تفسير سورة الجاثية

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ﴾ القرآن ﴿مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ﴾ في ملكه ﴿الْحَكِيمِ﴾ في صنعه
﴿إِنَّ فِي﴾ خلق ﴿السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ وما فيهما ﴿لآيَاتٍ﴾ علامات دالة على وحدانية الله تعالى، وقدرته
﴿وَفِي خَلْقِكُمْ﴾ أيضاً: آية وأي آية (انظر آية ٢١ من سورة الذاريات) ﴿وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ﴾ البث: النشر، والتفريق في الأرض؛ أي إن جميع ذلك ﴿آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ بالبعث؛ لأن من قدر على خلق السموات والأرض، وما فيهما، ومن فيهما، وصوركم، فأحسن صوركم، وفرق في الأرض - بقدرته - من أنواع الدواب، وأصناف البهائم؛ ما فيه خيركم ومصلحتكم: قادر على أن يعيد خلقكم كما بدأكم، ويبعثكم للحساب والجزاء يوم القيامة في
﴿اخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ بالزيادة والنقصان، والذهاب والمجيء ﴿وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ﴾ مطر. وسمي رزقاً؛ لأنه سبب له ﴿فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ جدبها ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ تقليبها: مرة جنوباً، ومرة شمالاً، وباردة تارة، وحارة أخرى؛ كل ذلك حسب حاجات الإنسان، وغذائه وكسائه. وفي جميع ذلك ﴿آيَاتِ﴾ بينات ﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ الدليل والبرهان، ويتدبرون الحقائق مجردة عن العناد والهوى
﴿تَلْكَ﴾ الآيات المذكورة ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾ الدالة على وجوده، المثبتة لقدرته، المؤيدة لوحدانيته ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي بالصدق الذي لا يلابسه شك، أو بطلان؛ فإذا لم يؤمنوا به ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ﴾ حديث ﴿اللَّهْوِ﴾ بعد ﴿آيَاتُهُ﴾ البينات ﴿يُؤْمِنُونَ﴾
﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾
﴿وَيْلٌ﴾ عذاب شديد ﴿لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ كذاب، كثير الآثام
﴿ثُمَّ يُصِرُّ﴾ على كفره
﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً﴾ كقول بعضهم في الزقوم: إنه الزبد والتمر. وفي خزنة جهنم: إن كانوا تسعة عشر - كما يقول محمد في قرآنه - فأنا ألقاهم وحدي
﴿مِّن وَرَآئِهِمْ﴾ أي من وراء حياتهم في الدنيا، ووراء ما هم فيه من التعزز والتكبر؛ وراء جميع ذلك ﴿جَهَنَّمُ﴾ يصلونها وبئس المصير ﴿وَلاَ يُغْنِي﴾ لا ينفع، ولا يدفع ﴿عَنْهُم﴾ العذاب ﴿مَّا كَسَبُواْ﴾ في الدنيا من المال والفعال ﴿وَلاَ﴾ يغني عنهم ﴿مَا اتَّخَذُواْ﴾ عبدوا ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿أَوْلِيَآءُ﴾ من الأصنام ﴿هَذَا﴾ القرآن
﴿هُدًى﴾ من الضلال ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ الدالة على ربوبيته ووحدانيته ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ﴾ الرجز: أشد العذاب
﴿لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ﴾ السفن ﴿فِيهِ بِأَمْرِهِ﴾ بإرادته، وحفظه، وكلاءته ﴿وَلِتَبْتَغُواْ﴾ تطلبوا ﴿مِن فَضْلِهِ﴾ رزقه؛ بحمل التجارات، والتقلب في البلاد
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من شموس وأقمار وأنجم، وهواء وماء وغير ذلك ﴿وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ من دواب وأشجار، ونبات وأنهار، وغير ذلك. سخر ذلك ﴿جَمِيعاً مِّنْهُ﴾ بإرادته وقدرته؛ لا بإرادتكم أنتم وقدرتكم ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ﴾ دلالات على قدرته ووحدانيته
﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ﴾ يعفوا ويتجاوزوا ﴿لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ أي لا يخافون بأسه ونقمته، أو لا يرجون ثوابه، ولا يخشون عقابه ﴿لِيَجْزِيَ﴾ الله ﴿قَوْماً﴾ بالنعيم ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ من الإحسان والغفران. قيل: نزلت قبل نزول الأمر بالقتال. وقيل: بل هي عامة؛ فانظر - يا رعاك الله وهداك - إلى دين يأمر بالعفو عن أعدائه والصبر على أذاهم، والغفران لذنوبهم، ويحث على الإحسان إليهم
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾ التوراة ﴿وَالْحُكْمَ﴾ الشرائع المنزلة عليهم، والتي يحكمون بها بين الناس ﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ أكثر ما بعث الله تعالى من الأنبياء في بني إسرائيل: من وقت يوسف، إلى زمن عيسى عليهما السلام
-[٦١٣]- ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ أي الحلال من الأقوات، أو هو المن والسلوى
﴿وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ﴾ الشرائع التي تحل الحلال، وتحرم الحرام. أو هو أمر الرسول - صلوات الله تعالى وسلامه عليه - وعلائم بعثته، ودلائل نبوته ﴿فَمَا اخْتَلَفُواْ﴾ في أمر دينهم ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام ﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ حسداً منهم، وطلباً للرئاسة؛ فقتلوا أنبياءهم، وأنكروا شرائعهم، وحاربوا ربهم ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ﴾ يحكم ويفصل؛ فيعاقب العاصي، ويثيب الطائع
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ﴾ يا محمد ﴿عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ﴾ الشريعة: المذهب والملة؛ وهي ما شرعه الله تعالى لعباده. أي جعلناك على منهاج واضح من الدين
﴿إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ﴾ لن يدفعوا ﴿عَنكَ مِنَ اللَّهِ﴾ من عذابه؛ إن أراد أن ينزله بخير خلقه وأقربهم منه
﴿هَذَا﴾ القرآن ﴿بَصَائِرُ لِلنَّاسِ﴾ البصائر: جمع بصيرة؛ وهو ما يبصر بالقلب. ولما كان القرآن وسيلة لإبصار الهدى والرشاد، وكان القلب محلاً للإبصار الحقيقي: سماه تعالى بصائر. كما سماه روحاً، وحياة، وشفاء
﴿اجْتَرَحُواْ﴾ اكتسبوا ﴿أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ﴾ لا؛ فإنهما يختلفان تمام الاختلاف: فالمؤمن يحيا مؤمناً ويموت مؤمناً، والكافر يحيا كافراً ويموت كافراً؛ فشتان بين الاثنين، وشتان بين المآلين
﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ عملت من خير أو شر
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ أي أطاع هواه في كل ما أمره به؛ فكان في طاعته العمياء كالعابد له (انظر آية ١٧٦ من سورة الأعراف) ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ منه تعالى؛ بأنه من أهل الضلال قبل أن يخلق. أو أضله على علم من الضال بفساد ما يعبده من أصنام، وما يحيط به من أوهام ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾ أصمه عن سماع الوعظ، وجعل قلبه لا يقبل الحق
-[٦١٤]- ﴿وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ غطاء؛ فلا يرى الحق ﴿فَمَن يَهْدِيهِ﴾ إذن ﴿مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ تتذكرون ذلك وتفقهونه
﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ﴾ أنكروا البعث: وهو أشد أنواع الكفر وقد وجد في هذا العصر من يدين بهذا الدين، ويدعو لهذا المذهب؛ فلهم الخزي والويل يوم يقال لهم ﴿الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ (انظر مبحث «التعطيل» بآخر الكتاب) ﴿إِنْ هُمْ﴾ ما هم ﴿إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ ظناً فاسداً، لا على وجه العلم والتأكد
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا﴾ من القرآن؛ الدالة على قدرتنا على بعثهم وإعادتهم ﴿مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ﴾ حيال ذلك ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ معارضين مناوئين ﴿ائْتُواْ بِآبَآئِنَآ﴾ السابقين أحياء ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ فيما تزعمونه من بعثنا بعد موتنا
﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ﴾ ابتداء ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انتهاء آجالكم ﴿ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أحياء كما كنتم في الدنيا ﴿لاَ رَيْبَ﴾ لا شك ﴿فِيهِ﴾ في يوم القيامة
﴿يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ﴾ الكافرون
﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ مجتمعة، باركة على الركب؛ من فرط الذل والهوان ﴿كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾ إلى صحائف أعمالها
﴿هَذَا كِتَابُنَا﴾ الذي كتبته الحفظة ﴿يَنطِقُ﴾ يشهد بما فيه ﴿عَلَيْكُم بِالْحَقِّ﴾ الذي كان منكم ﴿إِنَّ كُنَّا﴾ في الدنيا ﴿نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي كنا نأمر الملائكة بكتابة أعمالكم
﴿فِي رَحْمَتِهِ﴾ في جنته ومغفرته
﴿أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أي يقال لهم ذلك ﴿فَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ عن سماعها، وعن تفهمها
﴿وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا﴾ أي والقيامة لا شك في وقوعها
﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ﴾ أي ظهر لهم جزاء السيئات التي عملوها؛ وهو العذاب المعد لهم ﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي نزل بهم إثم استهزائهم بكتبهم، ورسلهم
﴿وَقِيلَ﴾ لهم ﴿الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ﴾ من رحمتنا ومغفرتنا ﴿كَمَا نَسِيتُمْ﴾ وأغفلتم ﴿لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ فلم تصدقوا به، ولم تعملوا له
﴿وَغَرَّتْكُمُ﴾ خدعتكم ﴿الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ بلهوها وزخرفها؛ فتمسكتم بها، وحرصتم عليها أي لا يخرجون من الجحيم؛ بل يخلدون فيه ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ﴾ أي لا يسترضون؛ لأن الاستعتاب: الاسترضاء، والإعتاب: إزالة الشكوى. أو هو من العتاب أي ولا هم يعاتبون: لأن العتاب من علامات الرضا؛ وهو مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الوجدان؛ وليس ثمة إدلال، بل إذلال. ولا وجدان بل خذلان وكيف يكون إدلال ووجدان، وقد فعلوا كل موجبات الغضب والحرمان على عدله، والشكر على فضله
﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ﴾ العظمة والجلال، والبقاء والسلطان ﴿وَهُوَ الْعِزِيزُ﴾ في ملكه في صنعه
615
سورة الأحقاف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

616
Icon