وقد اشتملت السورة على الإنذار، وتكبير الله، وتطهير النفس من دنيء الأخلاق وتطهير الثياب للمؤمن، وهذا يعني أن النظافة من أهم أصول الإسلام. وفيها الأمر للرسول بالصبر على أذى المشركين وهجر الأوثان وكل ما يؤدي إلى العذاب، وتهذيب الرسول الكريم وتعليمه أن لا يمنّ على أصحابه بما يعلّمهم من أمر الدين والوحي كالمستكثر بذلك عليهم، ولا على الفقراء بما يعطيهم استكثارا لتلك العطايا، وإنما عليه أن يتجه إلى الله تعالى.... فإن الخلق عباده والرسول الكريم أب لهم ومعلم ومرشد.
فأما الكفار الجاحدون فإنهم سيلقَون جزاءهم يوم ينفخ في الصور. ثم ذكر أوصاف بعض هؤلاء المعاندين وأحد جبابرتهم، وهو الوليد بن المغيرة، وأنه أعطي مالا كثيرا وعشيرة ورياسة ووجاهة، ووصفه بالعناد والعبوس والاستكبار، وكيف أنه استهزأ بالقرآن الكريم وقال عنه إنه سحر يؤثَر،
وما ينتظر هذا الرجل من العذاب يوم القيامة، يوم يُدخله الله سَقَرَ التي عليها تسعة عشر من الملائكة.. إلى آخر ما سيأتي من عظيم أمرها. ثم ذكر أن كل نفس مرهونة بعملها، وأن المؤمنين يتمتعون في جنات النعيم، ويتساءلون عن المجرمين : ما الذي أدخلكم سقر ؟ فيقر أولئك بذنوبهم، بأنهم لم يؤمنوا، ولم يتصدّقوا على الفقراء والمساكين، وكانوا يكذّبون بيوم الدين. ففي ذلك اليوم لا تنفعهم شفاعة، بل يكونون كالحمير الفارّة من الأسد بفعل الخوف والجزع، وأن هذا القرآن ﴿ تذكرة، فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة.... ﴾.
ﰡ
يا أيها الذي تدثَّر بثيابه رعباً وخوفاً من رؤية الملَكِ.
قُمْ وشمِّرْ عن ساعِدِ الجد، وأنذِر الناسَ عذابَ يوم عظيم، وادعُهم إلى الدِين القويم، ولْيتركوا عبادةَ الأوثان وما عندهم من الخرافات.. ادعُهم إلى معرفة الحق لينجُوا من هول ذلك اليوم العظيم.
﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾
عظّم ربك، وخُصَّه وحدَه بالتعظيم.
وطهِّر ثيابك وجسمك ونفسَك، والطهارةُ أساسٌ عظيم في دين الإسلام.
يقول الأستاذ بثنام في كتابه أصول الشرائع : إن كثرةَ الطهارة في دين الإسلام تدعو معتنقيه إلى رقيّ الأخلاق والفضيلة إذا قاموا باتّباع أوامره خير قيام.
اهجر المعاصي والآثام وابتعدْ عن الغرور والمنِّ فيما تعلِّمُ وتعطي.
ما أعطيتَ وبذلت.
ولا تمنُنْ على أصحابك فيما تعلّمهم وتبلّغهم عن الوحي مستكثراً ذلك عليهم، ولا تستكثر أي شيء بَذَلْتَه للناس، لأن الكريم يستقلُّ ما يُعطي وإن كان كثيراً، وأعطِ عطاءَ من لا يخاف الفقر. وفي هذا تعليمٌ لنا أن نعطيَ ما استطعنا من غيرِ منٍّ ولا أذى.
وبعد أن وجّه اللهُ الرسولَ الكريم إلى التحلّي بمكارم الأخلاق، والبعدِ عن الجفاء والسَّفَه وكلِّ ما لا يليق بأصحابِ المقامات العالية، أتى بوعيدِ الأشقياء
وما سيلقونه من عذابٍ فقال :
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾.
فإذا جاء وعدُ ربك ونُفخ في الصُّور.
لا يستعمل منه إلا فعل الأمر والمضارع، فلم تستعمل العرب منه الفعل الماضي.
ذرني وفلانا : كِلْه إليّ....
وحيدا : خلقته في بطن أمه وحيدا لا مال له ولا ولد. وكان يقال للوليد بن المغيرة : الوحيد، لأنه وحيد في قومه، فمالُه كثير، من إبلٍ وخيل وغنم وتجارة وزرع وعبيد وله عشرة أبناء الخ....
في هذه الآيات عرضٌ لذِكر أحدِ زعماء قريش الكبار، هو الوليدُ بن المغيرة. وكان من أكبر أثرياء قريش ورؤيائها، يُقال له « العَدْل » لأنه كان عَدْلَ قريشٍ كلّها، إذ كانت قريش تكسو البيتَ، والوليد يكسوه وحدَه. وكان ممن حرَّم الخمرَ في الجاهلية، ولكنه أدركَ الإسلامَ وهو شيخٌ كبير وعادى النبيّ عليه الصلاة والسلام وقاوم دعوته بشدّة. وقد سمع القرآنَ وتأثر به وقال عنه : لقد سمعُ من محمدٍ كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن.. و الله إن لَه لحلاوةً، وإن عليه لَطلاوة، وإن أعلاه لمثْمِر، وإن أسفلَه لَمُغْدِق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه.
ومع ذلك فقد بقي على عنادِه وكفره وجمع قريشاً وقال لهم :« إن الناسَ يأتونكم أيامَ الحج فيسألونكم عن محمد، فتختلف أقوالكم فيه، فيقول هذا : كاهنٌ، ويقول هذا : شاعر، ويقول هذا : مجنون، وليس يُشبه واحداً مما يقولون. ولكن أصلَحُ ما قيل فيه أنه ساحر، لأنه يفرق بين المرء وأخيه والزوج وزوجته ». وقد مات بعد الهجرة بثلاثة أشهر، وأسلمَ من أولاده خالدُ بن الوليد وهشام وعمارة، والوليدُ بن الوليد.
دَعني ومن خلقتُه وحيداً فإني سأكفيكَ أمره.
هذا الذي أنعمتُ عليه بمالٍ كثير.
وعَشَرة بنين يحضرون معه المحافلَ ويتمتع بمنظرهم.
وبسطتُ له الرياسةَ والجاه العريضَ والسيادة في قومه، فكان سيّداً مطاعاً عزيزا.
﴿ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً ﴾
انه كان للقرآن معانِدا مكذِّبا.
سأكلفه عذاباً شاقاً لا راحة فيه.
إنه فكر وزوّر في نفسه كلاما في الطعنِ في القرآن بعدما سمعه وأعجبه.
قاتلَه الله ولعَنه، كيف قدّر وقال لقريش إن محمّداً ساحر، وان هذا القرآن سِحر يؤْثَر ويروى.
وبَسَر : كلح وجهه وظهرت الكراهية عليه.
ثم قطَب وجهه وزادَ في كُلوحه.
وتعاظَمَ أن يعترفَ به ﴿ فَقَالَ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ ينقله الرواة عن الأولين، ونقله محمد عن غيره ممن كانَ قبلَه من السحرة.
ثم بين الله تعالى ما هو جزاؤه يوم القيامة فقال :
﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ َ ﴾
سأدخِله جهنم ليحترقَ بها ويذوقَ أشدّ العذاب.
إنها لا تبقي لحماً ولا تترك عظماً إلا أحرقَتْه، تأكل الأخضَر واليابسَ كما يقولون.
وأنها تُلَوِّحُ الوجوهَ والبشرةَ وتسوِّدُها.
فتنة : اختبار وامتحان.
ذكرى : تذكرة وموعظة للناس.
وما جعلْنا خزنةَ النار إلا ملائكةً تقدَّم وصفُهم بالشِدة والغِلظة، وما جعلنا عِدَّتَهم تسعةَ عشر إلا فتنةً واختبارا للذين كفروا، وذلك ﴿ لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب ﴾.
ليحصل اليقينُ لليهود والنصارى بنبوة محمدٍ لموافقةِ ما جاءَ في القرآن لكتُبهم، فقد شهِدَ عددٌ من علماءِ اليهود والنصارى آنذاك أن عدَّةَ الخزنة تسعةَ عشر.
﴿ وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً ﴾.
ولكيَ تطمئن قلوبُهم بذلك، ولا يشكّ أهلُ التوراة والإنجيل والمؤمنون بالله في حقيقةِ ذلك العدد.
﴿ وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً ﴾.
وليقول المنافقون والمشركون الكافرون : ما الذي أراده اللهُ بهذا العدَدِ المستغرَبِ استغرابَ المثل ؟
﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾.
والله تعالى كما أضلَّ المنافقين والمشركين يُضِلُّ مِنْ خلْقه من يشاءُ فيخذُله عن إصابة الحق، ويهدي من يشاء منهم فيوفّقه إلى الخيرِ والهدى. وما يعلم جنودَ ربّك ومقدارهم إلا هو سبحانَه وتعالى. ﴿ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ ﴾ وما سَقَرُ إلا تذكرة للبشَر وتخويفٌ لهم.
الأول : أن تكون للردع والزجر، وهو الغالبُ في استعمالها، مثل قوله تعالى ﴿ قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : ٦١، ٦٢ ] والمعنى انتهوا عن القول.
الثاني : أن تكون للرد والنفي فتردّ شيئا وتثبت آخر مثل أن يقول المريضُ الذي لم يعمل بنصح طبيبه : شربتُ ماء، فيقول الطبيب : كلا، بل شربتَ لبنا. معناه : ما شربت ماء، ولكنْ شربتَ لبنا.
الثالث : تكون بمعنى ألا، يُستفتح بها الكلامُ للتنبيه، مثل قوله تعالى :﴿ كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى ﴾ [ العلق : ٦، ٧ ].
الرابع : أن تجيء جواباً بمعنى حقاً وتكون مع القسَم، مثل قوله تعالى هنا :﴿ كَلاَّ والقمر ﴾ ومعناه حقاً، وأُقسم بالقمر الخ....
كلا : لا سبيلَ لكم إلى إنكار سقَرَ وصفتها المخيفة. وأُقسِم بالقمر.
وبالليلِ إذا ولّى وذهب.
قراءات :
قرأ الجمهور : إذا دبر إذا بالف بعد الذال، ودبر بوزن ضرب. وقرأ نافع وحمزة وحفص : إذ أدبر، اذ بسكون الذال، وأدبر بوزن أكرم. ودبر وأدبر لغتان.
وبالصُّبح إذا تبلّج وأضاء.
إن جهنّم لإحدى البلايا الكبار والدواهي العِظام.
وهذا تهديد وإعلام بأن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جازاه الله بثواب لا ينقطع أبدا، ومن تأخر عن الطاعة ولم يؤمن بمحمد عوقب عقابا لا ينقطع أبدا.
فهي محبوسة بعملها، مرهونة عند الله بكسْبها.
فقد جزاهم الله أحسنَ الجزاءِ فهم في غرفاتِ الجناتِ يسألُ بعضهم بعضاً.
ويقولون لهم :﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ؟ ﴾ ما الذي أدخلكم جهنم ؟
الأول :﴿ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين ﴾ لم نصلِّ مطلقا لأننا لم نكن نعتقد بوجوب الصلاة علينا.
لا خير فيه.
الثالث :﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين ﴾ وكنا لا نبالي بالخوض في الباطل مع من يخوض فيه، ونكثر من الكلام الذي لا خير فيه : في حق محمد وأصحابه، وفي أمر القرآن فنقول أنه سحر وشعر وكهانة.
حتى جاءنا الموت فعرفنا أننا كنا في ضلال تائهين.
﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ ؟ ﴾
فما لهم عن التذكير بالقرآنِ والعظة به منصرفين.
كأنهم حميرٌ.
فرَّت من أسدٍ يطاردُها ليفترسَها.
ثم بين أنهم بلغوا في العناد حداً لا يتقبله عقل، فقال :
﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ﴾
فكل واحدٍ منهم يريد أن ينزِلَ عليه كتابٌ مفتوح من السماء. وكانوا يقولون : إن كان محمد صادقاً فليصبحْ عندَ رأسِ كل واحدٍ منا صحيفةٌ فيها براءة من النار.