ﰡ
هى مدنية، وآياتها ثلاث، نزلت بعد سورة التوبة.
ومناسبتها لما قبلها- أنه لما ذكر فى السورة السابقة اختلاف دين الرسول الذي يدعو إليه، ودين الكفار الذي يعكفون عليه- أشار فى هذه السورة إلى أن دينهم سيضمحل ويزول، وأن الدين الذي يدعو إليه سيغلب عليه، ويكون هو دين السواد الأعظم من سكان المعمورة.
[سورة النصر (١١٠) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣)شرح المفردات
النصر: العون يقال نصره على عدوه ينصره نصرا: أي أعانه، ونصر الغيث الأرض: إذا أعان على إظهار نباتها ومنع من قحطها، قال شاعرهم:
إذا دخل الشهر الحرام فجاوزى | بلاد تميم وانصرى أرض عامر |
واحدهم فوج وهو الجماعة والطائفة، واستغفره: أي اسأله أن يغفر لك ذنوبك ولقومك الذين اتبعوك، توّابا: أي كثير القبول لتوبة عباده.
المعنى الجملي
كان المؤمنون أيام قلتهم وفقرهم وكثرة عدد عدوهم وقوته، يمر الضجر بنفوسهم ويقضّ مضاجعهم، وكان رسول الله ﷺ يحزن ويضيق صدره،
«فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقال:
«فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» وقال:
«قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ».
وفى هذا القلق والضجر استبطاء لنصر الله للحق الذي بعث به نبيّه، بل فيه سهو عن وعد الله بتأييد دينه، كما جاء فى قوله: «وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ» ؟.
هذا الضجر ليس بنقص يعاب به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الله يعدّه على أقرب عباده إليه، كما قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد يراه النبي ﷺ إذا رجع إلى نفسه وخرج من غمرة شدته ذنبا يتوب إلى الله منه ويستغفره، ومن ثم ورد الأمر الإلهى بالاستغفار مما كان منه من حزن وضجر فى أوقات الشدة حين يجىء الفتح والنصر.
الإيضاح
(إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) أي إذا رأيت نصر الله لدين الحق، وانهزام أهل الشرك وخذلانهم، وفتح الله بينك وبين قومك، بجعل الغلبة لك عليهم، وإعزاز أمرك، وإعلاء كلمتك.
(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً) أي ورأيت الناس يدخلون فى دينك، وينضوون تحت لوائك جماعات لا أفرادا كما كان فى بدء أمرك وقت الشدة.
وليكن تنزيهه بحمده على ما أولاك من نعم، وشكره على ما منحك من خير، والثناء عليه بما هو له أهل، فإنه هو القادر الذي لا يغلبه غالب، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين، فلن يضيع أجر العاملين.
(وَاسْتَغْفِرْهُ) أي واسأله أن يغفر لك ولمن اتبعك من أصحابك ما كان منهم من القلق والضجر والحزن والأسى لتأخر النصر.
والتوبة من هذا القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله، وتغليبها على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد، وإن كان ذلك مما يشق على نفوس البشر، ولكن الله قد علم أن نفس رسوله قد تبلغ ذلك الكمال، ومن ثم أمره به، وهكذا يحدث فى نفوس الكملة من أصحابه وأتباعه ما يقارب ذلك، والله يتقبله منهم.
ثم علل طلب الاستغفار بقوله:
(إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) أي إنه سبحانه كثير القبول لتوبة عباده، لأنه يربى النفوس بالمحن، فإذا وجدت الضعف أنهضها إلى طلب القوة، وشدّد عزيمتها بحسن الوعد، ولا يزال بها حتى تبلغ مرتبة الكمال.
وخلاصة ما سلف- إذا حصل الفتح وتحقق النصر، وأقبل الناس على الدين الحق فقد زال الخوف، فعليك أن تسبّح ربك وتشكره وتنزع عما كان من خواطر النفس وقت الشدة، فلن تعود الشدائد تأخذ نفوس المخلصين من عباده ماداموا على تلك الكثرة، ينزل بساحتهم الإخلاص وتجمعهم الألفة.
روى عنه: إنه قد نعيت إليه نفسه.
قال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى فى حجة الوداع، ثم نزلت «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» فعاش بعدها ثمانين يوما، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوما، ثم نزلت: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما، ثم نزلت: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ» فعاش بعدها واحدا وعشرين يوما.
وصلّ وسلّم ربّنا على محمد وآله وأصحابه الذين هاجروا وجاهدوا ورابطوا فى سبيل الله.
سورة المسد
هى مكية، وآياتها خمس، نزلت بعد سورة الفتح.
ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر فى السورة السابقة أن ثواب المطيع حصول النصر والاستعلاء فى الدنيا، والثواب الجزيل فى العقبى. وهنا ذكر أن عاقبة العاصي الخسار فى الدنيا والعقاب فى الآخرة.
أسباب نزول هذه السورة
روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: «خرج النبي ﷺ إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى (يا صباحاه) فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبّحكم أو ممسّيكم أكنتم تصدقونى؟ قالوا نعم، قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد» فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبّا لك!! وفى رواية:
إنه قام ينفض يديه ويقول: تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ».