تفسير سورة المدّثر

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
في هذه السورة أول أمر صريح للنبي صلى الله عليه وسلم بالقيام بمهمة الدعوة والإنذار، ورسم الخطة التي يجب عليه اتباعها في ذلك. وفيها إنذار للكفار بيوم القيامة وتنديد بمن وقف من النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن موقف الهزء والإنكار والإعراض والتحدي. وتقرير لمسؤولية الإنسان عن عمله. وذكر للملائكة وأهل الكتاب لأول مرة أيضا. ومن المحتمل أن تكون آياتها الأولى نزلت لحدتها، وأن يكون ترتيب السورة بسبب نزول هذه الآيات الأخرى احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلاّ بعد مضي النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته شوطاً ما. على أن أسلوب آيات السورة وانسجامها يسوغ القول أيضا : إنها نزلت دفعة واحدة أو متلاحقة. وإن الآيات الأولى بسبيل التثبيت. وحينئذ يكون ترتيبها كرابع سورة غير صحيح.

بسم الله الرحمن الرحيم

١- المدثر : المتدثر أي : المتلفف بدثاره أو غطائه.
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ١ ( ١ ) قمْ فَأَنذِرْ ( ٢ ) وربَكَ فَكَبِّرْ ( ٣ ) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ( ٤ ) وَالرُّجْزَ٢ فَاهْجُرْ( ٥ ) وَلَا تَمْنُن ٣ تَسْتَكْثِرُ ( ٦ ) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ( ٧ ) ﴾ ( ١-٧ )
ظاهر أن في ألفاظ بعض الآيات تأخيراً وتقديماً لحفظ الوزن والقافية، وأن تقديرها : وكبر ربك وطهر ثيابك واهجر الرجز ولا تستكثر ما تفعل ولا تمنن به أولا تفعله للاستكثار من المقابلة عليه واصبر لحكم ربك، ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى شرح آخر.
وقد ذكرت الروايات : أن هذه الآيات نزلت بعد فترة قصيرة من الوحي، بعد نزوله الأول على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء. ومما جاء في حديث مروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثوت منه خوفاً وجئت أهلي فقلت : زملوني زملوني، وفي رواية : دثروني دثروني، فدثروني فأنزل الله :﴿ يا أيها المدثر ﴾ إلى قوله ﴿ والرجز فاهجر ﴾ ثم تتابع الوحي١ وهناك روايات تذكر أنها ما أنزل أو أنها ثاني أو ثالث أو رابع مجموعة نزلت٢.
ولما كانت الآيات التالية لها قد احتوت حكاية أقوال بعض المكذبين ومواقفهم، ولا يمكن أن يكون هذا إلا بعد نزول جملة من القرآن وسير النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة شوطاً، فيكون ترتيب السورة المتقدم بسبب رواية تبكير نزول آياتها الأولى هذه.
والرواية التي تذكر أولية نزولها على غيرها وردت في حديث رواه البخاري ومسلم عن يحيى قال :" سألت أبا سلمة أيُّ القرآن أنزل أولُ ؟ فقال :﴿ يا أيها المدثر ﴾ قلت : أنبئتُ أنه ﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ ! فقال : لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : جاورت في حراء، فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض. فأتيت خديجة فقلت : دثّروني وصبّوا عليّ ماء بارداً ففعلوا وأنزل عليّ :﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ( ١ ) قُمْ فَأَنذِرْ ( ٢ ) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ( ٣ ) ﴾٣ [ سورة المدثر : ١- ٣ ]. ومع ذلك فليس في الكلام النبوي ما يساعد على الجزم بأولية الآيات. ويظل حديث أولية الآيات. ويظل حديث أولية آيات سورة العلق الأولى أقوى.
والآيات تحتوي أول أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الناس ودعوتهم وبما يجب عليه من الظهور بالمظهر الطاهر النظيف واللسان العفيف والتواضع. وهذا مما يمكن أن يدعم رواية كونها ثانية مجموعة نزلت بعد آيات العلق الأولى. والمصحف الذي اعتمدناه هو الذي ذكر أنها نزلت بعد المزمل، وجعلها رابع السور نزولاً فلم نشأ أن نخلّ في ترتيبه.
على أن روح الآيات ونظمها وروح الآيات التالية لها ونظمها أيضا يمكن أن يلهم أنها غير منفصلة عن بعضها. وحينئذ فإن الآيات تكون قد نزلت بقصد تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتكون قد نزلت هي والآيات التالية لها معاً أو متلاحقة بعد نزول سور وفصول قرآنية فيها مبادئ الدعوة وأهدافها. وفي هذه الحالة يكون ترتيبها كرابعة سورة قرآنية غير صحيح.
وعلى كل حال فالآيات وآيات السورة معا مما نزل مبكراً على ما يلهم أسلوبها ومضمونها، والخطة التي رسمها الله للنبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والاتصال بالناس ودعوتهم وإنذارهم من الأدلة القوية على ذلك. وهي خطة رائعة الشأن، فالله أكبر من كل شيء، وكل ما عداه حقير صغير، فلا ينبغي أن يعتبر غيره كبيراً مرهوباً ويجب أن يكون التعظيم له وحده. والصبر والثبات في المهمة كافلان للنجاح فيها. والداعي إلى الله ومكارم الأخلاق يجب أن يكون القدوة الصالحة لمن يدعوهم في الاستغراق في الله ومكارم الأخلاق وفعل الخير، بدون منّ واستكثار وانتظار جزاء ومقابلة، والطهارة مع البعد عن كل فحش وإثم وبذاءة ومظهر مستنكر.
والمدقق في السيرة النبوية وآيات القرآن التي احتوت أصدق الصور عنها يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم التزم هذه الخطة. وكانت من أقوى وسائل نجاح دعوته وتفاني أصحابه السابقين إلى الإيمان به في تأييده والالتفاف حوله، وتهيب غير المؤمنين له وتقديرهم إياه وعدم إنكارهم مزاياه الخلقية.
وهذه الخطة وإن كانت كما يتبادر قد رسمت للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن ما احتوته من تلقين موجه إلى كل مسلم وبخاصة إلى كل صاحب دعوة إصلاح ومعروف وإلى كل صاحب شأن ممن يتولون في الأمة الزعامة والتوجيه والإرشاد والإصلاح.
بل إنه موجه إلى كل مسلم إطلاقاً في كل زمن ومكان ليكون عنواناً للخلق الذي يجب أن يكون عليه المسلمون مظهراً وسيرة.
وفي القرآن آيات عديدة تؤكد ذلك، من ذلك في صدد المنّ آيات سورة البقرة هذه :﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ [ ٢٦٤ ].
وفي صدد الفواحش والآثام في الأقوال والأفعال آية سورة الأعراف هذه :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾.
وهناك أحاديث عديدة متساوقة مع الآيات، من ذلك حديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ليس المؤمن بالطعان ولا اللّعان ولا الفاحش ولا البذيء )٤ وحديث رواه الترمذي أيضاً عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يدخلُ الجنة خَبّ ولا منّانٌ ولا بَخيلٌ " ٥.
وحديث رواه الترمذي كذلك عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خصلتان لا تجتمعان في مؤمن : البخلُ وسوءُ الخلق )٦. ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث توجب غسل النجاسات عن الثياب مثل الدم والبول والغائط. من ذلك حديث رواه البزار عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إنّما يغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم )٧. وقد رتّب الفقهاء على ذلك كون طهارة الثياب ركنا من أركان الصلاة، ولقد أوجب الله على المسلم أن يصلي خمس مرات كل يوم ويستتبع هذا واجب عناية المسلم بطهارة ثيابه في كل وقت في الليل والنهار، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
ومن الجدير بالذكر أن حثّ الله ورسوله على الطهارة لا يقتصر على طهارة الثياب. ففي القرآن والأحاديث نصوص كثيرة توجب على المسلم طهارة البدن بالإضافة إلى طهارة ثيابه، فيتوضأ إذا قام إلى الصلاة ويغتسل إذا كان جنباً ويغسل أطرافه ويغتسل حتى لغير الوضوء والجنابة مما سوف نورده عليه في مناسبات أخرى.
هذا، والتساوق في مطلعي السورتين المزمل والمدثر لافت للنظر، ففي مطلع الأولى إعداد للنبي صلى الله عليه وسلم لمهمته العظمى ؛ وفي مطلع الثانية خطة له حينما أمر بدعوة الناس وإنذارهم. بل إن التساوق بين مطلعي السورتين الأوليين أيضاً ملحوظ إذا ما أنعم القارئ النظر، وكل هذا يؤيد تبكير نزول هذه المطالع.
الرجز : الفحش قولاً وعملاً أو المعصية والأوثان والإثم١
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ١ ( ١ ) قمْ فَأَنذِرْ ( ٢ ) وربَكَ فَكَبِّرْ ( ٣ ) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ( ٤ ) وَالرُّجْزَ٢ فَاهْجُرْ( ٥ ) وَلَا تَمْنُن ٣ تَسْتَكْثِرُ ( ٦ ) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ( ٧ ) ﴾ ( ١-٧ )
ظاهر أن في ألفاظ بعض الآيات تأخيراً وتقديماً لحفظ الوزن والقافية، وأن تقديرها : وكبر ربك وطهر ثيابك واهجر الرجز ولا تستكثر ما تفعل ولا تمنن به أولا تفعله للاستكثار من المقابلة عليه واصبر لحكم ربك، ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى شرح آخر.
وقد ذكرت الروايات : أن هذه الآيات نزلت بعد فترة قصيرة من الوحي، بعد نزوله الأول على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء. ومما جاء في حديث مروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثوت منه خوفاً وجئت أهلي فقلت : زملوني زملوني، وفي رواية : دثروني دثروني، فدثروني فأنزل الله :﴿ يا أيها المدثر ﴾ إلى قوله ﴿ والرجز فاهجر ﴾ ثم تتابع الوحي١ وهناك روايات تذكر أنها ما أنزل أو أنها ثاني أو ثالث أو رابع مجموعة نزلت٢.
ولما كانت الآيات التالية لها قد احتوت حكاية أقوال بعض المكذبين ومواقفهم، ولا يمكن أن يكون هذا إلا بعد نزول جملة من القرآن وسير النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة شوطاً، فيكون ترتيب السورة المتقدم بسبب رواية تبكير نزول آياتها الأولى هذه.
والرواية التي تذكر أولية نزولها على غيرها وردت في حديث رواه البخاري ومسلم عن يحيى قال :" سألت أبا سلمة أيُّ القرآن أنزل أولُ ؟ فقال :﴿ يا أيها المدثر ﴾ قلت : أنبئتُ أنه ﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ ! فقال : لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : جاورت في حراء، فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض. فأتيت خديجة فقلت : دثّروني وصبّوا عليّ ماء بارداً ففعلوا وأنزل عليّ :﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ( ١ ) قُمْ فَأَنذِرْ ( ٢ ) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ( ٣ ) ﴾٣ [ سورة المدثر : ١- ٣ ]. ومع ذلك فليس في الكلام النبوي ما يساعد على الجزم بأولية الآيات. ويظل حديث أولية الآيات. ويظل حديث أولية آيات سورة العلق الأولى أقوى.
والآيات تحتوي أول أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الناس ودعوتهم وبما يجب عليه من الظهور بالمظهر الطاهر النظيف واللسان العفيف والتواضع. وهذا مما يمكن أن يدعم رواية كونها ثانية مجموعة نزلت بعد آيات العلق الأولى. والمصحف الذي اعتمدناه هو الذي ذكر أنها نزلت بعد المزمل، وجعلها رابع السور نزولاً فلم نشأ أن نخلّ في ترتيبه.
على أن روح الآيات ونظمها وروح الآيات التالية لها ونظمها أيضا يمكن أن يلهم أنها غير منفصلة عن بعضها. وحينئذ فإن الآيات تكون قد نزلت بقصد تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتكون قد نزلت هي والآيات التالية لها معاً أو متلاحقة بعد نزول سور وفصول قرآنية فيها مبادئ الدعوة وأهدافها. وفي هذه الحالة يكون ترتيبها كرابعة سورة قرآنية غير صحيح.
وعلى كل حال فالآيات وآيات السورة معا مما نزل مبكراً على ما يلهم أسلوبها ومضمونها، والخطة التي رسمها الله للنبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والاتصال بالناس ودعوتهم وإنذارهم من الأدلة القوية على ذلك. وهي خطة رائعة الشأن، فالله أكبر من كل شيء، وكل ما عداه حقير صغير، فلا ينبغي أن يعتبر غيره كبيراً مرهوباً ويجب أن يكون التعظيم له وحده. والصبر والثبات في المهمة كافلان للنجاح فيها. والداعي إلى الله ومكارم الأخلاق يجب أن يكون القدوة الصالحة لمن يدعوهم في الاستغراق في الله ومكارم الأخلاق وفعل الخير، بدون منّ واستكثار وانتظار جزاء ومقابلة، والطهارة مع البعد عن كل فحش وإثم وبذاءة ومظهر مستنكر.
والمدقق في السيرة النبوية وآيات القرآن التي احتوت أصدق الصور عنها يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم التزم هذه الخطة. وكانت من أقوى وسائل نجاح دعوته وتفاني أصحابه السابقين إلى الإيمان به في تأييده والالتفاف حوله، وتهيب غير المؤمنين له وتقديرهم إياه وعدم إنكارهم مزاياه الخلقية.
وهذه الخطة وإن كانت كما يتبادر قد رسمت للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن ما احتوته من تلقين موجه إلى كل مسلم وبخاصة إلى كل صاحب دعوة إصلاح ومعروف وإلى كل صاحب شأن ممن يتولون في الأمة الزعامة والتوجيه والإرشاد والإصلاح.
بل إنه موجه إلى كل مسلم إطلاقاً في كل زمن ومكان ليكون عنواناً للخلق الذي يجب أن يكون عليه المسلمون مظهراً وسيرة.
وفي القرآن آيات عديدة تؤكد ذلك، من ذلك في صدد المنّ آيات سورة البقرة هذه :﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ [ ٢٦٤ ].
وفي صدد الفواحش والآثام في الأقوال والأفعال آية سورة الأعراف هذه :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾.
وهناك أحاديث عديدة متساوقة مع الآيات، من ذلك حديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ليس المؤمن بالطعان ولا اللّعان ولا الفاحش ولا البذيء )٤ وحديث رواه الترمذي أيضاً عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يدخلُ الجنة خَبّ ولا منّانٌ ولا بَخيلٌ " ٥.
وحديث رواه الترمذي كذلك عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خصلتان لا تجتمعان في مؤمن : البخلُ وسوءُ الخلق )٦. ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث توجب غسل النجاسات عن الثياب مثل الدم والبول والغائط. من ذلك حديث رواه البزار عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إنّما يغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم )٧. وقد رتّب الفقهاء على ذلك كون طهارة الثياب ركنا من أركان الصلاة، ولقد أوجب الله على المسلم أن يصلي خمس مرات كل يوم ويستتبع هذا واجب عناية المسلم بطهارة ثيابه في كل وقت في الليل والنهار، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
ومن الجدير بالذكر أن حثّ الله ورسوله على الطهارة لا يقتصر على طهارة الثياب. ففي القرآن والأحاديث نصوص كثيرة توجب على المسلم طهارة البدن بالإضافة إلى طهارة ثيابه، فيتوضأ إذا قام إلى الصلاة ويغتسل إذا كان جنباً ويغسل أطرافه ويغتسل حتى لغير الوضوء والجنابة مما سوف نورده عليه في مناسبات أخرى.
هذا، والتساوق في مطلعي السورتين المزمل والمدثر لافت للنظر، ففي مطلع الأولى إعداد للنبي صلى الله عليه وسلم لمهمته العظمى ؛ وفي مطلع الثانية خطة له حينما أمر بدعوة الناس وإنذارهم. بل إن التساوق بين مطلعي السورتين الأوليين أيضاً ملحوظ إذا ما أنعم القارئ النظر، وكل هذا يؤيد تبكير نزول هذه المطالع.
١ - انظر تفسيرها في تفسير الطبري.
.

ولا تمنن تستكثر : لا تعط ما تعطيه بقصد نيل الأكثر مقابلة له، وقيل : لا تستكثر ما تفعله من الخير وتمنن به أي تفخر به أو تحمل من تعطيه الجميل١، ويمكن أن تكون بمعنى أنك إذا لم تمنن بما تعطيه ييسر الله لك الأكثر منه، من باب ﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾ ( إبراهيم : ٧ ).
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ١ ( ١ ) قمْ فَأَنذِرْ ( ٢ ) وربَكَ فَكَبِّرْ ( ٣ ) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ( ٤ ) وَالرُّجْزَ٢ فَاهْجُرْ( ٥ ) وَلَا تَمْنُن ٣ تَسْتَكْثِرُ ( ٦ ) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ( ٧ ) ﴾ ( ١-٧ )
ظاهر أن في ألفاظ بعض الآيات تأخيراً وتقديماً لحفظ الوزن والقافية، وأن تقديرها : وكبر ربك وطهر ثيابك واهجر الرجز ولا تستكثر ما تفعل ولا تمنن به أولا تفعله للاستكثار من المقابلة عليه واصبر لحكم ربك، ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى شرح آخر.
وقد ذكرت الروايات : أن هذه الآيات نزلت بعد فترة قصيرة من الوحي، بعد نزوله الأول على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء. ومما جاء في حديث مروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثوت منه خوفاً وجئت أهلي فقلت : زملوني زملوني، وفي رواية : دثروني دثروني، فدثروني فأنزل الله :﴿ يا أيها المدثر ﴾ إلى قوله ﴿ والرجز فاهجر ﴾ ثم تتابع الوحي١ وهناك روايات تذكر أنها ما أنزل أو أنها ثاني أو ثالث أو رابع مجموعة نزلت٢.
ولما كانت الآيات التالية لها قد احتوت حكاية أقوال بعض المكذبين ومواقفهم، ولا يمكن أن يكون هذا إلا بعد نزول جملة من القرآن وسير النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة شوطاً، فيكون ترتيب السورة المتقدم بسبب رواية تبكير نزول آياتها الأولى هذه.
والرواية التي تذكر أولية نزولها على غيرها وردت في حديث رواه البخاري ومسلم عن يحيى قال :" سألت أبا سلمة أيُّ القرآن أنزل أولُ ؟ فقال :﴿ يا أيها المدثر ﴾ قلت : أنبئتُ أنه ﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ ! فقال : لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : جاورت في حراء، فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض. فأتيت خديجة فقلت : دثّروني وصبّوا عليّ ماء بارداً ففعلوا وأنزل عليّ :﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ( ١ ) قُمْ فَأَنذِرْ ( ٢ ) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ( ٣ ) ﴾٣ [ سورة المدثر : ١- ٣ ]. ومع ذلك فليس في الكلام النبوي ما يساعد على الجزم بأولية الآيات. ويظل حديث أولية الآيات. ويظل حديث أولية آيات سورة العلق الأولى أقوى.
والآيات تحتوي أول أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الناس ودعوتهم وبما يجب عليه من الظهور بالمظهر الطاهر النظيف واللسان العفيف والتواضع. وهذا مما يمكن أن يدعم رواية كونها ثانية مجموعة نزلت بعد آيات العلق الأولى. والمصحف الذي اعتمدناه هو الذي ذكر أنها نزلت بعد المزمل، وجعلها رابع السور نزولاً فلم نشأ أن نخلّ في ترتيبه.
على أن روح الآيات ونظمها وروح الآيات التالية لها ونظمها أيضا يمكن أن يلهم أنها غير منفصلة عن بعضها. وحينئذ فإن الآيات تكون قد نزلت بقصد تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتكون قد نزلت هي والآيات التالية لها معاً أو متلاحقة بعد نزول سور وفصول قرآنية فيها مبادئ الدعوة وأهدافها. وفي هذه الحالة يكون ترتيبها كرابعة سورة قرآنية غير صحيح.
وعلى كل حال فالآيات وآيات السورة معا مما نزل مبكراً على ما يلهم أسلوبها ومضمونها، والخطة التي رسمها الله للنبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والاتصال بالناس ودعوتهم وإنذارهم من الأدلة القوية على ذلك. وهي خطة رائعة الشأن، فالله أكبر من كل شيء، وكل ما عداه حقير صغير، فلا ينبغي أن يعتبر غيره كبيراً مرهوباً ويجب أن يكون التعظيم له وحده. والصبر والثبات في المهمة كافلان للنجاح فيها. والداعي إلى الله ومكارم الأخلاق يجب أن يكون القدوة الصالحة لمن يدعوهم في الاستغراق في الله ومكارم الأخلاق وفعل الخير، بدون منّ واستكثار وانتظار جزاء ومقابلة، والطهارة مع البعد عن كل فحش وإثم وبذاءة ومظهر مستنكر.
والمدقق في السيرة النبوية وآيات القرآن التي احتوت أصدق الصور عنها يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم التزم هذه الخطة. وكانت من أقوى وسائل نجاح دعوته وتفاني أصحابه السابقين إلى الإيمان به في تأييده والالتفاف حوله، وتهيب غير المؤمنين له وتقديرهم إياه وعدم إنكارهم مزاياه الخلقية.
وهذه الخطة وإن كانت كما يتبادر قد رسمت للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن ما احتوته من تلقين موجه إلى كل مسلم وبخاصة إلى كل صاحب دعوة إصلاح ومعروف وإلى كل صاحب شأن ممن يتولون في الأمة الزعامة والتوجيه والإرشاد والإصلاح.
بل إنه موجه إلى كل مسلم إطلاقاً في كل زمن ومكان ليكون عنواناً للخلق الذي يجب أن يكون عليه المسلمون مظهراً وسيرة.
وفي القرآن آيات عديدة تؤكد ذلك، من ذلك في صدد المنّ آيات سورة البقرة هذه :﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ [ ٢٦٤ ].
وفي صدد الفواحش والآثام في الأقوال والأفعال آية سورة الأعراف هذه :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( ٣٣ ) ﴾.
وهناك أحاديث عديدة متساوقة مع الآيات، من ذلك حديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ليس المؤمن بالطعان ولا اللّعان ولا الفاحش ولا البذيء )٤ وحديث رواه الترمذي أيضاً عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يدخلُ الجنة خَبّ ولا منّانٌ ولا بَخيلٌ " ٥.
وحديث رواه الترمذي كذلك عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خصلتان لا تجتمعان في مؤمن : البخلُ وسوءُ الخلق )٦. ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث توجب غسل النجاسات عن الثياب مثل الدم والبول والغائط. من ذلك حديث رواه البزار عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إنّما يغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم )٧. وقد رتّب الفقهاء على ذلك كون طهارة الثياب ركنا من أركان الصلاة، ولقد أوجب الله على المسلم أن يصلي خمس مرات كل يوم ويستتبع هذا واجب عناية المسلم بطهارة ثيابه في كل وقت في الليل والنهار، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
ومن الجدير بالذكر أن حثّ الله ورسوله على الطهارة لا يقتصر على طهارة الثياب. ففي القرآن والأحاديث نصوص كثيرة توجب على المسلم طهارة البدن بالإضافة إلى طهارة ثيابه، فيتوضأ إذا قام إلى الصلاة ويغتسل إذا كان جنباً ويغسل أطرافه ويغتسل حتى لغير الوضوء والجنابة مما سوف نورده عليه في مناسبات أخرى.
هذا، والتساوق في مطلعي السورتين المزمل والمدثر لافت للنظر، ففي مطلع الأولى إعداد للنبي صلى الله عليه وسلم لمهمته العظمى ؛ وفي مطلع الثانية خطة له حينما أمر بدعوة الناس وإنذارهم. بل إن التساوق بين مطلعي السورتين الأوليين أيضاً ملحوظ إذا ما أنعم القارئ النظر، وكل هذا يؤيد تبكير نزول هذه المطالع.
١ - انظر الطبري أيضا.
- الناقور : الأداة التي عليها أو ينفخ فيها لإحداث صوت خاص بدعوة الناس وتنبيههم، أو هو الصور أو القرن-note text-primary mx-٢" href="#foonote-١">١.
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ١ ( ٨ ) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ( ٩ )عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ( ١٠ ) ﴾[ ٨- ١٠ ]
وفي الآيات إشارة إلى الموقف العصيب العسير الذي سوف يواجهه الكافرون حينما يبعث الناس إلى يوم القيامة والحياة الأخرى.
والمتبادر أنها بسبيل الإنذار والوعيد، والفاء التي بدئت بها الآيات تعقيبيه، فكأنما جاءت الآيات معقبة على أمر الله للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر الذي كان في معرض التثبيت والتطمين، ومؤكدة له. فعليه الصبر لأمر ربه رغماً عن موقف الجاحدين لرسالته الذين سوف يكون حسابهم عسيراً يوم الجزاء الأخروي. وقد يلهم هذا صحة التوجيه الذي وجهناه من آيات السورة متصلة ببعضها نظماً وموضوعاً ونزولاً.
تعليق على النقر في الناقور ومرادفه النفخ
في الصور وما ورد في ذلك من أحاديث
والنقر في الناقور هو إيذان للبعث والقيامة الأخروية على ما تفيده العبارة والآيات. وقد فسره المفسرون وعلماء اللغة بالصور أو القرن الذي ينفخ فيه لتجميع الناس. وكلمة الناقور لم ترد إلا هذه المرة. غير أن كلمة الصور التي ترادفها في المعنى وردت مرات عديدة. منها ما ورد بدون آثار مثل آية سورة ق هذه :﴿ ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد( ٢٠ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا( ١٠٢ ) ﴾. ومنها ما ورد مع ذكر آثار النفخ في البشر مثل آية سورة النمل هذه :﴿ ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله... ﴾ [ ٨٧ ] وآية سورة الزمر هذه :﴿ وينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون( ٦٨ ) ﴾. وهناك أحاديث عديدة متنوعة الرتب في الصور، منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة، من ذلك حديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كيف أنعم ؟ وقد التقم صاحب القَرنِ القَرن َوحَنَى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ. قال المسلمون : فكيف نقول يا رسول الله ؟ قال : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، وعلى الله توكلنا " ٢ أأ وحديث ثان روياه أيضا جاء فيه :( سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور فقال قرنٌ ينفخ فيه )٣. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثاً جاء فيه :( ذكرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الدجّال إلى أن قال : ثم ينفخ في الصّور فلا يسمعهُ أحدٌ إلا أصغىليتاً ورفع ليتاً وأول من يسمعه رجلٌ يلوطُ حوضَ إبله فيصعقُ ويصعقُ الناس، ثم يرسل أو قال : ثم ينزلُ الله مطراً كأنه الطلُّ أو الظلُّ فتنبت منه أجسادُ الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ٌينظرون. ثم يقال : يا أيها الناس هلُّم إلى ربّكم ﴿ وقفوهم إنهم مسئولون ﴾ ثم يقال أخرجوا بعثَ النار فيقال : من كم ؟ فيقال : من كلّ ألف تسعمائة وتسعةً وتسعينَ قال فذاك يوم يجعل الولدانَ شيباً وذلك يوم يكشف عن سياق )٤. وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ما بين النفختين أربعون، قالوا : يا أبا هريرة أربعون يوما. قال : أبيت. قالوا : أربعون شهراً. قال : أبيتُ، قالوا : أربعونَ سنة. قال : أبيتُ ثم ينزلُ الله من السماء ماء فينبتونَ كما ينبتُ البقل، وليسَ من الإنسان شيءٌ إلا يبلى إلاّ عظماً واحداً، وهو عجْبُ الذنب ومنه يركّب الخلقُ يومَ القيامةِ )٥.
ومنها أحاديث أوردها المفسرون في سياق السور التي ذكر فيها الصور رواها أئمة حديث آخرون وهي إجمالا من باب الأحاديث السابقة وصحتها محتملة. منها حديث رواه الطبري في سياق تفسير جملة إن هي :﴿ إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ﴾ [ ص : ١٥ ]، عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لمّا فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعهُ على فيه شاخصٌ ببصره إلى العرشِ ينتظر متى يؤمرُ. قال أبو هريرة : يا رسولَ الله وما الصورُ ؟ قال : قرنٌ. قال : كيف هو ؟ قال : قرنٌ عظيمٌ ينفخُ فيه ثلاث نفخات نفخة الفزع الأولى، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين. يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخْ نفخةَ الفزع فيفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله ويأمره الله فيديمُها ويطوّلها فلا يفتر وهي التي يقول الله :﴿ وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة مالها من فواق ﴾ [ ص :]٦.
وما دام النفخ في الصور والنقر في الناقور قد ذكر في القرآن مع شيء من البيان في أحاديث نبوية صحيحة، فمن واجب المسلم الإيمان بذلك مثل سائر المشاهد الأخروية التي ورد خبرها في القرآن والحديث الصحيح. وهذا لا يمنع القول : إن حكمة التنزيل كما اقتضت أن تكون المشاهد الأخروية الأخرى من حساب ونعيم وعذاب مما هو مألوف في الدنيا من صور وبعبارات من بابها على ما ذكرناه في تعليقنا على الحياة الأخروية والجنة والنار في سور الفاتحة والقلم والمزمل اقتضت أن تكون دعوة الناس حين بعثهم من قبورهم وحشرهم يوم القيامة حينما تقترن مشيئة الله بذلك بأدوات وأساليب مألوفة في الدنيا، من حيث أن الناس اعتادوا الضرب على الطبول والنفخ بالأبواق والقرون والنقر على الأدوات المصوتة والهتاف بالأصوات العالية والصيحات الداوية حينما يراد تجميع الجموع لأمر هام. ولقد ورد في سورة ق ثلاث صور من ذلك معاً، ففي آية ذكر نفخ الصور ( ٢٠ ) وفي آية ذكر المنادي ( ٤١ ) وفي آية ذكرت الصيحة ( ٤٢ ). وقد يصح أن يضاف إلى ما قلناه أن فحوى وأسلوب الآيات والأحاديث يسوغان القول : إن قصد التأثير على السامعين وبعث الخوف والرهبة في قلوبهم من يوم الحشر والحساب الأخروي، وحملهم على تقوى الله لينالوا رضاءه وأمانه فيه من الحكمة المنطوية فيها، والله تعالى أعلم.
١ - انظر تفسيرها في تفسير الطبري.
٢ - التاج ج ٤ ص ٢٠١..
٣ - المصدر نفسه..
٤ - المصدر نفسه ج ٥ ص ٣٢٨- ٣٢٩ وفسر الشارح كلمه ليتاً بمعنى ناحية من عنقه وكلمة (أبيت) بمعنى لا أدري..
٥ - المصدر السابق نفسه..
٦ - هناك أحاديث أخرى رواها المفسرون في صدد الاستثناء الوارد في آيتي سورتي النحل والزمر سنوردها في مناسباتهما..
١- خلقت وحيداً : يمكن أن تكون الجملة بمعنى خلقته مجرداً من كل قوة ومال
وبنين. والآيات التالية تدعم هذا التأويل.
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا١ ( ١١ ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا( ١٢ ) وَبَنِينَ٢ شُهُودًا( ١٣ ) وَمَهَّدتُّ لَهُ٣ تَمْهِيدًا ( ١٤ ) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ( ١٥ ) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا( ١٦ ) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ٤ ﴾ [ ١١- ١٧ ].
والآيات واضحة المعنى، وقد احتوت صورة لأحد الزعماء الأثرياء المغترين بوفرة المال وكثرة البنين والتمكن ؛ وهو طامع بأن يجد عند الله المزيد من ذلك. ورد عليه وإنذار له فلن يكون له ما يطمع لأنه كان لآيات الله عنيداً رغم ما أغدقه عليه من النعم ولن يجد عند الله إلا الصعاب والمشاق. وكلمة ﴿ ذرني ﴾ التي بدئت بها الآيات تلهم أن الآيات نزلت بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم فليترك لله هذا الجاحد العنيد فهو الكفيل بالنكال به.
وقد روي١أن هذه الآيات نزلت في حق الوليد بن المغيرة.
ومما روي٢أن هذا قال : إذا كان محمد صادقاً فيما يصف فإن الجنة لم تخلق إلاّ لي ولأمثالي، فنزلت الآيات مقرعة مكذبة لأمله في زيادة نعم الله عليه وإدامتها في الآخرة.
وهذه والآيات تؤيد ما نبهنا عليه من الدلالات في سياق السور السابقة من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يلقى منذ بدء البعثة صداً وعناداً من زعماء قريش وأثريائهم، وأن التشاد أخذ يلقى يستمر بينه وبينهم منذ عهد مبكر ثم استمر، مما فيه دلالة على استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في اتصاله بمختلف طبقات قريش وزعمائهم بسبيل مهمته، وعلى عدم قطعه الصلة بالمرة بينه وبينهم على ما رجحناه في مناسبة سابقة أيضا.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى : فالإنسان الذي يسبغ الله عليه نعمه الكثيرة فيقويه ويغنيه ويعلي جاهه وشأنه حري بأن يكون أولى الناس بالاعتراف بفضله والقيام بما يأمره به من واجبات نحوه ونحو خلقه.
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا١ ( ١١ ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا( ١٢ ) وَبَنِينَ٢ شُهُودًا( ١٣ ) وَمَهَّدتُّ لَهُ٣ تَمْهِيدًا ( ١٤ ) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ( ١٥ ) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا( ١٦ ) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ٤ ﴾ [ ١١- ١٧ ].
والآيات واضحة المعنى، وقد احتوت صورة لأحد الزعماء الأثرياء المغترين بوفرة المال وكثرة البنين والتمكن ؛ وهو طامع بأن يجد عند الله المزيد من ذلك. ورد عليه وإنذار له فلن يكون له ما يطمع لأنه كان لآيات الله عنيداً رغم ما أغدقه عليه من النعم ولن يجد عند الله إلا الصعاب والمشاق. وكلمة ﴿ ذرني ﴾ التي بدئت بها الآيات تلهم أن الآيات نزلت بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم فليترك لله هذا الجاحد العنيد فهو الكفيل بالنكال به.
وقد روي١أن هذه الآيات نزلت في حق الوليد بن المغيرة.
ومما روي٢أن هذا قال : إذا كان محمد صادقاً فيما يصف فإن الجنة لم تخلق إلاّ لي ولأمثالي، فنزلت الآيات مقرعة مكذبة لأمله في زيادة نعم الله عليه وإدامتها في الآخرة.
وهذه والآيات تؤيد ما نبهنا عليه من الدلالات في سياق السور السابقة من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يلقى منذ بدء البعثة صداً وعناداً من زعماء قريش وأثريائهم، وأن التشاد أخذ يلقى يستمر بينه وبينهم منذ عهد مبكر ثم استمر، مما فيه دلالة على استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في اتصاله بمختلف طبقات قريش وزعمائهم بسبيل مهمته، وعلى عدم قطعه الصلة بالمرة بينه وبينهم على ما رجحناه في مناسبة سابقة أيضا.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى : فالإنسان الذي يسبغ الله عليه نعمه الكثيرة فيقويه ويغنيه ويعلي جاهه وشأنه حري بأن يكون أولى الناس بالاعتراف بفضله والقيام بما يأمره به من واجبات نحوه ونحو خلقه.
٢- بنين شهوداً : يمكن أن تكون الجملة بمعنى بنين حاضرين لديه لنصرته وقضاء مصالحه.
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا١ ( ١١ ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا( ١٢ ) وَبَنِينَ٢ شُهُودًا( ١٣ ) وَمَهَّدتُّ لَهُ٣ تَمْهِيدًا ( ١٤ ) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ( ١٥ ) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا( ١٦ ) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ٤ ﴾ [ ١١- ١٧ ].
والآيات واضحة المعنى، وقد احتوت صورة لأحد الزعماء الأثرياء المغترين بوفرة المال وكثرة البنين والتمكن ؛ وهو طامع بأن يجد عند الله المزيد من ذلك. ورد عليه وإنذار له فلن يكون له ما يطمع لأنه كان لآيات الله عنيداً رغم ما أغدقه عليه من النعم ولن يجد عند الله إلا الصعاب والمشاق. وكلمة ﴿ ذرني ﴾ التي بدئت بها الآيات تلهم أن الآيات نزلت بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم فليترك لله هذا الجاحد العنيد فهو الكفيل بالنكال به.
وقد روي١أن هذه الآيات نزلت في حق الوليد بن المغيرة.
ومما روي٢أن هذا قال : إذا كان محمد صادقاً فيما يصف فإن الجنة لم تخلق إلاّ لي ولأمثالي، فنزلت الآيات مقرعة مكذبة لأمله في زيادة نعم الله عليه وإدامتها في الآخرة.
وهذه والآيات تؤيد ما نبهنا عليه من الدلالات في سياق السور السابقة من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يلقى منذ بدء البعثة صداً وعناداً من زعماء قريش وأثريائهم، وأن التشاد أخذ يلقى يستمر بينه وبينهم منذ عهد مبكر ثم استمر، مما فيه دلالة على استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في اتصاله بمختلف طبقات قريش وزعمائهم بسبيل مهمته، وعلى عدم قطعه الصلة بالمرة بينه وبينهم على ما رجحناه في مناسبة سابقة أيضا.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى : فالإنسان الذي يسبغ الله عليه نعمه الكثيرة فيقويه ويغنيه ويعلي جاهه وشأنه حري بأن يكون أولى الناس بالاعتراف بفضله والقيام بما يأمره به من واجبات نحوه ونحو خلقه.
- مهدت له : مكنت له.
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا١ ( ١١ ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا( ١٢ ) وَبَنِينَ٢ شُهُودًا( ١٣ ) وَمَهَّدتُّ لَهُ٣ تَمْهِيدًا ( ١٤ ) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ( ١٥ ) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا( ١٦ ) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ٤ ﴾ [ ١١- ١٧ ].
والآيات واضحة المعنى، وقد احتوت صورة لأحد الزعماء الأثرياء المغترين بوفرة المال وكثرة البنين والتمكن ؛ وهو طامع بأن يجد عند الله المزيد من ذلك. ورد عليه وإنذار له فلن يكون له ما يطمع لأنه كان لآيات الله عنيداً رغم ما أغدقه عليه من النعم ولن يجد عند الله إلا الصعاب والمشاق. وكلمة ﴿ ذرني ﴾ التي بدئت بها الآيات تلهم أن الآيات نزلت بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم فليترك لله هذا الجاحد العنيد فهو الكفيل بالنكال به.
وقد روي١أن هذه الآيات نزلت في حق الوليد بن المغيرة.
ومما روي٢أن هذا قال : إذا كان محمد صادقاً فيما يصف فإن الجنة لم تخلق إلاّ لي ولأمثالي، فنزلت الآيات مقرعة مكذبة لأمله في زيادة نعم الله عليه وإدامتها في الآخرة.
وهذه والآيات تؤيد ما نبهنا عليه من الدلالات في سياق السور السابقة من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يلقى منذ بدء البعثة صداً وعناداً من زعماء قريش وأثريائهم، وأن التشاد أخذ يلقى يستمر بينه وبينهم منذ عهد مبكر ثم استمر، مما فيه دلالة على استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في اتصاله بمختلف طبقات قريش وزعمائهم بسبيل مهمته، وعلى عدم قطعه الصلة بالمرة بينه وبينهم على ما رجحناه في مناسبة سابقة أيضا.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى : فالإنسان الذي يسبغ الله عليه نعمه الكثيرة فيقويه ويغنيه ويعلي جاهه وشأنه حري بأن يكون أولى الناس بالاعتراف بفضله والقيام بما يأمره به من واجبات نحوه ونحو خلقه.
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا١ ( ١١ ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا( ١٢ ) وَبَنِينَ٢ شُهُودًا( ١٣ ) وَمَهَّدتُّ لَهُ٣ تَمْهِيدًا ( ١٤ ) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ( ١٥ ) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا( ١٦ ) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ٤ ﴾ [ ١١- ١٧ ].
والآيات واضحة المعنى، وقد احتوت صورة لأحد الزعماء الأثرياء المغترين بوفرة المال وكثرة البنين والتمكن ؛ وهو طامع بأن يجد عند الله المزيد من ذلك. ورد عليه وإنذار له فلن يكون له ما يطمع لأنه كان لآيات الله عنيداً رغم ما أغدقه عليه من النعم ولن يجد عند الله إلا الصعاب والمشاق. وكلمة ﴿ ذرني ﴾ التي بدئت بها الآيات تلهم أن الآيات نزلت بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم فليترك لله هذا الجاحد العنيد فهو الكفيل بالنكال به.
وقد روي١أن هذه الآيات نزلت في حق الوليد بن المغيرة.
ومما روي٢أن هذا قال : إذا كان محمد صادقاً فيما يصف فإن الجنة لم تخلق إلاّ لي ولأمثالي، فنزلت الآيات مقرعة مكذبة لأمله في زيادة نعم الله عليه وإدامتها في الآخرة.
وهذه والآيات تؤيد ما نبهنا عليه من الدلالات في سياق السور السابقة من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يلقى منذ بدء البعثة صداً وعناداً من زعماء قريش وأثريائهم، وأن التشاد أخذ يلقى يستمر بينه وبينهم منذ عهد مبكر ثم استمر، مما فيه دلالة على استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في اتصاله بمختلف طبقات قريش وزعمائهم بسبيل مهمته، وعلى عدم قطعه الصلة بالمرة بينه وبينهم على ما رجحناه في مناسبة سابقة أيضا.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى : فالإنسان الذي يسبغ الله عليه نعمه الكثيرة فيقويه ويغنيه ويعلي جاهه وشأنه حري بأن يكون أولى الناس بالاعتراف بفضله والقيام بما يأمره به من واجبات نحوه ونحو خلقه.
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا١ ( ١١ ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا( ١٢ ) وَبَنِينَ٢ شُهُودًا( ١٣ ) وَمَهَّدتُّ لَهُ٣ تَمْهِيدًا ( ١٤ ) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ( ١٥ ) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا( ١٦ ) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ٤ ﴾ [ ١١- ١٧ ].
والآيات واضحة المعنى، وقد احتوت صورة لأحد الزعماء الأثرياء المغترين بوفرة المال وكثرة البنين والتمكن ؛ وهو طامع بأن يجد عند الله المزيد من ذلك. ورد عليه وإنذار له فلن يكون له ما يطمع لأنه كان لآيات الله عنيداً رغم ما أغدقه عليه من النعم ولن يجد عند الله إلا الصعاب والمشاق. وكلمة ﴿ ذرني ﴾ التي بدئت بها الآيات تلهم أن الآيات نزلت بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم فليترك لله هذا الجاحد العنيد فهو الكفيل بالنكال به.
وقد روي١أن هذه الآيات نزلت في حق الوليد بن المغيرة.
ومما روي٢أن هذا قال : إذا كان محمد صادقاً فيما يصف فإن الجنة لم تخلق إلاّ لي ولأمثالي، فنزلت الآيات مقرعة مكذبة لأمله في زيادة نعم الله عليه وإدامتها في الآخرة.
وهذه والآيات تؤيد ما نبهنا عليه من الدلالات في سياق السور السابقة من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يلقى منذ بدء البعثة صداً وعناداً من زعماء قريش وأثريائهم، وأن التشاد أخذ يلقى يستمر بينه وبينهم منذ عهد مبكر ثم استمر، مما فيه دلالة على استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في اتصاله بمختلف طبقات قريش وزعمائهم بسبيل مهمته، وعلى عدم قطعه الصلة بالمرة بينه وبينهم على ما رجحناه في مناسبة سابقة أيضا.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى : فالإنسان الذي يسبغ الله عليه نعمه الكثيرة فيقويه ويغنيه ويعلي جاهه وشأنه حري بأن يكون أولى الناس بالاعتراف بفضله والقيام بما يأمره به من واجبات نحوه ونحو خلقه.
٤- سأرهقه صعوداً : بمعنى سأتبعه وأحمله المشقات لأن المشقة تحصل عادة من الصعود للمرتفعات.
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا١ ( ١١ ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا( ١٢ ) وَبَنِينَ٢ شُهُودًا( ١٣ ) وَمَهَّدتُّ لَهُ٣ تَمْهِيدًا ( ١٤ ) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ( ١٥ ) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا( ١٦ ) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ٤ ﴾ [ ١١- ١٧ ].
والآيات واضحة المعنى، وقد احتوت صورة لأحد الزعماء الأثرياء المغترين بوفرة المال وكثرة البنين والتمكن ؛ وهو طامع بأن يجد عند الله المزيد من ذلك. ورد عليه وإنذار له فلن يكون له ما يطمع لأنه كان لآيات الله عنيداً رغم ما أغدقه عليه من النعم ولن يجد عند الله إلا الصعاب والمشاق. وكلمة ﴿ ذرني ﴾ التي بدئت بها الآيات تلهم أن الآيات نزلت بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم فليترك لله هذا الجاحد العنيد فهو الكفيل بالنكال به.
وقد روي١أن هذه الآيات نزلت في حق الوليد بن المغيرة.
ومما روي٢أن هذا قال : إذا كان محمد صادقاً فيما يصف فإن الجنة لم تخلق إلاّ لي ولأمثالي، فنزلت الآيات مقرعة مكذبة لأمله في زيادة نعم الله عليه وإدامتها في الآخرة.
وهذه والآيات تؤيد ما نبهنا عليه من الدلالات في سياق السور السابقة من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يلقى منذ بدء البعثة صداً وعناداً من زعماء قريش وأثريائهم، وأن التشاد أخذ يلقى يستمر بينه وبينهم منذ عهد مبكر ثم استمر، مما فيه دلالة على استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في اتصاله بمختلف طبقات قريش وزعمائهم بسبيل مهمته، وعلى عدم قطعه الصلة بالمرة بينه وبينهم على ما رجحناه في مناسبة سابقة أيضا.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى : فالإنسان الذي يسبغ الله عليه نعمه الكثيرة فيقويه ويغنيه ويعلي جاهه وشأنه حري بأن يكون أولى الناس بالاعتراف بفضله والقيام بما يأمره به من واجبات نحوه ونحو خلقه.
- إنه فكر وقدر : بمعنى استنتج وحسب بعد التفكير
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ١ ( ١٨ ) فَقُتِلَ ٢ كَيْفَ قَدَّرَ( ١٩ ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ( ٢٠ ) ثُمَّ نَظَرَ( ٢١ ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ٣ ( ٢٢ ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ( ٢٣ ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ ٤ يُؤْثَرُ ٥ ( ٢٤ ) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ( ٢٥ ) ﴾[ ١٨ -٢٥ ].
وهذه الآيات تصف موقف ذلك الكافر العنيد الذي أشير إليه في الآيات السابقة، فقد فكر في نفسه حينما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن واستنتج وحسب أنه عرف الحقيقة قاتله الله ثم قاتله، فلم يلبث أن عبس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وتجهم، ثم أدبر عنه مستكبراً مستخفاً قائلاً : إن هذا هو من أعمال السحرة وأقوالهم المعروفة، وإنه ليس إلا من كلام البشر.
والآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو واضح. وأسلوبها تنديدي وتقريعي ووصفي معا. والوصف قوي يكاد القارئ يرى منه موقف الكافر العنيد ماثلاً بارزاً.
وقد روى المفسرون : أن هذا الموقف الذي وصفته الآيات هو كذلك موقف الوليد بن المغيرة الذي روي عنه القول السابق في سياق الآيات السابقة. فقد روى الطبري في سياق هذه الآيات : أن الوليد قال لزعماء قريش : سأختبر لكم الليلة هذا الرجل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قائماً يصلي ويقرأ القرآن فعاد فسألوه فقال : سمعت قولاً حلواً أخضر مثمراً يأخذ بالقلوب، فقالوا : هو شعر فقال : لا والله ما هو بالشعر، وليس أحد أعلم بالشعر مني. قالوا : فهو كاهن ؟ فقال : لا والله ما هو بكاهن فقد عرضت الكهانة عليّ. قالوا : فهو سحر الأولين اكتتبه ؟ فقال : لا أدري إن كان شيئا فهو إذاً سحر يؤثر. وقد روى ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات رواية أخرى فيها بعض المباينة متفقة في جوهرها مع الرواية السابقة.
ومهما يكن من أمر ففي الآيات صورة أخرى تكررت كثيرا فيما بعد، مما وجه للنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة من ردود على دعوى نبوته وصلته بوحي الله. ففي سورة القلم حكي أنه قيل له إنه مجنون وإن ما يتلوه هو من أساطير الأولين. وهنا قيل له : إنه قول بشر وإنه مظهر من مظاهر السحرة والسحر. وكما ردّ القرآن على ذلك القول رداً قوياً أيضا. ثم بين بعد قليل جانباً من أهداف الدعوة السامية وحمل حلمة تنديدية على الذين يقفون منها موقف التكذيب والمناوأة. وهكذا يتسق الموقف في المنافحة والنضال ويصمد النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد الله ووحيه. وهذا وذاك كلاهما ظل يتكرر في كل مناسبة وظل الموقف متسقاً في كل مشهد إلى أن حق الحق وزهق الباطل.
وحكاية قول الكافر :﴿ إن هذا إلا سحر يؤثر( ٢٤ ) إن هذا إلا قول البشر ( ٢٥ ) ﴾ هي عن القرآن. وليس في السور الثلاث السابقة إلاّ حكاية مواقف حجاج وجحود وحملات على أصحابها. والمعقول أن يكون هذا القول هو في صدد مجموعات قرآنية أخرى، فيها مبادئ الدعوة وأهدافها، وهي التي كان يعنيها لفظ القرآن، ولو أنه صار علماً صادقاً على جميع محتويات المصحف على ما شرحناه في تفسير سورة المزمل ؛ ولذلك فإن هذه الآيات لا بد من أن تكون قد نزلت بعد نزول مجموعة من " هذا القرآن " وحينئذ يكون شكنا في صحة ترتيب هذه السورة والسور الثلاث السابقة لها في محله ؛ إلا إذا صحت روايات تبكير نزول مطالعها منفصلة عن سائرها لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وإعداده وحسب. وباستثناء مطلع سورة العلق، فإن روايات المطالع الأخرى موضع نظر على ما نبهنا عليه.
- قُتل : دعاء بمعنى قاتله الله.
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ١ ( ١٨ ) فَقُتِلَ ٢ كَيْفَ قَدَّرَ( ١٩ ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ( ٢٠ ) ثُمَّ نَظَرَ( ٢١ ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ٣ ( ٢٢ ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ( ٢٣ ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ ٤ يُؤْثَرُ ٥ ( ٢٤ ) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ( ٢٥ ) ﴾[ ١٨ -٢٥ ].
وهذه الآيات تصف موقف ذلك الكافر العنيد الذي أشير إليه في الآيات السابقة، فقد فكر في نفسه حينما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن واستنتج وحسب أنه عرف الحقيقة قاتله الله ثم قاتله، فلم يلبث أن عبس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وتجهم، ثم أدبر عنه مستكبراً مستخفاً قائلاً : إن هذا هو من أعمال السحرة وأقوالهم المعروفة، وإنه ليس إلا من كلام البشر.
والآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو واضح. وأسلوبها تنديدي وتقريعي ووصفي معا. والوصف قوي يكاد القارئ يرى منه موقف الكافر العنيد ماثلاً بارزاً.
وقد روى المفسرون : أن هذا الموقف الذي وصفته الآيات هو كذلك موقف الوليد بن المغيرة الذي روي عنه القول السابق في سياق الآيات السابقة. فقد روى الطبري في سياق هذه الآيات : أن الوليد قال لزعماء قريش : سأختبر لكم الليلة هذا الرجل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قائماً يصلي ويقرأ القرآن فعاد فسألوه فقال : سمعت قولاً حلواً أخضر مثمراً يأخذ بالقلوب، فقالوا : هو شعر فقال : لا والله ما هو بالشعر، وليس أحد أعلم بالشعر مني. قالوا : فهو كاهن ؟ فقال : لا والله ما هو بكاهن فقد عرضت الكهانة عليّ. قالوا : فهو سحر الأولين اكتتبه ؟ فقال : لا أدري إن كان شيئا فهو إذاً سحر يؤثر. وقد روى ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات رواية أخرى فيها بعض المباينة متفقة في جوهرها مع الرواية السابقة.
ومهما يكن من أمر ففي الآيات صورة أخرى تكررت كثيرا فيما بعد، مما وجه للنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة من ردود على دعوى نبوته وصلته بوحي الله. ففي سورة القلم حكي أنه قيل له إنه مجنون وإن ما يتلوه هو من أساطير الأولين. وهنا قيل له : إنه قول بشر وإنه مظهر من مظاهر السحرة والسحر. وكما ردّ القرآن على ذلك القول رداً قوياً أيضا. ثم بين بعد قليل جانباً من أهداف الدعوة السامية وحمل حلمة تنديدية على الذين يقفون منها موقف التكذيب والمناوأة. وهكذا يتسق الموقف في المنافحة والنضال ويصمد النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد الله ووحيه. وهذا وذاك كلاهما ظل يتكرر في كل مناسبة وظل الموقف متسقاً في كل مشهد إلى أن حق الحق وزهق الباطل.
وحكاية قول الكافر :﴿ إن هذا إلا سحر يؤثر( ٢٤ ) إن هذا إلا قول البشر ( ٢٥ ) ﴾ هي عن القرآن. وليس في السور الثلاث السابقة إلاّ حكاية مواقف حجاج وجحود وحملات على أصحابها. والمعقول أن يكون هذا القول هو في صدد مجموعات قرآنية أخرى، فيها مبادئ الدعوة وأهدافها، وهي التي كان يعنيها لفظ القرآن، ولو أنه صار علماً صادقاً على جميع محتويات المصحف على ما شرحناه في تفسير سورة المزمل ؛ ولذلك فإن هذه الآيات لا بد من أن تكون قد نزلت بعد نزول مجموعة من " هذا القرآن " وحينئذ يكون شكنا في صحة ترتيب هذه السورة والسور الثلاث السابقة لها في محله ؛ إلا إذا صحت روايات تبكير نزول مطالعها منفصلة عن سائرها لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وإعداده وحسب. وباستثناء مطلع سورة العلق، فإن روايات المطالع الأخرى موضع نظر على ما نبهنا عليه.
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ١ ( ١٨ ) فَقُتِلَ ٢ كَيْفَ قَدَّرَ( ١٩ ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ( ٢٠ ) ثُمَّ نَظَرَ( ٢١ ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ٣ ( ٢٢ ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ( ٢٣ ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ ٤ يُؤْثَرُ ٥ ( ٢٤ ) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ( ٢٥ ) ﴾[ ١٨ -٢٥ ].
وهذه الآيات تصف موقف ذلك الكافر العنيد الذي أشير إليه في الآيات السابقة، فقد فكر في نفسه حينما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن واستنتج وحسب أنه عرف الحقيقة قاتله الله ثم قاتله، فلم يلبث أن عبس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وتجهم، ثم أدبر عنه مستكبراً مستخفاً قائلاً : إن هذا هو من أعمال السحرة وأقوالهم المعروفة، وإنه ليس إلا من كلام البشر.
والآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو واضح. وأسلوبها تنديدي وتقريعي ووصفي معا. والوصف قوي يكاد القارئ يرى منه موقف الكافر العنيد ماثلاً بارزاً.
وقد روى المفسرون : أن هذا الموقف الذي وصفته الآيات هو كذلك موقف الوليد بن المغيرة الذي روي عنه القول السابق في سياق الآيات السابقة. فقد روى الطبري في سياق هذه الآيات : أن الوليد قال لزعماء قريش : سأختبر لكم الليلة هذا الرجل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قائماً يصلي ويقرأ القرآن فعاد فسألوه فقال : سمعت قولاً حلواً أخضر مثمراً يأخذ بالقلوب، فقالوا : هو شعر فقال : لا والله ما هو بالشعر، وليس أحد أعلم بالشعر مني. قالوا : فهو كاهن ؟ فقال : لا والله ما هو بكاهن فقد عرضت الكهانة عليّ. قالوا : فهو سحر الأولين اكتتبه ؟ فقال : لا أدري إن كان شيئا فهو إذاً سحر يؤثر. وقد روى ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات رواية أخرى فيها بعض المباينة متفقة في جوهرها مع الرواية السابقة.
ومهما يكن من أمر ففي الآيات صورة أخرى تكررت كثيرا فيما بعد، مما وجه للنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة من ردود على دعوى نبوته وصلته بوحي الله. ففي سورة القلم حكي أنه قيل له إنه مجنون وإن ما يتلوه هو من أساطير الأولين. وهنا قيل له : إنه قول بشر وإنه مظهر من مظاهر السحرة والسحر. وكما ردّ القرآن على ذلك القول رداً قوياً أيضا. ثم بين بعد قليل جانباً من أهداف الدعوة السامية وحمل حلمة تنديدية على الذين يقفون منها موقف التكذيب والمناوأة. وهكذا يتسق الموقف في المنافحة والنضال ويصمد النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد الله ووحيه. وهذا وذاك كلاهما ظل يتكرر في كل مناسبة وظل الموقف متسقاً في كل مشهد إلى أن حق الحق وزهق الباطل.
وحكاية قول الكافر :﴿ إن هذا إلا سحر يؤثر( ٢٤ ) إن هذا إلا قول البشر ( ٢٥ ) ﴾ هي عن القرآن. وليس في السور الثلاث السابقة إلاّ حكاية مواقف حجاج وجحود وحملات على أصحابها. والمعقول أن يكون هذا القول هو في صدد مجموعات قرآنية أخرى، فيها مبادئ الدعوة وأهدافها، وهي التي كان يعنيها لفظ القرآن، ولو أنه صار علماً صادقاً على جميع محتويات المصحف على ما شرحناه في تفسير سورة المزمل ؛ ولذلك فإن هذه الآيات لا بد من أن تكون قد نزلت بعد نزول مجموعة من " هذا القرآن " وحينئذ يكون شكنا في صحة ترتيب هذه السورة والسور الثلاث السابقة لها في محله ؛ إلا إذا صحت روايات تبكير نزول مطالعها منفصلة عن سائرها لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وإعداده وحسب. وباستثناء مطلع سورة العلق، فإن روايات المطالع الأخرى موضع نظر على ما نبهنا عليه.
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ١ ( ١٨ ) فَقُتِلَ ٢ كَيْفَ قَدَّرَ( ١٩ ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ( ٢٠ ) ثُمَّ نَظَرَ( ٢١ ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ٣ ( ٢٢ ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ( ٢٣ ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ ٤ يُؤْثَرُ ٥ ( ٢٤ ) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ( ٢٥ ) ﴾[ ١٨ -٢٥ ].
وهذه الآيات تصف موقف ذلك الكافر العنيد الذي أشير إليه في الآيات السابقة، فقد فكر في نفسه حينما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن واستنتج وحسب أنه عرف الحقيقة قاتله الله ثم قاتله، فلم يلبث أن عبس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وتجهم، ثم أدبر عنه مستكبراً مستخفاً قائلاً : إن هذا هو من أعمال السحرة وأقوالهم المعروفة، وإنه ليس إلا من كلام البشر.
والآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو واضح. وأسلوبها تنديدي وتقريعي ووصفي معا. والوصف قوي يكاد القارئ يرى منه موقف الكافر العنيد ماثلاً بارزاً.
وقد روى المفسرون : أن هذا الموقف الذي وصفته الآيات هو كذلك موقف الوليد بن المغيرة الذي روي عنه القول السابق في سياق الآيات السابقة. فقد روى الطبري في سياق هذه الآيات : أن الوليد قال لزعماء قريش : سأختبر لكم الليلة هذا الرجل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قائماً يصلي ويقرأ القرآن فعاد فسألوه فقال : سمعت قولاً حلواً أخضر مثمراً يأخذ بالقلوب، فقالوا : هو شعر فقال : لا والله ما هو بالشعر، وليس أحد أعلم بالشعر مني. قالوا : فهو كاهن ؟ فقال : لا والله ما هو بكاهن فقد عرضت الكهانة عليّ. قالوا : فهو سحر الأولين اكتتبه ؟ فقال : لا أدري إن كان شيئا فهو إذاً سحر يؤثر. وقد روى ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات رواية أخرى فيها بعض المباينة متفقة في جوهرها مع الرواية السابقة.
ومهما يكن من أمر ففي الآيات صورة أخرى تكررت كثيرا فيما بعد، مما وجه للنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة من ردود على دعوى نبوته وصلته بوحي الله. ففي سورة القلم حكي أنه قيل له إنه مجنون وإن ما يتلوه هو من أساطير الأولين. وهنا قيل له : إنه قول بشر وإنه مظهر من مظاهر السحرة والسحر. وكما ردّ القرآن على ذلك القول رداً قوياً أيضا. ثم بين بعد قليل جانباً من أهداف الدعوة السامية وحمل حلمة تنديدية على الذين يقفون منها موقف التكذيب والمناوأة. وهكذا يتسق الموقف في المنافحة والنضال ويصمد النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد الله ووحيه. وهذا وذاك كلاهما ظل يتكرر في كل مناسبة وظل الموقف متسقاً في كل مشهد إلى أن حق الحق وزهق الباطل.
وحكاية قول الكافر :﴿ إن هذا إلا سحر يؤثر( ٢٤ ) إن هذا إلا قول البشر ( ٢٥ ) ﴾ هي عن القرآن. وليس في السور الثلاث السابقة إلاّ حكاية مواقف حجاج وجحود وحملات على أصحابها. والمعقول أن يكون هذا القول هو في صدد مجموعات قرآنية أخرى، فيها مبادئ الدعوة وأهدافها، وهي التي كان يعنيها لفظ القرآن، ولو أنه صار علماً صادقاً على جميع محتويات المصحف على ما شرحناه في تفسير سورة المزمل ؛ ولذلك فإن هذه الآيات لا بد من أن تكون قد نزلت بعد نزول مجموعة من " هذا القرآن " وحينئذ يكون شكنا في صحة ترتيب هذه السورة والسور الثلاث السابقة لها في محله ؛ إلا إذا صحت روايات تبكير نزول مطالعها منفصلة عن سائرها لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وإعداده وحسب. وباستثناء مطلع سورة العلق، فإن روايات المطالع الأخرى موضع نظر على ما نبهنا عليه.
- بسر : تجهم.
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ١ ( ١٨ ) فَقُتِلَ ٢ كَيْفَ قَدَّرَ( ١٩ ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ( ٢٠ ) ثُمَّ نَظَرَ( ٢١ ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ٣ ( ٢٢ ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ( ٢٣ ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ ٤ يُؤْثَرُ ٥ ( ٢٤ ) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ( ٢٥ ) ﴾[ ١٨ -٢٥ ].
وهذه الآيات تصف موقف ذلك الكافر العنيد الذي أشير إليه في الآيات السابقة، فقد فكر في نفسه حينما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن واستنتج وحسب أنه عرف الحقيقة قاتله الله ثم قاتله، فلم يلبث أن عبس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وتجهم، ثم أدبر عنه مستكبراً مستخفاً قائلاً : إن هذا هو من أعمال السحرة وأقوالهم المعروفة، وإنه ليس إلا من كلام البشر.
والآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو واضح. وأسلوبها تنديدي وتقريعي ووصفي معا. والوصف قوي يكاد القارئ يرى منه موقف الكافر العنيد ماثلاً بارزاً.
وقد روى المفسرون : أن هذا الموقف الذي وصفته الآيات هو كذلك موقف الوليد بن المغيرة الذي روي عنه القول السابق في سياق الآيات السابقة. فقد روى الطبري في سياق هذه الآيات : أن الوليد قال لزعماء قريش : سأختبر لكم الليلة هذا الرجل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قائماً يصلي ويقرأ القرآن فعاد فسألوه فقال : سمعت قولاً حلواً أخضر مثمراً يأخذ بالقلوب، فقالوا : هو شعر فقال : لا والله ما هو بالشعر، وليس أحد أعلم بالشعر مني. قالوا : فهو كاهن ؟ فقال : لا والله ما هو بكاهن فقد عرضت الكهانة عليّ. قالوا : فهو سحر الأولين اكتتبه ؟ فقال : لا أدري إن كان شيئا فهو إذاً سحر يؤثر. وقد روى ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات رواية أخرى فيها بعض المباينة متفقة في جوهرها مع الرواية السابقة.
ومهما يكن من أمر ففي الآيات صورة أخرى تكررت كثيرا فيما بعد، مما وجه للنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة من ردود على دعوى نبوته وصلته بوحي الله. ففي سورة القلم حكي أنه قيل له إنه مجنون وإن ما يتلوه هو من أساطير الأولين. وهنا قيل له : إنه قول بشر وإنه مظهر من مظاهر السحرة والسحر. وكما ردّ القرآن على ذلك القول رداً قوياً أيضا. ثم بين بعد قليل جانباً من أهداف الدعوة السامية وحمل حلمة تنديدية على الذين يقفون منها موقف التكذيب والمناوأة. وهكذا يتسق الموقف في المنافحة والنضال ويصمد النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد الله ووحيه. وهذا وذاك كلاهما ظل يتكرر في كل مناسبة وظل الموقف متسقاً في كل مشهد إلى أن حق الحق وزهق الباطل.
وحكاية قول الكافر :﴿ إن هذا إلا سحر يؤثر( ٢٤ ) إن هذا إلا قول البشر ( ٢٥ ) ﴾ هي عن القرآن. وليس في السور الثلاث السابقة إلاّ حكاية مواقف حجاج وجحود وحملات على أصحابها. والمعقول أن يكون هذا القول هو في صدد مجموعات قرآنية أخرى، فيها مبادئ الدعوة وأهدافها، وهي التي كان يعنيها لفظ القرآن، ولو أنه صار علماً صادقاً على جميع محتويات المصحف على ما شرحناه في تفسير سورة المزمل ؛ ولذلك فإن هذه الآيات لا بد من أن تكون قد نزلت بعد نزول مجموعة من " هذا القرآن " وحينئذ يكون شكنا في صحة ترتيب هذه السورة والسور الثلاث السابقة لها في محله ؛ إلا إذا صحت روايات تبكير نزول مطالعها منفصلة عن سائرها لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وإعداده وحسب. وباستثناء مطلع سورة العلق، فإن روايات المطالع الأخرى موضع نظر على ما نبهنا عليه.
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ١ ( ١٨ ) فَقُتِلَ ٢ كَيْفَ قَدَّرَ( ١٩ ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ( ٢٠ ) ثُمَّ نَظَرَ( ٢١ ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ٣ ( ٢٢ ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ( ٢٣ ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ ٤ يُؤْثَرُ ٥ ( ٢٤ ) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ( ٢٥ ) ﴾[ ١٨ -٢٥ ].
وهذه الآيات تصف موقف ذلك الكافر العنيد الذي أشير إليه في الآيات السابقة، فقد فكر في نفسه حينما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن واستنتج وحسب أنه عرف الحقيقة قاتله الله ثم قاتله، فلم يلبث أن عبس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وتجهم، ثم أدبر عنه مستكبراً مستخفاً قائلاً : إن هذا هو من أعمال السحرة وأقوالهم المعروفة، وإنه ليس إلا من كلام البشر.
والآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو واضح. وأسلوبها تنديدي وتقريعي ووصفي معا. والوصف قوي يكاد القارئ يرى منه موقف الكافر العنيد ماثلاً بارزاً.
وقد روى المفسرون : أن هذا الموقف الذي وصفته الآيات هو كذلك موقف الوليد بن المغيرة الذي روي عنه القول السابق في سياق الآيات السابقة. فقد روى الطبري في سياق هذه الآيات : أن الوليد قال لزعماء قريش : سأختبر لكم الليلة هذا الرجل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قائماً يصلي ويقرأ القرآن فعاد فسألوه فقال : سمعت قولاً حلواً أخضر مثمراً يأخذ بالقلوب، فقالوا : هو شعر فقال : لا والله ما هو بالشعر، وليس أحد أعلم بالشعر مني. قالوا : فهو كاهن ؟ فقال : لا والله ما هو بكاهن فقد عرضت الكهانة عليّ. قالوا : فهو سحر الأولين اكتتبه ؟ فقال : لا أدري إن كان شيئا فهو إذاً سحر يؤثر. وقد روى ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات رواية أخرى فيها بعض المباينة متفقة في جوهرها مع الرواية السابقة.
ومهما يكن من أمر ففي الآيات صورة أخرى تكررت كثيرا فيما بعد، مما وجه للنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة من ردود على دعوى نبوته وصلته بوحي الله. ففي سورة القلم حكي أنه قيل له إنه مجنون وإن ما يتلوه هو من أساطير الأولين. وهنا قيل له : إنه قول بشر وإنه مظهر من مظاهر السحرة والسحر. وكما ردّ القرآن على ذلك القول رداً قوياً أيضا. ثم بين بعد قليل جانباً من أهداف الدعوة السامية وحمل حلمة تنديدية على الذين يقفون منها موقف التكذيب والمناوأة. وهكذا يتسق الموقف في المنافحة والنضال ويصمد النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد الله ووحيه. وهذا وذاك كلاهما ظل يتكرر في كل مناسبة وظل الموقف متسقاً في كل مشهد إلى أن حق الحق وزهق الباطل.
وحكاية قول الكافر :﴿ إن هذا إلا سحر يؤثر( ٢٤ ) إن هذا إلا قول البشر ( ٢٥ ) ﴾ هي عن القرآن. وليس في السور الثلاث السابقة إلاّ حكاية مواقف حجاج وجحود وحملات على أصحابها. والمعقول أن يكون هذا القول هو في صدد مجموعات قرآنية أخرى، فيها مبادئ الدعوة وأهدافها، وهي التي كان يعنيها لفظ القرآن، ولو أنه صار علماً صادقاً على جميع محتويات المصحف على ما شرحناه في تفسير سورة المزمل ؛ ولذلك فإن هذه الآيات لا بد من أن تكون قد نزلت بعد نزول مجموعة من " هذا القرآن " وحينئذ يكون شكنا في صحة ترتيب هذه السورة والسور الثلاث السابقة لها في محله ؛ إلا إذا صحت روايات تبكير نزول مطالعها منفصلة عن سائرها لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وإعداده وحسب. وباستثناء مطلع سورة العلق، فإن روايات المطالع الأخرى موضع نظر على ما نبهنا عليه.
- سحر : أصل معنى الكلمة : إزالة الشيء أو صرفه عن موضعه. ومن التعريفات التي عرف بها : أنه كل ما دقّ مأخذه وخفي سببه من آثار نفسية وحسية. أو كل ما ظهر على غير حقيقته. أو كل ما يحدث في النفس والحث من آثار غير اعتيادية.
- يؤثر : معروف مأثور.
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ١ ( ١٨ ) فَقُتِلَ ٢ كَيْفَ قَدَّرَ( ١٩ ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ( ٢٠ ) ثُمَّ نَظَرَ( ٢١ ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ٣ ( ٢٢ ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ( ٢٣ ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ ٤ يُؤْثَرُ ٥ ( ٢٤ ) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ( ٢٥ ) ﴾[ ١٨ -٢٥ ].
وهذه الآيات تصف موقف ذلك الكافر العنيد الذي أشير إليه في الآيات السابقة، فقد فكر في نفسه حينما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن واستنتج وحسب أنه عرف الحقيقة قاتله الله ثم قاتله، فلم يلبث أن عبس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وتجهم، ثم أدبر عنه مستكبراً مستخفاً قائلاً : إن هذا هو من أعمال السحرة وأقوالهم المعروفة، وإنه ليس إلا من كلام البشر.
والآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو واضح. وأسلوبها تنديدي وتقريعي ووصفي معا. والوصف قوي يكاد القارئ يرى منه موقف الكافر العنيد ماثلاً بارزاً.
وقد روى المفسرون : أن هذا الموقف الذي وصفته الآيات هو كذلك موقف الوليد بن المغيرة الذي روي عنه القول السابق في سياق الآيات السابقة. فقد روى الطبري في سياق هذه الآيات : أن الوليد قال لزعماء قريش : سأختبر لكم الليلة هذا الرجل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قائماً يصلي ويقرأ القرآن فعاد فسألوه فقال : سمعت قولاً حلواً أخضر مثمراً يأخذ بالقلوب، فقالوا : هو شعر فقال : لا والله ما هو بالشعر، وليس أحد أعلم بالشعر مني. قالوا : فهو كاهن ؟ فقال : لا والله ما هو بكاهن فقد عرضت الكهانة عليّ. قالوا : فهو سحر الأولين اكتتبه ؟ فقال : لا أدري إن كان شيئا فهو إذاً سحر يؤثر. وقد روى ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات رواية أخرى فيها بعض المباينة متفقة في جوهرها مع الرواية السابقة.
ومهما يكن من أمر ففي الآيات صورة أخرى تكررت كثيرا فيما بعد، مما وجه للنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة من ردود على دعوى نبوته وصلته بوحي الله. ففي سورة القلم حكي أنه قيل له إنه مجنون وإن ما يتلوه هو من أساطير الأولين. وهنا قيل له : إنه قول بشر وإنه مظهر من مظاهر السحرة والسحر. وكما ردّ القرآن على ذلك القول رداً قوياً أيضا. ثم بين بعد قليل جانباً من أهداف الدعوة السامية وحمل حلمة تنديدية على الذين يقفون منها موقف التكذيب والمناوأة. وهكذا يتسق الموقف في المنافحة والنضال ويصمد النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد الله ووحيه. وهذا وذاك كلاهما ظل يتكرر في كل مناسبة وظل الموقف متسقاً في كل مشهد إلى أن حق الحق وزهق الباطل.
وحكاية قول الكافر :﴿ إن هذا إلا سحر يؤثر( ٢٤ ) إن هذا إلا قول البشر ( ٢٥ ) ﴾ هي عن القرآن. وليس في السور الثلاث السابقة إلاّ حكاية مواقف حجاج وجحود وحملات على أصحابها. والمعقول أن يكون هذا القول هو في صدد مجموعات قرآنية أخرى، فيها مبادئ الدعوة وأهدافها، وهي التي كان يعنيها لفظ القرآن، ولو أنه صار علماً صادقاً على جميع محتويات المصحف على ما شرحناه في تفسير سورة المزمل ؛ ولذلك فإن هذه الآيات لا بد من أن تكون قد نزلت بعد نزول مجموعة من " هذا القرآن " وحينئذ يكون شكنا في صحة ترتيب هذه السورة والسور الثلاث السابقة لها في محله ؛ إلا إذا صحت روايات تبكير نزول مطالعها منفصلة عن سائرها لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وإعداده وحسب. وباستثناء مطلع سورة العلق، فإن روايات المطالع الأخرى موضع نظر على ما نبهنا عليه.
تعليق على موضوع السحر
وبمناسبة ورود كلمة السحر ونسبة الكفار السحر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأول مرة نقول : إن كلمة السحر ومشتقاتها قد وردت في القرآن نحو خمسين مرة. ولقد تكرر فيه حكاية قول ما حكته الآية التي نحن في صددها. وقد جاء في آيات أخرى حكاية نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالساحر والمسحور، مثل ما جاء في آية سورة يونس هذه :﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ( ٢ ) ﴾ ومثل ما جاء في آية سورة الفرقان هذه :﴿ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا( ٨ ) ﴾، كما أنه ورد في القرآن آيات عديدة ذكر فيها السحر في غير معرض الدعوة النبوية، مثل ما جاء في سورة البقرة هذه :﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر ﴾ ( ١٠٢ ). وأكثر ما ورد في معرض الدعوة قد ورد في حكاية مواقف حجاج الكفار خاصة في موضوع البعث بعد الموت وجحوده، حيث يفيد هذا بطبيعة الحال أن السحر كان معروفاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وأن من المحتمل - إن لم نقل من المحقق- أنه كان في بيئة النبي وعصره سحرة يرجع إليهم الناس في قضاء مطالبهم ورغباتهم١.
والآيات القرآنية يمكن أن تفيد أن مفهوم السحر عند العرب هو أعمال خارقة تقع على أيدي أشخاص ذوي مواهب وبراعة وقوى فوق العادة فيرى الناس بتأثيرها ما لا يُرى في العادة، ويسمعون ما لا يسمع في العادة، ويحسون ما لا يُحس في العادة وتحدث أمور لا تحدث في العادة أيضا. ويمكن أن تفيد أيضا أن من العرب من كان يظن أن السحر وأعمال السحر تخييلات أكثر منها وقائع حقيقية مما انطوى في آية سورة الأنعام هذه :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ( ٧ ) ﴾ وفي آية سورة هود هذه، ﴿ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ( ٧ ) ﴾، وفي آيات سورة الحجر هذه :﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ( ١٤ ) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ( ١٥ ) ﴾، وفي آيات سورة ص هذه :﴿ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ( ٤ ) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ( ٥ ) ﴾.
وفي القرآن آيات أخرى تفيد أيضا ما كان يدور في أذهان العرب عن السحر ؛ حيث ورد في سورة الأعراف في سياق قصة موسى وفرعون آية فيها حكاية لقول موسى عليه السلام للسحرة وهي هذه :﴿ قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ( ١١٦ ) ﴾، وحيث ورد في سورة طه في سياق مماثل هذه الآية :﴿ قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى( ٦٦ ) ﴾.
والمتبادر أن العرب بناء على هذه المفهومات كانوا يظنون ويزعمون أحيانا أن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر وأحيانا أنه مسحور وأن القرآن سحر ؛ لأنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما لم يعتادوه ويخبر بما لم يكن لهم به عهد وبما لا يمكن مشاهدته وإدراكه في العادة وبما ظنوه مستحيلاً. ولأنهم سمعوا من القرآن بلاغة مؤثرة تذهب بلبّ السامع وتؤثر على روحه. ولعل نعتهم إياه بالمسحور كان يعني زعمهم أنه تحت تأثير السحر فيما يقوله ويخبر به ويدعيه ويتلوه.
والآيات التي أوردناها هي بسبيل حكاية الواقع سواء أفي ما ذكرته من أقوال العرب وأشارت إليه من مفهوماتهم، أم فيما ذكرته في سياق قصة موسى عليه السلام وسحرة فرعون أكثر منها بسبيل تقرير حقيقة السحر.
وفي سورة البقرة آية في السحر استطرد المفسرون في سياقها إلى موضوع حقيقة السحر وأثره وحكمه، وأوردوا بعض الأحاديث والمذاهب في ذلك رأينا أن نؤجلها إلى مناسبتها التي هي أكثر ملاءمة مكتفين الآن بما تقدم.
١ - اقرأ موضوع السحر والكهانة في الباب الثالث (الحياة العقلية) في كتابنا "عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة" ص ٢٩٣ وما بعدها..
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ١ ( ١٨ ) فَقُتِلَ ٢ كَيْفَ قَدَّرَ( ١٩ ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ( ٢٠ ) ثُمَّ نَظَرَ( ٢١ ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ٣ ( ٢٢ ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ( ٢٣ ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ ٤ يُؤْثَرُ ٥ ( ٢٤ ) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ( ٢٥ ) ﴾[ ١٨ -٢٥ ].
وهذه الآيات تصف موقف ذلك الكافر العنيد الذي أشير إليه في الآيات السابقة، فقد فكر في نفسه حينما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن واستنتج وحسب أنه عرف الحقيقة قاتله الله ثم قاتله، فلم يلبث أن عبس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وتجهم، ثم أدبر عنه مستكبراً مستخفاً قائلاً : إن هذا هو من أعمال السحرة وأقوالهم المعروفة، وإنه ليس إلا من كلام البشر.
والآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو واضح. وأسلوبها تنديدي وتقريعي ووصفي معا. والوصف قوي يكاد القارئ يرى منه موقف الكافر العنيد ماثلاً بارزاً.
وقد روى المفسرون : أن هذا الموقف الذي وصفته الآيات هو كذلك موقف الوليد بن المغيرة الذي روي عنه القول السابق في سياق الآيات السابقة. فقد روى الطبري في سياق هذه الآيات : أن الوليد قال لزعماء قريش : سأختبر لكم الليلة هذا الرجل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قائماً يصلي ويقرأ القرآن فعاد فسألوه فقال : سمعت قولاً حلواً أخضر مثمراً يأخذ بالقلوب، فقالوا : هو شعر فقال : لا والله ما هو بالشعر، وليس أحد أعلم بالشعر مني. قالوا : فهو كاهن ؟ فقال : لا والله ما هو بكاهن فقد عرضت الكهانة عليّ. قالوا : فهو سحر الأولين اكتتبه ؟ فقال : لا أدري إن كان شيئا فهو إذاً سحر يؤثر. وقد روى ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات رواية أخرى فيها بعض المباينة متفقة في جوهرها مع الرواية السابقة.
ومهما يكن من أمر ففي الآيات صورة أخرى تكررت كثيرا فيما بعد، مما وجه للنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة من ردود على دعوى نبوته وصلته بوحي الله. ففي سورة القلم حكي أنه قيل له إنه مجنون وإن ما يتلوه هو من أساطير الأولين. وهنا قيل له : إنه قول بشر وإنه مظهر من مظاهر السحرة والسحر. وكما ردّ القرآن على ذلك القول رداً قوياً أيضا. ثم بين بعد قليل جانباً من أهداف الدعوة السامية وحمل حلمة تنديدية على الذين يقفون منها موقف التكذيب والمناوأة. وهكذا يتسق الموقف في المنافحة والنضال ويصمد النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد الله ووحيه. وهذا وذاك كلاهما ظل يتكرر في كل مناسبة وظل الموقف متسقاً في كل مشهد إلى أن حق الحق وزهق الباطل.
وحكاية قول الكافر :﴿ إن هذا إلا سحر يؤثر( ٢٤ ) إن هذا إلا قول البشر ( ٢٥ ) ﴾ هي عن القرآن. وليس في السور الثلاث السابقة إلاّ حكاية مواقف حجاج وجحود وحملات على أصحابها. والمعقول أن يكون هذا القول هو في صدد مجموعات قرآنية أخرى، فيها مبادئ الدعوة وأهدافها، وهي التي كان يعنيها لفظ القرآن، ولو أنه صار علماً صادقاً على جميع محتويات المصحف على ما شرحناه في تفسير سورة المزمل ؛ ولذلك فإن هذه الآيات لا بد من أن تكون قد نزلت بعد نزول مجموعة من " هذا القرآن " وحينئذ يكون شكنا في صحة ترتيب هذه السورة والسور الثلاث السابقة لها في محله ؛ إلا إذا صحت روايات تبكير نزول مطالعها منفصلة عن سائرها لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وإعداده وحسب. وباستثناء مطلع سورة العلق، فإن روايات المطالع الأخرى موضع نظر على ما نبهنا عليه.
- سقر : النار الشديد الحرارة.
﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ١ ( ٢٦ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( ٢٧ ) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ٢ ( ٢٨ ) لَوَّاحَةٌ٣ لِّلْبَشَرِ ( ٢٩ )عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ( ٣٠ ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ٥ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ( ٣١ ) ﴾ [ ٢٦- ٣١ ].

الآيات تتمة للآيات السابقة وقد تضمنت :


١-
إنذارا ً ربانياً لذلك الكافر العنيد بأنه سيصليه النار الشديدة التي لا تبقي ولا تذر الحارقة للجلود.

٢-
وإخباراً بأن القائمين عليها تسعة عشر من ملائكة الله.

٣-
وتعليلاً لحصر العدد حيث ذكر ؛ ليكون فتنة ومثار حيرة للكافرين ووسيلة لاستيقان الكتابيين من صحة الدعوة النبوية وصدقها، وسبباً لازدياد إيمان المؤمنين.
وفي أسلوب وصف النار من قوة ما يحدث الفزع في النفوس ويحفز إلى الارعواء. وهو ما قصد إليها هنا وفي الآيات الكثيرة الأخرى من جملة ما قصد، بالإضافة إلى قصد الإنذار الشديد للكافر العنيد.
ولقد روى الترمذي عن جابر " أن بعض اليهود قالوا لأناس من الصحابة : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم. قالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا، فجاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد غُلبَ أصحابُك اليوم قال وبمَ غُلبُوا ؟ قال : سألهم اليهود. فقالوا : لا ندري حتى نسأل نبيّنا. قال : أيغلب قوم سئلوا عمّا لا يعلمون ؟ فقالوا : نسأل نبيّنا لكنّهم قد سألوا نبيّهم فقالوا : أرنا الله جهرة. عليّ بأعداء الله إني سائلهم عن تُربةِ الجنة وهي الدَّرْمَكُ، فلما جاؤوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهّنم ؟ قال : هكذا وهكذا في مرّة عشرة وفي مرة تسعاً قالوا : نعم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ما تربة الجنة ؟ فسكتوا هنيهة ثم قالوا : أخبرْنَا يا أبا القاسم فقال : الخبزُ من الدّرمكِ " ١.
وروي الحديث صحابي مدني، وفحواه يدل على أن السؤال أورد على المسلمين في المدينة. ولذلك نراه عجيباً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعرفون العدد بصيغة صريحة منذ العهد المكي من الآية ( ٣٠ ).
وروح الآيات تلهم أن الكفار ومرضى القلوب قابلوا ذكر عدد الذين يتولون النار من الملائكة بالاستخفاف والاستهزاء، فردت عليهم بأن ذلك إنما هو من قبيل الامتحان الرباني للفرق الأربعة التي كان يتألف منها أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وهي المؤمنون والكتابيون والكافرون ومرضى القلوب. فأما الكتابيون فإنهم مفروض فيهم أن يعرفوا أن لله ملائكة يقومون بالمهام التي يكلفهم بها، وأنه ليس مما هو خارج عن حدود قدرة الله أن يكون مثل هذا العدد منهم كافياً لتولي أمر النار فيستيقنوا من صحة الرسالة المحمدية التي تأتي بما يتسق مع ما عندهم. وأما المؤمنون فقد آمنوا في الأصل بالنبي صلى الله عليه وسلم وصلته بالله فيتلقون الخبر بالتصديق والتسليم، وبذلك يزدادون إيماناَ ويقيناً. ولا يقف موقف الشك والاستخفاف إلاّ الكفار ومرضى القلوب الذين يكون موقفهم هذا هو الأضعف ؛ لأنه غير صادر عن علم ونية وعقيدة وإيمان بينما يكون موقف الفريقين الأولين هو الأقوى لأنه صادر عن مثل ذلك.
﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ١ ( ٢٦ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( ٢٧ ) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ٢ ( ٢٨ ) لَوَّاحَةٌ٣ لِّلْبَشَرِ ( ٢٩ )عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ( ٣٠ ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ٥ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ( ٣١ ) ﴾ [ ٢٦- ٣١ ].

الآيات تتمة للآيات السابقة وقد تضمنت :


١-
إنذارا ً ربانياً لذلك الكافر العنيد بأنه سيصليه النار الشديدة التي لا تبقي ولا تذر الحارقة للجلود.

٢-
وإخباراً بأن القائمين عليها تسعة عشر من ملائكة الله.

٣-
وتعليلاً لحصر العدد حيث ذكر ؛ ليكون فتنة ومثار حيرة للكافرين ووسيلة لاستيقان الكتابيين من صحة الدعوة النبوية وصدقها، وسبباً لازدياد إيمان المؤمنين.
وفي أسلوب وصف النار من قوة ما يحدث الفزع في النفوس ويحفز إلى الارعواء. وهو ما قصد إليها هنا وفي الآيات الكثيرة الأخرى من جملة ما قصد، بالإضافة إلى قصد الإنذار الشديد للكافر العنيد.
ولقد روى الترمذي عن جابر " أن بعض اليهود قالوا لأناس من الصحابة : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم. قالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا، فجاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد غُلبَ أصحابُك اليوم قال وبمَ غُلبُوا ؟ قال : سألهم اليهود. فقالوا : لا ندري حتى نسأل نبيّنا. قال : أيغلب قوم سئلوا عمّا لا يعلمون ؟ فقالوا : نسأل نبيّنا لكنّهم قد سألوا نبيّهم فقالوا : أرنا الله جهرة. عليّ بأعداء الله إني سائلهم عن تُربةِ الجنة وهي الدَّرْمَكُ، فلما جاؤوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهّنم ؟ قال : هكذا وهكذا في مرّة عشرة وفي مرة تسعاً قالوا : نعم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ما تربة الجنة ؟ فسكتوا هنيهة ثم قالوا : أخبرْنَا يا أبا القاسم فقال : الخبزُ من الدّرمكِ " ١.
وروي الحديث صحابي مدني، وفحواه يدل على أن السؤال أورد على المسلمين في المدينة. ولذلك نراه عجيباً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعرفون العدد بصيغة صريحة منذ العهد المكي من الآية ( ٣٠ ).
وروح الآيات تلهم أن الكفار ومرضى القلوب قابلوا ذكر عدد الذين يتولون النار من الملائكة بالاستخفاف والاستهزاء، فردت عليهم بأن ذلك إنما هو من قبيل الامتحان الرباني للفرق الأربعة التي كان يتألف منها أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وهي المؤمنون والكتابيون والكافرون ومرضى القلوب. فأما الكتابيون فإنهم مفروض فيهم أن يعرفوا أن لله ملائكة يقومون بالمهام التي يكلفهم بها، وأنه ليس مما هو خارج عن حدود قدرة الله أن يكون مثل هذا العدد منهم كافياً لتولي أمر النار فيستيقنوا من صحة الرسالة المحمدية التي تأتي بما يتسق مع ما عندهم. وأما المؤمنون فقد آمنوا في الأصل بالنبي صلى الله عليه وسلم وصلته بالله فيتلقون الخبر بالتصديق والتسليم، وبذلك يزدادون إيماناَ ويقيناً. ولا يقف موقف الشك والاستخفاف إلاّ الكفار ومرضى القلوب الذين يكون موقفهم هذا هو الأضعف ؛ لأنه غير صادر عن علم ونية وعقيدة وإيمان بينما يكون موقف الفريقين الأولين هو الأقوى لأنه صادر عن مثل ذلك.
- لا تبقى ولا تذر : تحرق كل أجسادهم ولا تبقى منها شيئا-note text-primary mx-٢" href="#foonote-١">١
﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ١ ( ٢٦ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( ٢٧ ) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ٢ ( ٢٨ ) لَوَّاحَةٌ٣ لِّلْبَشَرِ ( ٢٩ )عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ( ٣٠ ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ٥ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ( ٣١ ) ﴾ [ ٢٦- ٣١ ].

الآيات تتمة للآيات السابقة وقد تضمنت :


١-
إنذارا ً ربانياً لذلك الكافر العنيد بأنه سيصليه النار الشديدة التي لا تبقي ولا تذر الحارقة للجلود.

٢-
وإخباراً بأن القائمين عليها تسعة عشر من ملائكة الله.

٣-
وتعليلاً لحصر العدد حيث ذكر ؛ ليكون فتنة ومثار حيرة للكافرين ووسيلة لاستيقان الكتابيين من صحة الدعوة النبوية وصدقها، وسبباً لازدياد إيمان المؤمنين.
وفي أسلوب وصف النار من قوة ما يحدث الفزع في النفوس ويحفز إلى الارعواء. وهو ما قصد إليها هنا وفي الآيات الكثيرة الأخرى من جملة ما قصد، بالإضافة إلى قصد الإنذار الشديد للكافر العنيد.
ولقد روى الترمذي عن جابر " أن بعض اليهود قالوا لأناس من الصحابة : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم. قالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا، فجاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد غُلبَ أصحابُك اليوم قال وبمَ غُلبُوا ؟ قال : سألهم اليهود. فقالوا : لا ندري حتى نسأل نبيّنا. قال : أيغلب قوم سئلوا عمّا لا يعلمون ؟ فقالوا : نسأل نبيّنا لكنّهم قد سألوا نبيّهم فقالوا : أرنا الله جهرة. عليّ بأعداء الله إني سائلهم عن تُربةِ الجنة وهي الدَّرْمَكُ، فلما جاؤوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهّنم ؟ قال : هكذا وهكذا في مرّة عشرة وفي مرة تسعاً قالوا : نعم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ما تربة الجنة ؟ فسكتوا هنيهة ثم قالوا : أخبرْنَا يا أبا القاسم فقال : الخبزُ من الدّرمكِ " ١.
وروي الحديث صحابي مدني، وفحواه يدل على أن السؤال أورد على المسلمين في المدينة. ولذلك نراه عجيباً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعرفون العدد بصيغة صريحة منذ العهد المكي من الآية ( ٣٠ ).
وروح الآيات تلهم أن الكفار ومرضى القلوب قابلوا ذكر عدد الذين يتولون النار من الملائكة بالاستخفاف والاستهزاء، فردت عليهم بأن ذلك إنما هو من قبيل الامتحان الرباني للفرق الأربعة التي كان يتألف منها أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وهي المؤمنون والكتابيون والكافرون ومرضى القلوب. فأما الكتابيون فإنهم مفروض فيهم أن يعرفوا أن لله ملائكة يقومون بالمهام التي يكلفهم بها، وأنه ليس مما هو خارج عن حدود قدرة الله أن يكون مثل هذا العدد منهم كافياً لتولي أمر النار فيستيقنوا من صحة الرسالة المحمدية التي تأتي بما يتسق مع ما عندهم. وأما المؤمنون فقد آمنوا في الأصل بالنبي صلى الله عليه وسلم وصلته بالله فيتلقون الخبر بالتصديق والتسليم، وبذلك يزدادون إيماناَ ويقيناً. ولا يقف موقف الشك والاستخفاف إلاّ الكفار ومرضى القلوب الذين يكون موقفهم هذا هو الأضعف ؛ لأنه غير صادر عن علم ونية وعقيدة وإيمان بينما يكون موقف الفريقين الأولين هو الأقوى لأنه صادر عن مثل ذلك.
١ - انظر تفسيرها في الطبري..
- لواحة : حارقة.
- البشر : في الآية [ ٢٩ ] بمعنى بشرات الأجسام وجلودهم وفي الآية [ ٣١ ] بمعنى الناس.
﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ١ ( ٢٦ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( ٢٧ ) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ٢ ( ٢٨ ) لَوَّاحَةٌ٣ لِّلْبَشَرِ ( ٢٩ )عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ( ٣٠ ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ٥ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ( ٣١ ) ﴾ [ ٢٦- ٣١ ].

الآيات تتمة للآيات السابقة وقد تضمنت :


١-
إنذارا ً ربانياً لذلك الكافر العنيد بأنه سيصليه النار الشديدة التي لا تبقي ولا تذر الحارقة للجلود.

٢-
وإخباراً بأن القائمين عليها تسعة عشر من ملائكة الله.

٣-
وتعليلاً لحصر العدد حيث ذكر ؛ ليكون فتنة ومثار حيرة للكافرين ووسيلة لاستيقان الكتابيين من صحة الدعوة النبوية وصدقها، وسبباً لازدياد إيمان المؤمنين.
وفي أسلوب وصف النار من قوة ما يحدث الفزع في النفوس ويحفز إلى الارعواء. وهو ما قصد إليها هنا وفي الآيات الكثيرة الأخرى من جملة ما قصد، بالإضافة إلى قصد الإنذار الشديد للكافر العنيد.
ولقد روى الترمذي عن جابر " أن بعض اليهود قالوا لأناس من الصحابة : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم. قالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا، فجاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد غُلبَ أصحابُك اليوم قال وبمَ غُلبُوا ؟ قال : سألهم اليهود. فقالوا : لا ندري حتى نسأل نبيّنا. قال : أيغلب قوم سئلوا عمّا لا يعلمون ؟ فقالوا : نسأل نبيّنا لكنّهم قد سألوا نبيّهم فقالوا : أرنا الله جهرة. عليّ بأعداء الله إني سائلهم عن تُربةِ الجنة وهي الدَّرْمَكُ، فلما جاؤوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهّنم ؟ قال : هكذا وهكذا في مرّة عشرة وفي مرة تسعاً قالوا : نعم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ما تربة الجنة ؟ فسكتوا هنيهة ثم قالوا : أخبرْنَا يا أبا القاسم فقال : الخبزُ من الدّرمكِ " ١.
وروي الحديث صحابي مدني، وفحواه يدل على أن السؤال أورد على المسلمين في المدينة. ولذلك نراه عجيباً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعرفون العدد بصيغة صريحة منذ العهد المكي من الآية ( ٣٠ ).
وروح الآيات تلهم أن الكفار ومرضى القلوب قابلوا ذكر عدد الذين يتولون النار من الملائكة بالاستخفاف والاستهزاء، فردت عليهم بأن ذلك إنما هو من قبيل الامتحان الرباني للفرق الأربعة التي كان يتألف منها أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وهي المؤمنون والكتابيون والكافرون ومرضى القلوب. فأما الكتابيون فإنهم مفروض فيهم أن يعرفوا أن لله ملائكة يقومون بالمهام التي يكلفهم بها، وأنه ليس مما هو خارج عن حدود قدرة الله أن يكون مثل هذا العدد منهم كافياً لتولي أمر النار فيستيقنوا من صحة الرسالة المحمدية التي تأتي بما يتسق مع ما عندهم. وأما المؤمنون فقد آمنوا في الأصل بالنبي صلى الله عليه وسلم وصلته بالله فيتلقون الخبر بالتصديق والتسليم، وبذلك يزدادون إيماناَ ويقيناً. ولا يقف موقف الشك والاستخفاف إلاّ الكفار ومرضى القلوب الذين يكون موقفهم هذا هو الأضعف ؛ لأنه غير صادر عن علم ونية وعقيدة وإيمان بينما يكون موقف الفريقين الأولين هو الأقوى لأنه صادر عن مثل ذلك.
﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ١ ( ٢٦ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( ٢٧ ) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ٢ ( ٢٨ ) لَوَّاحَةٌ٣ لِّلْبَشَرِ ( ٢٩ )عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ( ٣٠ ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ٥ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ( ٣١ ) ﴾ [ ٢٦- ٣١ ].

الآيات تتمة للآيات السابقة وقد تضمنت :


١-
إنذارا ً ربانياً لذلك الكافر العنيد بأنه سيصليه النار الشديدة التي لا تبقي ولا تذر الحارقة للجلود.

٢-
وإخباراً بأن القائمين عليها تسعة عشر من ملائكة الله.

٣-
وتعليلاً لحصر العدد حيث ذكر ؛ ليكون فتنة ومثار حيرة للكافرين ووسيلة لاستيقان الكتابيين من صحة الدعوة النبوية وصدقها، وسبباً لازدياد إيمان المؤمنين.
وفي أسلوب وصف النار من قوة ما يحدث الفزع في النفوس ويحفز إلى الارعواء. وهو ما قصد إليها هنا وفي الآيات الكثيرة الأخرى من جملة ما قصد، بالإضافة إلى قصد الإنذار الشديد للكافر العنيد.
ولقد روى الترمذي عن جابر " أن بعض اليهود قالوا لأناس من الصحابة : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم. قالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا، فجاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد غُلبَ أصحابُك اليوم قال وبمَ غُلبُوا ؟ قال : سألهم اليهود. فقالوا : لا ندري حتى نسأل نبيّنا. قال : أيغلب قوم سئلوا عمّا لا يعلمون ؟ فقالوا : نسأل نبيّنا لكنّهم قد سألوا نبيّهم فقالوا : أرنا الله جهرة. عليّ بأعداء الله إني سائلهم عن تُربةِ الجنة وهي الدَّرْمَكُ، فلما جاؤوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهّنم ؟ قال : هكذا وهكذا في مرّة عشرة وفي مرة تسعاً قالوا : نعم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ما تربة الجنة ؟ فسكتوا هنيهة ثم قالوا : أخبرْنَا يا أبا القاسم فقال : الخبزُ من الدّرمكِ " ١.
وروي الحديث صحابي مدني، وفحواه يدل على أن السؤال أورد على المسلمين في المدينة. ولذلك نراه عجيباً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعرفون العدد بصيغة صريحة منذ العهد المكي من الآية ( ٣٠ ).
وروح الآيات تلهم أن الكفار ومرضى القلوب قابلوا ذكر عدد الذين يتولون النار من الملائكة بالاستخفاف والاستهزاء، فردت عليهم بأن ذلك إنما هو من قبيل الامتحان الرباني للفرق الأربعة التي كان يتألف منها أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وهي المؤمنون والكتابيون والكافرون ومرضى القلوب. فأما الكتابيون فإنهم مفروض فيهم أن يعرفوا أن لله ملائكة يقومون بالمهام التي يكلفهم بها، وأنه ليس مما هو خارج عن حدود قدرة الله أن يكون مثل هذا العدد منهم كافياً لتولي أمر النار فيستيقنوا من صحة الرسالة المحمدية التي تأتي بما يتسق مع ما عندهم. وأما المؤمنون فقد آمنوا في الأصل بالنبي صلى الله عليه وسلم وصلته بالله فيتلقون الخبر بالتصديق والتسليم، وبذلك يزدادون إيماناَ ويقيناً. ولا يقف موقف الشك والاستخفاف إلاّ الكفار ومرضى القلوب الذين يكون موقفهم هذا هو الأضعف ؛ لأنه غير صادر عن علم ونية وعقيدة وإيمان بينما يكون موقف الفريقين الأولين هو الأقوى لأنه صادر عن مثل ذلك.
- فتنة : اختبار وابتلاء وامتحان.
﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ١ ( ٢٦ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( ٢٧ ) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ٢ ( ٢٨ ) لَوَّاحَةٌ٣ لِّلْبَشَرِ ( ٢٩ )عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ( ٣٠ ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ٥ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ( ٣١ ) ﴾ [ ٢٦- ٣١ ].

الآيات تتمة للآيات السابقة وقد تضمنت :


١-
إنذارا ً ربانياً لذلك الكافر العنيد بأنه سيصليه النار الشديدة التي لا تبقي ولا تذر الحارقة للجلود.

٢-
وإخباراً بأن القائمين عليها تسعة عشر من ملائكة الله.

٣-
وتعليلاً لحصر العدد حيث ذكر ؛ ليكون فتنة ومثار حيرة للكافرين ووسيلة لاستيقان الكتابيين من صحة الدعوة النبوية وصدقها، وسبباً لازدياد إيمان المؤمنين.
وفي أسلوب وصف النار من قوة ما يحدث الفزع في النفوس ويحفز إلى الارعواء. وهو ما قصد إليها هنا وفي الآيات الكثيرة الأخرى من جملة ما قصد، بالإضافة إلى قصد الإنذار الشديد للكافر العنيد.
ولقد روى الترمذي عن جابر " أن بعض اليهود قالوا لأناس من الصحابة : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم. قالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا، فجاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد غُلبَ أصحابُك اليوم قال وبمَ غُلبُوا ؟ قال : سألهم اليهود. فقالوا : لا ندري حتى نسأل نبيّنا. قال : أيغلب قوم سئلوا عمّا لا يعلمون ؟ فقالوا : نسأل نبيّنا لكنّهم قد سألوا نبيّهم فقالوا : أرنا الله جهرة. عليّ بأعداء الله إني سائلهم عن تُربةِ الجنة وهي الدَّرْمَكُ، فلما جاؤوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهّنم ؟ قال : هكذا وهكذا في مرّة عشرة وفي مرة تسعاً قالوا : نعم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ما تربة الجنة ؟ فسكتوا هنيهة ثم قالوا : أخبرْنَا يا أبا القاسم فقال : الخبزُ من الدّرمكِ " ١.
وروي الحديث صحابي مدني، وفحواه يدل على أن السؤال أورد على المسلمين في المدينة. ولذلك نراه عجيباً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعرفون العدد بصيغة صريحة منذ العهد المكي من الآية ( ٣٠ ).
وروح الآيات تلهم أن الكفار ومرضى القلوب قابلوا ذكر عدد الذين يتولون النار من الملائكة بالاستخفاف والاستهزاء، فردت عليهم بأن ذلك إنما هو من قبيل الامتحان الرباني للفرق الأربعة التي كان يتألف منها أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وهي المؤمنون والكتابيون والكافرون ومرضى القلوب. فأما الكتابيون فإنهم مفروض فيهم أن يعرفوا أن لله ملائكة يقومون بالمهام التي يكلفهم بها، وأنه ليس مما هو خارج عن حدود قدرة الله أن يكون مثل هذا العدد منهم كافياً لتولي أمر النار فيستيقنوا من صحة الرسالة المحمدية التي تأتي بما يتسق مع ما عندهم. وأما المؤمنون فقد آمنوا في الأصل بالنبي صلى الله عليه وسلم وصلته بالله فيتلقون الخبر بالتصديق والتسليم، وبذلك يزدادون إيماناَ ويقيناً. ولا يقف موقف الشك والاستخفاف إلاّ الكفار ومرضى القلوب الذين يكون موقفهم هذا هو الأضعف ؛ لأنه غير صادر عن علم ونية وعقيدة وإيمان بينما يكون موقف الفريقين الأولين هو الأقوى لأنه صادر عن مثل ذلك.
تعليق على موضوع
زيادة الإيمان ونقصه
وجملة ﴿ ويزداد الذين آمنوا إيمانا ﴾ في الآية [ ٣١ ] قد تكررت بأسلوب مقارب في سور عديدة مدنية منها آية سورة الأنفال هذه :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( ٢ ) ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ( ١٧٣ ) ﴾ وآية سورة الأحزاب هذه :﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا( ٢٢ ) ﴾، وآية سورة التوبة هذه :﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ( ١٢٤ ) ﴾.
ولقد كان ما احتوته هذه الآيات من المسائل التي دار الكلام والبحث حولها بين علماء الكلام وأئمة التأويل من ناحية ما إذا كان الإيمان يزيد وينقص١. ومنهم من استدل بها على أنه يزيد وينقص، أو على تفاضل الإيمان في القلوب، وهناك أحاديث تساق في سبيل الاستدلال على ذلك أيضا. منها حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري جاء فيه :( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )٢. ومنها حديث رواه الخمسة جاء فيه :( الإيمان بضعٌ وسبعون أو بضعٌ وستون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبة من الإيمان )٣
والذي يتبادر لنا أن الإيمان في حدّ ذاته لا يصح عليه زيادة ولا نقص مع احتفاظه بصفته ؛ لأن الزيادة تعني نقصاً سابقاً والنقص يعني تراجعا وشكا وكلاهما ينقض صفة الإيمان لذاته. وكل ما يمكن أن يصح فيما يتبادر لنا أن هناك يقيناً أو إيماناً غيبياً يمكن أن يصير يقيناً أو إيماناً عينياً من قبل طمأنينة القلب بالبرهان والمشاهدة مع الإيمان قبل ذلك إيماناً غيبياً، ومن قبيل ما حكي في آية البقرة هذه عن إبراهيم وجواب الله على سؤاله :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [ ٢٦٠ ] والجملة التي نحن في صددها تتسق مع هذا الشرح من حيث إنها تصف الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بالذين آمنوا وتقرر بتلقيهم الخبر الذي يبلغهم إياه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بالتصديق والتسليم تبعاً لإيمانهم بالله ورسوله فيكون ذلك مظهراً جديداً من مظاهر قوة يقينهم وإيمانهم عبر عنه بالزيادة. وهذا ملموح بقوة في آيات آل عمران والأنفال والتوبة والأحزاب التي أوردناها آنفا. ويزداد لمحها قوة من السياق الذي وردت فيه إذا ما أمعن النظر فيه أيضا. والذي يتمعن في الأحاديث النبوية لا يجد فيها على ما يتبادر لنا أية دلالة على ما أريد الاستدلال بها عليه من احتمال الزيادة والنقص في الإيمان لذاته.
وفي سورة الحجرات آيات فيها تدعيم لما يتبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله وهي :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٤ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ( ١٥ ) ﴾ [ ١٤-١٥ ] فقد علم الله تعالى أن الأعراب كانوا مشككين مرتابين وهذا يتناقض مع الإيمان فأمر نبيه بإجابتهم بأنهم لم يؤمنوا وكل ما في الأمر أنهم يمكن أن يقولوا أسلمنا ؛ لأنهم أذعنوا وخضعوا فقبل منهم ذلك تسامحاً دون أن يستحقوا صفة الإيمان. ثم وصف المؤمنين الصادقين بأنهم الذين لم يرتابوا بعد أن آمنوا... والله تعالى أعلم.
هذا من ناحية الموضوع في ذاته. وأما من ناحية الجملة في مقامها وفي المقامات الأخرى التي وردت فيها، فالذي يتبادر من روح الآيات والسياق أنها تورد في صدد التنبيه والتنويه والعظة في الأمر الذي جاءت له الجملة. وليست لأجل تقرير الموضوع من الناحية الكلامية والعقائدية. وأن الأولى أخذ الأمر على هذا الوجه والوقوف عنده. وهذا يقال بالنسبة لكثير من الآيات والجمل القرآنية التي يتشاد علماء المذاهب الكلامية حولها، ويحاولون استنباط مذاهبهم أو الاستناد إليها.
تعليق على عبارة
﴿ في قلوبهم مرض ﴾
وجملة ﴿ وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ﴾ في الآية [ ٣١ ] تفيد أن الذين كانوا يقفون من النبي صلى الله عليه وسلم موقف العناد والتكذيب والتشكيك فريقان : مرضى قلوب وكفار. ولا بد من أن يكون بينهما فرق. وقد قال بعض المفسرين٤ : وإن في هذا تلميحاً للمنافقين الذين ظهروا فيما بعد في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليها. وفي هذا القول تكلف ظاهر فيما يتبادر لنا. فالآيات مكية وتحكي مواقف وصوراً مكية. ولقد حكت آيات قرآنية مكية مواقف لفريقين كانوا في مكة : فريق كان يكذب النبي في دعواه بكل شدة ويقف موقف العناد والمكابرة والصد والأذى بدون هوادة، وفريق لم يكن في هذه الشدة، وإنما كان متردداً متشككاً يقنع نفسه بالأعذار الواهية أو يخجل من الناس أو الزعماء أو يخشى شرهم، بينما كان في قرارة نفسه يعترف بصدق ما كان يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وبما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من أخلاق عظيمة وعقل راجح، مما ينطوي في آية الأنعام هذه :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ( ١٠٩ ) ﴾، وفي آية القصص هذه :﴿ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( ٥٧ ) ﴾ وغيرهما مما سوف ننبه إليه في المناسبات الآتية٥ فالمتبادر أن الفريق الأول هو الذي نعته بمريض القلب. وفي ذلك صورة من صور العهد المكي.
تعليق على جملة
﴿ كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاءُ ﴾
وتنبيه إلى ما ينبغي ملاحظته والتعويل عليه في صدد ما قد يتوهمه
بعضهم من إشكال في بعض العبارات القرآنية
التعليق على هذه الجملة يتناول أمرين أو وجهين : الأول مداها في مقامها الذي جاءت فيه. والثاني مداها من وجهة عامة. ففي صدد الأول نقول : إن أسلوب ومضمون الآية [ ٣١ ] جميعها يلهمان أن فيهما تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم وتنويهاً بالمؤمنين، واستشهاداً بالكتابيين مع الوثوق بشهادتهم الإيجابية وإنذاراً للكفار ومرضى القلوب وتنديداً بهم وأنهما يعنيان الذين كانوا يسمعون القرآن في الدرجة الأولى من مؤمنين وكتابيين ومرضى قلوب وكفار.
وفي صدد الأمر الثاني نقول : إن الآية وبخاصة الجملة بسبب أسلوبها المطلق يكون مداها عاماً شاملاً لغير السامعين الأولين للقرآن. وينطوي في الجملة من هذه الناحية قصد تقرير كون امتحان الله تعالى الناس يؤدي إلى اهتداء من حسنت نيته وأنار الله قلبه وإلى ضلال من كان قاسي القلب سيء الطوية والقصد. وليس فيها قصد تقرير أزلية تقدير الهدى والضلال على الناس بأعيانهم أو تقرير كون هدى الناس وضلالهم هو تقدير رباني حتمي لا كسب لهم ولا خيرة لهم فيه. ولعل في الآية التالية مباشرة قرينة حاسمة ؛ حيث جاء فيها فيما جاء :﴿ لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ﴾ ( المدثر : ٣٧ ) وفي آية أخرى تأتي بعد قليل قرينة حاسمة أخرى تقرر كون الإنسان رهناً بما يكسب :﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ﴾ ( المدثر : ٣٨ ) كما أن في الآيات بصورة عامة قرائن حاسمة أيضاً على صحة هذا التوجيه. وفي سورتي البقرة والرعد آيات مقاربة لهذه الجملة وفيها زيادات توضيحية تصح أن تورد كدلالة حاسمة على هذا التوجيه أيضا. ونص آيات البقرة هو :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ( ٢٦ ) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ( ٢٧ ) ﴾ ونص آيات الرعد هو :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ( ٢٧ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( ٢٨ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ٢٩ ﴾، حيث تنطوي الآيات على تقرير كون الذين يهديهم الله هم أصحاب السيرة الطيبة والرغبة الصالحة في الإنابة إلى الله والمؤمنون الذين يعملون الصالحات، وكون الذين يضلهم الله هم الفاسقون المتمردون على الله المفسدون في الأرض، الناقضون لعهد الله، القاطعون ما أمر الله به أن يوصل وفي سورة الرعد آيات فيها صورة أخرى وهي أن الذين يتذكرون ويتأثرون هم أولو الألباب الموفون بعهد الله والواصلون ما أمر الله به أن يوصل، دون الذين يتعامون عن الحق المنطوي في ما أنزل الله على رسوله، وبمعنى آخر أن الهدى إنما يكون لهؤلاء بسبب ما عندهم من رغبة في الحق والهدى وهي :﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ( ١٩ ) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ( ٢٠ ) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ( ٢١ ) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ( ٢٢ ) ﴾ وجاء بعدها إشارة إلى صفات الذين لا يهديهم الله :﴿ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ( ٢٥ ) ﴾. وفي سورة الأعراف آية مهمة في بابها تفيد أن الذين حقت عليهم الضلالة هم الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله :{ فَرِيقًا هَدَى
١ - انظر تفسير هذه الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والخازن والطبرسي والمنار والقاسمي..
٢ - التاج ج ١ ص ٢٤..
٣ - المصدر نفسه، ص. ٢٣.
٤ - انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري..
٥ - ا نظر كتابنا "سيرة الرسول عليه السلام" ج ١ ص ١٩٠ وما بعدها..
﴿ كَلَّا وَالْقَمَرِ ( ٣٢ ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ١ ( ٣٣ ) وَالصُّبْحِ٢ إِذَا أَسْفَرَ٣ ( ٣٤ ) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ٤ ( ٣٥ ) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ( ٣٦ ) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ( ٣٧ ) ﴾ ( ٣٢- ٣٧ ).
والآيات استمرار للآيات السابقة. وقد تضمنت ردعا بمعنى الإيعاد والزجر، وقسماً بالقمر والليل حين ينقضي ويولي والصبح حين يسفر، بأن سقر التي ينذر الكفار بها حقيقة وليست وهماً، وأنها إحدى آيات الله الكبرى، وأنها ذكرت لتكون نذيراً لجميع البشر حتى يكونوا على بينة من أمرهم فيتقدم من يشاء إلى الإيمان بالله واتباع الدعوة فينجو، ويتأخر من يشاء عن ذلك فيهلك.
والآية الأخيرة احتوت بعد أن أكدت الآيات السابقة لها حقيقة الحياة الأخروية وما سوف يلقاه الكافرون من العذاب من العذاب والنار تقريراً لقابلية التمييز عند الناس وقدرتهم على الاختيار ولكون مهمة الرسول هي الإنذار والتبليغ. وفي ذلك توكيد لما قررناه في سياق الآيات السابقة ودليل حاسم عليه.
١- أدبر : ولّى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٢:﴿ كَلَّا وَالْقَمَرِ ( ٣٢ ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ١ ( ٣٣ ) وَالصُّبْحِ٢ إِذَا أَسْفَرَ٣ ( ٣٤ ) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ٤ ( ٣٥ ) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ( ٣٦ ) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ( ٣٧ ) ﴾ ( ٣٢- ٣٧ ).
والآيات استمرار للآيات السابقة. وقد تضمنت ردعا بمعنى الإيعاد والزجر، وقسماً بالقمر والليل حين ينقضي ويولي والصبح حين يسفر، بأن سقر التي ينذر الكفار بها حقيقة وليست وهماً، وأنها إحدى آيات الله الكبرى، وأنها ذكرت لتكون نذيراً لجميع البشر حتى يكونوا على بينة من أمرهم فيتقدم من يشاء إلى الإيمان بالله واتباع الدعوة فينجو، ويتأخر من يشاء عن ذلك فيهلك.
والآية الأخيرة احتوت بعد أن أكدت الآيات السابقة لها حقيقة الحياة الأخروية وما سوف يلقاه الكافرون من العذاب من العذاب والنار تقريراً لقابلية التمييز عند الناس وقدرتهم على الاختيار ولكون مهمة الرسول هي الإنذار والتبليغ. وفي ذلك توكيد لما قررناه في سياق الآيات السابقة ودليل حاسم عليه.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٢:﴿ كَلَّا وَالْقَمَرِ ( ٣٢ ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ١ ( ٣٣ ) وَالصُّبْحِ٢ إِذَا أَسْفَرَ٣ ( ٣٤ ) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ٤ ( ٣٥ ) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ( ٣٦ ) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ( ٣٧ ) ﴾ ( ٣٢- ٣٧ ).
والآيات استمرار للآيات السابقة. وقد تضمنت ردعا بمعنى الإيعاد والزجر، وقسماً بالقمر والليل حين ينقضي ويولي والصبح حين يسفر، بأن سقر التي ينذر الكفار بها حقيقة وليست وهماً، وأنها إحدى آيات الله الكبرى، وأنها ذكرت لتكون نذيراً لجميع البشر حتى يكونوا على بينة من أمرهم فيتقدم من يشاء إلى الإيمان بالله واتباع الدعوة فينجو، ويتأخر من يشاء عن ذلك فيهلك.
والآية الأخيرة احتوت بعد أن أكدت الآيات السابقة لها حقيقة الحياة الأخروية وما سوف يلقاه الكافرون من العذاب من العذاب والنار تقريراً لقابلية التمييز عند الناس وقدرتهم على الاختيار ولكون مهمة الرسول هي الإنذار والتبليغ. وفي ذلك توكيد لما قررناه في سياق الآيات السابقة ودليل حاسم عليه.

إحدى الكبر : إحدى آيات الله الكبرى، والمرجح أن المقصود بذلك سقر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٢:﴿ كَلَّا وَالْقَمَرِ ( ٣٢ ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ١ ( ٣٣ ) وَالصُّبْحِ٢ إِذَا أَسْفَرَ٣ ( ٣٤ ) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ٤ ( ٣٥ ) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ( ٣٦ ) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ( ٣٧ ) ﴾ ( ٣٢- ٣٧ ).
والآيات استمرار للآيات السابقة. وقد تضمنت ردعا بمعنى الإيعاد والزجر، وقسماً بالقمر والليل حين ينقضي ويولي والصبح حين يسفر، بأن سقر التي ينذر الكفار بها حقيقة وليست وهماً، وأنها إحدى آيات الله الكبرى، وأنها ذكرت لتكون نذيراً لجميع البشر حتى يكونوا على بينة من أمرهم فيتقدم من يشاء إلى الإيمان بالله واتباع الدعوة فينجو، ويتأخر من يشاء عن ذلك فيهلك.
والآية الأخيرة احتوت بعد أن أكدت الآيات السابقة لها حقيقة الحياة الأخروية وما سوف يلقاه الكافرون من العذاب من العذاب والنار تقريراً لقابلية التمييز عند الناس وقدرتهم على الاختيار ولكون مهمة الرسول هي الإنذار والتبليغ. وفي ذلك توكيد لما قررناه في سياق الآيات السابقة ودليل حاسم عليه.

- الصبح : هنا بمعنى الفجر أو النهار.
- أسفر : انجلى أو انكشف.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٢:﴿ كَلَّا وَالْقَمَرِ ( ٣٢ ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ١ ( ٣٣ ) وَالصُّبْحِ٢ إِذَا أَسْفَرَ٣ ( ٣٤ ) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ٤ ( ٣٥ ) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ( ٣٦ ) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ( ٣٧ ) ﴾ ( ٣٢- ٣٧ ).
والآيات استمرار للآيات السابقة. وقد تضمنت ردعا بمعنى الإيعاد والزجر، وقسماً بالقمر والليل حين ينقضي ويولي والصبح حين يسفر، بأن سقر التي ينذر الكفار بها حقيقة وليست وهماً، وأنها إحدى آيات الله الكبرى، وأنها ذكرت لتكون نذيراً لجميع البشر حتى يكونوا على بينة من أمرهم فيتقدم من يشاء إلى الإيمان بالله واتباع الدعوة فينجو، ويتأخر من يشاء عن ذلك فيهلك.
والآية الأخيرة احتوت بعد أن أكدت الآيات السابقة لها حقيقة الحياة الأخروية وما سوف يلقاه الكافرون من العذاب من العذاب والنار تقريراً لقابلية التمييز عند الناس وقدرتهم على الاختيار ولكون مهمة الرسول هي الإنذار والتبليغ. وفي ذلك توكيد لما قررناه في سياق الآيات السابقة ودليل حاسم عليه.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٢:﴿ كَلَّا وَالْقَمَرِ ( ٣٢ ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ١ ( ٣٣ ) وَالصُّبْحِ٢ إِذَا أَسْفَرَ٣ ( ٣٤ ) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ٤ ( ٣٥ ) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ( ٣٦ ) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ( ٣٧ ) ﴾ ( ٣٢- ٣٧ ).
والآيات استمرار للآيات السابقة. وقد تضمنت ردعا بمعنى الإيعاد والزجر، وقسماً بالقمر والليل حين ينقضي ويولي والصبح حين يسفر، بأن سقر التي ينذر الكفار بها حقيقة وليست وهماً، وأنها إحدى آيات الله الكبرى، وأنها ذكرت لتكون نذيراً لجميع البشر حتى يكونوا على بينة من أمرهم فيتقدم من يشاء إلى الإيمان بالله واتباع الدعوة فينجو، ويتأخر من يشاء عن ذلك فيهلك.
والآية الأخيرة احتوت بعد أن أكدت الآيات السابقة لها حقيقة الحياة الأخروية وما سوف يلقاه الكافرون من العذاب من العذاب والنار تقريراً لقابلية التمييز عند الناس وقدرتهم على الاختيار ولكون مهمة الرسول هي الإنذار والتبليغ. وفي ذلك توكيد لما قررناه في سياق الآيات السابقة ودليل حاسم عليه.

- كل نفس بما كسبت رهينة : كل نفس مسؤولة بما عملت ومرتهنة به. وتأويل الطبري يفيد أن ذلك بالنسبة لذوي المعاصي والكافرين.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ١ ( ٣٨ ) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ٢ ( ٣٩ ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ ( ٤٠ )عَنِ الْمُجْرِمِينَ( ٤١ ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ٣ ( ٤٢ ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ( ٤٣ ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( ٤٤ ) وَكُنَّا نَخُوضُ٤ مَعَ الْخَائِضِينَ( ٤٥ ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ( ٤٦ ) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ٥( ٤٧ ) ﴾ ( ٩٣- ٤٧ ).
والآيات استمرار للسياق السابق كذلك. والآية الأولى خاصة تتمة للآية السابقة لها وتعقيب عليها بسبيل تقرير كون كل نفس رهناً بما كسبته وشاءته من تقدم نحو الهدى أو تأخر عنه.
وقد قررت الآية الثانية بأسلوب استدراكي أن أصحاب اليمين لهم الجنات في الآخرة. وبسبب هذا الاستدراك أوّل الطبري وغيره بأن الآية الأولى تعني الذين يكسبون المعاصي ويكفرون فهم مرتهنون بما كسبوه من ذلك. وقد حكت الآية الثالثة وما بعدها حواراً مقدراً بين أصحاب اليمين والمجرمين، فسأل الأولون الأخيرين سؤال تعجب وشماتة عما جعلهم في عداد أهل النار ؟ فأجابوا أن سبب ذلك هو أنهم لم يكونوا يعبدون الله ويصلون له ولا يطعمون المسكين، وكانوا إلى هذا يخوضون في الباطل مع الخائضين ويكذبون بيوم الحساب والجزاء إلى أن انقضت حياتهم وصاروا إلى الحقيقة واليقين من أمرهم، وحقّت عليهم كلمة العذاب الذي أوعدوا به ولم يصدقوه.
تعليق على تعبير
﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ﴾
وتعبير ﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ﴾ تقرير قرآني حاسم بمسؤولية الناس عن أعمالهم، وقابليتهم للكسب والاختيار واستحقاقهم للجزاء، وفاقاً لذلك، وهذا التقرير بهذا الأسلوب ذو خطورة تلقينية عظمى في صدد أعمال الناس وتصرفاتهم وتربية نفوسهم وأخلاقهم.
والمؤمن إذا تيقن من هذا واجتهد ليكون من نفسه على نفسه رقيب، وحسب حساب عاقبة كل ما يقدم عليه نما فيه الوازع الذاتي الذي يزعه عن الإثم والشر، والحافز الذاتي الذي يحفزه إلى الخير والصلاح والهدى. وفي هذا التعبير على ضوء هذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله تدعيم لشرحنا الذي شرحنا به مدى جملة ﴿ كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ﴾ أيضا حين إمعان النظر. حيث يتضمن كون الإنسان مسؤولاً عما يكتسب ويختار من هدى وضلال.
﴿ فما تنفعهم شفاعة الشافعين( ٤٨ ) ﴾[ ٤٨ ].
وهذه الآية تعقيب على الآيات السابقة، وقد تضمنت تقريراً بأن الكفار والمجرمين لن تنفعهم يوم القيامة شفاعة الشفعاء. فتحول دون صيرورتهم إلى المصير الرهيب الذي استحقوه بكسبهم.
وقد استهدفت كما هو المتبادر فيما استهدفته تنبيه الكفار إلى أن المرء إنما ينفعه في الدرجة الأولى إيمانه وعمله الصالح، وحملهم على الارعواء من ضلالهم، وعدم الإركان إلى شفاعة الشافعين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ( ٤٥ ) ﴾[ ٤٤- ٤٥ ] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار، حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد
إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين
وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث
ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنين هذه :﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ( ٨٩ ) ﴾ [ ٧٤- ٨٩ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ٩ ) ﴾، وآية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ( ٦٥ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( ٣٨ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون( ٣١ ) ﴾.
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ ( ١٨ ) وآية سورة الزمر هذه :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار( ٣ ) ﴾.
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة كمثل آيات سورة الزمر هذه :﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون( ٤٤ ) ﴾ [ ٤٣- ٤٤ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٨٦ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى( ٢٦ ) ﴾.
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى، على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾. ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال، ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلاّ لمن حاز مبدئياً رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية : إن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك، فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقاً.
ونستطرد إلى القول إن [ في ] القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهداً منها آيات سورة النجم [ ٢٦ ] وسورة الزخرف [ ٨٦ ] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( ٨٧ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا( ١٠٩ ) ﴾.
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال :( سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل... )١ وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً )٢.
وحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا )٣. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي )٤.
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أمتي من يشفع للفئَام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة )٥. وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته )٦، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم يشفعُ يوم القيامة ثلاثة الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ )٧.
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد، ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله، ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له٨.
ومما جاء في بعضها ( أن الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا رب أمّتي أمّتي فيقال له : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول : أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فانطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ).
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه من الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.

أصحاب اليمين : تعبير قرآني عن الناجين يوم القيامة.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ١ ( ٣٨ ) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ٢ ( ٣٩ ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ ( ٤٠ )عَنِ الْمُجْرِمِينَ( ٤١ ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ٣ ( ٤٢ ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ( ٤٣ ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( ٤٤ ) وَكُنَّا نَخُوضُ٤ مَعَ الْخَائِضِينَ( ٤٥ ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ( ٤٦ ) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ٥( ٤٧ ) ﴾ ( ٩٣- ٤٧ ).
والآيات استمرار للسياق السابق كذلك. والآية الأولى خاصة تتمة للآية السابقة لها وتعقيب عليها بسبيل تقرير كون كل نفس رهناً بما كسبته وشاءته من تقدم نحو الهدى أو تأخر عنه.
وقد قررت الآية الثانية بأسلوب استدراكي أن أصحاب اليمين لهم الجنات في الآخرة. وبسبب هذا الاستدراك أوّل الطبري وغيره بأن الآية الأولى تعني الذين يكسبون المعاصي ويكفرون فهم مرتهنون بما كسبوه من ذلك. وقد حكت الآية الثالثة وما بعدها حواراً مقدراً بين أصحاب اليمين والمجرمين، فسأل الأولون الأخيرين سؤال تعجب وشماتة عما جعلهم في عداد أهل النار ؟ فأجابوا أن سبب ذلك هو أنهم لم يكونوا يعبدون الله ويصلون له ولا يطعمون المسكين، وكانوا إلى هذا يخوضون في الباطل مع الخائضين ويكذبون بيوم الحساب والجزاء إلى أن انقضت حياتهم وصاروا إلى الحقيقة واليقين من أمرهم، وحقّت عليهم كلمة العذاب الذي أوعدوا به ولم يصدقوه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ( ٤٥ ) ﴾[ ٤٤- ٤٥ ] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار، حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد
إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين
وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث
ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنين هذه :﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ( ٨٩ ) ﴾ [ ٧٤- ٨٩ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ٩ ) ﴾، وآية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ( ٦٥ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( ٣٨ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون( ٣١ ) ﴾.
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ ( ١٨ ) وآية سورة الزمر هذه :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار( ٣ ) ﴾.
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة كمثل آيات سورة الزمر هذه :﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون( ٤٤ ) ﴾ [ ٤٣- ٤٤ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٨٦ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى( ٢٦ ) ﴾.
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى، على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾. ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال، ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلاّ لمن حاز مبدئياً رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية : إن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك، فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقاً.
ونستطرد إلى القول إن [ في ] القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهداً منها آيات سورة النجم [ ٢٦ ] وسورة الزخرف [ ٨٦ ] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( ٨٧ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا( ١٠٩ ) ﴾.
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال :( سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل... )١ وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً )٢.
وحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا )٣. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي )٤.
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أمتي من يشفع للفئَام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة )٥. وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته )٦، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم يشفعُ يوم القيامة ثلاثة الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ )٧.
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد، ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله، ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له٨.
ومما جاء في بعضها ( أن الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا رب أمّتي أمّتي فيقال له : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول : أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فانطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ).
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه من الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.


تعليق على تعبير :
( أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ).
وتعبير ﴿ أصحاب اليمين ﴾ تعبير مجازي، فالعرب كانوا يتفاءلون بالجهة اليمنى ويعتبرونها مباركة، ويتشاءمون باليسرى ويعتبرونها منحوسة. ولقد ذكرت آيات أخرى أن الناس يوم القيامة يعطون كتب أعمالهم. وأن الناجين يعطونها بأيمانهم والخاسرين بشمالهم كما جاء في آية سورة الحاقة هذه :﴿ فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه ( ١٩ ) إني ظننت أني ملاق حسابيه ( ٢٠ ) فهو في عيشة راضية( ٢١ ) في جنة عالية ( ٢٢ ) قطوفها دانية ( ٢٣ ) كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية( ٢٤ ) وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه( ٢٥ ) ولم أدر ما حسابيه ( ٢٦ ) يا ليتها كانت القاضية ( ٢٧ ) ما أغنى عني ماليه ( ٢٨ ) هلك عني سلطانيه( ٢٩ ) خذوه فغلوه( ٣٠ ) ثم الجحيم صلوه( ٣١ ) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذ راعا فاسلكوه ( ٣٢ ) إنه كان لا يؤمن بالله والعظيم( ٣٣ ) ولا يحض على طعام المسكين( ٣٤ ) ﴾ [ ١٩- ٣٤ ] وقد يسوغ هذا القول : إن تعبير أصحاب اليمين قد قصد به الناجون يوم القيامة بأيمانهم وأعمالهم الصالحة.
والمتبادر على كل حال أن تعبير أصحاب اليمين وأصحاب الشمال بالمقابلة هو تعبير مقتبس مما في أذهان العرب الذين يسمعون القرآن، ومفهوماتهم وأساليب خطابهم، للتقريب والتشبيه والتمثيل والتأثير، مع واجب الإيمان بوقوع ما أخبرت به الآيات من ذلك كمشهد من المشاهد الأخروية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ( ٤٥ ) ﴾[ ٤٤- ٤٥ ] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار، حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد
إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين
وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث
ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنين هذه :﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ( ٨٩ ) ﴾ [ ٧٤- ٨٩ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ٩ ) ﴾، وآية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ( ٦٥ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( ٣٨ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون( ٣١ ) ﴾.
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ ( ١٨ ) وآية سورة الزمر هذه :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار( ٣ ) ﴾.
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة كمثل آيات سورة الزمر هذه :﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون( ٤٤ ) ﴾ [ ٤٣- ٤٤ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٨٦ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى( ٢٦ ) ﴾.
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى، على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾. ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال، ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلاّ لمن حاز مبدئياً رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية : إن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك، فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقاً.
ونستطرد إلى القول إن [ في ] القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهداً منها آيات سورة النجم [ ٢٦ ] وسورة الزخرف [ ٨٦ ] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( ٨٧ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا( ١٠٩ ) ﴾.
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال :( سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل... )١ وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً )٢.
وحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا )٣. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي )٤.
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أمتي من يشفع للفئَام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة )٥. وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته )٦، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم يشفعُ يوم القيامة ثلاثة الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ )٧.
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد، ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله، ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له٨.
ومما جاء في بعضها ( أن الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا رب أمّتي أمّتي فيقال له : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول : أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فانطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ).
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه من الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ١ ( ٣٨ ) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ٢ ( ٣٩ ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ ( ٤٠ )عَنِ الْمُجْرِمِينَ( ٤١ ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ٣ ( ٤٢ ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ( ٤٣ ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( ٤٤ ) وَكُنَّا نَخُوضُ٤ مَعَ الْخَائِضِينَ( ٤٥ ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ( ٤٦ ) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ٥( ٤٧ ) ﴾ ( ٩٣- ٤٧ ).
والآيات استمرار للسياق السابق كذلك. والآية الأولى خاصة تتمة للآية السابقة لها وتعقيب عليها بسبيل تقرير كون كل نفس رهناً بما كسبته وشاءته من تقدم نحو الهدى أو تأخر عنه.
وقد قررت الآية الثانية بأسلوب استدراكي أن أصحاب اليمين لهم الجنات في الآخرة. وبسبب هذا الاستدراك أوّل الطبري وغيره بأن الآية الأولى تعني الذين يكسبون المعاصي ويكفرون فهم مرتهنون بما كسبوه من ذلك. وقد حكت الآية الثالثة وما بعدها حواراً مقدراً بين أصحاب اليمين والمجرمين، فسأل الأولون الأخيرين سؤال تعجب وشماتة عما جعلهم في عداد أهل النار ؟ فأجابوا أن سبب ذلك هو أنهم لم يكونوا يعبدون الله ويصلون له ولا يطعمون المسكين، وكانوا إلى هذا يخوضون في الباطل مع الخائضين ويكذبون بيوم الحساب والجزاء إلى أن انقضت حياتهم وصاروا إلى الحقيقة واليقين من أمرهم، وحقّت عليهم كلمة العذاب الذي أوعدوا به ولم يصدقوه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ( ٤٥ ) ﴾[ ٤٤- ٤٥ ] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار، حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد
إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين
وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث
ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنين هذه :﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ( ٨٩ ) ﴾ [ ٧٤- ٨٩ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ٩ ) ﴾، وآية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ( ٦٥ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( ٣٨ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون( ٣١ ) ﴾.
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ ( ١٨ ) وآية سورة الزمر هذه :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار( ٣ ) ﴾.
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة كمثل آيات سورة الزمر هذه :﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون( ٤٤ ) ﴾ [ ٤٣- ٤٤ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٨٦ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى( ٢٦ ) ﴾.
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى، على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾. ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال، ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلاّ لمن حاز مبدئياً رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية : إن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك، فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقاً.
ونستطرد إلى القول إن [ في ] القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهداً منها آيات سورة النجم [ ٢٦ ] وسورة الزخرف [ ٨٦ ] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( ٨٧ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا( ١٠٩ ) ﴾.
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال :( سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل... )١ وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً )٢.
وحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا )٣. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي )٤.
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أمتي من يشفع للفئَام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة )٥. وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته )٦، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم يشفعُ يوم القيامة ثلاثة الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ )٧.
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد، ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله، ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له٨.
ومما جاء في بعضها ( أن الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا رب أمّتي أمّتي فيقال له : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول : أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فانطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ).
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه من الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ١ ( ٣٨ ) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ٢ ( ٣٩ ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ ( ٤٠ )عَنِ الْمُجْرِمِينَ( ٤١ ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ٣ ( ٤٢ ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ( ٤٣ ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( ٤٤ ) وَكُنَّا نَخُوضُ٤ مَعَ الْخَائِضِينَ( ٤٥ ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ( ٤٦ ) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ٥( ٤٧ ) ﴾ ( ٩٣- ٤٧ ).
والآيات استمرار للسياق السابق كذلك. والآية الأولى خاصة تتمة للآية السابقة لها وتعقيب عليها بسبيل تقرير كون كل نفس رهناً بما كسبته وشاءته من تقدم نحو الهدى أو تأخر عنه.
وقد قررت الآية الثانية بأسلوب استدراكي أن أصحاب اليمين لهم الجنات في الآخرة. وبسبب هذا الاستدراك أوّل الطبري وغيره بأن الآية الأولى تعني الذين يكسبون المعاصي ويكفرون فهم مرتهنون بما كسبوه من ذلك. وقد حكت الآية الثالثة وما بعدها حواراً مقدراً بين أصحاب اليمين والمجرمين، فسأل الأولون الأخيرين سؤال تعجب وشماتة عما جعلهم في عداد أهل النار ؟ فأجابوا أن سبب ذلك هو أنهم لم يكونوا يعبدون الله ويصلون له ولا يطعمون المسكين، وكانوا إلى هذا يخوضون في الباطل مع الخائضين ويكذبون بيوم الحساب والجزاء إلى أن انقضت حياتهم وصاروا إلى الحقيقة واليقين من أمرهم، وحقّت عليهم كلمة العذاب الذي أوعدوا به ولم يصدقوه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ( ٤٥ ) ﴾[ ٤٤- ٤٥ ] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار، حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد
إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين
وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث
ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنين هذه :﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ( ٨٩ ) ﴾ [ ٧٤- ٨٩ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ٩ ) ﴾، وآية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ( ٦٥ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( ٣٨ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون( ٣١ ) ﴾.
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ ( ١٨ ) وآية سورة الزمر هذه :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار( ٣ ) ﴾.
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة كمثل آيات سورة الزمر هذه :﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون( ٤٤ ) ﴾ [ ٤٣- ٤٤ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٨٦ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى( ٢٦ ) ﴾.
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى، على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾. ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال، ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلاّ لمن حاز مبدئياً رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية : إن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك، فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقاً.
ونستطرد إلى القول إن [ في ] القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهداً منها آيات سورة النجم [ ٢٦ ] وسورة الزخرف [ ٨٦ ] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( ٨٧ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا( ١٠٩ ) ﴾.
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال :( سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل... )١ وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً )٢.
وحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا )٣. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي )٤.
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أمتي من يشفع للفئَام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة )٥. وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته )٦، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم يشفعُ يوم القيامة ثلاثة الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ )٧.
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد، ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله، ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له٨.
ومما جاء في بعضها ( أن الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا رب أمّتي أمّتي فيقال له : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول : أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فانطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ).
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه من الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.

- ما سلككم في سقر : ما الذي جعلكم في عداد أصحاب جهنم
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ١ ( ٣٨ ) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ٢ ( ٣٩ ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ ( ٤٠ )عَنِ الْمُجْرِمِينَ( ٤١ ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ٣ ( ٤٢ ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ( ٤٣ ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( ٤٤ ) وَكُنَّا نَخُوضُ٤ مَعَ الْخَائِضِينَ( ٤٥ ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ( ٤٦ ) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ٥( ٤٧ ) ﴾ ( ٩٣- ٤٧ ).
والآيات استمرار للسياق السابق كذلك. والآية الأولى خاصة تتمة للآية السابقة لها وتعقيب عليها بسبيل تقرير كون كل نفس رهناً بما كسبته وشاءته من تقدم نحو الهدى أو تأخر عنه.
وقد قررت الآية الثانية بأسلوب استدراكي أن أصحاب اليمين لهم الجنات في الآخرة. وبسبب هذا الاستدراك أوّل الطبري وغيره بأن الآية الأولى تعني الذين يكسبون المعاصي ويكفرون فهم مرتهنون بما كسبوه من ذلك. وقد حكت الآية الثالثة وما بعدها حواراً مقدراً بين أصحاب اليمين والمجرمين، فسأل الأولون الأخيرين سؤال تعجب وشماتة عما جعلهم في عداد أهل النار ؟ فأجابوا أن سبب ذلك هو أنهم لم يكونوا يعبدون الله ويصلون له ولا يطعمون المسكين، وكانوا إلى هذا يخوضون في الباطل مع الخائضين ويكذبون بيوم الحساب والجزاء إلى أن انقضت حياتهم وصاروا إلى الحقيقة واليقين من أمرهم، وحقّت عليهم كلمة العذاب الذي أوعدوا به ولم يصدقوه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ( ٤٥ ) ﴾[ ٤٤- ٤٥ ] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار، حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد
إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين
وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث
ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنين هذه :﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ( ٨٩ ) ﴾ [ ٧٤- ٨٩ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ٩ ) ﴾، وآية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ( ٦٥ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( ٣٨ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون( ٣١ ) ﴾.
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ ( ١٨ ) وآية سورة الزمر هذه :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار( ٣ ) ﴾.
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة كمثل آيات سورة الزمر هذه :﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون( ٤٤ ) ﴾ [ ٤٣- ٤٤ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٨٦ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى( ٢٦ ) ﴾.
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى، على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾. ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال، ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلاّ لمن حاز مبدئياً رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية : إن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك، فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقاً.
ونستطرد إلى القول إن [ في ] القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهداً منها آيات سورة النجم [ ٢٦ ] وسورة الزخرف [ ٨٦ ] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( ٨٧ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا( ١٠٩ ) ﴾.
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال :( سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل... )١ وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً )٢.
وحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا )٣. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي )٤.
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أمتي من يشفع للفئَام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة )٥. وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته )٦، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم يشفعُ يوم القيامة ثلاثة الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ )٧.
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد، ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله، ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له٨.
ومما جاء في بعضها ( أن الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا رب أمّتي أمّتي فيقال له : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول : أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فانطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ).
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه من الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ١ ( ٣٨ ) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ٢ ( ٣٩ ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ ( ٤٠ )عَنِ الْمُجْرِمِينَ( ٤١ ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ٣ ( ٤٢ ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ( ٤٣ ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( ٤٤ ) وَكُنَّا نَخُوضُ٤ مَعَ الْخَائِضِينَ( ٤٥ ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ( ٤٦ ) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ٥( ٤٧ ) ﴾ ( ٩٣- ٤٧ ).
والآيات استمرار للسياق السابق كذلك. والآية الأولى خاصة تتمة للآية السابقة لها وتعقيب عليها بسبيل تقرير كون كل نفس رهناً بما كسبته وشاءته من تقدم نحو الهدى أو تأخر عنه.
وقد قررت الآية الثانية بأسلوب استدراكي أن أصحاب اليمين لهم الجنات في الآخرة. وبسبب هذا الاستدراك أوّل الطبري وغيره بأن الآية الأولى تعني الذين يكسبون المعاصي ويكفرون فهم مرتهنون بما كسبوه من ذلك. وقد حكت الآية الثالثة وما بعدها حواراً مقدراً بين أصحاب اليمين والمجرمين، فسأل الأولون الأخيرين سؤال تعجب وشماتة عما جعلهم في عداد أهل النار ؟ فأجابوا أن سبب ذلك هو أنهم لم يكونوا يعبدون الله ويصلون له ولا يطعمون المسكين، وكانوا إلى هذا يخوضون في الباطل مع الخائضين ويكذبون بيوم الحساب والجزاء إلى أن انقضت حياتهم وصاروا إلى الحقيقة واليقين من أمرهم، وحقّت عليهم كلمة العذاب الذي أوعدوا به ولم يصدقوه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ( ٤٥ ) ﴾[ ٤٤- ٤٥ ] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار، حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد
إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين
وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث
ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنين هذه :﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ( ٨٩ ) ﴾ [ ٧٤- ٨٩ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ٩ ) ﴾، وآية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ( ٦٥ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( ٣٨ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون( ٣١ ) ﴾.
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ ( ١٨ ) وآية سورة الزمر هذه :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار( ٣ ) ﴾.
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة كمثل آيات سورة الزمر هذه :﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون( ٤٤ ) ﴾ [ ٤٣- ٤٤ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٨٦ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى( ٢٦ ) ﴾.
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى، على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾. ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال، ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلاّ لمن حاز مبدئياً رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية : إن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك، فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقاً.
ونستطرد إلى القول إن [ في ] القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهداً منها آيات سورة النجم [ ٢٦ ] وسورة الزخرف [ ٨٦ ] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( ٨٧ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا( ١٠٩ ) ﴾.
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال :( سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل... )١ وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً )٢.
وحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا )٣. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي )٤.
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أمتي من يشفع للفئَام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة )٥. وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته )٦، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم يشفعُ يوم القيامة ثلاثة الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ )٧.
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد، ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله، ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له٨.
ومما جاء في بعضها ( أن الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا رب أمّتي أمّتي فيقال له : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول : أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فانطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ).
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه من الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ١ ( ٣٨ ) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ٢ ( ٣٩ ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ ( ٤٠ )عَنِ الْمُجْرِمِينَ( ٤١ ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ٣ ( ٤٢ ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ( ٤٣ ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( ٤٤ ) وَكُنَّا نَخُوضُ٤ مَعَ الْخَائِضِينَ( ٤٥ ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ( ٤٦ ) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ٥( ٤٧ ) ﴾ ( ٩٣- ٤٧ ).
والآيات استمرار للسياق السابق كذلك. والآية الأولى خاصة تتمة للآية السابقة لها وتعقيب عليها بسبيل تقرير كون كل نفس رهناً بما كسبته وشاءته من تقدم نحو الهدى أو تأخر عنه.
وقد قررت الآية الثانية بأسلوب استدراكي أن أصحاب اليمين لهم الجنات في الآخرة. وبسبب هذا الاستدراك أوّل الطبري وغيره بأن الآية الأولى تعني الذين يكسبون المعاصي ويكفرون فهم مرتهنون بما كسبوه من ذلك. وقد حكت الآية الثالثة وما بعدها حواراً مقدراً بين أصحاب اليمين والمجرمين، فسأل الأولون الأخيرين سؤال تعجب وشماتة عما جعلهم في عداد أهل النار ؟ فأجابوا أن سبب ذلك هو أنهم لم يكونوا يعبدون الله ويصلون له ولا يطعمون المسكين، وكانوا إلى هذا يخوضون في الباطل مع الخائضين ويكذبون بيوم الحساب والجزاء إلى أن انقضت حياتهم وصاروا إلى الحقيقة واليقين من أمرهم، وحقّت عليهم كلمة العذاب الذي أوعدوا به ولم يصدقوه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ( ٤٥ ) ﴾[ ٤٤- ٤٥ ] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار، حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد
إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين
وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث
ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنين هذه :﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ( ٨٩ ) ﴾ [ ٧٤- ٨٩ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ٩ ) ﴾، وآية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ( ٦٥ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( ٣٨ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون( ٣١ ) ﴾.
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ ( ١٨ ) وآية سورة الزمر هذه :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار( ٣ ) ﴾.
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة كمثل آيات سورة الزمر هذه :﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون( ٤٤ ) ﴾ [ ٤٣- ٤٤ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٨٦ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى( ٢٦ ) ﴾.
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى، على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾. ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال، ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلاّ لمن حاز مبدئياً رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية : إن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك، فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقاً.
ونستطرد إلى القول إن [ في ] القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهداً منها آيات سورة النجم [ ٢٦ ] وسورة الزخرف [ ٨٦ ] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( ٨٧ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا( ١٠٩ ) ﴾.
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال :( سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل... )١ وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً )٢.
وحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا )٣. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي )٤.
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أمتي من يشفع للفئَام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة )٥. وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته )٦، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم يشفعُ يوم القيامة ثلاثة الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ )٧.
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد، ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله، ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له٨.
ومما جاء في بعضها ( أن الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا رب أمّتي أمّتي فيقال له : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول : أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فانطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ).
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه من الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.


تعليق على مدى ما أولاه القرآن
من العناية بالمسكين
وبمناسبة جملة ﴿ ولم نك نطعم المسكين ﴾ التي تأتي لأول مرة في الآية [ ٤٤ ] نقول : إن الآيات القرآنية التي ذكرت المسكين والمساكين بسبيل الحثّ على البرّ بهم ومساعدتهم والعناية بهم والتنديد بمن لا يفعل ذلك قد بلغت اثنتين وعشرين منها المكي ومنها المدني ؛ حيث يبدو من ذلك مبلغ عناية الله سبحانه بهذه الطبقة منذ أوائل عهد التنزيل واستمرارها إلى نهاياته. ومما احتوى حثاً على إطعامه وتنويها بمن يفعلون وتنديداً بمن لا يفعلون آيات سورة البلد هذه :﴿ فلا أقتحم العقبة( ١١ ) وما أدراك ما العقبة ( ١٢ ) فك رقبة( ١٣ ) أو إطعام في يوم ذي مسغبة( ١٤ ) يتيما ذا مقربة( ١٥ ) أو مسكينا ذا متربة( ١٦ ) ﴾، وآيات سورة الفجر هذه :﴿ كلا بل لا تكرمون اليتيم ( ١٧ ) ولا تحضون على طعام المسكين( ١٨ ) ﴾، وآيات سورة الماعون هذه التي تجعل عدم الحض على طعامهم دليلا على عدم الإيمان بالآخرة وعقاب الله. ﴿ أرأيت الذي يكذب بالدين( ١ ) فذلك الذي يدع اليتيم( ٢ ) ولا يحض على طعام المسكين( ٣ ) ﴾، وآيات سورة الحاقة هذه :﴿ إنه كان لا يؤمن بالله العظيم( ٣٣ ) ولا يحض على طعام المسكين( ٣٤ ) فليس له اليوم هاهنا حميم ( ٣٥ ) ولا طعام إلا من غسلين( ٣٦ ) لا يأكله إلا الخاطئون( ٣٧ ) ﴾ وآيات سورة الإنسان هذه :﴿ ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً( ٧ ) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا( ٩ ) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا( ١٠ ) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا( ١١ ) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا( ١٢ ) ﴾ ( ٩- ١٢ ). وفي سورتي الإسراء والروم آيتان تجعل للمسكين حقاً وتوجب إعطاءه له وهذا نص آية الروم :﴿ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٣٨ ) وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُون( ٣٩ ) ﴾.
وقد يتبادر إلى الذهن أن كلمة المسكين تعبر عن الطبقة الفقيرة المحتاجة، غير أن هناك آيات تذكر المساكين مع الفقراء وآيات تذكر المساكين مع السائلين مثل آية سورة التوبة هذه :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليهما ﴾ [ ٦٠ ] وآية سورة البقرة هذه :﴿ وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين ﴾ [ ١٧٧ ].
وهناك حديث فيه وصف للمسكين رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :( ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيُتصَّدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس )١حيث يظهر في هذا الوصف جانب من حكمة الله تعالى في ما ورد في القرآن من حض على البر بالمسكين وإطعامه والتنديد بمن لا يفعلون ذلك ؛ لأنه يصبر على العوز والحرمان ولا يسأل الناس وفي هذا ما فيه من مغزى جليل.
ولقد خصت حكمة التنزيل المسكين دون الفقير بنصيب من خمس غنائم الحرب ومن الفيء، وهما موردان جعل للدولة حق استيفائهما وتوزيعهما على ما جاء في آية سورة الأنفال هذه :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ ( الأنفال : ٤١ ). وآية سورة الحشر هذه :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ [ ٤١ ]، وخصت المسكين بخاصة بطعام الكفارات كما جاء في آية سورة المائدة هذه :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُم... ﴾ ( ٨٩ ) وهذه الآية :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ﴾ [ ٩٥ ]، وآيات سورة المجادلة هذه :﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( ٣ ) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ﴾ [ ٣- ٤ ]. حيث تزداد تلك الحكمة وهذا المغزى روعة وجلالاً. وهذا بالإضافة إلى ذكر المسكين كصاحب نصيب مع الفقراء في مورد الزكاة الذي تستوفيه الدولة وتوزعه كذلك على ما جاء في آية سورة التوبة التي أوردناها آنفا.
ولقد روى الشيخان والترمذي عن صفوان بن سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصومُ النهارَ ويقومُ الليلَ )٢. والحديث من ناحية يدعم الوصف الذي ورد في الحديث السابق ويتساوق مع التلقين القرآني في هذا الأمر كما هو في كل أمر.
وهناك مناسبات آتية أخرى سوف يكون لنا فيها تعليقات أخرى على هذا الأمر وأمثاله فنكتفي بما تقدم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ( ٤٥ ) ﴾[ ٤٤- ٤٥ ] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار، حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد
إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين
وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث
ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنين هذه :﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ( ٨٩ ) ﴾ [ ٧٤- ٨٩ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ٩ ) ﴾، وآية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ( ٦٥ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( ٣٨ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون( ٣١ ) ﴾.
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ ( ١٨ ) وآية سورة الزمر هذه :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار( ٣ ) ﴾.
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة كمثل آيات سورة الزمر هذه :﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون( ٤٤ ) ﴾ [ ٤٣- ٤٤ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٨٦ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى( ٢٦ ) ﴾.
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى، على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾. ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال، ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلاّ لمن حاز مبدئياً رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية : إن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك، فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقاً.
ونستطرد إلى القول إن [ في ] القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهداً منها آيات سورة النجم [ ٢٦ ] وسورة الزخرف [ ٨٦ ] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( ٨٧ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا( ١٠٩ ) ﴾.
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال :( سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل... )١ وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً )٢.
وحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا )٣. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي )٤.
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أمتي من يشفع للفئَام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة )٥. وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته )٦، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم يشفعُ يوم القيامة ثلاثة الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ )٧.
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد، ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله، ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له٨.
ومما جاء في بعضها ( أن الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا رب أمّتي أمّتي فيقال له : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول : أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فانطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ).
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه من الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.


١ - التاج ج ٢ ص ٢٨..
٢ - التاج ج ٥ ص ١٣..
- الخوض : التوغل في الشيء والمقصود الخبط والتورط بدون علم أو الاندماج في الباطل.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ١ ( ٣٨ ) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ٢ ( ٣٩ ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ ( ٤٠ )عَنِ الْمُجْرِمِينَ( ٤١ ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ٣ ( ٤٢ ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ( ٤٣ ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( ٤٤ ) وَكُنَّا نَخُوضُ٤ مَعَ الْخَائِضِينَ( ٤٥ ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ( ٤٦ ) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ٥( ٤٧ ) ﴾ ( ٩٣- ٤٧ ).
والآيات استمرار للسياق السابق كذلك. والآية الأولى خاصة تتمة للآية السابقة لها وتعقيب عليها بسبيل تقرير كون كل نفس رهناً بما كسبته وشاءته من تقدم نحو الهدى أو تأخر عنه.
وقد قررت الآية الثانية بأسلوب استدراكي أن أصحاب اليمين لهم الجنات في الآخرة. وبسبب هذا الاستدراك أوّل الطبري وغيره بأن الآية الأولى تعني الذين يكسبون المعاصي ويكفرون فهم مرتهنون بما كسبوه من ذلك. وقد حكت الآية الثالثة وما بعدها حواراً مقدراً بين أصحاب اليمين والمجرمين، فسأل الأولون الأخيرين سؤال تعجب وشماتة عما جعلهم في عداد أهل النار ؟ فأجابوا أن سبب ذلك هو أنهم لم يكونوا يعبدون الله ويصلون له ولا يطعمون المسكين، وكانوا إلى هذا يخوضون في الباطل مع الخائضين ويكذبون بيوم الحساب والجزاء إلى أن انقضت حياتهم وصاروا إلى الحقيقة واليقين من أمرهم، وحقّت عليهم كلمة العذاب الذي أوعدوا به ولم يصدقوه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ( ٤٥ ) ﴾[ ٤٤- ٤٥ ] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار، حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد
إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين
وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث
ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنين هذه :﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ( ٨٩ ) ﴾ [ ٧٤- ٨٩ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ٩ ) ﴾، وآية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ( ٦٥ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( ٣٨ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون( ٣١ ) ﴾.
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ ( ١٨ ) وآية سورة الزمر هذه :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار( ٣ ) ﴾.
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة كمثل آيات سورة الزمر هذه :﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون( ٤٤ ) ﴾ [ ٤٣- ٤٤ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٨٦ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى( ٢٦ ) ﴾.
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى، على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾. ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال، ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلاّ لمن حاز مبدئياً رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية : إن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك، فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقاً.
ونستطرد إلى القول إن [ في ] القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهداً منها آيات سورة النجم [ ٢٦ ] وسورة الزخرف [ ٨٦ ] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( ٨٧ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا( ١٠٩ ) ﴾.
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال :( سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل... )١ وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً )٢.
وحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا )٣. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي )٤.
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أمتي من يشفع للفئَام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة )٥. وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته )٦، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم يشفعُ يوم القيامة ثلاثة الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ )٧.
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد، ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله، ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له٨.
ومما جاء في بعضها ( أن الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا رب أمّتي أمّتي فيقال له : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول : أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فانطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ).
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه من الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ١ ( ٣٨ ) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ٢ ( ٣٩ ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ ( ٤٠ )عَنِ الْمُجْرِمِينَ( ٤١ ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ٣ ( ٤٢ ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ( ٤٣ ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( ٤٤ ) وَكُنَّا نَخُوضُ٤ مَعَ الْخَائِضِينَ( ٤٥ ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ( ٤٦ ) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ٥( ٤٧ ) ﴾ ( ٩٣- ٤٧ ).
والآيات استمرار للسياق السابق كذلك. والآية الأولى خاصة تتمة للآية السابقة لها وتعقيب عليها بسبيل تقرير كون كل نفس رهناً بما كسبته وشاءته من تقدم نحو الهدى أو تأخر عنه.
وقد قررت الآية الثانية بأسلوب استدراكي أن أصحاب اليمين لهم الجنات في الآخرة. وبسبب هذا الاستدراك أوّل الطبري وغيره بأن الآية الأولى تعني الذين يكسبون المعاصي ويكفرون فهم مرتهنون بما كسبوه من ذلك. وقد حكت الآية الثالثة وما بعدها حواراً مقدراً بين أصحاب اليمين والمجرمين، فسأل الأولون الأخيرين سؤال تعجب وشماتة عما جعلهم في عداد أهل النار ؟ فأجابوا أن سبب ذلك هو أنهم لم يكونوا يعبدون الله ويصلون له ولا يطعمون المسكين، وكانوا إلى هذا يخوضون في الباطل مع الخائضين ويكذبون بيوم الحساب والجزاء إلى أن انقضت حياتهم وصاروا إلى الحقيقة واليقين من أمرهم، وحقّت عليهم كلمة العذاب الذي أوعدوا به ولم يصدقوه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ( ٤٥ ) ﴾[ ٤٤- ٤٥ ] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار، حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد
إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين
وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث
ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنين هذه :﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ( ٨٩ ) ﴾ [ ٧٤- ٨٩ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ٩ ) ﴾، وآية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ( ٦٥ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( ٣٨ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون( ٣١ ) ﴾.
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ ( ١٨ ) وآية سورة الزمر هذه :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار( ٣ ) ﴾.
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة كمثل آيات سورة الزمر هذه :﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون( ٤٤ ) ﴾ [ ٤٣- ٤٤ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٨٦ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى( ٢٦ ) ﴾.
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى، على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾. ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال، ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلاّ لمن حاز مبدئياً رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية : إن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك، فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقاً.
ونستطرد إلى القول إن [ في ] القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهداً منها آيات سورة النجم [ ٢٦ ] وسورة الزخرف [ ٨٦ ] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( ٨٧ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا( ١٠٩ ) ﴾.
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال :( سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل... )١ وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً )٢.
وحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا )٣. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي )٤.
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أمتي من يشفع للفئَام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة )٥. وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته )٦، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم يشفعُ يوم القيامة ثلاثة الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ )٧.
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد، ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله، ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له٨.
ومما جاء في بعضها ( أن الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا رب أمّتي أمّتي فيقال له : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول : أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فانطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ).
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه من الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.

-اليقين : الموت وانقضاء الحياة.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ١ ( ٣٨ ) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ٢ ( ٣٩ ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ ( ٤٠ )عَنِ الْمُجْرِمِينَ( ٤١ ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ٣ ( ٤٢ ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ( ٤٣ ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( ٤٤ ) وَكُنَّا نَخُوضُ٤ مَعَ الْخَائِضِينَ( ٤٥ ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ( ٤٦ ) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ٥( ٤٧ ) ﴾ ( ٩٣- ٤٧ ).
والآيات استمرار للسياق السابق كذلك. والآية الأولى خاصة تتمة للآية السابقة لها وتعقيب عليها بسبيل تقرير كون كل نفس رهناً بما كسبته وشاءته من تقدم نحو الهدى أو تأخر عنه.
وقد قررت الآية الثانية بأسلوب استدراكي أن أصحاب اليمين لهم الجنات في الآخرة. وبسبب هذا الاستدراك أوّل الطبري وغيره بأن الآية الأولى تعني الذين يكسبون المعاصي ويكفرون فهم مرتهنون بما كسبوه من ذلك. وقد حكت الآية الثالثة وما بعدها حواراً مقدراً بين أصحاب اليمين والمجرمين، فسأل الأولون الأخيرين سؤال تعجب وشماتة عما جعلهم في عداد أهل النار ؟ فأجابوا أن سبب ذلك هو أنهم لم يكونوا يعبدون الله ويصلون له ولا يطعمون المسكين، وكانوا إلى هذا يخوضون في الباطل مع الخائضين ويكذبون بيوم الحساب والجزاء إلى أن انقضت حياتهم وصاروا إلى الحقيقة واليقين من أمرهم، وحقّت عليهم كلمة العذاب الذي أوعدوا به ولم يصدقوه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ( ٤٥ ) ﴾[ ٤٤- ٤٥ ] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار، حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد
إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين
وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث
ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنين هذه :﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ( ٨٩ ) ﴾ [ ٧٤- ٨٩ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ٩ ) ﴾، وآية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ( ٦٥ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( ٣٨ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون( ٣١ ) ﴾.
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ ( ١٨ ) وآية سورة الزمر هذه :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار( ٣ ) ﴾.
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة كمثل آيات سورة الزمر هذه :﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون( ٤٤ ) ﴾ [ ٤٣- ٤٤ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٨٦ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى( ٢٦ ) ﴾.
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى، على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾. ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال، ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلاّ لمن حاز مبدئياً رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية : إن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك، فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقاً.
ونستطرد إلى القول إن [ في ] القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهداً منها آيات سورة النجم [ ٢٦ ] وسورة الزخرف [ ٨٦ ] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( ٨٧ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا( ١٠٩ ) ﴾.
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال :( سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل... )١ وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً )٢.
وحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا )٣. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي )٤.
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أمتي من يشفع للفئَام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة )٥. وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته )٦، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم يشفعُ يوم القيامة ثلاثة الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ )٧.
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد، ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله، ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له٨.
ومما جاء في بعضها ( أن الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا رب أمّتي أمّتي فيقال له : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول : أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فانطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ).
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه من الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين
ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ( ٤٥ ) ﴾[ ٤٤- ٤٥ ] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار، حتى يرعووا ويرتدعوا.
تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد
إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين
وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث
ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنين هذه :﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ( ٨٩ ) ﴾ [ ٧٤- ٨٩ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( ٩ ) ﴾، وآية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ( ٦٥ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( ٣٨ ) ﴾، وآية سورة يونس هذه :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون( ٣١ ) ﴾.
ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ ( ١٨ ) وآية سورة الزمر هذه :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار( ٣ ) ﴾.
والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة كمثل آيات سورة الزمر هذه :﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ( ٤٣ ) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون( ٤٤ ) ﴾ [ ٤٣- ٤٤ ]، وآية سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٨٦ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى( ٢٦ ) ﴾.
وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى، على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾. ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان.
وعلى كل حال، ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلاّ لمن حاز مبدئياً رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز.
ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية : إن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك، فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقاً.
ونستطرد إلى القول إن [ في ] القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهداً منها آيات سورة النجم [ ٢٦ ] وسورة الزخرف [ ٨٦ ] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه :﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا( ٨٧ ) ﴾، وآية سورة طه هذه :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا( ١٠٩ ) ﴾.
كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال :( سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل... )١ وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً )٢.
وحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا )٣. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي )٤.
وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أمتي من يشفع للفئَام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة )٥. وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته )٦، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم يشفعُ يوم القيامة ثلاثة الأنبياءُ ثم العلماءُ ثم الشهداءُ )٧.
وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد، ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله، ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له٨.
ومما جاء في بعضها ( أن الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا رب أمّتي أمّتي فيقال له : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول : أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فانطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ).
والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه من الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.

-التذكرة : كناية عن الدعوة النبوية.
﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ١ مُعْرِضِينَ( ٤٩ ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ٢ مُّسْتَنفِرَةٌ٣ ( ٥٠ ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ٤ ( ٥١ ) ﴾ [ ٤٩- ٥١ ].
والآيات استمرار للسياق وتعقيب عليه، حيث تندد بالكفار وتتساءل عن سبب إعراضهم عن الدعوة النبوية وفرارهم منها، كما تفرّ الحمر الوحشية من السبع حين يبدو لها.
حمر : جمع حمار. وقيل : إن هذا الجمع بحمار الوحش وقد ورد في سورة لقمان لفظ ( حمير ) جمعا لحمار.
﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ١ مُعْرِضِينَ( ٤٩ ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ٢ مُّسْتَنفِرَةٌ٣ ( ٥٠ ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ٤ ( ٥١ ) ﴾ [ ٤٩- ٥١ ].
والآيات استمرار للسياق وتعقيب عليه، حيث تندد بالكفار وتتساءل عن سبب إعراضهم عن الدعوة النبوية وفرارهم منها، كما تفرّ الحمر الوحشية من السبع حين يبدو لها.
- قسورة : من أسماء السبع.
﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ١ مُعْرِضِينَ( ٤٩ ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ٢ مُّسْتَنفِرَةٌ٣ ( ٥٠ ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ٤ ( ٥١ ) ﴾ [ ٤٩- ٥١ ].
والآيات استمرار للسياق وتعقيب عليه، حيث تندد بالكفار وتتساءل عن سبب إعراضهم عن الدعوة النبوية وفرارهم منها، كما تفرّ الحمر الوحشية من السبع حين يبدو لها.
﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( ٥٢ ) كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( ٥٣ ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( ٥٤ ) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ( ٥٥ ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة( ٥٦ ) ﴾ [ ٥٢- ٥٦ ].
والآيات استمرار للسياق وتعقيب استدراكي وتنديدي عليه.
وقد تلهم الآية الأولى أن الكفار تحدوا النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال صحف مكتوبة على كل منهم ؛ لتكون برهانا على صحة دعواه ودعوته، كما تحتمل أن تكون في معرض التنديد بشدة عنادهم، حتى لكأنهم يريدون ليؤمنوا ويصدقوا أن ينزل على كل منهم كتاب خاص من السماء١. وقد روى بعض المفسرين٢ أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :( إن سرك أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان نؤمر فيه باتباعك ) كما روى بعضهم أنهم قالوا له :( ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسوله نؤمر فيه باتباعك )٣. ولقد حكت إحدى آيات سورة الإسراء ذلك عنهم فعلاً في مناسبة أخرى كما ترى فيها :﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً( ٩٣ ) ﴾.
والآية الثانية احتوت تقريراً لواقع الحال من أمرهم وسبب عدم استجابتهم بأسلوب الزجر والاستدراك وهو عدم خوفهم من الآخرة وجحودهم بها، وتلهم أنها بسبيل تسلية النبي صلى الله عليه وسلم.
والآيتان الثالثة والرابعة احتوتا رداً على تحديهم وشدة عنادهم في صورة تقرير لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي تذكير وتبليغ للناس، ثم تركهم لاختيارهم ومشيئتهم في الاستجابة إليها.
أما الآية الخامسة فإنها احتوت تقريراً بأن مشيئة الناس في التذكر والاستجابة منوطة بمشيئة الله الذي هو الجدير بالاتقاء والخشية والذي هو القادر على العفو والمغفرة.
ولقد روى الترمذي في سياق الآية الأخيرة حديثا عن أنس بن مالك قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ﴿ هو أهل التقوى وأهل المغفرة ﴾ قال : قال الله عزّ وجلّ : أنا أهل أن أتّقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها، فأنا أهلٌ أن أغفرَ له )٤.
حيث ينطوي في الحديث توضيح فيه تبشير وترغيب للمتقين.
تعليق على مدى ما ينطوي في جملة
﴿ بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ﴾
ويتبادر لنا من هذه الجملة أنها تنطوي على قرينة أو دليل على أن عدد الذين يقرؤون ويكتبون من سامعي القرآن كبير. وعلى أن المعتاد عندهم أن يكتب على صحف تطوى وتنشر أي على ورق أو رقوق ناعمة رقيقة. وفي هذا نقض لما في الأذهان من ضعف الثقافة العربية وضيق نطاقها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته٥.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم
بالآيات وأجوبة القرآن على ذلك ودلالتها
ولقد تكررت حكاية القرآن لصور عديدة من تحدي الجاحدين ومعجزاتهم، والآية [ ٥٢ ] من هذه الآيات احتوت أولى مرات التحدي- إذا صحت روايات المفسرين- وليس ما يمنع صحتها، لأن الصورة مؤيدة بنص قرآني آخر على ما أوردناه قبل، وذلك بطلب الكفار إنزال كتب إليهم فيها تأييد لصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأمر باتباعه. وقد وردت الآيات التالية عليهم، فبينت أن موقفهم هو في حقيقته راجع إلى عدم خوفهم من الآخرة، وأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الذي يتلوه عليهم تذكرة فمن شاء تذكر واهتدى. ولم تجبهم إلى تحديهم. ولقد ظلت آيات القرآن ترد عليهم في كل موقف تحدّ وقفوه، وكل ما طالبوا ببرهان خارق للعادة مما عبر عنه القرآن بتعبير آية أو آيات بمثل ما ردت عليهم في هذه الآيات من حيث الجوهر، مع تنوع الصيغ والأساليب دون الاستجابة إلى تحديهم، موجهة الخطاب إلى العقول لتتدبر وإلى القلوب لترعوي، ومقررة صراحة حيناً وضمناً حيناً أن الدعوة النبوية إنما هي دعوة إلى الله وحده والإقرار له بالعبودية ونبذ ما سواه والتزام الأعمال الصالحة، وتحذير من الكفر والشرك والإثم والفواحش، وأن مثل هذه الدعوة لا تحتاج إلى معجزات مؤيدة، وإنما تحتاج إلى تروّ وإذعان ونية حسنة وطوية نقية ورغبة في الحق والخير والهدى وبعد عن العناد واللجاج، ليرى المرء البرهان على صحتها وقوتها في الكون وما فيه من آيات باهرة وحكمة بالغة ونواميس دقيقة، وفيما تدعو إليه من مكارم الأخلاق والفضائل، وتنهى عنه من الإثم والبغي والفواحش كما تلهم آيات سورة الأنعام هذه :﴿ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ( ٨ ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ( ٩ ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ( ١٠ ) ﴾ ( ٨- ١٠ ) ومثل آيات سورة الأنعام هذه :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ( ١٠٩ ) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ( ١١٠ ) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ( ١١١ ) ﴾. وآيات سورة الرعد هذه :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ( ٧ ) ﴾ وآية سورة الرعد هذه :﴿ و َيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ( ٢٧ ) ﴾ وآيات سورة الإسراء هذه :﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا( ٩٠ ) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ( ٩١ ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ( ٩٢ ) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٣ ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٤ ) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ( ٩٥ ) قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ( ٩٦ ) وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ( ٩٧ ) ﴾ وآيات سورة العنكبوت هذه :﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ( ٥٠ ) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( ٥١ ) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ( ٥٢ ) ﴾ [ ٥٠- ٥٢ ].
وهذه الردود القوية على تحدي الكفار هي بسبيل تقرير أن الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق لا تحتاج إلى معجزات، وأن الذين حسنت طواياهم ونواياهم وصدقت رغباتهم في الحق والحقيقة آمنوا، ففيها ما يكفي لحملهم على الارعواء والاستجابة، أما الذين خبثت نواياهم وانعدمت فيهم الرغبة في الحق والحقيقة فلن يؤمنوا مهما رأوا من الآيات والمعجزات. ولئن لم يكن بدّ من آية فهي القرآن الذي يتلى عليهم وفيه الكفاية كل الكفاية. وهكذا تنفرد الدعوة القرآنية والرسالة المحمدية عما سبقها، من حيث إنها لم تقم على الخوارق استجابة للتحدي، وإنما قامت خطاب العقل والقلب والبرهنة بما في الكون من إبداع ونظام وعظمة يدل على وجود الله عز وجل واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة والاتجاه وبطلان الشرك والوثنية والعقائد المتناقضة مع ذلك هم بما انطوى في هذه الدعوة من مبادئ الحق والخير والبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلال الطيبات وتحريم الخبائث والفواحش والآثام ما ظهر منها وما بطن والحثّ على التضامن والتعاون ومنع الاستعلاء والاستغلال وإقامة مجتمع إنساني عام يتساوى فيه الناس في الحقوق والواجبات، ويتكافلون فيها ويسود فيه الحق والعدل والحرية والمعروف والخير.
ولعل مما يحسن أن يضاف إلى هذا من حكمة الله في عدم الاستجابة إلى تحدي الكفار : أن الأنبياء السابقين قد جاؤوا لقومهم، وأن المعجزات التي أظهرها الله على أيديهم هي لإقناع جيل هذا القوم الذي كانت رسالة الأنبياء لهم في حين أن الله سبحانه قد شاء أن تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع الأجيال ودين الإنسانية العام في جميع الأزمنة والأمكنة. وهو ما انطوى في آيات عديدة أوردنا بعضها في تعليقنا على جملة ﴿ رب العالمين ﴾ في سياق تفسير سورة الفاتحة، وفي هذا لا تغني المعجزة لأنها دائمة الأثر. وقد تنكر من الأجيال الآتية فكان الإقناع وقوة البرهان ومخاطبة العقل والقلب والقرآن المجيد الذي ينطوي فيه كل ذلك بأروع وأقوى ما يكون هي الحجج المؤيدة لصدق الرسالة المحمدية التي تظل واردة وقائمة راهنة بكل قوتها في كل ظرف ومكان. ولقد جاء في سورة الإسراء هذه :﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ﴾ [ ٥٩ ] وهي عظيمة المدى والدلالة بسبيل ما نحن في صدده ؛ حيث تضمنت تقريراً ربانيًا صريحاً بأن الله عز وجل امتنع عن إظهار المعجزة على يد النبي صلى الله عليه وسلم إجابة على تحدي الكفار وتعليلاً لذلك بأن الأمم السابقة قد كذبت بالمعجزات التي أظهرها الله على أيدي أنبيائه السابقين ولم يتحقق المقصود منها.
ولقد روى البخاري ومسلم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه :( ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ) حيث يتساوق الحديث مع التلقين القرآني بأن معجزة النبوة المحمدية هي ما أوحاه الله تعالى إلى النبي من قرآن وحكمة فيهما الهدى والرحمة وأسباب الصلاح والنجاة للبشر في دنياهم وآخرتهم.
ونريد أن ننبه إلى أمر، وهو أن ما قررناه استلهاماً من الآيات القرآنية هو بسبيل الردّ على تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وطلبهم منه الإتيان بالمعجزات والخوارق لتأييد صلته بالله، وإننا لا ننكر أن الله عزّ وجلّ قد أظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم معجزات متنوعة الصور في ظروف كثيرة له خاصة وله وللمسلمين عامة على ما تدل عليه آيات قرآنية عديدة مما سوف ننوه به في مناسباته وعلى ما ورد في أحاديث عديدة قوية الأسانيد سنوردها في مناسبات آتية.
نقول ونحن نعرف أن هناك أحاديث قوية الأسانيد، بأن ما احتوته الآية الأولى من سورة القمر من انشقاق القمر بناء على تحدي الكفار قد وقع فعلاً. غير أن هناك ما يمكن إيراده في هذا الصدد على ما سوف نذكره في سياق تفسير هذه الآية.


٥ - انظر أيضا: فصل الحياة العقلية في كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة..
﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( ٥٢ ) كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( ٥٣ ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( ٥٤ ) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ( ٥٥ ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة( ٥٦ ) ﴾ [ ٥٢- ٥٦ ].
والآيات استمرار للسياق وتعقيب استدراكي وتنديدي عليه.
وقد تلهم الآية الأولى أن الكفار تحدوا النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال صحف مكتوبة على كل منهم ؛ لتكون برهانا على صحة دعواه ودعوته، كما تحتمل أن تكون في معرض التنديد بشدة عنادهم، حتى لكأنهم يريدون ليؤمنوا ويصدقوا أن ينزل على كل منهم كتاب خاص من السماء١. وقد روى بعض المفسرين٢ أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :( إن سرك أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان نؤمر فيه باتباعك ) كما روى بعضهم أنهم قالوا له :( ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسوله نؤمر فيه باتباعك )٣. ولقد حكت إحدى آيات سورة الإسراء ذلك عنهم فعلاً في مناسبة أخرى كما ترى فيها :﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً( ٩٣ ) ﴾.
والآية الثانية احتوت تقريراً لواقع الحال من أمرهم وسبب عدم استجابتهم بأسلوب الزجر والاستدراك وهو عدم خوفهم من الآخرة وجحودهم بها، وتلهم أنها بسبيل تسلية النبي صلى الله عليه وسلم.
والآيتان الثالثة والرابعة احتوتا رداً على تحديهم وشدة عنادهم في صورة تقرير لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي تذكير وتبليغ للناس، ثم تركهم لاختيارهم ومشيئتهم في الاستجابة إليها.
أما الآية الخامسة فإنها احتوت تقريراً بأن مشيئة الناس في التذكر والاستجابة منوطة بمشيئة الله الذي هو الجدير بالاتقاء والخشية والذي هو القادر على العفو والمغفرة.
ولقد روى الترمذي في سياق الآية الأخيرة حديثا عن أنس بن مالك قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ﴿ هو أهل التقوى وأهل المغفرة ﴾ قال : قال الله عزّ وجلّ : أنا أهل أن أتّقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها، فأنا أهلٌ أن أغفرَ له )٤.
حيث ينطوي في الحديث توضيح فيه تبشير وترغيب للمتقين.
تعليق على مدى الآية
﴿ كلا بل لا يخافون الآخرة ﴾
وبمناسبة هذه الآية في هذه السورة نقول : إن الآيات القرآنية المكية التي ينطوي فيها المعنى المقرر في الآية قد تكررت بسبيل تعليل موقف الكفار الجحودي والمناوئ والعدواني والمستكبر والمستهتر والساخر بالوعيد والإنذار الربانيين. من ذلك آية سورة النحل هذه :﴿ إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ( ٢٢ ) ﴾ وآية سورة المؤمنون هذه :﴿ وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ( ٧٤ ) ﴾ وآية سورة الزمر هذه :﴿ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ( ٤٥ ) ﴾ وآية سورة النجم هذه :﴿ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى ( ٢٧ ) ﴾.
والموضوع في أصله متصل بموضوع جحود الكفار للآخرة الذي نبهنا عليه في التعليق على الحياة الأخروية في تفسير سورة الفاتحة. غير أن النقطة الجديرة بالتنبيه في هذا المقام هي ما انطوى في الآية التي نحن في صددها وأمثالها من تلقين جليل وتعليل لموقف الكفار. فالذي لا يخاف الآخرة لا يأبه كثيراً للحق والخير في شتى ساحاتهما ولا يندفع فيهما اندفاعاً ذاتياً وجدانياً إذا لم يأمل في مقابلة وجزاء في الدنيا. ولا يتورع عن الإثم والمنكر إذا ما تيقن الخلاص من العقوبة. وفي سورة الأنعام آية داعمة لذلك بأسلوب إيجابي وهي :﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ( ٩٢ ) ﴾ ومن هذا الباب آية سورة هود هذه :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُود( ١٠٣ ) ﴾ وهكذا تكون الآيات قد انطوت على تقرير أثر الإيمان بالآخرة في سلوك الناس سلباً وإيجاباً، وهو متسق مع ما جاء في تعليقنا السابق وداعم له.
وإذا كان من المحتمل أن يكون بعض الناس يقدمون على عمل الخير والامتناع عن الإثم والشرّ بدون إيمان بالله واليوم الآخر، فإن أغلب هؤلاء يستهدفون جزاء ما ولو معنوياً في الدنيا. فضلاً عن أن ذلك الاحتمال يظل بعيداً بالنسبة للكثرة الكاثرة في أغلب المواقف. وإذا كان من المحتمل أن يكون كثير من المؤمنين بالله واليوم الآخر لا يقدمون على الخير ولا يمتنعون عن الإثم إلاّ بقوة ما يتحققون من نيله من ثواب وعقاب دنيويين في الدرجة الأولى، فإن أمثال هؤلاء لا يمكن أن يوصفوا بصفة الإيمان الصحيح السليم أولا. وإن إيمان هؤلاء يظل على كل حال ذا قوة وازعة ورادعة ثانياً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم
بالآيات وأجوبة القرآن على ذلك ودلالتها
ولقد تكررت حكاية القرآن لصور عديدة من تحدي الجاحدين ومعجزاتهم، والآية [ ٥٢ ] من هذه الآيات احتوت أولى مرات التحدي- إذا صحت روايات المفسرين- وليس ما يمنع صحتها، لأن الصورة مؤيدة بنص قرآني آخر على ما أوردناه قبل، وذلك بطلب الكفار إنزال كتب إليهم فيها تأييد لصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأمر باتباعه. وقد وردت الآيات التالية عليهم، فبينت أن موقفهم هو في حقيقته راجع إلى عدم خوفهم من الآخرة، وأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الذي يتلوه عليهم تذكرة فمن شاء تذكر واهتدى. ولم تجبهم إلى تحديهم. ولقد ظلت آيات القرآن ترد عليهم في كل موقف تحدّ وقفوه، وكل ما طالبوا ببرهان خارق للعادة مما عبر عنه القرآن بتعبير آية أو آيات بمثل ما ردت عليهم في هذه الآيات من حيث الجوهر، مع تنوع الصيغ والأساليب دون الاستجابة إلى تحديهم، موجهة الخطاب إلى العقول لتتدبر وإلى القلوب لترعوي، ومقررة صراحة حيناً وضمناً حيناً أن الدعوة النبوية إنما هي دعوة إلى الله وحده والإقرار له بالعبودية ونبذ ما سواه والتزام الأعمال الصالحة، وتحذير من الكفر والشرك والإثم والفواحش، وأن مثل هذه الدعوة لا تحتاج إلى معجزات مؤيدة، وإنما تحتاج إلى تروّ وإذعان ونية حسنة وطوية نقية ورغبة في الحق والخير والهدى وبعد عن العناد واللجاج، ليرى المرء البرهان على صحتها وقوتها في الكون وما فيه من آيات باهرة وحكمة بالغة ونواميس دقيقة، وفيما تدعو إليه من مكارم الأخلاق والفضائل، وتنهى عنه من الإثم والبغي والفواحش كما تلهم آيات سورة الأنعام هذه :﴿ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ( ٨ ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ( ٩ ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ( ١٠ ) ﴾ ( ٨- ١٠ ) ومثل آيات سورة الأنعام هذه :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ( ١٠٩ ) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ( ١١٠ ) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ( ١١١ ) ﴾. وآيات سورة الرعد هذه :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ( ٧ ) ﴾ وآية سورة الرعد هذه :﴿ و َيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ( ٢٧ ) ﴾ وآيات سورة الإسراء هذه :﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا( ٩٠ ) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ( ٩١ ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ( ٩٢ ) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٣ ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٤ ) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ( ٩٥ ) قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ( ٩٦ ) وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ( ٩٧ ) ﴾ وآيات سورة العنكبوت هذه :﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ( ٥٠ ) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( ٥١ ) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ( ٥٢ ) ﴾ [ ٥٠- ٥٢ ].
وهذه الردود القوية على تحدي الكفار هي بسبيل تقرير أن الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق لا تحتاج إلى معجزات، وأن الذين حسنت طواياهم ونواياهم وصدقت رغباتهم في الحق والحقيقة آمنوا، ففيها ما يكفي لحملهم على الارعواء والاستجابة، أما الذين خبثت نواياهم وانعدمت فيهم الرغبة في الحق والحقيقة فلن يؤمنوا مهما رأوا من الآيات والمعجزات. ولئن لم يكن بدّ من آية فهي القرآن الذي يتلى عليهم وفيه الكفاية كل الكفاية. وهكذا تنفرد الدعوة القرآنية والرسالة المحمدية عما سبقها، من حيث إنها لم تقم على الخوارق استجابة للتحدي، وإنما قامت خطاب العقل والقلب والبرهنة بما في الكون من إبداع ونظام وعظمة يدل على وجود الله عز وجل واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة والاتجاه وبطلان الشرك والوثنية والعقائد المتناقضة مع ذلك هم بما انطوى في هذه الدعوة من مبادئ الحق والخير والبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلال الطيبات وتحريم الخبائث والفواحش والآثام ما ظهر منها وما بطن والحثّ على التضامن والتعاون ومنع الاستعلاء والاستغلال وإقامة مجتمع إنساني عام يتساوى فيه الناس في الحقوق والواجبات، ويتكافلون فيها ويسود فيه الحق والعدل والحرية والمعروف والخير.
ولعل مما يحسن أن يضاف إلى هذا من حكمة الله في عدم الاستجابة إلى تحدي الكفار : أن الأنبياء السابقين قد جاؤوا لقومهم، وأن المعجزات التي أظهرها الله على أيديهم هي لإقناع جيل هذا القوم الذي كانت رسالة الأنبياء لهم في حين أن الله سبحانه قد شاء أن تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع الأجيال ودين الإنسانية العام في جميع الأزمنة والأمكنة. وهو ما انطوى في آيات عديدة أوردنا بعضها في تعليقنا على جملة ﴿ رب العالمين ﴾ في سياق تفسير سورة الفاتحة، وفي هذا لا تغني المعجزة لأنها دائمة الأثر. وقد تنكر من الأجيال الآتية فكان الإقناع وقوة البرهان ومخاطبة العقل والقلب والقرآن المجيد الذي ينطوي فيه كل ذلك بأروع وأقوى ما يكون هي الحجج المؤيدة لصدق الرسالة المحمدية التي تظل واردة وقائمة راهنة بكل قوتها في كل ظرف ومكان. ولقد جاء في سورة الإسراء هذه :﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ﴾ [ ٥٩ ] وهي عظيمة المدى والدلالة بسبيل ما نحن في صدده ؛ حيث تضمنت تقريراً ربانيًا صريحاً بأن الله عز وجل امتنع عن إظهار المعجزة على يد النبي صلى الله عليه وسلم إجابة على تحدي الكفار وتعليلاً لذلك بأن الأمم السابقة قد كذبت بالمعجزات التي أظهرها الله على أيدي أنبيائه السابقين ولم يتحقق المقصود منها.
ولقد روى البخاري ومسلم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه :( ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ) حيث يتساوق الحديث مع التلقين القرآني بأن معجزة النبوة المحمدية هي ما أوحاه الله تعالى إلى النبي من قرآن وحكمة فيهما الهدى والرحمة وأسباب الصلاح والنجاة للبشر في دنياهم وآخرتهم.
ونريد أن ننبه إلى أمر، وهو أن ما قررناه استلهاماً من الآيات القرآنية هو بسبيل الردّ على تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وطلبهم منه الإتيان بالمعجزات والخوارق لتأييد صلته بالله، وإننا لا ننكر أن الله عزّ وجلّ قد أظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم معجزات متنوعة الصور في ظروف كثيرة له خاصة وله وللمسلمين عامة على ما تدل عليه آيات قرآنية عديدة مما سوف ننوه به في مناسباته وعلى ما ورد في أحاديث عديدة قوية الأسانيد سنوردها في مناسبات آتية.
نقول ونحن نعرف أن هناك أحاديث قوية الأسانيد، بأن ما احتوته الآية الأولى من سورة القمر من انشقاق القمر بناء على تحدي الكفار قد وقع فعلاً. غير أن هناك ما يمكن إيراده في هذا الصدد على ما سوف نذكره في سياق تفسير هذه الآية.

﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( ٥٢ ) كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( ٥٣ ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( ٥٤ ) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ( ٥٥ ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة( ٥٦ ) ﴾ [ ٥٢- ٥٦ ].
والآيات استمرار للسياق وتعقيب استدراكي وتنديدي عليه.
وقد تلهم الآية الأولى أن الكفار تحدوا النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال صحف مكتوبة على كل منهم ؛ لتكون برهانا على صحة دعواه ودعوته، كما تحتمل أن تكون في معرض التنديد بشدة عنادهم، حتى لكأنهم يريدون ليؤمنوا ويصدقوا أن ينزل على كل منهم كتاب خاص من السماء١. وقد روى بعض المفسرين٢ أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :( إن سرك أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان نؤمر فيه باتباعك ) كما روى بعضهم أنهم قالوا له :( ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسوله نؤمر فيه باتباعك )٣. ولقد حكت إحدى آيات سورة الإسراء ذلك عنهم فعلاً في مناسبة أخرى كما ترى فيها :﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً( ٩٣ ) ﴾.
والآية الثانية احتوت تقريراً لواقع الحال من أمرهم وسبب عدم استجابتهم بأسلوب الزجر والاستدراك وهو عدم خوفهم من الآخرة وجحودهم بها، وتلهم أنها بسبيل تسلية النبي صلى الله عليه وسلم.
والآيتان الثالثة والرابعة احتوتا رداً على تحديهم وشدة عنادهم في صورة تقرير لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي تذكير وتبليغ للناس، ثم تركهم لاختيارهم ومشيئتهم في الاستجابة إليها.
أما الآية الخامسة فإنها احتوت تقريراً بأن مشيئة الناس في التذكر والاستجابة منوطة بمشيئة الله الذي هو الجدير بالاتقاء والخشية والذي هو القادر على العفو والمغفرة.
ولقد روى الترمذي في سياق الآية الأخيرة حديثا عن أنس بن مالك قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ﴿ هو أهل التقوى وأهل المغفرة ﴾ قال : قال الله عزّ وجلّ : أنا أهل أن أتّقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها، فأنا أهلٌ أن أغفرَ له )٤.
حيث ينطوي في الحديث توضيح فيه تبشير وترغيب للمتقين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم
بالآيات وأجوبة القرآن على ذلك ودلالتها
ولقد تكررت حكاية القرآن لصور عديدة من تحدي الجاحدين ومعجزاتهم، والآية [ ٥٢ ] من هذه الآيات احتوت أولى مرات التحدي- إذا صحت روايات المفسرين- وليس ما يمنع صحتها، لأن الصورة مؤيدة بنص قرآني آخر على ما أوردناه قبل، وذلك بطلب الكفار إنزال كتب إليهم فيها تأييد لصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأمر باتباعه. وقد وردت الآيات التالية عليهم، فبينت أن موقفهم هو في حقيقته راجع إلى عدم خوفهم من الآخرة، وأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الذي يتلوه عليهم تذكرة فمن شاء تذكر واهتدى. ولم تجبهم إلى تحديهم. ولقد ظلت آيات القرآن ترد عليهم في كل موقف تحدّ وقفوه، وكل ما طالبوا ببرهان خارق للعادة مما عبر عنه القرآن بتعبير آية أو آيات بمثل ما ردت عليهم في هذه الآيات من حيث الجوهر، مع تنوع الصيغ والأساليب دون الاستجابة إلى تحديهم، موجهة الخطاب إلى العقول لتتدبر وإلى القلوب لترعوي، ومقررة صراحة حيناً وضمناً حيناً أن الدعوة النبوية إنما هي دعوة إلى الله وحده والإقرار له بالعبودية ونبذ ما سواه والتزام الأعمال الصالحة، وتحذير من الكفر والشرك والإثم والفواحش، وأن مثل هذه الدعوة لا تحتاج إلى معجزات مؤيدة، وإنما تحتاج إلى تروّ وإذعان ونية حسنة وطوية نقية ورغبة في الحق والخير والهدى وبعد عن العناد واللجاج، ليرى المرء البرهان على صحتها وقوتها في الكون وما فيه من آيات باهرة وحكمة بالغة ونواميس دقيقة، وفيما تدعو إليه من مكارم الأخلاق والفضائل، وتنهى عنه من الإثم والبغي والفواحش كما تلهم آيات سورة الأنعام هذه :﴿ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ( ٨ ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ( ٩ ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ( ١٠ ) ﴾ ( ٨- ١٠ ) ومثل آيات سورة الأنعام هذه :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ( ١٠٩ ) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ( ١١٠ ) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ( ١١١ ) ﴾. وآيات سورة الرعد هذه :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ( ٧ ) ﴾ وآية سورة الرعد هذه :﴿ و َيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ( ٢٧ ) ﴾ وآيات سورة الإسراء هذه :﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا( ٩٠ ) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ( ٩١ ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ( ٩٢ ) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٣ ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٤ ) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ( ٩٥ ) قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ( ٩٦ ) وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ( ٩٧ ) ﴾ وآيات سورة العنكبوت هذه :﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ( ٥٠ ) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( ٥١ ) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ( ٥٢ ) ﴾ [ ٥٠- ٥٢ ].
وهذه الردود القوية على تحدي الكفار هي بسبيل تقرير أن الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق لا تحتاج إلى معجزات، وأن الذين حسنت طواياهم ونواياهم وصدقت رغباتهم في الحق والحقيقة آمنوا، ففيها ما يكفي لحملهم على الارعواء والاستجابة، أما الذين خبثت نواياهم وانعدمت فيهم الرغبة في الحق والحقيقة فلن يؤمنوا مهما رأوا من الآيات والمعجزات. ولئن لم يكن بدّ من آية فهي القرآن الذي يتلى عليهم وفيه الكفاية كل الكفاية. وهكذا تنفرد الدعوة القرآنية والرسالة المحمدية عما سبقها، من حيث إنها لم تقم على الخوارق استجابة للتحدي، وإنما قامت خطاب العقل والقلب والبرهنة بما في الكون من إبداع ونظام وعظمة يدل على وجود الله عز وجل واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة والاتجاه وبطلان الشرك والوثنية والعقائد المتناقضة مع ذلك هم بما انطوى في هذه الدعوة من مبادئ الحق والخير والبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلال الطيبات وتحريم الخبائث والفواحش والآثام ما ظهر منها وما بطن والحثّ على التضامن والتعاون ومنع الاستعلاء والاستغلال وإقامة مجتمع إنساني عام يتساوى فيه الناس في الحقوق والواجبات، ويتكافلون فيها ويسود فيه الحق والعدل والحرية والمعروف والخير.
ولعل مما يحسن أن يضاف إلى هذا من حكمة الله في عدم الاستجابة إلى تحدي الكفار : أن الأنبياء السابقين قد جاؤوا لقومهم، وأن المعجزات التي أظهرها الله على أيديهم هي لإقناع جيل هذا القوم الذي كانت رسالة الأنبياء لهم في حين أن الله سبحانه قد شاء أن تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع الأجيال ودين الإنسانية العام في جميع الأزمنة والأمكنة. وهو ما انطوى في آيات عديدة أوردنا بعضها في تعليقنا على جملة ﴿ رب العالمين ﴾ في سياق تفسير سورة الفاتحة، وفي هذا لا تغني المعجزة لأنها دائمة الأثر. وقد تنكر من الأجيال الآتية فكان الإقناع وقوة البرهان ومخاطبة العقل والقلب والقرآن المجيد الذي ينطوي فيه كل ذلك بأروع وأقوى ما يكون هي الحجج المؤيدة لصدق الرسالة المحمدية التي تظل واردة وقائمة راهنة بكل قوتها في كل ظرف ومكان. ولقد جاء في سورة الإسراء هذه :﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ﴾ [ ٥٩ ] وهي عظيمة المدى والدلالة بسبيل ما نحن في صدده ؛ حيث تضمنت تقريراً ربانيًا صريحاً بأن الله عز وجل امتنع عن إظهار المعجزة على يد النبي صلى الله عليه وسلم إجابة على تحدي الكفار وتعليلاً لذلك بأن الأمم السابقة قد كذبت بالمعجزات التي أظهرها الله على أيدي أنبيائه السابقين ولم يتحقق المقصود منها.
ولقد روى البخاري ومسلم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه :( ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ) حيث يتساوق الحديث مع التلقين القرآني بأن معجزة النبوة المحمدية هي ما أوحاه الله تعالى إلى النبي من قرآن وحكمة فيهما الهدى والرحمة وأسباب الصلاح والنجاة للبشر في دنياهم وآخرتهم.
ونريد أن ننبه إلى أمر، وهو أن ما قررناه استلهاماً من الآيات القرآنية هو بسبيل الردّ على تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وطلبهم منه الإتيان بالمعجزات والخوارق لتأييد صلته بالله، وإننا لا ننكر أن الله عزّ وجلّ قد أظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم معجزات متنوعة الصور في ظروف كثيرة له خاصة وله وللمسلمين عامة على ما تدل عليه آيات قرآنية عديدة مما سوف ننوه به في مناسباته وعلى ما ورد في أحاديث عديدة قوية الأسانيد سنوردها في مناسبات آتية.
نقول ونحن نعرف أن هناك أحاديث قوية الأسانيد، بأن ما احتوته الآية الأولى من سورة القمر من انشقاق القمر بناء على تحدي الكفار قد وقع فعلاً. غير أن هناك ما يمكن إيراده في هذا الصدد على ما سوف نذكره في سياق تفسير هذه الآية.

﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( ٥٢ ) كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( ٥٣ ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( ٥٤ ) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ( ٥٥ ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة( ٥٦ ) ﴾ [ ٥٢- ٥٦ ].
والآيات استمرار للسياق وتعقيب استدراكي وتنديدي عليه.
وقد تلهم الآية الأولى أن الكفار تحدوا النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال صحف مكتوبة على كل منهم ؛ لتكون برهانا على صحة دعواه ودعوته، كما تحتمل أن تكون في معرض التنديد بشدة عنادهم، حتى لكأنهم يريدون ليؤمنوا ويصدقوا أن ينزل على كل منهم كتاب خاص من السماء١. وقد روى بعض المفسرين٢ أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :( إن سرك أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان نؤمر فيه باتباعك ) كما روى بعضهم أنهم قالوا له :( ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسوله نؤمر فيه باتباعك )٣. ولقد حكت إحدى آيات سورة الإسراء ذلك عنهم فعلاً في مناسبة أخرى كما ترى فيها :﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً( ٩٣ ) ﴾.
والآية الثانية احتوت تقريراً لواقع الحال من أمرهم وسبب عدم استجابتهم بأسلوب الزجر والاستدراك وهو عدم خوفهم من الآخرة وجحودهم بها، وتلهم أنها بسبيل تسلية النبي صلى الله عليه وسلم.
والآيتان الثالثة والرابعة احتوتا رداً على تحديهم وشدة عنادهم في صورة تقرير لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي تذكير وتبليغ للناس، ثم تركهم لاختيارهم ومشيئتهم في الاستجابة إليها.
أما الآية الخامسة فإنها احتوت تقريراً بأن مشيئة الناس في التذكر والاستجابة منوطة بمشيئة الله الذي هو الجدير بالاتقاء والخشية والذي هو القادر على العفو والمغفرة.
ولقد روى الترمذي في سياق الآية الأخيرة حديثا عن أنس بن مالك قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ﴿ هو أهل التقوى وأهل المغفرة ﴾ قال : قال الله عزّ وجلّ : أنا أهل أن أتّقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها، فأنا أهلٌ أن أغفرَ له )٤.
حيث ينطوي في الحديث توضيح فيه تبشير وترغيب للمتقين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم
بالآيات وأجوبة القرآن على ذلك ودلالتها
ولقد تكررت حكاية القرآن لصور عديدة من تحدي الجاحدين ومعجزاتهم، والآية [ ٥٢ ] من هذه الآيات احتوت أولى مرات التحدي- إذا صحت روايات المفسرين- وليس ما يمنع صحتها، لأن الصورة مؤيدة بنص قرآني آخر على ما أوردناه قبل، وذلك بطلب الكفار إنزال كتب إليهم فيها تأييد لصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأمر باتباعه. وقد وردت الآيات التالية عليهم، فبينت أن موقفهم هو في حقيقته راجع إلى عدم خوفهم من الآخرة، وأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الذي يتلوه عليهم تذكرة فمن شاء تذكر واهتدى. ولم تجبهم إلى تحديهم. ولقد ظلت آيات القرآن ترد عليهم في كل موقف تحدّ وقفوه، وكل ما طالبوا ببرهان خارق للعادة مما عبر عنه القرآن بتعبير آية أو آيات بمثل ما ردت عليهم في هذه الآيات من حيث الجوهر، مع تنوع الصيغ والأساليب دون الاستجابة إلى تحديهم، موجهة الخطاب إلى العقول لتتدبر وإلى القلوب لترعوي، ومقررة صراحة حيناً وضمناً حيناً أن الدعوة النبوية إنما هي دعوة إلى الله وحده والإقرار له بالعبودية ونبذ ما سواه والتزام الأعمال الصالحة، وتحذير من الكفر والشرك والإثم والفواحش، وأن مثل هذه الدعوة لا تحتاج إلى معجزات مؤيدة، وإنما تحتاج إلى تروّ وإذعان ونية حسنة وطوية نقية ورغبة في الحق والخير والهدى وبعد عن العناد واللجاج، ليرى المرء البرهان على صحتها وقوتها في الكون وما فيه من آيات باهرة وحكمة بالغة ونواميس دقيقة، وفيما تدعو إليه من مكارم الأخلاق والفضائل، وتنهى عنه من الإثم والبغي والفواحش كما تلهم آيات سورة الأنعام هذه :﴿ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ( ٨ ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ( ٩ ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ( ١٠ ) ﴾ ( ٨- ١٠ ) ومثل آيات سورة الأنعام هذه :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ( ١٠٩ ) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ( ١١٠ ) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ( ١١١ ) ﴾. وآيات سورة الرعد هذه :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ( ٧ ) ﴾ وآية سورة الرعد هذه :﴿ و َيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ( ٢٧ ) ﴾ وآيات سورة الإسراء هذه :﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا( ٩٠ ) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ( ٩١ ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ( ٩٢ ) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٣ ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٤ ) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ( ٩٥ ) قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ( ٩٦ ) وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ( ٩٧ ) ﴾ وآيات سورة العنكبوت هذه :﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ( ٥٠ ) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( ٥١ ) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ( ٥٢ ) ﴾ [ ٥٠- ٥٢ ].
وهذه الردود القوية على تحدي الكفار هي بسبيل تقرير أن الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق لا تحتاج إلى معجزات، وأن الذين حسنت طواياهم ونواياهم وصدقت رغباتهم في الحق والحقيقة آمنوا، ففيها ما يكفي لحملهم على الارعواء والاستجابة، أما الذين خبثت نواياهم وانعدمت فيهم الرغبة في الحق والحقيقة فلن يؤمنوا مهما رأوا من الآيات والمعجزات. ولئن لم يكن بدّ من آية فهي القرآن الذي يتلى عليهم وفيه الكفاية كل الكفاية. وهكذا تنفرد الدعوة القرآنية والرسالة المحمدية عما سبقها، من حيث إنها لم تقم على الخوارق استجابة للتحدي، وإنما قامت خطاب العقل والقلب والبرهنة بما في الكون من إبداع ونظام وعظمة يدل على وجود الله عز وجل واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة والاتجاه وبطلان الشرك والوثنية والعقائد المتناقضة مع ذلك هم بما انطوى في هذه الدعوة من مبادئ الحق والخير والبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلال الطيبات وتحريم الخبائث والفواحش والآثام ما ظهر منها وما بطن والحثّ على التضامن والتعاون ومنع الاستعلاء والاستغلال وإقامة مجتمع إنساني عام يتساوى فيه الناس في الحقوق والواجبات، ويتكافلون فيها ويسود فيه الحق والعدل والحرية والمعروف والخير.
ولعل مما يحسن أن يضاف إلى هذا من حكمة الله في عدم الاستجابة إلى تحدي الكفار : أن الأنبياء السابقين قد جاؤوا لقومهم، وأن المعجزات التي أظهرها الله على أيديهم هي لإقناع جيل هذا القوم الذي كانت رسالة الأنبياء لهم في حين أن الله سبحانه قد شاء أن تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع الأجيال ودين الإنسانية العام في جميع الأزمنة والأمكنة. وهو ما انطوى في آيات عديدة أوردنا بعضها في تعليقنا على جملة ﴿ رب العالمين ﴾ في سياق تفسير سورة الفاتحة، وفي هذا لا تغني المعجزة لأنها دائمة الأثر. وقد تنكر من الأجيال الآتية فكان الإقناع وقوة البرهان ومخاطبة العقل والقلب والقرآن المجيد الذي ينطوي فيه كل ذلك بأروع وأقوى ما يكون هي الحجج المؤيدة لصدق الرسالة المحمدية التي تظل واردة وقائمة راهنة بكل قوتها في كل ظرف ومكان. ولقد جاء في سورة الإسراء هذه :﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ﴾ [ ٥٩ ] وهي عظيمة المدى والدلالة بسبيل ما نحن في صدده ؛ حيث تضمنت تقريراً ربانيًا صريحاً بأن الله عز وجل امتنع عن إظهار المعجزة على يد النبي صلى الله عليه وسلم إجابة على تحدي الكفار وتعليلاً لذلك بأن الأمم السابقة قد كذبت بالمعجزات التي أظهرها الله على أيدي أنبيائه السابقين ولم يتحقق المقصود منها.
ولقد روى البخاري ومسلم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه :( ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ) حيث يتساوق الحديث مع التلقين القرآني بأن معجزة النبوة المحمدية هي ما أوحاه الله تعالى إلى النبي من قرآن وحكمة فيهما الهدى والرحمة وأسباب الصلاح والنجاة للبشر في دنياهم وآخرتهم.
ونريد أن ننبه إلى أمر، وهو أن ما قررناه استلهاماً من الآيات القرآنية هو بسبيل الردّ على تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وطلبهم منه الإتيان بالمعجزات والخوارق لتأييد صلته بالله، وإننا لا ننكر أن الله عزّ وجلّ قد أظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم معجزات متنوعة الصور في ظروف كثيرة له خاصة وله وللمسلمين عامة على ما تدل عليه آيات قرآنية عديدة مما سوف ننوه به في مناسباته وعلى ما ورد في أحاديث عديدة قوية الأسانيد سنوردها في مناسبات آتية.
نقول ونحن نعرف أن هناك أحاديث قوية الأسانيد، بأن ما احتوته الآية الأولى من سورة القمر من انشقاق القمر بناء على تحدي الكفار قد وقع فعلاً. غير أن هناك ما يمكن إيراده في هذا الصدد على ما سوف نذكره في سياق تفسير هذه الآية.

﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( ٥٢ ) كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( ٥٣ ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( ٥٤ ) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ( ٥٥ ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة( ٥٦ ) ﴾ [ ٥٢- ٥٦ ].
والآيات استمرار للسياق وتعقيب استدراكي وتنديدي عليه.
وقد تلهم الآية الأولى أن الكفار تحدوا النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال صحف مكتوبة على كل منهم ؛ لتكون برهانا على صحة دعواه ودعوته، كما تحتمل أن تكون في معرض التنديد بشدة عنادهم، حتى لكأنهم يريدون ليؤمنوا ويصدقوا أن ينزل على كل منهم كتاب خاص من السماء١. وقد روى بعض المفسرين٢ أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :( إن سرك أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان نؤمر فيه باتباعك ) كما روى بعضهم أنهم قالوا له :( ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسوله نؤمر فيه باتباعك )٣. ولقد حكت إحدى آيات سورة الإسراء ذلك عنهم فعلاً في مناسبة أخرى كما ترى فيها :﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً( ٩٣ ) ﴾.
والآية الثانية احتوت تقريراً لواقع الحال من أمرهم وسبب عدم استجابتهم بأسلوب الزجر والاستدراك وهو عدم خوفهم من الآخرة وجحودهم بها، وتلهم أنها بسبيل تسلية النبي صلى الله عليه وسلم.
والآيتان الثالثة والرابعة احتوتا رداً على تحديهم وشدة عنادهم في صورة تقرير لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي تذكير وتبليغ للناس، ثم تركهم لاختيارهم ومشيئتهم في الاستجابة إليها.
أما الآية الخامسة فإنها احتوت تقريراً بأن مشيئة الناس في التذكر والاستجابة منوطة بمشيئة الله الذي هو الجدير بالاتقاء والخشية والذي هو القادر على العفو والمغفرة.
ولقد روى الترمذي في سياق الآية الأخيرة حديثا عن أنس بن مالك قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ﴿ هو أهل التقوى وأهل المغفرة ﴾ قال : قال الله عزّ وجلّ : أنا أهل أن أتّقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها، فأنا أهلٌ أن أغفرَ له )٤.
حيث ينطوي في الحديث توضيح فيه تبشير وترغيب للمتقين.
تعليق على تعبير
﴿ وما يذكرون إلا أن يشاء الله ﴾
ولقد يبدو فيما جاء في الآية الخامسة من إناطة تذكر الناس بمشيئة الله نقض أو تحديد لما جاء في الآية [ ٣٧ ] من تقرير المشيئة للناس إطلاقاً. ولقد قال بعض العلماء والمفسرين : إن هذه الآية وما في بابها مثل آية سورة الإنسان هذه :﴿ وما تشاءون إلا أن يشاء الله ﴾ بسبيل تقرير أن الناس إنما يشاءون بقوة المشيئة التي خلقها الله فيهم. وقال آخرون : إن إناطة مشيئة الناس بمشيئة الله تعالى السابقة على مشيئتهم تعني مفهومها الظاهر إطلاقاً فلا يشاءون إلاّ ما شاء الله١. وقد كانت هذه الآية وما يماثلها مدار جدل بين علماء المذاهب الكلامية بسبب ما يبدو من التعارض بينها وبين الآيات الأخرى التي تقرر قابلية الاختيار والمشيئة في الناس إطلاقاً.
ونقول أولا : إن النظم القرآني جرى أحياناً على نسبة كل شيء من أفعال العباد الواقعة أو المتوقعة إلى الله تعالى، وعلى جعل كل شي منها منوطاً بمشيئته مع قيام قرائن في الآيات نفسها أو في غيرها، على أنها من كسب العباد ومشيئتهم المباشرة فيما يترافق معها أو يترتب عليها من تثريب وتنديد ووعيد لما يكون ضلالات وانحرافات وتنويه ووعد جميل لما يكون استقامة وحقاً وهدى. غير أنه جرى أيضا وفي الأعم الأغلب على نسبة الأفعال والمشيئة إلى العباد مما هو مثبوت في مختلف السور بكثرة تغني عن التمثيل بحيث يسوغ القول : إن الأسلوب الأول ينبغي أن يؤول على ضوء ما فيه وما في القرآن من قرائن ولا يصح أن يوقف عند كل عبارة لحدتها ؛ لأن في ذلك تعريضاً للقرآن للتعارض والاختلاف مما يجب تنزيهه عن ذلك، ولاسيما إن في القرآن حلاً لما يبدو من توهم في ذلك على ما شرحناه في سياق جملة ﴿ كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ﴾ [ ٣١ ] وإن القول إن الناس يشاءون بقوة المشيئة التي أودعها الله فيهم هو المتسق مع تقرير المشيئة للعباد وتقرير قابلية الاختيار والكسب فيهم مما انطوى في الآيات السابقة وآيات كثيرة أخرى، وهو المتسق مع روح الآية نفسها التي جاءت بعد الآية التي تقرر المشيئة للناس مباشرة. ثم هو المتسق مع حكمة إرسال الرسل ويوم الجزاء الذي يوفى فيه الناس جزاء أعمالهم التي اكتسبوها بقوة هذه المشيئة والقابلية للاختيار والكسب التي أودعها الله فيهم بمقتضى إرادته وحكمته ومشيئته الأزلية. وعبارة الآيات ومعظم آيات القرآن التي تُنسب الأفعال والتفكير للإنسان من الأدلة التي تكاد تكون حاسمة على ذلك. ويتبادر لنا إلى هذا أنه أُريد بالآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يغتم بموقف الإعراض والعناد والمناوأة والتكذيب الذي وقفه الجاحدون. وقد تكرر مثل ذلك في مواضع كثيرة في القرآن مثل آية سورة فاطر هذه :﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ( ٨ ) ﴾، وآية القصص هذه :﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ( ٥٦ ) ﴾ وآية سورة الأنعام هذه :﴿ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( ٣٥ ) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ( ٣٦ ) ﴾ بحيث تبدو بذلك حكمة التنزيل في الأسلوب. ويلحظ أن الآيات نسبت اكتساب الهدى والاستجابة إلى أصحابها مما قد يكون فيه دليل على صحة تأويلنا، والله أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم
بالآيات وأجوبة القرآن على ذلك ودلالتها
ولقد تكررت حكاية القرآن لصور عديدة من تحدي الجاحدين ومعجزاتهم، والآية [ ٥٢ ] من هذه الآيات احتوت أولى مرات التحدي- إذا صحت روايات المفسرين- وليس ما يمنع صحتها، لأن الصورة مؤيدة بنص قرآني آخر على ما أوردناه قبل، وذلك بطلب الكفار إنزال كتب إليهم فيها تأييد لصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأمر باتباعه. وقد وردت الآيات التالية عليهم، فبينت أن موقفهم هو في حقيقته راجع إلى عدم خوفهم من الآخرة، وأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الذي يتلوه عليهم تذكرة فمن شاء تذكر واهتدى. ولم تجبهم إلى تحديهم. ولقد ظلت آيات القرآن ترد عليهم في كل موقف تحدّ وقفوه، وكل ما طالبوا ببرهان خارق للعادة مما عبر عنه القرآن بتعبير آية أو آيات بمثل ما ردت عليهم في هذه الآيات من حيث الجوهر، مع تنوع الصيغ والأساليب دون الاستجابة إلى تحديهم، موجهة الخطاب إلى العقول لتتدبر وإلى القلوب لترعوي، ومقررة صراحة حيناً وضمناً حيناً أن الدعوة النبوية إنما هي دعوة إلى الله وحده والإقرار له بالعبودية ونبذ ما سواه والتزام الأعمال الصالحة، وتحذير من الكفر والشرك والإثم والفواحش، وأن مثل هذه الدعوة لا تحتاج إلى معجزات مؤيدة، وإنما تحتاج إلى تروّ وإذعان ونية حسنة وطوية نقية ورغبة في الحق والخير والهدى وبعد عن العناد واللجاج، ليرى المرء البرهان على صحتها وقوتها في الكون وما فيه من آيات باهرة وحكمة بالغة ونواميس دقيقة، وفيما تدعو إليه من مكارم الأخلاق والفضائل، وتنهى عنه من الإثم والبغي والفواحش كما تلهم آيات سورة الأنعام هذه :﴿ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ( ٨ ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ( ٩ ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ( ١٠ ) ﴾ ( ٨- ١٠ ) ومثل آيات سورة الأنعام هذه :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ( ١٠٩ ) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ( ١١٠ ) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ( ١١١ ) ﴾. وآيات سورة الرعد هذه :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ( ٧ ) ﴾ وآية سورة الرعد هذه :﴿ و َيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ( ٢٧ ) ﴾ وآيات سورة الإسراء هذه :﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا( ٩٠ ) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ( ٩١ ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ( ٩٢ ) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٣ ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٤ ) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ( ٩٥ ) قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ( ٩٦ ) وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ( ٩٧ ) ﴾ وآيات سورة العنكبوت هذه :﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ( ٥٠ ) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( ٥١ ) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ( ٥٢ ) ﴾ [ ٥٠- ٥٢ ].
وهذه الردود القوية على تحدي الكفار هي بسبيل تقرير أن الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق لا تحتاج إلى معجزات، وأن الذين حسنت طواياهم ونواياهم وصدقت رغباتهم في الحق والحقيقة آمنوا، ففيها ما يكفي لحملهم على الارعواء والاستجابة، أما الذين خبثت نواياهم وانعدمت فيهم الرغبة في الحق والحقيقة فلن يؤمنوا مهما رأوا من الآيات والمعجزات. ولئن لم يكن بدّ من آية فهي القرآن الذي يتلى عليهم وفيه الكفاية كل الكفاية. وهكذا تنفرد الدعوة القرآنية والرسالة المحمدية عما سبقها، من حيث إنها لم تقم على الخوارق استجابة للتحدي، وإنما قامت خطاب العقل والقلب والبرهنة بما في الكون من إبداع ونظام وعظمة يدل على وجود الله عز وجل واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة والاتجاه وبطلان الشرك والوثنية والعقائد المتناقضة مع ذلك هم بما انطوى في هذه الدعوة من مبادئ الحق والخير والبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلال الطيبات وتحريم الخبائث والفواحش والآثام ما ظهر منها وما بطن والحثّ على التضامن والتعاون ومنع الاستعلاء والاستغلال وإقامة مجتمع إنساني عام يتساوى فيه الناس في الحقوق والواجبات، ويتكافلون فيها ويسود فيه الحق والعدل والحرية والمعروف والخير.
ولعل مما يحسن أن يضاف إلى هذا من حكمة الله في عدم الاستجابة إلى تحدي الكفار : أن الأنبياء السابقين قد جاؤوا لقومهم، وأن المعجزات التي أظهرها الله على أيديهم هي لإقناع جيل هذا القوم الذي كانت رسالة الأنبياء لهم في حين أن الله سبحانه قد شاء أن تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع الأجيال ودين الإنسانية العام في جميع الأزمنة والأمكنة. وهو ما انطوى في آيات عديدة أوردنا بعضها في تعليقنا على جملة ﴿ رب العالمين ﴾ في سياق تفسير سورة الفاتحة، وفي هذا لا تغني المعجزة لأنها دائمة الأثر. وقد تنكر من الأجيال الآتية فكان الإقناع وقوة البرهان ومخاطبة العقل والقلب والقرآن المجيد الذي ينطوي فيه كل ذلك بأروع وأقوى ما يكون هي الحجج المؤيدة لصدق الرسالة المحمدية التي تظل واردة وقائمة راهنة بكل قوتها في كل ظرف ومكان. ولقد جاء في سورة الإسراء هذه :﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ﴾ [ ٥٩ ] وهي عظيمة المدى والدلالة بسبيل ما نحن في صدده ؛ حيث تضمنت تقريراً ربانيًا صريحاً بأن الله عز وجل امتنع عن إظهار المعجزة على يد النبي صلى الله عليه وسلم إجابة على تحدي الكفار وتعليلاً لذلك بأن الأمم السابقة قد كذبت بالمعجزات التي أظهرها الله على أيدي أنبيائه السابقين ولم يتحقق المقصود منها.
ولقد روى البخاري ومسلم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه :( ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ) حيث يتساوق الحديث مع التلقين القرآني بأن معجزة النبوة المحمدية هي ما أوحاه الله تعالى إلى النبي من قرآن وحكمة فيهما الهدى والرحمة وأسباب الصلاح والنجاة للبشر في دنياهم وآخرتهم.
ونريد أن ننبه إلى أمر، وهو أن ما قررناه استلهاماً من الآيات القرآنية هو بسبيل الردّ على تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وطلبهم منه الإتيان بالمعجزات والخوارق لتأييد صلته بالله، وإننا لا ننكر أن الله عزّ وجلّ قد أظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم معجزات متنوعة الصور في ظروف كثيرة له خاصة وله وللمسلمين عامة على ما تدل عليه آيات قرآنية عديدة مما سوف ننوه به في مناسباته وعلى ما ورد في أحاديث عديدة قوية الأسانيد سنوردها في مناسبات آتية.
نقول ونحن نعرف أن هناك أحاديث قوية الأسانيد، بأن ما احتوته الآية الأولى من سورة القمر من انشقاق القمر بناء على تحدي الكفار قد وقع فعلاً. غير أن هناك ما يمكن إيراده في هذا الصدد على ما سوف نذكره في سياق تفسير هذه الآية.


١ - انظر تفسيرها في تفسير أبي السعود والنيسابوري..
Icon