ﰡ
في السورة تنبيه على أن المؤمنين معرضون للامتحان الذي يظهر به صدق إيمانهم. وصورة لبعض ضعفاء الإيمان وتنديد بهم. وتقرير بأن واجب الطاعة للوالدين والإحسان إليهما قاصر على غير الشرك. وحكاية لبعض أساليب الإغراء والدعاية التي كان يعمد إليها زعماء الكفار لصدّ المسلمين وردّهم. وسلسلة قصصية احتوت أخبار نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وأممهم. وإشارات إلى مواقف عاد وثمود وفرعون. وصور العذاب الذي حاق بالمكذبين. وعناية الله بالأنبياء والمؤمنين في معرض التنديد والتذكير والتطمين معا. وحكاية لمواقف جدل ومناظرة بين النبي ﷺ والكفار وأهل الكتاب في صدد القرآن. وحثّ للمسلمين على الصبر والثبات على الحقّ والهجرة في سبيل الله والاعتماد عليه. وتنديد بالمشركين لما يبدو منهم من تناقض في عقائدهم بالله ومواقفهم من الدعوة إليه.
وأكثر فصول السورة منسجمة مع بعضها بقوة. وباقيها ليس منقطعا عنها صورا وموضوعا. ولهذا نرجّح أنها نزلت متتابعة بدون فاصل.
وقد روي أن الآيات [١- ١١] مدنيات وقد شكّكنا في ذلك في التعليقات التي علقناها في سياق تفسيرها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١ الى ٧]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤)مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)
(٢) فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين: أوّلها جمهور المفسرين بمعنى ليظهر الصادق والكاذب أو ليتميز الصادق والكاذب نتيجة للامتحان. لأن علم الله أزلي أبدي كذاته فلا يصحّ أن يكون قصد بالكلمة معناها الحرفي. وهو حقّ.
(٣) ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه: الجهاد هنا على ما عليه جمهور المفسرين مجاهدة النفس وتحمّل التكاليف والصبر على المشاق والأذى. وهذا المعنى متسق مع الامتحان الذي يتعرّض له المؤمنون في إيمانهم ودينهم. فالذي يجاهد نفسه ويثبت في الامتحان إنما ينفع نفسه في الدرجة الأولى.
بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم المنقطعة التي رجّحنا في أمثالها أنها للاسترعاء إلى خطورة ما بعدها. وهذا المطلع من المطالع القليلة التي لم يعقبها إشارة إلى القرآن مثل السورة السابقة.
وقد تضمنت الآية التالية للحروف سؤالا فيه معنى الإنكار والتعجب عمّا إذا كان يصح أن يظنّ الذين آمنوا أنهم لا يتعرضون للفتنة والامتحان وأنه يكفيهم أن يقولوا آمنّا وذكرت الآية الثالثة في مقام الجواب بأن الله قد جرت سنّته على امتحان إيمان أمثالهم من قبلهم ليتميّز الصادقون من الكاذبين. واحتوت الآية الرابعة سؤالا في معنى الإنكار والتنديد معطوفا على السؤال الأول عمّا إذا كان يظنّ الذين يقترفون السيئات أن يسبقوا الله ويفلتوا منه وبيانا في معرض الجواب بأنهم إن ظنوا ذلك فإنما يكون من سوء حكمهم على الأمور وخطلهم فيه.
١- فالذين يرجون لقاء الله وثوابه لهم أن يطمئنوا فإن هذا آت لا ريب فيه.
والله سميع لكل ما يقال عليم بكل ما يفعل الناس ويضمرونه.
٢- والذين يجاهدون في الله لا ينفعون الله بجهادهم لأنه غني عن العالمين فليس لهم أن يمنوا بجهادهم وإنما ينفعون بذلك أنفسهم ويمهدون لها سبل النجاة والسعادة.
٣- ولقد آلى الله على نفسه أن يتسامح في هفوات الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأن يجزيهم بأحسن أعمالهم.
والآيات وإن احتوت مواضيع أو معاني متنوعة. فإنها على ما هو المتبادر منها وحدة متماسكة. ولذلك اعتبرناها وحدة وفسرناها في سياق واحد.
تعليق على الروايات الواردة في صدد الآيات الأولى [١- ٧] من السورة وما فيها من تلقينات جليلة
ولقد روى المفسرون «١» روايات عديدة في سبب نزول هذه الآيات. منها أنها نزلت بمناسبة استشهاد بعض المؤمنين في وقعة بدر وجزع أهلهم عليهم.
ومنها أنها نزلت في عمار بن ياسر الذي كان يعذّبه مولاه. ومنها أنها نزلت في أناس مؤمنين منعهم أهلهم من قريش من الهجرة إلى المدينة لما هاجر النبي ﷺ والمؤمنون إليها فكتب لهم أصحاب النبي ﷺ أنه لا يقبل منهم الإقرار بالإسلام حتى يهاجروا. فقرروا الخروج ومقاتلة من يمنعهم وخرجوا فتبعهم المشركون فاقتتلوا فقتل بعضهم ونجا بعضهم فأنزل الله فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ
ومع أن الروايتين الأولى والثالثة يمكن أن توثق رواية مدنيتها فإننا نرجّح أنها مكيّة. وأن المناسبة التي نزلت فيها هي من نوع ما روته الرواية الثانية. وهذه السورة من أواخر ما نزل من القرآن المكي وقد اشتدّ في هذه الظروف أذى الكفار وإزعاجهم للمسلمين مما يجعل الرواية الثانية هي الأوجه. وإن كنا نظن أنها أعمّ من حادث أذى عمار لأن هذا الأذى كان في وقت مبكر نوعا على ما تفيده الروايات وعلى ما تلهمه آيات سورة البروج وما روي في سياقها من أذى وتعذيب عمار وأبويه واستشهاد أبويه وشراء أبي بكر لعمار رضي الله عنهما مما ذكرناه في سياق تفسير هذه السورة. ونظم الآيات والصورة التي تضمنتها أقرب إلى النظم المكيّ وصور العهد المكيّ منها إلى النظم المدنيّ وصور العهد المدنيّ. ولا تفهم أي حكمة في وضع آيات مدنيّة في أول سورة مكيّة بدون مناسبة نظمية وموضوعية. والآيات التي تلتها والتي يوجه الخطاب فيها إلى الكفار معطوفة عليها ولا خلاف في مكيّتها. وليس لرواية مدنيّة الآيات إسناد صحيح.
وآية سورة النحل التي ذكرت إحدى الروايات أنها نزلت في الذين منعهم أهلهم من الهجرة إلى المدينة ثم هاجروا هي آية مكيّة وقد رجحنا في سياق تفسيرها نزولها في مناسبة ارتداد جماعة من المسلمين في مكة ثم فرارهم وعودتهم إلى الإسلام وهو ما يلهمه مضمونها بكل قوّة ولا نراها تنطبق على ما ذكرته الرواية المذكورة.
ومع ما للآيات من خصوصية زمنية فإن المسلم واجد فيها تلقينات جليلة
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٨ الى ٩]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩)
. وفي هاتين الآيتين: إشارة إلى ما أوجب الله على الأبناء من إحسان معاملتهم مع والديهم مع استثناء إطاعتهما في الشرك بالله إذا أمرا به أولادهما مهما جاهداهم وألحّا عليهم في ذلك، وبيان كون الله هو مرجع الناس جميعا فيفصل بينهم في أعمالهم. وتوكيد كون الله سيدخل المؤمنين الذين يعملون الصالحات في عداد الصالحين من عباده.
ولقد ورد في سورة لقمان مثل الوصية التي احتوتها الآية الأولى كما ورد شيء يقارب في سورة الأحقاف. وقد قال المفسرون «١» إن هاتين الآيتين قد نزلتا أيضا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمّه كما قالوا هذا في سياق آيات سورة لقمان بل وفي سياق آيات سورة الأحقاف على ما ذكرناه في سياق السورتين.
ومنهم من ذكر أنهما نزلتا في مسلم آخر عصى وهاجر إلى المدينة فأخذ أبواه يلحّان عليه ليرتدّ عن الإسلام ويعود إليهما. ولقد سلكت الآيتان في سلك رواية مدنيّة
تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً إلخ والآية التالية لها
وروح الآيتين ونظمهما ومضمونهما من جهة وورود ما يماثلهما في آيات لا خلاف في مكيتها من جهة أخرى يجعلاننا نرى فيهما صورة من صور العهد المكيّ أكثر من العهد المدنيّ ونشكّ في رواية مدنيتهما كما شككنا في رواية مدنية الآيات السبع السابقة. وليس من شأن رواية كونهما نزلتا في مسلم مهاجر إلى المدينة ومحاولة أبويه حمله على الارتداد والعودة إليهما في مكة أن تضعف من شكّنا لأنها غير وثيقة الإسناد وغير معقولة الحدوث. ولأن طابع الآيتين مماثل لطابع الآيات المكيّة المماثلة، ومضمونها متّسق مع ظروف العهد المكيّ أكثر.
ولقد آمن عدد كبير من شباب قريش وشاباتهم رغم بقاء آبائهم على الشرك والجحود ومناوأتهم الشديدة للنبي ودعوته. وكان بعض هؤلاء الآباء من الزعماء البارزين. وقد اضطر أكثر هؤلاء الشباب المسلمين إلى الهجرة إلى الحبشة هربا من ضغط آبائهم واضطهادهم «١». فالمتبادر أن حوادث ضغط الآباء على الأبناء قد تكررت وتعددت فاقتضت حكمة التنزيل تكرار الأمر والتنبيه.
والصلة بين الآيتين والآيات التي قبلهما وبعدهما لا تبدو واضحة. غير أننا نستبعد- بناء على ما لمسناه من انسجام الآيات المكية وتسلسل اتصالها ببعضها- أن لا يكون للآيتين صلة ما بسابقهما أو لاحقهما. وأن يكونا قد أقحمتا في موضعهما إقحاما. ومما خطر على بالنا أن تكون الفتنة التي ذكرت في الآيات السابقة متصلة بموقف من مواقف الضغط من الآباء على الأبناء أو أن يكون هذا من صورها ومشاهدها. فهو بدون ريب موقف محرج يمكن أن يكون فيه امتحان
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١)
. في الآية الأولى إشارة تنديدية إلى من يدّعي الإيمان بالله في وقت السعة والعافية حتى إذا تعرّض في سبيل إيمانه لأذى الناس جعل أذى الناس وعذاب الله الموعود للكافرين والمنافقين في مستوى واحد فعمد إلى المداراة والمراءاة ليتقي عذاب الناس وأذاهم. ثم إذا فتح الله على المؤمنين ونصرهم وفرج عنهم سارع إلى توثيق رابطته بهم وتوكيد دعواه بأنه منهم. وقد تساءلت نهاية الآية في معرض الإنكار والتنديد عمّا إذا كان أمثال هؤلاء لا يعرفون أن الله تعالى هو الأعلم بما في صدور الناس.
أما الآية الثانية: فمن المحتمل أن تكون تضمنت توكيدا بأن الله تعالى يعلم المؤمنين الصادقين في إيمانهم ويعلم المنافقين فيه. أو تكون قصدت تقرير كون ما حكته الآية الأولى امتحانا يمتحن الله به الذين يقولون آمنّا ليظهر المؤمن الصادق من المنافق.
تعليق على آية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ إلخ والآية التالية لها وتلقيناتها
والآيتان تمام الآيات الإحدى عشرة التي ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنها مدنيّة وقد روى المفسرون «١» أنهما نزلتا في أناس كانوا أسلموا وتخلّفوا عن الهجرة
ومع ما يبدو من اتساق بين الرواية الأولى والقسم الأول من الآية الأولى فإن القسم الثاني منها والآية الثانية تنقضان ذلك. فإذا كان هؤلاء قد انحازوا إلى جانب المسلمين أثناء وقعة بدر فيكونون قد انحازوا مخلصين حالما أمكنتهم الفرصة ولا ينطبق عليهم وصف المنافق. وإذا لم يكونوا قد انحازوا أثناء الوقعة فلا يكون محلّ لادعائهم لأن الفرصة أمكنتهم للانحياز فلم يغتنموها. ولذلك نحن نشكّ في صحة الرواية والمناسبة. هذا مع التنبيه على أن الرواية لا تستند إلى إسناد صحيح.
ووصف الْمُنْفِقِينَ من الأوصاف القرآنية المدنيّة كما أن الصورة التي احتواها القسم الثاني من الآية الأولى مماثلة لصورة مدنيّة حكتها آيات مدنية عن المنافقين منها هذه الآية في سورة النساء الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (١٤١). ولكن القسم الأول من الآية الأولى ينقض هذا لأن الصورة التي احتواها هي صورة مكية من حيث إن المؤمنين إنما كانوا يتعرضون للأذى في مكة. ولهذا فنحن نرى الرواية الثانية التي رواها الطبري والبغوي عن الضحاك ومجاهد هي الأوجه ونرجّح بالتبعية مكيّة الآيتين أسوة بسابقاتهما وبسبب ما تلهمه الآيات الآتية بعدهما من جهة ولأنه ليس من مناسبة أو سياق يبرر أن احتمال مدنيتهما بدون تناقض كما أن حكمة وضعهما هنا- لو كانتا مدنيتين حقا- غير ظاهرة من جهة أخرى.
ويتبادر لنا أن الصلة قائمة بينهما وبين الآيات السابقة لهما مهما بدا عكس ذلك لأول وهلة. فقد احتوتا مشهدا من المشاهد التي كانت تظهر في صفوف
ولقد احتوت إحدى آيات سورة النحل التي مرّ تفسيرها ما يفيد أن بعض الذين آمنوا ارتدّوا في العهد المكي وشرحوا صدرا بالكفر وبعضهم ارتدّ مكرها أو فتن عن دينه ثم عاد إلى الإسلام على ما مرّ شرحه. وقد يكون في هذا مصداق مؤيد لتوجيهنا إن شاء الله. ومع ما يمكن أن يكون للصورة التي تضمنتها الآيتان من خصوصية زمنية فإنهما انطوتا على تلقين قرآني جليل في صدد صورة أو حالة يمكن أن تظهر في كل وقت ومكان وتستحق التنديد والتقريع. فصدق إيمان المرء إنما يثبت حينما يتعرض للامتحان من أذى أو إغراء فإذا لم يتضعضع فهو المؤمن حقا المستحقّ لرضوان الله وثوابه. أما الذين يتظاهرون بالإيمان في أوقات السّعة والعافية أو لقاء منافع ومغريات ثم يتنكرون لإيمانهم وقت الشدّة فهم المنافقون الذين ليس لهم في صفوف المخلصين مكان، المستحقون لسخط الله وغضبه وعقابه ولسخط الصادقين من المؤمنين ونبذهم واحتقارهم. وبناء على هذا لم نر محلا للتعليق هنا على النفاق والمنافقين وإيراد الأحاديث الواردة فيهم بمناسبة ورود الكلمة ورأينا تأجيل ذلك إلى سورة البقرة المدنية التي ذكروا ووصفوا في الآيات الأولى منها.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين ولقد احتوت الآية الأولى مشهدا من المشاهد التي كانت تقع في أثناء الدعوة في العهد المكي والتشاد والتجاذب اللذين كانا يجريان بين بعض المسلمين والكفّار من آباء وأبناء وأقارب وأصدقاء مما حكت بعضه الآيات السابقة ومما يجعل الصلة قائمة بين الآيتين والآيات السابقة. ومما يقوم قرينة مؤيدة لترجيحنا بأن الآيات السابقة هي مكيّة مثل هاتين الآيتين المعطوفتين عليها وليست مدنيّة كما ذكرت الروايات.
وإلى ما ذكرناه فإن الآية الأولى تنطوي على أسلوب طريف من أساليب الجدل والحوار التي كان يعمد إليها الكفار فإنهم كما كانوا يعمدون إلى الأذى والضغط أحيانا وإلى التشويش والتشكيك أحيانا، وإلى المراوغة والخديعة أحيانا.
كما حكت آيات عديدة مرّت أمثلة منها، كانوا يعمدون إلى التعهد للمؤمنين بتحمل مسؤولياتهم عن خطيئاتهم وذنوبهم وكفرهم إذا عادوا إلى دين آبائهم وتقاليدهم وسبيلهم!.
والمتبادر أن الذين كانوا يعمدون إلى هذه الأساليب هم الزعماء. وقد روى المفسرون «١» في سياق هاتين الآيتين اسم أبي سفيان. والغالب أن هذا القول قد صدر منه أو من غيره لبعض المسلمين في سياق الجدل والحجاج وادعاء التفاضل
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥)
. هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية عن بعض الأنبياء والأمم السابقة جاءت بعد حكاية أقوال الكفار والتنديد بهم وإنذارهم جريا على الأسلوب القرآني على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. ومن هنا تكون السلسلة متّصلة بالسياق بطبيعة الحال. وقد استهدفت التذكير والإنذار والعظة بالنسبة للكفار، والتنويه والتثبيت والتطمين بالنسبة للمسلمين أسوة بمثيلاتها.
وفي هذه الحلقة شيء جديد لم يسبق ذكره. وهو خبر لبث نوح عليه السلام ألف سنة إلّا خمسين عاما في قومه. ولقد جعل هذا بعض الباحثين يعيدون ويبدون ويعلقون تعليقات متنوعة. وفي كتب التفسير أقوال على هامش هذه الآية عن عمر نوح والمدة التي عاشها قبل الطوفان وبعده ليست وثيقة السند. ونقول هنا كما قلنا في المناسبات السابقة إن واجب المسلم أن يؤمن بكل ما أخبر به القرآن من أخبار الأنبياء والأمم والوقوف عند هذا الحدّ وعند ما يثبت عن النبي ﷺ من أحاديث.
وأن يؤمن أنه لا بدّ من أن يكون لما يجيء في القرآن والأحاديث الثابتة من حكمة.
وإن كان من شيء يحسن أن يضاف إلى هذا في صدد الخبر المذكور فهو أن بعض المفسرين «١» قالوا إن حكمة ذكر المدة هي تسلية النبي والتسرية عنه وهو قول وجيه منسجم مع أهداف القصة القرآنية. كذلك فإن سفر التكوين ذكر في الإصحاح
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٦ الى ٢٧]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)
. (١) تخلقون إفكا: تصنعون أشياء كاذبة من الأقوال والأصنام.
(٢) يئسوا من رحمتي: تعبير أسلوبي بمعنى أنهم لن ينالوا رحمتي.
وهذه حلقة ثانية من السلسلة. ولا تحتاج عبارتها إلى أداء آخر. وجلّ ما جاء فيها جاء في سور أخرى وبخاصة في سورة الأنبياء ممّا علقنا عليه بما رأينا فيه الكفاية.
وإن كان من شيء يحسن أن يضاف إلى ذلك فهو حكاية أقوال إبراهيم عليه السلام بسبيل الاحتجاج على قومه مما فيه بعض الجديد ومما تكرر مثله في السور السابقة تقريرا موجها إلى الناس أو الكفار أو أمرا موجها إلى النبي ﷺ بقوله للناس أو الكفار حيث يتبادر لنا من خلال ذلك حكمة سامية في حكاية أقوال مماثلة صادرة عن من ينتسب السامعون العرب إليه أو بعضهم ويزعمون أنهم على ملّته بسبيل إفحامهم والتنديد بهم.
وفي الحلقة حكاية لتآمر قوم إبراهيم على قتله أو تحريقه. ولقد جاء هذا أيضا في سورة الأنبياء. غير أننا نرى في تكراره هنا أمرا متصلا بالسيرة النبوية.
فهذه السورة كما قلنا من آخر ما نزل في مكة من القرآن. وكان زعماء قريش في ظروف نزولها يتآمرون على قتل النبي أو حبسه أو نفيه على ما ذكرته آية سورة الأنفال هذه وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) لأنه كان قد اتفق مع زعماء الأوس والخزرج في المدينة وآمنوا به وأخذ الإسلام ينتشر في المدينة وأخذ المؤمنون يهاجرون من مكة إليها وأخذ هو يتهيأ للهجرة إليها فشعر زعماء قريش بخطر داهم من جرّاء ذلك لأن المدينة طريق قوافلهم وستصبح تحت سلطانه. عدا عن احتمال اتساع نطاق دعوته واشتداد قوته وعواقب ذلك عليهم فأرادوا أن يحولوا دونه. فالمتبادر أن تكون حكمة ما جاء في القصة متصلة بهدف التطمين والتشجيع في موقف متماثل، بين ما حكي عن إبراهيم وقومه وبين ما كان بين النبي وقومه.
والمتبادر أيضا أن تكون حكمة حكاية ذلك متصلة بما كان من إزماع النبي ﷺ على الهجرة إلى المدينة وبقصد تلقينه بأن إبراهيم قد فعل ذلك من قبل، وملّته هي ملّة إبراهيم.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس وبعض علماء التابعين في تأويل جملة وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا أنها بمعنى الولد الصالح أو الثناء والذكر الحسن أو جعل ملّته متّبعة وما في ذلك من نصيب له في أجر المتّبعين. وكل هذا مما تتحمّله العبارة التي تنطوي على تلقين مستمر المدى بأن الله تعالى ييسّر وينعم على الصالحين المستقيمين الخير والكرامة في الدنيا أيضا بالإضافة إلى الآخرة مما انطوى في آيات عديدة مرّ تفسيرها.
ويلحظ أن الآية [٢٧] اقتصرت على القول إن الله وهب إبراهيم إسحق ويعقوب مع أن إسماعيل هو ابن إبراهيم البكر. وفي هذا تكرار لما جاء في الآية [٧٢] من سورة الأنبياء وقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير سورة (ص) بما يغني عن التكرار.
ولقد روى الطبري أيضا على هامش جملة إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي عزوا إلى قتادة أن النبي ﷺ كان يقول: «إنها ستكون هجرة بعد هجرة ينحاز أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها حتى تلفظهم وتقذرهم وتحشرهم النار مع القردة والخنازير». وقد أورد ابن كثير هذا الحديث بزيادة في آخره بعد كلمة الخنازير وهي: «تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا وتأكل ما سقط منهم». وقد أورد ابن كثير هذا النصّ بحديث أسنده الإمام أحمد عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو بن العاص في ظروف بيعة يزيد بن معاوية.
وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة. وليس في كتابي الطبري وابن كثير بيان بالمقصود بالأرض التي ينحاز أهلها إلى مهاجر
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٨ الى ٣٥]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢)
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)
. (١) في ناديكم: في مجالسكم أو دار اجتماعاتكم.
(٢) المنكر: يقال لكل ما هو مغاير لكريم الأخلاق وفاضل الصفات.
وهذه حلقة ثالثة في لوط وقومه. وقد ذكر ما فيها في السور السابقة، وبينها وبين ما ذكر في سورة هود خاصة تماثل. وعبارتها واضحة. وقصد الموعظة والتذكير والإنذار والتثبيت واضح فيها. ولقد علّقنا على القصة بما رأينا فيه الكفاية. وليس فيما ورد هنا شيء جديد يقتضي تعليقا إلّا القول إن الآية أو العلامة التي تركت من القرية المدمرة هي على الأرجح أطلال سدوم وعمورة على ساحل البحر الميّت في غور أريحا والتي كان يمرّ بها قوافل الحجاز وهي ذاهبة إلى فلسطين فمصر أو آئبة منهما إلى الحجاز وهما البلدان اللذان ذكر سفر التكوين
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)
. (١) كانوا مستبصرين: كانوا يتبجحون بحسن البصيرة والعقل.
(٢) وما كانوا سابقين: وما كانوا سابقين الله بحيث يعجز عن اللحوق بهم ويفلتون من عذابه.
وهذه حلقة رابعة فيها إشارات مقتضبة إلى رسالات شعيب وموسى عليهما السلام وإلى ما كان من أمر عاد وثمود. وقصد الإنذار والتذكير والموعظة فيها ظاهر. وقد علّقنا على قصصهم في السور السابقة بما فيه الكفاية. وليس هنا شيء جديد يقتضي تعليقا إلّا التنبيه إلى تعبير وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ في صدد ذكر عاد وثمود حيث تحتوي الجملة دليلا صريحا على أن المخاطبين يعرفون أخبار هؤلاء القوم وأن منهم من شاهد آثارهم ورأى في تدمير بلادهم آثار عذاب الله فيهم أيضا أو اعتقد ذلك.
ثم التنبيه إلى جملتي فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ووَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث ينطوي فيها توكيد جديد للمبدأ القرآني
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤)
. في الآيات:
١- تمثيل للذين يتخذون من دون الله شركاء وأولياء بالعنكبوت وبيتها، فكما أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت وأوهاها فدين أولئك وعقيدتهم هي أوهى العقائد وأوهنها أيضا لو عقلوا وتفكّروا.
٢- وتوكيد بأن الله يعلم حقائق ما يدعونه من دونه وأنه هو العزيز القادر على كل شيء الحكيم في كل شيء.
٣- وتنبيه على أن الله إنما يضرب الأمثال للناس ليتبينوا الحقّ ويعقلوه وأن أصحاب الفهم والإدراك والعلم هم الجديرون بأن يعقلوها ويفهموا مرماها.
٤- وتوكيد آخر بأن الله إنما خلق السموات والأرض بالحقّ ولحكمة جليلة ولم يخلقهما عبثا. وإن في ذلك آية يدركها المؤمنون الصادقون في رغباتهم ونياتهم.
وصلة الآيات بسابقاتها قائمة كما هو واضح. وقد جاءت بمثابة تعقيب عليها. والخطاب فيها قوي نافذ. واحتوت تنديدا بالشرك والمشركين وعقولهم وتنويها بالمؤمنين والذين يقنعون بالبرهان حينما يقوم لهم ويفهمون الأمثال حينما تضرب لهم. والآية الثالثة توكيد سقوط أي أهلية وعدم احتمال أي نفع في من
تعليق على آية وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ
وهذه الآية جديرة بالتعليق من حيث احتواؤها تنويها بالعلماء الذين يؤهلهم علمهم لفهم الأمور والأمثال والاتعاظ بها. وقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة في سور سابقة حيث ينطوي في ذلك توكيد التنويه من جهة، وحثّ الناس على توسيع حدود معارفهم من جهة، وتبيين مسؤولية العلماء وواجبهم في تدبّر مختلف الشؤون وتبيينها للناس من جهة، والوقوف منها عند حدود ما يقتضيه الحقّ والعلم من غير تجاوز ولا تغافل من جهة.
وإطلاق الفصل يدل على أن كل ذلك شامل لمتنوع مراتب وصفات العلم والعلماء بحيث يشمل شؤون الدين والدنيا معا كما هو المتبادر.
ولقد جاء في سورة فاطر تنويه بالعلماء، وعلقنا عليه تعليقا وافيا فنكتفي هنا بما تقدم.
ولقد روى البغوي في سياق هذه الآية بطرقه حديثا عن جابر أن النبي ﷺ تلا هذه الآية فقال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه». وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولا نرى فيه إذا صحّ ما ينتقض مع ما قلناه من شمول الكلمة من حيث إن العالم الحق مهما كان العلم الذي يشتغل فيه لا بد من أن يدرك من آيات الله تعالى المتنوعة في كونه ومن آيات القرآن وجوب وجود الله والإيمان به وبرسالة خاتم رسله وبوجوب طاعته واجتناب ما يسخطه.
[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٤٥]
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)
١- أمرا للنبي عليه السلام بالاستمرار في تلاوة ما أوحاه الله إليه من كتاب وفي إقامة الصلاة له وذكره.
٢- وتثبيتا له بأن الله يعلم ما يصنع الناس وعليه حسابهم.
٣- واستطرادا تنبيهيا بما للصلاة من أثر في تجنيب الذين يقيمونها للفحشاء والمنكر وبكون ذكر الله عزّ وجلّ هو الأكبر.
والآية تحتوي على ما يتبادر لنا تعقيبا على الآيات السابقة حيث تضمنت تثبيتا للنبي وتلقينا بأن لا يبالي بالمشركين وما يدعون من دون الله وبأن يستمر في تلاوة كتاب الله على الناس والصلاة له ففيها الوسيلة الكبرى لاجتناب الفحشاء والمنكر ما هو من الكبائر التي نهى عنهما القرآن. ومن تحصيل الحاصل أن يكون ما احتوته من أمر وتلقين واستطراد موجهة بعد النبي ﷺ إلى المسلمين في كل زمن ومكان.
ولقد علقنا على الصلاة وأثرها في سياق سورة العلق بما فيه الكفاية، وأوردنا هناك بعض الأحاديث النبوية الواردة في الصلاة وأثرها في الصادقين وغير الصادقين في صلاتهم. وكون الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر لا يمكن أن تكون صلاة صادقة فنكتفي بالتذكير دون الإعادة. غير أن البغوي روى في سياق تفسير الآية حديثين رأينا أن نوردهما بدورنا لما فيهما من تأييد وتلقين وصور حيث روى عن أنس قال: «كان فتى من الأنصار يصلّي الخمس مع رسول الله ﷺ ثم لا يدع شيئا من الفواحش إلّا ركبه فوصف لرسول الله ﷺ حاله، فقال: إن صلاته تنهاه يوما. فلم يلبث أن تاب وحسن حاله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أقل لكم إن صلاته تنهاه يوما». وحديث روي عن جابر قال: «قال رجل للنبي ﷺ إن رجلا يقرأ القرآن الليل كلّه فإذا أصبح سرق قال ستنهاه قراءته، وفي رواية قيل يا رسول الله إن فلانا يقرأ بالنهار ويسرق بالليل فقال إن صلاته لتردعه». والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. فالمتبادر إذا صحّا ولا مانع من صحتهما فيكون
والتلقين في الحديثين هو الأمل في تأثير ذكر الله والصلاة على كل حال فيمن تكون له عادات منكرة.
تأويل جملة وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وما ورد في ذلك من أحاديث
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون لجملة وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ منها أنها بمعنى ذكر الله إيّاكم إذا ما ذكرتموه بالصلاة وغيرها أكبر من ذكركم إيّاه.
أي من باب مضاعفة الله للحسنات. ومنها أنها بمعنى ذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية. ومنها أنها بمعنى ذكر الله أفضل من كل شيء. وقد نبّه أصحاب هذا القول على أن الصلاة هي من ذكر الله ويكون المعنى بالتالي أن الصلاة التي هي ذكر الله أكبر من كل شيء وأفضل من كل شيء. ومنها أنها بمعنى ذكر الله في الصلاة أكبر من الصلاة ويكون المعنى بالتالي أن الصلاة هي وسيلة إلى ذكر الله الذي هو الهدف الأكبر منها، وإن نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر بسبب ذكر المرء لله تعالى فيها فيتقيه ويخشاه ويتجنب ما نهي عنه من الكبائر. والأقوال جميعها وجيهة. وقد صوّب الطبري القول الأول. وقد يتبادر أن القول الأخير على ضوء الشرح الذي شرحناه أكثر وجاهة. والله أعلم.
ولقد روى البغوي بطرقه أحاديث نبوية عديدة في سياق هذه الجملة وفي صدد فضل ذكر الله. واحدا عن أبي الدرداء قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر الله». وثانيا عن أبي سعيد الخدري جاء فيه: «إن رسول الله ﷺ سئل أيّ العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة قال: الذاكرون الله كثيرا
وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة. والمتبادر إذا صحّت أنها في الحثّ على ذكر الله الذي يؤثر في نفس المسلم فيجعله يقدم على كل ما أمر الله به وينتهي عن كل ما نهى عنه. بحيث يصح أن يقال كما قيل في الصلاة وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأوردناه في التعليق على الصلاة في سورة العلق. إن تحريك اللسان بذكر الله تحريكا آليا بدون وعي وصدق وإيمان وبدون أن يكون له أثر في سلوكه نحو الله والناس لا يمكن أن يكون له الفضل العظيم الذي نوهّت به الأحاديث.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩)
. في الآيات:
١- أمر بصيغة الجمع المخاطب التي يمكن أن تدلّ على أن الأمر موجّه إلى النبي عليه السلام والمسلمين معا باستعمال اللين والمحاسنة في الجدل مع أهل الكتاب باستثناء الذين يبغون ويتجاوزون حدود الحقّ والإنصاف منهم. وبإعلانهم
٢- وتنبيه موجّه للنبي ﷺ يتضمن التوكيد والتثبيت بأن الله قد أنزل إليه الكتاب كما أنزل الكتب من قبله على الأنبياء السابقين وبأن أهل الكتاب يؤمنون بكتب الله ومنهم من يؤمن بالكتاب الذي أنزل على النبي ﷺ تبعا لذلك لما يرون فيه من المطابقة في الأسس والجوهر. ولا يمكن أن يجحد بآيات الله ويكابر فيها إلّا من صمّم على الكفر والعناد والمكابرة.
٣- وتوكيد بأن النبي ﷺ لم يكن يتلو من قبل القرآن كتابا، ولم يكن يخطّ بيده كتابا حتى يمكن أن يكون هناك محلّ لريبة المبطلين الجاحدين ومكابرتهم.
٤- وتوكيد آخر بأن آيات الله التي يتلوها النبي ﷺ متسقة في جوهرها وروحها وروحانيتها مع آيات الكتب الربانية التي يعرفها الذين أوتوا العلم والتي قد تشبّعت بها نفوسهم وصدورهم.
تعليق على آية وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ والآيات التي بعدها
ولم نطلع على رواية ما تذكر سببا لنزول هذا الفصل الذي قد يبدو فصلا جديدا لا صلة له بالآيات السابقة، ومع ذلك فإن المتبادر من آياته أنها نزلت في مناسبة موقف من مواقف الجدل في موضوع القرآن ووحيه الإلهي اشترك فيه فريق من أهل الكتاب وفريق من المؤمنين مع النبي، وربما فريق من الكفار أيضا. ولعل هذا الجدل نشب على أثر الفصل القصصي والآيات المعقبة عليه. فوضعت آيات الفصل بعدها. وإذا صحّ الاحتمال الأخير فيكون شيء من الصلة بين هذا الفصل وما سبقه.
والنفي المذكور في الآية [٤٨] يحتمل أن يكون أريد به نفي تلاوة النبي كتابا ما من الكتب السماوية أو الاطلاع عليه قبل القرآن أو كتابته أو نفي القراءة والكتابة بالمرة عنه تدعيما لحجة كونه لم يقرأ الكتب السماوية ولم يكتبها لأنه لم يكن يحسن ذلك، وبالتالي دحضا لدعوى اقتباسه من الكتب السماوية. والإطلاق في النفي أو تنكير المنفي مما يمكن أن يكون قرينة على أن المراد هو الاحتمال الثاني.
وإطلاق النفي في الآية وأسلوبها ينطويان على التحدي والتنديد والتذكير.
فكأنما أريد أن يقال إن المجادلين المدّعين يعرفون أن النبي ﷺ لم يكن يقرأ ويكتب، وبالتالي لم يتسن له قراءة الكتب السماوية وكتابتها. وإذا لا حظنا أن هذا النفي يتلى علنا ويسمعه الناس من كتابيّين وغير كتابيّين أدركنا ما فيه من قوّة الردّ على دعوى المدّعين وتحدّيها وتزييفها.
ويتبادر لنا أن النفي منصبّ على القراءة والكتابة الشخصيتين. وهذا لا ينفي أن يكون النبي ﷺ سمع من بعض الكتابيين شيئا من أسفار العهد القديم والعهد الجديد التي كانوا يتداولونها وينسبونها إلى أنبيائهم، مما ذكرت شيئا منه بعض الروايات وذكرناه في سياق تفسير سورتي النحل والفرقان.
ولقد قلنا إن الآية [٤٧] تلهم أن من نقاط الجدل القائم ما كان يرى من تشابه وتماثل بين محتويات القرآن ومحتويات الأسفار المذكورة آنفا. ولسنا نرى في هذا إشكالا مؤيدا لدعوى المدعين. فكل ما كان يتلوه النبي ﷺ من آيات القرآن المحكمة والمتشابهة من وحي الله الذي كان ينزل على قلبه اقتضته حكمة التنزيل ولو كان فيه تطابق مع الأسفار وقد سيق في القرآن للعبرة والموعظة لا للتاريخ.
ومع أنه لا خلاف في مكية الآيات فإن بعض المفسرين «١» ذكروا في سياق تفسيرها عزوا إلى أهل التأويل أو تأويلا من عندهم أنها في صدد الحجاج مع يهود المدينة، وذكروا اسم عبد الله بن سلام وغيره من مسلمي اليهود وقالوا «٢» إنهم الذين عنتهم الآية [٤٧] بتعبير وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ كما ذكروا أن الذين عنتهم جملة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ هم الذين نبذوا الذمة ومنعوا الجزية عامة، وكعب بن الأشرف وزملاءه من اليهود خاصة. وهذا نموذج لكثير من الأقوال التي خلط فيها بين مدى ومدلول ومناسبة الآيات المكيّة والمدنيّة وظروف العهد المكيّ والمدنيّ. وبعض المفسرين قال إن كلمة هؤُلاءِ تعني قريشا «٣» وبعضهم «٤» قال إنها تعني المسلمين بالإضافة إلى ما قاله بعضهم إنها تعني الكتابيين. وبعضهم أرجع ضمير بِهِ إلى النبي ﷺ وبعضهم أرجعه إلى القرآن «٥». ونرجو أن يكون ما أوردناه في شرح الآيات هو الصواب إن شاء الله.
وتعبير وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ صريح قاطع بأن النبي عليه السلام لم يكن يكتب ويقرأ. أما تعبير وَالْأُمِّيِّينَ [آل عمران:
٢٠] فلا يعني ذلك بهذه الصراحة والقطعية. ولا سيما أن هذه الكلمة استعملت هي وجمعها في القرآن للدلالة على غير الكتابيين أو على العرب الذين ليسوا كتابيين كما ترى في آية آل عمران هذه: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) انظر الطبري والخازن.
(٤) انظر المصدر نفسه.
(٥) انظر المصدر نفسه.
وبالرغم من هذه الصراحة فإن كايتاني «١» وغيره من المستشرقين ظلوا يصرون على دعوى أن النبي ﷺ كان يقرأ ويكتب ومنهم من قال إنه كان يخفي ذلك ويراوغ فيه فلا يثبته ولا ينفيه لأنه يعرف أن منهم من كان يعرفه فيه. ولو تذكروا بأن هذا مما قد يكون وجّه إلى النبي ﷺ مباشرة وأن القرآن قد ردّ عليه وزيّفه علنا وبصراحة قطعية، وأن أصحابه وأخصاءه كانوا يتلون هذا الردّ الصريح القطعي لوفروا على أنفسهم التعب ولما عرّضوها لتهمة الغرض والعناد بل والوقاحة والكذب. فلا يمكن أن يعلن النبي ﷺ بلسان القرآن وبأسلوب قاطع صريح أنه لا يقرأ ولا يكتب لو كان يقرأ ويكتب، ولا سيما لو كان أصحابه يعرفون ذلك فيه. لأنه يثير حالة شكّ هؤلاء في ربانية القرآن وصدق النبي وهذا وذاك من الخطورة بمكان عظيم.
إنه قال: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله ﷺ لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» «٢». وقد أوردوا مع هذا الحديث حديثا آخر رواه الإمام أحمد عن أبي ثملة الأنصاري قال:
«بينما هو جالس عند رسول الله ﷺ جاءه رجل من اليهود فقال يا محمّد هل تتكلّم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله: الله أعلم، قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان حقا لم تكذّبوهم وإن كان باطلا لم تصدّقوهم».
(٢) ورد هذا الحديث في التاج برواية البخاري عن أبي هريرة بفرق يسير وهو قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا... الآية [البقرة: ١٣٦] ج ٤ ص ٤٣.
وليس في الحديثين ما يفيد ذلك. وقد صدرا عن رسول الله في المدينة في مناسبة أو مناسبات أخرى كما هو مستفاد منهما والله تعالى أعلم.
على أن هذا لا يمنع القول أن الاستثناء هو لا لأمر واقع وإنما لأمر قد يكون رسمت الخطة له إذا وقع. وقد يكون من الدلائل على ذلك أنه ليس هناك رواية ما تذكر أن كتابيين على دينهم في مكة حينما فتحها الله على رسوله في السنة الهجرية الثامنة. والسورة من آخر ما نزل في مكة فلو كان بقي كتابيون لم ينضموا إلى الإسلام في مكة وكانوا يجادلون النبي ويغلظون في الجدال لكانت الروايات ذكرت ما صار عليه شأنهم حين فتح مكة. وليس مما يعقل أن يكونوا كلّهم قد تواروا بالموت أثناء هذه المدة.
ولقد علم الله أن يهود يثرب التي أزمع النبي الهجرة إليها في ظروف نزول هذه الآيات سيقفون منه موقف المجادل الظالم فرسمت له الخطة معهم في هذه الآية والله تعالى أعلم.
والمستشرقون في عنادهم ودعواهم يقيسون الحاضر على الماضي فيؤدي القياس بهم إلى استحالة أن لا يكون النبي قارئا كاتبا مطلعا على الكتب السماوية.
وهم مخطئون في قياسهم لأن الفرق عظيم بين الحاضر وذلك الماضي من مختلف النواحي.
والخطة التي ترسمها الآية الأولى جديرة بالملاحظة أيضا. فكأنما أريد بها القول إنه ليس من محلّ لخلاف ونزاع بين المسلمين والكتابيين من حيث المبدأ
ومن واجب المسلمين أن يقابلوهم بما يستحقون فالخطة عظيمة رائعة لأنها تقوم على أساس الحقّ والعدل من جهة وعلى الرغبة الصادقة من ناحية المسلمين في توطيد التفاهم والتمازج من جهة أخرى.
والاستثناء الذي احتوته الآية وفحوى الآيات عامة يدلان على أن فريقا من أهل الكتاب كان معاندا مكابرا في موقف الجدل والحجاج إلى جانب فريق آخر كان مؤمنا مصدقا. وفي هذا صورة من صور العهد المكي حيث كان من العرب مؤمنون وكافرون وكان إلى جانبهم من الكتابيين مؤمنون وكافرون أيضا. وقد شرحنا ذلك في مناسبات سابقة وبيّنا أسبابه التي هي أسباب شخصية ونفعية دنيوية. وقد آمن بالرسالة المحمدية وصدق صلة القرآن بالله كل من استطاع أن يتفلّت من هذه الأسباب منهم كما ذكرته آيات عديدة مرّت في سور عديدة، واستمر هذا المظهر في العهد المدني أيضا على ما سوف يرد شرحه بعد.
ولقد رسمت الخطة الآنفة الذكر في الآية [١٢٥] من سورة النحل إزاء كل الناس وبدون استثناء ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ويظن كما قلنا أن بعض الكتابيين الجاحدين كانوا في جدلهم معاندين مكابرين بل بذيئين سيئي الأدب. فاقتضت حكمة التنزيل تنزيل الاستثناء في الآية [٤٦].
هذا ويتبادر والله أعلم أن آية وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ قد هدفت فيما هدفت إليه تقرير كون ما في القرآن وحي رباني ونفي كونه مقتبسا من كتب سابقة كانت متداولة. وهذا ما كان ينسبه إليه المشركون في جدالهم معه على ما تتضمنه الآية الرابعة والخامسة من سورة الفرقان: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً
(٥). وصيغة الآية التالية تدلّ على أنهم كانوا يعرفون أنه لا يقرأ ولا يكتب وأنه كان يستكتب ما في الكتب السابقة وتملى عليه ليحفظها. وآية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ في سورة النحل تفيد وتحكي نفس القول عنهم فهدفت الآية التي نحن في صددها بنفي ذلك مرة أخرى بالأسلوب الذي جاءت فيه والله أعلم. وفي القرآن آيات كثيرة جدا تقرر أن ما في القرآن جميعه وحي منزل من الله وبعلمه ومن ذلك آيات سورة الشعراء [١٩١- ١٩٢- ١٩٣- ١٩٤- ١٩٥- ١٩٦]. ومجموعة آيات سورة النساء [١٦٢- ١٦٣- ١٦٤].
استطراد إلى مسألة مكتسبات النبي ﷺ قبل النبوّة
وقد يتبادر لبعضهم استلهاما من آية وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أن النبي ﷺ لم يكن يعرف شيئا من أحوال وقصص الأمم السابقة وأنبيائهم قبل نزول الوحي عليه. بل إن هذا قد قاله غير واحد من علماء المسلمين ومفسريهم القدماء وهذا غير سليم بل مستغرب. فالآية إنما هدفت لنفي كون ما في القرآن من ذلك مقتبسا من الكتب المتداولة السابقة وهذا حقّ وصدق على ما شرحناه سابقا. ولكن هذا شيء وكون النبي ﷺ لم يكن يعرف من أحوال وقصص الأمم السابقة شيئا قبل الوحي شيء آخر. إن النبي ﷺ قد عاش خمسا وعشرين عاما قبل النبوّة في حالة وعي تام منذ بدء شبابه. وكان من أرجح العقول ذا ذهن متفتح متحرر يبحث عن الحقّ والحقيقة في مسائل الدين وأحوال الأمم السابقة وأديانها. ولقد كان في مكة أفراد من أهل الكتاب على شيء من العلم كان يلتقي بهم خلال هذه الفترة ويسمع منهم ويتحادث معهم وهذا ما أيّدته روايات عديدة وأشارت إليه ضمنا آيات قرآنية هي: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً [الفرقان: ٤]
وبعض المفسرين قالوا «٢» إن هذه الآية منسوخة بآية السيف وإنه لم يعد من خطته مع أهل الكتاب إلّا قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، استنادا إلى آية التوبة [٢٩] ونصّها قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. وقال آخرون «٣» بل هي محكمة ولا يصح قتال غير الظالمين المعتدين منهم. وسيرة الرسول عليه السلام وتلقينات آية سورة التوبة وغيرها في جانب القول الثاني دون الأول. وقد شرحنا ذلك بما فيه الكفاية في سياق سورة (الكافرون). وسنذكر ظروف آية التوبة ومداها حينما يأتي دور تفسيرها إن شاء الله.
وفي صدد جملة وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ نقول إننا علّقنا على جملة مماثلة في سورة الشورى وما ينبغي أن تكون عليه عقيدة المسلم في كتب الكتابيين المنسوبة إلى الله تعالى أو المحتوية لأقوال أنبيائهم بما فيه الكفاية فلا نرى حاجة للإعادة أو الزيادة، إلّا القول إن اختلاف الصيغة هنا عنها في سورة الشورى مردّه على ما هو المتبادر إلى صيغة الخطاب الموجّه في كلّ من الآيتين في كل من السورتين. فهو في آية الشورى موجّه للنبي فجاء بصيغة الخطاب المفرد وهو هنا موجّه للمسلمين فجاء بصيغة الخطاب الجمع. وصار الأمر القرآني
(٢) انظر الكتب المذكورة أيضا.
(٣) انظر الطبري.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢)
. في هذه الآيات:
١- حكاية لتحدّ وجّهه الكفار إلى النبي عليه السلام بالإتيان بالمعجزات والخوارق برهانا على صلته بالله.
٢- وأمر للنبي بالردّ عليهم بأن المعجزات والخوارق بيد الله وبأنه ليس إلّا نذيرا مبيّنا للناس بأمر الله الطريق التي يجب أن يسيروا فيها.
٣- وتساؤل في معرض الاستنكار عمّا إذا لم يكن فيما أوحى الله إلى النبي من كتاب الله الذي يتلى عليهم ما يكفيهم ويقنعهم. ففيه رحمة وتذكرة ربانيتان لا ريب فيهما لمن يؤمن أو يرغب في الإيمان حقا.
٤- وأمر آخر للنبي بإعلان المجادلين المتحدّين بأن يجعل الله بينه وبينهم شاهدا وحكما وفي ذلك الكفاية والبلاغ. فهو يعلم بكل ما في السموات والأرض ويعرف المحقّ من المبطل والصادق من الكاذب مع التوكيد بأن الخاسرين في هذا الاستشهاد والاحتكام هم المكابرون المصممون على الكفر المتمسكون بالباطل.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآية الأولى. وكل ما قالوه إنها ردّ على الكفار الذين طلبوا من النبي آية من ربّه تؤيده في دعواه. ولقد روى الطبري في سياق الآية الثانية [٥١] عن جعدة بن يحيى أن ناسا من المسلمين أتوا نبي الله
والرواية لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. وهي مدنية الطابع في حين أنه لا خلاف في مكية الآية. وبالإضافة إلى هذا فإن الآية منسجمة أشدّ الانسجام نظما وموضوعا بما قبلها وما بعدها. والخطاب فيها موجّه إلى الذين تحدّوا النبي باستنزال آية من ربّه. حيث يصحّ القول إن الرواية غير محتملة الصحة كمناسبة لنزول الآية. وكل ما يمكن أن يصحّ إذا صحّت الرواية أن يكون النبي قد ردّ على الذين ظنوا أنهم فعلوا صوابا بنقلهم بعض ما يقوله اليهود وأن الآية تليت في هذه المناسبة. والذي يتبادر لنا أن الآيات استمرار في حكاية موقف الجدل الذي بدئت به الآيات السابقة ومتصلة بالسياق. ومن المحتمل أن يكون التحدي من جاحدي الكتابيين كما يحتمل أن يكون من جاحدي المشركين. وإن كانت الآيات التالية لهذه الآيات ترجّح الاحتمال الثاني.
تعليق على آية وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ... وآية أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ...
وتحدّي الكفار النبي ﷺ بالإتيان بالمعجزات والآيات كان يتكرر في كل مناسبة جدلية على ما حكته آيات عديدة في سور عديدة سبق تفسيرها. وقد اقتضت حكمة الله أن لا يظهر على يد رسوله معجزة إجابة للتحدي وبرهانا على صدق رسالته لأن هذه الرسالة في غنى عن المعجزة مما انطوى في آيات كثيرة وشرحناه في سياق سورة المدثر وكان جواب القرآن لهم منطويا على ذلك المعنى، ثم على ما انطوى في هذه الآيات في مواضع عديدة من أن القرآن آية عظمى فيها المقنع لمن حسنت نيته ورغب في الحق والهدى. وقد يرد على البال معجزة انشقاق القمر وقد شرحنا هذا الأمر في سياق تفسير سورة القمر بما يغني عن التكرار.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)
. في هذه الآيات:
١- حكاية لتحدّي الكفار للنبي بالتعجيل بالعذاب الذي ينذرهم به في معرض الاستخفاف والاستهزاء.
٢- وردّ عليهم بأنه لولا اقتضاء حكمة الله بتأجيل العذاب إلى أجل معين في علمه لجاءهم فورا كما يطلبون.
قال البغوي إن الآيات نزلت في النضر بن الحارث حين قال: «فأمطر علينا حجارة من السماء» ولم يعز المفسر هذا إلى أحد ولم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولقد حكت إحدى آيات سورة الأنفال هذا القول بسبيل ذكر ما كان من الكفار من استعجال للعذاب على سبيل الهزء والاستخفاف وهي وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ
(٣٢) غير أن الاستعجال منهم قد تكرر وحكته عنهم آيات عديدة سابقة مع الردّ عليهم بحيث لا نرى مرجحا لتسويغ تخصيص النضر بالذكر في صدد نزول الآية. والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بحكاية موقف الكفار وحجاجهم وتحدّيهم التي احتوتها الآيات السابقة واستمرار للسياق. وقد احتوت تحدّيا جديدا للكفار فردّت عليهم كما احتوت ذلك الآيات السابقة. ولما كان التحدّي بتعجيل العذاب قد صدر مرارا من مشركي العرب فإننا اعتبرنا ذلك قرينة رجحنا بها أن التحدي بالإتيان بالمعجزات التي حكته الآيات السابقة هو منهم أيضا.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)
. (١) وكأيّن: بمعنى وكم في مقام الاستكثار.
في الآيات: خطاب موجّه إلى المؤمنين:
٢- ويطمئنهم بأن أرض الله واسعة يستطيعون أن يجدوا فيها الأمن والعافية والحرية.
٣- ويذكرهم بأن الموت مصير كل حيّ وبأن الله مرجع الناس جميعا.
٤- ويؤكد لهم بأن الله سينزل المؤمنين الصالحين بأعمالهم غرفا في الجنة تجري من تحتها الأنهار. وأنها لنعم الأجر لمن آمن وعمل صالحا وصبر على الحق وجعل اعتماده وتوكّله على الله.
٥- وينبههم إلى أنّ الله تعالى قد تكفّل برزق جميع خلقه من الأحياء. وكما أن كثيرا من الدواب لا تدّخر رزقا ولا تكسب ما يضمن لها الرزق والله يرزقها فإنه كذلك يرزقهم أيضا فلا يقلقوا من هذه الناحية، وهو السميع لكل ما يقال العليم بجميع الأحوال.
تعليق على آية يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ وما بعدها
ويبدو هذا الفصل جديدا بالنسبة للسياق السابق أو مستقلا عنه حيث ينتقل الخطاب فيه إلى المؤمنين في أمر مقامهم في مكة بعد حكاية الموقف الجدلي بين النبي والمؤمنين من ناحية، والكفار من ناحية. وحكاية تحدّي الكفار بالمعجزات وبالتعجيل بالعذاب. ومثل هذا الانتقال من أساليب النظم القرآني مما مرّ منه أمثلة عديدة ولهذا لا نرى انقطاعا تاما بين هذا الفصل وما قبله. والمتبادر أنه نزل بعد الآيات السابقة فوضع في ترتيبه.
ولقد أورد المفسرون أقوالا عديدة في صدد هذه الآيات معظمها بدون سند أو عزو إلى تابعي أو صحابي وواحد منها معزو إلى ابن عمر «١» منها أنها خطاب
ومنها أن النبي ﷺ لما اشتدّ الأذى على المسلمين في مكة وأمرهم بالخروج إلى المدينة قال بعضهم كيف نخرج إليها وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا ويسقينا فأنزل الله الآية الأخيرة. ومنها أنها نزلت في جماعة تخلّفوا عن الهجرة من مكة تحسبا من الموت والعوز والضيق في أرض الغربة. ومنها حديث رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر جاء فيه: «أنه دخل مع رسول الله ﷺ بستانا من بساتين الأنصار فجعل رسول الله ﷺ يلقط الرطب بيده ويأكل فقال: كل يا ابن عمر، قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: ولكنّي أشتهيه، وهذه صبح رابعة منذ لم أطعم طعاما ولم أجده، فقلت: إنّا لله، الله المستعان. قال: يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة ولكني أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين.
قال: فو الله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ... إلخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله عزّ وجلّ لم يأمرني بكنز الدنيا ولا باتباع الشهوات فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية فإنّ الحياة بيد الله. ألا وإني لا أكنز دينارا ولا درهما ولا أخبئ رزقا لغد» «١». وحديث ابن عمر والقول الذي قبله يقتضيان أن تكون الآيات أو الآية [٥٩] مدنية نزلت لحدّتها مع أنه ليس هناك رواية ما بذلك فيما اطلعنا عليه.
وقد قيل مثل القول الذي قبل الحديث في مناسبة الآيات الأولى من السورة وأوردناه وعلقنا عليه. والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. والأقوال الأخرى محتملة الصحة على ما يلهمه فحوى الآيات وروحها أيضا حيث يلهمان أنها نزلت في ظرف اشتدت فيه الأزمة على المسلمين في مكة. وقد تضمنت
وهذه السورة من آخر ما نزل من القرآن المكي أو آخره. وظروف نزولها يصادف على ما هو المتبادر لظروف اتصال النبي عليه السلام ببعض زعماء الأوس والخزرج في موسمين متواليين وإيمانهم وتعهدهم بنصرته ونصرة المؤمنين والترحيب بهم إذا هاجروا إلى المدينة المنورة التي كانت تسمى (يثرب) مما أشارت إليه آية سورة الحشر هذه إشارة تنويهية وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وقد أخذ المؤمنون يهاجرون إلى المدينة نتيجة لذلك «١». والظاهر أن بعضهم كانوا يحسبون حساب الموت في دار الغربة أو حساب العوز والضيق فاحتوت الآيات تطمينا كافيا ومشجعا من الناحيتين. بالإضافة إلى وعدهم بغرفات الجنات في حياتهم الأخروية.
ومن شأن أسلوب الآيات وفحواها أن يبعثا الطمأنينة وقوة العزيمة والاعتماد على الله والاستهانة بكل صعب في اللحظة الحرجة التي كان فيها المسلمون، حتى لقد عبرت آيات القرآن عن هجرتهم بما يفيد أنهم أرغموا عليها إرغاما كما ترى في آية سورة الحشر هذه التي احتوت تنويها بهم لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨).
وتظل الآيات مستمرة التلقين في كل ظرف مماثل تبعث في نفس كل مؤمن
ولقد روى البغوي بطرقه على هامش هذه الآيات وبخاصة على هامش الآيتين [٥٨ و ٥٩] حديثين عن النبي ﷺ جاء في أحدهما: «لو أنكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا». وجاء في ثانيهما عن ابن مسعود: «أيّها الناس ليس من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به وليس من شيء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة إلّا وقد نهيتكم عنه. وإنّ الروح الأمين قد نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها. فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب. ولا يحملنّكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله فإنّه لا يدرك ما عند الله إلّا بطاعته». والحديث الأول من مرويات الترمذي والحاكم عن عمر رضي الله عنه «١». وواضح من روح الحديثين وبخاصة الأول أنهما في صدد تحذير المسلمين من التماس الرزق من طريق المعاصي إذا ما أبطأ عليهم وفي صدد تطمينهم بأن اعتمادهم وتوكّلهم على الله هما الأولى والأجدر بهم وبذلك يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)
. (١) الحيوان: الحياة.
ولقد احتوت السور السابقة ما احتوته هذه الآيات وعلقنا عليها بما رأينا فيه الكفاية فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)
. (١) ليكفروا وليتمتعوا: قال المفسرون: إن من المحتمل أن تكون اللام في الكلمتين لام الأمر ويكون في معناهما الإنذار والتحدّي كما أن من المحتمل أن تكون لام التعقيب والتنديد بمعنى أنهم عادوا إلى الكفر والاستمتاع بالحياة ونسوا الله، ونحن نرجّح القول الأول بقرينة ما ينطوي في آخر الآية من إنذار.
في الآية الأولى صورة من صور تناقض الكفار المشركين فهم يخصون الدعاء لله وحده حينما يركبون الفلك لينجيهم إلى البر استتباعا لعقيدتهم بأنه خالق
وأسلوبها أسلوب تنديدي. أما الآية الثانية ففيها إنذار. فليكفروا كما شاءوا وليتمتعوا بدنياهم القصيرة الأمد لهوا ولعبا فليس هو إلا متاعا قليلا وعرضا زائلا وسوف يرون مغبة كفرهم وشركهم وسوء عاقبتهما.
وواضح أن الآيتين متصلتان بسابقاتهما سياقا وموضوعا. وهذه الصورة قد تكررت في بعض السور السابقة وعلّقنا عليها بما يقتضي فلا حاجة للإعادة والزيادة، إلّا أن نقول إن في الآية الأولى دلالة على العرب من أهل مكة الذين تعنيهم الآية كانوا يقومون بالأسفار البحرية ويتعرضون فيها لمخاطر البحر وهي على الأرجح أسفار أو رحلات تجارية.
[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٦٧]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧)
. في الآية سؤال استنكاري في معرض التنديد موجّه إلى الكفار عمّا إذا كانوا لا يرون أن من نعمة الله عليهم أن جعل لهم حرما آمنا يتمتعون فيه بالأمن والسلامة بينما الناس الذين حولهم والذين يقطنون خارجه معرضون للمهالك والأخطار.
وعمّا إذا كان يتسق مع الحقّ والعقل أن يكفروا بنعمة الله ويشركوا معه غيره ويؤمنوا بما هو باطل وضلال.
والآية متصلة بسابقاتها واستمرار على موقف الحجاج أو بسبيله كما هو المتبادر. وروحها يلهم أن مشركي قريش الذين يقوم الجدل بينهم وبين النبي يعترفون أنهم في حرم الله وأن أمنه المحترم من الناس جميعا هو متصل بتقليد ديني بأمر الله. ومن هنا استحكم التنديد بهم. وقد شرحنا هذه النقطة في سياق سور قريش والأعلى والقصص وإبراهيم شرحا يغني عن التكرار.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
في الآية الأولى تساؤل في معرض التنديد والتقرير بأنه ليس من أحد أشدّ بغيا وانحرافا ممن يفتري على الله الكذب فينسب إليه ما هو براء منه أمرا وعملا وشركا، أو ممن يكذب بالحقّ ويعاند فيه حينما يتضح ويقوم عليه البرهان.
وتساؤل آخر في معرض الإنذار والتقرير أيضا بأن جهنّم هي مثوى الكافرين الأبدي الذين منهم هؤلاء، وفي الآية الثانية تنويه بمن جاهد في الله وبشرى بأن الله موفقه وهاديه إلى سبيله لأن الله مع المحسنين دوما.
والآيتان على ما هو المتبادر جاءتا بمثابة تعقيب على حكاية موقف الجدل والحجاج التي تضمنتها الآيات السابقة وبمثابة إنهاء للموقف كما جاءتا في الوقت ذاته خاتمة لآيات السورة وأسلوبها متسق مع كثير من خواتم مواقف الجدل وخواتم السور أيضا.
ويلحظ أن بين جملة وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا وبين ما جاء في أول السورة وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ شيء من التساوق والتوضيح حيث يمكن أن يكون من حكمة ذلك ربط أول السورة بآخرها وأن يكون في ذلك دلالة على أن فصول السورة نزلت متوالية حتى تمّت وهذا يلحظ في كثير من السور على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. وقد يكون في ذلك دليل على مكيّة الآيات الأولى للسورة ونقض آخر لرواية مدنيتها. والله أعلم.
والآية الأولى تتضمن التقرير بأن المشركين هم الظالمون لأنهم في جدلهم وعنادهم يفترون على الله الكذب، ومع أنهم يعتقدون بأنه الخالق المدبّر يناقضون أنفسهم فيشركون معه غيره. ولعلّها في مقامها ومجيئها بعد الآيات التي حكت
ومع ما يمكن أن يكون للآيتين من خصوصية زمنية فإن أسلوبهما القوي المطلق ينطوي على تلقين مستمرّ المدى ضدّ كل من يفتري على الله الكذب ويكذب الحق ويكابر فيه، وفي التنويه بكل من يجاهد في الله وفي وصفهم بالمحسنين الذين يعدّهم الله بأن يكون معهم دائما ناصرا ومؤيدا.
والشرح الذي شرحنا به الآية الثانية هو ما تمليه ظروف العهد المكي الذي نزلت فيه غير أنها واسعة المدى والشمول بحيث تتضمن تلقينا قويا مستمرا للمسلم في كل ظرف ومكان بواجب بذل كل جهد في الدفاع عن دين الله والتزام حدوده والتبشير به ونشره لسانا وقلما ومالا وبدنا وفرادى وجماعات وشعوبا وحكومات.