ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١ الى ١٢]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)
. (١) الحكيم: المحكم الذي لا يأتيه باطل، أو الذي ليس فيه باطل.
(٢) مقمحون: من الإقماح، وهو رفع الرأس. ومعنى الآية التي جاءت فيها أنهم رافعوا رؤوسهم لا يستطيعون تحريك أعناقهم من الأغلال التي فيها.
(٣) أغشيناهم: حجبنا عنهم أو غطينا على أبصارهم.
(٤) اتّبع الذكر: صدق بالقرآن وآمن به واتبعه.
(٥) خشي الرحمن بالغيب: خاف الله مما أنذر به من المصير الأخروي المغيّب أو خاف الله الذي آمن به وبالحقائق المغيبة التي لا تدركها حواسه أو خاف الله حينما يخلو لنفسه.
(٦) ونكتب ما قدموا وآثارهم: نكتب ما فعلوه في حياتهم وما تركوه بعدهم من سنن وتقاليد وتبعات أو تحصى أعمالهم حتى آثار خطاهم.
(٧) إمام مبين: قيل إن الجملة تعني (أمّ الكتاب) الذي سجل فيه أعمال الناس. ويتبادر لنا من روح الجملة والسياق أنها كناية عن علم الله الشامل الذي يحصي على الناس أعمالهم إحصاء دقيقا.
وهو الأسلوب الذي جرى عليه النظم القرآني في معظم السور التي بدأت بالحروف المنفردة. وتكون والحالة هذه مثلها للتنبيه والاسترعاء. والله أعلم.
أما الآيات فقد احتوت:
١- توكيدا للنبي ﷺ بصدق رسالته وصحة نسبة التنزيل القرآني إلى الله وقوة إحكامه، وكونه على الطريق القويم لينذر قوما غافلين لم ينذر آباؤهم.
٢- وحملة شديدة على معظم القوم الذين لم ينتفعوا بالإنذار ووقفوا من الدعوة موقف الجحود والعناد حتى كأنما ضرب عليهم سدّ حجب عنهم رؤية الحق. وكأنما قيّدت رؤوسهم بالأغلال فعجزوا عن تحريكها يمنة أو يسرة لاستبانة طريق الهدى.
٣- وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. فهو إنما أرسل لينذر الناس وينتفع بإنذاره الذين حسنت نياتهم وصدقت رغباتهم في الحق، واستشعروا بخوف ربهم فآمنوا به واتبعوا قرآنه ورسوله فاستحقوا مغفرته وأجره الكريم.
٤- وتقريرا ربانيا بأن الله سوف يحيي الناس بعد موتهم وأنه يسجل عليهم جميع ما فعلوه في حياتهم وخلفوه من تبعات بعد موتهم تسجيلا دقيقا وواضحا.
ولقد روى الطبري والبغوي عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري أن الآية الأخيرة نزلت في بني سلمة من الأنصار الذين كانت محلتهم بعيدة عن مسجد النبي ﷺ فأرادوا الانتقال إلى قرية فنزلت لتبشرهم وتطمئنهم بأن خطاهم تحسب
وروى ابن كثير والطبرسي أن الآيات نزلت في مناسبة محاولة أبي جهل وبعض قومه البطش بالنبي ﷺ ونثره التراب عليهم أو رؤيتهم مشهدا مفزعا جعلهم ينكصون أو يغشى على أبصارهم. ولقد أوردنا رواية فيها شيء من مثل ذلك عن أبي جهل في سياق سورة العلق.
وعلى كل حال فالآيات بسبيل تطمين النبي ﷺ وتثبيته إزاء ما كان يلقاه من قومه من عناد وجحود ومناوأة. وأسلوبها قوي نافذ. والراجح أنها نزلت في ظرف كان لهم أو لبعضهم موقف شديد من ذلك أثار النبي ﷺ وآلمه فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بها للتطمين والتثبيت من جهة والتنديد والتقريع والإنذار من جهة أخرى.
تعليق على آيات إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا...
إلخ والآيات [٧- ٩] قد توهم أن الكفار قد وقفوا موقف الجحود والعناد بتحتيم رباني لم يكن لهم منه مناص. غير أن التروّي فيها وفيما قبلها وما بعدها يؤيد التأويل الذي أوّلناها به. فالآية [١٠] تذكر أن النبي ﷺ إنما عليه إنذار من اتّبع الذكر وخشي الرحمن وبعبارة أخرى من صدقت رغبته في اتّباع الحق. وهذا يعني أيضا أن الكفار إنما وقفوا موقفهم لخبث نيّتهم وعزوفهم عن الحق فحقّ عليهم القول. فهي من باب وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ في الآية [٢٧] من سورة إبراهيم
وإلى هذا فإنه يتبادر لنا أن أسلوب الآيات قد جاء أيضا بسبيل تسجيل واقع أمر الكفار حين نزولها وحسب وليس على سبيل تأييد عدم إيمانهم سواء أنذروا أم لم ينذروا بدليل يقيني هو أن كثيرا منهم قد آمنوا فيما بعد وحسن إيمانهم ونالوا رضاء الله على ما نبهنا عليه في التعليق الذي كتبناه على موضوع التوبة في سورة البروج والتعليق الذي كتبناه على الآية [١٠١] من سورة الأعراف المشابهة للآيات التي نحن في صددها.
وفي الآية [٦] إشارة صريحة إلى مهمة النبي ﷺ وهي الإنذار كما فيها تعليل لموقفهم وغفلتهم. وهذا مما يوثق التأويل، كما أن الآية [١٢] التي تنسب الأعمال إلى أصحابها وتنذر بإحصاء الله لها لمحاسبتهم عليها من الدلائل القريبة الموثقة.
ولقد قلنا إن المتبادر أن الآيات نزلت بسبيل تثبيت النبي ﷺ وتطمينه وخمّنّا أن ذلك قد كان لحادث آلم نفسه وأثارها. فالآيات قد وردت بهذا الأسلوب لتكون أبلغ في التطمين والتثبيت. وفي توجيه الخطاب للنبي ﷺ في الآيات التي قبلها وما فيها من عطف وتأييد وثناء وما في الآية التي بعدها من إيعاز له بأنه إنما ينذر ذوي النفوس الطيبة
تلقين الآيات الأولى من السورة
والآيات مصدر إلهام وتلقين مستمر المدى. سواء أفيما احتوته من ثناء وبشرى لذوي النفوس الطيبة والرغبات الصادقة أم في ما احتوته من حملة تنديدية شديدة على ذوي السرائر الخبيثة الذين يكون ديدنهم المكابرة في الحق والإيغال في الباطل أم في ما احتوته من تثبيت وتطمين يلهمان الدعاة والقادة والزعماء والمصلحين قوة يتغلبون بها على ما يلقونه في طريقهم من عقبات ومصاعب.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٣ الى ٢٩]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)
. (١) عززنا: أيدنا.
(٢) أئن ذكرتم: سؤال استنكاري فيه ردّ على قولهم إنّا تطيرنا أي تشاءمنا بكم وبسبيل نفي كون التذكير بالله هو الذي جاء إليهم بالشؤم والنحس.
(٣) مسرفون: متجاوزو الحد في البغي والعناد.
الآيات معطوفة على سابقاتها والضمير في وَاضْرِبْ لَهُمْ عائد إلى الكفار الذين حكت الآيات السابقة موقفهم من الدعوة كما هو المتبادر. وهكذا يكون هذا الفصل قد جاء معقبا على سابقه تعقيب تمثيل وتذكير، وفيه توثيق للتأويل الذي أوّلناه للآيات التي حكت موقف الجاحدين والتخمين الذي خمّنّاه بنزول الفصل السابق في ظرف أزمة من أزمات النبي ﷺ النفسية لموقف مثير وقفه الكفار.
وعبارة الآيات واضحة لا تقتضي أداء آخر. وقد احتوت قصة رسل أرسلهم الله إلى إحدى المدن وموقف أهلها الجحودي منهم، سيقت لسامعي القرآن أو الكافرين منهم على ما هو المتبادر للتمثيل والتذكير.
ومما رواه المفسرون عزوا إلى علماء التابعين في صدد قصة الرسل التي حكتها الآيات أن المدينة التي أشير إليها باسم القرية هي أنطاكية الثغر الشامي في شمال سورية وأن الرسل هم يوحنا وبولس وشمعون من حواريي عيسى عليه السلام أرسلهم للدعوة والتبشير، وأن الرجل المؤمن هو حبيب النجار. وقد أوردوا بيانات كثيرة عن رسالة الرسل ومحاولاتهم مع الوثنيين في المدينة ومعجزاتهم في إحياء الموتى وخلق الطير من الطين وإبراء الأكمه والأبرص، وقتل الوثنيين حبيبا وعنادهم مع الرسل إلخ «١».
وأسلوب الآية الأولى وفحواها يلهمان أن المثل الذي أمر النبي ﷺ بضربه ليس غريبا عن السامعين وأنهم أو أن منهم من كان يعرف القصة المذكورة فيه.
ولقد ورد في سفر أعمال الرسل من الأسفار الملحقة بالأناجيل أشياء كثيرة
وأسلوب الآيات صريح في أن المقصود منها المثل والتذكير والعبرة وهذا هو الهدف العام لكل القصص القرآنية الذي يكون محكما مؤثرا حينما تكون القصة المساقة مما يعرفه السامعون. وفيما أورده المفسرون دلالة على ذلك كما هو المتبادر.
تلقينات ودلالة مثل أصحاب القرية وآياته
ومما يلحظ أن في حكاية الحوار بين رسل الله وأهل القرية ثم بين أهل القرية والمؤمن تشابها مع حالة الكفار العرب سواء أفي ما كان من سخفهم وضلالهم في اتخاذ آلهة غير الله أم في موقفهم من النبي ﷺ وأقوالهم له في معرض التكذيب والجحود أم في تهديدهم لرسلهم بالعذاب والأذى إذا لم يكفوا عن دعوتهم بحيث تبدو في هذه الملحوظات حكمة المثل وهدفه وهو تذكير الكفار العرب بأنهم ليسوا المتفردين في مواقفهم وأقوالهم وباطل عقائدهم، وتبكيتهم على ما هم فيه من سخف وضلال وعناد، وإنذارهم بعذاب الله الذي أصاب أمثالهم فجعلهم خامدين دون ما حاجة إلى جنود تنزل وحرب تنشب، وتطمين النبي ﷺ بأنه ليس المتفرّد فيما لقي من كفار قومه وأن له الأسوة بمن تقدمه من الرسل في الأزمنة القديمة أو الحديثة بالنسبة لزمنه فلا يحزن ولا يغتمّ وأنه ليس عليه إلّا التبليغ والتذكير مثلهم.
وأسلوب حكاية موقف المؤمن وأقواله لقومه قوي أخاذ. سواء أفي تبكيته وتسفيهه للمعاندين أم في إغرائه وتشويقه على الإيمان بالله وتصديق رسله ومن شأن ذلك أن يحدث أثرا نافذا في السامعين. وهذا ما استهدفته الحكاية على ما هو المتبادر. ولعلّ من أثرها ما روته روايات السيرة من تفاني الرعيل الأول من المسلمين في مكة في نصرة وتأييد النبي ﷺ والذبّ عنه والتعرّض بسبب ذلك
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)
. الآيات متصلة بالسياق السابق اتصالا تعقيبيا كما هو المتبادر. وهو ما جرى عليه النظم القرآني عقب القصص. وقد احتوت تنديدا بالناس الذين لا تؤثر فيهم المواعظ والأمثال وما كان من إهلاك الله للأقوام السابقة فيقفون من رسل الله كلما جاء رسول موقف الاستهزاء والتكذيب. وتوكيدا بأن الناس جميعهم محضرون أمام الله ومجزيون عن أعمالهم.
والتعقيب مؤثر نافذ كما هو واضح.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٣ الى ٤٤]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)
. (١) وما عملته أيديهم: ولم تعمله أيديهم.
(٣) نسلخ: ننزع أو نخرج.
(٤) لمستقر لها: إلى أن يحين وقت استقرارها ووقوفها وقرئت الكلمة بلفظ «لا مستقر لها» بمعنى أنها دائمة الجري. ومعنى التأويلين للكلمة متساوق.
(٥) العرجون: هو عرق النخلة فإذا قدم رقّ وتقوّس واصفر. والكلمة في معرض تشبيه القمر في أواخر الشهر.
(٦) تدرك: تلحق.
(٧) الفلك: الأولى بفتح الفاء واللام بمعنى مدار السماء حيث تجري الشمس والقمر والنجوم وأصل معناه الشكل الدائري. والثانية بضم الفاء واللام وهو مركب البحر.
(٨) حملنا ذريتهم في الفلك المشحون: قال المفسرون إن المقصود بذلك الإشارة إلى سفينة نوح وآباء البشر الذين ركبوها «١».
(٩) من مثله: من مثل ذلك الفلك المشحون.
(١٠) فلا صريح لهم: لا ناصر ولا مغيث لهم.
والآيات استمرار للسياق أيضا. وجملة وَآيَةٌ لَهُمُ موصلة بين الفصل الأول السابق للقصة وبين هذا الفصل كما هو المتبادر. وقد احتوت تنبيها إلى مشاهد كون الله ونواميسه ونعمه على خلقه، وتنديدا بالذين لا يشكرون ولا يرتدعون عن مواقف المكابرة.
وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد جاءت كما يلهمه أسلوبها وفحواها في معرض البرهنة على قدرة الله على ما يعد الناس ويتوعدهم والتنبيه على أفضال الله عليهم ورحمته بهم، في الأرض والسماء والبحار، والتنديد بالذين لا يشكرونه ولا يرتدعون عن مواقف المكابرة والجحود، وإنذارهم بأنه لو شاء لأهلكهم ومنع عنهم خيره وبرّه فلا يجدون لهم مغيثا ولا ناصرا، وبأنه إذا لم يفعل
والآيات قوية نافذة. موجهة إلى القلب والعقل بسبيل ما جاءت من أجله من التذكير والعظة والبرهنة والإنذار.
ومع وجوب الإيمان بحقيقة ما احتوته الآيات من تقريرات متنوعة فإن أسلوبها وفحواها وجملة وَآيَةٌ لَهُمُ التي بدأت بها وتكررت في مقاطعها قد يفيد أن السامعين كانوا يعرفون ويحسون ويتصورون ما احتوته من مشاهد كونية وأرضية وسماوية وفق ما ذكر فيها. وبهذا تبدو الحكمة في ذلك وتكون الحجة القرآنية مستحكمة في السامعين.
ولقد روى الطبري والبغوي في سياق جملة وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها حديثا عن أبي ذرّ الغفاري قال: «كنت جالسا عند النبي ﷺ في المسجد فلما غربت الشمس قال يا أبا ذرّ هل تدري أين تذهب الشمس قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب فتسجد بين يدي ربّها ثم تستأذن بالرجوع فيؤذن لها وكأنّها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مكانها وذلك مستقرّها».
وما جاء في الحديث أمر مغيّب فيجب الوقوف عنده إذا صحّ «١» مع وجوب
الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها. ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (التاج ج ٤ ص ١٩٤) والزيادة متصلة بآية من آيات قيام الساعة وهي طلوع الشمس من مغربها حيث جاء في حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن حذيفة الغفاري عن النبي ﷺ في علامات الساعة ومنها طلوع الشمس من مغربها (التاج ج ٥ ص ٣٠٤) ونرجّح أن حديث أبي ذرّ واحد روى بعضه راو وروى جميعه راو آخر. وطلوع الشمس من مغربها كعلامة من علامات الساعة مماثل لما ذكرته آيات عديدة في سور المزمل والتكوير والقيامة والمرسلات من تبدّل مشاهد الكون عند ما تأزفّ الساعة وتخرب الدنيا. وكل هذا مغيّب يجب الإيمان به والوقوف عنده وإيكال حكمته إلى الله تعالى. وليس معرفة كنهه والمماراة فيه من ضروريات الدين. والله تعالى أعلم.
تعليق آخر على ما اعتاده بعضهم من محاولة استنباط النظريات العلمية من آيات القرآن
لقد علّقنا في سياق تفسير سورة القيامة على ربط بعضهم بين الآية بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) وبين فنّ بصمات الأصابع الحديث. ونعود إلى التعليق مرة ثانية بمناسبة الآيات التي نحن في صددها والتي يقف بعضهم عندها وعند أمثالها لاستنباط قواعد فنية كونية منها أو تطبيق نظريات علمية عليها وبخاصة في صدد حركات الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار، والإدلاء بآراء متنوعة هي أدخل في نطاق التكلّف والتزيد بل والغلوّ أكثر منها في نطاق الحقيقة في حين أن الآيات في مجموعها وأسلوبها وروحها تحمل الدليل على أن القصد منها هو لفت نظر الناس جميعا بأسلوب يفهمونه إلى ما يشاهدونه من مظاهر قدرة الله وكونه بقطع النظر عما أقام الله سبحانه الكون عليه من نواميس ونسب وقواعد دقيقة محكمة النظام مطردة السير والجريان. ونحن نرى في مثل هذه المحاولات إخراجا للقرآن الكريم عن هدفه الوعظي والتذكيري وتعريضا له للتعديل والجرح اللذين يرافقان عادة الأبحاث العلمية على غير طائل ولا ضرورة.
ولقد جاء في سورة يونس في صدد منازل القمر آية تفيد أن الله قدّر القمر منازل ليعلم الناس عدد السنين والحساب وهي: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً
ونعود إلى التنبيه مرة أخرى في هذه المناسبة إلى أن ما قلناه لا يعني حظر دراسة أسرار الكون على المسلمين بمختلف الوسائل وعلى مختلف المستويات.
فهذا شيء وذاك شيء آخر. بل إن إيذان الله تعالى للبشر ومن جملتهم المسلمين أن الله سخّر لهم ما في السموات وما في الأرض ليوجب عليهم ذلك لأن الانتفاع بما سخّره لهم الله لا يتمّ إلّا به. والله تعالى أعلم.
تعليق على تعبير ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ...
وبمناسبة ورود تعبير ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ نقول إن كثيرا من المسلمين يسوقون هذا التعبير في معرض عقيدة القضاء والقدر وكمستند لها به في حين أنه قد جاء في معرض بيان أن حركة الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار كل ذلك يجري ضمن حساب رباني مقدّر على أحسن أسلوب وأدقّ ترتيب.
وبكلمة أخرى إن كلمة «تقدير» هنا تعني الحساب الدقيق وليس لها صلة بعقيدة القدر ولا يصحّ سوقها في معرض ذلك.
لقد قلنا في تعليقنا على هذه التفسيرات في سياق سورة الفجر إن منها ما ليس فيه شذوذ فاحش. وهذا نموذج من ذلك حيث يفسر التستري الآية الأولى من هذه السلسلة بقوله: «القلوب الميتة بالغفلة أحييناها بالتيقّظ والاعتبار والموعظة وأخرجنا منها حبا معرفة صافية يضيء أنوارها على الظاهر والباطن» «١».
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٥ الى ٥٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)
. (١) اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون: اتقوا غضب الله في حياتكم وبعد مماتكم لعلّ الله يرحمكم، ويلحظ أن الجواب على هذا غير موجود في الآيات. وقد قال المفسرون إنه محذوف مقدّر وهو الإعراض وعدم الاستماع.
والآية التالية تحتوي جوابا غير مباشر أيضا مما يوثق وجاهة القول.
(٢) ينظرون: ينتظرون.
(٣) يخصمون: يختصمون أي تأخذهم الصيحة بغتة أثناء استغراقهم في أشغالهم ولهوهم وخصوماتهم.
الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو المتبادر. وفي ضمير لَهُمُ هنا دلالة على هذا الاتصال والترابط كما هو كذلك في الآيات السابقة. وعبارتها واضحة. وقد احتوت الآيات الأربع الأولى تقريرات عن واقع أمر الكفار ومبلغ مكابرتهم وجحودهم وغلظ قلوبهم. فهم يؤمرون باتقاء غضب الله في الدنيا
وقد احتوت الآيتان الأخيرتان ردّا إنذاريا. فالموعد آت لا ريب فيه. وستأتيهم الصيحة بغتة وهم لاهون في أشغالهم وخصوماتهم فيهلكون حيث هم فلا يرجعون إلى أهلهم ولا يجدون الفرصة لوصية يوصون بها.
تعليق على حثّ القرآن على البرّ بالفقراء وموقف الأغنياء من ذلك وآثاره
والآيات قوية التقرير والتنديد والإنذار. وقد احتوت صورا متنوعة لمواقف الكفار من دعوة الله وآياته ونبيه. والآية [٤٧] بخاصة تدلّ على أنه كان يقع جدل بين المؤمنين والكفّار في صدد المبادئ التي بشّرت بها الدعوة وآمن بها المؤمنون وأن هؤلاء كانوا يدعون أولئك في جملة ما يدعونهم إليه ويحاجونهم فيه إلى البرّ بالفقراء ويذكرونهم بأن ما في أيديهم من مال إنما هو من رزق الله فلا يجوز أن يضنّوا به على المحتاجين من عباده وأن الكفار كانوا يجيبونهم على هذا بخاصة بجواب حجاجي ساخر وطريف يتهربون به مما يطلب منهم. وفي هذا صورة لما كان من تأثر المؤمنين بالدعوة ومبادئها وخاصة البرّ بالفقراء والمعوزين والجهد في نشرها والدعوة إليها ثم صورة لما كان من تأثير ذلك في أغنياء الكفار، وقد كان هذا الموضوع من أبكر ما بشّر به القرآن ومن أبكر ما أثار حقد الأغنياء والزعماء وحفّزهم إلى التكتل والمعارضة وظلّ كذلك قويا إلى أن أدخله القرآن في نظام الدولة وميزانيتها على ما تلهم آيات أخرى بالإضافة إلى تكراره وتوكيده في مختلف المناسبات والأساليب. وقد مرّ بعض الأمثلة من ذلك وعلقنا عليها.
وستأتي تعليقات متنوعة أخرى في صدده في مناسبات آتية.
غير أننا نرى هنا أن ننوّه بالمعنى الجليل الذي انطوى في تعبير أَنْفِقُوا مِمَّا
وننبه على أن هذا قد تكرر كثيرا في سور مكية ومدنية بأساليب متنوعة. وجاء في بعضها بقوة وصراحة أكثر حيث يبدو من هذا حكمة التنزيل في التوكيد عليه لإقراره في الأذهان. من ذلك آية سورة الرعد هذه: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) وآية سورة إبراهيم هذه: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) وآية سورة البقرة هذه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وآية سورة آل عمران هذه: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ... [١٨٠] وآية سورة النساء هذه: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وآية سورة النور هذه:
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ... [٣٣] وآية سورة الحديد هذه: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧).
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [٤٥] مدنية في حين أنها منسجمة في السياق ونظمه انسجاما تاما وليس لها خصوصية مدنية. والخطاب فيها في صدد الذين سبق الكلام عنهم حيث عبّر عنهم بكلمة (لهم) مما تكرر في السياق. ولذلك فإننا نشك في صحة الرواية.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥١ الى ٦٥]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥)
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠)
وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)
(٢) ينسلون: يسرعون في الخروج.
(٣) مرقدنا: منامنا ومضجعنا.
(٤) فاكهون: فرحون أو متلذذون.
(٥) الأرائك: السرر والمقاعد العالية.
(٦) يدّعون: يطلبون.
(٧) امتازوا: تميزوا وانفصلوا.
(٨) ألم أعهد: ألم آخذ عليكم عهدا أو ألم أنبهكم.
(٩) جبلا: خلقا أو أجيالا.
(١٠) اصلوها: اكتووا بنارها.
الآيات استمرار للسياق السابق كما هو المتبادر حيث جاءت لتصوير الحالة في اليوم الموعود الذي حكت الآيات السابقة سؤال الكفار عنه وردّت عليهم مؤكدة منذرة، وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد احتوت صورة للبعث الأخروي وما يكون فيه من مصير المؤمنين والكفار جزاء لما كسبه كل منهم في الحياة الدنيا، وما سوف يشعر الكفّار به من حقيقة ما وعدوا وصدق الرسل الذين أنذروا به وما سوف يخاطب الله به المجرمين من خطاب فيه تنديد وتبكيت.
وأسلوب الآيات قوي أخّاذ كسابقاتها، من شأنه إثارة الخوف والرعب في
ولقد أورد ابن كثير في سياق جملة الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك قال: «كنّا عند النبي ﷺ فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: أتدرون مم أضحك؟
قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة، يقول ربّ ألم تجرني من الظلم فيقول بلى فيقول لا أجيز عليّ إلّا شاهدا من نفسي فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبالكرام الكاتبين شهودا. فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بعمله ثم يخلّي بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا فعنكنّ كنت أناضل» ثم قال ابن كثير إن مسلما والنسائي رويا هذا الحديث أيضا.
وفي الحديث تفسير توضيحي للصورة التي احتوتها الآية قد يزول به ما يمكن أن يقوم من وهم التناقض بينها وبين آيات أخرى حكيت فيها أقوال يقولها الكفار يوم القيامة من قبيل الاعتذار مثل آية سورة المؤمنون هذه: قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧). وآية سورة السجدة هذه: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢).
وليس في الحديث بعد ما يخلّ بما قلناه من استهداف الآيات لإثارة الخوف والرعب في الكفّار كما هو واضح.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)
. (١) طمسنا: مسحنا وغطينا.
(٢) مسخناهم على مكانتهم: غيرنا خلقتهم أو شوهناها حتى يتعذّر عليهم
(٣) ننكسه: ننتقص من قوته ونرجعه إلى الوراء.
الآيات على ما هو ظاهر متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وتنديد وتنبيه، ولعلها انطوت على تسلية للنبي ﷺ والمؤمنين أيضا. حيث احتوت تقريرات ربانية بأن الله لو شاء لطمس على أعين الكفار فلا يستطيعون أن يبصروا الصراط المستقيم ويسيروا فيه، أو لو شاء لمسخهم فبدّل من صورهم وأفقدهم قابلية الحركة والنشاط المعتادة وأن في ما يرونه من آثار قدرة الله وناموسه في تبديل خلق الإنسان وقواه وإرجاعه حين شيخوخته إلى الضعف وسوء الحال لدليلا على ذلك لو عقلوا.
وقد قال بعض المفسرين «١» إن ما احتوته الآيات هو من صور الحياة الأخروية والبرهنة على قدرة الله على البعث. ولكن روحها بل ومضمونها يلهمان وجاهة التأويل الذي أوّلناها به والذي قال به غير واحد من المفسرين أيضا «٢».
والمتبادر لنا أنه أريد بما قررته الآيات تقرير كون الله لم يفعل بهم ذلك إلا ليكون لهم من مواهبهم وحواسهم المعتادة التي زودهم بها وسيلة للإدراك والتمييز والحركة والنشاط حتى لا تضيع الفرصة عليهم ويستحقوا ما يستحقونه من المصير عدلا وحقا إذ عطلوا ما زودهم الله به وأضاعوا الفرصة ولم يسيروا في طريق الهدى والحق.
وينطوي في هذا إعذار وإنذار ربانيان للكفار، وحكمة ربانية سامية مستمرة الإلهام والتلقين وهي الدعوة إلى الانتفاع بالمواهب التي أودعها الله في الناس بالاستدلال على سبيل الحق والهدى والخير والسير فيها وعدم تعطيلها.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠)
. (١) حيّا: هنا بمعنى العاقل المتأمل الحي البصيرة والقلب.
(٢) انظر المصدر نفسه.
والآية الثانية تعلن أن النبي ﷺ إنما أرسل وأنزل عليه القرآن لينذر الناس فينتفع بذلك من كان ذا عقل متأمل وقلب حيّ سليم ويحق القول وتقوم الحجة على الجاحدين.
وبرغم ما يبدو من استقلال الآيتين بموضوع منفصل عما قبلهما فإن ما جاء بعدهما هو استمرار للسياق الأول في التنديد بالكفار وحكاية أقوالهم ومواقفهم بحيث يمكن أن يقال إنهما متصلتان بالسياق السابق واللاحق أيضا وإنهما جاءتا بمثابة تقرير لمهمة النبي ﷺ وهدف ما يوحيه الله إليه من قرآن. وهذا الأسلوب النظمي قد تكرر في القرآن. ويبدو أن حكمة هذا الأسلوب هنا هي تقرير أن ما يتلوه النبي ﷺ من آيات الإنذار والوعيد والتقريرات عن عظمة الله ووصف مشاهد الآخرة ومصائر الناس فيها ليس من قبيل الشعر وإنما هو قرآن رباني فيه كل الحق والحقيقة.
تعليق على نسبة العرب الشعر والشاعرية للنبي والقرآن
على أن الآيتين احتوتا موضوعا جديدا ذاتيا أيضا. وهو نفي شاعرية النبي ﷺ والقرآن. فلقد رأى الكفار النبي ﷺ يتلو الآيات البليغة القوية النافذة إلى أعماق النفوس والمؤثرة في العواطف والمشاعر فظنوا ذلك من قبيل الشعر البليغ الذي اعتادوا سماعه والتأثّر به والتحمّس له.
ولم يرد في السور السابقة حكاية عن نسبة الشعر إلى النبي ﷺ من قبل الكفار. غير أن الآيتين تلهمان بقوة أن هذا مما كانوا يقولونه قبل نزولهما. ولقد حكته عنهم آيات عديدة في سور أخرى بعد هذه السورة حيث اقتضت حكمة التنزيل ذلك. منها آية سورة الأنبياء هذه: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) وآية سورة الطور هذه: أَمْ يَقُولُونَ
(٣٠).
وفي نفي شاعرية النبي ﷺ وتقرير خطورة مهمته في عبارة وَما يَنْبَغِي لَهُ وكذلك في تقرير كون القرآن ذكرا وإنذارا قصد آخر على ما يتبادر لنا وهو توكيد سموّ المصدر القرآني وعلوّ أهدافه وتجرّده عن المبالغات والأكاذيب والاندفاع في العاطفة والخيال، شأن الشعراء وما يصدر عنهم، ولفت نظر السامعين إلى أن ما يتلوه هو ذكر وقرآن رباني فيه الصدق والحقيقة وفيه الهدى والموعظة وفيه الدعوة الخالصة إلى الله وصراط المستقيم وفيه أسمى مبادئ الخير والصلاح وفضائل الأخلاق والنظم وفيه الإنذار والتبشير والحرص على هداية الناس وتحرير نفوسهم وقواهم وعقولهم والتسامي بها إلى مراتب الكمال الخلقي والاجتماعي والإنساني.
وكل هذا هو من مهمات النبوّة وأعلامها ومظاهرها وليس فيه شيء يمتّ إلى الشعر والشعراء. ولقد زعم الكفار بالإضافة إلى أنه شاعر أنه يتلقى شعره من شياطين الجنّ على ما كانوا يعتقدونه بالنسبة لنوابغ الشعراء وعباقرتهم فأنزل الله آيات عديدة في سورة الشعراء في هذا الصدد منها: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) ومنها: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) ومنها: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧) حيث انطوى في هذه الآيات تقرير قوي في تزييف الشعر والشعراء ونفي لشاعرية النبي ﷺ والقرآن ومقارنة رائعة بين الشعر والقرآن وبين الشعراء والنبي صلى الله عليه وسلم. فالشياطين إنما تنزل بالشعر على الشعراء لا على الأنبياء، ومعظم الشعراء كاذبون أفّاكون أثيمون وفي كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون ولا يتبعهم إلّا الغاوون الضالون في حين أن النبي ﷺ معروف بكل خلق كريم
هذا، ومن الممكن أن يستدلّ من الآيات على أن العرب كانوا يرون في القرآن نمطا من أنماط الشعر، وأن الشعر عندهم لم يكن محصور المفهوم في ما يكون منظوما موزونا مقفّى، فقد قالوا إن النبي ﷺ شاعر في حين أن القرآن ليس شعرا حسب تعريف الشعر العربي المعتاد. ولو لم يسمعوا ما يصح أن يطلق عليه في نظرهم اسم الشعر لما قالوا إنه شاعر، ولعلّهم رأوا في السور والفصول القرآنية المتوازنة المقفّاة مثل النجم والأعلى والليل والشمس والقارعة إلخ ما برّر لهم إطلاق الشعر على القرآن والشاعر على النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد أوّل البغوي جملة وَما يَنْبَغِي لَهُ بمعنى لا يتسهّل له. واستدلّ على صحة التأويل بما روي من أن النبي ﷺ كان إذا تمثّل ببيت شعر جرى على لسانه مكسورا. ومن ذلك أنه كان يقول: (كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا) في مقام شطر من بيت صحيحه (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا) ويقول: (ويأتيك من لم تزود بالأخبار) في مقام شطر من بيت صحيحه: (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) وإن أبا بكر راجعه فقال له: (إني لست بشاعر ولا ينبغي لي).
وهذه الأحاديث لم ترد في مساند الأحاديث الصحيحة في حين أن هناك حديثا صحيحا رواه الترمذي في سياق تفسير سورة النجم عن ابن عباس فيه بيت من الشعر صحيح قاله النبي ﷺ في سياق آية سورة النجم: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [٣٢] وهو:
إن تغفر اللهم تغفر جمّا | وأيّ عبد لك لا ألمّا «١» |
اللهمّ إنّ العيش عيش الآخره... فاغفر للأنصار والمهاجرة» «١»
وجاء في ثانيهما للبراء: «إنّ النبي ﷺ كان ينقل معنا التراب ولقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا... ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا... وثبّت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا... إذا أرادوا فتنة أبينا
ورفع بها صوته: أبينا... أبينا» «٢».
وإن كتب السيرة القديمة روت أن النبي ﷺ كان يرتجز يوم حنين وهو على بغلته قائلا:
أنا النبيّ لا كذب... أنا ابن عبد المطّلب «٣»
وإن ابن كثير روى في سياق الآيات التي نحن في صددها حديثا جاء فيه:
«أنّ النبيّ ﷺ جرحت يده فقال:
هل أنت إلّا إصبع دميت... وفي سبيل الله ما لقيت
وكل هذا شعر موزون على نمط الشعر العربي المتواتر.
والذي يتبادر لنا أنه لا منافاة بين أن يتمثّل النبي ﷺ ببعض الشعر بوزنه
(٢) انظر المصدر نفسه. [.....]
(٣) طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٢٠١.
ولقد أورد البغوي في سياق تفسير آيات سورة الشعراء [٢٢١- ٢٢٧] حديثا رواه بطرقه عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله ﷺ لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا». وإذا صحّ هذا الحديث فهو متّصل بما يتصف به شعر معظم الشعراء من كذب وبعد عن محجة العقل والحق فيما هو المتبادر.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)
. (١) الأنعام: تطلق على الإبل والبقر والغنم.
(٢) ذلّلناها: سخرناها أو أخضعناها.
في الآيات تذكير استنكاري للسامعين بالأنعام التي سخّرها الله لهم لينتفعوا بها في مختلف وجوه النفع من ركوب وأكل وشرب ولبس، وتنديد بهم لعدم شكرهم على نعمه والاعتراف بفضله وربوبيته.
وفي الآيات عود على بدء في التنديد بالكافرين والمكذّبين وربط للسياق، كأنما فصول مشهد الآخرة وما بعدها جاءت استطرادية. وهكذا تتصل فصول السورة ببعضها وتبدو صورة رائعة من صور التساوق في النظم القرآني.
ولقد كانت الأنعام من أهمّ ما ينتفع به العرب. فجاء التذكير بنعمة الله عليهم
وقد يقال إن الله خلق الأنعام كما خلق غيرها من الدواب النافعة والمؤذية بمقتضى الناموس العام. وإن في القول بأن الله قد خلقها للناس إشكالا، والذي يتبادر لنا أن المقصد من ما جاء في الآيات وأمثالها المتكررة في القرآن هو تذكير السامعين بما أقدرهم الله عليه من تسخير الأنعام والانتفاع بها شتى المنافع التي فيها قوام حياتهم وبما يوجبه ذلك عليهم من الإخلاص له وشكره وبما في الاتجاه نحو غيره أو إشراك غيره معه انحراف وشذوذ. وفي الآيات نفسها وما يليها من الآيات ما يؤيد هذا التوجيه.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥)
. والآيتان استمرار في السياق والتنديد بالكافرين على اتخاذهم آلهة غير الله رجاء أن ينصروهم في حين أنهم عاجزون عن ذلك.
وقد أوّل المفسرون «١» الفقرة الأخيرة من الآية الثانية تأويلات متعددة. منها أن الكفّار يتخذون الأصنام آلهة لهم مع أنهم هم جند لهم يحمونهم ويدفعون عنهم الأذى والعدوان. ومنها أن الآلهة سوف يكونون مع الكفار يوم القيامة جندا واحدا ولكنهم لن يستطيعوا لهم نصرا حيث يطرحون جميعا في النار. وكلا التأويلين وجيه وإن كنا نرجح الأول. وكلاهما منطو على السخرية بالكافرين والتسفيه لعقولهم وبقصد الإفحام والتدعيم كما هو المتبادر.
[سورة يس (٣٦) : آية ٧٦]
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)
. (١) يسرون: يكتمون ويخفون.
وقد تكرر مثل ذلك حيث اقتضته حكمة التنزيل بسبيل تثبيت النبي ﷺ وتقويته إزاء ما كان يلقاه من قومه من مواقف ويسمعه من نعوت كانت تثيره وتحزنه.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
. (١) خصيم مبين: مجادل عنيد.
(٢) رميم: بال.
(٣) يقول له كن فيكون: هذا التعبير أسلوبي أو مجازي بمعنى أن الله فيما يريد أن يتمّ ظهور شيء يتمّ فورا بمجرد تعلق إرادته به.
(٤) ملكوت: بمعنى الملك المطلق التام.
تساءلت الآية الأولى تساءل المستنكر المندد عما إذا كان الإنسان لم يعرف أن الله إنما خلقه من نطفة حتى ينقلب خصما عنيدا له. وحكت الثانية موقف هذا الإنسان الذي نسي كيفية نشوئه وخلقه المذكورة فتساءل عمن يمكن أن يحيي
وقد روى المفسرون «١» أن أبيّ بن خلف أو العاص بن وائل من زعماء الكفار أخذ في موقف جدل بينه وبين النبي ﷺ عظمة بالية وفتتها ثم قال له كيف تزعم أن ربّك يبعث الناس وقد صارت عظامهم رميما!.
والرواية محتملة الصحة. غير أننا نلاحظ أن السياق كلّه أي هذه الآيات وما قبلها منسجم يدلّ على الوحدة التقريرية والإلزامية والتنديدية. والذي يتبادر لنا من ذلك أن حكاية هذا الموقف قد جاءت كإشارة عرضية إلى بعض أسئلة الكفار ومواقفهم الساخرة بسبيل الردّ والتنديد مما تكرر كثيرا في النظم القرآني.
وأسلوب الآيات قويّ من شأنه أن يفحم المجادل المكابر وأن يقطع عليه نفس الكلام والمكابرة. وفيه من الإفحام ما يظلّ مستمد إلهام وقوة في صدد التدليل على قدرة الله عزّ وجلّ وعظمته كما هو المتبادر. ولقد كان السائلون يعترفون بالله عزّ وجلّ وكونه خالق الأكوان ومدبّرها ومالك كل شيء ومرجع كل شيء على ما نبهنا عليه وأوردنا شواهده القرآنية في مناسبات سابقة ومن هنا يأتي الإفحام لهم قويا ملزما. غير أن هذا يظلّ كذلك دائما لأن دلائل وجود الله وقدرته مائلة في كل شيء لا يكابر فيها إلّا مكابر أو جاهل.