم أماكنهم من حيث إن ذلك أدى إلى الهزيمة وهو في محله. كذلك روي عن قتادة بسبيل توضيح جملة ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ﴾ أنها عنت ما كان من خسائر بدر وأحد من المشركين والمؤمنين ؛ حيث قتل المؤمنون في بدر من المشركين سبعين وأسروا سبعين وقتل منهم في أحد سبعون ولم يؤسر أحد منهم. ونص الآية قد يؤيد هذا التوضيح.
تضمنت الآيات :
١ ـ حكاية لتساؤل بعض المسلمين تساؤل المتألم المستنكر عما وقع عليهم من المصيبة في يوم أحد.
٢ ـ وأمر للنبي بإجابتهم أولا بأن ما أصابهم في هذا اليوم هو نصف ما أصاب أعداءهم في يوم بدر فلا موجب لهذا الجزع الذي يظهرونه، وثانيا بأن ما كان إنما وقع بسبب تصرفهم. وينطوي في الجواب ـ استلهاما من جملة إن الله على كل شيء قدير ـ أن ما كان ليس هو خلافا من الله بوعده بالنصر ولا عجزا منه عن نصرهم فهو قدير على كل شيء، وثالثا بأن ما كان إنما كان كذلك بإذن الله حتى يمتاز المؤمنون من المنافقين ويظهر كل منهم على حقيقته.
٣ ـ وإشارة استطرادية إلى موقف المنافقين. فقد قيل لهم : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو اشتركوا في الدفاع عن بلدكم وأعراضكم وأموالكم فلم يلبوا وقالوا : إنا لا نتوقع قتالا ولو كنا متأكدين من ذلك لاتبعناكم.
٤ ـ وتفنيد لقولهم وأفعالهم : فهم إنما يقولون ذلك بأفواههم ويضمرون في قلوبهم خلافه مما يعلمه الله، وهو الأعلم بما يضمرون ولقد كانوا في هذا الموقف أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، ثم إنهم لم يكتفوا بالقعود عن القتال وخذل إخوانهم بل أخذوا بعد الوقعة يثيرون في نفوسهم المرارة ويظهرون فيهم الشماتة ؛ حيث أخذوا يقولون لهم لو أطعتمونا ولم تخرجوا مثلنا لما قتل منكم من قتل ولما أصابكم ما أصابكم..
٤ـ وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحديهم بدفع الموت عن أنفسهم إن كانوا صادقين فيما يقولون تحديا منطويا على التهكم والإلزام.
تعليق على الآية
﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٦٨ ]
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد نزول الآيات وإنما أعادوا بعض ما قالوه من وقائع وقعة أحد ومواقف المنافقين مما روينا تفصيله عليه قبل.
والمتبادر أنها استمرار للسياق، وقد احتوت شيئا من العتاب وكثيرا من التسكين والتطمين والتهوين وحملة على المنافقين. بالإضافة إلى بعض مشاهد الوقعة وموقف المنافقين فيها.
ومن الإعجاز القرآني أن تكون صورة المنافقين التي رسمتها الآيات كثير ما تتكرر وتظهر في ظروف النضال مع البغاة والظالمين وفي الأزمات الحرجة التي تواجهها الأمم والجماعات في سبيل الحق والعقيدة والكرامة، ومن الطبيعي أن يكون ما في الآيات من تشنيع وتقبيح لاحقين بأصحاب مثل هذه الصورة في كل ظرف، وأن يكون في الآيات من هذا الاعتبار تلقين جليل مستمر المدى.
وفيما حكته الآيات عن دعوة المنافقين إلى القتال في سبيل الله أو في سبيل الدفاع عن بلدهم وجوابهم وفي جملة ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا ﴾ كوصف لهم دليل قرآني على أنهم لم يخرجوا مع الخارجين إلى لقاء قريش عند جبل أحد كما روى المفسرون وكتاب السيرة ذلك وذكرناه قبل، والمتبادر أن كبير المنافقين لما أشار مع بعض أشياعه على النبي بالبقاء في المدينة وعدم الخروج، ثم عمل النبي بما أشار به أكثر المسلمين قال : أطاعهم وعصاني وأظهر السخط وقعد مع أشياعه.
ولقد روى ابن سعد رواية١ جاء فيها أن النبي بعد أن جاوز ثنية الوداع مع أصحابه في طريقهم إلى سفح أحد إذا هو بكتيبة خشناء فقال من هؤلاء ؟ قالوا هذا عبد الله بن أبي في ستمائة من مواليه من يهود بني قينقاع. فسأل ( أوقد أسلموا ؟ ) قالوا : لا يا رسول الله. فقال : قولوا لهم فليرجعوا فإننا لا نستعين على المشركين بالمشركين. والرواية لم ترد في الصحاح وهي غريبة من نواح عديدة، فإن بني قينقاع قد أجلوا عن المدينة قبل وقعة أحد بخمسة عشر شهرا، والآيات التي نحن في صددها تذكر أن النبي أو المسلمين طلبوا من المنافقين أن يخرجوا معهم فأبوا بحجة أنهم لا يتوقعون قتالا. ولقد روى ابن كثير عن مجاهد وجابر أن جملة ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾ هي في عبد الله بن أبي كبير المنافقين وأصحابه المنافقين. وهو في محله وتؤيده الآية التي سبقت هذه الجملة التي حكت أقوال المنافقين.
ولقد روى الطبري عن قتادة بسبيل توضيح جملة ﴿ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ في الآية [ ١٦٥ ] أنها عنت ما كان من عصيان الرماة لأمر النبي وتركهم أماكنهم من حيث إن ذلك أدى إلى الهزيمة وهو في محله. كذلك روي عن قتادة بسبيل توضيح جملة ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ﴾ أنها عنت ما كان من خسائر بدر وأحد من المشركين والمؤمنين ؛ حيث قتل المؤمنون في بدر من المشركين سبعين وأسروا سبعين وقتل منهم في أحد سبعون ولم يؤسر أحد منهم. ونص الآية قد يؤيد هذا التوضيح.
تضمنت الآيات :
١ ـ حكاية لتساؤل بعض المسلمين تساؤل المتألم المستنكر عما وقع عليهم من المصيبة في يوم أحد.
٢ ـ وأمر للنبي بإجابتهم أولا بأن ما أصابهم في هذا اليوم هو نصف ما أصاب أعداءهم في يوم بدر فلا موجب لهذا الجزع الذي يظهرونه، وثانيا بأن ما كان إنما وقع بسبب تصرفهم. وينطوي في الجواب ـ استلهاما من جملة إن الله على كل شيء قدير ـ أن ما كان ليس هو خلافا من الله بوعده بالنصر ولا عجزا منه عن نصرهم فهو قدير على كل شيء، وثالثا بأن ما كان إنما كان كذلك بإذن الله حتى يمتاز المؤمنون من المنافقين ويظهر كل منهم على حقيقته.
٣ ـ وإشارة استطرادية إلى موقف المنافقين. فقد قيل لهم : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو اشتركوا في الدفاع عن بلدكم وأعراضكم وأموالكم فلم يلبوا وقالوا : إنا لا نتوقع قتالا ولو كنا متأكدين من ذلك لاتبعناكم.
٤ ـ وتفنيد لقولهم وأفعالهم : فهم إنما يقولون ذلك بأفواههم ويضمرون في قلوبهم خلافه مما يعلمه الله، وهو الأعلم بما يضمرون ولقد كانوا في هذا الموقف أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، ثم إنهم لم يكتفوا بالقعود عن القتال وخذل إخوانهم بل أخذوا بعد الوقعة يثيرون في نفوسهم المرارة ويظهرون فيهم الشماتة ؛ حيث أخذوا يقولون لهم لو أطعتمونا ولم تخرجوا مثلنا لما قتل منكم من قتل ولما أصابكم ما أصابكم..
٤ـ وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحديهم بدفع الموت عن أنفسهم إن كانوا صادقين فيما يقولون تحديا منطويا على التهكم والإلزام.
تعليق على الآية
﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٦٨ ]
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد نزول الآيات وإنما أعادوا بعض ما قالوه من وقائع وقعة أحد ومواقف المنافقين مما روينا تفصيله عليه قبل.
والمتبادر أنها استمرار للسياق، وقد احتوت شيئا من العتاب وكثيرا من التسكين والتطمين والتهوين وحملة على المنافقين. بالإضافة إلى بعض مشاهد الوقعة وموقف المنافقين فيها.
ومن الإعجاز القرآني أن تكون صورة المنافقين التي رسمتها الآيات كثير ما تتكرر وتظهر في ظروف النضال مع البغاة والظالمين وفي الأزمات الحرجة التي تواجهها الأمم والجماعات في سبيل الحق والعقيدة والكرامة، ومن الطبيعي أن يكون ما في الآيات من تشنيع وتقبيح لاحقين بأصحاب مثل هذه الصورة في كل ظرف، وأن يكون في الآيات من هذا الاعتبار تلقين جليل مستمر المدى.
وفيما حكته الآيات عن دعوة المنافقين إلى القتال في سبيل الله أو في سبيل الدفاع عن بلدهم وجوابهم وفي جملة ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا ﴾ كوصف لهم دليل قرآني على أنهم لم يخرجوا مع الخارجين إلى لقاء قريش عند جبل أحد كما روى المفسرون وكتاب السيرة ذلك وذكرناه قبل، والمتبادر أن كبير المنافقين لما أشار مع بعض أشياعه على النبي بالبقاء في المدينة وعدم الخروج، ثم عمل النبي بما أشار به أكثر المسلمين قال : أطاعهم وعصاني وأظهر السخط وقعد مع أشياعه.
ولقد روى ابن سعد رواية١ جاء فيها أن النبي بعد أن جاوز ثنية الوداع مع أصحابه في طريقهم إلى سفح أحد إذا هو بكتيبة خشناء فقال من هؤلاء ؟ قالوا هذا عبد الله بن أبي في ستمائة من مواليه من يهود بني قينقاع. فسأل ( أوقد أسلموا ؟ ) قالوا : لا يا رسول الله. فقال : قولوا لهم فليرجعوا فإننا لا نستعين على المشركين بالمشركين. والرواية لم ترد في الصحاح وهي غريبة من نواح عديدة، فإن بني قينقاع قد أجلوا عن المدينة قبل وقعة أحد بخمسة عشر شهرا، والآيات التي نحن في صددها تذكر أن النبي أو المسلمين طلبوا من المنافقين أن يخرجوا معهم فأبوا بحجة أنهم لا يتوقعون قتالا. ولقد روى ابن كثير عن مجاهد وجابر أن جملة ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾ هي في عبد الله بن أبي كبير المنافقين وأصحابه المنافقين. وهو في محله وتؤيده الآية التي سبقت هذه الجملة التي حكت أقوال المنافقين.
ولقد روى الطبري عن قتادة بسبيل توضيح جملة ﴿ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ في الآية [ ١٦٥ ] أنها عنت ما كان من عصيان الرماة لأمر النبي وتركهم أماكنهم من حيث إن ذلك أدى إلى الهزيمة وهو في محله. كذلك روي عن قتادة بسبيل توضيح جملة ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ﴾ أنها عنت ما كان من خسائر بدر وأحد من المشركين والمؤمنين ؛ حيث قتل المؤمنون في بدر من المشركين سبعين وأسروا سبعين وقتل منهم في أحد سبعون ولم يؤسر أحد منهم. ونص الآية قد يؤيد هذا التوضيح.
تضمنت الآيات :
١ ـ حكاية لتساؤل بعض المسلمين تساؤل المتألم المستنكر عما وقع عليهم من المصيبة في يوم أحد.
٢ ـ وأمر للنبي بإجابتهم أولا بأن ما أصابهم في هذا اليوم هو نصف ما أصاب أعداءهم في يوم بدر فلا موجب لهذا الجزع الذي يظهرونه، وثانيا بأن ما كان إنما وقع بسبب تصرفهم. وينطوي في الجواب ـ استلهاما من جملة إن الله على كل شيء قدير ـ أن ما كان ليس هو خلافا من الله بوعده بالنصر ولا عجزا منه عن نصرهم فهو قدير على كل شيء، وثالثا بأن ما كان إنما كان كذلك بإذن الله حتى يمتاز المؤمنون من المنافقين ويظهر كل منهم على حقيقته.
٣ ـ وإشارة استطرادية إلى موقف المنافقين. فقد قيل لهم : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو اشتركوا في الدفاع عن بلدكم وأعراضكم وأموالكم فلم يلبوا وقالوا : إنا لا نتوقع قتالا ولو كنا متأكدين من ذلك لاتبعناكم.
٤ ـ وتفنيد لقولهم وأفعالهم : فهم إنما يقولون ذلك بأفواههم ويضمرون في قلوبهم خلافه مما يعلمه الله، وهو الأعلم بما يضمرون ولقد كانوا في هذا الموقف أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، ثم إنهم لم يكتفوا بالقعود عن القتال وخذل إخوانهم بل أخذوا بعد الوقعة يثيرون في نفوسهم المرارة ويظهرون فيهم الشماتة ؛ حيث أخذوا يقولون لهم لو أطعتمونا ولم تخرجوا مثلنا لما قتل منكم من قتل ولما أصابكم ما أصابكم..
٤ـ وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحديهم بدفع الموت عن أنفسهم إن كانوا صادقين فيما يقولون تحديا منطويا على التهكم والإلزام.
تعليق على الآية
﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٦٨ ]
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد نزول الآيات وإنما أعادوا بعض ما قالوه من وقائع وقعة أحد ومواقف المنافقين مما روينا تفصيله عليه قبل.
والمتبادر أنها استمرار للسياق، وقد احتوت شيئا من العتاب وكثيرا من التسكين والتطمين والتهوين وحملة على المنافقين. بالإضافة إلى بعض مشاهد الوقعة وموقف المنافقين فيها.
ومن الإعجاز القرآني أن تكون صورة المنافقين التي رسمتها الآيات كثير ما تتكرر وتظهر في ظروف النضال مع البغاة والظالمين وفي الأزمات الحرجة التي تواجهها الأمم والجماعات في سبيل الحق والعقيدة والكرامة، ومن الطبيعي أن يكون ما في الآيات من تشنيع وتقبيح لاحقين بأصحاب مثل هذه الصورة في كل ظرف، وأن يكون في الآيات من هذا الاعتبار تلقين جليل مستمر المدى.
وفيما حكته الآيات عن دعوة المنافقين إلى القتال في سبيل الله أو في سبيل الدفاع عن بلدهم وجوابهم وفي جملة ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا ﴾ كوصف لهم دليل قرآني على أنهم لم يخرجوا مع الخارجين إلى لقاء قريش عند جبل أحد كما روى المفسرون وكتاب السيرة ذلك وذكرناه قبل، والمتبادر أن كبير المنافقين لما أشار مع بعض أشياعه على النبي بالبقاء في المدينة وعدم الخروج، ثم عمل النبي بما أشار به أكثر المسلمين قال : أطاعهم وعصاني وأظهر السخط وقعد مع أشياعه.
ولقد روى ابن سعد رواية١ جاء فيها أن النبي بعد أن جاوز ثنية الوداع مع أصحابه في طريقهم إلى سفح أحد إذا هو بكتيبة خشناء فقال من هؤلاء ؟ قالوا هذا عبد الله بن أبي في ستمائة من مواليه من يهود بني قينقاع. فسأل ( أوقد أسلموا ؟ ) قالوا : لا يا رسول الله. فقال : قولوا لهم فليرجعوا فإننا لا نستعين على المشركين بالمشركين. والرواية لم ترد في الصحاح وهي غريبة من نواح عديدة، فإن بني قينقاع قد أجلوا عن المدينة قبل وقعة أحد بخمسة عشر شهرا، والآيات التي نحن في صددها تذكر أن النبي أو المسلمين طلبوا من المنافقين أن يخرجوا معهم فأبوا بحجة أنهم لا يتوقعون قتالا. ولقد روى ابن كثير عن مجاهد وجابر أن جملة ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾ هي في عبد الله بن أبي كبير المنافقين وأصحابه المنافقين. وهو في محله وتؤيده الآية التي سبقت هذه الجملة التي حكت أقوال المنافقين.
ولقد روى الطبري عن قتادة بسبيل توضيح جملة ﴿ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ في الآية [ ١٦٥ ] أنها عنت ما كان من عصيان الرماة لأمر النبي وتركهم أماكنهم من حيث إن ذلك أدى إلى الهزيمة وهو في محله. كذلك روي عن قتادة بسبيل توضيح جملة ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ﴾ أنها عنت ما كان من خسائر بدر وأحد من المشركين والمؤمنين ؛ حيث قتل المؤمنون في بدر من المشركين سبعين وأسروا سبعين وقتل منهم في أحد سبعون ولم يؤسر أحد منهم. ونص الآية قد يؤيد هذا التوضيح.
وفي هاتين الآيتين :
١ ـ نهي فيه معنى التطمين والبشرى عن أن يظن السامعون أن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.
٢ ـ وتوكيد في مقام الجواب بأنهم أحياء لهم عند ربهم التكريم، والرزق الحسن، وهم فرحون مغتبطون مستبشرون بما نالوه من نعمة الله وفضله ولما تيقنوه من صدق وعده لهم، وفرحون مستبشرون بالنسبة لإخوانهم الذين خلفوهم من ورائهم أحياء، من حيث إنهم لن يلقوا عند الله ما يخيفهم ولا يحزنهم ما داموا تركوهم على المنهج الحق والاستشهاد في سبيل الله، ومن حيث إن الله لن يضيع أجر المؤمنين المخلصين.
تعليق على الآية
﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( ١٦٩ ) ﴾
والآية التي بعدها.
وقد تعددت الروايات التي رواها المفسرون في مناسبة الآيات١. منها أنها نزلت في حق شهداء بدر. ومنها أنها في حق شهداء أحد. ومنها أنها في حق شهداء بدر وأحد. ومنها أنها في حق شهداء بئر معونة، الذين كان من قصتهم على ما رواه المفسرون وكتاب السيرة٢ أن أحد زعماء بني عامر الموصوف بملاعب الأسنة قدم على النبي فعرض عليه الإسلام فلم يبعد، وطلب منه أن يبعث معه نفرا إلى قومه لعلهم يجيبون فقال له : إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال : أنا جار لهم فبعث معه سبعين رجلا من قراء الأنصار الشباب وكان معهم كتاب إلى عامر بن الطفيل زعيم بني عامر فأرسلوه إليه حينما وصلوا إلى بئر معونة فقتل الرسول، ثم استصرخ قومه وغيرهم وأحاطوا بالمسلمين فقتلوهم جميعا، عدا واحد منهم نجا من القتل ؛ لأن زعيما منهم كان نذر أن يعتق رقبة فعتقه بعد أن جز ناصيته، وكان وقع الحادث أليما شديدا على النبي والمسلمين.
ويتبادر لنا من نظم الآيتين أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما التي حكت أقوال المنافقين وتحدتهم ؛ حيث احتوتا تطمينا للمؤمنين الأحياء وبهتا للمنافقين وإحباطا لدسهم وتحريضهم. وعبارة الآيتين مطلقة شاملة بحيث تشمل البشرى التي انطوت فيهما شهداء أحد وغيرهم وإن كانت صلتها بشهداء أحد أوكد ؛ لأن وقعة أحد هي موضوع السياق.
ومثل هذا التنويه والتسكين قد ورد في آيات سورة البقرة [ ١٥٥ ـ ١٥٧ ] في سياق الإشارة إلى بعض حوادث الجهاد الأولى وشهدائها على ما شرحناه في مناسبتها. غير أن في التعبير هنا بعض الزيادات التنويهية والتطمينية كما أن فيها تنويها بالمخلصين الأحياء حيث اقتضت ذلك حكمة التنزيل بسبب ما ألم بالمسلمين من حزن ومرارة في وقعة أحد.
ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات كتفسير وتوضيح. منها حديث روي عن ابن عباس٣ :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إن الله لما أصيب إخوانكم بأحد جعل أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة لئلا يزهدوا في الجنة ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الآية ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( ١٦٩ ) ﴾ وهناك رواية بهذا الحديث فيها زيادة جاء فيها :" أن الله قال لهم : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى " ٤. ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد جاء فيه :( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى بما يرى من فضل الشهادة ) ومنها حديث عن جابر جاء فيه :" لما قتل أبي يوم أحد جعلت أبكي فقال لي رسول الله : لا تبكه، ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفع " ٥. ولقد تطرق بعض المفسرين من هذا إلى التساؤل عما إذا كانت الجنة مخلوقة الآن استنادا إلى الحديث وعما إذا كانت حياة الشهداء روحانية أو جسمانية. ومنهم من اتخذ الآية والحديث دليلا ضد المعتزلة الذين لا يسلمون بأن الجنة مخلوقة الآن٦.
وعلى كل حال فواجب المؤمن أن يؤمن بما جاء في الآيات والأحاديث النبوية المفسرة أو المتسقة معها مع الملاحظة أن ذلك من الأمور الغيبية التي يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن أو المأثور الثابت من أحاديث النبي مع استشفاف ما لا بد أن يكون في عبارتها من حكمة دنيوية أيضا. ويتبادر لنا من ذلك قصد تبشير الأحياء من المسلمين وتطمينهم بالنسبة لشهدائهم الأعزاء وبالنسبة لأنفسهم. وحثهم على الثبات على دين الله والجهاد في سبيله الذي يضمن لهم التكريم الرباني العظيم.
وإطلاق العبارة في الآيتين يسوغ القول : إن فيها علاجا روحيا قويا مستمر المدى في صدد الحث على الجهاد مهما كانت النتيجة. يستمد منه المؤمن المخلص في كل وقت إيمانا وثباتا وجرأة وإقداما. فما دام الموت أمرا محتما على كل امرئ وما دام أنه لا يكون إلا في الأجل المعين عند الله وما دام للشهيد هذه الحياة الكريمة عند الله فضلا عما له عند الناس من كرامة وحسن ذكر فليس من موجب للخوف من الجهاد، ولا للجزع من نتائجه مهما كانت.
وفي هاتين الآيتين :
١ ـ نهي فيه معنى التطمين والبشرى عن أن يظن السامعون أن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.
٢ ـ وتوكيد في مقام الجواب بأنهم أحياء لهم عند ربهم التكريم، والرزق الحسن، وهم فرحون مغتبطون مستبشرون بما نالوه من نعمة الله وفضله ولما تيقنوه من صدق وعده لهم، وفرحون مستبشرون بالنسبة لإخوانهم الذين خلفوهم من ورائهم أحياء، من حيث إنهم لن يلقوا عند الله ما يخيفهم ولا يحزنهم ما داموا تركوهم على المنهج الحق والاستشهاد في سبيل الله، ومن حيث إن الله لن يضيع أجر المؤمنين المخلصين.
تعليق على الآية
﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( ١٦٩ ) ﴾
والآية التي بعدها.
وقد تعددت الروايات التي رواها المفسرون في مناسبة الآيات١. منها أنها نزلت في حق شهداء بدر. ومنها أنها في حق شهداء أحد. ومنها أنها في حق شهداء بدر وأحد. ومنها أنها في حق شهداء بئر معونة، الذين كان من قصتهم على ما رواه المفسرون وكتاب السيرة٢ أن أحد زعماء بني عامر الموصوف بملاعب الأسنة قدم على النبي فعرض عليه الإسلام فلم يبعد، وطلب منه أن يبعث معه نفرا إلى قومه لعلهم يجيبون فقال له : إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال : أنا جار لهم فبعث معه سبعين رجلا من قراء الأنصار الشباب وكان معهم كتاب إلى عامر بن الطفيل زعيم بني عامر فأرسلوه إليه حينما وصلوا إلى بئر معونة فقتل الرسول، ثم استصرخ قومه وغيرهم وأحاطوا بالمسلمين فقتلوهم جميعا، عدا واحد منهم نجا من القتل ؛ لأن زعيما منهم كان نذر أن يعتق رقبة فعتقه بعد أن جز ناصيته، وكان وقع الحادث أليما شديدا على النبي والمسلمين.
ويتبادر لنا من نظم الآيتين أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما التي حكت أقوال المنافقين وتحدتهم ؛ حيث احتوتا تطمينا للمؤمنين الأحياء وبهتا للمنافقين وإحباطا لدسهم وتحريضهم. وعبارة الآيتين مطلقة شاملة بحيث تشمل البشرى التي انطوت فيهما شهداء أحد وغيرهم وإن كانت صلتها بشهداء أحد أوكد ؛ لأن وقعة أحد هي موضوع السياق.
ومثل هذا التنويه والتسكين قد ورد في آيات سورة البقرة [ ١٥٥ ـ ١٥٧ ] في سياق الإشارة إلى بعض حوادث الجهاد الأولى وشهدائها على ما شرحناه في مناسبتها. غير أن في التعبير هنا بعض الزيادات التنويهية والتطمينية كما أن فيها تنويها بالمخلصين الأحياء حيث اقتضت ذلك حكمة التنزيل بسبب ما ألم بالمسلمين من حزن ومرارة في وقعة أحد.
ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات كتفسير وتوضيح. منها حديث روي عن ابن عباس٣ :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إن الله لما أصيب إخوانكم بأحد جعل أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة لئلا يزهدوا في الجنة ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الآية ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( ١٦٩ ) ﴾ وهناك رواية بهذا الحديث فيها زيادة جاء فيها :" أن الله قال لهم : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى " ٤. ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد جاء فيه :( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى بما يرى من فضل الشهادة ) ومنها حديث عن جابر جاء فيه :" لما قتل أبي يوم أحد جعلت أبكي فقال لي رسول الله : لا تبكه، ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفع " ٥. ولقد تطرق بعض المفسرين من هذا إلى التساؤل عما إذا كانت الجنة مخلوقة الآن استنادا إلى الحديث وعما إذا كانت حياة الشهداء روحانية أو جسمانية. ومنهم من اتخذ الآية والحديث دليلا ضد المعتزلة الذين لا يسلمون بأن الجنة مخلوقة الآن٦.
وعلى كل حال فواجب المؤمن أن يؤمن بما جاء في الآيات والأحاديث النبوية المفسرة أو المتسقة معها مع الملاحظة أن ذلك من الأمور الغيبية التي يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن أو المأثور الثابت من أحاديث النبي مع استشفاف ما لا بد أن يكون في عبارتها من حكمة دنيوية أيضا. ويتبادر لنا من ذلك قصد تبشير الأحياء من المسلمين وتطمينهم بالنسبة لشهدائهم الأعزاء وبالنسبة لأنفسهم. وحثهم على الثبات على دين الله والجهاد في سبيله الذي يضمن لهم التكريم الرباني العظيم.
وإطلاق العبارة في الآيتين يسوغ القول : إن فيها علاجا روحيا قويا مستمر المدى في صدد الحث على الجهاد مهما كانت النتيجة. يستمد منه المؤمن المخلص في كل وقت إيمانا وثباتا وجرأة وإقداما. فما دام الموت أمرا محتما على كل امرئ وما دام أنه لا يكون إلا في الأجل المعين عند الله وما دام للشهيد هذه الحياة الكريمة عند الله فضلا عما له عند الناس من كرامة وحسن ذكر فليس من موجب للخوف من الجهاد، ولا للجزع من نتائجه مهما كانت.
وفي هاتين الآيتين :
١ ـ نهي فيه معنى التطمين والبشرى عن أن يظن السامعون أن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.
٢ ـ وتوكيد في مقام الجواب بأنهم أحياء لهم عند ربهم التكريم، والرزق الحسن، وهم فرحون مغتبطون مستبشرون بما نالوه من نعمة الله وفضله ولما تيقنوه من صدق وعده لهم، وفرحون مستبشرون بالنسبة لإخوانهم الذين خلفوهم من ورائهم أحياء، من حيث إنهم لن يلقوا عند الله ما يخيفهم ولا يحزنهم ما داموا تركوهم على المنهج الحق والاستشهاد في سبيل الله، ومن حيث إن الله لن يضيع أجر المؤمنين المخلصين.
تعليق على الآية
﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( ١٦٩ ) ﴾
والآية التي بعدها.
وقد تعددت الروايات التي رواها المفسرون في مناسبة الآيات١. منها أنها نزلت في حق شهداء بدر. ومنها أنها في حق شهداء أحد. ومنها أنها في حق شهداء بدر وأحد. ومنها أنها في حق شهداء بئر معونة، الذين كان من قصتهم على ما رواه المفسرون وكتاب السيرة٢ أن أحد زعماء بني عامر الموصوف بملاعب الأسنة قدم على النبي فعرض عليه الإسلام فلم يبعد، وطلب منه أن يبعث معه نفرا إلى قومه لعلهم يجيبون فقال له : إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال : أنا جار لهم فبعث معه سبعين رجلا من قراء الأنصار الشباب وكان معهم كتاب إلى عامر بن الطفيل زعيم بني عامر فأرسلوه إليه حينما وصلوا إلى بئر معونة فقتل الرسول، ثم استصرخ قومه وغيرهم وأحاطوا بالمسلمين فقتلوهم جميعا، عدا واحد منهم نجا من القتل ؛ لأن زعيما منهم كان نذر أن يعتق رقبة فعتقه بعد أن جز ناصيته، وكان وقع الحادث أليما شديدا على النبي والمسلمين.
ويتبادر لنا من نظم الآيتين أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما التي حكت أقوال المنافقين وتحدتهم ؛ حيث احتوتا تطمينا للمؤمنين الأحياء وبهتا للمنافقين وإحباطا لدسهم وتحريضهم. وعبارة الآيتين مطلقة شاملة بحيث تشمل البشرى التي انطوت فيهما شهداء أحد وغيرهم وإن كانت صلتها بشهداء أحد أوكد ؛ لأن وقعة أحد هي موضوع السياق.
ومثل هذا التنويه والتسكين قد ورد في آيات سورة البقرة [ ١٥٥ ـ ١٥٧ ] في سياق الإشارة إلى بعض حوادث الجهاد الأولى وشهدائها على ما شرحناه في مناسبتها. غير أن في التعبير هنا بعض الزيادات التنويهية والتطمينية كما أن فيها تنويها بالمخلصين الأحياء حيث اقتضت ذلك حكمة التنزيل بسبب ما ألم بالمسلمين من حزن ومرارة في وقعة أحد.
ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات كتفسير وتوضيح. منها حديث روي عن ابن عباس٣ :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إن الله لما أصيب إخوانكم بأحد جعل أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة لئلا يزهدوا في الجنة ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الآية ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( ١٦٩ ) ﴾ وهناك رواية بهذا الحديث فيها زيادة جاء فيها :" أن الله قال لهم : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى " ٤. ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد جاء فيه :( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى بما يرى من فضل الشهادة ) ومنها حديث عن جابر جاء فيه :" لما قتل أبي يوم أحد جعلت أبكي فقال لي رسول الله : لا تبكه، ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفع " ٥. ولقد تطرق بعض المفسرين من هذا إلى التساؤل عما إذا كانت الجنة مخلوقة الآن استنادا إلى الحديث وعما إذا كانت حياة الشهداء روحانية أو جسمانية. ومنهم من اتخذ الآية والحديث دليلا ضد المعتزلة الذين لا يسلمون بأن الجنة مخلوقة الآن٦.
وعلى كل حال فواجب المؤمن أن يؤمن بما جاء في الآيات والأحاديث النبوية المفسرة أو المتسقة معها مع الملاحظة أن ذلك من الأمور الغيبية التي يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن أو المأثور الثابت من أحاديث النبي مع استشفاف ما لا بد أن يكون في عبارتها من حكمة دنيوية أيضا. ويتبادر لنا من ذلك قصد تبشير الأحياء من المسلمين وتطمينهم بالنسبة لشهدائهم الأعزاء وبالنسبة لأنفسهم. وحثهم على الثبات على دين الله والجهاد في سبيله الذي يضمن لهم التكريم الرباني العظيم.
وإطلاق العبارة في الآيتين يسوغ القول : إن فيها علاجا روحيا قويا مستمر المدى في صدد الحث على الجهاد مهما كانت النتيجة. يستمد منه المؤمن المخلص في كل وقت إيمانا وثباتا وجرأة وإقداما. فما دام الموت أمرا محتما على كل امرئ وما دام أنه لا يكون إلا في الأجل المعين عند الله وما دام للشهيد هذه الحياة الكريمة عند الله فضلا عما له عند الناس من كرامة وحسن ذكر فليس من موجب للخوف من الجهاد، ولا للجزع من نتائجه مهما كانت.
في هذه الآيات : تنويه بالذين استجابوا إلى الله ورسوله رغم ما نالهم من جراح وتعب، ولم يبالوا بما قاله لهم الناس من أن الأعداء قد جمعوا لهم، بل زادهم إيمانا بالله وتمسكا به واعتمادا عليه وهتفوا قائلين حسبنا الله ونعم الوكيل. ولقد عادوا دون أن يمسهم سوء بفضل الله ونعمته وبركة ما كان منهم من صبر وجرأة وإيمان واعتماد على الله. وقد نالوا فوق ذلك رضوان الله ذي الفضل العظيم. وإن للذين أحسنوا من المسلمين واتقوا الأجر العظيم عند الله.
تعليق على الآية
﴿ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ١٧٢ ) ﴾
والآيتين اللتين بعدها
وقد روى المفسرون روايتين١ في صدد نزول الآيات : أولاهما ما أوردناه قبل من تفكير قريش في الكرة بقصد استئصال المسلمين، وببلوغ الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم ومسارعته للخروج على رأس فريق من أصحابه وبلوغهم حمراء الأسد ؛ حيث وجدوا قريشا قد انصرفوا.
وثانيتهما : أن أبا سفيان قائد قريش هتف متواعدا مع النبي والمسلمين ليوم آخر يلتقون فيه في بدر في السنة المقبلة، وأجابه المسلمون بأمر النبي بالموافقة وهذا مما اعتاده العرب في حروبهم فلما جاء الموعد خرج النبي على رأس فريق من أصحابه حتى بلغ بدرا فلم يجدوا قريشا وشهدوا سوق بدر وكان لهم فيها ربح تجاري عظيم وعادوا ولم يلقوا كيدا أو سوءا. وابن سعد يذكر وقوع الغزوتين وأسبابهما التي ذكرها المفسرون٢.
وروح الآيات وفحواها يلهمان أنها في صدد مشهد جهادي فور وقعة أحد وما زالت مرارة الوقعة وجراحها شديدة الأثر في المسلمين. وهذا مما يتوافق مع الرواية الأولى ومع الآيات أكثر وإن كان هذا لا يمنع أن تكون قريش قد هتفوا بموعد بدر للسنة القابلة حينما انصرفوا من أحد ثم فكروا في الكرة.
والمتبادر أن الآيات لم تنزل لحدتها، وليست منفصلة عن سابقاتها. وكلمة ﴿ الذين ﴾ متصلة نظما بكلمة ﴿ المؤمنين ﴾ التي كانت خاتمة الآيات السابقة وأن السلسلة كلها نزلت دفعة واحدة عقب أحداث وقعة أحد ومشاهدها. وكل ما هناك أن هذه الآيات احتوت التنويه باستجابة المؤمنين لدعوة النبي وخروجهم معه رغم ما أصابهم من قرح. وهو ما جعل الرواة يروون أنها نزلت في ذلك.
والآيات تحتوي صورة رائعة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته والجهاد في سبيلها وعمق إيمان العصبة المخلصة التي كانت حوله في الله وشدة اعتمادها عليه وصبرها وتفانيها وقوة روحها واستغراقها في تأييد النبي وطاعته وعدم مبالاته بما كان ينالها من بلاء وأذى في سبيل الله وإعلاء كلمته. وبخاصة في الحالة التي نزلت فيها ؛ حيث استجابوا وخرجوا إلى عدو يزيد عدده عليهم أضعافا كثيرة ويفوقهم في الوسائل وقد انتصر عليهم ونالهم منه أذى شديد، وكانت جراحهم دامية وأجسادهم متعبة بما فيهم رسول الله الذي كان مجروحا في وجهه مشجوجا في جبهته مكسورة رباعيته مكلومة شفته السفلى متوهنا منكبه الأيمن من ضربة أصابته وركبتاه مشجوجتان٣. ويزيد في روعة الصورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب على ما روته الروايات إلا الذين شهدوا معركة أحد وقاتلوا فيها ولم ينهزموا. وقد روي أن عددهم كانوا سبعين٤. ومما رواه المفسرون٥ من روائع هذه الصورة أن رجلين من الأنصار كانا جريحين فلما أذن مؤذن النبي بالخروج قالا لبعضهما أتفوتنا غزوة مع رسول الله ولم يكن لهما دابة يركبانها فخرجا مع ذلك. وكان أحدهما أشد جراحا من الآخر فكان أخوه يحمله من حين إلى آخر حتى بلغا ركب النبي، ومن ذلك أن شابا استشهد أبوه في المعركة ولم يكن شهدها بنفسه ؛ لأن أباه آلى عليه أن يتخلف إلى جانب سبع أخوات له فجاء إلى النبي وطلب منه الإذن بالانضمام إليه بعد أن أخبره بعذره الذي منعه من شهود المعركة، وفي كل هذا عظيم الأسوة والتلقين لكل مسلم في كل ظرف ومكان.
ولقد روى البخاري عن ابن عباس قال : " حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ". حيث ينطوي في الحديث إيذان بأن هذه الجملة مما كان يرددها أنبياء الله حين يحزبهم أمر من الأمور فيستمدون بذلك من الله قوة وروحا.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل " وحديثا أخرجه الإمام أحمد عن عوف بن مالك قال : " إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين. فقال المقضي عليه لما أدبر : حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي : ردّوا عليّ الرجل. فقال له : إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل ". والحديثان لم يردا في الصحاح. وصحتهما محتملة. وفي الأول تعليم نبوي للمسلمين ليستمدوا منه من الله روحا وقوة حينما يحزبهم أمر عظيم. وفي الثاني تعليم بذلك مع تنبيه مهم ورائع، وهو أن على المسلم أن يبذل جهده في ما يواجهه من الأمور أيضا ولا يكتفي بالاستسلام وقول حسبنا الله ونعم الوكيل. والله تعالى أعلم.
٢ ابن سعد ج ٣ ص ٩٠ ـ ٩١ و ١٠٠ ـ ١٠٢..
٣ هذه رواية ابن سعد ج ٣ ص ٩٠ ـ ٩١..
٤ انظر تفسير الطبري والخازن..
٥ أنظر تفسير الطبري..
في هذه الآيات : تنويه بالذين استجابوا إلى الله ورسوله رغم ما نالهم من جراح وتعب، ولم يبالوا بما قاله لهم الناس من أن الأعداء قد جمعوا لهم، بل زادهم إيمانا بالله وتمسكا به واعتمادا عليه وهتفوا قائلين حسبنا الله ونعم الوكيل. ولقد عادوا دون أن يمسهم سوء بفضل الله ونعمته وبركة ما كان منهم من صبر وجرأة وإيمان واعتماد على الله. وقد نالوا فوق ذلك رضوان الله ذي الفضل العظيم. وإن للذين أحسنوا من المسلمين واتقوا الأجر العظيم عند الله.
تعليق على الآية
﴿ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ١٧٢ ) ﴾
والآيتين اللتين بعدها
وقد روى المفسرون روايتين١ في صدد نزول الآيات : أولاهما ما أوردناه قبل من تفكير قريش في الكرة بقصد استئصال المسلمين، وببلوغ الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم ومسارعته للخروج على رأس فريق من أصحابه وبلوغهم حمراء الأسد ؛ حيث وجدوا قريشا قد انصرفوا.
وثانيتهما : أن أبا سفيان قائد قريش هتف متواعدا مع النبي والمسلمين ليوم آخر يلتقون فيه في بدر في السنة المقبلة، وأجابه المسلمون بأمر النبي بالموافقة وهذا مما اعتاده العرب في حروبهم فلما جاء الموعد خرج النبي على رأس فريق من أصحابه حتى بلغ بدرا فلم يجدوا قريشا وشهدوا سوق بدر وكان لهم فيها ربح تجاري عظيم وعادوا ولم يلقوا كيدا أو سوءا. وابن سعد يذكر وقوع الغزوتين وأسبابهما التي ذكرها المفسرون٢.
وروح الآيات وفحواها يلهمان أنها في صدد مشهد جهادي فور وقعة أحد وما زالت مرارة الوقعة وجراحها شديدة الأثر في المسلمين. وهذا مما يتوافق مع الرواية الأولى ومع الآيات أكثر وإن كان هذا لا يمنع أن تكون قريش قد هتفوا بموعد بدر للسنة القابلة حينما انصرفوا من أحد ثم فكروا في الكرة.
والمتبادر أن الآيات لم تنزل لحدتها، وليست منفصلة عن سابقاتها. وكلمة ﴿ الذين ﴾ متصلة نظما بكلمة ﴿ المؤمنين ﴾ التي كانت خاتمة الآيات السابقة وأن السلسلة كلها نزلت دفعة واحدة عقب أحداث وقعة أحد ومشاهدها. وكل ما هناك أن هذه الآيات احتوت التنويه باستجابة المؤمنين لدعوة النبي وخروجهم معه رغم ما أصابهم من قرح. وهو ما جعل الرواة يروون أنها نزلت في ذلك.
والآيات تحتوي صورة رائعة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته والجهاد في سبيلها وعمق إيمان العصبة المخلصة التي كانت حوله في الله وشدة اعتمادها عليه وصبرها وتفانيها وقوة روحها واستغراقها في تأييد النبي وطاعته وعدم مبالاته بما كان ينالها من بلاء وأذى في سبيل الله وإعلاء كلمته. وبخاصة في الحالة التي نزلت فيها ؛ حيث استجابوا وخرجوا إلى عدو يزيد عدده عليهم أضعافا كثيرة ويفوقهم في الوسائل وقد انتصر عليهم ونالهم منه أذى شديد، وكانت جراحهم دامية وأجسادهم متعبة بما فيهم رسول الله الذي كان مجروحا في وجهه مشجوجا في جبهته مكسورة رباعيته مكلومة شفته السفلى متوهنا منكبه الأيمن من ضربة أصابته وركبتاه مشجوجتان٣. ويزيد في روعة الصورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب على ما روته الروايات إلا الذين شهدوا معركة أحد وقاتلوا فيها ولم ينهزموا. وقد روي أن عددهم كانوا سبعين٤. ومما رواه المفسرون٥ من روائع هذه الصورة أن رجلين من الأنصار كانا جريحين فلما أذن مؤذن النبي بالخروج قالا لبعضهما أتفوتنا غزوة مع رسول الله ولم يكن لهما دابة يركبانها فخرجا مع ذلك. وكان أحدهما أشد جراحا من الآخر فكان أخوه يحمله من حين إلى آخر حتى بلغا ركب النبي، ومن ذلك أن شابا استشهد أبوه في المعركة ولم يكن شهدها بنفسه ؛ لأن أباه آلى عليه أن يتخلف إلى جانب سبع أخوات له فجاء إلى النبي وطلب منه الإذن بالانضمام إليه بعد أن أخبره بعذره الذي منعه من شهود المعركة، وفي كل هذا عظيم الأسوة والتلقين لكل مسلم في كل ظرف ومكان.
ولقد روى البخاري عن ابن عباس قال :" حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ". حيث ينطوي في الحديث إيذان بأن هذه الجملة مما كان يرددها أنبياء الله حين يحزبهم أمر من الأمور فيستمدون بذلك من الله قوة وروحا.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل " وحديثا أخرجه الإمام أحمد عن عوف بن مالك قال :" إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين. فقال المقضي عليه لما أدبر : حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي : ردّوا عليّ الرجل. فقال له : إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل ". والحديثان لم يردا في الصحاح. وصحتهما محتملة. وفي الأول تعليم نبوي للمسلمين ليستمدوا منه من الله روحا وقوة حينما يحزبهم أمر عظيم. وفي الثاني تعليم بذلك مع تنبيه مهم ورائع، وهو أن على المسلم أن يبذل جهده في ما يواجهه من الأمور أيضا ولا يكتفي بالاستسلام وقول حسبنا الله ونعم الوكيل. والله تعالى أعلم.
٢ ابن سعد ج ٣ ص ٩٠ ـ ٩١ و ١٠٠ ـ ١٠٢..
٣ هذه رواية ابن سعد ج ٣ ص ٩٠ ـ ٩١..
٤ انظر تفسير الطبري والخازن..
٥ أنظر تفسير الطبري..
في هذه الآيات : تنويه بالذين استجابوا إلى الله ورسوله رغم ما نالهم من جراح وتعب، ولم يبالوا بما قاله لهم الناس من أن الأعداء قد جمعوا لهم، بل زادهم إيمانا بالله وتمسكا به واعتمادا عليه وهتفوا قائلين حسبنا الله ونعم الوكيل. ولقد عادوا دون أن يمسهم سوء بفضل الله ونعمته وبركة ما كان منهم من صبر وجرأة وإيمان واعتماد على الله. وقد نالوا فوق ذلك رضوان الله ذي الفضل العظيم. وإن للذين أحسنوا من المسلمين واتقوا الأجر العظيم عند الله.
تعليق على الآية
﴿ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ١٧٢ ) ﴾
والآيتين اللتين بعدها
وقد روى المفسرون روايتين١ في صدد نزول الآيات : أولاهما ما أوردناه قبل من تفكير قريش في الكرة بقصد استئصال المسلمين، وببلوغ الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم ومسارعته للخروج على رأس فريق من أصحابه وبلوغهم حمراء الأسد ؛ حيث وجدوا قريشا قد انصرفوا.
وثانيتهما : أن أبا سفيان قائد قريش هتف متواعدا مع النبي والمسلمين ليوم آخر يلتقون فيه في بدر في السنة المقبلة، وأجابه المسلمون بأمر النبي بالموافقة وهذا مما اعتاده العرب في حروبهم فلما جاء الموعد خرج النبي على رأس فريق من أصحابه حتى بلغ بدرا فلم يجدوا قريشا وشهدوا سوق بدر وكان لهم فيها ربح تجاري عظيم وعادوا ولم يلقوا كيدا أو سوءا. وابن سعد يذكر وقوع الغزوتين وأسبابهما التي ذكرها المفسرون٢.
وروح الآيات وفحواها يلهمان أنها في صدد مشهد جهادي فور وقعة أحد وما زالت مرارة الوقعة وجراحها شديدة الأثر في المسلمين. وهذا مما يتوافق مع الرواية الأولى ومع الآيات أكثر وإن كان هذا لا يمنع أن تكون قريش قد هتفوا بموعد بدر للسنة القابلة حينما انصرفوا من أحد ثم فكروا في الكرة.
والمتبادر أن الآيات لم تنزل لحدتها، وليست منفصلة عن سابقاتها. وكلمة ﴿ الذين ﴾ متصلة نظما بكلمة ﴿ المؤمنين ﴾ التي كانت خاتمة الآيات السابقة وأن السلسلة كلها نزلت دفعة واحدة عقب أحداث وقعة أحد ومشاهدها. وكل ما هناك أن هذه الآيات احتوت التنويه باستجابة المؤمنين لدعوة النبي وخروجهم معه رغم ما أصابهم من قرح. وهو ما جعل الرواة يروون أنها نزلت في ذلك.
والآيات تحتوي صورة رائعة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته والجهاد في سبيلها وعمق إيمان العصبة المخلصة التي كانت حوله في الله وشدة اعتمادها عليه وصبرها وتفانيها وقوة روحها واستغراقها في تأييد النبي وطاعته وعدم مبالاته بما كان ينالها من بلاء وأذى في سبيل الله وإعلاء كلمته. وبخاصة في الحالة التي نزلت فيها ؛ حيث استجابوا وخرجوا إلى عدو يزيد عدده عليهم أضعافا كثيرة ويفوقهم في الوسائل وقد انتصر عليهم ونالهم منه أذى شديد، وكانت جراحهم دامية وأجسادهم متعبة بما فيهم رسول الله الذي كان مجروحا في وجهه مشجوجا في جبهته مكسورة رباعيته مكلومة شفته السفلى متوهنا منكبه الأيمن من ضربة أصابته وركبتاه مشجوجتان٣. ويزيد في روعة الصورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب على ما روته الروايات إلا الذين شهدوا معركة أحد وقاتلوا فيها ولم ينهزموا. وقد روي أن عددهم كانوا سبعين٤. ومما رواه المفسرون٥ من روائع هذه الصورة أن رجلين من الأنصار كانا جريحين فلما أذن مؤذن النبي بالخروج قالا لبعضهما أتفوتنا غزوة مع رسول الله ولم يكن لهما دابة يركبانها فخرجا مع ذلك. وكان أحدهما أشد جراحا من الآخر فكان أخوه يحمله من حين إلى آخر حتى بلغا ركب النبي، ومن ذلك أن شابا استشهد أبوه في المعركة ولم يكن شهدها بنفسه ؛ لأن أباه آلى عليه أن يتخلف إلى جانب سبع أخوات له فجاء إلى النبي وطلب منه الإذن بالانضمام إليه بعد أن أخبره بعذره الذي منعه من شهود المعركة، وفي كل هذا عظيم الأسوة والتلقين لكل مسلم في كل ظرف ومكان.
ولقد روى البخاري عن ابن عباس قال :" حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ". حيث ينطوي في الحديث إيذان بأن هذه الجملة مما كان يرددها أنبياء الله حين يحزبهم أمر من الأمور فيستمدون بذلك من الله قوة وروحا.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل " وحديثا أخرجه الإمام أحمد عن عوف بن مالك قال :" إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين. فقال المقضي عليه لما أدبر : حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي : ردّوا عليّ الرجل. فقال له : إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل ". والحديثان لم يردا في الصحاح. وصحتهما محتملة. وفي الأول تعليم نبوي للمسلمين ليستمدوا منه من الله روحا وقوة حينما يحزبهم أمر عظيم. وفي الثاني تعليم بذلك مع تنبيه مهم ورائع، وهو أن على المسلم أن يبذل جهده في ما يواجهه من الأمور أيضا ولا يكتفي بالاستسلام وقول حسبنا الله ونعم الوكيل. والله تعالى أعلم.
٢ ابن سعد ج ٣ ص ٩٠ ـ ٩١ و ١٠٠ ـ ١٠٢..
٣ هذه رواية ابن سعد ج ٣ ص ٩٠ ـ ٩١..
٤ انظر تفسير الطبري والخازن..
٥ أنظر تفسير الطبري..
في هذه الآيات :
١ تنبيه وتثبيت للمؤمنين : فالشيطان يثير في نفوسهم الخوف من أوليائه ليقعدهم عن القتال فعليهم أن لا يستمعوا لوساوسه ولا يخافوهم بل يخافوا الله وحده إن كانوا مؤمنين حقا.
٢ وتطمين للنبي : فليس من موجب لحزنه واغتمامه بسبب الذين يسارعون في الكفر. فإنهم ليسوا بضارين الله ودينه شيئا. وقصارى أمرهم أن الله لا يوفقهم ولا يجعل لهم حضا في الآخرة ويكون لهم فيها عذاب عظيم.
٣ وتقرير تطميني بأن الذين يفضلون الكفر على الإيمان ويبيعون هذا بذاك لن يضروا الله ودينه شيئا. وإنما هم ضارون أنفسهم بما سوف يصيبهم من عذاب الله الأليم.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧٥ ) ﴾ والآيتين التاليتين لها
لم يرو المفسرون رواية ما في نزول هذه الآيات. وإنما رووا عن أهل التأويل أن المقصودين في جملة ﴿ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ وجملة ﴿ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ﴾ هم المنافقون. وهذا مستلهم من فحوى الآيات وسياقها. وتكون الآيات والحالة هذه استمرارا تعقيبيا للسياق السابق بسبيل تثبيت المؤمنين وتطمينهم. والتنديد بالمنافقين وترهيبهم بالإضافة إلى ما فيها من حقائق يجب الإيمان بها.
وأسلوب الآيات قوي نافذ من شأنه أن يبعث الطمأنينة والروح في قلوب المؤمنين المخلصين، وأن يمدهم بقوة روحانية في كل ظرف.
في هذه الآيات :
١ تنبيه وتثبيت للمؤمنين : فالشيطان يثير في نفوسهم الخوف من أوليائه ليقعدهم عن القتال فعليهم أن لا يستمعوا لوساوسه ولا يخافوهم بل يخافوا الله وحده إن كانوا مؤمنين حقا.
٢ وتطمين للنبي : فليس من موجب لحزنه واغتمامه بسبب الذين يسارعون في الكفر. فإنهم ليسوا بضارين الله ودينه شيئا. وقصارى أمرهم أن الله لا يوفقهم ولا يجعل لهم حضا في الآخرة ويكون لهم فيها عذاب عظيم.
٣ وتقرير تطميني بأن الذين يفضلون الكفر على الإيمان ويبيعون هذا بذاك لن يضروا الله ودينه شيئا. وإنما هم ضارون أنفسهم بما سوف يصيبهم من عذاب الله الأليم.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧٥ ) ﴾ والآيتين التاليتين لها
لم يرو المفسرون رواية ما في نزول هذه الآيات. وإنما رووا عن أهل التأويل أن المقصودين في جملة ﴿ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ وجملة ﴿ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ﴾ هم المنافقون. وهذا مستلهم من فحوى الآيات وسياقها. وتكون الآيات والحالة هذه استمرارا تعقيبيا للسياق السابق بسبيل تثبيت المؤمنين وتطمينهم. والتنديد بالمنافقين وترهيبهم بالإضافة إلى ما فيها من حقائق يجب الإيمان بها.
وأسلوب الآيات قوي نافذ من شأنه أن يبعث الطمأنينة والروح في قلوب المؤمنين المخلصين، وأن يمدهم بقوة روحانية في كل ظرف.
في هذه الآيات :
١ تنبيه وتثبيت للمؤمنين : فالشيطان يثير في نفوسهم الخوف من أوليائه ليقعدهم عن القتال فعليهم أن لا يستمعوا لوساوسه ولا يخافوهم بل يخافوا الله وحده إن كانوا مؤمنين حقا.
٢ وتطمين للنبي : فليس من موجب لحزنه واغتمامه بسبب الذين يسارعون في الكفر. فإنهم ليسوا بضارين الله ودينه شيئا. وقصارى أمرهم أن الله لا يوفقهم ولا يجعل لهم حضا في الآخرة ويكون لهم فيها عذاب عظيم.
٣ وتقرير تطميني بأن الذين يفضلون الكفر على الإيمان ويبيعون هذا بذاك لن يضروا الله ودينه شيئا. وإنما هم ضارون أنفسهم بما سوف يصيبهم من عذاب الله الأليم.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧٥ ) ﴾ والآيتين التاليتين لها
لم يرو المفسرون رواية ما في نزول هذه الآيات. وإنما رووا عن أهل التأويل أن المقصودين في جملة ﴿ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ وجملة ﴿ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ﴾ هم المنافقون. وهذا مستلهم من فحوى الآيات وسياقها. وتكون الآيات والحالة هذه استمرارا تعقيبيا للسياق السابق بسبيل تثبيت المؤمنين وتطمينهم. والتنديد بالمنافقين وترهيبهم بالإضافة إلى ما فيها من حقائق يجب الإيمان بها.
وأسلوب الآيات قوي نافذ من شأنه أن يبعث الطمأنينة والروح في قلوب المؤمنين المخلصين، وأن يمدهم بقوة روحانية في كل ظرف.
عبارة الآية واضحة. وفيها تكذيب لما يظنه الكفار من أن إملاء الله لهم وإمهالهم وتيسيره ما ييسره لهم خبر خير، وعلامة على رضاء الله عنهم بل هو إملاء منه ليزدادوا إثما على إثم ؛ حيث يكون لهم عنده العذاب المهين.
تعليق على الآية
﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ١٧٨ ) ﴾.
عزا الطبري إلى مقاتل أن الآية نزلت في مشركي مكة وإلى عطاء أنها نزلت في يهود بني قريظة وبني النضير. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. والسياق في صدد المؤمنين والمنافقين ووقعة أحد التي كان المشركون طرفا فيها. ولهذا فإن رواية كونها في اليهود لا محل لها كما هو المتبادر. ومن الجائز أن يكون المنافقون قد تبجحوا بما كان لهم من عاقبة وسلامة أو المشركون بما كان لهم من نصر وتفوق في المعركة، فاقتضت حكمة التنزيل تكذيبهم وإنذارهم مع التنبيه على أن المتبادر أن الآية جزء من السياق، ولم تنزل لهذه الغاية لحدتها، وإنما نزلت مع السياق بعد الوقعة وانطوى فيها ما انطوى من مقصد، والله أعلم.
ومن الجدير بالتنبيه أن في القرآن وبخاصة المكي منه آيات كثيرة تذكر أن الكفار كانوا يحسبون ما ييسره الله لهم من سعة رزق وأسباب قوة هو علامة لرضاء الله وتذكر كذلك أن ذلك في حقيقة الأمر بمثابة استدراج وإملاء واختبار. وفي بعضها تكذيب لظنهم١ والعبارة هنا من هذا القبيل كما هو المتبادر.
ولقد كانت الآية من الموضوعات الجدلية بين علماء الكلام كما كانت موضوع تمحل من بعض الأغيار. وليس فيها ما يتحمل ذلك، أو يستدعيه. فقد جاءت تعبيرا أسلوبيا استهدف تسكين المؤمنين وتطمينهم وإنذار الكفار معا على الوجه الذي شرحناه، والذي نرجو أن يكون فيها الصواب.
على أن من الممكن أن يقال : إن الذين كفروا قد كفروا بسبب خبث نياتهم وفساد أخلاقهم فاستحقوا ما جاء في الآية نتيجة لذلك. وبهذا يزول ما قد يبدو ظاهرا من إشكال من كون الله يملي لهم ليزدادوا إثما والله تعالى أعلم.
ولقد أورد الخازن في سياق الآية حديثا عن النبي جاء فيه :( إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج منه ثم قرأ الآية ). والحديث لم يرد في الصحاح ولكنه متساوق مع مدى الآية وتوضيح لها.
ولقد قال الطبري وغيره : إن جملة ﴿ نملي لهم ﴾ بمعنى ( نطيل أعمارهم ) ولقد أورد الخازن في صدد ذلك حديثا جاء فيه : " إن بعضهم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس خير ؟ فقال : من طال عمره وحسن عمله. قيل فأيّ الناس شرّ ؟ قال : من طال عمره وساء عمله، ثم قرأ الآية " ٢. والحديث من مرويات الترمذي عن أبي بكرة بدون جملة ثم قرأ الآية. وما جاء في الحديث حق. غير أن المتبادر أن إطالة العمر مع سوء العمل هي إحدى صور الإملاء التي منها أيضا بسط الرزق والقوة والعافية والبنون. والله تعالى أعلم.
٢ التاج، ج ٥ ص ١٥٤..
شرح الآية
﴿ مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ... ﴾ إلخ
وتعليق عليها
روى الطبري عن مجاهد أن الآية في صدد وقعة أحد، وأنها بسبيل تقرير كون ما وقع فيها حكمة ربانية لتمييز المخلصين من المنافقين. وهم الذين عنى بهم ( الطيب والخبيث ) وروى الخازن عن الكلبي أن قريشا قالت : يا محمد تزعم أن من خالفك في النار، ومن آمن بك في الجنة فأخبرنا بمن يؤمن وبمن لا يؤمن فأنزل الله الآية. وروى هذا المفسر عن السدي أن النبي قال :( عرضت علي أمتي في صورها وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ المنافقين. فقالوا استهزاء : زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به، ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ونحن معه، ولم يعرفنا فبلغ ذلك رسول الله، فقام على المنبر. فقال : ما بال أقوام طعنوا في علمي، لا تسألونني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا أنبأتكم به. فقام عمر فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبك نبيا فاعف عنّا، عفا الله عنك. فقال النبي هل أنتم منتهون ؟ فأنزل الله الآية. وقال الخازن : قيل إن المؤمنين سألوا أن يعطوا آية يفرقون بها بين المؤمن والكافر فنزلت الآية. وقيل : إن قوما من المنافقين ادعوا أن إيمانهم كإيمان المؤمنين فأظهر الله نفاقهم يوم أحد ونزلت الآية.
وليس شيء من ذلك في الصحاح والروايات تقتضي أن تكون الآية نزلت منفردة وبعضها يقتضي أن تكون نزلت في مكة. وفحواها وروحها يلهمان أنها غير منفصلة عن السياق. وقد يكون ما رواه الطبري في الرواية الأولى هو الأكثر احتمالا بحيث يصح القول إن الآية تضمنت تعليلا لما أصاب المسلمين بقصد التهدئة والتسكين بما مفاده ومآله :
١ إن الله إذا كان قد ابتلاهم في وقعة أحد، فإنما كان ذلك منه لاقتضاء حكمته بعدم ترك أمر الناس الذين يدعون الإسلام ملتبسا وبتمييز خبيثهم من طيبهم ومنافقهم من مؤمنهم وخائنهم من مخلصهم.
٢ وهذا من غيب الله الذي لا يطلع عليه الناس إلا بالاختبار العملي.
٣ وكل ما هناك أن الله تعالى يصطفي لرسالته من يشاء ويختصه بعنايته وفضله ودعوة الناس إليه.
٤ وعلى المؤمنين المخلصين أن يؤمنوا بالله وحكمه وقضائه ويقفوا عندهما وأن يؤمنوا برسله ويصدقوهم ويطيعوهم. فإذا فعلوا ذلك واتقوا الله وراقبوه في أعمالهم استحقوا الأجر العظيم عنده.
ولعل بعض المسلمين تساءلوا عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم نتائج الوقعة وعما إذا لم يكن الأولى أن لا تكون وقعت ما دام أنها كانت نكبة على المؤمنين. فكان هذا وما من بابه مما أريد الرد عليه في الآية مع التعليل والتثبيت والحكمة والإنذار للكفار والمؤمنين.
والآية بهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب قوية نافذة. وفيها تلقين مستمر المدى في كل حال مماثلة في كل ظرف.
عبارة الآية واضحة وفيها تنديد وإنذار للذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله. مع التنبيه على أن ميراث السموات والأرض لله وحده بسبيل التشديد في التنديد والإفحام، من حيث إن الذين يبخلون إنما يبخلون بمال الله، وهو يأمرهم بعدم البخل به.
ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآية، وإنما أوردوا أقوالا فيما عنته. منها قول معزو إلى ابن عباس أنها في حق أهل الكتاب الذين يكتمون ما عندهم من البينات والدلائل على صدق الرسالة المحمدية مؤولا البخل بالكتمان. ومنها قول معزو إلى السدي وغيره أنها في مانعي الزكاة١. وفي فصل التفسير في صحيح البخاري في سياق تفسير آل عمران حديث عن أبي هريرة جاء فيه :( قال رسول الله : من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا الآية )٢. وجمهور المفسرين على أن القول الثاني هو الأوجه، وهو حق ومتسق مع فحوى الآية. ولا سيما أن النعي على الذين أوتوا الكتاب لكتمانهم إياه هو موضوع آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد قليل. ويبدو من هذا أن الآية ليست من السياق السابق.
ولقد حكت الآيات التالية لهذه الآية قول اليهود بأنهم أغنياء والله فقير، وروي أن هذا كان منهم جوابا للنبي صلى الله عليه وسلم في وقت طلب منهم مساعدة على ما سوف نذكره بعد حيث يتبادر لنا أن بين هذه الآية والآيات التالية صلة، وأنها جاءت بمثابة تمهيد لحكاية ذلك القول وتعنيف اليهود عليه ووصفهم بالبخل بمناسبته. وبكلمة أخرى جاءت بدء فصل جديد، والله أعلم.
والآية على كل حال احتوت تقرير معنى تام في صدد التنديد بالبخلاء الضانين بأموالهم عن سبيل الخير وبخاصة الممتنعين عن أداء الزكاة الواجبة عليهم وإنذارهم. وعبارتها مطلقة تتضمن الشمول والاستمرار في التلقين كما هو واضح أيضا. وأسلوبها قوي رائع في التنديد الذي ينطوي على الحث على الإنفاق من المال الذي في أيديهم والذي هو في حقيقته مال الله وفضله ليسوا أكثر من وكلاء عليه.
ولقد تكرر ما جاء في هذه الآيات كثيرا في القرآن المكي والمدني معا بأساليب متنوعة ؛ لأنه أساس رئيسي من أسس الرسالة المحمدية.
٢ أنظر التاج، ج ٤ ص ٧٨، والشجاع هو الثعبان، واللهزمتان هما الشدقان من تفسير مؤلف التاج..
تضمنت الآيات ما يلي :
١ تقرير بشهادة الله وإنذاره في سياق حكاية قول صدر من اليهود ؛ حيث قررت أن الله قد سمع قولهم : إن الله فقير ونحن أغنياء، وأنه سجله عليهم كما سجل ما كان قبل من قتل اليهود للأنبياء. ولسوف يحاسبهم الله ويدخلهم ناره الحارقة ويقول لهم : ذوقوا عذابها فهو جزاؤكم الحق على ما قدمت أيديكم دون ما ظلم ؛ لأن الله ليس ظلاما لعبيده وإنما هو موفيهم ما يستحقون.
٢ وحكاية لقول آخر صدر منهم جوابا على دعوة النبي إياهم إلى الإيمان به حيث قالوا على سبيل تحدي النبي وتعجيزه : إن الله وصانا بألا نصدق رسولا يدعي أنه مرسل من الله إلا إذا أكلت القربان الذي يقربه نار تنزل من السماء.
٣ وأمرا للنبي بالرد عليهم ردا ينطوي على التنديد : فلقد جاءهم رسل من قبله بالبينات وبالذي طلبوه فلماذا قتلوهم إن كانوا صادقين في حفظ وصية الله.
٤ وتطمينا وتسلية للنبي، فإذا أصرّ اليهود على تكذيبه فلا موجب لغمه وحزنه فإن له أسوة بالرسل السابقين الذين جاءوا بالحق والصدق والكتب الإلهية المنيرة فكذبوا أيضا.
تعليق على الآية
﴿ لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء... ﴾ إلخ
والآيات الثلاث التالية لها
واسم اليهود ليس صريحا في الآيات. غير أن جمهور المفسرين قرروا أنها في حق اليهود. ومضمونها قوي الدلالة على ذلك. كما أن آيات عديدة في هذه السورة وفي سورة البقرة نعتت اليهود بالصفات التي جاءت عنهم في هذه الآيات التي جرت على الأسلوب الذي تكرر، وخاصة في القرآن المدني بالنسبة لليهود وهو وصل مواقف الحاضرين من النبي صلى الله عليه وسلم بمواقف السابقين من أنبيائهم من قبل حتى كأنها صادرة من الحاضرين، وذلك على سبيل التشديد في التنديد وبيان عدم غرابة ما يفعله الحاضرون ؛ لأنهم سائرون على قدم آبائهم السابقين وجبلتهم.
وقد روى المفسرون١ في صدد الآية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله عنه إلى جماعة من اليهود يدعوهم إلى الإسلام ويبين لهم أركانه ومن جملتها الزكاة وأورد لهم آية فيها حث على إقراض الله قرضا حسنا فجادلوه وصدر من بعضهم القول البذيء في حق الله الذي حكته الآية على سبيل الهزؤ والجحود حتى إن أبا بكر لم يملك نفسه من أن يغضب ويلطم القائل. وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر ليطلب منهم مالا يستعين به على بعض حروبه ؛ لأنهم حلفاء المسلمين وقد أوجب ذلك عليهم في كتاب الموادعة الذي كتبه حينما حلّ في المدينة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة فجرى ما ذكرته الرواية الأولى. وهناك رواية ثالثة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام والإيمان برسالته فقالوا له ما حكته الآية [ ١٨٣ ].
والروايات لم ترد في الصحاح. وتقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزأة في حين أنها تبدو منسجمة بحيث يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. ويتبادر لنا أن فيها تسجيلا لمشهد جدلي قام بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض اليهود أو في البدء بين أبي بكر وبعض اليهود في صدد الرسالة الإسلامية وما تدعو إليه من الإنفاق في سبيل الله ووصفها ذلك بإقراض الله قرضا حسنا، فحكت ما كان منهم إزاء ذلك ثم ربطت بينه وبين ما كان من آبائهم من مواقف جريا على الأسلوب القرآني الذي مرّت أمثلة منه في هذه السورة وفي سورة البقرة.
ومن الجدير بالذكر أن في الإصحاحات ( ١٧ و ١٨ و ١٩ ) من سفر الملوك الثالث في الطبعة الكاثوليكية أخبرا مما أشير إليه في الآية [ ١٨٣ ] إشارة خاطفة ؛ حيث ذكر فيها خبر قتل كثيرين من أنبياء الله وخبر استشراء عبادة البعل بين بني إسرائيل برعاية ملوكهم وبخاصة برعاية آحاب ملك إسرائيل وزوجته إيزابيل وخبر مناظرة بين النبي إيليا وبين أبناء البعل وتحديه إياهم بتقريب كل منهم قربانا. فمن هبطت من السماء نار فأكلت قربانا كان هو الذي على الحق. وخبر نزول نار من السماء وأكلها قربان النبي إيليا دون قرابين أبناء البعل، وعدم ارعواء آحاب وزوجته وجمهور بني إسرائيل عن انحرافهم الديني رغم ذلك ومطاردتهم للنبي بحيث يستحكم ردّ القرآن في اليهود ويبهتهم بما في أسفارهم من وقائع.
في هذه السورة ثلاثة فصول طويلة : الأول في صدد مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب. والثاني في صدد مواقف اليهود ومكائدهم. والثالث في صدد وقعة حربية بين النبي والمسلمين والمشركين. وقد تخلل كل فصل ما يناسب موضوعه من محاجات وتنديدات وتنويهات ومواعظ ومعالجات وتلقينات ومبادئ جليلة.
وجمهور المفسرين وكتاب السيرة١ متفقون على أن المناظرة التي جاء الفصل الأول في صددها كانت مع وفد نصارى نجران. ولكنهم لا يذكرون متى قدم هذا الوفد إلى المدينة. وفي سياق لابن سعد في الجزء الثاني من طبقاته٢ وللإمام أبي يوسف في كتابه الخراج٣ نصّ عهد نبوي لهم من شهوده أبو سفيان بن حرب. وهذا قد يعني إن صح أن العهد كتب بعد فتح مكة بما لا يقل عن سنة. ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب العهد الذي كتبه لهم أمنهم على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وبيعهم وأن لا يغير أسقف عن أسقفيته وفرض عليهم جزية سنوية مقدارها ألفا حلة وآذنهم فيه أن ذمته بريئة ممن أكل الربا منهم.. إلخ. لأن هذا لا يمكن أن يكون وقع إلا بعد أن صار للنبي سلطان على اليمن. وهذا إنما ثمّ بعد فتح مكة. وقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد من نصارى نجران على النبي في سلسلة أخبار وقعت أحداثها قبل فتح مكة بمدة طويلة بل وقبل خبر وقعة أحد التي كانت في السنة الهجرية الثالثة. ولم يذكر تاريخا ولا كتاب عهد مع ذكره أن الشطر الأول من السورة قد نزل في مناسبة قدومه، وأنهم تناظروا معه في أمر المسيح وأنه اقترح عليهم المباهلة وجعل لعنة الله على الكاذبين امتنعوا وقالوا له : نوادعك ونبقى على ديننا٤.
وإجماع الروايات على أن الفصل الأول هو في صدد هذا الوفد ومجيء السورة في الترتيبات المروية بعد سورة الأنفال يسوغان القول : إن وفد نجران قد قدم في وقت مبكر جدا من العهد المدني وقبل فتح مكة. ويكون خبر نزول سورة آل عمران بعد سورة الأنفال بسبب الفصل الذي فيه خبر المناظرة مع الوفد واردا صحيحا. وحينئذ يكون الخبر الذي رواه ابن سعد وأبو يوسف عن قدوم الوفد بعد فتح مكة وكتابة النبي صلى الله عليه وسلم عهدا له حادثا ثانيا.
وجمهور المفسرين متفقون كذلك على أن الوقعة الحربية التي جاء الفصل الثالث من فصول السور في صددها هي وقعة أحد التي جرت بين المسلمين وبين جيش كفار قريش عند جبل أحد قرب المدينة بعد خمسة عشر شهرا من وقعة بدر حيث زحف صناديد قريش على رأس جيش كبير من مكة على يثرب لأخذ ثأرهم من يوم بدر. وورود هذا الفصل في السورة يؤيد وجاهة كون السورة نزلت بعد سورة الأنفال التي دار معظمها على وقعة بدر. ولقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد نجران قبل خبر وقعة أحد. وقد يؤيد كون وفد نجران جاء قبل وقعة أحد ورود فصل المناظرة في السورة قبل فصل أحد. ولعل انتصار النبي والمسلمين في بدر على أهل مكة كان ذا دويّ عظيم في أنحاء الجزيرة وهذا مما لا يتحمل ريبا حفز نصارى نجران على إرسال وفدهم لاستطلاع النبأ النبوي العظيم وسهل قدومه. والله تعالى أعلم.
ومن المحتمل أن تكون مواقف اليهود التي جاء الفصل الثاني في صددها قد كانت في ظروف قدوم وفد نجران فوضعت فصلا ثانيا. وفي كتب التفسير٥ روايات تذكر أن اليهود كانوا طرفا ثالثا في ما كان يجري من مناظرة بين النبي ووفد نجران. وفي هذا الفصل خطاب موجه إلى أهل الكتاب عامة حينا وإلى النصارى واليهود حينا مما فيه تأييد لذلك. ولقد ذكرت روايات المفسرين٦ اسم بني النضير في سياق تفصيل المواقف اليهودية التي حكاها الفصل. وبنو النضير إنما أجلوا عن المدينة بعد وقعة أحد. وفي هذا تأييد آخر. وقد يدل هذا أن وقعة أحد قد كانت بعد ذلك فوضع فصلها بعد الفصلين. ومع كل ما تقدم فنحن نرجح أن فصول السورة وآياتها قد رتبت بعد استكمال نزولها كما هو شأن سورة البقرة. والله أعلم.
٢ طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٥٥ ـ ١١٩..
٣ ص ٤٠ ـ ٤١..
٤ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٦..
٥ أنظر كتب التفسير السابقة الذكر. وانظر في صدد وقعة أحد ابن سعد ج ٣ ص ٧٨ ـ ٩١. وابن هشام ج ٣ ص ٣ ـ ١٥٩..
٦ أنظر المصدر نفسه..
في هذه السورة ثلاثة فصول طويلة : الأول في صدد مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب. والثاني في صدد مواقف اليهود ومكائدهم. والثالث في صدد وقعة حربية بين النبي والمسلمين والمشركين. وقد تخلل كل فصل ما يناسب موضوعه من محاجات وتنديدات وتنويهات ومواعظ ومعالجات وتلقينات ومبادئ جليلة.
وجمهور المفسرين وكتاب السيرة١ متفقون على أن المناظرة التي جاء الفصل الأول في صددها كانت مع وفد نصارى نجران. ولكنهم لا يذكرون متى قدم هذا الوفد إلى المدينة. وفي سياق لابن سعد في الجزء الثاني من طبقاته٢ وللإمام أبي يوسف في كتابه الخراج٣ نصّ عهد نبوي لهم من شهوده أبو سفيان بن حرب. وهذا قد يعني إن صح أن العهد كتب بعد فتح مكة بما لا يقل عن سنة. ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب العهد الذي كتبه لهم أمنهم على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وبيعهم وأن لا يغير أسقف عن أسقفيته وفرض عليهم جزية سنوية مقدارها ألفا حلة وآذنهم فيه أن ذمته بريئة ممن أكل الربا منهم.. إلخ. لأن هذا لا يمكن أن يكون وقع إلا بعد أن صار للنبي سلطان على اليمن. وهذا إنما ثمّ بعد فتح مكة. وقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد من نصارى نجران على النبي في سلسلة أخبار وقعت أحداثها قبل فتح مكة بمدة طويلة بل وقبل خبر وقعة أحد التي كانت في السنة الهجرية الثالثة. ولم يذكر تاريخا ولا كتاب عهد مع ذكره أن الشطر الأول من السورة قد نزل في مناسبة قدومه، وأنهم تناظروا معه في أمر المسيح وأنه اقترح عليهم المباهلة وجعل لعنة الله على الكاذبين امتنعوا وقالوا له : نوادعك ونبقى على ديننا٤.
وإجماع الروايات على أن الفصل الأول هو في صدد هذا الوفد ومجيء السورة في الترتيبات المروية بعد سورة الأنفال يسوغان القول : إن وفد نجران قد قدم في وقت مبكر جدا من العهد المدني وقبل فتح مكة. ويكون خبر نزول سورة آل عمران بعد سورة الأنفال بسبب الفصل الذي فيه خبر المناظرة مع الوفد واردا صحيحا. وحينئذ يكون الخبر الذي رواه ابن سعد وأبو يوسف عن قدوم الوفد بعد فتح مكة وكتابة النبي صلى الله عليه وسلم عهدا له حادثا ثانيا.
وجمهور المفسرين متفقون كذلك على أن الوقعة الحربية التي جاء الفصل الثالث من فصول السور في صددها هي وقعة أحد التي جرت بين المسلمين وبين جيش كفار قريش عند جبل أحد قرب المدينة بعد خمسة عشر شهرا من وقعة بدر حيث زحف صناديد قريش على رأس جيش كبير من مكة على يثرب لأخذ ثأرهم من يوم بدر. وورود هذا الفصل في السورة يؤيد وجاهة كون السورة نزلت بعد سورة الأنفال التي دار معظمها على وقعة بدر. ولقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد نجران قبل خبر وقعة أحد. وقد يؤيد كون وفد نجران جاء قبل وقعة أحد ورود فصل المناظرة في السورة قبل فصل أحد. ولعل انتصار النبي والمسلمين في بدر على أهل مكة كان ذا دويّ عظيم في أنحاء الجزيرة وهذا مما لا يتحمل ريبا حفز نصارى نجران على إرسال وفدهم لاستطلاع النبأ النبوي العظيم وسهل قدومه. والله تعالى أعلم.
ومن المحتمل أن تكون مواقف اليهود التي جاء الفصل الثاني في صددها قد كانت في ظروف قدوم وفد نجران فوضعت فصلا ثانيا. وفي كتب التفسير٥ روايات تذكر أن اليهود كانوا طرفا ثالثا في ما كان يجري من مناظرة بين النبي ووفد نجران. وفي هذا الفصل خطاب موجه إلى أهل الكتاب عامة حينا وإلى النصارى واليهود حينا مما فيه تأييد لذلك. ولقد ذكرت روايات المفسرين٦ اسم بني النضير في سياق تفصيل المواقف اليهودية التي حكاها الفصل. وبنو النضير إنما أجلوا عن المدينة بعد وقعة أحد. وفي هذا تأييد آخر. وقد يدل هذا أن وقعة أحد قد كانت بعد ذلك فوضع فصلها بعد الفصلين. ومع كل ما تقدم فنحن نرجح أن فصول السورة وآياتها قد رتبت بعد استكمال نزولها كما هو شأن سورة البقرة. والله أعلم.
٢ طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٥٥ ـ ١١٩..
٣ ص ٤٠ ـ ٤١..
٤ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٦..
٥ أنظر كتب التفسير السابقة الذكر. وانظر في صدد وقعة أحد ابن سعد ج ٣ ص ٧٨ ـ ٩١. وابن هشام ج ٣ ص ٣ ـ ١٥٩..
٦ أنظر المصدر نفسه..
في هذه السورة ثلاثة فصول طويلة : الأول في صدد مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب. والثاني في صدد مواقف اليهود ومكائدهم. والثالث في صدد وقعة حربية بين النبي والمسلمين والمشركين. وقد تخلل كل فصل ما يناسب موضوعه من محاجات وتنديدات وتنويهات ومواعظ ومعالجات وتلقينات ومبادئ جليلة.
وجمهور المفسرين وكتاب السيرة١ متفقون على أن المناظرة التي جاء الفصل الأول في صددها كانت مع وفد نصارى نجران. ولكنهم لا يذكرون متى قدم هذا الوفد إلى المدينة. وفي سياق لابن سعد في الجزء الثاني من طبقاته٢ وللإمام أبي يوسف في كتابه الخراج٣ نصّ عهد نبوي لهم من شهوده أبو سفيان بن حرب. وهذا قد يعني إن صح أن العهد كتب بعد فتح مكة بما لا يقل عن سنة. ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب العهد الذي كتبه لهم أمنهم على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وبيعهم وأن لا يغير أسقف عن أسقفيته وفرض عليهم جزية سنوية مقدارها ألفا حلة وآذنهم فيه أن ذمته بريئة ممن أكل الربا منهم.. إلخ. لأن هذا لا يمكن أن يكون وقع إلا بعد أن صار للنبي سلطان على اليمن. وهذا إنما ثمّ بعد فتح مكة. وقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد من نصارى نجران على النبي في سلسلة أخبار وقعت أحداثها قبل فتح مكة بمدة طويلة بل وقبل خبر وقعة أحد التي كانت في السنة الهجرية الثالثة. ولم يذكر تاريخا ولا كتاب عهد مع ذكره أن الشطر الأول من السورة قد نزل في مناسبة قدومه، وأنهم تناظروا معه في أمر المسيح وأنه اقترح عليهم المباهلة وجعل لعنة الله على الكاذبين امتنعوا وقالوا له : نوادعك ونبقى على ديننا٤.
وإجماع الروايات على أن الفصل الأول هو في صدد هذا الوفد ومجيء السورة في الترتيبات المروية بعد سورة الأنفال يسوغان القول : إن وفد نجران قد قدم في وقت مبكر جدا من العهد المدني وقبل فتح مكة. ويكون خبر نزول سورة آل عمران بعد سورة الأنفال بسبب الفصل الذي فيه خبر المناظرة مع الوفد واردا صحيحا. وحينئذ يكون الخبر الذي رواه ابن سعد وأبو يوسف عن قدوم الوفد بعد فتح مكة وكتابة النبي صلى الله عليه وسلم عهدا له حادثا ثانيا.
وجمهور المفسرين متفقون كذلك على أن الوقعة الحربية التي جاء الفصل الثالث من فصول السور في صددها هي وقعة أحد التي جرت بين المسلمين وبين جيش كفار قريش عند جبل أحد قرب المدينة بعد خمسة عشر شهرا من وقعة بدر حيث زحف صناديد قريش على رأس جيش كبير من مكة على يثرب لأخذ ثأرهم من يوم بدر. وورود هذا الفصل في السورة يؤيد وجاهة كون السورة نزلت بعد سورة الأنفال التي دار معظمها على وقعة بدر. ولقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد نجران قبل خبر وقعة أحد. وقد يؤيد كون وفد نجران جاء قبل وقعة أحد ورود فصل المناظرة في السورة قبل فصل أحد. ولعل انتصار النبي والمسلمين في بدر على أهل مكة كان ذا دويّ عظيم في أنحاء الجزيرة وهذا مما لا يتحمل ريبا حفز نصارى نجران على إرسال وفدهم لاستطلاع النبأ النبوي العظيم وسهل قدومه. والله تعالى أعلم.
ومن المحتمل أن تكون مواقف اليهود التي جاء الفصل الثاني في صددها قد كانت في ظروف قدوم وفد نجران فوضعت فصلا ثانيا. وفي كتب التفسير٥ روايات تذكر أن اليهود كانوا طرفا ثالثا في ما كان يجري من مناظرة بين النبي ووفد نجران. وفي هذا الفصل خطاب موجه إلى أهل الكتاب عامة حينا وإلى النصارى واليهود حينا مما فيه تأييد لذلك. ولقد ذكرت روايات المفسرين٦ اسم بني النضير في سياق تفصيل المواقف اليهودية التي حكاها الفصل. وبنو النضير إنما أجلوا عن المدينة بعد وقعة أحد. وفي هذا تأييد آخر. وقد يدل هذا أن وقعة أحد قد كانت بعد ذلك فوضع فصلها بعد الفصلين. ومع كل ما تقدم فنحن نرجح أن فصول السورة وآياتها قد رتبت بعد استكمال نزولها كما هو شأن سورة البقرة. والله أعلم.
٢ طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٥٥ ـ ١١٩..
٣ ص ٤٠ ـ ٤١..
٤ ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢١٦..
٥ أنظر كتب التفسير السابقة الذكر. وانظر في صدد وقعة أحد ابن سعد ج ٣ ص ٧٨ ـ ٩١. وابن هشام ج ٣ ص ٣ ـ ١٥٩..
٦ أنظر المصدر نفسه..
في الآية تقرير بحتمية الموت على كل نفس وبأن ما في الحياة الدنيا من المتعة هو إلى زوال وهو باطل خداع. وبأن مصير الناس الخالد إنما يتقرر يوم القيامة حيث يوفون أجورهم حسب ما قدموه من عمل في الدنيا، وأن الفوز الحقيقي هو لمن يزحزح بعمله عن النار ويدخل الجنة.
تعليق على الآية
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ... ﴾ الخ.
ولم نطلع على رواية خاصة بالآية. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن السياق السابق. فالآية [ ١٨٠ ] نددت بالبخل وأنذرت البخلاء بعذاب الله يوم القيامة، والآية [ ١٨١ ] حكت تفاخر اليهود بغناهم فجاءت هذه الآية لتوكيد كون الحياة الدنيا التي يحرص البخلاء عليها فيضنون بما آتاهم الله من فضله ويفاخر اليهود بغناهم فيها إنما هي متعة قصيرة. ولتوكيد كون العمل الصالح فيها من إيمان وبرّ وخير وإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين هو وحده الذي ينجي الإنسان في الحياة الأخروية التي تتسم بالخلود ويزحزحه عن النار، فيكون لصاحبه بذلك الفوز العظيم.
وواضح أن الآية تظل قوية الهتاف والتذكير على مدى الدهر بما احتوته من حقيقة، وبما انطوى فيها من توكيد. على أننا ننبه هنا كما نبهنا في مناسبات سابقة إلى أنه ليس في هذه الآية أيضا ما يدعو إلى نفض اليد من الدنيا ومتعها وطيباتها والنشاط فيها في مختلف المجالات. وإنما هدفها هو التذكير بحتمية الموت وحثّ الناس والمسلمين بخاصة على الاستمساك بحبل الله وتقواه والقيام بواجباتهم نحوه ونحو الناس والاستكثار من العمل الصالح الذي هو وحده النافع المنجي لهم في الحياة الأخروية.
الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين يقرر لهم به بأنهم معرضون للابتلاء والاختبار في أموالهم وأنفسهم خسارة وقتلا. كما أنهم سوف يسمعون من أهل الكتاب والمشركين كثيرا من البذاءات المؤذية للنفس، وأن عليهم أن يصبروا ويثبتوا ويتقوا الله. وهذا الموقف الذي لا يقفه إلا صاحب العزم تجاه تلك الاختبارات هو الموقف الذي يجمل بهم.
تعليق على الآية
﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ... ﴾ الخ.
روى المفسرون أن الآية نزلت في مناسبة ما كان بين أبي بكر وفنحاص مما ذكرناه قبل أو في مناسبة هجو كعب بن الأشرف الشاعر اليهودي للنبي والمسلمين، أو في مناسبة موقف مؤذ وقفه عبد الله بن أبي كبير المنافقين من النبي في مجلس حيث أسمع النبي ما يكره وردّ عليه بعض المخلصين وكاد يقع قتال بين المخلصين والمنافقين بسبب ذلك.
والروايات لم ترد في الصحاح. ويتبادر لنا أن الآية متصلة بالسياق السابق. وهذا لا يمنع أن يكون صدر في ظرف نزولها بعض مواقف مؤذية من اليهود والمنافقين. وقد جاءت مطلقة لتنبه المؤمنين إلى ما يمكن أن يتعرضوا له من خسائر في الأرواح والأموال، ومن بذاءات ومكائد بصورة عامة استهدافا لحملهم على توطين أنفسهم على الصبر والتحمل والتضحية في كل موقف مماثل. وقد انطوت على بشرى بالفوز النهائي لهم إذا ما صبروا وثبتوا واتقوا الله.
وفي كل هذا تلقين جليل ومنبع إلهام فياض للمؤمن المجاهد في سبيل الله والحق في كل ظرف ومكان.
وننبه هنا كما نبهنا في مناسبات سابقة إلى أنه لا محل للظن بأن الآية تدعو إلى الصبر على الإهانات والأذى والعدوان. فهذا مما قررت الآيات العديدة المكية والمدنية١ حق المسلمين على مقابلته بالمثل وبذل الجهد في إرغام البغاة الظالمين وحثهم عليه مما مرت منه أمثلة عديدة. وإنما هي في صدد الحث على تحمل ما هو طبيعي الوقوع وهم يجاهدون في سبيل الله ودينه الكفار من المشركين وأهل الكتاب من خسارة في الأرواح والأموال وما قد يسمعونه من بذاءات ويلمسونه من مكائد.
ولقد استطرد المفسرون في سياق هذه الآية إلى ذكر قتل الشاعر اليهودي المذكور آنفا حيث رووا أن رسول الله قال :( اللهم اكفنيه، ثم قال : من لي به فقد آذاني )، فتقدم أحد أصحاب رسول الله محمد بن سلمة فقال : أنا له يا رسول الله ثم أخذ بعض رفاق له وذهبوا إلى حصن اليهود وخادعوه حتى تمكنوا من قتله وحزوا رأسه وجاؤوا به إلى رسول الله. وهذا من صور السيرة النبوية التي يصح أن يكون فيها الأسوة. وننبه على أن هذا الحادث لم يكن الأول، فقد كان هناك شاعر يهودي بذي آخر اسمه أبو عفك فانتدب رسول الله من قتله، وكان سالم بن عمير رضي الله عنه٢.
٢ انظر تفصيل الحادثين في طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٦٧ و ٧٠ و ٧٣، وانظر ابن هشام ج ٢ ص ٤٣٦ وانظر في تفسير الآية..
في هذه الآيات :
١ ـ تقرير بأن الله قد أخذ عهدا من أهل الكتاب بأن يبينوا للناس ما في كتبهم، ولا يكتموا منه شيئا فنبذوا عهد الله وكتبه وراء ظهورهم وباعوها بثمن بخس فبئس ما شروه بها.
٢ ـ وخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم والسامعين بالتبعية بأن لا يظن أحد منهم أن الذين يزهون بما ينسبونه إلى أنفسهم من صفات ومزاعم، ويحبون أن يحمدهم الناس ويمدحوهم ويوقروهم على ما لم يتحقق فيهم من صفات، وما لم يصدر منهم من أقوال وأفعال تستوجب الحمد والمدح والتوقير يمكن أن ينجوا من عذاب الله. فإنهم سوف يلقون عذابه الأليم من دون ريب. فهو مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما والقدير على كل شيء فلا يعجزه هؤلاء ولا تنطلي عليه أباطيلهم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ( ١٨٧ ) ﴾.
والآيتين التاليتين لها
في فصل التفسير من صحيح البخاري روايتان في صدد ومناسبة الآيتين [ ١٨٧ و ١٨٨ ] جاء في أولاهما عن أبي سعيد :" أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت ". وجاء في ثانيتهما عن ابن عباس :" أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، وأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ الآيتين [ ١٨٧ و ١٨٨ ]. ١
وهناك روايات أخرى عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم لم ترد في الصحاح. منها ما يذكر أن الآية [ ١٨٧ ] نزلت في حق اليهود والنصارى، أو في حق اليهود خاصة لكتمانهم صفات رسول الله الواردة في كتبهم وما يذكر أن الآية الثانية نزلت في فريق من اليهود قالوا للنبي : إنهم يؤمنون به كذبا وخداعا.
وفي الحديث البخاري تعارض حيث يبدو من حديث أبي سعيد أن الآية [ ١٨٧ ] نزلت في غير ما نزلت فيه الآيتان حسب حديث ابن عباس. والذي يتبادر لنا أن الحديثين والروايات هي من قبيل التخمين والتطبيق وأن الآية الأولى هي بمثابة تمهيد للثانية. وهما منسجمتان وتبدوان وحدة كاملة. وأنهما إلى هذا غير منقطعتين عن الآيات السابقة. وفيهما استمرار على التنديد باليهود الذين هم موضوع الحديث. مع القول إنه قد يكون حدت حادث أو موقف من نوع ما ذكر في الحديث ابن عباس والروايات قبل نزول الآيات. أما الآية الثالثة فقد جاءت لتقرير قدرة الله تعالى على تحقيق ما وعد به من عذاب الذين يكتمون كتابه ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
ولقد قال الطبري : إن إطلاق العذاب يحتمل أن يكون العذاب المنذر به دنيويا وأخريا معا. ولا يخلو هذا من وجاهة، ولقد أنذر الله اليهود في آيات كثيرة في سور سبق تفسيرها بخزي ونكال وذل وعذاب في الدنيا وتحقق فضلا عما سوف ينالونه من عذاب في الآخرة.
ولقد أدار المفسرون الكلام على الآيتين على اعتبار أنهما شاملتا التلقين للمسلمين أيضا، وأوردوا في صدد ذلك بعض الأحاديث. وهذا سديد يلهمه إطلاق العبارة فيهما أولا وكون المسلمين قد صاروا بالقرآن من الذين أوتوا الكتاب بالمعنى العام ثانيا. فضلا عن أن كل ما فيه تلقين أخلاقي واجتماعي في القرآن بالنسبة للسابقين يصح أن يكون فيه مثل ذلك للمسلمين مما ذكرناه في مناسبات كثيرة ومماثلة.
ولقد احتوت كل من الآيتين أمرين من ذلك ففي الأولى :
أولا : نعي على نبذ الميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب ببيان ما فيه وعدم كتمانه.
وثانيا : نعي على إساءتهم واستعماله فيما يعود عليه بالمنافع العاجلة والأغراض الخسيسة.
وفي الثانية :
أولا النعي على الذين يزهون ويتبجحون بما يأتونه.
وثانيا : نعي على الذين يحبون أن ينالوا الحمد على شيء لم يفعلوه.
والتلقين يدور في نطاق سلبي ونطاق إيجابي معا، من حيث إنه يشنع على ما تعنى عليه الآيتان من أفعال وأخلاق ويستنكرها من جهة ويلزم الذين أوتوا الكتاب ببيان ما أوتوه والالتزام به قولا وعملا من جهة أخرى.
والمتبادر أن جملة ﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ﴾ تعبير أسلوبي بمعنى أن الذين أوتوا الكتاب صاروا تلقائيا ملزمين ببيان ما فيه للناس وعدم كتمانه ثم العمل به. وقد يزيد هذا من عظم مسؤوليتهم وخطورة تصرفهم ومواقفهم سلبا وإيجابا.
ولقد روى الخزان قولا لأبي هريرة جاء فيه :" لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء. ثم تلا الآية ". كما روي عن الحسن بن عمارة قال :" أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه. فقلت : أريد أن تحدثني. فقال : أما علمت أني تركت الحديث. فقلت : إما أن تحدثني، وإما أن أحدثك. فقال حدثني فقلت : حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال : سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول :﴿ ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال : فحدثني أربعين حديثا ". وفي هذا التساوق مع ما قررناه المتبادر من الجملة. وفيه تفسير لجملة { أُوتُواْ الْكِتَابَ ﴾ بمعنى ( أوتوا العلم ) أيضا، وهو تفسير سديد مؤيد بما جاء في القرآن من ترادف بين الكلمتين في آيات كثيرة. منها ما ورد في سور سبق تفسيرها. ويسوغ القول : إن الذين أوتوا العلم إطلاقا يخاطبون بما في الآيات من تلقينات إيجابية وسلبية. ويكون فيها والحالة هذه تلقينات متصلة بآداب العلم والعلماء وواجباتهم وسلوكهم شخصيا واجتماعيا وخلقيا وعلميا والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض أحادث نبوية فيها ما يفيد أن هذا المفسر قد أخذ بذلك التفسير، واعتبر ما في الآيات تلقينات شاملة للعلماء وآدابهم وواجباتهم وسلوكهم، وهو متسق مع ما قلناه آنفا. من ذلك حديث قال : إنه مروي بطرق عديدة. وقد رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص :" من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " ٢.
ولقد تطرق رشيد رضا في سياق تفسير الآية [ ١٨٧ ] إلى تزلف العلماء لأصحاب السلطان ومداهنتهم لهم. وما في ذلك من تورط في الارتكاس في ما نصت عليه الآية. وأورد بعض الأحاديث منها حديث عن أنس نعته بالمشهور. وقال : رواه العقيلي في المصنف والحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم فالحلية وقال السيوطي : إن له شواهد فوق الأربعين، والراجح أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء فيه :" العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم٣. وحديث عن ابن عباس عن النبي قال نقلا عن السيوطي : إنه رواه ابن ماجه بسند رواته ثقات جاء فيه :" إن أنسا من أمتي يتفقهون في الدين ويقرأون القرآن ويقولون : نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بدنيا ولا يكون ذلك. كما لا يجتني من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يجتني من قربهم إلا الخطايا ". وحديث رواه معاذ بن جبل وأخرجه الحاكم جاء فيه :" إذا قرأ الرجل القرآن وتفقه في الدين ثم أتى باب السلطان تملقا إليه وطمعا بما في يده خاض بقدر خطاه في نار جهنم " وحديث رواه الديليمي جاء فيه :" سيكون في آخر الزمان علماء يرغبون الناس في الآخرة ولا يرغبون، ويزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينهون عن غشيان الأمراء ولا ينتهون ".
وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. ولكن ما فيها من حيث الموضوع لا يخلو من الحق والسداد. ومع ذلك فإن الموضوع يتحمل شيئا من البيان. فالعلماء طائفة مهمة من المسلمين، عليها واجبات ولها حقوق عامة وخاصة، ولا بد لها بسبيل ذلك من الاتصال بأصحاب السلطان. فالمتبادر أن المكروه الذي يقع تحت طائلة نهي الآية والأحاديث هو إعانة العالم للسلطان الجائر الشاذ المنحرف. وإقراره على جوره وشذوذه وانحرافه ومداهنته ومخالطته وغشيانه رغم ذلك ابتغاء منافع الدنيا الخسيسة. وهناك حديث صحيح يرويه رشيد رضا في السياق وموجه إلى المسلمين جميعهم وليس إلى علمائهم يصح أن يكون ضابطا وقد رواه النسائي والترمذي عن كعب بن مجرة فقال :" خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن تسعة فقال : إنه ستكون بعدي أمراء من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض ".
هذا، ومن الحق أن ينبه على أن ما ذكره رشيد رضا من تزلف العلماء ومداهنتهم للسلطان بسبيل المنافع والوجاهات الدنيوية على حساب كلمة الحق والموقف الحق ليس إلا صورة من صور ما يمكن أن يكون منطويا في جملة ﴿ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ( ١٨٧ ) ﴾ وإن كانت أشدها خطورة حيث يمكن أن يكون من صورها استغفال بسطاء المسلمين وتحريف أحكام كتاب الله وسنة رسوله أو تأويلهما أو تطبيقهما تطبيقا غير صحيح بقصد إعطاء الرفض والفتاوى للناس في مختلف شؤون الدنيا والدين وبسبيل نيل المنافع والوجاهات. والله تعالى أعلم.
في هذه الآيات :
١ ـ تقرير بأن الله قد أخذ عهدا من أهل الكتاب بأن يبينوا للناس ما في كتبهم، ولا يكتموا منه شيئا فنبذوا عهد الله وكتبه وراء ظهورهم وباعوها بثمن بخس فبئس ما شروه بها.
٢ ـ وخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم والسامعين بالتبعية بأن لا يظن أحد منهم أن الذين يزهون بما ينسبونه إلى أنفسهم من صفات ومزاعم، ويحبون أن يحمدهم الناس ويمدحوهم ويوقروهم على ما لم يتحقق فيهم من صفات، وما لم يصدر منهم من أقوال وأفعال تستوجب الحمد والمدح والتوقير يمكن أن ينجوا من عذاب الله. فإنهم سوف يلقون عذابه الأليم من دون ريب. فهو مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما والقدير على كل شيء فلا يعجزه هؤلاء ولا تنطلي عليه أباطيلهم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ( ١٨٧ ) ﴾.
والآيتين التاليتين لها
في فصل التفسير من صحيح البخاري روايتان في صدد ومناسبة الآيتين [ ١٨٧ و ١٨٨ ] جاء في أولاهما عن أبي سعيد :" أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت ". وجاء في ثانيتهما عن ابن عباس :" أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، وأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ الآيتين [ ١٨٧ و ١٨٨ ]. ١
وهناك روايات أخرى عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم لم ترد في الصحاح. منها ما يذكر أن الآية [ ١٨٧ ] نزلت في حق اليهود والنصارى، أو في حق اليهود خاصة لكتمانهم صفات رسول الله الواردة في كتبهم وما يذكر أن الآية الثانية نزلت في فريق من اليهود قالوا للنبي : إنهم يؤمنون به كذبا وخداعا.
وفي الحديث البخاري تعارض حيث يبدو من حديث أبي سعيد أن الآية [ ١٨٧ ] نزلت في غير ما نزلت فيه الآيتان حسب حديث ابن عباس. والذي يتبادر لنا أن الحديثين والروايات هي من قبيل التخمين والتطبيق وأن الآية الأولى هي بمثابة تمهيد للثانية. وهما منسجمتان وتبدوان وحدة كاملة. وأنهما إلى هذا غير منقطعتين عن الآيات السابقة. وفيهما استمرار على التنديد باليهود الذين هم موضوع الحديث. مع القول إنه قد يكون حدت حادث أو موقف من نوع ما ذكر في الحديث ابن عباس والروايات قبل نزول الآيات. أما الآية الثالثة فقد جاءت لتقرير قدرة الله تعالى على تحقيق ما وعد به من عذاب الذين يكتمون كتابه ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
ولقد قال الطبري : إن إطلاق العذاب يحتمل أن يكون العذاب المنذر به دنيويا وأخريا معا. ولا يخلو هذا من وجاهة، ولقد أنذر الله اليهود في آيات كثيرة في سور سبق تفسيرها بخزي ونكال وذل وعذاب في الدنيا وتحقق فضلا عما سوف ينالونه من عذاب في الآخرة.
ولقد أدار المفسرون الكلام على الآيتين على اعتبار أنهما شاملتا التلقين للمسلمين أيضا، وأوردوا في صدد ذلك بعض الأحاديث. وهذا سديد يلهمه إطلاق العبارة فيهما أولا وكون المسلمين قد صاروا بالقرآن من الذين أوتوا الكتاب بالمعنى العام ثانيا. فضلا عن أن كل ما فيه تلقين أخلاقي واجتماعي في القرآن بالنسبة للسابقين يصح أن يكون فيه مثل ذلك للمسلمين مما ذكرناه في مناسبات كثيرة ومماثلة.
ولقد احتوت كل من الآيتين أمرين من ذلك ففي الأولى :
أولا : نعي على نبذ الميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب ببيان ما فيه وعدم كتمانه.
وثانيا : نعي على إساءتهم واستعماله فيما يعود عليه بالمنافع العاجلة والأغراض الخسيسة.
وفي الثانية :
أولا النعي على الذين يزهون ويتبجحون بما يأتونه.
وثانيا : نعي على الذين يحبون أن ينالوا الحمد على شيء لم يفعلوه.
والتلقين يدور في نطاق سلبي ونطاق إيجابي معا، من حيث إنه يشنع على ما تعنى عليه الآيتان من أفعال وأخلاق ويستنكرها من جهة ويلزم الذين أوتوا الكتاب ببيان ما أوتوه والالتزام به قولا وعملا من جهة أخرى.
والمتبادر أن جملة ﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ﴾ تعبير أسلوبي بمعنى أن الذين أوتوا الكتاب صاروا تلقائيا ملزمين ببيان ما فيه للناس وعدم كتمانه ثم العمل به. وقد يزيد هذا من عظم مسؤوليتهم وخطورة تصرفهم ومواقفهم سلبا وإيجابا.
ولقد روى الخزان قولا لأبي هريرة جاء فيه :" لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء. ثم تلا الآية ". كما روي عن الحسن بن عمارة قال :" أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه. فقلت : أريد أن تحدثني. فقال : أما علمت أني تركت الحديث. فقلت : إما أن تحدثني، وإما أن أحدثك. فقال حدثني فقلت : حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال : سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول :﴿ ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال : فحدثني أربعين حديثا ". وفي هذا التساوق مع ما قررناه المتبادر من الجملة. وفيه تفسير لجملة { أُوتُواْ الْكِتَابَ ﴾ بمعنى ( أوتوا العلم ) أيضا، وهو تفسير سديد مؤيد بما جاء في القرآن من ترادف بين الكلمتين في آيات كثيرة. منها ما ورد في سور سبق تفسيرها. ويسوغ القول : إن الذين أوتوا العلم إطلاقا يخاطبون بما في الآيات من تلقينات إيجابية وسلبية. ويكون فيها والحالة هذه تلقينات متصلة بآداب العلم والعلماء وواجباتهم وسلوكهم شخصيا واجتماعيا وخلقيا وعلميا والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض أحادث نبوية فيها ما يفيد أن هذا المفسر قد أخذ بذلك التفسير، واعتبر ما في الآيات تلقينات شاملة للعلماء وآدابهم وواجباتهم وسلوكهم، وهو متسق مع ما قلناه آنفا. من ذلك حديث قال : إنه مروي بطرق عديدة. وقد رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص :" من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " ٢.
ولقد تطرق رشيد رضا في سياق تفسير الآية [ ١٨٧ ] إلى تزلف العلماء لأصحاب السلطان ومداهنتهم لهم. وما في ذلك من تورط في الارتكاس في ما نصت عليه الآية. وأورد بعض الأحاديث منها حديث عن أنس نعته بالمشهور. وقال : رواه العقيلي في المصنف والحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم فالحلية وقال السيوطي : إن له شواهد فوق الأربعين، والراجح أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء فيه :" العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم٣. وحديث عن ابن عباس عن النبي قال نقلا عن السيوطي : إنه رواه ابن ماجه بسند رواته ثقات جاء فيه :" إن أنسا من أمتي يتفقهون في الدين ويقرأون القرآن ويقولون : نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بدنيا ولا يكون ذلك. كما لا يجتني من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يجتني من قربهم إلا الخطايا ". وحديث رواه معاذ بن جبل وأخرجه الحاكم جاء فيه :" إذا قرأ الرجل القرآن وتفقه في الدين ثم أتى باب السلطان تملقا إليه وطمعا بما في يده خاض بقدر خطاه في نار جهنم " وحديث رواه الديليمي جاء فيه :" سيكون في آخر الزمان علماء يرغبون الناس في الآخرة ولا يرغبون، ويزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينهون عن غشيان الأمراء ولا ينتهون ".
وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. ولكن ما فيها من حيث الموضوع لا يخلو من الحق والسداد. ومع ذلك فإن الموضوع يتحمل شيئا من البيان. فالعلماء طائفة مهمة من المسلمين، عليها واجبات ولها حقوق عامة وخاصة، ولا بد لها بسبيل ذلك من الاتصال بأصحاب السلطان. فالمتبادر أن المكروه الذي يقع تحت طائلة نهي الآية والأحاديث هو إعانة العالم للسلطان الجائر الشاذ المنحرف. وإقراره على جوره وشذوذه وانحرافه ومداهنته ومخالطته وغشيانه رغم ذلك ابتغاء منافع الدنيا الخسيسة. وهناك حديث صحيح يرويه رشيد رضا في السياق وموجه إلى المسلمين جميعهم وليس إلى علمائهم يصح أن يكون ضابطا وقد رواه النسائي والترمذي عن كعب بن مجرة فقال :" خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن تسعة فقال : إنه ستكون بعدي أمراء من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض ".
هذا، ومن الحق أن ينبه على أن ما ذكره رشيد رضا من تزلف العلماء ومداهنتهم للسلطان بسبيل المنافع والوجاهات الدنيوية على حساب كلمة الحق والموقف الحق ليس إلا صورة من صور ما يمكن أن يكون منطويا في جملة ﴿ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ( ١٨٧ ) ﴾ وإن كانت أشدها خطورة حيث يمكن أن يكون من صورها استغفال بسطاء المسلمين وتحريف أحكام كتاب الله وسنة رسوله أو تأويلهما أو تطبيقهما تطبيقا غير صحيح بقصد إعطاء الرفض والفتاوى للناس في مختلف شؤون الدنيا والدين وبسبيل نيل المنافع والوجاهات. والله تعالى أعلم.
في هذه الآيات :
١ ـ تقرير بأن الله قد أخذ عهدا من أهل الكتاب بأن يبينوا للناس ما في كتبهم، ولا يكتموا منه شيئا فنبذوا عهد الله وكتبه وراء ظهورهم وباعوها بثمن بخس فبئس ما شروه بها.
٢ ـ وخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم والسامعين بالتبعية بأن لا يظن أحد منهم أن الذين يزهون بما ينسبونه إلى أنفسهم من صفات ومزاعم، ويحبون أن يحمدهم الناس ويمدحوهم ويوقروهم على ما لم يتحقق فيهم من صفات، وما لم يصدر منهم من أقوال وأفعال تستوجب الحمد والمدح والتوقير يمكن أن ينجوا من عذاب الله. فإنهم سوف يلقون عذابه الأليم من دون ريب. فهو مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما والقدير على كل شيء فلا يعجزه هؤلاء ولا تنطلي عليه أباطيلهم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ( ١٨٧ ) ﴾.
والآيتين التاليتين لها
في فصل التفسير من صحيح البخاري روايتان في صدد ومناسبة الآيتين [ ١٨٧ و ١٨٨ ] جاء في أولاهما عن أبي سعيد :" أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت ". وجاء في ثانيتهما عن ابن عباس :" أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، وأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ الآيتين [ ١٨٧ و ١٨٨ ]. ١
وهناك روايات أخرى عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم لم ترد في الصحاح. منها ما يذكر أن الآية [ ١٨٧ ] نزلت في حق اليهود والنصارى، أو في حق اليهود خاصة لكتمانهم صفات رسول الله الواردة في كتبهم وما يذكر أن الآية الثانية نزلت في فريق من اليهود قالوا للنبي : إنهم يؤمنون به كذبا وخداعا.
وفي الحديث البخاري تعارض حيث يبدو من حديث أبي سعيد أن الآية [ ١٨٧ ] نزلت في غير ما نزلت فيه الآيتان حسب حديث ابن عباس. والذي يتبادر لنا أن الحديثين والروايات هي من قبيل التخمين والتطبيق وأن الآية الأولى هي بمثابة تمهيد للثانية. وهما منسجمتان وتبدوان وحدة كاملة. وأنهما إلى هذا غير منقطعتين عن الآيات السابقة. وفيهما استمرار على التنديد باليهود الذين هم موضوع الحديث. مع القول إنه قد يكون حدت حادث أو موقف من نوع ما ذكر في الحديث ابن عباس والروايات قبل نزول الآيات. أما الآية الثالثة فقد جاءت لتقرير قدرة الله تعالى على تحقيق ما وعد به من عذاب الذين يكتمون كتابه ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
ولقد قال الطبري : إن إطلاق العذاب يحتمل أن يكون العذاب المنذر به دنيويا وأخريا معا. ولا يخلو هذا من وجاهة، ولقد أنذر الله اليهود في آيات كثيرة في سور سبق تفسيرها بخزي ونكال وذل وعذاب في الدنيا وتحقق فضلا عما سوف ينالونه من عذاب في الآخرة.
ولقد أدار المفسرون الكلام على الآيتين على اعتبار أنهما شاملتا التلقين للمسلمين أيضا، وأوردوا في صدد ذلك بعض الأحاديث. وهذا سديد يلهمه إطلاق العبارة فيهما أولا وكون المسلمين قد صاروا بالقرآن من الذين أوتوا الكتاب بالمعنى العام ثانيا. فضلا عن أن كل ما فيه تلقين أخلاقي واجتماعي في القرآن بالنسبة للسابقين يصح أن يكون فيه مثل ذلك للمسلمين مما ذكرناه في مناسبات كثيرة ومماثلة.
ولقد احتوت كل من الآيتين أمرين من ذلك ففي الأولى :
أولا : نعي على نبذ الميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب ببيان ما فيه وعدم كتمانه.
وثانيا : نعي على إساءتهم واستعماله فيما يعود عليه بالمنافع العاجلة والأغراض الخسيسة.
وفي الثانية :
أولا النعي على الذين يزهون ويتبجحون بما يأتونه.
وثانيا : نعي على الذين يحبون أن ينالوا الحمد على شيء لم يفعلوه.
والتلقين يدور في نطاق سلبي ونطاق إيجابي معا، من حيث إنه يشنع على ما تعنى عليه الآيتان من أفعال وأخلاق ويستنكرها من جهة ويلزم الذين أوتوا الكتاب ببيان ما أوتوه والالتزام به قولا وعملا من جهة أخرى.
والمتبادر أن جملة ﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ﴾ تعبير أسلوبي بمعنى أن الذين أوتوا الكتاب صاروا تلقائيا ملزمين ببيان ما فيه للناس وعدم كتمانه ثم العمل به. وقد يزيد هذا من عظم مسؤوليتهم وخطورة تصرفهم ومواقفهم سلبا وإيجابا.
ولقد روى الخزان قولا لأبي هريرة جاء فيه :" لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء. ثم تلا الآية ". كما روي عن الحسن بن عمارة قال :" أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه. فقلت : أريد أن تحدثني. فقال : أما علمت أني تركت الحديث. فقلت : إما أن تحدثني، وإما أن أحدثك. فقال حدثني فقلت : حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال : سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول :﴿ ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال : فحدثني أربعين حديثا ". وفي هذا التساوق مع ما قررناه المتبادر من الجملة. وفيه تفسير لجملة { أُوتُواْ الْكِتَابَ ﴾ بمعنى ( أوتوا العلم ) أيضا، وهو تفسير سديد مؤيد بما جاء في القرآن من ترادف بين الكلمتين في آيات كثيرة. منها ما ورد في سور سبق تفسيرها. ويسوغ القول : إن الذين أوتوا العلم إطلاقا يخاطبون بما في الآيات من تلقينات إيجابية وسلبية. ويكون فيها والحالة هذه تلقينات متصلة بآداب العلم والعلماء وواجباتهم وسلوكهم شخصيا واجتماعيا وخلقيا وعلميا والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض أحادث نبوية فيها ما يفيد أن هذا المفسر قد أخذ بذلك التفسير، واعتبر ما في الآيات تلقينات شاملة للعلماء وآدابهم وواجباتهم وسلوكهم، وهو متسق مع ما قلناه آنفا. من ذلك حديث قال : إنه مروي بطرق عديدة. وقد رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص :" من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " ٢.
ولقد تطرق رشيد رضا في سياق تفسير الآية [ ١٨٧ ] إلى تزلف العلماء لأصحاب السلطان ومداهنتهم لهم. وما في ذلك من تورط في الارتكاس في ما نصت عليه الآية. وأورد بعض الأحاديث منها حديث عن أنس نعته بالمشهور. وقال : رواه العقيلي في المصنف والحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم فالحلية وقال السيوطي : إن له شواهد فوق الأربعين، والراجح أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء فيه :" العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم٣. وحديث عن ابن عباس عن النبي قال نقلا عن السيوطي : إنه رواه ابن ماجه بسند رواته ثقات جاء فيه :" إن أنسا من أمتي يتفقهون في الدين ويقرأون القرآن ويقولون : نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بدنيا ولا يكون ذلك. كما لا يجتني من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يجتني من قربهم إلا الخطايا ". وحديث رواه معاذ بن جبل وأخرجه الحاكم جاء فيه :" إذا قرأ الرجل القرآن وتفقه في الدين ثم أتى باب السلطان تملقا إليه وطمعا بما في يده خاض بقدر خطاه في نار جهنم " وحديث رواه الديليمي جاء فيه :" سيكون في آخر الزمان علماء يرغبون الناس في الآخرة ولا يرغبون، ويزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينهون عن غشيان الأمراء ولا ينتهون ".
وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. ولكن ما فيها من حيث الموضوع لا يخلو من الحق والسداد. ومع ذلك فإن الموضوع يتحمل شيئا من البيان. فالعلماء طائفة مهمة من المسلمين، عليها واجبات ولها حقوق عامة وخاصة، ولا بد لها بسبيل ذلك من الاتصال بأصحاب السلطان. فالمتبادر أن المكروه الذي يقع تحت طائلة نهي الآية والأحاديث هو إعانة العالم للسلطان الجائر الشاذ المنحرف. وإقراره على جوره وشذوذه وانحرافه ومداهنته ومخالطته وغشيانه رغم ذلك ابتغاء منافع الدنيا الخسيسة. وهناك حديث صحيح يرويه رشيد رضا في السياق وموجه إلى المسلمين جميعهم وليس إلى علمائهم يصح أن يكون ضابطا وقد رواه النسائي والترمذي عن كعب بن مجرة فقال :" خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن تسعة فقال : إنه ستكون بعدي أمراء من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض ".
هذا، ومن الحق أن ينبه على أن ما ذكره رشيد رضا من تزلف العلماء ومداهنتهم للسلطان بسبيل المنافع والوجاهات الدنيوية على حساب كلمة الحق والموقف الحق ليس إلا صورة من صور ما يمكن أن يكون منطويا في جملة ﴿ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ( ١٨٧ ) ﴾ وإن كانت أشدها خطورة حيث يمكن أن يكون من صورها استغفال بسطاء المسلمين وتحريف أحكام كتاب الله وسنة رسوله أو تأويلهما أو تطبيقهما تطبيقا غير صحيح بقصد إعطاء الرفض والفتاوى للناس في مختلف شؤون الدنيا والدين وبسبيل نيل المنافع والوجاهات. والله تعالى أعلم.
في الآية الأولى تنبيه تمهيدي على ما في خلق السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار من الآيات الدالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه تدعو ذوي العقول الراجحة إلى التفكير والتدبر. وفي الآيات الأربع التالية حكاية مناجاة رائعة تنطوي على التنويه على لسان الفئة الراجحة العقل الطاهرة القلب المسلمة النفس المخلصة في الإنابة إلى الله تعالى التي تذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبها وتتفكر في خلق السموات والأرض وتهتف إلى ربها مقررة أنه لا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون العظيم باطلا وعبثا وبدون غاية وحكمة. وتلتمس منه أن يقيها عذاب النار الذي يكون الخزي نصيب من يدخله فيها، وتقرر أنها قد سمعت المنادي الذي يدعو إلى الإيمان به فآمنت وأسلمت النفس إليه. وتطلب منه أن يغفر لها ذنوبها ويتجاوز عن سيئتها ويجعلها من جملة الأبرار ويحشرها معهم ويمنحها ما وعدها إياه يوم القيامة الذي لن يكون فيه أنصار للظالمين. وتعلن يقينها بأن الله عز وجل لا يمكن أن يخلف وعده لمن آمن به وأسلم النفس إليه.
وفي الآية الأخيرة جواب رباني على هذه المناجاة متسق معها في الروعة ومن شأنه بعث الطمأنينة والسكنية في نفوس أصحابها ؛ حيث أعلنهم به أن الله قد استجاب دعاءهم، وأنه لن يضيع عملا صالحا عمله أحد منهم ذكرا كان أم أثنى فهم سواء في ذلك وبعضهم من البعض بعض وأنه سوف يتجاوز عن سيئات الذين هاجروا من أنفسهم أو أجبروا على الخروج والذين أوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا وأنه سوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار ثوابا وجزاء على إخلاصهم وتضحياتهم وهو الذي عنده حسن الجزاء لكل من يعمل صالحا.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب( ١٩٠ ) ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١٩٥ ]
في كتب التفسير روايتان في صدد هذه الآيات. واحدة عن ابن عباس جاء فيها١ أن قريشا سألوا اليهود : بم جاءكم موسى ؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين. وسألوا النصارى : بم جاءكم عيسى ؟ قالوا : كان يبرئ لنا الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي فقالوا له : ادعوا الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فأنزل الله الآية الأولى ليتفكروا في خلق السموات والأرض. وثانية عن أم سلمة٢ أنها سألت رسول الله ما بال القرآن يذكر الرجال بالهجرة ولا يذكر النساء فنزلت الآية الأخيرة. والرواية الأولى لم ترد في الصحاح. وقد استغربها ابن كثير الذي رواها ونبه على ذلك بقوله : إن الآية مدنية. أما الرواية الثانية فهي محتملة وقد رواها الترمذي كما أشرنا آنفا مع التنبيه على أن المتبادر أن الآيات وحدة تامة منسجمة. فإذا صحت فيكون سؤال أم سلمة سابقا لنزولها فاقتضت حكمة التنزيل ذكر المؤمنين بجنسيهم في الجواب استجابة لتساؤل المؤمنات بلسان أم المؤمنين والله أعلم.
والمتبادر كذلك أن الآيات ليست منقطعة عن السياق السابق مهما بدت فصلا جديدا وبخاصة عن الآيات التي جاءت قبل موضوع اليهود، بل ولعلها متصلة بموقف اليهود والمشركين الذين ذكروا معا في آية سابقة ليكون فيها مقارنة بين هؤلاء وبين المؤمنين المخلصين.
والآيات من روائع الفصول القرآنية ومن أقوالها تأثيرا في النفس وبعثا على الخشوع والهيبة وتوجيها إلى الله. وقد روي من طرق عديدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يتلوها في جنح الليل والأسحار، ويبكي خشوعا كلما تلاها٣. وفي فصل التفسير في صحيح البخاري حديث عن ابن عباس في سياق هذه الآيات جاء فيه :" بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء، فتلا الآيات ثم قام فتوضأ واستن وصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح٤ ". وروى ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه جاء فيه :" أن عبد الله بن عمر سأل عائشة أم المؤمنين عن أعجب ما رأته من النبي صلى الله عليه وسلم فبكت ثم قالت : كل أمره كان عجبا، أتأتي في ليلتي حتى دخل معي في فراشي ولصق جلده بجلدي ثم قال : يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي. قلت : لأحب قربك وأحب هواك. فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء، ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حقويه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلعت حجره. ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، وما لي لا أبكي وقد نزل علي الليلة ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ( ١٩٠ ) ﴾ إلى آخر الآيات، ثم قال : ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها ". وروى ابن كثير عن أبي هريرة حديثا آخر جاء فيه :" إن رسول الله كان يقرأ هذه الآية كل ليلة ".
والحديثان الأخيران لم يردا في الصحاح. ونتوقف إزاء ما جاء في الأول بخاصة من سيلان دموع النبي حتى تبلغ حقويه ثم حجره ثم الأرض. ومهما يكن من أمر ففي الأحاديث صورة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة ربه وشكره وبخاصة في الليل، وهو ما كان أمر به في أول رسالته على ما جاء في الآيات الأولى من سورة المزمل.
ومع أن الآيات قد عنت الفئة المخلصة التي هاجرت وأوذيت وقاتلت في سبيل الله وتحملت التضحيات في عهد النبي، فإن في أسلوبها معنى التعميم والشمول كما هو المتبادر، كما أن روحها ينطوي على معنى الدعوة إلى التأسي بتلك الفئة والتحقق بما كانت عليه وما اضطلعت به ولنيل الدرجة العليا التي نالتها.
ومهما تكن رواية أم سلمة في صدد الآية الأخيرة صحيحة، فإن الأسلوب الذي جاءت عليه هذه الآيات جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على تسجيل كون تلك الفئة المخلصة المستغرقة في الله ونصر دينه والمتحملة للتضحيات من أصحاب رسول الله الأولين السابقين بالهجرة والإخراج والأذى والقتل والقتال مزيجة من الرجال والنساء معا، وكون الجنسين متضامنين تضامنا وثيقا في ذلك كله. وكون الجنسين سواء في موضوع الخطاب والمناجاة والتنويه والعمل والثواب والتضحية والأذى والقتل والقتال والهجرة والإخراج وفي تقرير الأهلية لذلك كله. ولعل قرن المرأة بالرجل في هذا المقام وبهذا الأسلوب من أقوى مؤيدات مساواتهما في الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات العامة، ومن أقوى مؤيدات أهلية المرأة في نظر الشريعة لكل واجب عام.
ولقد قرن المؤمنات بالمؤمنين في آية من سورة البروج في معرض تسجيل ما تعرض له المؤمنون من الجنسين من فتنة وأذى. ولقد قرنت الأنثى بالذكر في مواضع عديدة من القرآن المكي بأسلوب يفيد أنهما شيء واحد وأنهما متساويان في تكليف وما يترتب عليه من نتائج في الدنيا والآخرة. وفي السور المدينة التي تأتي بعد هذه السورة آيات كثيرة ذكر فيها الجنسان معا بأساليب قوية رائعة فيها توكيد للمعنى المنطوي في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث يتساوق في ذلك القرآن المكي والمدني معا.
ولقد تحفظ بعض المفسرين والفقهاء في صدد مساواة المرأة بالرجل في الدين والعقل والمركز الدنيوي استنادا إلى بعض الآيات والآثار. ولقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآية [ ١٣ ] من سورة البقرة وقبلها في سياق آيات مكية أخرى وبخاصة آية سورة الروم [ ٢٣ ] فلا نرى محلا للإعادة والزيادة.
ولقد روى ابن كثير عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت : إن آخر آية نزلت هي الآية [ ١٩٥ ]وليس هذا الحديث من الصحاح. والآية جزء غير منفصل من سلسلة. فالتوقف فيه أولى.
ولقد وقف بعض المفسرين٥ عند جملة ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ﴾ ولمحوا فيها تجويزا للصلاة في هذه الحالة وأوردوا حديثا عن عمران بن الحصين رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :" صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب " ٦.
والحديث يبنى على سؤال من الحصين بسبب بواسير كانت فيه. وظاهر أنه صدر للترخيص لمعذور وليس له صلة بالآية التي نحن في صددها والتي هي في صدد التنويه بالفئة المخلصة التي تذكر الله في كل حالاتها. والصلاة هي صورة من صور ذكر الله وليست كل صوره.
في الآية الأولى تنبيه تمهيدي على ما في خلق السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار من الآيات الدالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه تدعو ذوي العقول الراجحة إلى التفكير والتدبر. وفي الآيات الأربع التالية حكاية مناجاة رائعة تنطوي على التنويه على لسان الفئة الراجحة العقل الطاهرة القلب المسلمة النفس المخلصة في الإنابة إلى الله تعالى التي تذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبها وتتفكر في خلق السموات والأرض وتهتف إلى ربها مقررة أنه لا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون العظيم باطلا وعبثا وبدون غاية وحكمة. وتلتمس منه أن يقيها عذاب النار الذي يكون الخزي نصيب من يدخله فيها، وتقرر أنها قد سمعت المنادي الذي يدعو إلى الإيمان به فآمنت وأسلمت النفس إليه. وتطلب منه أن يغفر لها ذنوبها ويتجاوز عن سيئتها ويجعلها من جملة الأبرار ويحشرها معهم ويمنحها ما وعدها إياه يوم القيامة الذي لن يكون فيه أنصار للظالمين. وتعلن يقينها بأن الله عز وجل لا يمكن أن يخلف وعده لمن آمن به وأسلم النفس إليه.
وفي الآية الأخيرة جواب رباني على هذه المناجاة متسق معها في الروعة ومن شأنه بعث الطمأنينة والسكنية في نفوس أصحابها ؛ حيث أعلنهم به أن الله قد استجاب دعاءهم، وأنه لن يضيع عملا صالحا عمله أحد منهم ذكرا كان أم أثنى فهم سواء في ذلك وبعضهم من البعض بعض وأنه سوف يتجاوز عن سيئات الذين هاجروا من أنفسهم أو أجبروا على الخروج والذين أوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا وأنه سوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار ثوابا وجزاء على إخلاصهم وتضحياتهم وهو الذي عنده حسن الجزاء لكل من يعمل صالحا.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب( ١٩٠ ) ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١٩٥ ]
في كتب التفسير روايتان في صدد هذه الآيات. واحدة عن ابن عباس جاء فيها١ أن قريشا سألوا اليهود : بم جاءكم موسى ؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين. وسألوا النصارى : بم جاءكم عيسى ؟ قالوا : كان يبرئ لنا الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي فقالوا له : ادعوا الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فأنزل الله الآية الأولى ليتفكروا في خلق السموات والأرض. وثانية عن أم سلمة٢ أنها سألت رسول الله ما بال القرآن يذكر الرجال بالهجرة ولا يذكر النساء فنزلت الآية الأخيرة. والرواية الأولى لم ترد في الصحاح. وقد استغربها ابن كثير الذي رواها ونبه على ذلك بقوله : إن الآية مدنية. أما الرواية الثانية فهي محتملة وقد رواها الترمذي كما أشرنا آنفا مع التنبيه على أن المتبادر أن الآيات وحدة تامة منسجمة. فإذا صحت فيكون سؤال أم سلمة سابقا لنزولها فاقتضت حكمة التنزيل ذكر المؤمنين بجنسيهم في الجواب استجابة لتساؤل المؤمنات بلسان أم المؤمنين والله أعلم.
والمتبادر كذلك أن الآيات ليست منقطعة عن السياق السابق مهما بدت فصلا جديدا وبخاصة عن الآيات التي جاءت قبل موضوع اليهود، بل ولعلها متصلة بموقف اليهود والمشركين الذين ذكروا معا في آية سابقة ليكون فيها مقارنة بين هؤلاء وبين المؤمنين المخلصين.
والآيات من روائع الفصول القرآنية ومن أقوالها تأثيرا في النفس وبعثا على الخشوع والهيبة وتوجيها إلى الله. وقد روي من طرق عديدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يتلوها في جنح الليل والأسحار، ويبكي خشوعا كلما تلاها٣. وفي فصل التفسير في صحيح البخاري حديث عن ابن عباس في سياق هذه الآيات جاء فيه :" بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء، فتلا الآيات ثم قام فتوضأ واستن وصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح٤ ". وروى ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه جاء فيه :" أن عبد الله بن عمر سأل عائشة أم المؤمنين عن أعجب ما رأته من النبي صلى الله عليه وسلم فبكت ثم قالت : كل أمره كان عجبا، أتأتي في ليلتي حتى دخل معي في فراشي ولصق جلده بجلدي ثم قال : يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي. قلت : لأحب قربك وأحب هواك. فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء، ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حقويه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلعت حجره. ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، وما لي لا أبكي وقد نزل علي الليلة ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ( ١٩٠ ) ﴾ إلى آخر الآيات، ثم قال : ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها ". وروى ابن كثير عن أبي هريرة حديثا آخر جاء فيه :" إن رسول الله كان يقرأ هذه الآية كل ليلة ".
والحديثان الأخيران لم يردا في الصحاح. ونتوقف إزاء ما جاء في الأول بخاصة من سيلان دموع النبي حتى تبلغ حقويه ثم حجره ثم الأرض. ومهما يكن من أمر ففي الأحاديث صورة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة ربه وشكره وبخاصة في الليل، وهو ما كان أمر به في أول رسالته على ما جاء في الآيات الأولى من سورة المزمل.
ومع أن الآيات قد عنت الفئة المخلصة التي هاجرت وأوذيت وقاتلت في سبيل الله وتحملت التضحيات في عهد النبي، فإن في أسلوبها معنى التعميم والشمول كما هو المتبادر، كما أن روحها ينطوي على معنى الدعوة إلى التأسي بتلك الفئة والتحقق بما كانت عليه وما اضطلعت به ولنيل الدرجة العليا التي نالتها.
ومهما تكن رواية أم سلمة في صدد الآية الأخيرة صحيحة، فإن الأسلوب الذي جاءت عليه هذه الآيات جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على تسجيل كون تلك الفئة المخلصة المستغرقة في الله ونصر دينه والمتحملة للتضحيات من أصحاب رسول الله الأولين السابقين بالهجرة والإخراج والأذى والقتل والقتال مزيجة من الرجال والنساء معا، وكون الجنسين متضامنين تضامنا وثيقا في ذلك كله. وكون الجنسين سواء في موضوع الخطاب والمناجاة والتنويه والعمل والثواب والتضحية والأذى والقتل والقتال والهجرة والإخراج وفي تقرير الأهلية لذلك كله. ولعل قرن المرأة بالرجل في هذا المقام وبهذا الأسلوب من أقوى مؤيدات مساواتهما في الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات العامة، ومن أقوى مؤيدات أهلية المرأة في نظر الشريعة لكل واجب عام.
ولقد قرن المؤمنات بالمؤمنين في آية من سورة البروج في معرض تسجيل ما تعرض له المؤمنون من الجنسين من فتنة وأذى. ولقد قرنت الأنثى بالذكر في مواضع عديدة من القرآن المكي بأسلوب يفيد أنهما شيء واحد وأنهما متساويان في تكليف وما يترتب عليه من نتائج في الدنيا والآخرة. وفي السور المدينة التي تأتي بعد هذه السورة آيات كثيرة ذكر فيها الجنسان معا بأساليب قوية رائعة فيها توكيد للمعنى المنطوي في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث يتساوق في ذلك القرآن المكي والمدني معا.
ولقد تحفظ بعض المفسرين والفقهاء في صدد مساواة المرأة بالرجل في الدين والعقل والمركز الدنيوي استنادا إلى بعض الآيات والآثار. ولقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآية [ ١٣ ] من سورة البقرة وقبلها في سياق آيات مكية أخرى وبخاصة آية سورة الروم [ ٢٣ ] فلا نرى محلا للإعادة والزيادة.
ولقد روى ابن كثير عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت : إن آخر آية نزلت هي الآية [ ١٩٥ ]وليس هذا الحديث من الصحاح. والآية جزء غير منفصل من سلسلة. فالتوقف فيه أولى.
ولقد وقف بعض المفسرين٥ عند جملة ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ﴾ ولمحوا فيها تجويزا للصلاة في هذه الحالة وأوردوا حديثا عن عمران بن الحصين رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :" صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب " ٦.
والحديث يبنى على سؤال من الحصين بسبب بواسير كانت فيه. وظاهر أنه صدر للترخيص لمعذور وليس له صلة بالآية التي نحن في صددها والتي هي في صدد التنويه بالفئة المخلصة التي تذكر الله في كل حالاتها. والصلاة هي صورة من صور ذكر الله وليست كل صوره.
في الآية الأولى تنبيه تمهيدي على ما في خلق السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار من الآيات الدالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه تدعو ذوي العقول الراجحة إلى التفكير والتدبر. وفي الآيات الأربع التالية حكاية مناجاة رائعة تنطوي على التنويه على لسان الفئة الراجحة العقل الطاهرة القلب المسلمة النفس المخلصة في الإنابة إلى الله تعالى التي تذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبها وتتفكر في خلق السموات والأرض وتهتف إلى ربها مقررة أنه لا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون العظيم باطلا وعبثا وبدون غاية وحكمة. وتلتمس منه أن يقيها عذاب النار الذي يكون الخزي نصيب من يدخله فيها، وتقرر أنها قد سمعت المنادي الذي يدعو إلى الإيمان به فآمنت وأسلمت النفس إليه. وتطلب منه أن يغفر لها ذنوبها ويتجاوز عن سيئتها ويجعلها من جملة الأبرار ويحشرها معهم ويمنحها ما وعدها إياه يوم القيامة الذي لن يكون فيه أنصار للظالمين. وتعلن يقينها بأن الله عز وجل لا يمكن أن يخلف وعده لمن آمن به وأسلم النفس إليه.
وفي الآية الأخيرة جواب رباني على هذه المناجاة متسق معها في الروعة ومن شأنه بعث الطمأنينة والسكنية في نفوس أصحابها ؛ حيث أعلنهم به أن الله قد استجاب دعاءهم، وأنه لن يضيع عملا صالحا عمله أحد منهم ذكرا كان أم أثنى فهم سواء في ذلك وبعضهم من البعض بعض وأنه سوف يتجاوز عن سيئات الذين هاجروا من أنفسهم أو أجبروا على الخروج والذين أوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا وأنه سوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار ثوابا وجزاء على إخلاصهم وتضحياتهم وهو الذي عنده حسن الجزاء لكل من يعمل صالحا.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب( ١٩٠ ) ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١٩٥ ]
في كتب التفسير روايتان في صدد هذه الآيات. واحدة عن ابن عباس جاء فيها١ أن قريشا سألوا اليهود : بم جاءكم موسى ؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين. وسألوا النصارى : بم جاءكم عيسى ؟ قالوا : كان يبرئ لنا الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي فقالوا له : ادعوا الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فأنزل الله الآية الأولى ليتفكروا في خلق السموات والأرض. وثانية عن أم سلمة٢ أنها سألت رسول الله ما بال القرآن يذكر الرجال بالهجرة ولا يذكر النساء فنزلت الآية الأخيرة. والرواية الأولى لم ترد في الصحاح. وقد استغربها ابن كثير الذي رواها ونبه على ذلك بقوله : إن الآية مدنية. أما الرواية الثانية فهي محتملة وقد رواها الترمذي كما أشرنا آنفا مع التنبيه على أن المتبادر أن الآيات وحدة تامة منسجمة. فإذا صحت فيكون سؤال أم سلمة سابقا لنزولها فاقتضت حكمة التنزيل ذكر المؤمنين بجنسيهم في الجواب استجابة لتساؤل المؤمنات بلسان أم المؤمنين والله أعلم.
والمتبادر كذلك أن الآيات ليست منقطعة عن السياق السابق مهما بدت فصلا جديدا وبخاصة عن الآيات التي جاءت قبل موضوع اليهود، بل ولعلها متصلة بموقف اليهود والمشركين الذين ذكروا معا في آية سابقة ليكون فيها مقارنة بين هؤلاء وبين المؤمنين المخلصين.
والآيات من روائع الفصول القرآنية ومن أقوالها تأثيرا في النفس وبعثا على الخشوع والهيبة وتوجيها إلى الله. وقد روي من طرق عديدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يتلوها في جنح الليل والأسحار، ويبكي خشوعا كلما تلاها٣. وفي فصل التفسير في صحيح البخاري حديث عن ابن عباس في سياق هذه الآيات جاء فيه :" بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء، فتلا الآيات ثم قام فتوضأ واستن وصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح٤ ". وروى ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه جاء فيه :" أن عبد الله بن عمر سأل عائشة أم المؤمنين عن أعجب ما رأته من النبي صلى الله عليه وسلم فبكت ثم قالت : كل أمره كان عجبا، أتأتي في ليلتي حتى دخل معي في فراشي ولصق جلده بجلدي ثم قال : يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي. قلت : لأحب قربك وأحب هواك. فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء، ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حقويه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلعت حجره. ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، وما لي لا أبكي وقد نزل علي الليلة ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ( ١٩٠ ) ﴾ إلى آخر الآيات، ثم قال : ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها ". وروى ابن كثير عن أبي هريرة حديثا آخر جاء فيه :" إن رسول الله كان يقرأ هذه الآية كل ليلة ".
والحديثان الأخيران لم يردا في الصحاح. ونتوقف إزاء ما جاء في الأول بخاصة من سيلان دموع النبي حتى تبلغ حقويه ثم حجره ثم الأرض. ومهما يكن من أمر ففي الأحاديث صورة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة ربه وشكره وبخاصة في الليل، وهو ما كان أمر به في أول رسالته على ما جاء في الآيات الأولى من سورة المزمل.
ومع أن الآيات قد عنت الفئة المخلصة التي هاجرت وأوذيت وقاتلت في سبيل الله وتحملت التضحيات في عهد النبي، فإن في أسلوبها معنى التعميم والشمول كما هو المتبادر، كما أن روحها ينطوي على معنى الدعوة إلى التأسي بتلك الفئة والتحقق بما كانت عليه وما اضطلعت به ولنيل الدرجة العليا التي نالتها.
ومهما تكن رواية أم سلمة في صدد الآية الأخيرة صحيحة، فإن الأسلوب الذي جاءت عليه هذه الآيات جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على تسجيل كون تلك الفئة المخلصة المستغرقة في الله ونصر دينه والمتحملة للتضحيات من أصحاب رسول الله الأولين السابقين بالهجرة والإخراج والأذى والقتل والقتال مزيجة من الرجال والنساء معا، وكون الجنسين متضامنين تضامنا وثيقا في ذلك كله. وكون الجنسين سواء في موضوع الخطاب والمناجاة والتنويه والعمل والثواب والتضحية والأذى والقتل والقتال والهجرة والإخراج وفي تقرير الأهلية لذلك كله. ولعل قرن المرأة بالرجل في هذا المقام وبهذا الأسلوب من أقوى مؤيدات مساواتهما في الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات العامة، ومن أقوى مؤيدات أهلية المرأة في نظر الشريعة لكل واجب عام.
ولقد قرن المؤمنات بالمؤمنين في آية من سورة البروج في معرض تسجيل ما تعرض له المؤمنون من الجنسين من فتنة وأذى. ولقد قرنت الأنثى بالذكر في مواضع عديدة من القرآن المكي بأسلوب يفيد أنهما شيء واحد وأنهما متساويان في تكليف وما يترتب عليه من نتائج في الدنيا والآخرة. وفي السور المدينة التي تأتي بعد هذه السورة آيات كثيرة ذكر فيها الجنسان معا بأساليب قوية رائعة فيها توكيد للمعنى المنطوي في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث يتساوق في ذلك القرآن المكي والمدني معا.
ولقد تحفظ بعض المفسرين والفقهاء في صدد مساواة المرأة بالرجل في الدين والعقل والمركز الدنيوي استنادا إلى بعض الآيات والآثار. ولقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآية [ ١٣ ] من سورة البقرة وقبلها في سياق آيات مكية أخرى وبخاصة آية سورة الروم [ ٢٣ ] فلا نرى محلا للإعادة والزيادة.
ولقد روى ابن كثير عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت : إن آخر آية نزلت هي الآية [ ١٩٥ ]وليس هذا الحديث من الصحاح. والآية جزء غير منفصل من سلسلة. فالتوقف فيه أولى.
ولقد وقف بعض المفسرين٥ عند جملة ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ﴾ ولمحوا فيها تجويزا للصلاة في هذه الحالة وأوردوا حديثا عن عمران بن الحصين رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :" صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب " ٦.
والحديث يبنى على سؤال من الحصين بسبب بواسير كانت فيه. وظاهر أنه صدر للترخيص لمعذور وليس له صلة بالآية التي نحن في صددها والتي هي في صدد التنويه بالفئة المخلصة التي تذكر الله في كل حالاتها. والصلاة هي صورة من صور ذكر الله وليست كل صوره.
في الآية الأولى تنبيه تمهيدي على ما في خلق السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار من الآيات الدالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه تدعو ذوي العقول الراجحة إلى التفكير والتدبر. وفي الآيات الأربع التالية حكاية مناجاة رائعة تنطوي على التنويه على لسان الفئة الراجحة العقل الطاهرة القلب المسلمة النفس المخلصة في الإنابة إلى الله تعالى التي تذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبها وتتفكر في خلق السموات والأرض وتهتف إلى ربها مقررة أنه لا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون العظيم باطلا وعبثا وبدون غاية وحكمة. وتلتمس منه أن يقيها عذاب النار الذي يكون الخزي نصيب من يدخله فيها، وتقرر أنها قد سمعت المنادي الذي يدعو إلى الإيمان به فآمنت وأسلمت النفس إليه. وتطلب منه أن يغفر لها ذنوبها ويتجاوز عن سيئتها ويجعلها من جملة الأبرار ويحشرها معهم ويمنحها ما وعدها إياه يوم القيامة الذي لن يكون فيه أنصار للظالمين. وتعلن يقينها بأن الله عز وجل لا يمكن أن يخلف وعده لمن آمن به وأسلم النفس إليه.
وفي الآية الأخيرة جواب رباني على هذه المناجاة متسق معها في الروعة ومن شأنه بعث الطمأنينة والسكنية في نفوس أصحابها ؛ حيث أعلنهم به أن الله قد استجاب دعاءهم، وأنه لن يضيع عملا صالحا عمله أحد منهم ذكرا كان أم أثنى فهم سواء في ذلك وبعضهم من البعض بعض وأنه سوف يتجاوز عن سيئات الذين هاجروا من أنفسهم أو أجبروا على الخروج والذين أوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا وأنه سوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار ثوابا وجزاء على إخلاصهم وتضحياتهم وهو الذي عنده حسن الجزاء لكل من يعمل صالحا.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب( ١٩٠ ) ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١٩٥ ]
في كتب التفسير روايتان في صدد هذه الآيات. واحدة عن ابن عباس جاء فيها١ أن قريشا سألوا اليهود : بم جاءكم موسى ؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين. وسألوا النصارى : بم جاءكم عيسى ؟ قالوا : كان يبرئ لنا الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي فقالوا له : ادعوا الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فأنزل الله الآية الأولى ليتفكروا في خلق السموات والأرض. وثانية عن أم سلمة٢ أنها سألت رسول الله ما بال القرآن يذكر الرجال بالهجرة ولا يذكر النساء فنزلت الآية الأخيرة. والرواية الأولى لم ترد في الصحاح. وقد استغربها ابن كثير الذي رواها ونبه على ذلك بقوله : إن الآية مدنية. أما الرواية الثانية فهي محتملة وقد رواها الترمذي كما أشرنا آنفا مع التنبيه على أن المتبادر أن الآيات وحدة تامة منسجمة. فإذا صحت فيكون سؤال أم سلمة سابقا لنزولها فاقتضت حكمة التنزيل ذكر المؤمنين بجنسيهم في الجواب استجابة لتساؤل المؤمنات بلسان أم المؤمنين والله أعلم.
والمتبادر كذلك أن الآيات ليست منقطعة عن السياق السابق مهما بدت فصلا جديدا وبخاصة عن الآيات التي جاءت قبل موضوع اليهود، بل ولعلها متصلة بموقف اليهود والمشركين الذين ذكروا معا في آية سابقة ليكون فيها مقارنة بين هؤلاء وبين المؤمنين المخلصين.
والآيات من روائع الفصول القرآنية ومن أقوالها تأثيرا في النفس وبعثا على الخشوع والهيبة وتوجيها إلى الله. وقد روي من طرق عديدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يتلوها في جنح الليل والأسحار، ويبكي خشوعا كلما تلاها٣. وفي فصل التفسير في صحيح البخاري حديث عن ابن عباس في سياق هذه الآيات جاء فيه :" بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء، فتلا الآيات ثم قام فتوضأ واستن وصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح٤ ". وروى ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه جاء فيه :" أن عبد الله بن عمر سأل عائشة أم المؤمنين عن أعجب ما رأته من النبي صلى الله عليه وسلم فبكت ثم قالت : كل أمره كان عجبا، أتأتي في ليلتي حتى دخل معي في فراشي ولصق جلده بجلدي ثم قال : يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي. قلت : لأحب قربك وأحب هواك. فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء، ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حقويه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلعت حجره. ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، وما لي لا أبكي وقد نزل علي الليلة ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ( ١٩٠ ) ﴾ إلى آخر الآيات، ثم قال : ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها ". وروى ابن كثير عن أبي هريرة حديثا آخر جاء فيه :" إن رسول الله كان يقرأ هذه الآية كل ليلة ".
والحديثان الأخيران لم يردا في الصحاح. ونتوقف إزاء ما جاء في الأول بخاصة من سيلان دموع النبي حتى تبلغ حقويه ثم حجره ثم الأرض. ومهما يكن من أمر ففي الأحاديث صورة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة ربه وشكره وبخاصة في الليل، وهو ما كان أمر به في أول رسالته على ما جاء في الآيات الأولى من سورة المزمل.
ومع أن الآيات قد عنت الفئة المخلصة التي هاجرت وأوذيت وقاتلت في سبيل الله وتحملت التضحيات في عهد النبي، فإن في أسلوبها معنى التعميم والشمول كما هو المتبادر، كما أن روحها ينطوي على معنى الدعوة إلى التأسي بتلك الفئة والتحقق بما كانت عليه وما اضطلعت به ولنيل الدرجة العليا التي نالتها.
ومهما تكن رواية أم سلمة في صدد الآية الأخيرة صحيحة، فإن الأسلوب الذي جاءت عليه هذه الآيات جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على تسجيل كون تلك الفئة المخلصة المستغرقة في الله ونصر دينه والمتحملة للتضحيات من أصحاب رسول الله الأولين السابقين بالهجرة والإخراج والأذى والقتل والقتال مزيجة من الرجال والنساء معا، وكون الجنسين متضامنين تضامنا وثيقا في ذلك كله. وكون الجنسين سواء في موضوع الخطاب والمناجاة والتنويه والعمل والثواب والتضحية والأذى والقتل والقتال والهجرة والإخراج وفي تقرير الأهلية لذلك كله. ولعل قرن المرأة بالرجل في هذا المقام وبهذا الأسلوب من أقوى مؤيدات مساواتهما في الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات العامة، ومن أقوى مؤيدات أهلية المرأة في نظر الشريعة لكل واجب عام.
ولقد قرن المؤمنات بالمؤمنين في آية من سورة البروج في معرض تسجيل ما تعرض له المؤمنون من الجنسين من فتنة وأذى. ولقد قرنت الأنثى بالذكر في مواضع عديدة من القرآن المكي بأسلوب يفيد أنهما شيء واحد وأنهما متساويان في تكليف وما يترتب عليه من نتائج في الدنيا والآخرة. وفي السور المدينة التي تأتي بعد هذه السورة آيات كثيرة ذكر فيها الجنسان معا بأساليب قوية رائعة فيها توكيد للمعنى المنطوي في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث يتساوق في ذلك القرآن المكي والمدني معا.
ولقد تحفظ بعض المفسرين والفقهاء في صدد مساواة المرأة بالرجل في الدين والعقل والمركز الدنيوي استنادا إلى بعض الآيات والآثار. ولقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآية [ ١٣ ] من سورة البقرة وقبلها في سياق آيات مكية أخرى وبخاصة آية سورة الروم [ ٢٣ ] فلا نرى محلا للإعادة والزيادة.
ولقد روى ابن كثير عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت : إن آخر آية نزلت هي الآية [ ١٩٥ ]وليس هذا الحديث من الصحاح. والآية جزء غير منفصل من سلسلة. فالتوقف فيه أولى.
ولقد وقف بعض المفسرين٥ عند جملة ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ﴾ ولمحوا فيها تجويزا للصلاة في هذه الحالة وأوردوا حديثا عن عمران بن الحصين رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :" صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب " ٦.
والحديث يبنى على سؤال من الحصين بسبب بواسير كانت فيه. وظاهر أنه صدر للترخيص لمعذور وليس له صلة بالآية التي نحن في صددها والتي هي في صدد التنويه بالفئة المخلصة التي تذكر الله في كل حالاتها. والصلاة هي صورة من صور ذكر الله وليست كل صوره.
في الآية الأولى تنبيه تمهيدي على ما في خلق السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار من الآيات الدالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه تدعو ذوي العقول الراجحة إلى التفكير والتدبر. وفي الآيات الأربع التالية حكاية مناجاة رائعة تنطوي على التنويه على لسان الفئة الراجحة العقل الطاهرة القلب المسلمة النفس المخلصة في الإنابة إلى الله تعالى التي تذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبها وتتفكر في خلق السموات والأرض وتهتف إلى ربها مقررة أنه لا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون العظيم باطلا وعبثا وبدون غاية وحكمة. وتلتمس منه أن يقيها عذاب النار الذي يكون الخزي نصيب من يدخله فيها، وتقرر أنها قد سمعت المنادي الذي يدعو إلى الإيمان به فآمنت وأسلمت النفس إليه. وتطلب منه أن يغفر لها ذنوبها ويتجاوز عن سيئتها ويجعلها من جملة الأبرار ويحشرها معهم ويمنحها ما وعدها إياه يوم القيامة الذي لن يكون فيه أنصار للظالمين. وتعلن يقينها بأن الله عز وجل لا يمكن أن يخلف وعده لمن آمن به وأسلم النفس إليه.
وفي الآية الأخيرة جواب رباني على هذه المناجاة متسق معها في الروعة ومن شأنه بعث الطمأنينة والسكنية في نفوس أصحابها ؛ حيث أعلنهم به أن الله قد استجاب دعاءهم، وأنه لن يضيع عملا صالحا عمله أحد منهم ذكرا كان أم أثنى فهم سواء في ذلك وبعضهم من البعض بعض وأنه سوف يتجاوز عن سيئات الذين هاجروا من أنفسهم أو أجبروا على الخروج والذين أوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا وأنه سوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار ثوابا وجزاء على إخلاصهم وتضحياتهم وهو الذي عنده حسن الجزاء لكل من يعمل صالحا.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب( ١٩٠ ) ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١٩٥ ]
في كتب التفسير روايتان في صدد هذه الآيات. واحدة عن ابن عباس جاء فيها١ أن قريشا سألوا اليهود : بم جاءكم موسى ؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين. وسألوا النصارى : بم جاءكم عيسى ؟ قالوا : كان يبرئ لنا الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي فقالوا له : ادعوا الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فأنزل الله الآية الأولى ليتفكروا في خلق السموات والأرض. وثانية عن أم سلمة٢ أنها سألت رسول الله ما بال القرآن يذكر الرجال بالهجرة ولا يذكر النساء فنزلت الآية الأخيرة. والرواية الأولى لم ترد في الصحاح. وقد استغربها ابن كثير الذي رواها ونبه على ذلك بقوله : إن الآية مدنية. أما الرواية الثانية فهي محتملة وقد رواها الترمذي كما أشرنا آنفا مع التنبيه على أن المتبادر أن الآيات وحدة تامة منسجمة. فإذا صحت فيكون سؤال أم سلمة سابقا لنزولها فاقتضت حكمة التنزيل ذكر المؤمنين بجنسيهم في الجواب استجابة لتساؤل المؤمنات بلسان أم المؤمنين والله أعلم.
والمتبادر كذلك أن الآيات ليست منقطعة عن السياق السابق مهما بدت فصلا جديدا وبخاصة عن الآيات التي جاءت قبل موضوع اليهود، بل ولعلها متصلة بموقف اليهود والمشركين الذين ذكروا معا في آية سابقة ليكون فيها مقارنة بين هؤلاء وبين المؤمنين المخلصين.
والآيات من روائع الفصول القرآنية ومن أقوالها تأثيرا في النفس وبعثا على الخشوع والهيبة وتوجيها إلى الله. وقد روي من طرق عديدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يتلوها في جنح الليل والأسحار، ويبكي خشوعا كلما تلاها٣. وفي فصل التفسير في صحيح البخاري حديث عن ابن عباس في سياق هذه الآيات جاء فيه :" بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء، فتلا الآيات ثم قام فتوضأ واستن وصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح٤ ". وروى ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه جاء فيه :" أن عبد الله بن عمر سأل عائشة أم المؤمنين عن أعجب ما رأته من النبي صلى الله عليه وسلم فبكت ثم قالت : كل أمره كان عجبا، أتأتي في ليلتي حتى دخل معي في فراشي ولصق جلده بجلدي ثم قال : يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي. قلت : لأحب قربك وأحب هواك. فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء، ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حقويه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلعت حجره. ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، وما لي لا أبكي وقد نزل علي الليلة ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ( ١٩٠ ) ﴾ إلى آخر الآيات، ثم قال : ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها ". وروى ابن كثير عن أبي هريرة حديثا آخر جاء فيه :" إن رسول الله كان يقرأ هذه الآية كل ليلة ".
والحديثان الأخيران لم يردا في الصحاح. ونتوقف إزاء ما جاء في الأول بخاصة من سيلان دموع النبي حتى تبلغ حقويه ثم حجره ثم الأرض. ومهما يكن من أمر ففي الأحاديث صورة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة ربه وشكره وبخاصة في الليل، وهو ما كان أمر به في أول رسالته على ما جاء في الآيات الأولى من سورة المزمل.
ومع أن الآيات قد عنت الفئة المخلصة التي هاجرت وأوذيت وقاتلت في سبيل الله وتحملت التضحيات في عهد النبي، فإن في أسلوبها معنى التعميم والشمول كما هو المتبادر، كما أن روحها ينطوي على معنى الدعوة إلى التأسي بتلك الفئة والتحقق بما كانت عليه وما اضطلعت به ولنيل الدرجة العليا التي نالتها.
ومهما تكن رواية أم سلمة في صدد الآية الأخيرة صحيحة، فإن الأسلوب الذي جاءت عليه هذه الآيات جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على تسجيل كون تلك الفئة المخلصة المستغرقة في الله ونصر دينه والمتحملة للتضحيات من أصحاب رسول الله الأولين السابقين بالهجرة والإخراج والأذى والقتل والقتال مزيجة من الرجال والنساء معا، وكون الجنسين متضامنين تضامنا وثيقا في ذلك كله. وكون الجنسين سواء في موضوع الخطاب والمناجاة والتنويه والعمل والثواب والتضحية والأذى والقتل والقتال والهجرة والإخراج وفي تقرير الأهلية لذلك كله. ولعل قرن المرأة بالرجل في هذا المقام وبهذا الأسلوب من أقوى مؤيدات مساواتهما في الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات العامة، ومن أقوى مؤيدات أهلية المرأة في نظر الشريعة لكل واجب عام.
ولقد قرن المؤمنات بالمؤمنين في آية من سورة البروج في معرض تسجيل ما تعرض له المؤمنون من الجنسين من فتنة وأذى. ولقد قرنت الأنثى بالذكر في مواضع عديدة من القرآن المكي بأسلوب يفيد أنهما شيء واحد وأنهما متساويان في تكليف وما يترتب عليه من نتائج في الدنيا والآخرة. وفي السور المدينة التي تأتي بعد هذه السورة آيات كثيرة ذكر فيها الجنسان معا بأساليب قوية رائعة فيها توكيد للمعنى المنطوي في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث يتساوق في ذلك القرآن المكي والمدني معا.
ولقد تحفظ بعض المفسرين والفقهاء في صدد مساواة المرأة بالرجل في الدين والعقل والمركز الدنيوي استنادا إلى بعض الآيات والآثار. ولقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآية [ ١٣ ] من سورة البقرة وقبلها في سياق آيات مكية أخرى وبخاصة آية سورة الروم [ ٢٣ ] فلا نرى محلا للإعادة والزيادة.
ولقد روى ابن كثير عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت : إن آخر آية نزلت هي الآية [ ١٩٥ ]وليس هذا الحديث من الصحاح. والآية جزء غير منفصل من سلسلة. فالتوقف فيه أولى.
ولقد وقف بعض المفسرين٥ عند جملة ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ﴾ ولمحوا فيها تجويزا للصلاة في هذه الحالة وأوردوا حديثا عن عمران بن الحصين رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :" صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب " ٦.
والحديث يبنى على سؤال من الحصين بسبب بواسير كانت فيه. وظاهر أنه صدر للترخيص لمعذور وليس له صلة بالآية التي نحن في صددها والتي هي في صدد التنويه بالفئة المخلصة التي تذكر الله في كل حالاتها. والصلاة هي صورة من صور ذكر الله وليست كل صوره.
في الآية الأولى تنبيه تمهيدي على ما في خلق السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار من الآيات الدالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه تدعو ذوي العقول الراجحة إلى التفكير والتدبر. وفي الآيات الأربع التالية حكاية مناجاة رائعة تنطوي على التنويه على لسان الفئة الراجحة العقل الطاهرة القلب المسلمة النفس المخلصة في الإنابة إلى الله تعالى التي تذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبها وتتفكر في خلق السموات والأرض وتهتف إلى ربها مقررة أنه لا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون العظيم باطلا وعبثا وبدون غاية وحكمة. وتلتمس منه أن يقيها عذاب النار الذي يكون الخزي نصيب من يدخله فيها، وتقرر أنها قد سمعت المنادي الذي يدعو إلى الإيمان به فآمنت وأسلمت النفس إليه. وتطلب منه أن يغفر لها ذنوبها ويتجاوز عن سيئتها ويجعلها من جملة الأبرار ويحشرها معهم ويمنحها ما وعدها إياه يوم القيامة الذي لن يكون فيه أنصار للظالمين. وتعلن يقينها بأن الله عز وجل لا يمكن أن يخلف وعده لمن آمن به وأسلم النفس إليه.
وفي الآية الأخيرة جواب رباني على هذه المناجاة متسق معها في الروعة ومن شأنه بعث الطمأنينة والسكنية في نفوس أصحابها ؛ حيث أعلنهم به أن الله قد استجاب دعاءهم، وأنه لن يضيع عملا صالحا عمله أحد منهم ذكرا كان أم أثنى فهم سواء في ذلك وبعضهم من البعض بعض وأنه سوف يتجاوز عن سيئات الذين هاجروا من أنفسهم أو أجبروا على الخروج والذين أوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا وأنه سوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار ثوابا وجزاء على إخلاصهم وتضحياتهم وهو الذي عنده حسن الجزاء لكل من يعمل صالحا.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب( ١٩٠ ) ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١٩٥ ]
في كتب التفسير روايتان في صدد هذه الآيات. واحدة عن ابن عباس جاء فيها١ أن قريشا سألوا اليهود : بم جاءكم موسى ؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين. وسألوا النصارى : بم جاءكم عيسى ؟ قالوا : كان يبرئ لنا الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي فقالوا له : ادعوا الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فأنزل الله الآية الأولى ليتفكروا في خلق السموات والأرض. وثانية عن أم سلمة٢ أنها سألت رسول الله ما بال القرآن يذكر الرجال بالهجرة ولا يذكر النساء فنزلت الآية الأخيرة. والرواية الأولى لم ترد في الصحاح. وقد استغربها ابن كثير الذي رواها ونبه على ذلك بقوله : إن الآية مدنية. أما الرواية الثانية فهي محتملة وقد رواها الترمذي كما أشرنا آنفا مع التنبيه على أن المتبادر أن الآيات وحدة تامة منسجمة. فإذا صحت فيكون سؤال أم سلمة سابقا لنزولها فاقتضت حكمة التنزيل ذكر المؤمنين بجنسيهم في الجواب استجابة لتساؤل المؤمنات بلسان أم المؤمنين والله أعلم.
والمتبادر كذلك أن الآيات ليست منقطعة عن السياق السابق مهما بدت فصلا جديدا وبخاصة عن الآيات التي جاءت قبل موضوع اليهود، بل ولعلها متصلة بموقف اليهود والمشركين الذين ذكروا معا في آية سابقة ليكون فيها مقارنة بين هؤلاء وبين المؤمنين المخلصين.
والآيات من روائع الفصول القرآنية ومن أقوالها تأثيرا في النفس وبعثا على الخشوع والهيبة وتوجيها إلى الله. وقد روي من طرق عديدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يتلوها في جنح الليل والأسحار، ويبكي خشوعا كلما تلاها٣. وفي فصل التفسير في صحيح البخاري حديث عن ابن عباس في سياق هذه الآيات جاء فيه :" بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء، فتلا الآيات ثم قام فتوضأ واستن وصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح٤ ". وروى ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه جاء فيه :" أن عبد الله بن عمر سأل عائشة أم المؤمنين عن أعجب ما رأته من النبي صلى الله عليه وسلم فبكت ثم قالت : كل أمره كان عجبا، أتأتي في ليلتي حتى دخل معي في فراشي ولصق جلده بجلدي ثم قال : يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي. قلت : لأحب قربك وأحب هواك. فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء، ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حقويه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلعت حجره. ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، وما لي لا أبكي وقد نزل علي الليلة ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ( ١٩٠ ) ﴾ إلى آخر الآيات، ثم قال : ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها ". وروى ابن كثير عن أبي هريرة حديثا آخر جاء فيه :" إن رسول الله كان يقرأ هذه الآية كل ليلة ".
والحديثان الأخيران لم يردا في الصحاح. ونتوقف إزاء ما جاء في الأول بخاصة من سيلان دموع النبي حتى تبلغ حقويه ثم حجره ثم الأرض. ومهما يكن من أمر ففي الأحاديث صورة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة ربه وشكره وبخاصة في الليل، وهو ما كان أمر به في أول رسالته على ما جاء في الآيات الأولى من سورة المزمل.
ومع أن الآيات قد عنت الفئة المخلصة التي هاجرت وأوذيت وقاتلت في سبيل الله وتحملت التضحيات في عهد النبي، فإن في أسلوبها معنى التعميم والشمول كما هو المتبادر، كما أن روحها ينطوي على معنى الدعوة إلى التأسي بتلك الفئة والتحقق بما كانت عليه وما اضطلعت به ولنيل الدرجة العليا التي نالتها.
ومهما تكن رواية أم سلمة في صدد الآية الأخيرة صحيحة، فإن الأسلوب الذي جاءت عليه هذه الآيات جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على تسجيل كون تلك الفئة المخلصة المستغرقة في الله ونصر دينه والمتحملة للتضحيات من أصحاب رسول الله الأولين السابقين بالهجرة والإخراج والأذى والقتل والقتال مزيجة من الرجال والنساء معا، وكون الجنسين متضامنين تضامنا وثيقا في ذلك كله. وكون الجنسين سواء في موضوع الخطاب والمناجاة والتنويه والعمل والثواب والتضحية والأذى والقتل والقتال والهجرة والإخراج وفي تقرير الأهلية لذلك كله. ولعل قرن المرأة بالرجل في هذا المقام وبهذا الأسلوب من أقوى مؤيدات مساواتهما في الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات العامة، ومن أقوى مؤيدات أهلية المرأة في نظر الشريعة لكل واجب عام.
ولقد قرن المؤمنات بالمؤمنين في آية من سورة البروج في معرض تسجيل ما تعرض له المؤمنون من الجنسين من فتنة وأذى. ولقد قرنت الأنثى بالذكر في مواضع عديدة من القرآن المكي بأسلوب يفيد أنهما شيء واحد وأنهما متساويان في تكليف وما يترتب عليه من نتائج في الدنيا والآخرة. وفي السور المدينة التي تأتي بعد هذه السورة آيات كثيرة ذكر فيها الجنسان معا بأساليب قوية رائعة فيها توكيد للمعنى المنطوي في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث يتساوق في ذلك القرآن المكي والمدني معا.
ولقد تحفظ بعض المفسرين والفقهاء في صدد مساواة المرأة بالرجل في الدين والعقل والمركز الدنيوي استنادا إلى بعض الآيات والآثار. ولقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآية [ ١٣ ] من سورة البقرة وقبلها في سياق آيات مكية أخرى وبخاصة آية سورة الروم [ ٢٣ ] فلا نرى محلا للإعادة والزيادة.
ولقد روى ابن كثير عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت : إن آخر آية نزلت هي الآية [ ١٩٥ ]وليس هذا الحديث من الصحاح. والآية جزء غير منفصل من سلسلة. فالتوقف فيه أولى.
ولقد وقف بعض المفسرين٥ عند جملة ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ﴾ ولمحوا فيها تجويزا للصلاة في هذه الحالة وأوردوا حديثا عن عمران بن الحصين رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :" صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب " ٦.
والحديث يبنى على سؤال من الحصين بسبب بواسير كانت فيه. وظاهر أنه صدر للترخيص لمعذور وليس له صلة بالآية التي نحن في صددها والتي هي في صدد التنويه بالفئة المخلصة التي تذكر الله في كل حالاتها. والصلاة هي صورة من صور ذكر الله وليست كل صوره.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنبيها للنبي صلى الله عليه وسلم والسامعين من المؤمنين بالتبعية بعدم الأبوه والاغترار بما يتمتع به الكفار من أسباب القوة والبروز في الدنيا. فليس هو إلا متاع قصير الأمد ثم يكون مأواهم جهنم في حين تكون منازل المتقين الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، وبذلك يثبت أن ما عند الله للأبرار هو خير وأفضل مما عنده للكفار.
تعليق على الآية
﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ﴾
والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت في مشركي العرب الذين كانون يتجرون وتكثر في أيديهم الأموال ويتنعمون بها فقال بعض المسلمين : إن أعداء الله في العيش الرخي وقد هلكنا من الجوع. كما رووا أنها نزلت في اليهود للسبب نفسه.
والروايات لم ترد في الصحاح. ومع أنها قد تكون متسقة مع مدى الآيات يتبادر لنا أنها ليست منقطعة عم قبلها. فالآيات السابقة نوهت بالمهاجرين والمجاهدين بما نوهت ووعدتهم بما وعدت فلا يبعد أن يكون بعض المسلمين قالوا ما ذكرته الروايات أو تساءلوا عن سببه بمناسبة تلك الآيات، فاقتضت حكمة التنزيل الرد على ذلك للتطمين والتسكين. بل لعل فيها ما يستأنس به على أنها كسابقتها متصلة بالآيات التي ذكر فيها اليهود والمشركون وما يتمتعون به، والتي دعيا لمسلمون فيها إلى توطين النفس على الصبر والتحمل.
ولقد تكرر ما جاء في الآيات في مواضع كثيرة من القرآن المكي. وفي بعضها ما يفيد أن الكفار كانوا يحسبون ذلك دليلا على عناية الله بهم ورعاية لهم، فكانت الآيات ترد عليهم مكذبة منددة متوعدة بالعاقبة الوخيمة لهم مقررة أن ذلك فتنة واختبار واستدراج وإملاء وواعدة المؤمنين المتقين بالعاقبة السعيدة.
وينطوي في الآيات صورة واقعية من الحياة كانت تبرز في العهد المكي والعهد المدني من السيرة النبوية. فاقتضت حكمة التنزيل تكرار لإشارة إليها في القرآن المكي والمدني بأسلوب فيه علاج روحي للمؤمنين وإنذار رادع للكفار.
وهذه الصورة تبرز في كل ظرف ومكان ؛ لأنها كما قلنا من صور الحياة ؛ بحيث يصح القول : إن في الآيات علاجا روحيا مستمرا يمد المسلمين بالقوة والأمل والطمأنينة بحسن العاقبة في عالم الخلود مهما ضاقت عليهم الأحوال في عالم الفناء.
ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا عن ابن عباس رواه الشيخان أيضا جاء فيه : " إن عمر بن الخطاب قال : جئت رسول الله فإذا هو في مشربة، وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجله قرظ مصبور عند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال : ما يبكيك ؟ قلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله فقال : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ ". والحديث ورد في فصل التفسير في صحيح البخاري في سياق تفسير سورة التحريم في مناسبة ما كان من غضب رسول الله على زوجاته. وفيه صورة من صور معيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزهده التي روي من بابها صور عديدة٢. وفي جواب النبي لعمر ما احتوته الآية من تلقين ومعالجة. ولا نرى فيه تعارضا مع قول الله تعالى :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ الأعراف [ ٣٢ ] وفي سورة المائدة :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [ ٨٧ ] وإنما الصور كما قلنا صور كما قلنا صور عيش النبي صلى الله عليه وسلم وزهده لما هو بسبيله من مهمة عظما رأى أنها تقتضي منه التفرغ لها والزهد في ما عداها٣.
٢ التاج، ج ٤ ص٢٣٩ ـ ٢٤١. والأهب هي أكياس جلد توضع فيها أشياء المعيشة..
٣ أنظر سور معيشة رسول الله وزهده في أحاديث عديدة في التاج ج ٥ ص ١٦٠ و ١٦٤..
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنبيها للنبي صلى الله عليه وسلم والسامعين من المؤمنين بالتبعية بعدم الأبوه والاغترار بما يتمتع به الكفار من أسباب القوة والبروز في الدنيا. فليس هو إلا متاع قصير الأمد ثم يكون مأواهم جهنم في حين تكون منازل المتقين الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، وبذلك يثبت أن ما عند الله للأبرار هو خير وأفضل مما عنده للكفار.
تعليق على الآية
﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ﴾
والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت في مشركي العرب الذين كانون يتجرون وتكثر في أيديهم الأموال ويتنعمون بها فقال بعض المسلمين : إن أعداء الله في العيش الرخي وقد هلكنا من الجوع. كما رووا أنها نزلت في اليهود للسبب نفسه.
والروايات لم ترد في الصحاح. ومع أنها قد تكون متسقة مع مدى الآيات يتبادر لنا أنها ليست منقطعة عم قبلها. فالآيات السابقة نوهت بالمهاجرين والمجاهدين بما نوهت ووعدتهم بما وعدت فلا يبعد أن يكون بعض المسلمين قالوا ما ذكرته الروايات أو تساءلوا عن سببه بمناسبة تلك الآيات، فاقتضت حكمة التنزيل الرد على ذلك للتطمين والتسكين. بل لعل فيها ما يستأنس به على أنها كسابقتها متصلة بالآيات التي ذكر فيها اليهود والمشركون وما يتمتعون به، والتي دعيا لمسلمون فيها إلى توطين النفس على الصبر والتحمل.
ولقد تكرر ما جاء في الآيات في مواضع كثيرة من القرآن المكي. وفي بعضها ما يفيد أن الكفار كانوا يحسبون ذلك دليلا على عناية الله بهم ورعاية لهم، فكانت الآيات ترد عليهم مكذبة منددة متوعدة بالعاقبة الوخيمة لهم مقررة أن ذلك فتنة واختبار واستدراج وإملاء وواعدة المؤمنين المتقين بالعاقبة السعيدة.
وينطوي في الآيات صورة واقعية من الحياة كانت تبرز في العهد المكي والعهد المدني من السيرة النبوية. فاقتضت حكمة التنزيل تكرار لإشارة إليها في القرآن المكي والمدني بأسلوب فيه علاج روحي للمؤمنين وإنذار رادع للكفار.
وهذه الصورة تبرز في كل ظرف ومكان ؛ لأنها كما قلنا من صور الحياة ؛ بحيث يصح القول : إن في الآيات علاجا روحيا مستمرا يمد المسلمين بالقوة والأمل والطمأنينة بحسن العاقبة في عالم الخلود مهما ضاقت عليهم الأحوال في عالم الفناء.
ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا عن ابن عباس رواه الشيخان أيضا جاء فيه :" إن عمر بن الخطاب قال : جئت رسول الله فإذا هو في مشربة، وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجله قرظ مصبور عند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال : ما يبكيك ؟ قلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله فقال : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ ". والحديث ورد في فصل التفسير في صحيح البخاري في سياق تفسير سورة التحريم في مناسبة ما كان من غضب رسول الله على زوجاته. وفيه صورة من صور معيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزهده التي روي من بابها صور عديدة٢. وفي جواب النبي لعمر ما احتوته الآية من تلقين ومعالجة. ولا نرى فيه تعارضا مع قول الله تعالى :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ الأعراف [ ٣٢ ] وفي سورة المائدة :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [ ٨٧ ] وإنما الصور كما قلنا صور كما قلنا صور عيش النبي صلى الله عليه وسلم وزهده لما هو بسبيله من مهمة عظما رأى أنها تقتضي منه التفرغ لها والزهد في ما عداها٣.
٢ التاج، ج ٤ ص٢٣٩ ـ ٢٤١. والأهب هي أكياس جلد توضع فيها أشياء المعيشة..
٣ أنظر سور معيشة رسول الله وزهده في أحاديث عديدة في التاج ج ٥ ص ١٦٠ و ١٦٤..
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنبيها للنبي صلى الله عليه وسلم والسامعين من المؤمنين بالتبعية بعدم الأبوه والاغترار بما يتمتع به الكفار من أسباب القوة والبروز في الدنيا. فليس هو إلا متاع قصير الأمد ثم يكون مأواهم جهنم في حين تكون منازل المتقين الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، وبذلك يثبت أن ما عند الله للأبرار هو خير وأفضل مما عنده للكفار.
تعليق على الآية
﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ﴾
والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت في مشركي العرب الذين كانون يتجرون وتكثر في أيديهم الأموال ويتنعمون بها فقال بعض المسلمين : إن أعداء الله في العيش الرخي وقد هلكنا من الجوع. كما رووا أنها نزلت في اليهود للسبب نفسه.
والروايات لم ترد في الصحاح. ومع أنها قد تكون متسقة مع مدى الآيات يتبادر لنا أنها ليست منقطعة عم قبلها. فالآيات السابقة نوهت بالمهاجرين والمجاهدين بما نوهت ووعدتهم بما وعدت فلا يبعد أن يكون بعض المسلمين قالوا ما ذكرته الروايات أو تساءلوا عن سببه بمناسبة تلك الآيات، فاقتضت حكمة التنزيل الرد على ذلك للتطمين والتسكين. بل لعل فيها ما يستأنس به على أنها كسابقتها متصلة بالآيات التي ذكر فيها اليهود والمشركون وما يتمتعون به، والتي دعيا لمسلمون فيها إلى توطين النفس على الصبر والتحمل.
ولقد تكرر ما جاء في الآيات في مواضع كثيرة من القرآن المكي. وفي بعضها ما يفيد أن الكفار كانوا يحسبون ذلك دليلا على عناية الله بهم ورعاية لهم، فكانت الآيات ترد عليهم مكذبة منددة متوعدة بالعاقبة الوخيمة لهم مقررة أن ذلك فتنة واختبار واستدراج وإملاء وواعدة المؤمنين المتقين بالعاقبة السعيدة.
وينطوي في الآيات صورة واقعية من الحياة كانت تبرز في العهد المكي والعهد المدني من السيرة النبوية. فاقتضت حكمة التنزيل تكرار لإشارة إليها في القرآن المكي والمدني بأسلوب فيه علاج روحي للمؤمنين وإنذار رادع للكفار.
وهذه الصورة تبرز في كل ظرف ومكان ؛ لأنها كما قلنا من صور الحياة ؛ بحيث يصح القول : إن في الآيات علاجا روحيا مستمرا يمد المسلمين بالقوة والأمل والطمأنينة بحسن العاقبة في عالم الخلود مهما ضاقت عليهم الأحوال في عالم الفناء.
ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا عن ابن عباس رواه الشيخان أيضا جاء فيه :" إن عمر بن الخطاب قال : جئت رسول الله فإذا هو في مشربة، وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجله قرظ مصبور عند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال : ما يبكيك ؟ قلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله فقال : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ ". والحديث ورد في فصل التفسير في صحيح البخاري في سياق تفسير سورة التحريم في مناسبة ما كان من غضب رسول الله على زوجاته. وفيه صورة من صور معيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزهده التي روي من بابها صور عديدة٢. وفي جواب النبي لعمر ما احتوته الآية من تلقين ومعالجة. ولا نرى فيه تعارضا مع قول الله تعالى :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ الأعراف [ ٣٢ ] وفي سورة المائدة :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [ ٨٧ ] وإنما الصور كما قلنا صور كما قلنا صور عيش النبي صلى الله عليه وسلم وزهده لما هو بسبيله من مهمة عظما رأى أنها تقتضي منه التفرغ لها والزهد في ما عداها٣.
٢ التاج، ج ٤ ص٢٣٩ ـ ٢٤١. والأهب هي أكياس جلد توضع فيها أشياء المعيشة..
٣ أنظر سور معيشة رسول الله وزهده في أحاديث عديدة في التاج ج ٥ ص ١٦٠ و ١٦٤..
عبارة الآية واضحة. وفيها تقرير تنويهي بوجود فريق من أهل الكتاب يؤمنون بالله وبالقرآن كما يؤمنون بالكتب السابقة التي أنزلت على أنبيائهم إيمانا مخلصا فلا يحرفون و لا يتلاعبون ولا يبيعون آيات الله بالثمن البخس. فلهؤلاء عند الله الأجر الذي يستحقونه وهو سريع الحساب يؤدي إلى صاحب الحق حقه بدون مطل ولا إمهال.
وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزول هذه الآية وفيمن عنته. منها أنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة ومن آمن من قومه بالرسالة النبوية. فإن النبي لما بلغه موت النجاشي دعا إلى الصلاة عليه فقال المنافقون : إنه يصلي على رجل من غير دينه فنزلت. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن سلام أحد أحبار اليهود وغيره من أفراد اليهود الذين آمنوا بالرسالة المحمدية. ومنها أنها نزلت فيمن آمن بهذه الرسالة من أهل الكتاب عامة١.
والروايات لم ترد في الصحاح. والآية على كل حال تحتوي تقرير حقيقة واقعية تكررت الإشارة إليها في الآيات المكية والمدنية وهي إيمان وتصديق أشخاص عديدين من أهل الكتاب نصارى ويهود برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم واندماجهم في الإسلام وإخلاصهم كل الإخلاص. وقد أوردنا نصوص الآيات في مناسبات سابقة.
ويتبادر لنا أن الآية استهدفت مع تقرير تلك الحقيقة الاستدراك على ما جاء في الآيتين [ ١٨٦-١٨٧ ] من تنديد بأهل الكتاب الذين يناوئون الدعوة النبوية ويؤذون المسلمون ويكتمون ما عندهم من بينات الله، وينبذون بذلك الميثاق الذي أخذه عليهم بيان ما في كتبهم، ثم تنبيه المسلمين العرب المتسائلين تساؤل العجب الذي أشرنا إليه في مناسبة الآية السابقة إلى كونهم ليسوا وحدهم الذين آمنوا وصدقوا واستجابوا وإن من أهل الكتاب من فعل مثلهم، وإن من شأن ذلك أن يبعث فيهم السكينة والثبات والصبر في إسلامهم ومواقفهم والأمل في انتشار دين الله وفي تمكنهم في الأرض ويجعلهم لا ينخدعون بما يرونه من قوة الكفار وثرواتهم إذا أن ذلك إلى انتقاص وزوال. وبهذه التوجيه الذي نرجو أن يكون صوابا تبدو صلة الآية بسابقتها وبالسياق جميعه واضحة. وفي الآية التالية ما يؤيد هذا التوجيه أيضا على ما يتبادر منها.
ومما يحسن التعقيب به أن تلك الحقيقة التي قررتها الآية قد انطوت على حقيقة أخرى، وهي أن الرسالة المحمدية قد استجيب لها من مختلف الملل والنحل في حياة النبي صلى الله علية وسلم ولقد احتوى القرآن آيات عديدة تقرر أن الذين لم يستجيبوا إليها كانوا متأثرين بأهوائهم ومطامعهم الخاصة سواء منهم الكتابيون والعرب المشركون مما شرحناه وأوردنا شواهده في سياق تفسير سور فاطر والفرقان والشورى.
( ٢ ) رابطوا : أصل الرباط هو : إعداد الخيل والاستعداد الدائم للحرب. ومعنى الكلمة هنا هو الأمر بالاستعداد الدائم واليقظة الدائمة والمرابطة للعدو.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ ( ١ ) وَرَابِطُواْ ( ٢ ) وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٢٠٠ ) ﴾ [ ٢٠٠ ].
وفي هذه الآية أمر للمسلمين بالصبر على دينهم ومغالبة أعدائهم بالصبر والمرابطة مع الاستعداد الدائم له وتقوى الله والتزم حدوده. ففي ذلك ضمان فوزهم وفلاحهم.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٢٠٠ ) ﴾
ولم نطلع على رواية خاصة بالآية. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة ومعقبة عليها فسبيل الانتصار على الأعداء الكفار هو هذا الذي أمرت به الآية. فإذا فعله المسلمون هان عليهم أعداؤهم وتمت لهم الغلبة عليهم. فلا محل للاغتمام بما هم عليه من قوة خداعة، وإنما الواجب هو التحلي بالصفات والأفعال الضامنة للتغلب على هذه القوة.
والآية مع اتصالها بسابقاتها جملة تامة في تنبيه المسلمين بصورة عامة تنبيها مستمر المدى والتلقين إلى ما يضمن لهم الفوز والفلاح والقوة والاستعلاء من الصبر والثبات وتقوى الله والاستعداد الدائم للعدو. وهو تنبيه رائع وشامل.
وقد جاءت خاتمة قوية للسورة. وطابع الختام المألوف في كثير من السور بارز عليها.
هذا، ومع أن شرحنا للآية منطبق على شرح جمهور المفسرين لها١ فإن منهم من روى بعض الأحاديث التي تفيد أنها في صدد الصلاة أيضا ؛ حيث روى ابن كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة أقبل عليه يوما فقال له : يا ابن أخي أتدري فيم نزلت هذه الآية ؟ قال : لا. قال : أما أنه لم يكن في زمان النبي غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلوات في أوقاتها، ثم يذكرون الله فعليهم نزلت أن : اصبروا على الصلوات الخمس وصابروا أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم واتقوا الله فيما عليكم لعلكم تفلحون. وأورد ابن كثير عقب هذا حديثا عن أبي أيوب جاء فيه :" وفد الله علينا رسول الله فقال : هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر ؟ قالوا : وما هو يا رسول الله ؟ قال : إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة وهو قول الله :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٢٠٠ ) ﴾ " ٢، وهذان الحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد قال ابن كثير عن الحديث الأخير : إنه غريب جدا من الطريق المروي عنه. والذي يتبادر لنا أن هذا الحديث لو صح فإنه يحتمل أن يكون بمثابة التمثيل والتشبيه، ولا سيما أن الآية كانت نازلة قبل صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم. ويملح في الحديث المروي عن أبي هريرة أنه يفسر الرباط بما صار يفهم منه في زمن الفتوح في عهد الخلفاء الراشدين وبعده وقد عاش إلى زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان.
وعلى كل حال فما زلنا نرجح أن معنى الآية هو تأويل جمهور المفسرين الذي تابعناهم فيه. وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضل المرابطة وأجرها والحث عليها. ويستفاد منها أنها متصلة بالجهاد الحربي في سبيل الله وظروفه. وأكثر من استوعبها ابن كثير في سياق تفسير الآية. ومنها ما روي بصيغ متقاربة من طرق مختلفة ومنها ما ورد في الصحاح أيضا. من ذلك حديث رواه البخاري عن سهل بن سعد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها )٣. وحديث رواه الترمذي والنسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله " ٤. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كل الميت يختم على عمله إلا المرابط، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتان القبر " ٥. وحديث رواه الترمذي والنسائي عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( رباط يوم في سبيل الله أفضل أو خير من صيام شهر وقيامه. ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونما له عمله إلى يوم القيامة )٦ ولفظ النسائي : " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم في ما سواه من المنازل " ٧.
٢ روى ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة بينها بعض الاختلاف في العبارة مع الاتفاق في الجوهر..
٣ التاج ج ٤ ص ٢٩٩ و ٣٠٠..
٤ المصدر نفسه..
٥ المصدر نفسه..
٦ المصدر نفسه..
٧ المصدر نفسه..