تفسير سورة العنكبوت

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿الم﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة)
﴿وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾ أي لا يمتحنون ويختبرون بما يتبين به حقيقة إيمانهم. وذلك بنقص الأموال، وموت الأولاد، والقحط، وغير ذلك. وكما يكون الامتحان والاختبار بالفقر، والمرض، والموت، والجدب؛ فإنه يكون أيضاً بالغني والعافية. وكما يكون الابتلاء بالضراء، يكون بالنعماء والسراء، وقد فتن سليمان عليه السلام بكليهما. قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ﴾
﴿أَن يَسْبِقُونَا﴾ يفوتونا؛ فلا نستطيع إدراكهم ومعاقبتهم
﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ﴾ ومثوبته في الآخرة ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ﴾ الذي أجله ووقته لهذا اليوم الموعود ﴿لآتٍ﴾ لا ريب فيه ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لكل ما يقال ﴿الْعَلِيمُ﴾ بكل ما يفعل؛ فيجازي عليه
﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ أي لمنفعتها؛ لأن في الجهاد: حماية الأهل والوطن، ودفع العدو الغاشم، وإعلاء الدين، ودخول الجنة
﴿لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ لنمحونها عنهم
﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾ أي أمرناه بالإحسان إليهما (انظر آية ٢٣ من سورة الإسراء) ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي﴾ في العبادة ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ فقد علمت أن المعبود بحق هو الله تعالى وحده ﴿فَلاَ تُطِعْهُمَآ﴾ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهي الحالة الوحيدة التي يجوز فيها مخالفة الوالدين وعصيانهما؛ إذا هما أكرها ابنهما على الإشراك بالله
﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ﴾ أي لنحشرنهم مع الأولياء والأنبياء
﴿فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ﴾ أي بسبب إيمانه ب الله تعالى ﴿جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ﴾ أي إذايتهم له ﴿كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ المتوقع للعصاة؛ فاضطر بسبب ضعف إيمانه، وفساد عقيدته، إلى الخوف من الناس، والتزلف إليهم ﴿أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾ من إيمان، أو شرك، أو نفاق
﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ بقلوبهم ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ الذين أظهروا الإيمان، وأبطنوا الغش والخداع
﴿اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا﴾ ديننا ﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ في أتباعنا
﴿وَلَيَحْمِلُنَّ﴾ القائلون «اتبعوا سبيلنا» ﴿أَثْقَالَهُمْ﴾ أوزارهم؛ بكفرهم ﴿وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ أي أوزاراً مع أوزارهم؛ وهي ذنوب من اتبعهم واستن بسنتهم السيئة؛ من العصاة والكافرين (انظر آية ٢٩ من سورة المائدة)
﴿وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً﴾ أي وجعلنا السفينة علامة على قدرتنا ووحدانيتنا. أو وجعلنا هذه القصة عبرة لمن يعتبر، وعظة لمن يتعظ
﴿أَوْثَاناً﴾ أصناماً ﴿وَتَخْلُقُونَ﴾ أي تنحتون ﴿إِفْكاً﴾ كذباً. والمعنى: إنما تعبدون أصناماً تنحتونها بأيديكم ﴿لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً﴾ أي لا يستطيعون رزقكم، ولا أنفسهم يرزقون ﴿فَابْتَغُواْ﴾ اطلبوا ﴿عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ فهو وحده ﴿الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ ﴿وَاعْبُدُوهُ﴾ حق عبادته ﴿وَاشْكُرُواْ لَهُ﴾ أنعمه عليكم ﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فيجزيكم على شكركم ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ﴾ رؤية روية وتفكر ﴿كَيْفَ يُبْدِيءُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾ يبدأه من غير مثال سبق
-[٤٨٤]- ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ يوم القيامة كما بدأه ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾
﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ﴾ أي يعيد الخلق مرة أخرى، ويبعثهم يوم القيامة؛ وحينئذٍ
﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ تعذيبه؛ وهو من مات على الكفر، أو أصر على الفسق؛ ولم يؤمن بربه، أو يتب من ذنبه ﴿وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ﴾ رحمته؛ ممن آمن به، وتاب عما فرط منه، وابتعد عن محارمه ﴿وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ ترجعون
﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أي بفائتين الله تعالى، وناجين من عذابه: مهما كنتم، وأين كنتم؛ فإنه مدرككم ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿مِن وَلِيٍّ﴾ يمنعكم منه ﴿وَلاَ نَصِيرٍ﴾ ينصركم عليه
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ القرآن الكريم ﴿وَلِقَآئِهِ﴾ أي كفروا بالبعث والقيامة
﴿أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي﴾ بهم؛ حين يرون العذاب ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ أي جواب قوم إبراهيم على دعوته لهم لعبادة الله تعالى، وترك عبادة الأوثان ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ الإنجاء من النار ﴿لآيَاتٍ﴾ عبر ومعجزات؛ إذ جعل الله النار برداً وسلاماً عليه
﴿أَوْثَاناً﴾ أصناماً ﴿مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ﴾ أي جعلتم عبادة الأوثان سبباً للمودة فيما بينكم ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾ يتبرأ القادة من الأتباع ﴿وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ يلعن الأتباع قادتهم
﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ أي آمن بإبراهيم، وصدق برسالته؛ وهو ابن أخيه ﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ أي منتقل من جانبكم إلى طاعة الله تعالى. وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن القائل: هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ وأنه هاجر من سواد العراق إلى الشام. وقيل: إن القائل هو لوط عليه السلام
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ﴾ أي لإبراهيم ﴿إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ﴾ أي ذرية إبراهيم ﴿النُّبُوَّةَ﴾ فكل الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته ﴿وَالْكِتَابَ﴾ اسم جنس؛ بمعنى الكتب. أي وجعلنا نزول الكتب في الأنبياء من ذريته أيضاً: كالتوراة لموسى، والإنجيل لعيسى، والزبور لداود ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا﴾ وهو الثناء الحسن في كل أهل الأديان، وبين سائر الملل
﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ وهي إتيان الذكران «اللواط» ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا﴾ أي بهذه الفاحشة؛ وقد كانوا - لعنهم الله تعالى - أول من ابتدعها، واقترفها
﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ الطريق؛ لأن كل من مر؛ كان عرضة لانتهاك عرضه ﴿فِي نَادِيكُمُ﴾ في مجلسكم ومجتمعكم ﴿الْمُنْكَرَ﴾ هو ما ينكره الشرع والعرف والذوق؛ وقد كانوا يفعلون الفاحشة ببعضهم نهاراً جهاراً ﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ﴾ الذي أوعدتنا بنزوله ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ فيما تقوله
﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ﴾ ملائكتنا إلى ﴿إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾ بالبشارة بالولد؛ أو بإهلاك أعدائه ﴿قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ قرية لوط عليه السلام
﴿قَالَ﴾ إبراهيم لرسل ربه ﴿إِنَّ فِيهَا﴾ أي إن في القرية التي أمرتم بإهلاك أهلها ﴿لُوطاً﴾ وهو جدير بالحفظ، قمين بالنجاة ﴿قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا﴾ من الظالمين فنهلكهم، ومن المؤمنين فننجيهم؛ و ﴿لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ وهم من آمن معه ﴿إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ الباقين في العذاب
﴿سِيءَ بِهِمْ﴾ ساءه مجيئهم؛ خشية الفضيحة بسببهم ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾ أي ضاق صدره من أجلهم؛ وقد كانوا حسان الوجوه؛ فخشى اعتداء قومه عليهم كعادتهم. فلما رأى الملائكة خوفه وحزنه: قاموا بتسليته
-[٤٨٦]- ﴿وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ﴾ من شيء ﴿وَلاَ تَحْزَنْ﴾ على شيء
﴿إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً﴾ عذاباً
﴿وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً﴾ أي تركنا من القرية دلالة واضحة؛ على ما حل بها من الخراب والدمار؛ وهي آثارها وأطلالها البالية ﴿وَارْجُواْ الْيَوْمَ آلآخِرَ﴾ يوم القيامة، وما فيه من أهوال
﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ﴾ العثى: أشد الفساد
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ الزلزلة الشديدة ﴿جَاثِمِينَ﴾ باركين على الركب ميتين
﴿وَعَاداً﴾ قوم هود ﴿وَثَمُودَ﴾ قوم صالح ﴿وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ﴾ ما حل بهم من دمار واستئصال؛ وكانوا يرونها في أسفارهم نحو اليمن ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ منعهم عن الإيمان ﴿وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ﴾
أي ذوي عقول وإدراك وتمييز؛ لكنهم لم يؤمنوا؛ فكان كفرهم أشد من كفر غيرهم؛ وذلك كقوله تعالى: ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾
﴿وَقَارُونَ﴾ من قوم موسى؛ وقد مضى ذكره في سورة القصص ﴿وَهَامَانَ﴾ وزير فرعون ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالحجج الواضحات الظاهرات ﴿وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ﴾ أي فائتين، وناجين من العذاب؛ بل أهلكناهم كما أهلكنا المكذبين والمستكبرين من قبلهم ومن بعدهم
﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا﴾ أهلكنا ﴿بِذَنبِهِ﴾ الذي ارتكبه بفعله واختياره ﴿فَمِنْهُم﴾ كقوم لوط؛ والحاصب: الريح ترمي بالحصباء؛ وهي الحصى الصغار ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ﴾ كثمود وأهل مدين. والصيحة: العذاب؛ أو هي مقدمة لكل عذاب ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ﴾ كقارون
-[٤٨٧]- ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا﴾ كقوم نحو ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ ليعاقبهم بغير ذنب أتوه ﴿وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بارتكاب الذنوب، وتعريضها للعقاب
﴿أَوْلِيَآءَ﴾ نصراء؛ والمقصود بها الأصنام ﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ﴾ أضعفها
﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ﴾ يعبدون ﴿مِن دُونِهِ﴾ غيره ﴿مِّن شَيْءٍ﴾ أي إنهم لا يعبدون شيئاً يذكر بين الأشياء؛ وأن معبوداتهم: لا ترتفع إلى درجة الوجود؛ فما بالك إذا قيست بالواجد لكل موجود
﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ﴾ العنكبوت، والبعوضة، وما شابههما ﴿نَضْرِبُهَا﴾ نسوقها ﴿وَمَا يَعْقِلُهَآ﴾ ما يفهمها ويتدبرها ﴿إِلاَّ الْعَالِمُونَ﴾ المتدبرون ﴿لآيَةً﴾ دالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته
﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ عن الحسن رضي الله تعالى عنه: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر: فليست صلاته بصلاة ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ المراد بالذكر: التذكر. أي ولتذكر الله تعالى وخشيته، والإسراع في مرضاته، والابتعاد عن محرماته: أكبر من سائر العبادات؛ إذ أن العبادات وسيلة لمعرفة الله تعالى وخشيته؛ واتباع أوامره، واجتناب نواهيه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولذكر الله إياكم برحمته: أكبر من ذكركم إياه بطاعته ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ فيجازيكم عليه، ويؤاخذكم به
﴿إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ﴾ بأن آذوكم وقاتلوكم؛ فأغلظوا عليهم، ونكلوا بهم ﴿وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا﴾ الذي ﴿وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ من الكتب
﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو﴾ تقرأ ﴿مِن قَبْلِهِ﴾ أي قبل نزول القرآن ﴿مِن كِتَابٍ﴾ أي مكتوب ﴿وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ لأنك أمي: لا تقرأ ولا تكتب؛ وهي معجزة لك؛ دالة على صدقك. ولو كنت تكتب وتقرأ ﴿إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ أي لو كنت تتلو الكتب المتقدمة - قبل نزول القرآن - وتكتب بيمينك ما نزل عليك: لشك المبطلون في رسالتك، وحق لهم أن يشكوا وقتذاك. ولكنك أمي لم تقرأ كتاباً، ولم تخط بيدك سطراً؛ فلم إذن الشك والارتياب؟
﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ﴾ بعد وضوحها، وإحاطتها بسياج منيع يبعد بها عن الشبهات ﴿إِلاَّ الظَّالِمُونَ﴾ الكافرون
﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي هلا أنزل عليه آيات من ربه: مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى؛ عليهم السلام
﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ﴾ من الآيات الدالة على صدقك ﴿أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ أي أولم يكفهم من الآيات المعجزات: هذا القرآن الذي أنزلناه عليك وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك لأنك أمي؛ وهذا القرآن - الذي جئت به - أعجز الفصحاء والبلغاء؛ وفيه رحمة وهدى، وشفاء للمؤمنين، وقد أحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث؛ ولم يستطيعوا - رغم قوة حجتهم، وبلاغة عارضتهم - أن يأتوا بمثل سورة منه؛ وهو معجزة المعجزات أبد الآبدين، ودهر الداهرين
﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ﴾ وهو كل معبود سوى الله تعالى ﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ بقولهم: «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم»
﴿وَلَوْلاَ أَجَلٌ﴾ وقت ﴿مُّسَمًّى﴾ ضربناه لنزول العذاب بهم ﴿لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ﴾ حين استعجلوا به ﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً﴾ فجأة
﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ﴾ يغطيهم ﴿وَيِقُولُ﴾ أي يقول لهم ربهم على لسان ملائكته - لأنهم محجوبون عن التلذذ بخطاب العزيز الكريم - ﴿ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي جزاءه
﴿يعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ فإذا أوذيتم في بلدة؛ فهاجروا منها إلى غيرها
﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ لننزلنهم ﴿مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً﴾ الغرف: أعالي الجنة ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أبداً؛ خلوداً لا نهاية له
﴿الَّذِينَ صَبَرُواْ﴾ على الطاعات، وعن المعاصي
﴿وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ﴾ أي وكم من دابة. والدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان، أو حيوان، أو طير، أو حشرة، أو نحوه ﴿لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ أي لا تستطيع الحصول عليه، ولا تدخره ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالكم ودعائكم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأفعالكم وضمائركم
والعجب كل العجب: أن تضرب الصخرة؛ فتنشق عن حشرة: لا تدري حين تلقاها، من أين يرزقها مولاها، وعلى أي شيء أنشأها ورباها وهي إن لم تجد القوت؛ فليس لها حتماً سوى الموت وتجد الإنسان - صاحب الحول والطول، والحيلة والدهاء والتدبير - دائب الكد، متواصل السعي؛ فلا يدرك - بكده وجهده - غير لقمته، ولا يبلغ من حياته سوى الكفاف، أو ما هو دون الكفاف وتجد آخر متربعاً في عقر داره؛ يحمل إليه فاخر الملبس، ونفيس المأكل والمشرب؛ بما يفيض عن حاجته، ويزيد عن طلبته؛ ليسجل تعالى على مخلوقاته: أنه الرازق بلا سبب، المعطي بلا طلب رزق «السميع العليم» الذي تكفل بما خلق؛ وساق لكل ما أراده تعالى له، لا ما أراده هو لنفسه؛ فتعالى المدبر الحكيم، الرزاق الكريم ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ فكيف يصرفون عن الإيمان، بعد اعترافهم
﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ يوسعه من غير سبب ﴿لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ من غير طلب ﴿وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ ويضيق عليه؛ بعد التوسعة: ابتلاء له، أو انتقاماً منه
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ إذ يعترفون بخلقته، ويكفرون بوحدانيته
﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ﴾ وما فيها من زخرف وبهجة ﴿إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾ لا بقاء له، ولا ثمرة فيه ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ أي لهي الحياة الحقيقية: الدائمة النعيم، الباقية السرور والحبور؛ الجديرة بأن تسمى حياة
﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ﴾ في السفن؛ وهاج عليهم البحر العجاج، وتلاطمت بهم الأمواج؛ وظنوا ألا مهرب من الله إلا إليه ﴿دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أي صادقين في نيتهم، مخبتين في دعوتهم: فاستجاب ربهم لدعائهم؛ وهو تعالى دائم الاستجابة لمن دعاه، ولو كان عابداً لسواه فتعالى الملك العظيم، البر التواب الرحيم ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ﴾ وأمنوا الهلاك والإغراق ﴿إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ بمولاهم، ويكفرون بمن أنجاهم
﴿لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ﴾
من نعمة الإثراء والإنجاء ﴿وَلِيَتَمَتَّعُواْ﴾ بالدنيا وما فيها من نعيم زائل؛ ما هو ﴿إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾ ﴿فَسَوْفَ يَعلَمُونَ﴾ عاقبة أمرهم، ومغبة كفرهم
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ أي جعلنا بلدهم حرماً يأمن داخله؛ في حين أن الناس تتخطف من حولهم بالقتل، والسلب، والسبي ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ﴾ الأصنام، وكل ما عدا الله ﴿يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾ الإسلام، ومحمد عليه الصلاة والسلام ﴿يَكْفُرُونَ﴾ فياعجباً لهم: اشتروا دنياهم بآخرتهم، وشقاءهم بسعادتهم؛ فتعساً لهم
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ أي لا أحد أظلم ﴿مِمَّنْ افْتَرَى﴾ اختلق ﴿عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾ بأن نسب له الشريك والولد ﴿أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ﴾ القرآن والإسلام ﴿مَثْوًى﴾ مأوى
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا﴾ أي جاهدوا من أجلنا. والجهاد يطلق على مجاهدة النفس والشيطان، وأعداء الدين ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ أي لنهدينهم إلى سبيل الخير والتوفيق. أو والذين جاهدوا فيما علموا؛ لنهدينهم إلى ما لم يعلموا؛ لأن من عمل بما علم: أعطاه الله علم ما لم يعلم ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ بالعون، والنصر، والحفظ، والهداية
490
سورة الروم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

491
Icon