تفسير سورة المدّثر

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة المدثر
مكية، عددها ست وخمسون آية كوفي

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ﴾ [آية: ١] يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن كفار مكة آذوه، فانطلق إلى جبل حراء ليتوارى عنهم، فبينما هو يمشى، إذا سمع منادياً يقول: يا محمد، فنظر يميناً وشمالاً وإلى السماء، فلم ير شيئاً، فمضى على وجهه، فنودي الثانية: يا محمد، فنظر يميناً وشمالاً، ومن خلفه، فلم ير شيئاً إلا السماء، ففزع، وقال: لعل هذا شيطان يدعوني، فمضى على وجهه، فنودى في قفاه: يا محمد، يا محمد، فنظر خلفه، وعن يمينه، ثم نظر إلى السماء، فرأى مثل السرير بين السماء والأرض، وعليه دربوكة قد غطت الأفق، وعليه جبريل، عليه السلام، مثل النور المتوقد يتلألأ حتى كاد أن يغشى البصر، ففزع فزعاً شديداً، ثم وقع مغشياً عليه ولبث ساعة. ثم أفاق يمشى ربه رعدة شديدة، ورجلاه تصطلكان راجعاً حتى دخل على خديجة، فدعا بماء فصبه عليه، فقال: درقونى، فدثروه بقطيفة حتى استدفأ، فلما أفاق، قال: لقد أشفقت على نفسى، قالت له خديجة: أبشر فوالله لا يسوؤك الله أبداً لأنك تصدق الحديث، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الخير. فأتاه جبريل، عليه السلام، وهو متقنع بالقطيفة، فقال: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ﴾ بقطيفة، المتقنع فيها ﴿ قُمْ فَأَنذِرْ ﴾ [آية: ٢] كفار مكة العذاب أن لم يوحدوا الله تعالى ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ [آية: ٣] يعني فعظم، ولا تعظمن كفار مكة في نفسك، فقام من مضجعه ذلك، فقال: الله أكبر كبيراً، فكبرت خديجة، وخرجت وعلمت أنه قد أوحى إليه ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [آية: ٤] يقول: طهر بالتوبة من المعاصي، وكانت العرب تقول للرجل: إذا أذنب أنه دنس الثياب، وإذا توفى، قالوا: إنه لطاهر الثياب ﴿ وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ ﴾ [آية: ٥] يعني الأوثان، يساف ونائلة وهما صنمان عند البيت يمسح وجوههما من مر بهما من كفار مكة، فأمر الله تبارك وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجتنبهما، يعني بالرجز أوثان لا تتحرك بمنزلة الإبل، يعني داء يأخذها ذلك الداء، فلا تتحرك من وجع الرجز فشبه الآلهة بها. ثم قال: ﴿ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴾ [آية: ٦] يقول: ولا تعط عطية لتعطى أكثر من عطيتك ﴿ وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ ﴾ [آية: ٧] يعزي نبيه صلى الله عليه سلم ليصبر على الأذى والتكذيب من كفار مكة.
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ ﴾ [آية: ٨] يعني نفخ في الصور، والناقور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، وهو الصور ﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴾ [آية: ٩] يعني مشقته وشدته، ثم أخبر على من عسره، فقال: ﴿ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ [آية: ١٠] غير هين، ويهون ذلك على المؤمن كأدنى صلاته ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾ [آية: ١١] يعني الوليد بن المغيرة المخزومي، كان يسمى الوحيد في قومه، وذلك أن الله عز وجل أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم﴿ حـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾[غافر: ١-٣].
فلما نزلت هذه الآية قام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام فقرأها والوليد بن المغيرة قريباً منه يستمع إلى قراءته، فلما فطن صلى الله عليه وسلم أن الوليد بن المغيرة يستمع إلى قراءته أعاد النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: ﴿ حـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ﴾ في ملكه ﴿ ٱلْعَلِيمِ ﴾ بخلقه ﴿ غَافِرِ ٱلذَّنبِ ﴾ لمن تاب من الشرك.
﴿ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ ﴾ لمن تاب من الشرك.
﴿ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ﴾ لمن لم يتب من الشرك ﴿ ذِي ٱلطَّوْلِ ﴾ يعني ذي الغنى عمن لم يوحد، ثم وحد الرب نفسه حين لم يوحدوه كفار مكة، فقال: ﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾ يعني مصير الخلائق في الآخرة إليه، فلما سمعها الوليد انطلق حتى أتى مجلس بني مخزوم، فقال: والله، لقد سمعت من محمد كلاماً آنفاً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وأن أسفله لمعرق، وأن أعلاه لموفق، وأن له لحلاوة، وأن عليه لطلاوة، وأنه ليعلو وما يعلى. ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: لقد صبأ الوليد، والله لئن صبأ لتصبون قريش كلها، وكان يقال للوليد: ريحانة قريش، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق أبو جهل حتى دخل على الوليد، فقعد إليه كشبه الحزين، فقال له الوليد: ما لى أراك يا ابن أخى حزيناً؟ فقال أبو جهل: ما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة ليعينوك على كبرك، ويزعمون أنك إنما زينت قول محمد لتصيب من فضل طعامه، فغضب الوليد عند ذلك، وقال: أو ليس قد علمت قريش أنى من أكثرهم مالاً وولداً، وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام، فيكون لهم فضل؟ فقال أبو جهل: فإنهم يزعمون أنك إنما زينت قول محمد من أجل ذلك. فقام الوليد فانطلق مع أبى جهل، حتى أتى مجلس قومه بنى مخزوم، فقال: تزعمون أن محمداً كاهن، فهل سمعتموه يخبر بما يكون في غد؟ قالوا: اللهم لا، قال: وتزعمون أن محمداً شاعر، فهل رأيتموه ينطق فيكم بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: وتزعمون أن محمداً كذاب، فهل رأيتموه يكذب فيكم قط؟ قالوا: اللهم لا، وكان يسمى محمد صلى الله عليه وسلم قبل النبوة الأمين، فبرأه من هذه المغالة كلها. فقالت قريش: وما هو أبا المغيرة؟ فتفكر في نفسه ما يقول عن محمد صلى الله عليه وسلم، ثم نظر فيما يقول عنه، ثم عبس وجهه، وبسر يعني وكلح، فذلك قوله عز وجل: ﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾، وما يقول لمحمد، فقدر له السحر، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ فَقُتِلَ ﴾ يعني لعن ﴿ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ لمحمد صلى الله عليه وسلم السحر، ثم نظر، ثم عبس، يقول: كلح وبسر، يعني وتغير لونه يعني أعرض عن الإيمان ﴿ وَٱسْتَكْبَرَ ﴾ عنه ﴿ فَقَالَ ﴾ الوليد لقومه: ﴿ إِنْ هَـٰذَآ ﴾ الذي يقول محمد ﴿ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ فقال له قومه وما السحر يا أبا المغيرة؟ وفرحوا، فقال: شىء يكون ببابل إذا تعلمه الإنسان يفرق بين الإثنين ومحمد يأثره، ولما يحذفه بعد وأيم الله، لقد أصاب فيه حاجته أما رأيتموه فرق بين فلان وبين أهله، وبين فلان وبين أبيه، وبين فلان وبين أخيه، وبين فلان وبين مولاه، فهذا الذي يقول محمد سحر يؤثر عن مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب يقول: يرويه عنه، فذلك قوله: ﴿ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ يقول: إن هذا الذي يقول محمد إلا قول بشر. قال الوليد بن المغيرة: عن يسار أبى فكيهة هو الذي يأتيه به من مسيلمة الكذاب، فجعل الله له سقر، وهو الباب الخامس من جهنم، فلما قال ذلك الوليد شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يشق عليه، فيما قذف بغيره من الكذب، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يعزيه ليصبر على تكذيبهم، فقال: يا محمد﴿ كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾[الذاريات: ٥٢]، وأنزل في الوليد بن المغيرة: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾ يقول: خل بينى يا محمد وبين من خلقت وحيداً، يقول: حين لم يكن له مال ولا بنون، يعني خل بينى وبينه، فأنا أتفرد بهلاكه، وأما الوليد، يعني خلقته ليس له شىء، يقول عز وجل فأعطيته المال والولد. فذلك قوله: ﴿ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً ﴾ [آية: ١٢] يعني بالمال بستانه الذي له بالطائف، والممدود الذي لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفاً، كقوله: ﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾ يعني لا ينقطع ﴿ وَبَنِينَ شُهُوداً ﴾ [آية: ١٣] يعني حضوراً لا يغيبون أبداً عنه في تجارة ولا غيرها لكثرة أموالهم بمكة، وكلهم رجال منهم الوليد بن الوليد، وخالد بن الوليد، وهو سيف الله أسلم بعد ذلك، وعمارة بن الوليد، وهشام بن الوليد، والعاص بن الوليد، وقيس بن الوليد، وعبد شمس بن الوليد. ثم قال: ﴿ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ﴾ [آية: ١٤] يقول: بسطت له في المال والولد والخير بسطاً ﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ﴾ [آية: ١٥] لا أزيده بل أقطع ذلك عنه وأهلكه، ثم منعه الله المال، فلم يعطه شيئاً حتى افتقر وسأل الناس، فأهلكه الله تعالى، ومات فقيراً في المستهزئين، ثم نعت عمله الخبيث، فقال: ﴿ كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً ﴾ [آية: ١٦] يعني كان عن آيات القرآن معرضاً مجانباً له لا يؤمن بالقرآن. ثم أخبر الله تعالى ما يصنع به في الآخرة، فقال: ﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾ [آية: ١٧] يعني سأكلفه أن يصعد على صخرة من النار ملساء في الباب الخامس، واسم ذلك الباب سقر، في تلك الصخرة كوى تخرج منها ريح، وهي ريح حارة، وهي تناثر لحمه يقول الله جل وعز: ﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾ يقول: سأغشى وجهه تلك الصخرة، وهي جبل من نار طوله مسيرة سبعين سنة، ويصعد به فيها على وجهه، فإذا بلغ الكافر أعلاها انحط إلى أسفلها، ثم يكلف أيضاً صعودها، ويخرج إليه من كوى تلك الصخرة ريح باردة من فوقها ومن تحتها تقطع تلك الريح لحمه، وجلدة وجهه، فكلما أصعد أصابته تلك الريح وإذا انحط، حتى ينتثر اللحم من العظم، ثم يشرب من عين آنية، التي قد انتهى حرها، فهذا دأبه أبداً.
ثم قال، يعني الوليد بن المغيرة: ﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ ﴾ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فزعم أنه ساحر، وقال مثل ما قالفي التقديم ﴿ وَقَدَّرَ ﴾ [آية: ١٨]في قوله: إن محمداً يفرق بين الاثنين ﴿ فَقُتِلَ ﴾ يقول: فلعن ﴿ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ [آية: ١٩] السحر ﴿ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ [آية: ٢٠] يعني ثم لعن كيف قدر ﴿ ثُمَّ نَظَرَ ﴾ [آية: ٢١] فيما يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم من السحر ﴿ ثُمَّ عَبَسَ ﴾ وجهه يعني كلح كقوله:﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ﴾[عبس: ١]، يعني كلح وجه ابن أم مكتوم ﴿ وَبَسَرَ ﴾ [آية: ٢٢] يعني وتغير لون وجهه ﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ [آية: ٢٦] يعني الباب الخامس من جهنم. ثم قال: ﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ﴾ [آية: ٢٧] ثم أخبر الله عنها تعظيماً لها، لشدتها ليعذبه بها، فقال: ﴿ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ ﴾ [آية: ٢٨] يعني لا تبقى النار إذا رأتهم حتى تأكلهم ولا تذرهم إذا حلفوا لها حتى تواقعهم ﴿ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ﴾ [آية: ٢٩] محرقة للخلق ﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ [آية: ٣٠] يقول: في النار من الملائكة تسعة عشر خزنتها، يعني مالكاً، ومن ومعه ثمانية عشر ملكاً، أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصى، يعني مثل قرون البقر وأشعارهم تمس أقدامهم، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سبعين سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر، قد نزعت منهم الرأفة والرحمة غضاباً يدفع أحدهم سبعين ألفا، فيلقيهم حيث أراد من جهنم، فيهوى أحدهمفي جهنم مسيرة أربعين سنة، لا تضرهم النار لأن نورهم أشد من حر النار، ولولا ذلك لم يطيقوا دخول النار طرفة عين، فلما قال الله: ﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾، قال أبو جهل بن هشام: يا معشر قريش، ما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر، ويزعم أنهم خزنة جهنم يخوفكم بتسعة عشر، وأنتم ألدهم أيعجز كل مائة منكم أن تطبش بواحد منهم، فيخرجوا منها. وقال أبو الأشدين، اسمه أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي: أنا أكفيكم سبعة عشر، أحمل منهم عشرة على ظهري، وسبعة على صدرى، وأكفوني منهم اثنين، وكان شديداً، فسمي أبا الأشدين لشدته بذلك سمى، وكنيته أبو الأعور.
قال الله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً ﴾ يعني خزان النار ﴿ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ ﴾ يعني قلتهم ﴿ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ حين، قال: أبو الأشدين، وأبو جهل ما قالا، فأنزل الله تعالى في قول أبي جهل: ما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر.
﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾ يقول: ما يعلم كثرتهم أحد إلا الله. وأنزل الله في قول أبي الأشدين: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر:﴿ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ﴾[التحريم: ٦] ﴿ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً ﴾ يعني خزان النار ﴿ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ ﴾ يعني قلتهم ﴿ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ يعني أبا جهل، وأبا الأشدين، والمستهزئين من قريش.
﴿ لِيَسْتَيْقِنَ ﴾ لكي يستيقين ﴿ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾ يقول: ليعلم مؤمنو أهل التوراة أن الذي قال محمد صلى الله عليه وسلم حق، لأن عدة خزان جهنم في التوراة تسعة عشر.﴿ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِيمَاناً ﴾ يعني تصديقاً ولا يشكوا في محمد صلى الله عليه وسلم بما جاء به ﴿ وَلاَ يَرْتَابَ ﴾ يقول: ولكى لا يرتاب يعني لكي لا يشك يقول: لئلا يشك ﴿ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾ يعني أهل التوراة ﴿ وَ ﴾ لا يشك ﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ أن خزنة جهنم تسعة عشر ﴿ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ يعني الشك، وهم اليهود من أهل المدينة ﴿ وَٱلْكَافِرُونَ ﴾ من أهل مكة، يعني مشركى العرب ﴿ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً ﴾ يعني ذكره عدة خزنة جهنم، يستقلونهم. يقول الله عز وجل: ﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ ﴾ بهذا المثل ﴿ مَن يَشَآءُ ﴾ عن دينه ﴿ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ إلى دينه وأنزل في قول أبي جهل، وأبي الأشدين ما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر، فقال الله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾ من الكثرة حين استقلوهم، فقال أبو جهل لقريش: أيعجز... مثل ما قال في التقديم، وقالوا ما قالوا. ثم رجع إلى سقر، فقال: ﴿ وَمَا هِيَ ﴾ يعني سقر ﴿ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ﴾ [آية: ٣١] يعني سقر تذكر وتفكر للعالم.
ثم أقسم الرب من أجل سقر، فقال: ﴿ كَلاَّ وَٱلْقَمَرِ وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴾ [آية: ٣٣] يعني إذا ذهبت ظلمته ﴿ وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ ﴾ [آية: ٣٤] يعني ضوءه عن ظلمة الليل ﴿ إِنَّهَا ﴾ إن سقر ﴿ لإِحْدَى ٱلْكُبَرِ ﴾ [آية: ٣٥] من أبواب جهنم السبعة: جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية ﴿ نَذِيراً ﴾ يعني تذكرة ﴿ لِّلْبَشَرِ ﴾ [آية: ٣٦] يعني للعالمين ﴿ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ ﴾ في الخير ﴿ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴾ [آية: ٣٧] منه إلى المعصية هذا تهديد، كقوله:﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾[الكهف: ٢٩] وكقوله:﴿ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ﴾[فصلت: ٤٠].
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾ [آية: ٣٨] يقول: كل كافر مرتهن بذنوبه في النار، ثم استثنى، فقال: ﴿ إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ ﴾ [آية: ٣٩] الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم ولا يرتهنون بذنوبهم في النار، ثم هم: ﴿ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ [آية: ٤١] فلما أخرج الله أهل التوحيد من النار، قال المؤمنون لمن بقي في النار: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴾ [آية: ٤٢] يعني ما جعلكم في سقر، يعني ما حبسكم في النار. فأجابهم أهل النار عن أنفسهم: ﴿ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ ﴾ [آية: ٤٣] في الدنيا لله ﴿ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ ﴾ [آية: ٤٤] في الدنيا ﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ ﴾ [آية: ٤٥] في الدنيا في الباطل والتكذيب كما يخوض كفار مكة ﴿ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ ﴾ [آية: ٤٦] يعني يوم الحساب أنه غير كائن ﴿ حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ ﴾ [آية: ٤٧] يعني الموت. يقول الله تعالى: ﴿ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ ﴾ [آية: ٤٨] يعني لا ينالهم يومئذ شفاعة الملائكة والنبيين.
﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴾ [آية: ٤٩] عن التذكرة يعني عن القرآن معرضين، نزلت هذه الآية في كفار قريش حين أعرضوا، ولم يؤمنوا بالحمر الوحشية المذعورة. فقال: ﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ﴾ [آية: ٥٠] بتركهم القرآن إذا سمعوا منه مثل الحمر ﴿ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ﴾ [آية: ٥١] يعني الرماة وقالوا الأسد ﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ ﴾ يقول: يعطى ﴿ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ﴾ [آية: ٥٢] فيها كتاب من الله تعالى، وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، كان الرجل من بنى إسرائيل ذنبه وكفارة ذنبه يصبح مكتوباً عند رأسه، فهلا ترينا مثل هؤلاء الآيات إن كنت رسولاً كما تزعم، فقال جبريل: إن شئت فعلنا بهم كفعلنا ببني إسرائيل، وأخذناهم بما أخذنا به بنى إسرائيل، فكره النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله بأن آلهتنا باطل، وأن الإله الذي في السماء حق، وأنك رسول، وأن الذي جئت به حق، وتجىء معك الملائكة يشهدون بذلك كقوله ابن أبي أمية في سورة بني إسرائيل يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ كَلاَّ ﴾ لا يؤمنون بالصحف التي أرادوها. ثم استأنف، فقال: ﴿ بَل ﴾ لكن ﴿ لاَّ يَخَافُونَ ﴾ عذاب ﴿ ٱلآخِرَةَ ﴾ [آية: ٥٣] ﴿ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ﴾ [آية: ٥٤] يعني القرآن ﴿ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ ﴾ [آية: ٥٥] يعني قهمه، يعني القرآن، ثم قال: ﴿ وَمَا يَذْكُرُونَ ﴾ يعني وما يشهدون ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ ﴾ [آية: ٥٦] يعني الرب تبارك وتعالى نفسه، يقول: هو أهل أن يبقى ولا يعصى، وهو أهل المغفرة لمن يتوب عن المعاصي.
Icon