تفسير سورة الجاثية

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الجاثية
آياتها سبع وثلاثون وهي مكية

﴿ حم ﴾ إن جعلت حم مبتدأ خبره ﴿ تنزيل الكتاب ﴾ وإن جعلتها تعديدا للحروف وكان تنزيل مبتدأ خبره ﴿ من الله العزيز ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:﴿ حم ﴾ إن جعلت حم مبتدأ خبره ﴿ تنزيل الكتاب ﴾ وإن جعلتها تعديدا للحروف وكان تنزيل مبتدأ خبره ﴿ من الله العزيز ﴾

﴿ من الله العزيز ﴾ في انتقامه ﴿ الحكيم ﴾ في تدبيره. وعلى التأويل الأول من الله صلة لتنزيل، وقيل حم مقسم به وتنزيل الكتاب صفة وجواب القسم.
﴿ إن في السماوات والأرض لآيات ﴾ دالة على قدرة الله ووحدانيته ﴿ للمؤمنين ﴾ يحتمل أن تكون الآية على ظاهرها وأن يكون المعنى إن في خلق كما في قوله ﴿ وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون ﴾.
﴿ وفي خلقكم ﴾ أي في خلق كل منكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى أن صار إنسانا ﴿ وما يبث من دابة ﴾ جاز أن يكون عطفا على الضمير المجرور. والأحسن أن يقال إنه معطوف على خلقكم فإن بثه وتنوعه واستجماعه لما يتم به معاشه إلى غير ذلك ﴿ آيات ﴾ دلائل على وجود الصانع المختار ووحدته وكمالاته. قرأ حمزة والكسائي ويعقوب آيات منصوبا بكسر التاء عطفا على اسم إن والباقون بالرفع عطفا على محلها، ﴿ لقوم يوقنون ﴾ أنه لا إله إلا الله، وأن البعث حق.
﴿ واختلاف الليل والنهار ﴾ صيفا وشتاء وفي ذهابها ومجيئها ﴿ وما أنزل الله من السماء من رزق ﴾ أي مطر. سماه رزقا لكونه سببه ﴿ فأحيا به الأرض بعد موتها ﴾ أي جعلها مخضرة بعد يبسها ﴿ وتصريف الرياح ﴾ باختلاف جهاتها وأحوالها، قرأ حمزة والكسائي الريح على الأفراد باعتبار الجنس والباقون على الجمع باعتبار جهاتها قبولا ودبورا وجنوبا وشمالا ﴿ آيات لقوم يعقلون ﴾ الدلائل فيؤمنون أو المعنى لقوم أولي عقل فإن الكفار كالأنعام بل هم أضل. قرأ حمزة والكسائي ويعقوب آيات منصوبا بكسر التاء والباقون بالرفع وهو عطف على معمولي عاملين مختلفين كلمة في مع معنى الابتداء أو كلمة إن والمجرور مقدم ألا يضمر في أو ينصب آيات على الاختصاص أو ترفع بإضمار هي، قال البيضاوي اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدقة والظهور، والظاهر أنه لتفنن العبارة وإلا فالإيمان والإيقان واحد، وهو من ثمرات العقل فإن العقل السليم يقتضي الإيمان بمبدع السماوات والأرض وما بينهما.
﴿ تلك ﴾ الآيات آيات الله، دلائل قدرته، مبتدأ وخبر ﴿ نتلوها عليك ﴾ حال عاملها معنى الإشارة أو خبر ثان ﴿ بالحق ﴾ متلبسين به أو متلبسة به ﴿ فبأي حديث ﴾ الفاء جزائية تقديره فإن تؤمنوا بآيات الله فبأي حديث ﴿ بعد الله ﴾ أي بعد كتاب الله ﴿ وآياته ﴾ الدالة على وجوده ﴿ يؤمنون ﴾ أي كفار مكة لا يؤمنون. قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب بالتاء الفوقانية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب والباقون بالتحتانية على الغيبة.
﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ ﴾ كذاب ﴿ أَثِيمٍ ﴾ كثير الإثم أريد به النضر بن الحارث. هذه الجملة إلى آخرها معترضة.
﴿ يسمع آيات الله ﴾ صفة لأثيم ﴿ تتلى عليه ﴾ حال من الآيات أومن الضمير المرفوع ﴿ ثم يصر ﴾ عطف على يسمع، وثم لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات ﴿ مستكبرا ﴾ عن الإيمان ﴿ كأن ﴾ مخففة من الثقيلة، وحذف ضمير الشأن أي كأنه ﴿ لم يسمعها ﴾ الجملة في موضع الحال أي يصر مشابها لغير السامع ﴿ فبشره بعذاب أليم ﴾ الفاء للسببية، والبشارة خبر يظهر السرور على بشرته، واستعمل هاهنا تهكما في خبر يظهر الحزن على بشرته.
﴿ وإذا علم ﴾ عطف على يسمع ﴿ من آياتنا شيئا ﴾ يعني إذا بلغه شيء من القرآن الظرف متعلق بقوله ﴿ اتخذها ﴾ الضمير لشيء ؛ لأنه بمعنى الآية أو لآياتنا بمعنى آياتنا كلها ﴿ هزوا ﴾ مهزوا به، يعني بادر إلى الاستهزاء ﴿ أولئك لهم ﴾ أي لكل أفاك ﴿ عذاب مهين ﴾ ذو إهانة في القبور، جملة مستأنفة
﴿ من ورائهم جهنم ﴾ حال من هم في ﴿ أولئك لهم ﴾ والوراء اسم للجهة التي يوازيها الشخص من خلف أو قدام وجهنم قدام باعتبار أنهم متوجهون إليه وخلفه من حيث إنه بعد آجالهم ﴿ ولا يغني ﴾ أي لا يدفع ﴿ عنهم ما كسبوا ﴾ من الأموال والأولاد ﴿ شيئا ﴾ من عذاب الله ﴿ ولا ﴾ يغني عنهم ﴿ ما اتخذوا من دون الله أولياء ﴾ أي ما عبدوه من الأصنام أو الذين اتبعوهم من الرؤساء ما مصدرية أو موصولة وجملة لا يغني إلى آخرها حال آخر من ضمير لهم في أولئك لهم ﴿ ولهم عذاب عظيم ﴾ حال آخر.
﴿ هذا ﴾ أي القرآن ﴿ هدى ﴾ أي ما به البداية من الضلالة جملة معترضة ﴿ والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز ﴾ وهو أشد العذاب ﴿ أليم ﴾ قرأ ابن كثير ويعقوب وحفص بالرفع على أنه صفة عذاب والباقون بالجر على أنه صفة رجز وجملة ﴿ والذين كفروا ﴾ عطف على هذا هدى.
﴿ اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ ﴾ مبتدأ وخبر أي جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه ﴿ لتجري الفلك فيه بأمره ﴾ بتسخيره ﴿ ولتبتغوا من فضله ﴾ الأرزاق بالتجارة والغوص والصيد من فضله حال من المفعول المحذوف لتبتغوا ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ عطف على لتبتغوا أي لتشكروا هذه النعمة وجملة ﴿ الله الذي سخر لكم البحر ﴾ متصل بما سبق من آيات الله قدرته تعالى وما بينهما معترضات.
﴿ وسخر لكم ﴾ عطف على سخر ﴿ ما في السموات ﴾ من شمس وقمر ونجم وماء وثلج وغيرهما ﴿ وما في الأرض ﴾ من حيوان ونبت ومعدن وعين ونهر ﴿ جميعا ﴾ تأكيد أوحال يعني جعلها مسخرات لأمور يعود نفعها إليكم ﴿ منه ﴾ حال من ما أي سخرها جميعا كائنة من تعالى أو خبر لمحذوف، أي هي جميعا منه، أو خبر لما في السماوات مع ما عطف عليه سخر لكم وتكرير لتأكيد الأول أو خبر لما في الأرض. قال ابن عباس جميعا منه أي كل ذلك رحمة منه. وقال الزجاج كل ذلك تفضل منه ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ في عجائب صنعه تعالى فيؤمنون.
قال البغوي، قال ابن عباس وقتادة : إن رجلا من بني غفار شتم عمر رضي الله عنه بمكة فهم عمر أن يبطش به فأنزل الله ﴿ قل للذين آمنوا ﴾ حذف المقول لدلالة جواب الأمر عليه وهو قوله ﴿ يغفروا ﴾ أي قل لهم اغفروا إن قيل لهم اغفروا يغفروا أي يعفوا ويصفحوا ﴿ للذين لا يرجون ﴾ أي لا يتوقعون ولا يخافون ﴿ أيام الله ﴾ أي وقائعه بأعدائه من قولهم أيام العرب لوقائعهم، يعني لا يتوقعون الأوقات التي وقتها الله لنصر المؤمنين وثوابهم، وقال البغوي قال القرظي والسدي نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذى شديد من المشركين، قبل أن يؤمروا بالقتال، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية ثم نسختها آية القتال ﴿ ليجزي ﴾ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون على التكلم والتعظيم والباقون بالياء التحتانية، أي ليجزي الله، وقرأ أبو جعفر بضم الياء التحتانية وفتح الزاء على البناء للمفعول والفعل حينئذ مسند إلى مصدره أي ليجزي الجزاء كذا، قال الكسائي والمراد بالجزاء ما يجزى به، فإن الإسناد إلى المصدر سيما عند وجود المفعول به ضعيف، وقال أبو عمرو وهو لحن والجار والمجرور متعلق بقوله يغفروا ﴿ قوما ﴾ يعني يجزي المؤمنين على صبرهم على أذية الكفار أو يجزي الكافرين جزاء كاملا لا ينقص منه بالانتقام في الدنيا أو يجزي كليهما ﴿ بما كانوا يكسبون ﴾ من الخير أو الشر.
﴿ من عمل صالحا فلنفسه ﴾ أي يعمل لنفسه فإن ثوابه لها ﴿ ومن أساء فعليها ﴾ أي يعمل عليها ؛ لأن وباله يعود عليه ﴿ ثم إلى ربكم ترجعون ﴾ يعني بعدما استحققتم الثواب أو العقاب بالأعمال ترجعون إلى ربكم فيجازيكم عليها إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ﴾ التوراة والإنجيل والزبور ﴿ والحكم ﴾ حيث جعلنا فيهم أهل الحكم من العلماء والملوك ﴿ والنبوة ﴾ خصها بالذكر لكثرة الأنبياء فيهم ﴿ ورزقناهم من الطيبات ﴾ المن والسلوى وغيرهما من الأطعمة اللذيذة الحلال ﴿ وفضلناهم ﴾ بمراتب القرب إلى الله تعالى إرجاع الضمير على بني إسرائيل باعتبار كون الأفضلين بعضهم وهم الأنبياء ﴿ على العالمين ﴾ أي على عالمي زمانهم، قال ابن عباس لم يكن من العالمين أحد في زمانهم أكرم على الله ولا أحب إليه منهم. وهذه الآية تدل على أن خواص البشر من خواص الملائكة.
﴿ وآتيناهم بينات من الأمر ﴾ أي أدلة بينة في أمر الدين بحيث حصل لهم العلم بكل ما يجب به العلم والاعتقاد، وحصل لهم العلم بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وعلاماته حتى عرفوه ﴿ كما يعرفون أبنائهم ﴾ ﴿ فما اختلفوا ﴾ في أمر الدين أو في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ إلا من بعد ما جاءهم العلم ﴾ بحقيقة الحال ﴿ بغيا بينهم ﴾ أي عداوة وحسدا أو اتباعا للهوى والشهوات لا بناء على علم مستند إلى دليل. وهذا يدل على أن افتراق اليهود والنصارى إلى إحدى وسبعين فرقة أو اثنان وسبعين فرقة لم يكن مبنيا على دليل، وكذلك افتراق أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى ثلاث وسبعين ليس مستندا إلى دليل، بل إنما هو باتباع الوهم في مقابلة النصوص القاطعة كالمعتزلة تشبثوا بأذيال الفلاسفة زعما منهم بأن العقل كاف في كثير من الإدراكات والمجسمة قالوا الموجود لا يكون إلا جسما أو باتباع الحسد والعناد كالروافض والخوارج ونحو ذلك ﴿ إن ربك يقضي بينهم ﴾ بالمؤاخذة والمجازاة ﴿ يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ من أمر الدين.
﴿ ثم جعلناك على شريعة ﴾ أي طريقة حقة وصراط مستقيم بعث عليها الرسل كلها على شريعة مفعول ثان لجعلنا ﴿ من الأمر ﴾ أي أمر الدين ﴿ فاتبعها ﴾ أي يا محمد الشريعة الحقة الفاء للسببية ﴿ ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الخطاب لأمته، يعني لا يتبع أمتك أهواء الذين ليس لهم علم من الكتاب، سواء كان لهم جهل مركب كالفلاسفة أو جهل بسيط مثل رؤساء قريش، كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم ارجع إلى دين آبائك فإنهم كانوا أفضل منك أو كان لهم علم لكنهم تركوا العمل بالكتاب عمدا أو أولوه بتأويلات فاسدة، فكأنهم لا يعلمون مثل أحبار اليهود وعلماء الفرق الضالة بالأهواء من أهل الإسلام.
﴿ إنهم ﴾ يعني إن الذين يستتبعونك إلى غير الطريق الحق إن اتبعتهم ﴿ لن يغنوا ﴾ أي لن يدفعوا ﴿ عنك من ﴾ عذاب ﴿ الله شيئا ﴾ منصوب على المفعولية، ومن الله حال مقدم عليه بيان له أو على المصدرية أي شيئا من الإغناء، ومن في من عذاب الله للتبعيض، الجملة في مقام التعليل للنهي عن اتباع أهوائهم ﴿ وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ﴾ إذ المجانسة على الانضمام فلا تتخذ أنت منهم أولياء ﴿ والله ولي المتقين ﴾ فاتخذه وليا بالتقوى واتباع الشريعة. قيل هذان الجملتان كناية عن قوله : وإنهم لا يضرونك ؛ لأن الظالمين بعضهم أولياء بعضهم والله ولي المتقين، وكم بين الولايتين فلا يضرنك لقوة ولاية الله.
﴿ هذا ﴾ أي القرآن أو اتباع الشريعة ﴿ بصائر ﴾ أسباب تبصر ﴿ للناس ﴾ يظهر به وجوه فلاحهم في الدارين ﴿ وهدى ﴾ من الضلال ﴿ ورحمة ﴾ من الله ﴿ لقوم يوقنون ﴾ بأنه من الله تعالى.
﴿ أم حسب ﴾ عطف على ﴿ هذا بصائر ﴾ أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان والتوبيخ ومعنى بل الإضراب عن إيقانهم بأن القرآن بصائر وهدى يعني أنهم لا يوقنون ذلك بل حسب ﴿ الذين اجترحوا ﴾ أي اكتسبوا ﴿ السيئات أن تجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ أي نجعلهم مثلهم وهو ثاني مفعولي نجعل نزلت في نفي من مشركي مكة، قالوا للمؤمنين إن كان ما تقولون أي البعث حقا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا في الدنيا ﴿ سواء ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص بالنصب على البدل من قوله ﴿ كالذين آمنوا ﴾ بدل اشتمال أو على الحال من الضمير في الكاف أو على المفعولية والكاف حال محياهم ومماتهم فاعل لسواء والضميران للموصول الأول وإن كان الضميران للثاني فسواء حال من الموصول الثاني وجاز أن يكون الضمير أن للفريقين وسواء بدل من كالذين آمنوا أوحال من الموصول الثاني وضمير الأول، وقرأ الباقون سواء بالرفع على أنه خبر ﴿ محياهم ومماتهم ﴾ مبتدأ والجملة بدل من المفعول الثاني وجاز كون الجملة مفعولا ثانيا أو استئناف بين المقتضى للإنكار أوحال والضميران للفريقين، والمعنى إنكار أن يستووا بعد الممات في الكرامة أوترك المؤاخذة كما استووا في الرزق والصحة في الحياة الدنيا، وقيل الضميران للفريقين والجملة مستأنفة، والمعنى المؤمن مؤمن محب لله تعالى في الدنيا والآخرة والكافر مبغوض لله تعالى في الدنيا والآخرة ﴿ ساء ما يحكمون ﴾ حكمهم هذا بالمساواة. قال البغوي قال مسروق قال لي رجل من أهل مكة : هذا مقام أخيك تميم الداري لقد والله ذات ليلة أصبح أو كرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد ويبكي ﴿ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ الآية.
﴿ وخلق الله السماوات والأرض بالحق ﴾ أي ليدل على وجوده وقدرته وصفات كماله، كأنه دليل على ما سبق يعني خلق هذه الأشياء ليس على سبيل اللهو والعبث بل هو متلبس بالحق المقتضي انتصار المظلوم من الظالم والتفاوت بين المسيء والمحسن، فإذا لم يكن ذلك في المحيا لابد أن يكون بعد الممات ﴿ ولتجزى ﴾ عطف على قوله بالحق ؛ لأنه في معنى العلة أو على علة محذوفة مثل ليستدل الناس بها على الصانع وقدرته وعدله وليقوموا على طاعته ولتجزى ﴿ كل نفس ﴾ محسنة ومسيئة ﴿ بما كسبت ﴾ من خير أو شر ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ بنقص ثواب أو تضعيف عذابه وتسميته ظلما مع أن فعل الله تعالى لا يكون ظلما لأجل المشاكلة، فإنه لو فعله غيره لكان ظلما كالابتلاء والاختيار.
﴿ أفرأيت ﴾ الفاء للعطف على محذوف تقديره أتهتم أن تهديهم فرأيت ﴿ من اتخذ إلهه هواه ﴾ ومن شرطية وجملة اتخذ مع ما عطف عليه شرط علقت رأيت عن العمل ﴿ فمن يهديه ﴾ جزاؤه وهواه مفعول أول لاتخذ وإلهه مفعول ثان يعني جعل هواه معبوده، فإنه ترك امتثال أوامر الله والانتهاء عن مناهيه واتبع هواه فكأنه يعبده، قال ابن عباس والحسن وقتادة : ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه فلا يهوى شيئا إلا ركب ؛ لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه ولا يحرم ما حرم الله، وقال الآخرون معناه اتخذ معبوده هواه فيعبد ما يهواه نفسه. أخرج ابن جرير وابن المنذر وكذا ذكر البغوي قول سعيد بن جبير أنه كانت العرب يعبدون الحجارة والذهب والفضة فإذا وجدوا أحسن من الأول رموه وكسروه وعبدوا الآخر، فنزلت هذه الآية. قال الشعبي إنما سمى الهوى ؛ لأنه يهوي صاحبه في النار ﴿ وأضله الله على علم ﴾ أي عالما بضلاله وفساد استعداده. وقيل على ما سبق في علمه بأنه ضال قبل أن يخلقه. روى أحمد عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي فقالوا له ما يبكيك ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خذ من شاربك ثم أقره حين تلقاني " قال بلى ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الله عز وجل قبض بيمينه قبضة والأخرى باليد الأخرى وقال هذه لهذه وهذه لهذه ولا أبالي " ولا أدري في أي القبضتين أنا " ١ ﴿ وختم على سمعه وقلبه ﴾ فلا ينظر بعين الاستبصار والاعتبار، قرأ حمزة غشوة بفتح الغين وسكون الشين والباقون غشاوة. وجاز أن يكون من موصولة وهي مع صلتها أول مفعولي رأيت وثانيهما محذوف، تقديره أرأيته يهتدي وعلى هذا قوله ﴿ فمن يهديه من بعد الله ﴾ معطوف على قوله رأيت والاستفهام للإنكار ومعناه لا يهديه أحد بعد إضلال الله إياه. وجملة أفرأيت معترضة ﴿ أفلا تذكرون ٢٣ ﴾ عطف على محذوف تقديره ألا تعقلون فلا تذكرون.
١ رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
انظر مجمع الزوائد في كتاب: القدر، باب: فيما سبق من الله سبحانه في عباده وبيان أهل الجنة وأهل النار ﴿١١٧٧٨﴾..

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة قال كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار فأنزل الله تعالى :﴿ وقالوا ﴾ عطف على مضمون الكلام السابق أي ضل الكافرون باتباع الهوى وقالوا ﴿ ما هي ﴾ أي الحياة شيئا ﴿ إلا حياتنا الدنيا ﴾ التي نحن فيها ﴿ نموت ﴾ في بعض الأوقات ﴿ ونحيا ﴾ في بعضها بيان لقصر الحياة على الحياة الدنيا، وقوله نموت ونحيا لا يدل على تعاقب الحياة بعد الموت فإن الواو للجمع المطلق كذا قال الزجاج ﴿ وما يهلكنا إلا الدهر ﴾ عطف على نموت ونحيا أي ما يهلكنا الأمر والزمان فإن بمرور الزمان يهرم المرء ويموت وحاصل ذلك إنكار الصانع الواجب وجوده. والدهر في الأصل مدة بقاء العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه، ثم يعبر عنه عن كل مدة مديدة بخلاف الزمان فإنه يطلق على المدة قليلة كانت أو كثيرة ﴿ وما لهم بذلك من علم ﴾ فإن العلم إنما يحصل بالبداهة أو بالبرهان ولا شيء من ذلك، بل البرهان قائم على وجود الصانع القديم الحكيم. الجملة حال من فاعل قالوا ﴿ إن هم إلا يظنون ﴾ أي يحكمون بلا علم وبلا دليل تأكيد لما سبق، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " ١ رواه مسلم، وروى البغوي بلفظ، " قال الله تعالى لا تقل ابن آدم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار وإن شئت قبضتهما "، ومعنى الحديث أن سب الدهر منكم مبني على زعمكم أن الدهر فاعل للنوائب والحوادث، وجالب الحوادث ومنزلها في الواقع هو الله تعالى لا غيره، فسبكم يرجع إلى الله تعالى، وقيل معنى قوله عليه السلام : فإن الله هو الدهر، إن الله داهر دهر أي خالق الدهر وما فيها فسبكم الدهر زعما منكم بأنه الخالق للأشياء مشرك فاجتنبوه والله أعلم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: النهي عن سب الدهر ﴿٢٢٤٦﴾..
﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بيناتٍ ﴾ أي حال كونها واضحات الدلالة على خلاف معتقدهم وعلى البعث بعد الموت أو مبينات لذلك ﴿ ما كان حجتهم ﴾ متشبث لمعارضها شيئا ﴿ إلا أن قالوا بآبائنا إن كنتم صادقين ﴾ في دعوى البعث. وهذا شرط مستغن عن الجزاء بما مضى سماه حجة على حسبانهم أو على أسلوب قوله : تحيتهم بينهم ضرب وجيع، وأنه يلزم من عدم حصول الشيء حالا امتناعه مطلقا. وجملة إذا تتلى عليهم عطف على ﴿ قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا ﴾.
﴿ قل الله يحييكم ﴾ إلى أي وقت شاء ﴿ ثم يميتكم ﴾ إذا أراد كما دلت الحجج ﴿ ثم يجمعكم ﴾ للجزاء إلى ﴿ يوم القيامة ﴾ كلمة إلى زائدة أو بمعنى اللام أي ليوم القيامة ﴿ لا ريب فيه ﴾ لأن وعد الله حق، ومن قدر على الإبداء قادر على الإعادة، والحكمة تقتضي المجازاة. والجملة تأكيد لما سبق ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ قدرة الله على ذلك لقلة تفكرهم وقصور نظرهم على ما يحسبونه جملة ﴿ قل الله يحييكم ﴾ إلى آخرها مستأنفة.
﴿ ولله ملك السماوات والأرض ﴾ تعميم للقدرة بعد تخصيصها. والجملة عطف على خلق الله السماوات والأرض ﴿ ويوم تقوم الساعة يومئذ ﴾ بدل من الأول والظرف متعلق بقوله ﴿ يخسر المبطلون ﴾ أي يظهر خسرانهم بأن يصيروا إلى النار.
﴿ وترى كل أمة جاثية ﴾ عطف على يخسر. قال البغوي جاثية يعني باركة على الركب وهي جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء، قال علي رضي الله عنه : أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى، وقد ذكرنا في سورة الحج في تفسير قوله تعالى :﴿ هذان خصمان اختصموا في ربهم ﴾١ قال سلمان الفارسي إن في القيامة ساعة وهي عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على ركبهم حتى إبراهيم ينادي نفسي لا أسألك إلا نفسي، وقيل معنى، ﴿ كل أمة جاثية ﴾ أي مجتمعة من الجثوة وهي الجماعة، ذكر الجزري في النهاية حديث ابن عمر أن الناس يصيرون يوم القيامة جثا أي جماعة تتبع نبيها، وتروى اللفظة جثيّ بتشديد الياء جمع جاث وهو الذي يجلس على ركبتيه، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والبيهقي عن عبد بن ثانية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كأني أراكم بالكرم دون جهنم جاثين ثم قرأ سفيان وترى كل أمة جاثية ) قال ابن حجر المراد بالكرم المكان العالي الذي عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ كل أمة ﴾ قرأ يعقوب بالنصب على أنه بدل من كل أمة أو تأكيد وما بعده صفة أو مفعول ثان، والجمهور بالرفع على أنه مبتدأ خبره ﴿ تدعى إلى كتابها ﴾ أي صحيفة أعمالها ﴿ إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ﴾٢ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الكتب كلها تحت العرش فإذا كان الموقف بعث الله الريح فتطيرها بالأيمان والشمائل أول خط فيها إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) رواه البيهقي ﴿ اليوم تجزون ما كنتم تعملون ﴾ صفة ثانية أو خبر ثان لقوله ﴿ كل أمة ﴾ بتقدير القول أي يقال لهم ﴿ اليوم تجزون ﴾ إلى قوله ﴿ تعملون ﴾ ومستأنفة.
١ سورة الحج، الآية: ١٩..
٢ سورة الإسراء، الآية: ١٤..
﴿ هذا كتابنا ﴾ أي صحائف أعمالكم التي كتبها الكرام الكاتبون بأمرنا. أضاف إلى نفسه لتلك الملابسة. وكتابنا صفة لهذا والخبر ﴿ ينطق عليكم ﴾ أي يشهد عليكم بما عملتم أوهما خبران لهذا أو ينطق حال والعامل معنى الإشارة ﴿ بالحق ﴾ أي بالصدق بلا زيادة ونقصان ﴿ إنا كنا نستنسخ ﴾ أي نستكتب الحفظة ﴿ ما كنتم تعملون ﴾ وقيل معنى نستنسخ أي نأخذ نسخة، وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله منه ما كان له ثواب أو عقاب ويطرح منه اللغو ونحو قولهم وهلم واذهب وهذه الجملة في مقام التعليل لينطق.
﴿ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ﴾ التي جملتها الجنة، والجملة تفصيل لما أجمل في قوله : اليوم تجزون ما كنتم تعملون ﴿ ذلك هو الفوز المبين ﴾ أي الظفر الظاهر لخلوصه عن الشوائب.
﴿ وأما الذين كفروا ﴾ فيقال لهم ﴿ أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ﴾ الاستفهام لإنكار النفي وتقرير المنفي والفاء للعطف على محذوف تقديره ألم يأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم فحذف قوله، فيقال لهم، وقوله ألم يأتكم رسلي اكتفاء بالمقصود واستغناء للقرينة ﴿ فاستكبرتم ﴾ عن الإيمان بها، هذه الجملة مع ما عطف على مضمون ما سبق يعني قد أتاكم رسلي وتليت عليكم آياتي فاستكبرتم عن الإيمان بها ﴿ وكنتم قوما مجرمين ﴾ أي قوما عادتكم الكفر والإجرام. وكانت المقابلة تقتضي أن يكون الكلام : وأما الذين كفروا في غضبه الذي من جملتها جهنم لكن عدل إلى هذا تنبيها على موجب الغضب.
﴿ وَإِذَا قِيلَ ﴾ عطف على قوله استكبرتم يعني وإذا قيل لكم ﴿ إن وعد الله ﴾ بالبعث ﴿ حق ﴾ يحتمل الموعود والمصدر، يعني الموعود أو متعلق الوعد وهو البعث حق لا محالة ﴿ والساعة ﴾ قرأ حمزة بالنصب عطفا على اسم إن والباقون بالرفع عطفا على محله ﴿ لا ريب فيها ﴾ أي في إتيانها لاستحالة الخلف فيما أخبر الله به ﴿ قلتم ما ندري ما الساعة ﴾ أي أي شيء الساعة استغرابا لها ﴿ إن نظن إلا ظنا ﴾ أصله نظن ظنا فأدخل حرف النفي والاستثناء لإثبات الظن، ونفي ما عداه، كأنه قال ما نحن إلا نظن ظنا أو ننفي ظنهم فيما سوى ذلك، أو يقال تنكير الظن للتحقير، ومعناه إن نظن إلا ظنا ضعيفا في مرتبة الوهم، فإن الظن قد يطلق على العلم كما في قوله تعالى :﴿ الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ﴾١ وقد يطلق على الوهم، فالمراد بالأول مطلق العلم والثاني الوهم، وأكد نفي الظن بقوله ﴿ وما نحن بمستيقنين ﴾
١ سورة البقرة، الآية: ٤٥ - ٤٦..
﴿ وبدا لهم سيئات ما عملوا ﴾ في الدنيا أي ظهر لهم قبحها أو جزاء ما عملوا عطف على مضمون ما سبق، يعني أما الذين كفروا فيدخلهم ربهم في غضبه ويبدلهم سيئات ما عملوا ﴿ وحاق ﴾ أي نزل ﴿ بهم ما كانوا به يستهزؤون ﴾ أي جزاء استهزائهم.
﴿ وقيل ﴾ عطف على بدا لهم ﴿ اليوم ننساكم ﴾ أي نترككم في العذاب ترك المنسي ﴿ كما نسيتم لقاء يومكم هذا ﴾ أي كما تركتم عدته ولم تبالوه. وإضافة اللقاء إلى اليوم إضافة المصدر إلى ظرفه أي يوم لقاء ربكم أو يوم لقاء جزاء أعمالكم ﴿ ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ﴾ يخلصونكم منها. هذان الجملتان إما معطوفتان على مقول قيل أو حالان من مفعول ننساكم.
﴿ ذلكم ﴾ للترك في العذاب ﴿ بأنكم ﴾ أي بسبب أنكم ﴿ اتخذتم آيات الله هزؤا ﴾ أي مهزوا بها يعني استهزأتم بها ولم تتفكروا فيها ﴿ وغرتكم الحياة الدنيا ﴾ أي حسبتم أن لا حياة سواها ولا حساب جملة، ذلكم إلى آخرها مستأنفة ﴿ فاليوم لا تخرجون منها ﴾ قرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضم الراء على البناء للفاعل والباقون بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول عطف على قوله وأما الذين كفروا ﴿ ولا هم يستعتبون ﴾ العتبى بالضم الرضا هكذا في القاموس والاستعتاب الاسترضاء، أي لا يطلب منهم أن يرضوا ربهم بالتوبة لفوات أوانه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بعد الموت من مستعتب " أي ليس بعد الموت من استرضاء ؛ لأنها بالأعمال وقد انقضى زمانها، وفي النهاية العتبى الرجوع عن الذنب والإساءة، قال البغوي أي لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله تعالى. وتقديم المسند إليه مع أن الخبر فعل يدل على التخصيص فإن الكفار لا يستعتبون بخلاف المؤمنين.
﴿ فلله الحمد ﴾ أي الوصف بالجميل على وفائه الوعد في المؤمنين والمكذبين ﴿ رب السماوات ﴾ بدل من الله ﴿ ورب الأرض رب العالمين ﴾ كرر لفظ الرب ؛ لأن ربوبية كل شيء نعمة مستقلة من الله تعالى دالة على كمال قدرته، ذكر العاطف بين الأرض والسماوات لتغايرهما، وترك العاطف في رب العالمين للاتحاد معنى، فإن السماوات والأرض معظم أفراد العالم فكأنه بمعنى العالمين.
﴿ وله الكبرياء في السماوات والأرض ﴾ أي آثار عظمته وكبريائه ظاهرة فيهما، أو يقال الظرف متعلق بمحذوف أي يحكم بهذا الحكم أهل السماوات وأهل الأرض فيهما ﴿ وهو العزيز ﴾ الغالب الذي لا يغلبه أحد ولا يجوز لأحد أن يستكبر عليه ﴿ الحكيم ﴾ فيما قدر وقضى، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يقول الله تعالى : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما أدخلته النار ) وفي رواية ( قذفته في النار )١ رواه مسلم.
١ هذه رواية أبي داود والترمذي أما رواية مسلم فهي: "العز إزاره والكبرياء رداؤه" في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكبر ﴿٢٦٠٢﴾..
Icon