فيها أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتسبيح بحمد الله واستغفاره إذا ما جاء نصر الله وفتحه، ورأى الناس يدخلون في دينه.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها نزلت بعد سورة التوبة، وبكلمة أخرى آخر السور المدنية نزولا. ومع أن روايات الترتيب الأخرى تذكر ترتيبها كسابعة السور المدنية نزولا، أو كسادسة عشرة، أو كثامنة عشرة ( ١ )١. بل إن هناك رواية بأنها مكية ( ٢ )٢. فإن هناك روايات وأحاديث عديدة بطرق مختلفة تؤيد ترتيب المصحف الذي اعتمدناه. ففي فصل التفسير من صحيح البخاري في سياق هذه السورة : حديث ابن عباس جاء فيه :( كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه من قدم علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال : ما تقولون في قول الله تعالى :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾ ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم. فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا. قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلمه به، قال :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾، وذلك علامة أجلك، ﴿ فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ﴾ فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول ) ( ٣ )٣. وقد روى الطبري في سياقها حديثا عن ابن عباس جاء فيه :( لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " نعيت إلي نفسي، كأني مقبوض في تلك السنة " ). وروى الطبري والبغوي أحاديث بطرق مختلفة عن ابن عباس بالمعنى نفسه بدون عزو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الطبري عن الضحاك قوله : كانت هذه السورة آية لموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وروي مثل هذا عن مجاهد وعطاء أيضا. وقد ذكر الزمخشري أنها آخر السور نزولا، وأنها نزلت في حجة الوداع في منى، وذكر النيسابوري – مع ذكره القول : إنها مكية – أنها نزلت في أواسط أيام التشريق ( ١ )٤ في منى في حجة الوداع، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعش بعدها إلا سبعين يوما، وأن السورة تسمى لذلك سورة التوديع، وأن أكثر الصحابة متفقون على أنها دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أخرجه البزار والبيهقي أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، فأمر براحلته، وخطب خطبته الشهيرة بخطبة الوداع.
ولقد روى الطبري بطرقه عن عائشة قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر قبل أن يموت من قوله : " سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك ". فقلت : يا رسول الله، ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها. قال : " جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾ " إلى آخر السورة ) وعن أم سلمة قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب ولا يجيء، إلا قال : " سبحان الله وبحمده "، فقلت : يا رسول الله، إنك تكثر من سبحان الله وبحمده. لا تذهب ولا تجيء، ولا تقوم ولا تقعد، إلا قلت : سبحان الله وبحمده، قال : " إني أمرت بها " فقال :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾ إلى آخر السورة ) والحديثان يؤيدان -إذا صحا- كون السورة نزلت بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فضلا عما انطوى فيهما من صورة رائعة لعمق شعوره بواجبه نحو الله حمدا واستغفارا.
وبناء على ذلك كله رجحنا ترتيب المصحف الذي اعتمدناه، وجعلنا ترتيب هذه السورة بعد سورة التوبة، وآخر السور المدنية.
ونص السورة وروحها يؤيدان ذلك على ما سوف يأتي شرحه. أما القول : إنها مكية، فهو غريب، ينقضه نصها وروحها، والروايات الكثيرة الأخرى التي أوردناها.
وما قلنا من أن السورة هي آخر السور نزولا لا يعني أن لا يكون نزل بعدها قرآن. وكل ما هناك أنه لم ينزل سور جديدة تامة. وأن ما يحتمل أن يكون من قرآن قد نزل بعدها قد ألحق بسور أخرى بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والله أعلم.
وترجيح كون هذه السورة آخر السور نزولا، وترجيح كون سورة الفاتحة أولى السور نزولا، يدعمان بعضهما، ويلهمان معجزة قرآنية ربانية. ففي سورة الفاتحة براعة استهلال للدعوة الإسلامية والقرآن، وفي سورة النصر هتاف رباني بما تم من نصر الله للدعوة الإسلامية.
٢ انظر تفسير النيسابوري..
٣ التاج ج '٤ ص ٢٦٧ والحديث من مرويات الترمذي وأحمد أيضا..
٤ أيام عيد الأضحى..
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ( ١ ) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ( ٢ ) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ( ٣ ) ﴾ ( ١ – ٣ ).تعليق على آيات السورة
ومداها وما روي في صددها
عبارة الآيات واضحة. والخطاب فيها موجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما عليه الجمهور بدون خلاف. وقد ذكرنا ما ورد في صدد نزولها في المقدمة فلا ضرورة للإعادة.
وواجب التسبيح لله وحمده واستغفاره أصلي غير منوط بوقت. وليس الذي هنا بسبيل ذلك كما هو المتبادر، وإنما هو على سبيل تلقين توكيد وجوبه إذا ما أتم الله على نبيه نعمته، ويسر له الفتح والنصر، وأقبل الناس على دين الله أفواجا.
وكل هذا خطير يستوجب مضاعفة ذلك الواجب من دون ريب، والآيات بهذا الاعتبار تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين كجماعات بمقابلة نعم الله عز وجل بالشكر والحمد والاستغفار، وبخاصة إذا كانت عامة متصلة بمصلحة المسلمين ونصرهم وتوطد أمرهم وانتشار دين الله وكلمته. ثم لكل مسلم إذا ما صار في ظرف من الظروف موضع رعاية الله وعنايته في تحقيق أمر خطير في دينه ودنياه.
وأسلوب الآيات توقيتي إذا صح التعبير، أي أنه يوجب التسبيح والاستغفار حينما يجيء نصر الله، ويدخل الناس في دين الله أفواجا. غير أن روحها يلهم أن ذلك الواجب قد وجب، وأن ذلك المجيء قد جاء. والروايات والأحاديث التي أوردناها في صدد نزولها تؤيد ذلك كما هو المتبادر.
ومعظم المفسرين على أن الفتح المذكور في السورة هو فتح مكة، حتى إنهم جعلوا تفسيرها وسيلة لإيراد قصة هذا الفتح. ولقد تم هذا الفتح في رمضان في السنة الثامنة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الحديد، في حين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى في أوائل السنة الحادية عشرة.
والروايات التي أوردناها في المقدمة ذكر فيها أن السورة قد نزلت قبل وفاته بمدة قصيرة، أقل من ثلاثة أشهر، وهذا يجعلنا نرجح أن يكون ما عنته الآيات ليس فتح مكة وحسب ؛ بل مجموعة الانتصارات والفتوحات الضخمة التي يسرها الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبيل وفاته، والتي بلغت ذروتها بفتح مكة الذي شرحنا قصته في سورة الحديد، وبغزوة تبوك الكبرى التي شرحنا قصتها في سورة التوبة، وبفتح الطائف التي ظلت مستعصية إلى السنة الهجرية التاسعة، والتي لم تقتض حكمة التنزيل أن يشار إليها في القرآن، ثم بسبيل الوفود التي أخذت تتدفق من جميع أنحاء جزيرة العرب على المدينة المنورة خلال السنتين التاسعة والعاشرة لمبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والدخول في دين الله أفواجا، واستمر تدفقها إلى قبيل وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بتوطد سلطان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام في جميع أنحاء الجزيرة العربية يمنها وتهامتها وحجازها وشرقها وشمالها مما ذكرنا بعض فصوله في سياق تفسير سورة التوبة، ومما أطنبت به كتب السيرة والتاريخ القديمة ( ١ )١، وإعلان كون المشركين نجسا وحظر دخولهم المسجد الحرام، وحج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رأس حشد عظيم من المسلمين، روي أنه بلغ أربعين ألفا أو أكثر – وهذا رقم عظيم في ذلك الوقت – حتى هتف الله تعالى بالمؤمنين، أو هتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرددا هتاف الله – الذي نزل قبل هذا اليوم على ما محصناه في سياق أوائل سورة المائدة – ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ ( ٣ ).