سورة يس
مكية٢.
٢ هي كذلك في الجامع البيان ٢٢/١٤٨ وتفسير ابن كثير ٣/٥٦٤، والدر المنثور ٧/٣٧، والبرهان للزركشي ١/١٩٣. والمحرر الوجيز ١٣/١٨٥، وكذلك الجامع للقرطبي ١٥/١ "إن هذه السورة مكية بإجماع إلا أن فرقة قالت: إن قوله: ﴿ونكتب ما قدموا وما آثارهم﴾ نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى قرب مسجد رسول الله "إلا أن أبا حيان في البحر المحيط ٧/٣٢٢ يرد هذا القول ويعتبره زعما باطلا..
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يسمكية
قوله تعالى (ذكره): ﴿يس * والقرآن الحكيم﴾ إلى قوله: ﴿فَهُم مُّقْمَحُونَ﴾.
قال ابن أبي ليلى: لكل شيء قلب وقلب القرآن يس، من قرأها نهاراً كُفِي همه، ومن قرأها ليلاً كُفِي ذنبه.
وقال شهر بن حوشب: يقرأ أهل الجنة وطه ويس فقط.
قرأ عيسى بن عمر: " يَاسِينَ " بفتح النون، جعله مبنياً على الفتح، ويجوز أن يكون فتح لالتقاء السكانين، وأراد به الوصل واختار الفتح، كما قالوا: كيف وأين.
وأجاز سيبويه أن يكون مفعولاً به على معنى: اقرأ ياسين، أو: اذكر ياسين. لكنه لم ينصرف لأنه اسم للسورة، فهو اسم أعجمي عنده كهابيل.
قال ابن عباس: " يس " قسم أقسم الله به وهو من أسمائه تعالى ذكره.
وعنه أيضاً: " يس " يا إنسان يريد محمداً ﷺ.
وروى عكرمة عنه: " يس ": يا إنسان بالحبشية.
وقال مجاهد: " يس " مفتاح كلام افتتح الله جل ذكره به كلامه.
وقال قتادة: (كل هجاء) في القرآن فهو اسم من أسماء القرآن.
وقوله: ﴿والقرآن الحكيم﴾ قسم، والحكيم: المحكم آياته.
﴿إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾ جواب القسم، (أي) لمن المرسلين بوحي الله إلى عباده.
﴿على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي: على طريق لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام، قاله قتادة.
وقيل: على طريق الأنبياء قبلك.
والوقف على ﴿يس﴾ جائز إذا جعلته اسماً للسورة، أو تنبيهاً.
و (قد) أجازه أبو حاتم. وهو غلط.
ثم قال (تعالى): ﴿تَنزِيلَ العزيز الرحيم﴾ من رفعه جعله خبراً ثانياً لإنَّ. ويجوز رفعه على إضمار مبتدأ، أي: هذا القرآن تنزيل المنيع بسلطانه وقدرته، الشديد في انقامه ممن كفر به الرحيم بخلقه.
ومن نصب " تنزيل " فعلى المصدر، أي: نزله تنزيلاً.
ويجوز أن يتعلق بالمرسلين، أي: إنك لمن المرسلين لتنذر.
(والمعنى لتنذر) يا محمد قوماً لم يُنْذَر آباؤُهم من قبلهم، قاله قتادة فما جحد.
وقال عكرمة: قد أُنْذِرَ آباؤهم. فتكون " ما " والفعل مصدراً [أي إنذاراً مثل إنذار آبائهم. ويجوز أن تكون " ما " بمعنى الذي على هذا القول]، أي لتنذر قوماً الذي أُنْذِرَ آباؤهم، أي: الذي أُنْذِرُوا.
﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ أي: غافلون عن دين الله وما لله صانع بهم إن ماتوا
وهذا يدل على أن (ما) نافية، لأنهم لو كان آباؤهم أنذِروا لم يكونوا غافلين. ويدل على ذلك أيضاً قوله (تعالى): ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ﴾ [سبأ: ٤٤].
ثم قال: ﴿لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ﴾ أي: وجب عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون.
وقيل: معناه: وجب (عليهم العذاب)، كما قال: ﴿ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين﴾ [الزمر: ٧١].
وهذا إثبات للقدر، وأن الأمر كله قدره الله وفرغ منه، فحق وقوعه على ما قدره وعلمه.
وكذلك: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً﴾ [يس: ٩] الآية. كله يدل على أن القدر قد سبق في علم الله، يضل من يشاء فَيَخْذِلُهُ، ويهدي من يشاء فيوفقه.
وقيل: ذلك يوم القيامة إذا دخلوا النار.
فجعل (بمعنى يجعل).
قال الطبري: التقدير: إن جعلنا أيمان هؤلاء الكفار مغلولة إلى أعناقهم بالأغلال فلا تنبسط لشيء (من) الخير.
وفي قراءة ابن/عباس وابن مسعود: ((إنَّا جَعَلْنَا) فِي أَيْمَانِهِمْ أَغْلالاً)
والكناية في (فهي) ترجع إلى الإيمان، (لأن) الكلام دل على الأيمان، لأن الغل لا يكون في العنق دون اليد ولا في اليد دون (العنق).
فالمعنى: فالأيدي إلى الأذقان. والذَّقْنُ مُجْتَمَعُ اللِّحْيَيْنِ. ثم قال: ﴿فَهُم مُّقْمَحُونَ﴾.
قال مجاهد: رافعوا رؤوسهم [و] أيديهم على أفواههم.
وقال قتادة: ﴿مُّقْمَحُونَ﴾ مغللون عن كل خير.
(و) قال أبو عبيدة: (هو الذي) يحدث وهو رافع رأسه.
وقيل: المقمح: الرافع رأسه لمكروه نزل به.
وأراهم علي بن أبي طالب الإقماح فجعل يديه تحت لحييه وألقصهما ورفع رأسه.
(وحكى) الأصمعي: أكْمَحْتَ الدابة إذا أَخَذْتَ لجامها لترفع رأسها/ والكاف بدل من القاف وقالوا: (الكانونين) شَهْرَا قِمَاحٍ لرفع الإبل فيهما رؤوسها عند الماء لبرده.
قوله (تعالى ذكره): ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً﴾ إلى قوله ﴿قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ قد تقدم ذكر السَّدِّ والسُّدِّ في الكهف، والمعنى: جعلنا من بين أيدي هؤلاء الكفار حاجزاً ومن خلفهم حاجزاً.
وروي عن ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر: " فَأَعْشَيْنَاهُمْ "، بالعين غر معجمة من عَشَى العين.
قال الطبري في " سُدّاً ": من فتح كان من فعل بني آدم، وإذا كان من فعل الله كان بالضم.
وقيل: معناه أنهم زين لهم سوء أعمالهم فهم يعمهون فلا يبصرون شيئاً.
قال مجاهد: سداً عن الحق فهم يترددون.
وقال ابن زيد: جعل هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان فهم لا يخلصون
وقيل: هو تمثيل، والمعنى: أنه تعالى منعهم من الهدى بالضلال فلم ينتفعوا بالإنذار.
قال ابن إسحاق: جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأمية من خلف يترصدون النبي ﷺ ليبلغوا من أذاه، فخرج عليهم فقرأ أول ﴿يس﴾ وفي يده تراب فرماهم به، وقرأ: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً﴾ إلى رأس العشر، فأطرقوا حتى مر رسول الله ﷺ.
وقال ابن عباس: أقسم أبو جهل لئن رأيت محمداً يصلي لأدمغنه، فأخذ حجراً
قال عكرمة: كانوا يقولون: هذا محمد، فيقول أبو جهل: أين هو؟ أين هو؟ لا يبصره.
ثم قال: ﴿وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ﴾ أي: الإنذار وتركه على هؤلاء الذين حق عليهم القول سواء، فيهم لا يؤمنون لما سبق لهم في أم الكتاب، وهو قوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس﴾ [الأعراف: ١٧٩].
قال ابن عباس: ما آمن منهم أحد، يريد من القوم الذين تقدم ذكرهم.
ثم قال: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر﴾ أي: من آمن بالقرآن.
﴿وَخشِيَ الرحمن بالغيب﴾ أي: وخاف الله حين يغيب عن أبصار الناس لأن
ويجوز أن يكون المعنى: وخاف الله من أجل ما أتاه من الأخبار التي غابت عنه فلم يعاينها، ولكنه صدقها فخاف من عواقبها، فهو مثل قوله: ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾ [البقرة: ٣].
ثم قال: ﴿فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ﴾ أي: بستر من الله لذنوبه إذا اتبع الذكر وخاف الله.
﴿وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ أي: وثواب في الآخرة حسن، وذلك الجنة.
ثم قال: (تعالى ذكره: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى﴾ يعني في الآخرة للنشور.
﴿وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ﴾ أي: من أعمالهم في الخير والشر. وتقديره: ونكتب ذكر ما قدموا.
﴿وَآثَارَهُمْ﴾ أي: ما أخروا بعدهم من الأعمال والسنن التي يتبعون عليها (ويقتدى بهم فيها). فهو ما أبقى الرجل بعده من عمل يجري عليه ثوابه أو إثمه.
وروي أن هذه الآية نزلت في قوم أرادوا أن يقربوا من مسجد رسول الله ﷺ ليقرب عليهم. فيكون المعنى: ونكتب ثواب خطاهم ومشيهم إلى المسجد على بعد مساكنهم وقربها.
قال ابن عباس: كانت (منازل) الأنصار متباعدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فنزلت ﴿وَنَكْتُبُ مَاَ (قَدَّمُواْ) وَآثَارَهُمْ﴾ فقالوا: نثبت مكاننا.
وقال جابر: أَرَادَ بَنُوا سَلِمَة قُرْبَ المَسْجِدِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: " يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَّارَكُمْ إِنَّهَا تُثْبِتُ آثَارُكُمْ ".
وقال مجاهد (والحسن) وقتادة: آثارهم خطاهم.
قال جابر بن عبد الله: " هَمَمْنَا أَنْ نَنْتَقِلَ إِلَى قُرْبِ المَسْجِدِ، واسْتَشَرْنَا رَسُولَ الله
وروى جابر " أنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فقال: يَا رَسُولَ الله أَرَدْنَا نَتَحَوَّلَ إِلَى قُرْبِ المَسَجِدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: " لا تَفْعَلُوا فَإِنَّ بِكُلِّ خُطْوَةٍ (حَسَنَةً) ".
وروى عقبة بن عامر عن النبي أنه قال: " يُكْتَبُ لَهُ بِرِجْلٍ حَسَنَةً وَيُحَطُّ عَنْهُ بِرِجْلٍ سَيِّئَةً/، ذَاهِباً وَرَاجِعاً إِذَا خَرَجَ إِلَى المَسْجِد ".
ثم قال (تعالى): ﴿وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ أي: ما كان وما هو كائن
ثم قال (تعالى): ﴿واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية إِذْ جَآءَهَا المرسلون﴾ أي: اذكر لهم يا محمد مثلاً لهم مثلاً.
يقال هذا من ضرب هذا، أي: من أمثاله وجنسه.
أصحاب القرية بدل من مثل، والتقدير مثل أصحاب القرية.
قال عكرمة: هي أَنْطَاكِيَة.
وقاله الزهري.
قال قتادة: ذُكِرَ لنا أن عيسى بن مريم عليهما السلام بعث رجلين من الحواريين إلى أنْطاكِيَة مدينة الروم فكذبوهما، فقواهما الله بثالث فكذبوهم.
وقال وهب بن منبه: كان بمدينة أنطاكية فرعون من الفراعنة يعبد الأصنام، يقال له: أنطيخس بن أنطيخس، فبعث الله (إليه) المرسلين وهم ثلاثة صَادِقٌ وصَدُوقٌ وَشَلُومٌ، فقدم الله إليه وإلى أهل مدينته اثنين منهم فكذبوهما، وهو قوله: ﴿قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ أي: لستم بملائكة، إنما أنتم بنو آدم مثلنا فلا نقبل منكم، ﴿وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ﴾ قالت الرسل: ﴿رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾.
(أي من عنده)، ﴿وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ البلاغ المبين﴾ أي: ليس يلزمنا إلا أن
وتأول الفراء: أن الثالث أرسل قبل الاثنين، وأنه شمعون ولو كان كما قال لكان القرآن: فعززنا بالثالث.
ومعنى: ﴿فَعَزَّزْنَا﴾ فقوينا وشددنا، وأصله من عَزَّنِي إذا غلبني، ومنه قوله: ﴿وَعَزَّنِي فِي الخطاب﴾ [ص: ٢٣]، أي غلبني.
ثم قال (تعالى): ﴿قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ﴾ أي: قالت لهم الرسل لما تشاءموا
وقيل: التقدير: قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم فمعكم طائركم، يقدره على التكرير، وهو مذهب بعض البصريين.
وقرئت ﴿أَئِن ذُكِّرْتُم﴾ بهمزتين مفتوحتين.
والمعنى: لأن ذُكِّرْتُم تطيرتم بنا فهو على ما مضى، وقراءة الجماعة على ما يأتي.
﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ أي: في المعاصي.
قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وعن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه: أن رجلاً من أهل أنطاكية، اسمه حبيب النجار، (كان) يعمل الجرير، وكان مقيماً (قد أسرع فيه) الجذام/، وكان منزله عند باب من أبواب المدينة (قاصياً)، وكان مؤمناً ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين، فيطعم نصفه عياله ويتصدق بنصفه فلم يهمه سقمه ولا عمله ولا ضعفه عن عمل ربه، فلما اجتمع قومه. يعني أهل أنطاكية - على قتل الرسل بلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم ويذكرهم الله ويدعوهم إلى اتباع المرسلين، فقال لهم ما قص الله علينا.
ويروى أنه كان نجاراً، وقيل: (إنه) كان حطاباً، لما بلغه أمر الرسل أتى مسرعاً بحزمته فآمن، وقال للناس: ﴿ياقوم اتبعوا المرسلين﴾.
ثم أقبل على المرسلين فقال: أتريدون مالاً نعطيكم، فقالو: لا، فأقبل على الناس يقول: ﴿اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ﴾ فقيل له: أَفأَنْتَ تتبعهم، فقال: ﴿وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي﴾، إلى قوله: ﴿ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾، ثم أقبل على المرسلين فقال لهم: ﴿إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ﴾ فتألب عليه الناس فقتلوه.
قال ابن عباس: هو حبيب النجار.
ويروى أنه لما سمع بخبر الرسل جاء يسعى فقال لهم: أتطلبون (على) ما جئتم به أجراً، قالوا: لا، فأقبل على قومه فقال: ﴿قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين﴾ إلى قوله:
قال قتادة: فرجمه قومه، فقال: اللهم اهد قومي، أحسبه قال: فإنهم لا يعلمون فقتلوه رجماً، فأدخله الله الجنة، فلم ينظر الله قومه حتى أهلكهم.
روي أن جبريل ﷺ وضع جناحاً في أقطارها فقبلها عليهم فبقوا خادمين ساكنين.
وعن كعب الأحبار أنه قال: الرسولان والذي جاء يسعى خُدَّ لهم أُخْدود وحرقوا بالنار فيه.
وأكثر الناس على أنس الرسل كانوا من حواريي عيسى عليه السلام، تنبأهم الله بعد/ عيسى، وأرسل منهم اثنين إلى أنطاكية فكذبوهما وضربوهما وحبسوهما،
وقد قيل: إن الثالث شمعون، (وهو) من أصحاب عيسى، وأنه أرسل قبل الاثنين إلى أنطاكية فكذبوه، وإلى ذلك ذهب الفراء.
قال كعب ووهب: وثبوا على الذي جاء يسعى وثبة رجل واحد فقتلوه. وقوله: ﴿وَهُمْ مُّهْتَدُونَ﴾ أي: على استقامة من الحق، فاهتدوا بهداهم.
ولا يحسن الوقف على " المرسلين " لأنَّ مَنْ بدل " من " المرسلين بإعادة الفعل.
وقوله: ﴿وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي﴾ (أي): وأَي شيء لي في ترك عبادة خالقي.
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي: تصيرون أيها القوم.
قال ابن إسحاق على روايته عن ابن عباس وكعب ووهب: فنادى قومه
أي: لا شفع لي آلهتكم عند ربي إذا عذبني على الكفكر ولا ينقذون من عذابه ولا تدفع عني ضراً ولا تجلب إليَّ نفعاً.
ثم قال: (تعالى): ﴿إني إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي: لفي جور عن الحق ظاهر، إن اتبعت آلهتكم وعبدتها من دون الله.
ثم قال: ﴿إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون﴾.
قال بن إسحاق: هذا مخاطبة لقومه.
والمعنى: أني آمنت بربكم الذي كفرتم به فاسمعوا قولي.
[وقيل بل خاطب بذلك الرسل قال لهم: اسمعوا قولي فاشهدوا لي] بما أقول
قال ابن مسعود وابن عباس وكعب ووهب: وثبوا عليه فرطؤوه بأقدامهم على سقمه ومرضه حتى مات.
ثم قال: ﴿قِيلَ ادخل الجنة قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين﴾ قال هذا بعد أن قتل.
وقوله: ﴿فاسمعون﴾ هو آخر قوله لقومه في الدنيا، وبه تم كلامه. ثم حكي الله عنه حاله في الآخرة وما قال وما قيل له بقوله: ﴿قِيلَ ادخل الجنة﴾.
وقد قيل: إنه إخبار من الله عما يقال له يوم القيامة وما يقول، (أي): فلما قتلوه قيل: له: ادخل، (فلما) دخلها وعاين ما أكرمه (الله به)، قال: يا ليت قومي يعملون بغفران ربي لي، وجعله إياي من المكرمين. (أي): فعل ذلك على إيماني،
قال النبي ﷺ: " نَصَحَ قَوْمَهُ حَيّاً وَمَيِّتاً ".
قال قتادة: فلما دخلها، قال ذلك، فلا تلقى المؤمن إلا ناصحاً.
(فما) والفعل مصدر، ويجوز أن تكون بمعنى الذي.
ثم قال (تعالى): ﴿وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء﴾ أي: من رسالة ولا نبي بعد قتله، قاله قتادة ومجاهد.
وعن ابن مسعود: أن المعنى: أن الله غضب لقتله غضبه فعجل لهم النقمة بما استحلوا منه فلم يبعث إليهم جنوداً من السماء بعد قتله، وما كانت إلا صيحة واحدة فلم يبقَ منهم باقية قال قتادة: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله حتى
وقال بعض النظر: " ما: اسم في موضع خفض على " جند " على اللفظ، أو في موضع نصب عطف على موضع جند لأن " من " زائدة. وتقديره: وما أنزلنا على قومه من جند من السماء، وما كنا منزلين على الأمم الكافرة من نحو الحجارة والغرق والمسخ والريح وغير ذلك، إنما أخذتهم صيحة فهلكوا.
وقوله: ﴿إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ أي: ما كانت عقوبتهم على قتله إلا صيحة واحدة.
وقيل: التقدير: وما كانت هلكتهم إلا صيحة.
وقرأ أبو جعفر: برفع الصيحة الواحدة، على أنه اسم كان، والتقدير: أن
وقيل: التقدير: إن وقعت إلا صيحة.
ومنعه أبو حاتم لأجل التأنيث الذي في الفعل، وقال: لا يجوز: ما جاءتني إلا جاريتاك وإنما يقال: ما جاءني (لأن التقدير ما جاءني) أحد. وهذا الذي منع جائز على أن يكون التقدير: ما جاءتني امرأة إلا جاريتاك.
وقول أبي حاتم أولى لأنه نفي عام فلا يضمر إلا أحد.
وفي حرف ابن مسعود: " إِنْ كَانَتْ إِلاَّ زَقْيَةَ واحدة " بالرفع. (وزقية) في موضع صيحة.
والمعروف في اللغة: زقا يزقو زقوة: إذا صاح، ويُقْرَأُ به لأنه مخالف لخط
وقوله: ﴿فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ أي: هالكون وساكتون بمنزلة الرماد الخامد.
ثم قال (تعالى): ﴿ياحسرة عَلَى العباد﴾ أي: تعالي يا حسرة فهذا إبانك/ ووقتك يَتَحَسَّرُ بِكِ العباد على أنفسهم. هذا مذهب سيبويه. ونصبت لأنها نكرة.
وقال الطبري: معناه: يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندماً وتلهفاً في استهزائهم برسل الله.
وذُكِر أن بعض القراءات: " يا حسرة على العباد على أنفسها ".
روي عن قتادة: يا حسرة العباد على أنفسها ما ضيعت من أمر ربها وفرطت في
قال ابن عباس: " يا حسرة على العابد " معناه: يا ويلاً على العباد.
وقال أبو العالية: العباد هنا الرسل. والمعنى أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا: يا حسرة على العباد، أي: على الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إليهم، تحسروا عليهم أن يؤمنوا بهم.
ثم قال جل ذكره: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
وقال بعض أهل اللغة: (المعنى): يا لها حشرة على العباد. وحقيقة الحسرة أن يحلق الإنسان من الندم ما يصير به حسيراً، أي منقطعاً.
ثم قال (تعالى): ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون﴾ أجاز الفراء أن تكون
ولا يجوز هذا عند البصريين لأن " كم " استفهام، ولا يعمل فيها ما قبلها. والعامل فيه أهكلنا، وأنها عند سيبويه بدل من كم. ورد ذلك عليه المبرد، والتقدير عنده: بأنهم.
والمعنى: الم ير هؤلاء المشركون من قومك يا محمد كم أهلكنا قبلهم من القرون بتكذيبهم الرسل، فيخافوا أن ينزل بهم مثل ما أنزل بأولئك، أي: ألم يعلموا ذلك.
﴿لاَ يَرْجِعُونَ﴾: لا يعودون بعد موتهم وهلاكهم.
قوله (تعالى ذكره): ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ إلى كقوله: ﴿فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.
أي: الكل محضرون يوم القيامة.
و" ما " زائدة عند أبي عبيدة، والتقدير: وإن كل الجميع محضرون.
و" إِنْ " مخففة من الثقيلة، وكل مبتدأ، (والجميع) الخبر.
ويجوز/ أن يكون جميع بدلاً من ما، أو نعتاً لها، والتقدير: وإن كل لخلق أو لبشر جميع، وحسن كون " ما " لذلك لأن من يعقل وما لا يعقل أن يحضر يوم القيامة منه بهيمة وإنسان.
وأنكر الكسائي هذا.
وقال الفراء: المعنى لِمَنَ مَا جميع، ثم أدغم وحذفت إحدى الميمات تخفيفاً كما يقال: " عَلْمَاءِ بنو فلان). فيحذفون ويدغمون، والأصل: عَلَى المَاءِ.
ثم قال (تعالى): ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا﴾ أي: دلالة لهؤلاء المشركين على قدرة الله وتوحيده: إحياؤنا للأرض الميتة بالمطر، ﴿وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾.
ثم قال: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ أي: في الأرض التي أُحْيِيَتْ بالمطر، ﴿وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون﴾ أي: عيون الماء ليشربوا منها ويسقموا ثمارهم.
ومن فتح الثاء جعله جمع ثَمَرَةٍ وثَمَرٍ كَخَشَبَةٍ وَخَشَبٍ.
ومن ضم جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثماراً على ثُمُرٍ كحمار وحُمُرٍ، ويجوز أن يكومن جمع ثمرة أيضاً كخشبة وخشب.
وقوله (تعالى): ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ أي: ومن ثمر الذي عملته أيديهم، يعني الذي غرسوا وزرعوا.
ويجوز أن تكون " ما " نافية، أي لم يعمل ذلك الذي أحياه المطر أيديهم.
ومن أثبتها جعلها بمعنى الذي لا غير.
﴿أَفَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ أي: يشكر هؤلاء على هذه النعم.
ثم قال (تعالى): ﴿سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا﴾ (أي): تنزيهاً وتبرئة لله جل ذكره مما يضيف إليه هؤلاء المشركون من الشركاْ، وهو الذي خلق الألوان كلها والأجناس كلها من نبات الأرض.
﴿وَمِنْ أَنفُسِهِمْ﴾، أي: وخلق من أولادهم ذكوراً وإناثاً.
﴿وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي: وخلق أجناساً من الأشياء التي لم يطلعهم الله عليها.
ثم قال (تعالى): ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار﴾، أي: وعلامة أيضاً لهم على قدرة الله وتوحيده: الليل ينزع منه ضياء النهار.
﴿فانسلخ مِنْهَا﴾ [الأعراف: ١٧٥] أي/: عنها وتركها.
وقوله: ﴿فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ﴾ أي: صاروا في ظلمة.
وقال قتادة: معناه: يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل.
وهذا بعيد في التأويل ليس هذا موضعه ولا يدل عليه الكلام. وحقيقة سلخت: أزلت الشيء من الشيء وخلصته منه حتى لم يبق منه شيء.
ثم قال: ﴿والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا﴾ أي: لموضع قرارها.
قال القتبي: مستقرها أقصى منازلها في الغروب لا تتجاوزه، يعني إلى أبعد مغاربها ثم ترجع.
وروى أبو ذر أن النبي ﷺ قال: " عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَا أَبَا ذَرّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ؟ فقلت: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ، إِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهَا جَلَّ ثَنَاؤُهْ ثُمَّ تَسْتَأْذِنُ بِالرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّها قَدْ قِيْلَ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ،
وروى أبو ذر أيضاً قال: " سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ قَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا﴾ فقال: مستقرها تحت العرش ".
قال قتادة: لمستقرها وقت واحد لا تعدوه.
وقيل: المعنى: (إنها) تجري إلى أبعد منازلها في الغروب ثم ترجع فلا تتجاوزه، وذلك أنها لا يتزال تتقدم كل ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مطالعها ثم ترجع.
وعن أبي ذر قال: " قُلْتُ (يا) رَسُولَ الله ﴿والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ/ لَّهَا﴾ قَالَ: بَيْنَ يَدَيْ العَرْشِ ".
ثم قال: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم﴾ أي: هذا الذي تجري عليه الشمس من التقدير، هو تقدير العزيز في انتقامه العليم بمصالح خلقه.
ثم قال (تعالى): ﴿والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ [أي: وآية لهم القمر قدرناه منازل.
وقيل: التقدير: قدرنا له منازل، ثم حذفت اللام واتصل الضمير، كمنزلة: " كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ " [المطففين: ٣]، والمعنى: قدرناه منازل في النقص والزيادة
﴿حتى عَادَ كالعرجون﴾ أي: في النقص كالعذق اليابس من القدم لأن العذق كلما قدم يبس وتقوس وانحنى، ولا يوجد مستوياً أبداً لا أخضر ولا يابس، فكذلك القمر في آخر الشهر ينقص ويتقوس وينحني. هذا قول ابن عباس وقتادة والحسن وغيرهم.
والعِذق بكسر العين هو الكِبَاسَة والقنو. وأهل مصر يسمونه
والعَذَقُ بفتح العين هو النخلة.
ثم قال (تعالى): ﴿لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر﴾ أي: لا ينبغي ولا يمكن للشمس أن تدرك القمر فيذهب ضوؤه بضوئها (فتكون الأوقات كلها نهاراً.
﴿وَلاَ اليل سَابِقُ النهار﴾ أي: ليس يفوته بظلمته). فتكون الأوقات كلها مظلمة ليلاً. وفي هذا - لو كان - إبطال التدبير الذي بنيت عليه الدنيا، ألا ترى أن الدنيا إذا ذهبت، وزال تدبير الشمس والقمر جمع بينهما. قال الله جل ذكره في حال يوم القيامة: ﴿وَجُمِعَ الشمس والقمر﴾ [القيامة: ٩]، ففي جمعهما زوال تدبير الدنيا بنهار بعد ليل وليل بعد نهار، فليس في الآخرة ليل يدخل على النهار، ولا شمس ولا قمر، وذلك تدبير أخر، تبارك الله أحسن الخالقين.
قال الضحاك: معناه: إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم
قال قتادة: لِكُلِّ (حد) وعلم لا يعدوه ولا يقصر دونه، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا.
وعن ابن عباس في الآية: إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر، وإذا غابا غاب أحدهما بين يدي الآخر.
وقيل: المعنى: إن القمر في السماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة فلا يدرك أحدهما الآخر.
وقيل: المعنى: إن سير القمر سير سريع، والشمس سيرها بطيء فهي لا تدركه.
وَسُئِلَ ابن عمر، فقيل له: ما بال الشمس تصلانا أحياناً، وتبرد أحياناً؟ فقال: أما في الشتاء فهي في السماء السابعة تحت عرش الرحمن، وأما في الصيف فهي في السماء الخامسة، قيل له: ما كنا نظن إلا أنها في هذه السماء، قال: لو كانت كذلك ما قام لها
وقوله: ﴿وَلاَ اليل سَابِقُ النهار﴾. استدل به بعض العلماء على أن النهار مخلوق قبل الليل، وأن الليل لم يسبقه بالخلق.
وقيل: المعنى: إن كل واحد/ منهما يجيء في وقته ولا يسبق صاحبه.
ثم قال: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (أي): وكل ما ذكرنا من الشمس والقمر والليل والنهار في فلك يجرون.
قال ابن عباس: في فَلَكٍ كَفَلَكِ المغزل. وجاء يسبحون بالواو لأنه لما أخبر عنهن بلفظ من يعقل أجرى ضميرهم مجرى ضمير من يعقل ولم يقل يسبحن، ولو قيل لَحَسُنَ، ولكن جاء على هذا المعنى.
قوله (تعالى ذكره): ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ (فِي الفلك)﴾ إلى قوله: ﴿إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾.
وقد قيل: إن المعنى: وآية لأهل مكة أنا حملنا أولادهم وضعفاءهم ومن لا يقدر على المشي في السفينة في البحر. فالضميران متفقان، والفلك في القول الأول سفينة نوح واحد في المعنى.
وقيل: المعنى: إن الآباء يسمون ذرية. فالمعنى: وآية لأهل مكة أنا حملنا آباءهم في الفلك المشحون، وهي سفينة نوح. وإنما جاز ذلك لأن الذرية مِنْ: ذَرَأَ الله الخلق. (فسمي الولد/ ذريه لأنه ذري من الأب، ويسمى الأب ذرية لأن الابن ذري منه. فكما جاز أن يقال للابن ذرية لأبيه) لأنه ذري منه، فكذلك يجوز أن يقال للأب ذرية للابن لأن ابنه ذري منه.
فالمراد بها سفينة نوح، ويراد بها في القول الثاني: سفينة من السفن، وهي المَرْكَبُ، فيجوز أن يكون واحداً وجمعاً، فإذا كان جمعاً فواحده فَلَكٌ كُوَثَنٍ وَوُثْنٍ.
وقيل: الممتلئ، قاله ابن عباس.
ثم قال (تعالى): ﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾.
قال ابن عباس: هي السفن الصغار، ودل على ذلك: ﴿وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾.
وقال الضحاك: يعني السفن التي أتُّخِذَتْ بعد سفينة نوح.
وقاله قتادة وابن زيد وأبو صالح وغيرهم.
وعن ابن عباس: أنها الابل، قال: فالإبل سفن البر.
وقال مجاهد: يعني الأنعام.
وقال الحسن أيضاً: هي الإبل.
﴿فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ﴾ أي: لا مغيث لهم إذا نحن أغرقناهم.
﴿وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ﴾ أي: ينجون من الغرق.
وصريخ بمعنى مُصرخ: أي مغيث. يقال صرخ الرجل إذا صاح، وأصرخ إذا أغاث وأعان، فهو مُصْرِخ والأول صارخ.
ثم قال تعالى: ﴿إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا﴾.
فنصب " رحمة " عند الزجاج لأنه مفعول من أجله.
وهي عند الكسائي نصب على الاستثناء.
والمعنى: ولا هم ينقذون إلا الأجل الرحمة والإمتاع بالحياة إلى وقت، هذا
قال قتادة: ﴿إلى حِينٍ﴾ إلى الموت.
ثم قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ [وَمَا خَلْفَكُمْ﴾ أي: إذا قيل لهؤلاء المشركين من قومكم يا محمد اتقوا ما بين أيديكم]، أي: احذروا ما تقدم قبلكم من نقسم الله في الأمم الماضية بكفرهم وتكذيبهم الرسل أن يحل بكم مثل ذلك. ﴿وَمَا خَلْفَكُمْ﴾ أي: وما أنتم لا قُوهُ من عذاب الله تعالى إن هلكتم على كفركم وتكذيبكم.
﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي لتكونوا على رجاء من الرحمة. هذا قول سيبويه، وقال الطبري: معناه: ليرحمكم ربكم.
قال قتادة: " ما بين أيديكم ": وقائع الله جل ذكره فيمن خلا من الأمم، " وما
وقال مجاهد: ما بين أيديهم، ما مضى من ذنوبهم، وما خلفهم: (قال): ذنوبهم لتي (هم) عاملوها.
وقال ابن جبير: " ما بين أيديكم " الآخرة. وما خلفكم ": الدنيا.
وجواب إذا محذوف، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أَعرضوا.
ثم قال (تعالى): ﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ أي: ما يأتي هؤلاء المشركين من حجة من حجج إلا أعرضوا عنها لا يفكرون ولا يتدبرون.
ثم قال (تعالى): ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ أي: أَدُّوا زكاته لأهل الضعف منكم.
﴿قَالَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي: كفروا بالله ورسوله ﴿لِلَّذِينَ آمنوا﴾ بهما.
وقوله: ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ يجوز أن يكون من قول الكفار للمؤمنين.
ويجوز أن يكون من قول الله جل ذكره (وثناؤه) للمشركين الذين قالوا: ﴿أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ﴾.
قال الحسن: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ﴾ هم اليهود.
[ثم قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ متى هَذَا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي: متعى نبعث ونعذب، استعجالاً بالعذاب وتكذيباً للبعث، يقوله المشركون للمؤمنين وللنبي ﷺ].
ثم قال (تعالى ذكره): ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً﴾ أي: ما ينتظر هؤلاء المشركون الذين يستعجلون وعيد الله إلا صيحة واحدة، وذلك نفخة الفزع عند قيام الساعة، وهي النفخة الأولى تأخذهم وهم في بيعهم وشرائهم.
﴿فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ أي: لا يقدرون أن يوصوا ولا يرجعوا إلى أهلهم.
وقوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصور﴾ قيل: هي النفخة الثالثة، وقيل: هي الثانية يقوم بها
وقيل: هي ثلاث نفخات، و (قد) ذكرناها في غير موضع من كتابنا هذا، روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " إن الله جل ثناؤه لما فَرَغَ من خَلْقِ السماوات والأرض خَلَقَ الصُوْرَ فأعطاه إسْرَافِيلَ، فهو واضعه على فِيهِ شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلَى العَرْشِ ينتظر متى يُؤْمَرُ ".
قال أبو هريرة: " يا رسول الله، وما الصّور؟ قال: قَرْنُ. قال: وكَيْفَ هو؟ قال: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فيه ثلاثُ نَفَخَاتٍ، الأُولى: نَفْخَةُ الفَزَعِ، والثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، والثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِيَّامِ لِرَبِّ العَالَمِينَ جَلَّ ذِكْرُهُ، وَيَأْمُرُ الله إسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الأُوْلَى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلُ الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ الله، وَيَأْمُرُهُ
قال قتادة: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ (الله) ﷺ كَانَ يَقُولُ: " تَهِيجُ السَّاعَةُ بِالنَّاسِ وَالرَّجُلُ يَسْقِي مَا شِيَّتَهُ، وَالرَجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ، والرَّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي سُوقِهِ،
قال عبد الله بن عمر: وَلَيُنْفَخَنَّ في الصّورِ، والنَّاسُ فِي طُرُقِهِمْ وأَسْوَاقِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ، (و) حَتَّى إِنَّ الثُّوْبَ لَيَكُونَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يَتَسَاوَمَانِ فما يُرْسِلُهُ أَحَدُهُمَا مِنْ يَدِهِ حَتَّى يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَهِي التِي قَالَ الله تعالى:
﴿ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ الآية.
ومعنى قوله: ﴿وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي: لا يرجعون إلى أهلهم بعد موتهم أبداً.
وقيل: لا يرجعنن من أسواقهم إلى أهلهم، يموتون مكانهم، وهو اختيار الطبري.
وهو قول قتادة.
ومعنى ﴿فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ أي: لا يمهلون حتى يوصوا بما في أيديهم.
ثم قال (تعالى): ﴿وَنُفِخَ فِي الصور فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾.
قال قتادة: الصور هنا جمع صُورَةٍ، أي: نَفَخَ في الصُّوَرِ الأَرْوَاحَ.
وهو قول أبي عبيدة كَبُسْرَةٍ وَبُسْرٍ.
وقرأ ابن هرمز " في الصُّوَرِ " جعله كظُلْمَةِ وَظلْمٍ.
وقيل: هو القرن على ما تقدم. وهذه النفخة هي الثالثة، وهي نفخة البعث.
ومعنى: ﴿يَنسِلُونَ﴾: يخرجون سراعاً. والنَّسَلاَنُ: الإسراع في المشي.
وقال الحسن في الآية: وثب القوم من قبورهم لمَّا سمعوا الصرخة ينفضون التراب عن رؤوسهم يقول المؤمنون: سبحانك ويحمدك وما عبدناك حق عبادتك.
قال وهب بن منبه: (يبلون) في قبورهم، فإذا سمعوا الصرخة عادت الأرواح إلى الأبدان، والمفاصل بعضها إلى بعض، فإذا سمعوا النفخة الثانية، وثب القوم قياماً على أرجلهم ينفضون التراب عن رؤوسهم.
(قوله تعالى ذكره): ﴿قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا﴾ إلى/ قوله: ﴿بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.
أي: يقول ذكل المشركون إذا نُفِخَ في الصَّورِ نفخة البعث.
قال مجاهد: يهجع الكفار قبل يوم القيامة هجعة يذوقون فيها النوم، فإذا قامت القيامة قالوا: ﴿قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا﴾.
ثم قال: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن﴾.
قال قتادة: قال لهم أهل الهدى: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون﴾.
وقال مجاهد: قال ذللك لهم المؤمنون (المرسلون).
وقال ابن زيد: هو من قول بعضهم لبعض، صدقوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به من البعث بعد الموت.
وقال الفراء: هو من قول الملائكة لهم.
وهذا القول موافق لقول قتادة، لأن الملائكة أهل هدى. وكذلك يتأول قوله:
وكذلك الحديث: " المُؤْمِنُ عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَا خَلَقَ " وهو قول القتبي.
والوقف على " مَرْقَدِنَا " إجماع إلا ما حكى أحمد بن جعفر أنه يوقف على " هذا "، ثم يتبدئ: ﴿مَا وَعَدَ الرحمن﴾، أي: بعثكم ما وعد الرحمن.
وقرأ ابن عباس: " مِنْ بَعْثِنَا " بكسر الميم وخفض البعث.
فالوقف على ﴿ياويلنا﴾ جائز إلا على هذه القراءة لأن من متعلقة بما قبلها.
ثم قال (تعالى): ﴿فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾ لا يُنْقَصُ من أجرها ولا يُحْمَل عليها وزر غيرها.
﴿وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ولا تكافؤون إلا مكافأة أعمالكم في الدنيا.
ثم قال (تعالى): ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ﴾.
قال مجاهد: شغلهم افتضاض (الأبكار).
[وقال ابن مسعود: افتضاض العذارى].
وهو قول ابن المسيب.
وقيل: " فِي شُغْلٍ " في نعمة.
وقيل: في شغل عما فيه أهل النار.
والشُّغْلُ والشُّغُلُ لغتان كالبُخْلُ والبُخُلُ.
وقرأ أبو جعفر: (فَكِهُونَ).
وهو عند الفراء مثل فاكهين في المعنى كَحَذِرٍ وحَاذِرٍ.
وقال أبو زيد: رجل فَكِهٌ إذا كان طيب النفس ضَحُوكاً.
قال ابن عباس: " فاكهون " فرحون.
وقال بعض أهل اللغة: الفاكه الكثير الفاكهة، وكذلك تَامِرٌ وَلاَ حِمٌ وَشَاحِمٌ إذا كثر ذلك عنده.
وقرأ طلحة بن مُصَرِّف: " فَاكِهِينَ " بالنصب على الحال، وجعل في شغل الخير.
ثم قال: ﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ﴾ يعني أزواجهم من أهل.
وظلال جمع ظُلُةٍ كقُلَّةٍ وَقِلاَلٍ، ويجوز أن يكون جمع ظِل.
ومن قرأ " ظُلَلٍ " جعله أيضاً جمع ظُلَّة. كغُرفة وغُرَف، وظلْمَةٍ وظُلَمٍ، وَحُلَّةٍ وَحُلَلٍ.
وقيلأ: (كل) فراش أريكة.
والقول الأول هو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة.
قال أبو إسحاق: ﴿الأرآئك﴾ الفرش في الحجال، (وقيل الفرش)، وقيل: الأسرة. واختار أن تكون الفرش كانت في حجال أو فيغير حجال.
وقيل: الأرائك أسرة الذهب مكللة بالزَّبَرْجَدِ والدُّرِّ واليَاقُوتِ.
والأريكة الواحدة مثل ما بين صَنْعَاءَ إلى أَيْلَةَ، وليس في الجنة نوم، إنما هو
ثم قال: ﴿لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ﴾ أي: يتمنون، ويدعون: يفتعلون من دعا، و " ما " في موضع رفع بالابتداء، و " لهم " الخبر.
ثم قال: ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ سلام بدل من " ما "، ومعناه: ولهم أن يسلم الله عليهم، وذلك غاية أمنيتهم.
ويجوز أن تكون " ما " نكرة، " وسلام " نعت لها، بمعنى مسلم لهم.
ويجوز أن يكون " سلام " خبراً عن " ما ".
وفي حرف ابن مسعود: " سَلاَماً "، نصب على المصدر أو في موضع الحال بمعنى مسلماً لهم. " وقولاً " مصدر، أي: يقولونه قولاً يوم القيامة، أو يقوله الله لهم قولاً.
وأجاز أبو حاتم الوقف على: " سلام " وهو لا يجوز، لأن الجملة التي قبل قَوْلٍ عملت فيه فقامت مقام العامل.
ثم قال (تعالى) " ﴿وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون﴾ (أي): اعتزلوا وانفردوا
قال قتادة: عزلوا عن كل خير.
وروى محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: " إذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أَمَرَ الله جَلَّ ذِكرُهُ جَهَنّمَ، فَيَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ سَاطِعٌ مُظْلِمٌ، ثُمَّ يَقُولُ/: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابنيءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً﴾ إلى قوله: ﴿كُنتُمْ] تُوعَدُونَ﴾ ثم يقول: ﴿وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون﴾، فَيَتَميَّزُ النَّاسُ ويَحْثُونَ، وهو قوله (تعالى ذكره):
﴿وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ (كُلُّ أُمَّةٍ) ﴿تدعى إلى كِتَابِهَا﴾ [الجاثية: ٢٨].
وقوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ أي: (ثم قال): ألم أوصيكم وآمركم في الدنيا ألا تطعيوا الشيطان في المعاصي، وأعلمتكم أنه لكم عدو مبين، وأنه أخرج أبويكم من
ثم قال: ﴿وَأَنِ اعبدوني﴾ أي: ألم أعهد إليكم أن اعبدوني وأخلصوا العبادة لي.
﴿هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ أي: عبادتكم إياي خالصاً هو الصراط المستقيم.
ثم قال (تعالى): ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً﴾ أي: أضل الشيطان منكم خلقاً كثيراً فأطاعوه، وجِبِلاًّ بكسر الجيم، والتشديد جمع جِبِلَّة.
و (من) قرأ بضم الجيم والباء والتخفيف جعله جمع جَبِيلٍ كَسَبِيلٍ وَسُبُلٍ.
وَجَبِيلٍ معدول عن مَجْبُولٍ كَجَريحٍ بمعنى مَجْرُوحٍ.
وكذلك قراءة من أسكن الباء وضم الجيم وخفف، إنما أراد الضم ولكن أسكن استخفافاً.
ثم قال: ﴿هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ أي: في الدنيا، فتكذبون (بها). (و) جهنم أول باب من أبواب النار.
ثم قال: ﴿اصلوها اليوم﴾ (أي): احترقوا فيها، وَرَدُوهَا جزاء بكفرهم في الدنيا بها وبالله ورسله.
قوله (تعالى ذكره): ﴿اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ﴾ إلى آخر السورة.
أي: نطيع (على) أفواه المشركين.
﴿وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي: بما عملوا في الدنيا.
﴿وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ﴾ أي: بما سعت فيه من المعاصي.
روي أن الذي ينطبق (من) أرجلهم أفخاذهم من الرجل اليسرى.
وعن النبي ﷺ أنه قال: " أَوَّلُ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُ مِنَ الإنْسَانِ يَوْمَ يُخْتَمُ عَلَى الأَفْوَاهِ فَخِذُهُ مِنْ رِجْلِهِ اليُسْرَى "، رواه عقبة بن عامر عنه.
ثم قال (تعالى): ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ﴾ أي: لأعميناهم عن الهدى فلا
وقال الحسن: (معناه): لو شاء لتركهم عمياً يترددون.
وكذلك قال قتادة.
وهو اختيار الطبري، لأن القوم كانوا كفاراً، فلا معنى لعماهم (عن) الهدى وهم كذلك كانوا، والمعنى عنده: لو نشاء لعاقبناهم على كفرهم فأعميناهم فلا يبصرون طريقاً في تصرفهم إلى منازلهم ولا إلى غيرها.
وقيل معنى: ﴿فاستبقوا الصراط﴾ أي: فبادروا إذا حدث بهم العمى إلى منازلهم/ ليلحقوا بأهلهم.
والأَطْمَسُ هو الذي لا يكون بين عينه شق.
وحكى الكسائي طَمَسَ يَطْمِسُ وَيَطْمُسُ.
وقال ابن عباس: معناه: لأهلكناهم في منازلهم.
وقيل: المعنى: لو شاء الله لمسخهم في الموضع الذي اجترؤوا فيه على معصية الله، فلا يقدرون على المضي ولا على الرجوع.
وقال ابن سلام: هذا كله في القيامة، قال إذا كان يوم القيامة مُدَّ الصِّرَاطُ، ونادى مُنادٍ لِيَقُمْ محمد ﷺ وأمته، فيقومون بَرُّهم وفَاجِرُهُمْ يتبعونه فيتجاوزوا الصراط فإذا صاروا عليها، طمس الله أعين فُجَّارهم، فاستبقوا الصراط فمن/ أين يبصرونه حتى يجاوزوه، (قال): ثم ينادي مناد ليقم عيسى وأمته فيقومون فيتبعونه بَرُّهُمْ وفاجِرُهُم فيكون سبيلهم تلك السبيل، وكذلك سائر الأنبياء. والعرب تقول
وحتى ابن الأعرابي: أن العرب تجمع مكاناً على أمكنة ومكنات.
ثم قال (تعالى): ﴿وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق﴾ أي: نرده إلى مثل حاله الأولى من الضعف وقلة العلم والفهم، بمنزلة قوله:
﴿لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً﴾ [النحل: ٧٠].
ثم قال: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر﴾ أي: لم نُعَلِّمَ محمداً الشعر، بل علمناه القرآن، وليس هو شعر كما قال المشركون.
﴿وَمَا يَنبَغِي لَهُ﴾ أي: ما ينبغي له أن يكون شاعراً.
وقيل: معناه: ما يسهل له قول الشعر.
وقالت عائشة: " لَمْ يَتَمَثَّلْ رَسُولُ الله ﷺ بِبَيْتِ شِعْرٍ قَطُّ إِلاَّ بِبَيْتِ طَرَفة
فأما ما روي عنه من قوله ﷺ:
" أنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ | أَنَ ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ ". |
ثم قل: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾ أي: ما هذا القرآن إلا ذكر وليس شعر، أنزله على محمد لينذر من كان حياً، وهو المؤمن، مثل قوله: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر﴾ [يس: ١١].
ثم قال: ﴿وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين﴾ أي: ويجب عليهم العذاب الذي تقدم لهم في علم الله أنهم صائرون إليه بكفرهم.
ثم قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً﴾ أي: أو لم ير هؤلاء المشركون أنا خلقنا لهم من خَلْقِنَا أنعاماً، وهي المواشي والإبل، ومعنى ﴿أَيْدِينَآ﴾ أي: بقوتنا وقدرتنا كان خَلْقُنَا لَهُمْ.
[ثم قال: ﴿فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ أي: مصرفون لهم كيف شاؤوا].
ثم قالوا: ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾ (أي): سهلناها لهم فلا تعدو عليهم.
﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ﴾ أي: ما يركبون.
وقرأت عائشة " رَكُوبَتُهُمْ ".
قال أبو عبيدة: الرَّكُوبَة تكون للواحدة والجماعة، والركوب لا يكون إلا
قال البصريون: حذفت الهاء من " ركوبهم " على النسب، والأصل الهاء.
قال الكوفيون: العرب تفرق في فَعُول بين ماله الفعل، وبين ما الفعل واقع عليه، فيقولون: امرأة صبور وشكور، بغير هاء، ويقولون: شاة حَلُوبَةٌ ونَاقَةٌ رَكُوبَةٌ. ثم قال (تعالى): ﴿وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ (أي): لحوم الإبل والمواشي.
(ثم قال تعالى): ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ يعني في أصوافها وأوبارها وجلودها وغير ذلك.
ثم قال: ﴿وَمَشَارِبُ﴾ يعني ألبانها.
﴿أَفَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ أي: يشكرون الله على هذه النعم التي خلق (لهم).
﴿لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ﴾، (أي): طمعاً أن ينصروهم من عقاب الله.
﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ﴾ أي: من عقاب الله، أي لا تستطيع الآلهة نصر هؤلاء المشركين ولا غيرهم.
ثم قال: ﴿وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ﴾ [أي: هؤلاء المشركون] لآلهتهم جند محضرون عند الحساب، قاله مجاهد.
وقال قتادة: معناه محضرون في الدنيا يغضبون إذا ذكرت/ آلهتهم بسوء.
وقيل: المعنى: أنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون يوم القيامة فيتبعونه إلى
ثم قال (تعالى): ﴿فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ﴾ يقول لنبيه ﷺ: لا تحزن من قولهم: إنك شاعر، ولا من تكذيبهم لك.
﴿إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ أي: نعلم إنما يدعوهم إلى ذلك الحسد وأنهم يعلمون أنك جئتهم بالحق، ونعلم ما يعلنون من كفرهم وجحودهم لما جئتهم به.
ثم قال (تعالى ذكره): ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ﴾ قيل: " عني به أمية بن خلف أتى رسول الله ﷺ بعظم حائل، ففته ثم ذراه في الريح، فقال: مَنْ يُحِيي العظام وهي رميم، قاله قتادة ومجاهد.
وروى قتادة أن النبي ﷺ أجابه، فقال له: " الله يُحْيِيكَ، ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ النَّارَ "، فَقَتَلَهُ رَسُولُ الله يَوْمَ أُحْدٍ ".
وقيل: عني به عبد الله بن أُبَيّ. قاله ابن عباس.
وفي هذا نزلت: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ إلى آخر السورة.
قال ابن عباس: " جاء أُبي بن خلف إلى النبي ﷺ بعظم حائل بَالٍ فكسره وفته بيده، ثم قال: يا محمد، كيف يبعث الله هذا (وهو رميم)؟ (فقال له) (النبي ﷺ) :" يَبْعَثُ الله هَذضا ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ ".
وروى ابن وهب: أن الذي قال ذلك هو أبي بن خلف الجمحي. وهو الذي قتله النبي ﷺ بيده فمات من طعنة رسول الله بالحربة بعد أن رجع إلى مكة.
وعن ابن عباس: أنه عبد الله بن أبي. والسورة مكية وعبد الله بن أبي لم [يكن بمكة إنما كان بالمدينة، فأُبي بن خلف أشبه به لأنه بمكة] كان معانداً للنبي ﷺ.
فالمعنى: ألم يَرَ هذا الذي قال: من يحيي العظام وهي رميم، أنا خلقناه من نطفة، وهي أضعف من العظم، فسويناه بشراً سوياً، فيعلم أن من فعل هذا قادر على إحياء العظام بعد كونها رميماً.
وقوله: ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ أي: ذو خصومة لربه، يخاصمه فيما قال له ربه: إني فاعله، فينكره.
أي: ضرب مثلاً بالعظم الرميم، فقال من يحييه؟ وأنكر إحياءه، ونسي أنه خلق من نطفة من ماء معين حقير، فجعله الله بشراً سوياً ناطقاً.
ثم قال (تعالى): ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أي: قل له يا محمد: الذي خلق هذه العظام من ماء حقير مهين، هو الذي يحييها بعدما تكون رميماً.
ثم قال (تعالى): ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ أي: ذو علم بجميع خلقه، يُحيي ويُميت، ويُبدئ ويُعيد، لا يخفى عليه شيء. يعلم ما تنقص الأرض (من) لحومهم وعظامهم وسائر جثمانهم، فيعيدها كما كانت أول مرة.
ثم قال (تعالى ذكره): ﴿الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً﴾ يعني: المَرَخُ
وهذه الآية تدل على جواز القياس لأنه جَعَلَ خلق الشيء دليلاً على خلق غيره.
ثم قال (تعالى): ﴿أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم﴾.
هذا كله تنبيه للمُنْكِرِ للبعث، والمعنى: أوليس الذي خلق السماوات والأرضين على عظمهن وسعتهم، وما في السماوات من الآيات كالشمس والقمر والنجوم، وما في الأرض من الآيات كالبحار والجبال والشجر بقادر على أن يعيد مثل هؤلاء الذين قد صاروا رميماً، فليس إعادة الخلق بعد الموت بأعظم من (خلق) السماوات والأرض وما فيهن من الآيات، فمن لم يتعذر عليه خلق العظيم كيف يتعذر عليه خلق اليسير؟!
ثم قال (تعالى): ﴿بلى وَهُوَ الخلاق العليم﴾ أي: بل يخلق مثلهم، وهوالخلاق
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ قال قتادة: ليس من كلام العرب شيء هو أخف من كُنْ ولا أهون، فأمر الله كذلك.
ثم قال تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي: فتنزيه للذي بيده ملك/ كل شيء وخزائنه (يفعل) ما يشاء وإليه تردون بعد مماتكم وتصيرون.
قال قتادة: ملكوت كل شيء: مفاتيح كل شيء. وملكوت وملكوتي في العرب بمعنى مِلْك.
قال نافع: " بَلَى " تمام.
وقل: " مِثْلَهُمْ " التمام، والأول أحسن.
(و) " فيكون " تمام.