بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المدثر مكية ١ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المدثرمكية
- قوله تعالى: ﴿يا أيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ﴾ إلى قوله: ﴿نَذِيراً لِّلْبَشَرِ﴾.
أي: يا أيها المدثر بثيابه عند نومه.
وروي أن النبي ﷺ [ قيل له ذلك] وهو متدثر بقطيفة. ذكره النخعي.
وروي أن هذا أول ما أنزل على النبي ﷺ.
رواه جابر بن عبد الله قال: " حَدَّثَنِي النَّبِيُّ ﷺ، قالَ: جَاوَرْتُ فِي حِرَاءَ، فَلَمَّا
قال ابن عباس: ﴿يا أيها المدثر﴾: " يأ أيها النائم ".
وقال قتادة: المدثر في ثيابه.
وقال عكرمة: معناه: " دُثر هذا الأمر فقم به "، يعني النبوة.
- وقوله: ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾.
أي: قم من نومك فأنذر قومك عذاب الله على شركهم بالله.
- ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾.
أي: فعظم.
- ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾.
أي: لا تلبسها على معصية ولا [غدرة]. قاله ابن عباس.
وقال النخعي: فطهرها من الذنوب.
والعرب تقول لرجل إذا نكث ولم يف بعده: إنه لدنس الثياب، وإذا أوفى بعهده، وأصلح: إن لمُطَهَّر الثياب.
وقال الضحاك: معناه: " لا تلبس ثيابك على معصية ".
وقال ابن زيد: معناه: " وعملك فأصلحه "، قال: والعرب تقول للرجل الخبيث العمل: فلان خبيث الثياب. وإذا كان حسن العمل (قالوا: فلان طاهر الثياب.
وعن مجاهد أن معناه: " لست بكاهن ولا ساحر، فأَعْرِض عما قالوا ". (وقال) ابن سرين: معناه: اغسل ثيابك من النجاسة. وهو قول ابن زيد، وبهذا احتج الشافعي في وجوب طهارة الثوب (وأنه فرض.
مذهب مالك أن طهارة الثوب ليس بفرض، وهو قول هل المدينة وإنما طهارة الثوب) سنة. ولذلك، من صلى بثوب نجس ولا يعلم أعاد في
- ثم قال: ﴿والرجز فاهجر﴾.
أي: والأَوْثَانَ فاهجر عبادتها.
والضم والكسر في الراء لغتان عند الفراء.
وقيل: الكسر معناه العَذاب. فتكون الأوثان سميت بالعذاب. لأنها سببه. والضم معناه الأوثان. وأول من
وأكثر الناس على أنه لا فرق بينهما وأنه يراد به الأوثان، [ضَمَمْتَ] الراءَ أو كَسَرْتَها.
قال ابن عباس: الرجز: " السخط، وهو الأصنام ".
وقال مجاهد وعكرمة: الرجز: " الأوثان. وقاله الزهري.
وقال قتادة: " الرجز: صنمان كانا عند البيت: [إساف ونائلة]، يَمْسَحُ وُجُوهَهُمَا من أتى عليهما، فأمر الله نبيه أن [يجتنبها] ويعتزلهما ".
قال ابن زيد: " الرجز آلهتهم التي كانوا يعبدون، (أمره الله) أن يهجرها [فلا يأتيها ولا يقربها] ".
- ثم قال تعالى ﴿وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾.
قال ابن عباس: معناه: ولا تعط يا محمد عطية لتعطى أكثر منها. وهو (معنى) قول أكثر [المفسرين].
وهذا خصوص للنبي ﷺ، وهو مباح لأمته إلا أنه لا أجر [لهم] في ذلك. وهو قوله تعالى: ﴿وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله﴾ [الروم: ٣٩] وقد قال الضحاك: هو الربا (في) الحلال [قال]: وهما ربوان: حرام
وقال الحسن: معناه: لا تستكثر عملك الصالح. وهو اختيار الطبري.
وقال الربيع بن أنس: معناه: " لاَ يَكْثُرَنْ عملُك في عينك، فإنه فيما أنعم الله [عليك] وأعطاك قليل ".
وعن مجاهد أن معناه: لا تضعف أن تستكثر من الخير من قولهم: " حبل منين " إذا كان ضعيفاً.
وفي قراءة ابن مسعود: " وَلاَ تَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ ".
قال الكسائي: فإذا حذف " أن " رفع، وهو حال (عند) البصريين.
- ثم قال تعالى: ﴿وَلِرَبِّكَ فاصبر﴾.
أي: اصبر على ما تَلْقَى من قومك لربك [واحتمل] أذاهم.
وقال ابن زيد: معناه، اصبر على محاربة العرب والعجم، قال: " حُمِّلَ أمراً عظيماً، مُحَارَبَةَ العرب ثم العجم من بعد العرب في الله ".
وقال النخعي: معناه: ولربك فاصبر على عطيتك، ولا تعطها لتأخذ أكثر منها، بل احتسبها الله.
- ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾.
روى ابن عباس أنَّ النبي ﷺ قَالَ: " كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ التَقَمَ القَرْنُ [وَحَتَى] جَبْهَتَهُ لِيَسْتَمِعَ مَتَى يُؤْمِرُ، يَنْفُخُ فِيهِ. قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلى أَصْحَابِهِ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَقُولُوا ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ [آل عمران: ١٧٣] ﴿عَلَى الله تَوَكَّلْنَا﴾ [الأعراف: ٨٩].
- ثم قال: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً﴾.
أي: كِلْ - يا محمد - أَمْرَ هذا الذي خلقته في بطن أمه وحيداً لا شيء له من مال ولا ولد، يعني بذلك الوليد بن المغيرة المخزومي. قال ابن عباس: " أَنْزَلَ اللهُ فِي الوَليدِ بِنْ المُغِيرَةِ ﴿ذَرْنِي﴾ ﴿وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً﴾. [وقوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ...﴾ [الحجر: ٩٢] إلى آخرها.
وقيل: معناه: دعني يا محمد ومجازاة من خلقته وحده، فيكون " وحيداً]
فالمعنى: كِلْ - يا محمد - عقوبة هؤلاء إلي، فلست أحتاج [في ذلك] إلى معين ولا ظهير. ويُرْوى أنه كان يقول: أنا الواحد بن الوحيد، ليس لي من العرب نظير ولا لأبي المغيرة نظير.
- ثم قال تعالى: ﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً﴾.
قال مجاهد وابن جبير: هو ألف دينار. وقال سفيان: (بلغني) أنه أربعة آلاف دينار. وقيلأ: هو الأرض يزرع فيها. قاله النعمان بن سالم. وقال عمر بن
- ثم قال تعالى: ﴿وَبَنِينَ شُهُوداً﴾.
أي: وجعلت له بنين شهوداً، أي: [حضوراً]. روي أنه كان له عشرة من الولد. وقد قاله/ مجاهد وغيره.
وروي أنه ما زاد بعد نزول هذه الآية إلا [ارتكاساً] في ماله وولده ونفسه.
- ثم قال: ﴿وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً﴾.
أي: بسطت له في العيش بسطاً. قاله سفيان. وقال مجاهد: " من المال والولد ".
- ثم قال: ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ...﴾.
ثم يَأْمِلُ أن أزيده من المال والولد على ما أعطيته ﴿كَلاَّ﴾: أي: ليس الأمر
- ثم قال: ﴿إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً﴾.
أي: إنه كان لرد حجتنا وآياتنا معانداً، مجانباً. يقال: عَنُدَ البَعيرُ [يَعْنِدُ عُنُوداً]، و [بَعِيرٌ عَنُودُ]: إذَا مشى مجانباً للإبل لا يمشي معها. قال ابن عباس: ﴿عَنِيداً﴾ " جحوداً ". وهو قول قتادة. وقال مجاهد: " معانداً للحق، مجانباً له ". وقال سفيان: ﴿عَنِيداً﴾ " مشاقاً لنا ".
- ثم قال: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾.
أي: سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة منها. وقيل: الصعود جبل من نار (يكلفون) أن يصعدوه، فإذا وضع يده عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع
قال مجاهد: ﴿صَعُوداً﴾: " غذاباً لا راحة منه ".
وقال قتادة: " مشقة من العذاب ".
- ثم قال: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾.
أي: فكر فيما أنزل الله على نبيه من القرآن، وَقَدَّرَ فيما يقول فيه، فَلُعِنَ كيف قدَّر ما هو قائل، ثم لعن كيف قَدَّرَ القولَ فيه.
﴿ثُمَّ عَبَسَ...﴾.
أي: قبض ما بين عينيه.
﴿وَبَسَرَ﴾.
أي: كلح وكَرَّهَ وجهه.
قال عكرمة: جَاءَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ إلى النبي ﷺ فَقَرَأَ عليه النبي القرآنَ، فكأنه رَقَّ لَهُ، فبلغَ ذلك أبا جهل. فأتاه فقال: أيْ عَمِّ، إِنَّ قومَكَ يُريدون أن يَجْمَعُوا لَكَ مَالاً. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: يُعْطُونَكَ! فإنك أتيت محمداً تَتَعَرَّضُ لِمَا قِبَلَهُ. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً! قال: فقل فيه قولاً يَعْلَمُ أَنَّكَ مُنْكِرٌ " [لِمَا قَالَ]، وَأَنَّكَ كَارِهٌ له، قال: فماذا أقول فيه؟ فَوالله مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ مِنِّي بِالأَشْعَارِ ولاَ أَعْلَمُ
قال ابن عباس: دَخَلأَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ يَسُأَلُهُ عَنِ القُرآن، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَرَجَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا عَحَبَاً لِمَا يقول ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ! فَوَاللهِ، ما هُوَ بِشِعْرٍ وَلاَ بِسِحْرٍ وَلاَ [بِهَذْيٍ] مِنْ جُنُونٍ، وَإِنهُ لَمِنْ كَلاَمِ اللهِ - جَلَّ وَعَز - فَلَمَّا سَمِعَ بِذلِكَ
قال أبو رزين (سحر) (أي): يَأْثُرُهُ من غيره.
- ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر﴾.
أي: ما هذا الذي يتلوه محمد إلا قول بني آدم وما هو بكلام الله. [فهذا أول من قال: القرآن مخلوق، قاله الوليد بن المغيرة فأدخله الله سقر. قال بعض العلماء: فكذا يُفْعَلُ بكل من قال: القرآن مخلوقٌ، قاله أحمد بن زيد].
- ثم قال: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾.
- ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ﴾.
أي: وأي شيء أدراك ما سقر؟، ثم بَيَّنَهُ وَأَدْرَاهُ به [فقال] في صفة سقر.
- ﴿لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ﴾.
أي: هي نارٌ لا تُبْقي من فيها حياً، ولا تَذَرُ من فيها ميتاً، لكنها تحرقهم، كلما احترقوا جُدِّدَ خَلْقُهُمْ. قال مجاهد: ﴿لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ﴾ أي: لا تُحْيِي وَلاَ تُميتُ وقيل: ﴿لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ﴾: لا تبقي الكافر حتى يصير فحمة ثم يُعاد خلقاً جديداً ثم لا تذره حتى يعود/ عليه العذاب بِأَشَدِّ مِمَّا كان هكذا أبداً، نعوذ بالله من ذلكز
- ثم قال تعالى: ﴿لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ﴾.
وقال ابن عباس: " تحرق بَشَرَةَ الإنسان ".
- ثم قال: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾.
أي: من الخزنة. ذكر ابن عباس أَنَّ هَذَا لما نَزَلَ عَلَى النبي ﷺ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِقُرَيْشٍ: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ! أَسْمَعُ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ.
قال كعب الأحبار: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾: ما منهم ملك إلا ومعه عمود ذو شعبتين يدفع به الدفعة فيلقى في النار تسعين ألفاً.
- ثم قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَآ أصحاب النار إِلاَّ ملائكة...﴾.
أي: لم نجعل أصحاب النار رجالاً مثلكم فتطمعوا بالتغلب عليهم كما قال أبو جهل لقريش: أفلا يستطيع كل عشرة منكم أن يغبلوا منهم واحداً؟!. فإذا
- ثم قال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾.
أي: لم نجعلهم تسعة عشر فقط لقلة الملائكة؛ ولكن جعلناهم كذلك ليفتتن الذين كفروا ويستقلوا عدتهم ويُحدثوا أنفسهم بالتغلب على الخزنة حتى قال [أبو الأشد الجمحي]: أنا [أُجْهِضُهُمْ] [عن] النار. وقيل: كَلَدَةَ بن أسيد بن خلف قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني اثنين.
أي: فعلنا ذلك ليفتتن الذين كفروا [وليتقين] الذين أُوتوا التوراة والإنجيل حقيقة ما في كتبهم من الخبر عن عدة خزنة جهنم، لأنه كذلك دتهم في التوراة (والإنجيل). هذا معنى قول ابن عباس وغيره. وهو قول مجاهد.
قال قتادة: يُصَدِّقُ القرآنُ الكُتُبَ التي كانت قبله، فيها كُلِّها خَزَنَةُ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ. وهو قول الضحاك. وقال ابن زيد: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب...﴾ " أنك رسول الله ".
ثم قال تعالى: ﴿وَيَزْدَادَ الذين ءامنوا إيمانا...﴾.
أي: تصديقاً إلى تصديقهم بعدة خزنة جنهم.
- ثم قال: ﴿وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون﴾.
- ثم قال: ﴿وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ...﴾.
أي: نفاق.
﴿والكافرون...﴾.
يعني: مشركي قريش.
- ﴿مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً﴾.
أي: ماذا أراد الله بهذا حسين يخوفنا بهؤلاء التسعة عشر.
- قال الله: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾.
أي: كما أضل هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين: أي شيء أراد الله بهذا مثلاً؟! كذلك يضل الله من يشاء] من خلقه فَيَخْذُلُهُ عن إصابة الحق، ويهدي من يشاء فيوفقه للحق.
- ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ...﴾.
وقال كعب: إن لله تعالى ملائكة من يوم خلقهم قياماً، [ما] ثنوا أصلابهم، وآخرين ركوعاً ما رفعوا أصلابهم، وآخرين [سجوداً] ما رفعوا رؤوسهم حتى
وروى ابن المبارك حديثاً - رفعه - أن ملكاً سجدا لما استوى الرب [تعالى] على عرشه، فلم يرفع رأسه [و] لا يرفعه إلى يوم القيامة، فيقول يوم القيامة: لم أعبدك حق عبادتك، إلا أني لم أشرك بك شيئاً، ولم أتخذ من دونك ولياً.
وقد وصفهم الله في كتابه فقال: ﴿يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٠].
- ثم قال تعالى: ﴿وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ﴾.
يعني النار التي وصفها. يقول: ليس ما وصفتها به من تغييرها للبشر وعدة خزنتها إلا عظةً وعبرة للناس يتعظون بها.
- ثم قال: ﴿كَلاَّ والقمر﴾.
أجاز الطبري الوقف على " كَلاَّ "، [جعله] رَدَّاً لِمَا قبلها.
والمعنى عنده: ليس القول كما يقال من زعم أنه يكفي أصحابه المشركين خزنة جهنم التسعة عشر حتى يجهضهم عنها. وقال الفرء: تقديره: " أي والقمر، وقيل: تقديره: " حقاً " (وقيل): " أَلاَ ".
أي: ورب القمر ورب الليل إذا أدبر، اي: ولى.
- ﴿والصبح إِذَآ أَسْفَرَ﴾.
أي: أضاءَ وأقبل. يقال: أسفر الصبح إذا أضاء وانكشف. ومنه: سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته. ومنه قيل: " سفر " للكتاب الذي فيه العلم، لأنه يبين ويكشف. ومنه سفرت الريح الغمام: كشفته. ومنه: سفرت البيت: أي كنسته ومنه قيل: " سفير " للذي يسعى في الصلح، لأنه يكشف المكروه وزيله.
وحكى بعض البصريين: دبرني إذا جاء خلفي. وأدبر إذا ولى. واختار [أبو عبيد] [إِذَا اَدْبَرَ]، لأن بعده: ﴿إِذَآ أَسْفَرَ﴾. وحكي: دبر وأدبر: لغتان بمعنى،
وقيل: معنى ﴿إِذْ أَدْبَرَ﴾ أي: إذا أدبر النهار، وكان في آخره. وسأل رجل ابن عباس عن قوله: ﴿والليل إِذْ أَدْبَرَ﴾ فقال: امكث، فلما سمع الأذان [الأول] قال: هذا حين دبر الليل.
- ثم قال: ﴿إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر﴾.
يعني جنهم، أي: وهي إحدى الأمور العظام. و (إحدى): فُعْلَى، نَعْتٌ، وهو قليل، إنما تأتي هذه النعوت غير المصادر بضم الأول أو بفتحه.
قال أبو رزين: يقول الله جل ذكره: أنا نذير للبشر.
وقال [ابن زيد]: معناه: محمد نذير للبشر. ونصبها على الحال من المضمر في " إنها " [أَوْمِنْ] " إِحْدَى ".
وهذا القولان يدلان على أن النار هي النذير، وهو قول الحسن. ويجوز أن تكون حالاً من " هو " في قوله: ﴿إِلاَّ هُوَ﴾، أو على إضمار فعل تقديره: صَيَّرَهَا ﴿نَذِيراً﴾، هذا على قول أبي رزين. وقال الكسائي: هي حال من المضمر في ﴿قُمْ﴾ أي: قم نذيراً، من أول السورة. وهو يرجع إلى قول ابن زيد. وقيل:
- قوله: ﴿لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾، إلى آخر السورة.
أي: نذيراً للبشر لما شاء منكم أن يتقدم في طاعة الله ﴿أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ في معصيته. قاله قتادة. وهو معنى قول ابن عباس.
- ثم قال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾.
أي: كل نفس بما عملت من معصية الله في الدنيا رهينة في جهنم.
- ﴿إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين﴾.
فإنهم غير مرتهنين، ولكنهم ﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ المجرمين﴾.
قال ابن عباس: ﴿رَهِينَةٌ﴾ أي: " مأخوذة [بعملها] ". وقاله قتادة. قال
فمن قال: هم الأطفال [أو هم الملائكة] استدل بقولهم للمجرمين ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾، وذلك أنهم لم يقترفوا ذنوباً في الدنيا. ولو اقترفوها ما سألوا عن ذكل، وكل من دخل الجنة غير الأطفال فقد كانت لهم ذنوب. وقال الضحاك:
ومعنى ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾: [ما] أدخلكم في سقر؟!
وقرأ ابن الزبير: " يتساءلون عن المجرمين، يا فلان: مَا سَلَكَكم في سقر ". [وهذه] قراءة على التفسير. وقيل: معناه/ أن المؤمنين يسألون الملائكة عن قراباتهم من المشركين، (فتسأل الملائكة المشركين) تقول لهم: ما سلككم في سقر؟! فيقول [المشركون] ما حكى الله من قولهم، وإقرارهم على أنفسهم بالجحود والكفر.
ومعنى: ﴿مِنَ المصلين﴾: من الموحدين.
- ثم قال تعالى حكاية عن جواب المشركين: ﴿قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين﴾.
أي: لم نكن - في الدنيا - من المصلين لله.
أي: نخوض في الباطل مع كل من يخوض فيه.
قال قتادة: نخوض مع الخائضين، أي: (كلما غوى غاو غووا معه).
- ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين﴾.
أي: نقول: لا بعث ولا جزاء ولا جنة ولا نار.
- ﴿حتى أَتَانَا اليقين﴾؟
أي: الموت.
- ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين﴾.
أي: فما يشفع لهم الذين يشفعهم الله في أهل الذنوب من أهل التوحيد فتنفعهم شفاعتهم. ففي هذا دليل بين أن الله يشفع بعض خلقه في بعض. قال ابن مسعود في قصة طويلة في الشفاعة (قال): ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء الصالحون المؤمنون، ويشفعهم الله فيقول: أنا أرحم الراحمين.
قال ابن مسعود: لا يبقى في النار إلا أربعة. ثم يلتو: ﴿[لَمْ] نَكُ مِنَ المصلين﴾ إلى: ﴿... الدين﴾.
- ثم قال: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾.
فما لهؤلاء المشركين عن تذكرة الله إياهم بهذا القرآن معرضين لا يستعمون ولا يتعظون؟!
- ثم قال: ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ﴾.
أي: كأنهم في نفارهم عن القرآن حُمُرٌ مذعورة خائفة من الرماة [قد] نفرت. ومن قرأ ﴿مُّسْتَنفِرَةٌ﴾ - بالكسر - فمعناه نافرة، ومن فتح
والقسورة مشتقة من القسر، وهي الغلبة.
- ثم قال: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً﴾.
- ﴿كَلاَّ﴾، أي: لا يكون ذلك.
قال قتادة: قال قائلون من الناس: يا محمد، إن سَرَّكَ أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان (يؤمر) فيه باتباعك.
وقال مجاهد: يريدون أن ينزل عليهم كتاباً إلى فلان من رب العالمين. وقيل: المعنى: بل يريد كل إنسان منهم أن يذكر بذكر جميل، فجعلت الصحف في موضع الذكر على المجاز.
وقيل: قالوا: إن كان الإنسان إذا أذنب كتب عليه، فما بالنا لا نؤتى ذلك؟!.
- ثم قال: ﴿بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة﴾.
أي: لكنهم لا يخافون عقاب الله، ولا يرجون ثوابه، فذلك الذي دعاهم إلى الإعراض عن تذكرة الله، وهَوَّنَ عليهم ترك الأستماع لوحي الله وتنزيله. قال قتادة: " إنما أفسدهمه أنهم كانوا لا يصدقون بالآخرة، ولا يخافونها ".
أي: ليس الأمر كما يقول هؤلاء المشركون في القرآن: إنه سحر يؤثر وإنه قول البشر، ولكنه تذكرة من الله خلقه.
- ثم قال: ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾.
أي: فمن شاء من عباد الله - الذين ذكرهم بهذا القرآن - ذكره فاتعظ به [واستعمل] ما فيه. (ويحسن أن يكون ﴿كَلاَّ﴾ في هذين الموضعين بمعنى " أَلاَ " فيبتدأ بها)، ويحسن أن يكونا بمعنى " حقاً ".
- ثم قال: ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله هُوَ.
..﴾.
أي: وما تذكرون هذا القرآن فتتعظون به [وتستعملون] ما فيه إلا أن يشاء الله ذلك، لأنه لا أحد يقدر على شيء إلا بمشيئة الله وبقدرته. والتاء في
- ثم قال: ﴿هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة﴾.
أي: الله أهل أن يَتَّقِي عبادُه عقوبتَه/ على معصيته إياه فيسارعوا إلى طاعته واجتناب معصيته، والله أهل أن يغفر لمن تاب من ذنوبه وسارع إلى طاعته (ونزع) عن معصيته.
روى أنس " أن النبي ﷺ قال في قوله: ﴿هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة﴾، قال: " يَقُولُ رَبُكُمْ. أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى أَنْ يُجْعَلَ مَعِي إِلَهٌ غَيْرِي، وَمَنْ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِي إِلَهاً (غَيْرِي) فَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ ".
وسئل طلق من حبيب عن التقوى فقال: أعمل بطاعة الله ابتغاء وجه الكله على نور من الله، وتجنب معصيته الله مخافة عذاب الله على نور من الله.
وروى أنس " أن النبي ﷺ سئل عن هذه الآية: ﴿هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة﴾ فقل: " إِنَّ اللهَ يقول: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى فَلاَ يُجْعَلَ مَعِي شَرِيكٌ. وَأَنَا أَهْلُ المَغْفِرَةُ لِمَنْ لَمْ يَجْعَلْ مَعِي شَرِيكاً ".
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: وهذا الحديث خير من الدنيا وما فيها، [وهو] من رواية ابن عباس، حديث صحيح.