تفسير سورة النصر

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة النصر من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة النصر
[ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ ]

قَوْله تَعَالَى :﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ نَفْسَهُ، فَقَالَ : لِمَ يَدْخُلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : إنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ. فَدَعَانِي ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَنِي مَعَهُمْ، فَمَا رَأَيْت أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إلَّا لِيُرِيَهُمْ، فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ، وَنَسْتَغْفِرَهُ إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ، وَفَتَحَ عَلَيْنَا. وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. فَقَالَ لِي : كَذَلِكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ؟ قُلْت : لَا. قَالَ : فَمَا تَقُولُ ؟ قُلْت : هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَهُ بِهِ ؛ قَالَ لَهُ :﴿ إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ فِي ذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِك، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا. فَقَالَ : لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَقُولُ.
المسألة الثَّانِيَةُ : رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ- قَالَتْ :«مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةً بَعْدَ إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ :﴿ إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ إلَّا يُكْثِر أَنْ يَقُولَ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ».
وَعَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ :" سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي " يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ ».
«وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي. قَالَ : قُلْ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً من عِنْدِك، وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ».
المسألة الثَّالِثَةُ : مَاذَا يُغْفَرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ :«رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَئِي وَعَمْدِي، وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت، وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ».
قَالَ الْقَاضِي : وَأَنَا أَقُولُ : كُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي مُضَاعَفٌ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ بَرِيءٌ. وَلَكِنْ كَانَ يَسْتَقْصِرُ نَفْسَهُ لِعَظِيمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَرَى قُصُورَهُ عَن الْقِيَامِ بِحَقِّ ذَلِكَ ذُنُوبًا ؛ فَأَمَّا أَنَا فَإِنَّمَا ذُنُوبِي بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ، وَالتَّرْكِ التَّامِّ، وَالْمُخَالَفَةِ الْبَيِّنَةِ، وَاَللَّهُ يَفْتَحُ بِالتَّوْبَةِ، وَيَمُنُّ بِالْعِصْمَةِ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، لَا رَبَّ سِوَاهُ.
Icon